|
الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#31
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (الاستشراق - الانسلاخ) وكما ناقشت بعض الأطروحات العربية صورة العربي في الدراسات الاستشراقية الحديثة وكذلك في الطرح الإعلامي السريع القائم غالبًا على الإثارة، فإن بعض الغربيين يعاني كذلك من الطرح العربي لصورة الغربي في الدراسات التي تصدت للاستشراق كما تصدت لصورة العربي في الإعلام الغربي، مما أدى إلى محاولة الإساءة للإنسان الغربي، الذي يبني اليوم حضارةً قائمة على العلم والتقانة، ويسعى إلى التخلص من خلفياته الدينية والذاتية،ومثل هذا الطرح هو ما يمكن أن يصدق عليه بأنه نواة للاستغراب الذي ستأتي مناقشته في وقفات لاحقة. واللافت أن بعضًا من دارسي العربية والإسلام من أمثال دومينيك شوفالييه وهو مستشرق فرنسي، يَدْعون العرب إلى التخلي عن تراثهم ودينهم في سبيل تبني هذه الحضارة المادية القائمة على العلوم والتقانة[1]. والمتوقع هنا أن العربي وغير العربي لن يتمكن من التخلي عن تراثه ودينه والاستعاضة عنه بحضارة العلوم والتقانة، وإن دعا إلى ذلك بعض الداعين؛ فلقد طالعتنا الكتب التي نشرها مركز دراسات الوحدة العربية عن الأبعاد الدينية في السياسات الغربية، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية[2]،مما يعني توظيف الدِّين، ولو لم يعلن توظيفه. ولا يظهر أن العرب سوف ينسلخون من دينهم وحضارتهم التي قامت على هذا الدين ليتبنوا حضارة العلوم والتقانة؛ ذلك أن العرب المسلمين يدركون أن الدين هو الذي يدعو إلى حضارة العلوم والتقانة، بخلاف فهم بعض المتدينين الغربيين لدينهم، الذي رأوا فيه مانعًا من العلوم والتقانة، وهذا ما حذرنا منه موريس بوكاي من أن يسري بيننا هذا الفهم، لا سيما المسلمين الذين يدرسون في الغرب أيَّ نوع من الدراسات، حتى لو كانت علمية تطبيقية، أو تقانية بحتة[3]. ومن هنا يأتي الفرق بين دين يدعو إلى العلوم والتقانة، ويفرض على أتباعه التعلم والعمل والاحتراف، ويجعل ذلك بين فرض العين وفرض الكفاية، وبين دين عُرف عنه أنه يحارب العلوم والتقانة، ويجعلهما شكلًا من أشكال الهرطقة التي لا تتفق والتوجه الديني. ولعل من أسباب دعوة بعض المستشرقين إلى التخلي عن الدين والتراث لدى العرب، والمقصود هنا المسلمون: فَهْمَ الدين الإسلامي بالفهم الغربي للدين. وعلى أي حال، فإن هذا الطرح حول الاستشراق في كونه محددًا من محددات العلاقة بين الشرق والغرب لا يُلغي ما لبعض المستشرقين المنصفين الجادين من جهود محمودة في الإسهام في حفظ التراث العربي الإسلامي ودراسته ونشره وتحقيقه وترجمته، مما يؤكد النظرة المنصفة في دراسة الاستشراق،"إنه مهما وُجِّهت من تُهَمٍ للاستشراق والمستشرقين لا بد من إنصاف بعضهم، وخصوصًا أولئك الذين أدَّوْا للتراث العربي الإسلامي خدمات جليلة، سواء بأبحاثهم العلمية القيمة، وتحقيقاتهم للتراث، واكتشاف مصادره، ووضع فهارس مهمة يستفيد منها القارئ العربي والغربي في أبحاثه ودراساته"[4]. وعند الدخول في تحليل هذا الفهم فإنه يقود إلى نواة الاستغراب التي يدعو إليها بعض العرب والمسلمين[5]، كما يدعو إليها بعض المستشرقين، ومنهم المستعربون والمهتمون بالحضارة العربية والثقافة الإسلامية. ============================================ [1] انظر: أحمد الشيخ،من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: حوار الاستشراق - القاهرة: المركز العربي للدراسات الغربية، 1999م - ص 103 - 111. [2] انظر: يوسف الحسن،البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي - الصهيوني: دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية - ط 2 - بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997م - ص 222. [3] انظر: موريس بوكاي،التوراة والإنجيل والقرآن والعلم،Maourice - ،Bucaille،The BIBLE THE Quran and Science - translated from French by: Alasteair D،Pannell and the Author - ،Indianapolis: North Ammerican Turst، 1978 - p 253. [4] انظر: محمد القاضي،الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف - التاريخ العربي - ع 66 (ربيع 1424هـ/ 2003م) - ص 179 - 208. [5] انظر: حسن حنفي،مقدمة في علم الاستغراب - بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1412هـ/ 1992م - ص 910.
__________________
|
#32
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة ( الاستغراب - المفهوم) الاستغراب محدد آخر من محددات العلاقة بين الشرق والغرب،والذي يظهر أن العلاقة بين الشرق والغرب قد انطلقت بقوة واضحة مع بعثة سيدنا رسول الله محمد بن عبدالله (حينما أرسل الوفود إلى الملوك والأباطرة والحكام يدعوهم إلى الإسلام، فكان حوار بين الوفود وهرقل إمبراطور الروم، ثم انطلقت العلاقة بين أخذ ورد، كان فيها نقاش وحِجَاج وجدال وحوار ما يزال قائمًا إلى يومنا هذا،وأخذ الحوار أشكالًا متعددة، منها العلمي والسياسي والحربي والبعثات العلمية والنقل والترجمة[1]. وظهرت الحروب الصليبية شكلًا من أشكال الحوار دام حوالي مائتي سنة، ثم تبعتها حوارات أخرى، كان الاستشراق شكلًا آخرَ من أشكالها، إبان الاحتلال وقبله وبعده، والتنصير كذلك. حَدَا هذا كلُّه ببعض المفكرين العرب المعاصرين إلى أن يدعو إلى قيام علم الاستغراب، فانبرى الدكتور حسن حنفي ونشر كتابًا ضخمًا في مجلد واحد سنة 1412هـ/ 1992م بعنوان: مقدمة في علم الاستغراب، وجاء الكتاب في تسعمائة وعشر (910) صفحات، ليأتي هذا العلم مواجهًا للتغريب "الذي امتد أثره، ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتها للعالم، وهدد استقلالنا الحضاري، بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية، ونقاء اللغة، ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة"[2]. ونبعت الدعوة إلى وجود مثل هذا العلم من الشعور بأن الساحة العربية الفكرية تكاد تخلو من معرفة الآخر،وهذا زعم جاء نتيجة للتقصير في تتبع النتاج الفكري العربي الإسلامي، الذي لم يخلُ في زمن من أزمان ازدهاره من الحوار الفكري مع الآخر، لكن هذا لم يسمَّ علمًا أو استغرابًا أو نحو ذلك، ولكنه أخذ طابعَ الحوارات والردود على الآخر، وتبيان الحق في الديانات الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلام، بما في ذلك التعرض إلى طبيعة عيسى ابن مريم - عليهما السلام - من أنه لم يكن إلا عبدًا عن عباد الله، أرسله الله مبشرًا ونذيرًا، فكان - عليه السلام - مبشرًا اصطفاه الله تعالى بالرسالة، ومعجزات مؤيدات لرسالته. وقد يقال: إن هذا جانبٌ واحد من جوانب الحوار، وهو الاستغراب، مركز على البعد الديني، لا سيما الجانب العقدي منه، وهذا صحيح؛ إذ إن الاستشراق في منطلقاته الأولى كان على هذه الشاكلة من التركيز على الأبعاد الدينية للإسلام، معرِّجًا على القرآن الكريم والرسول - عليه الصلاة والسلام - والرسالة والسنة والصحابة والفتح الإسلامي[3]. والجوانب الأخرى للاستغراب، إذا سمح المصطلح، تمثلت في نقل الحضارات الأخرى وعلمها وفكرها المتماشيين مع الإسلام عن طريق النقل والترجمة عن اللغات الأخرى، بما في ذلك ترجمة أعمال دواوين الخلافة عندما تبين أن الإجراءات الإدارية، بما فيها اللغة، قد نقلت من ذوي التجارِب السابقة. وليس النقل والترجمة شكلًا من أشكال الاستغراب الواضح، ولكنها تسهم، من دون شك، في تلقي الأفكار، ثم معرفتها، من خلال ما يقبل من نتاج القوم العلمي والأدبي والفني. وليس الاستغراب أو غربلوجيا هو التعامل مع الآخر بالمنطلق نفسه الذي تعامل فيه الآخر مع المسلمين؛ ذلك أن منطلقات المسلمين نفسها تمنع من ذلك، يقال هذا ردًّا على من قال هذا؛ إذ إننا مطالبون بالعدل مع الآخر، حتى أولئك الذين بيننا وبينهم عداوة وشنآن. ومهما كان التوجه نحو الاستغراب، فإن المطلوب دائمًا تجنب الإثارة، واللجوء إلى الطرح الإعلامي السريع في قضايا عميقة جدًّا تحتاج إلى بحث علمي جاد، بعيد تمامًا عن القفز إلى النتائج، ناهيك عن وضع النتائج قبل المقدمات؛ذلك أننا مطالَبون بالقسط والعدل مع جميع من نتعامل معهم، والعدل أقرب إلى التقوى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8]. ولا يلغي هذا الاستمرار في إيجاد مثل هذا العلم الذي يكشف الآخر كشفًا موضوعيًّا مبنيًّا على التحليل العلمي والثقافي والاجتماعي والأنثروبولوجي والإثنوجرافي والسياسي والاقتصادي، وذلك للوصول إلى رؤية واضحة نحو التعامل مع هذا الآخر. ويمكن قَبول الاستغراب من هذا المنطلق؛ سعيًا إلى فهم الآخر فهمًا مباشرًا من أجل التعامل معه تعاملًا يعود نفعه علينا نحن مباشرة بالدرجة الأولى، ثم يعود نفعه عليه بالدرجة الثانية إذا كان لهذا الأمر درجات! وهذا ما يسعى إليه المسلمون في سبيل التعامل مع ما حولهم ومع مَن حولهم، فلم يعودوا في معزل عن العالم، ولم يَعُدِ العالم في معزل عنهم[4]. وعليه يمكن أن ينظر إلى الاستغراب على أنه: "الوجه الآخر والمقابل، بل والنقيض من "الاستشراق"، فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب)، يهدف "علم الاستغراب" إذًا إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر،والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر"[5]،ويحتاج هذا إلى ما يحتاجه من ترجمته على الواقع العلمي والفكري. ======================================== [1] انظر: محمد عبدالحميد الحمد،حوار الأمم: تاريخ الترجمة والإبداع عند العرب والسريان - دمشق: دار المدى، 2001م - ص 531. [2] انظر: حسن حنفي،مقدمة في علم الاستغراب - مرجع سابق - ص 18 - 19. [3] انظر: علي بن إبراهيم النملة،نقد الفكر الاستشراقي: الإسلام - القرآن الكريم - الرسالة - مرجع سابق - ص 280. [4] انظر: مازن مطبقاني،الغرب من الداخل: دراسة للظواهر الاجتماعية - أبها: نادي أبها الأدبي، 1418هـ/ 1997م - ص 115. [5] انظر: حسن حنفي،مقدمة في علم الاستغراب - مرجع سابق - ص 23.
__________________
|
#33
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (الاستغراب - السماحة) ظهر سنة 1412هـ/ 1992م كتاب عن التسامح بين شرق وغرب: دراسات في النقاش والقبول بالآخر، وترجمه إبراهيم العريس[1]،وهو خمس مقالات على النحو الآتي: ♦ التسامح في اللغة العربية لسمير الخليل. ♦ التسامح كمثال أخلاقي لبيتر ب.نيكولسون. ♦ التسامح والحق في الحرية لتوماس بالمدوين. ♦ التسامح والمسؤولية الفكرية لكارل بوير. ♦ منابع التسامح لألفريد ج.آيير. يأتي هذا الكتاب في مسيرة الاستغراب التي جرى الحديث عنها في الوقفة السابقة؛ إذ إنه صدر عن سلسلة الفكر الغربي الحديث، إلا أن مقالاته الخمس المذكورة أعلاه لم تركز على الفكر الغربي الحديث، حيث يتحدث المؤلفون عن الفكر الغربي القديم تمهيدًا للحديث. الذي يطلع على مثل هذه الأطروحات يستطيع الربط المقارن بين ثقافته وثقافة الآخر؛ إذ الملاحظ أنَّ طرح التسامح من منطلق غربي جعل من موروث الماضي الغربي معوقًا لمفهوم التسامح، بل إنه انطلق من مفهوم "الإباحية" مفهومًا جديدًا أو دخيلًا للتسامح، رغم أن بعض المؤلفين يحذر من الانطلاق غير المسؤول باسم التسامح، ويشدد على بقاء قدر من الرقابة الدينية والاجتماعية، بل والسياسية والسيادية المتسامحة على بعض المفهومات التي تنعكس على السلوكيات العامة والخاصة باسم التسامح، ومن ذلك الحفاظ على ما تعارف عليه المسلمون من الضرورات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل. ويتضح أن لهجة المقالات الثلاث الأخيرة ركزت على الرغبة في بث روح التسامح من خلال الانفراط من عقد الدِّين الذي يدين به الكتَّاب الأربعة؛ لاتهامهم رجال الدين بالتأثير السلبي على مفهوم التسامح. ويغوص المؤلفون الأربعة - كل حسب أسلوبه وطريقته - في هذا المجال ليقدموا رؤية شخصية للتسامح، جديرة بالتوقف عندها؛ لمعرفة مدى محدودية عقل ابن آدم في النظر إلى القضايا الكبرى التي تحكم الوجود البشري في تعامله مع ذاته ومع خالقه، بما في ذلك محاولات فلتير وميل ولوك حول التسامح والحرية الطبيعية، ومدى الارتباط بين التسامح والحرية وحدود التسامح، بل ومفهوم التسامح بناءً على معطيات ثقافية[2]. وعليه، فإن هناك مصطلحات متشابهة أو مشتركة بين ثقافات عدة، لكنها تختلف باختلاف الثقافة نفسها عن غيرها،ومن ذلك مصطلحات التسامح والحرية والأصولية والإرهاب[3]، التي لم يستقر على مفهوماتها، وإن كثر ترديدها،ومن ذلك أن مفهوم التسامح في الإسلام أكثر من مفهومه في الثقافات الأخرى[4]، مما يعني أن استخدام المصطلح "التسامح" في الفكر العربي فيه إجحاف بالمفهوم الأعمق من مجرد التسامح إلى السماحة المتمثلة في حسن الخلق، كما يحقق الإمام أبو حامد الغزالي[5]،ولن تتأتى معرفة الفروقات إلا بمعرفة ثقافة الآخر[6]،ومن هنا يأتي مصطلح الاستغراب الذي يسعى إلى معرفة ما لدى الغرب والتعريف به. ولم ينل هذا المصطلح "الاستغراب" العناية التي يستحقها، وظل جانب معرفة الآخر قاصرًا لدى جمع من المثقفين الذين يرغبون في توسيع آفاقهم، وفتح مجالات للحوار بين الثقافات. ===================================== [1] انظر: سمير الخليل، وآخرون،التسامح بين شرق وغرب: دراسات في النقاش والقبول بالآخر/ ترجمة إبراهيم العريس - بيروت: دار الساقي، سنة 1992م/ 1412هـ - ص 128. [2] انظر: سمير الخليل، وآخرون،التسامح بين شرق وغرب - المرجع السابق - ص 128. [3] انظر: أسامة خليل،الإسلام والأصولية التاريخية: الأصولية بمعنى آخر - باريس: مركز الدراسات العربي الأوروبي، 2000م - ص 208. [4] انظر: علي بن إبراهيم النملة،إشكالية المصطلح في الفكر العربي - الرياض: المؤلف، 1431هـ/ 2010. [5] انظر: أبو حامد الغزالي،إحياء علوم الدين - 3 مج - بيروت: دار المعرفة، 1402هـ/ 1982م - 3: 70. [6] انظر: ديفيد لانداو،الأصولية اليهودية: العقيدة والقوة/ ترجمة: مجدي عبدالكريم - القاهرة: مكتبة مدبولي، 1414هـ/ 1994م - 416.
__________________
|
#34
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (الاستغراب - نقد الاستغراب) صدر كتاب متميز في طرحه عن الاستشراق، يقوم على حوار مباشر مع ثلة من المستشرقين، ومَن في حكمهم من التغريبيين العرب والمسلمين الذين أقاموا في الغرب وتبنَّوُا الفكر الاستشراقي حول الإسلام والمسلمين. كما أنهم يدافعون عن أطروحاتهم عن الشرق والإسلام، مما يعني أنهم يصدرون عن اقتناع، ويأنَفون من الرغبة في إقناعهم من محاوِرٍ مسلمٍ، رغم أنهم يحاولون التهرب من مصطلح الاستشراق الذي اكتسب مع الوقت سمعة غير حسنة، كما مر بيانه،وذلك في حوار ممتع مع عدد من المستشرقين، أمثال: جاك بيرك، ومكسيم رودنسون، وروجيه أرنالديز، وأندريسه ميكيل، وجان بول شارنيه، وهوجوز، وديجو، وغيرهم. واسم هذا الكتاب "من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: حوار الاستشراق" لمؤلفه أحمد الشيخ، وصدر عن المركز العربي للدراسات الغربية، الذي أنشأه المؤلف بالقاهرة مع أخيه صلاح[1]. ومن هذا المنطلق يكون العرب قد بدؤوا يطرقون أبواب الاستغراب بعد دعوات عدة لدراسة الغرب في ثقافته وعاداته وتقاليده وآدابه، ومنها دعوة حسن حنفي في كتابه الضخم السابق ذكره، الذي سماه "مقدمة في علم الاستغراب"[2]. ولا بد من التفريق في المصطلح بين الاستغراب والتغريب؛ إذ إن الاستغراب يعني دراسات علمية وفكرية وثقافية للغرب، أما التغريب فإنما هو تقمص الفكر الغربي وآدابه على حساب الفكر الإسلامي، والثقافة الإسلامية والعربية وما نتج عنها من آداب وفنون واجتماع واقتصاد وسياسية من منطلقات تختلف عن منطلقات الاستشراق والتغريب،فمنطلقات العرب والمسلمين في دراسة الغرب ونقده تقوم على الطرح الموضوعي الذي يبين الإيجابيات، كما يظهر السلبيات، ولا يتعمد التعمية أو الجناية على الحضارة الغربية، فهذا منهج لا يجوز. ومن هذا المنطلق، فإن الاستغراب يدرس الدين السائد في الغرب كذلك، وهو هنا النصرانية أولًا، ثم اليهودية، ويأتي الإسلام ليطغى على اليهودية من حيث العدد، وقد يطغى على النصرانية في المستقبل غير البعيد، بحسب إحصائيات السكان التي توحي بأفول الغرب ديموغرافيًّا[3]، واستمرار هجرة المسلمين إلى الغرب، واستمرار دخول الغربيين في الإسلام،وليس المسلمون بحاجة إلى الاستغراب في دراسة الإسلام! ولا تعني دراسة هذه الأديان، أو الدينين بتعبير أدق، أن نترك نظرتنا نحن المسلمين إليهما من خلال ما نراه في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. على أن هناك أمورًا لها دلالاتٌ في الكتاب الكريم والسنة النبوية يمكن الانطلاق منها في الدراسات، وحيث إنها من حيث تفسيرها تدخل في جانب التحليل بعد اليقين بالكتاب والسنة، فإن هناك مجالًا رحبًا للدراسة. وحيث إننا قد مررنا بنهاية قرن ميلادي ودخول قرن جديد، هو بداية للقرن الحادي والعشرين الميلادي، فإنه من الممكن طرح سؤال حول توقيت ميلاد المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - على سبيل المثال الذي يظهر جليًّا من سرد قصته في القرآن الكريم أنه ولد قريبًا، بل في مكان تنبت فيه النخيل: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، وأنه - عليه السلام - قد ولد في موسم جني الرطب، وليس التمر، وهذا يعني أنه قد ولد في المدة التي يكون فيها طلع النخيل رطبًا قابلًا للجني أو الخراف، وهي غالبًا من نهاية أغسطس إلى نهاية أكتوبر، بحسب المواقع، مما يوحي بأن ولادته - عليه السلام - كانت في الصيف، أو في أواخر الصيف وأوائل الخريف، وليس في الشتاء، كما هو الحال الآن عند الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، الذي يصادف عند غالبية الطوائف النصرانية 25/ 12 من كل سنة ميلادية؛ أي بعد دخول فصل الشتاء رسميًّا بثلاثة أيام،وهو عند بعض الطوائف الأخرى بعد ذلك بحوالي أسبوع. ومثل هذا الافتراض يحتاج إلى دراسة علمية معمقة سبق طرحها علميًّا، ولكنها لم تلقَ الرواج المطلوب؛ لأنها ستغير مفاهيم حول مولد المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام - من حيث المكان والزمان، علمًا أن البابا يوحنا بولس الثاني قد اعترف في 8/ 7/ 1414هـ الموافق 22/ 12/ 1993م بأن هذا اليوم الذي يزعم فيه أن عيسى ابن مريم - عليهما السلام - قد ولد يصادف عيدًا وثنيًّا، كان الوثنيون يحتفلون فيه بعيد ميلاد الشمس، التي لا تقهر عندهم في ذلك اليوم![4]. كما أن الفاتيكان قد أقر كتابًا في شعبان من سنة 1423هـ الموافق أكتوبر من سنة 2002م - كما تذكر زينب عبدالعزيز - عن الأكاذيب الواردة في الأناجيل، ومنها أن" يسوع (عليه الصلاة والسلام) لم يولد في 25 ديسمبر، وأنه كان (عليه السلام) قصير القامة"[5]،وقد أكد ذلك صحفيان كاثوليكيان في كتاب طبع في إيطاليا، وقدم له الأسقف جيفانراكو رافازي عضو اللجنة البابوية للممتلكات الثقافية للكنيسة، وزير الثقافة في الفاتيكان[6]. ومثل هذا يمكن أن يقال عن المعتقد الذي قامت عليه الثقافة الغربية، مهما ظهرت فيها من نظرات تخلت عن العقيدة، ولكنها لم تتمكن من التنصل عن البُعد الديني، وكونه قد صبغ الحياة العامة والخاصة، ومنها الحياة السياسية، بصبغته الكنسية، مهما حاربته في الظاهر[7]،ومثل هذه الموضوعات هي التي يمكن أن ينظر إليها على أنها موضوعات الاستغراب، مع توكيد قوي على الدراسة الموضوعية العلمية ذات الإمكانية في القبول في الوقت الراهن. ===================================== [1] انظر: أحمد الشيخ،من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: حوار الاستشراق - مرجع سابق - ص 240. [2] انظر: حسن حنفي،مقدمة في علم الاستغراب،مرجع سابق - ص 910. [3] انظر: باتريك ج.وبكان،موت الغرب: أثر شيخوخة السكان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب/ نقله إلى العربية محمد محمود التوبة، راجعه: محمد بن حامد الأحمري - الرياض: مكتبة العبيكان، 1425هـ/ 2005م - ص 529. [4] انظر: زينب عبدالعزيز، حرب صليبية بكل المقاييس - مرجع سابق - ص 110. [5] انظر: زينب عبدالعزيز،حرب صليبية بكل المقاييس - المرجع السابق - ص 112. [6] انظر: زينب عبدالعزيز،حرب صليبية بكل المقاييس - المرجع السابق - ص 112. [7] انظر: يوسف الحسن،البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي - الصهيوني: دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية - مرجع سابق - ص 222،وانظر أيضًا: محمد السماك،الدين في القرار الأمريكي - بيروت: دار النفائس، 1424هـ/ 2003م - ص 110.
__________________
|
#35
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (الاستغراب - الموضوع المكروه) وفي كتاب أحمد الشيخ "حوار الاستشراق" يظهر طرح قوي مع مستشرقين فرنسيين، حول دراستهم للشرق عمومًا، وللمجتمع المسلم المعاصر بخاصة. ويبدو أن المحاور أحمد الشيخ قد واجه هؤلاء بقضايا مهمة حول موقفهم من الشرق، وموقف الشرق منهم، وهو ما يمكن أن يكون نواة للاستغراب، بما في ذلك نقد الاستشراق نفسه الذي لا يزال قائمًا، رغم رغبة المستشرقين أنفسهم في التنصل من المصطلح، كما مر بيانه في مطلع محدد الاستشراق؛ لما اكتسب من مفهوم سيئ (سلبي) مشؤوم لدى العرب والمسلمين والمستشرقين أنفسهم[1]. وفي ضوء نقد الاستشراق، ومن خلال هذا الحوار المهم، استطاع المحاور أحمد الشيخ أن يخرج بنتائج يؤمل منه أن يجعلها محتوى لعمل قادم؛ لأنه لم يضمنها نتيجة نهائية في كتابه، وإن كانت مبثوثة في مقابلاته مع عدد لا بأس به من المستشرقين، وبعض العرب التغريبيين المتبنين للفكر الاستشراقي أو الفكر التغريبي في النظرة للإسلام دينًا وعقيدة وفكرة وتمثلًا،وما استطاع المحاور الخروج به هو نواة لإمكانية بناء نظرية حول موقف المستشرق نفسه من الدراسات التي يقوم بها. وبعيدًا عن التعميم الذي اتسم به بعض نقاد الاستشراق، هناك من المستشرقين من يحقق ويقرر أن بعضهم ينظر إلى دراسة الشرق عمومًا والإسلام بخاصة على أنه مادة مكروهة،ويبدو أن هذه جرأةٌ في الطرح، واعتراف غير مسبوق؛ إذ ربما يُعَدُّ من الأسباب التي أدت إلى ما وصلت إليه الدراسات الاستشراقية، ليس كلها ولكن معظمها، وبالتالي يمكن القول: إن نقد الاستشراق هو نوعٌ من الاستغراب بالمفهوم العلمي للمصطلح، وإن كان لم يتبلور بعد. وهل بالإمكان القول: إن نقد الاستشراق قام بالتالي كذلك على الكره للمستشرقين ودراساتهم؟ هذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل يطول، ولكنه يعود بنا إلى دوافع نقد الاستشراق، فإن كان من الدوافع الغيرة على الدين والمجتمع المسلم، فإن عدم الولاء لهذه الدراسات وارد ومطلوب. ولم تكن الغيرة على الدين هي المسيطرة بالضرورة على نقد الاستشراق، بل إن هناك دارسين علمانيين، أو هكذا يقال عنهم، نقدوا الاستشراق،ومن هؤلاء من نقده ربما لأن الاستشراق تعاطف مع الجانب الديني في المجتمع المسلم، وكان هذا الفريق يود من المستشرق أن يتجاهل الدين في المجتمع المدروس، في الوقت الذي يصرح فيه المستشرقون أنفسهم بأنه لا يمكن إغفال البعد الديني في المجتمع المسلم المعاصر، ناهيك عن المجتمعات المسلمة السالفة. وفي المحاورات التي تضمنها الكتاب "حوار الاستشراق" أطروحاتٌ جيدة حول هذا المفهوم، لا يملك المتابع لها أن يخفي إعجابه بها، وإن كان قد لا يتفق معها دائمًا، ولكنه الحوار الهادئ العميق الذي يجذب القارئ إليه، ويتيح له هامشًا كبيرًا للتأمل والتفكر،ولعله لا يخفى على القارئ استمرار المتعة بهذا الطرح، والإفادة منه في ملاحقة ظاهرة الاستشراق؛ للرغبة في الاستزادة من قراءة ما يكتب حوله من نقد له أو عليه. وهذا الكتاب في غاية الأهمية لمن يَعنيهم نقد الاستشراق والدعوة إلى الردود عليه، فيما بدأ يطرح الآن على أنه دعوةٌ إلى قيام علم الاستغراب، أو ظاهرة الاستغراب التي يرجى ألا تكون مجرد رد فعل لظاهرة الاستشراق، التي تكونت منذ أكثر من سبعمائة سنة على أقل تقدير، وتعرَّضت لتقلبات عديدة، بحسب ما تعرض له المجتمع المسلم من تقلبات، بدءًا بالحروب الصليبية، ثم الاحتلال، ثم التنصير، ثم الآن عودة الحروب الصليبية في أوربا بالتطهير العرقي والعقدي أولًا، مما يعني استمرار الاستشراق مهما حاول أقطابه أن ينسلخوا من المصطلح، ويعني ذلك فهم الغرب ومنطلقاته في حملاته المتكررة على الشرق، ليس على مستوى الحروب فحسب، ولكن على مستويات أخرى ثقافية وسياسية واقتصادية. ويدخل في المستويات الثقافية المستوى الإعلامي القوي في تأثيره،وهذا ما يمكن أن يطلق عليه مصطلح الاستغراب، الذي يحتاج منا إلى المزيد من التأمل والاعتبار. [1] انظر: أحمد الشيخ،من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب: حوار الاستشراق - مرجع سابق - ص 240.
__________________
|
#36
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (التغريب) من محددات العلاقة بين الشرق والغرب مما يُعَدُّ امتدادًا لمحدد سابق حول الحقوق سَعيُ الغرب إلى تغريب المسلمين وغير المسلمين،وهناك وقفات مهمة حول توكيد الغرب على تبني الآخرين أفكاره ونظراته إلى الحياة والإنسان، فليس من المناسب أن ينصب اللوم كله على الغرب في دعوته هذه؛ لأنه يعبر عن موقف يقوم على أنه يرى مصلحته في أن يقود العالم ويهيمن عليه، ولن يقود هذا العالم إن لم يتمكن من صهر مفهومات العالم في بوتقة غربية؛ ذلك أن في المفهومات الأخرى من الرغبة في الاستقلالية والتميز والخصوصية الثقافية ما يحول دون تحقيق هذه الرغبة[1]. لا تزال كثير من الأمم الشرقية، كالصينية واليابانية والإسلامية، تتوجس من التبعية الثقافية للغرب، رغم أن أعدادًا من أبنائها نهلوا من المعرفة الغربية وعادوا إلى بلادهم يسهمون في بنائها، مع الحذر الشديد من التأثر بالأفكار التي قد يجلبونها معهم،وقد سبق القول: إن موريس بوكاي في كتابه المشهور "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم" قد حذر من الوقوع في هذا التأثير، وركز على أولئك الطلبة الذين لا يدرسون العلوم فحسب، بل يدرسون الثقافة، ويعايشون مجتمعًا قام على النفرة بين العلم والدين[2]. تؤكد آمال قرامي في معرض حديثها عن أسباب ارتداد بعض الطلبة المسلمين الذين يتعرضون للتنصير وللأفكار التي فصلت بين العلم والدين بقولها: "ولا مناص من القول: إن البعثات الدراسية إلى الخارج يسرت عملية اندماج المسلم في المدنية الغربية، ومكنته من الاطلاع على ديانات مختلفة وحضارات متعددة، وأكسبته شيئًا من أساليب الحياة الغربية، ومن الاتجاه الغربي في التفكير والعلم والسلوك وما إلى ذلك،ومن ثمة صار "الارتداد" ممكنًا، خاصة إذا علمنا أن المبشرين كانوا حريصين على تتبع أحوال هؤلاء الطلبة، واستغلال حالة الوحدة والعَوَز التي يعاني منها أكثرهم، لفائدة تحقيق أغراض التبشير"[3]. أدى هذا الجو التغريبي إلى زعم الغرب أنه لم يتطور ويصل إلى ما وصل إليه إلا عندما تخلى عن الدين، بالتالي لم يتأخر المسلمون ويصلوا إلى ما وصلوا إليه من التخلف والتراجع الحضاري إلا بإصرارهم على التمسك بالإسلام[4]. هذا المنطق العلماني الغربي يتنافى مع المنطق التنصيري الذي يتفق معه في الجزء الثاني من هذا الادعاء، وهو أن المسلمين يتقهقرون بسبب تمسكهم بدينهم، بينما يتقدم الغرب عند المنصرين بسبب تمسكه بنصرانيته،إلا أن هذه الجدلية التنصيرية واهية لدى المسلمين؛ لِما يرونه من واقع عزل الدين عن الحياة. تكمن الخطورة في جدلية العلمانية الغربية التي تصر على إبعاد الدين، وأنه سبب مباشر في الحد من التقدم والحضارة والنهضة والتنمية والتطور، وغيرها من المصطلحات التي تسعى إليها كل الأمم، بل وتدعيها بعض الأمم[5]. وهذا شكلٌ من أشكال التغريب الفكري الذي يُعَدُّ أخطرَ بكثير من التغريب الظاهري في الملبس والمأكل، وإن كان هذا في النهاية يجر إلى ذاك وأيِّ سلوك يأتي على حساب السلوك الأصيل، ويكون مستعارًا من ثقافة أخرى ينتج عنه في النهاية تجاهل الأصالة، واللجوء إلى الوقوع في السلوك والأفكار. يقول مالك بن نبي في شروط النهضة: "لكل حضارة منتجاتها التي تتولد عنها، ولكن لا يمكن صنع حضارة بمجرد تبنِّي منتجات حضارة ما؛ فشراء ما تنتجه الحضارة الغربية من قِبل كافة دول العالم لم يجعلها تكسب حضارة أو قيمًا، فالحضارة ليست تكديس منتجات، بل هي فكرٌ ومُثُلٌ وقِيمٌ، لا بد من كسبها أو إنتاجها"[6]،ويعلق نعمان السامرائي على هذا بقوله: "وهذه قضية غائبة عن "المتغربة"؛ فمن يشتري منتجات حضارة أخرى، يتحضَّر شكلًا لا حقيقة، وهو لا يزيد عن كونه مستهلِكَ حضارةٍ، لا منتج حضارة"[7]. وإذا كنا في مسألة التغريب لا نحمِّل الغرب كل اللوم، فإننا نحن نتحمل كثيرًا من اللوم، عندما نرى بعض بني قومنا وبعض مؤسساتنا تتبنى أفكارًا غريبة في نظرتها للحياة،قد يعني هذا أن المسلمين أنفسهم لم يوفقوا في تقديم الإسلام تقديمًا حضاريًّا لا يتنافى مع معطيات الحضارة،ألا ترون أن لدينا بعضًا من "المجتهدين" الذي يتوقفون عند كل منجز حضاري، وربما رفضوه في البداية ثم عادوا فقبلوه وصاروا هم السباقين إلى الإقبال عليه؟ وذلك من منطلق أصولي خاطئ يقوم على فكرة أن الأصل في الأشياء المنع! وألا ترون أننا نشهد وقفات طويلة حول بعض الممارسات الحضارية التي لم نعهدها من قبل، فنختلف عندها من مبيحٍ ومن محرم لها؛ لما يترتب عليها من مفاسد، مع أن الأصل عندنا في الأشياء - لا سيما المعاملات - الإباحة؟ لعل هذا المنحى، وأمثلة كثيرة مثله، سببٌ من أسباب عزوف بعض أبنائنا ثم مؤسساتنا عن الأصالة والتأصيل، والجنوح إلى الغرب في النظر إلى معطيات الحضارة، وبالتالي الوقوع في شَرَك التغريب والحداثة بمفهومها الفكري الذي يمتد من المرء نفسه إلى المجتمع من خلال وقوف هذا الشخص أو ذاك في وجه التأصيل، والنظر إلى أصحابه على أنهم متخلفون، حتى أضحى مصطلح الرجعية من تلك المصطلحات التي يقصد بها الرجوع إلى الأصالة والتأصيل، ولكن من منظور سلبي يطلب الحذر منه وتجاوزه[8]. حملات التغريب ليست عفوية، بل هي مقصودة،وهناك شواهد من أقوال وممارسات تؤيد رغبة الغرب في تغريب العالم، هذا لأن الثقافة الغربية ليست بالضرورة مقبولة لدى أصحاب الثقافات الأخر[9] لأنها تتصادم مع الأعراق والأعراف والتقاليد والعادات والمكتسبات الثقافية الأخرى، بغض النظر عن مصدر هذه الثقافات. مع هذا فقد وُجد في المجتمعات غير الغربية، ومنها المجتمعات الإسلامية، ممن اصطلحنا على تسميتهم بالتغريبيين، تلك الفئة التي أسهمت في التأثير على العلاقة بين الشرق والغرب بتبنِّيها الأفكار الغربية، ودعوتها إليها،هؤلاء الذين أضحوا مجال استغراب من الغربيين أنفسهم؛ إذ لم يتوقعوا منهم أن يكونوا بهذه الحدة والقوة والاندفاعية في الدعوة إلى تبني الأفكار الغربية، بحيث أضحوا غربيين أكثر من الغربيين أنفسهم. يمكن أن تكون فكرة الدعوة إلى التغريب فكرة مقبولة، لو لم يقصد من ورائها أن تحل محل المبادئ والقيم والمُثل المستمدة من الثقافة القائمة على الشرع؛ فإنَّ رَفْضَ التغريب موقف مبرر، له ما يسوغه عندما تكرر الدعوة للرجوع إلى الأصل والدعوة إليه وإلى استفادة الآخرين منه. هناك نماذج متعددة لأشكال التغريب تعود في جذورها إلى نهايات الخلافة العثماني[10]، وتعرج على عصر النهضة العربية التي انطلقت من كل من مصر والشام، لا سيما لبنان بشكل أوضح بالنسبة للشام، وربطها بالنهضة المصرية،وهناك أسماء معروفة لها جهودها في هذا المسار، وكانت لها إسهاماتها الفكرية في مجالات الفكر والسياسة والثقافة والأدب،ولا يسمح المجال في هذه الوقفة للتعرض لبعض الأسماء اللامعة في الدعوة إلى التغريب، ومن تبعهم مما يدخل في مفهوم التلمذة عليهم، وقد يبز التلميذ أستاذه،مع العلم أن المجال هنا هو طرح الأفكار من دون الغوص في التفصيلات، إلا إذا دعا المقام لذلك. تقف الدعوة إلى التغريب حائلًا من عوائق قيام علاقة قوية بين الشرق والغرب،ويمكن أن يخف هذا الحائل إذا ما خفَّت الدعوة إلى التغريب من بعض الشرقيين أنفسهم،ويمكن أن يتم ذلك إذا ما تولد الاقتناع التام القوي بالمنبع الذي يملأ الفراغ الفكري عند بعض الشرقيين؛ولهذا الهدف خطوات طويلة المدى، ولكنها دائمًا تبدأ بالخطوة الأولى التي يظهر أنها قد بدأت. [1] انظر: علي بن إبراهيم النملة،السعوديون والخصوصية الدافعة: وقفات مع مظاهر التميز في زمن العولمة - الرياض: مكتبة العبيكان، 1427هـ/ 2006م - ص 312. [2]انظر: موريس بوكاي،التوراة والإنجيل والقرآن والعلم،بالإنجليزية - مرجع سابق - ص 253. [3]انظر: آمال قرامي،قضية الردة في الفكر الإسلامي الحديث - تونس: دار الجنوب للنشر، 1996م - ص 49. [4]انظر: رضوان السيد،مسألة الحضارة والعلاقة بين الحضارات لدى المثقفين في الأزمنة الحديثة - أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2003م - ص 9،(سلسلة: دراسات إستراتيجية: 89). [5] انظر في مسألة الإسلام والعلمانية الفصل الحادي عشر من: عادل ظاهر،الأسس الفلسفية للعلمانية - ط 2 - بيروت: دار الساقي، 1998م - ص 327 - 359. [6]انظر: مالك بن نبي،شروط النهضة - دمشق: دار الفكر، 1979م - ص 42. [7]انظر: نعمان عبدالرزاق السامرائي،نحن والصديق اللدود: دراسة تحليلية للفكر الغربي وموقفه من الإسلام - مرجع سابق - ص 98 - 99. [8]انظر: محمد سليم قلالة،التغريب في الفكر والسياسة والاقتصاد - دمشق: دار الفكر، 1408هـ/ 1988م - ص 240. [9]انظر: أحمد عبدالوهاب،التغريب: طوفان من الغرب - القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، 1411هـ/ 1990م - ص 48. [10]انظر: التغريب - ص 166 - 171 - في: نعمان عبدالرزاق السامرائي،نحن والصديق اللدود: دراسة تحليلية للفكر الغربي وموقفه من الإسلام - مرجع سابق - ص 185.
__________________
|
#37
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (الاغتراب) من محددات العلاقة بين المسلمين والغرب وجود جاليات إسلامية مغتربة في المجتمعات الغربية، والمعلوم أن هجرات المسلمين للغرب قديمة جدًّا، إلى درجة أن الدكتورة إيفون حداد أستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة مساشيوستس بالولايات المتحدة الأمريكية ترجع وجود المسلمين في أمريكا إلى ما قبل اكتشافها على يدي كريستوفر كولمبس[1]. تورد هذا الرأي في معرض حديثها عن الوجود الإسلامي في أمريكا، ومهما يكن من أمر فالوجود الإسلامي في أوروبا وأمريكا قديم، بدأ بالبعثات الدبلوماسية وبالهجرات التي أرادت اكتشاف الآخر، والدعوة إلى الإسلام، أو سعت إلى تحسين وضعها الاقتصادي، أو هربت من ظروف سياسية لم تكن تسمح لها بالاستمرار في مواطنها[2]، وكونت هناك مجتمعات صغيرة جدًّا، حاولت من خلالها الحفاظ على هويتها الإسلامية، لا سيما عندما كبر الأولاد بنين وبنات، فأقامت منتديات سمتها مساجد، وإن لم تكن بالضرورة مساجد، بل هي مصليات يذكر فيها اسم الله، وتقام فيها الصلاة والدروس الدينية واللغوية والمحاضرات واللقاءات والمناسبات الاجتماعية[3]. ثم توالى الوجود الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي، الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، بهجرات جديدة من شوام ومصريين وهنود، بالإضافة إلى وجود المسلمين الأفارقة الذين جلبوا إلى أوربا وأمريكا عبيدًا ليعملوا في المزارع والحقول، وغيرت أسماؤهم، ومن ثم هوياتهم، وجرى تنصيرهم، وبالتالي سُعِي إلى صهرهم بالثقافة الغربية القائمة على الخلفية النصرانية ولا شك، ثم سعوا إلى العودة إلى جذورهم، كما جسدتها رواية أليكس هيلي: الجذور[4]. ثم توالت الهجرات أيضًا في القرن العشرين الميلادي، الرابع عشر الهجري، وانصهر كثير من المسلمين في المجتمع الغربي، ولكنه الانصهار الذي لم يصل إلى إنكار الهوية الإسلامية، فزادت المساجد والمصليات والمراكز الإسلامية، وأقيمت الجمعيات المهنية الإسلامية، ووصلت إلى قيام تنظيمات ثقافية واجتماعية وسياسة واقتصادية وإعلامية، وأضحى للمسلمين بعض صوت في أوربا وأمريكا، وأضحى لهم شأن، ودخلوا في اللعبة السياسية. تنبه أهل البلاد هناك لوجودهم وحسبوا لهم حسابًا، رغم أن الإعلام لم يوفق في إعطاء صورة صادقة للإسلام والمسلمين المحليين وغيرهم من مسلمي العالم، وأضحى الإعلام يشير بأصابع الاتهام للمسلمين عند أي عمل تخريبي إرهابي في العالم[5]، على ما سيأتي الحديث عنه في وقفة لاحقة. لكن وجود المغتربين المسلمين في المجتمع الغربي لا يخلو من تأثير مهما ضعف، إلا أنه يُعَدُّ شكلًا مهمًّا من أشكال الحوار بين المسلمين والغرب، ومحددًا حيويًّا وفاعلًا من محددات العلاقة بين المسلمين والغرب؛ ذلك أن المسلمين الموجودين في الغرب رسموا صورة أوضح من الصورة التي قدمها الاستشراق والإعلام؛ لأنهم عملوا هناك، وكانت لهم علاقات اجتماعية، كما أنهم استخدموا في الوقت نفسه أسلوب الدعوة بالحكمة، ومنها القدوة في تطبيق الإسلام بالقدر الذي استطاعوا معه قانونيًّا التطبيق، بعد أن أدركوا أنهم ليسوا في مجتمع مسلم يطبق فيه الإسلام على جميع مناحي الحياة. ليس المراد هنا إعطاء صورة غير واضحة للجالية المسلمة في الغرب تنحو منحى الإيجابية في العرض؛ إذ إن عليها ما عليها من ملحوظات تطرق لها الإعلام الإسلامي في وقفات مختلفة[6]، وناقشتها ندوات عن الأقليات والجاليات المسلمة، وكتب حولها ما كتب ويكتب[7]، ويمكن أن يعد الوجود الدائم لهذه الجاليات في مجتمعات غربية مؤشرًا من مؤشرات التلاقي بين المسلمين والغرب. كلما تمسك المسلمون المغتربون هناك بإسلامهم قوي هذا المؤشر؛ لأنهم بهذا يُعَدُّون دعاة بالقدوة، والعكس صحيح؛ أي: كلما تخلى المسلمون في الغرب عن هويتهم الإسلامية وسعوا إلى الانغماس التام في الثقافة الغربية فقدوا قدرتهم على التأثير، وبالتالي فقدوا عنصرًا من عناصر وجودهم؛ لأن الغربيين لا يتوقعون منهم أن يتبنوا ثقافة مشكوكًا في صمودها، على حساب ثقافة صمدت مئات السنين، وما تزال كذلك، وستظل مهما تخلى بعض أبنائها عنها وهجروها إلى غيرها. مع تنامي وجود الجاليات المسلمة في الغرب يتنامى الاعتراف بهم في هذه المجتمعات، على أنهم جزء فاعلٌ منها، لهم إسهاماتهم في مسيرة الحياة والتنمية هناك، ويمكن لهم أن يمثلوا الجانب المشرق في النظرة إلى الأشياء في مجتمعات أضحت تتعطش إلى الفضيلة، بعد أن ملت الغَواية، وأدركت أن الحرية مهما تشبثت بها الأمم إلا أنها هي ذاتها تحتاج إلى تقييد بالمثل والمبادئ التي تكفل الاستمتاع بها على مستوى الأفراد والجماعات[8]. [1] انظر: إيفون يزبك حداد/ محررة، المسلمون في أمريكا - القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1415هـ/ 1994م، ص 303. [2]انظر: المؤثر الثالث: الوجود الإسلامي - ص 75 - 95 - في: علي بن إبراهيم النملة، مجالات التأثير والتأثر بين الثقافات: المثاقفة بين شرق وغرب - مرجع سابق - ص 179. [3] انظر: في الوجود الإسلامي في أمريكا: محمد عبده يماني، المسلمون السود في أمريكا: القصة كاملة - جدة: المؤلف، 1427هـ - ص414، وانظر أيضًا: عبدالرزاق بن حمود الزهراني، المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية: دراسة ميدانية - الدمام: دار الذخائر، 1421هـ / 2000م - ص 232، وانظر كذلك: أحمد يونس، المسلمون الأمريكيون: أقسم أن أقول الحق/ ترجمة نشأت جعفر - القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 1424هـ/ 2003م - ص 64، وانظر كذلك: التقرير الذي نشرته نشرة أصفار بعنوان: أوسع دراسة عن الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية: صيرورة المستقبل من "أمة الإسلام إلى مرحلة الإخوان المسلمين" إلى عصر المؤسسات والجامعات" - أصفار - مرجع سابق - ص 1 - 8. [4] انظر: أليكس هالي، الجذور: كونتا كينتي/ أعدها بتصرف عن القصة الكاملة خليل حنا تدرس - القاهرة: مطبعة مصر، 1991م - ص 176، والنسخة الأصلية باللغة الإنجليزية أكثر وضوحًا. [5] انظر: فواز جرجس، أمريكا والإسلام السياسي - مرجع سابق - ص 362. [6] انظر: أحمد موصللي، حقيقة الصراع: الغرب والولايات المتحدة والإسلام السياسي - (بيروت): عالم ألف ليلة وليلة، 2003م - ص 213. [7] انظر: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الأقليات المسلمة في العالم: ظروفها المعاصرة - آلامها - آمالها، (أبحاث ووقائع المؤتمر العالمي السادس للندوة العالمية للشباب الإسلامي المنعقد في الرياض في الفترة من 12 - 17 جمادى الأولى 1406هـ الموافق 22 - 23 يناير 1986م) - 3 مج - الرياض: الندوة، 1408هـ/ 1987م - ص 1431. [8] انظر: في جانب من جوانب الفضيلة، وهو ما يتعلق بشأن المرأة: بكر بن عبدالله أبو زيد، حراسة الفضيلة - ط 4 - الرياض: دار العاصمة، 1421هـ/ 2000م - ص 200.
__________________
|
#38
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (البعثات) من محددات العلاقة بين الشرق والغرب قيام البعثات العربية والإسلامية، ولا يقصد هنا البعثات الدبلوماسية،ولكن المقصود هنا الطلاب العرب والمسلمون الذين قدموا إلى أوروبا وأمريكا، وأقاموا فيها إقامة مؤقتة، لغرض واضح ومحدد، وهو تلقي العلم الحديث في الجامعات والمعاهد العليا الغربية[1]. وقد مر زمان كان الطلبة الغربيون ينتقلون إلى الشرق الإسلامي يتلقون العلم الحديث آنذاك،ومع انتقال الحضارة من أيدي المسلمين إلى الغربيين انقلبت الصورة: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]. ليس المقام هنا بصدد المقارنة بين الجاليات والبعثات في قوة التأثير،ولا بأس من الوقفة الموضوعية التي تستدعي القول: إن تأثير الطلبة، وإن كان وجودهم مؤقتًا، كان في بعض المجتمعات الغربية أقوى من تأثير المغتربين؛ ذلك أن الطلبة الذين أصروا على هويتهم الإسلامية ومارسوا شعائرهم كان لهم تأثير على الجاليات المغتربة نفسها، وأسهموا وشجعوا على تمسك الجاليات المغتربة بهويتها الثقافية والدينية. لم يكن هؤلاء الطلبة بعيدين عن المجتمع المسلم الذي غادروه؛ فالصلة معه مستمرة، ويترددون عليه في الإجازات غالبًا، ويعلمون أن مردهم إليه،شجعهم كل هذا على الاحتفاظ بهويتهم، ولكنه احتفاظ لم يمنعهم من التعايش والتأثر مع المجتمع الغربي، وإن أدى ذلك إلى بعض التجاوزات في الممارسات اليومية لدى بعض منهم[2]،لقد كان في وجود الطلبة في أوربا وأمريكا الشمالية والجنوبية خير كثير، وإن ظهرت مقولات تحذر من الابتعاث وتنهى عنه، وظهرت بعض الآراء والفتاوى التي تحدد الحاجة إليه[3]. هذه مواقف لها ما يسوغها؛ إذ إن الغيرة على الإسلام وأبنائه تؤدي إلى هذا الموقف، لا سيما مع وجود شواهد حية من الانغماس في الثقافة الغربية بعد الانبهار بها، والسعي إلى تبنيها مزاحمة للإسلام في المجتمعات المسلمة![4]، وفئة الطلبة المسلمين الذين لم يتمسكوا بدينهم، وهم قلة لا تكاد تذكر، ولا يعدون مؤشرًا من مؤشرات العلاقة بين الشرق والغرب؛ ذلك أنهم لم يحترموا أنفسهم، فلم يحترمهم الآخرون. إنما الحديث هنا عن تلك الفئة من الطلاب الذين كان لهم تأثير واضح في المجتمعات الغربية، من خلال إيجاد البنية التحتية التي مارسوا عليها شعائرهم الدينية من صلوات جماعية وأعياد ودروس ومناسبات زفاف، بل وتجهيز الموتى والصلاة عليهم ودفنهم في مقابر خاصة للمسلمين، أو مخصص جزء منها للمسلمين، والتأكد من تذكية الذبائح. سعى هؤلاء الطلاب إلى إيجاد المساجد والمراكز الإسلامية، أو أعانوا الجاليات المغتربة على إقامتها وتشييدها،كما أحيوا هذه المساجد والمراكز بالصلاة وحلقات الذكر والمحاضرات والدروس والأعياد، ودعمتهم في ذلك قوانين البلاد التي عاشوا فيها، التي تحترم التنظيم، بشرط ألا يمس النظام العام ويؤثر سلبًا على الأمن الوطني،وهذا أمر لا ينبغي الاستهانة به،كما أعانتهم بلدانهم وأهل الخير في هذه البلدان الذين أسهموا في بناء هذه المساجد والمراكز، وما يزالون يجنون ثمار هذه الجهود صدقةً جاريةً مستمرة بإذن الله تعالى. لا عبرة بفئة ضلت الطريق من أهل الأهواء والتحزبات، واتخذت من الدين مطية لتحقيق أغراض ليست من الدين مهما قيل: إنها من الدين، ولم يكن تأثيرها على المجتمع على الصورة المبتغاة، لا سيما إذا غلَّبت الهوى. كان لوجود الطلبة المبتعثين في الجامعات والمعاهد العليا تأثير واضح من خلال وضوحهم مع أساتذتهم والمسؤولين في هذه المؤسسات العلمية، من حيث ابتعادهم عن أي أمر مخلٍّ بالدين في الشرب أو الأكل، أو الوقت والاختلاط غير المسوغ، لا سيما في المناسبات الاجتماعية التي ما تفتأ تحدث في هذه المجتمعات، ويكون فيها لغط في مفهومنا ونظرتنا لها. كما كان لوجودهم في هذه المؤسسات التعليمية أثر واضح عندما أضحوا طرفًا في الحوار الدائر حول الأحداث المتتابعة في المنطقة الإسلامية، فاستطاعوا أن يقدموا صورة واضحة وصحيحة عن الوضع، بدلًا من أن يتصدى لذلك إعلامي مغرِض، أو مستشرق لم يفهم بالضرورة الوضع على ما يفهمه هؤلاء. يمكن الاستنتاج من هذا أن وجودَ البعثات في المجتمع الغربي كانت له حسناته في توجيه الحوار القائم بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني العلماني، على ألا يفهم هذا على أنه دفاعٌ عن وجود الطلبة المسلمين في الغرب،وما داموا قد وجدوا فلا بأس من إبراز الجانب المضيء من وجودهم وقدرتهم على التأثير؛ أخذًا في الحسبان أن هناك من لم يوفق في التمسك بهويته، مما أدى إلى التحذير من الابتعاث وبيان مخاطره، كما ذكر موريس بوكاي في كتابه المشهور عن الإنجيل والتوراة والقرآن والعلم[5]، عندما حذر الطلبة المسلمين الدارسين في الغرب من قبول فكرة فصل العلم عن الدين، كما هي الحال هناك[6]. ============================ [1] انظر: المؤثر الثاني البعثات التعليمية - ص 57 - 95 - في: علي بن إبراهيم الملة،مجالات التأثير والتأثر بين الثقافات: المثاقفة بين شرق وغرب - مرجع سابق - ص 179. [2] انظر: هالة مصطفى،الإسلام والغرب: من التعايش إلى التصادم - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002م - ص 144 - (سلسلة مكتبة الأسرة؛ الأعمال الفكرية)،وانظر لها طبعة أخرى من الكتاب نفسه - القاهرة: دار مصر المحروسة، 2002م - ص 123. [3] انظر: محمد الصباغ،الابتعاث ومخاطره - ط 2 - بيروت: المكتب الإسلامي، 1403هـ/ 1983م - ص 48. [4] انظر: إبراهيم بن حمد القعيد،الطلبة المسلمون في الغرب بين المخاطر والآمال - الرياض: مكتبة دار السلام، 1415هـ - ص 126. [5] انظر: موريس بوكاي،التوراة والإنجيل والقرآن والعلم - مرجع سابق - ص 253. [6] انظر: محمد عبده، الشيخ،الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية/ تقديم وتعليق رشيد رضا، الشيخ - سوسة، تونس: دار المعارف، (1995م) - ص141.
__________________
|
#39
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (العلمنة - تغييب النصوص ) يمر على الأمة حينٌ من الدهر تُضحي فيه نهبًا للآخر، بأي شكل من أشكال النهب السياسي والاقتصادي والعسكري والديني والثقافي، وتكون في هذا مسلوبة الإرادة، مغلوبة على أمرها، لا تستطيع دفاعًا عن نفسها، فيتقلص نفوذها، ويضمحل تأثيرها، ويهرب منها أبناؤها باحثين عن فكر الآخر وثقافته، على اعتبار أن المغلوب - على رأي عبدالرحمن بن خلدون - يتبع الغالب، والأمة حينها مغلوبةٌ على أمرها[1]. من أخطر أنواع النهب: أن تنهب الأمة في دينها الذي هو منبع ثقافتها، فيفرض عليها من الغالب أن تحور في دينها، ليس مباشرةً، ولكن بإغفال ترديد النصوص التي تبين حقيقة الآخر (غير المسلمين)، الحقيقة التي نزل بها الوحي، ولا يمكن أن تكون مقصورة على زمان أو مكان، بل هي ملازمة لهذا الآخر، والإيمان بها جزء من الإيمان بهذا الدين، وهي تدخل في أصل الاعتقاد. إغفال النصوص التي تبين هذه الحقيقة فيه تدخل في المعتقد، وتغييب لأصل من أصوله، مما يؤثر على الإيمان، فيؤدي إلى الموالاة، في الوقت الذي تدعو فيه النصوص إلى البراءة من الآخر، إذا انطبق عليه ما ينطبق على ما يجب البراء منه. الذي يبدو أن مفهوم البراء نفسه غير واضح في أذهان بعض الذين يثيرونه بين الفينة والأخرى، مما أدى إلى الدعوة إلى تناسي النصوص التي تؤكد عليه والتغافل عنها؛ذلك أن البراء لا يشمل - فيما يبدو - المقاطعة بكل أشكالها، وإعلان الحرب على الآخر ورفضه باسم البراء أو بحجة البراء. الذي يظهر - كذلك - أن مصطلح الولاء والبراء لم يتم التركيز عليه بهذه الصورة وبهذه القوة على الساحة الإسلامية إلا في الآونة الأخيرة، وبنبرة سياسية، وإن كان المسلمون يرددون آيات الولاء والبراء، لا سيما في مطلع سورة التوبة منذ زمن غير قصير[2]،وهذا أمر يحتاج إلى بحث؛ إذ إنه لا يطرح على أنه من المسلمات،وهناك محاولات لتغييب مثل هذه النصوص. لم يقتصر العمل في تغييب النصوص على هذا الجانب، بل إن هناك أصلًا لدى الآخر بتغييب تلك النصوص التي تتعلق بزرع دولة يهودية في قلب الأمة، وأصبح كثير منا الآن يدعوها إسرائيل،وهناك رغبة - كذلك - في تغييب النصوص التي تتحدث عن اليهود عمومًا،والنصوص التي تتحدث عن اليهود لا تتحدث عنهم بإيجابية؛ ولذا تظهر الدعوة إلى تغييبها كلها. السؤال المطروح هنا يتعلق بمدى جدوى تغييب النصوص ومدى نجاح هذا التغييب، ما دام له علاقة مباشرة وقوية بأصل الاعتقاد الوارد لدى المسلمين بالذكر، ويؤمن المسلمون جازمين أن الذكر محفوظ، وحفظه يعني فيما يعني تطبيقه على الواقع؛قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]. اللوم كله لا يقع على الآخر الذي يحاول هذه المحاولات في تغييب النصوص؛ لأنه بذلك يدافع عن وجوده الذي لا يقوم إلا بتغييب كل النصوص، وإنما ينصبُّ اللوم جلُّه على أولئك الذين يستجيبون لهذه المحاولات، وينصبُّ على لوم أهل الزمان الذين وصلوا في حين من الزمان إلى أن يكونوا أداةً تغيَّب بها النصوص،وهو زمان لن يدوم طويلًا، ولكنها مرحلة من المراحل التي تمر بها الأمة، وقد مرت بها من قبل،وهي الآن تحاول الخروج منها، مع ما يتطلبه الخروج من تمحيص يقتضي هذا الوضع الذي نحن فيه على مختلف الصعد. هذه دعوة إلى إدراك هذه النقطة المهمة المتعلقة بمحاولات تغييب النصوص، في الوقت الذي نسعى فيه إلى التنبيه إلى هذه المحاولات، ونؤكد على خطورتها، ونعمل على إيقافها في دور التربية والمراكز الفكرية والأدبية، وغيرها من بيوت الحكمة التي تتعامل مع العقل. ============================ [1] انظر في النهب الاقتصادي والسياسي: جان زيجلر،سادة العالم الجدد: العولمة، النهابون، المرتزقة، الفجر - مرجع سابق - ص 304. [2] انظر: محمد بن سعيد بن سالم القحطاني،الولاء والبراء في الإسلام من مفاهيم عقيدة السلف - مرجع سابق - ص 476.
__________________
|
#40
|
||||
|
||||
![]() الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها أ. د. علي بن إبراهيم النملة (العلمنة - الانبهار) من جميل ما يتابع المتابع: هذا الحوار القائم الآن بين الشرق والغرب، الذي أخذ أشكالًا متعددة من أساليب الحوار، فهناك الحوار العلمي من خلال البعثات العلمية التي انتقلت من الشرق إلى الغرب، فتعلمت هناك العلم، فعادت إلى بلادها وهي تحمل معه بعض المثل التي لا تتفق كلها بالضرورة مع المثل التي يتمثلها الشرقيون. هناك الحوار الثقافي الذي كان من نتائج الحوار العلمي، ولم يكن فقط نتيجة له؛ لأن هناك من تأثر بالشرق من الغربيين، فتوجه إليه بالرحلة والقراءة والكتابة والرأي. كما أن هناك من انبهر بالغرب من الشرقيين ثقافيًّا؛ فحفظ أقوال الغربيين الكثر، من علماء النفس والاجتماع والفلسفة وغيرها، فأضحينا نسمع عن هؤلاء مقولات تنسب إلى ديكارت وكانت وماكس فيبر وجوته ونتشة وكارل ماركس وهيغل وجان بول سارتر وجان جاك روسو وفولتير ودوركايم ورينان وتوجي وبرنارد شو، والقائمة طويلة،ومعظم هذه الأسماء قد رسخت هذه الفجوة بين الشرق والغرب، وأنهما لا يلتقيان، لا سيما أفكار هيغل التي تصدى لها، أو لمعظمها، كارل بوبر في كتابه المجتمع المنتفخ وأعداؤه، حيث أصبحت فلسفة هيغل جديرةً بالاهتمام والتحليل، بسبب نتائجها المشؤومة - حسب قول بوبر - التي شخصت العالم بثنائية توحي بأنها متناقصة، بل متناحرة من منطلق "نظام البديهات" التي ركز عليها هيغل في كتاباته. إذا كان الغرب غربًا واحدًا فإنه "لم يعد هناك وجود للغرب بالمعنى الجغرافي والأنثروبولوجي للكلمة؛ لأن الثقافة الغربية "فرنجت" العالم، ومن ضمنه المجتمعات الشرقية، حيث المعارضة للهيمنة الغربية هي الأكثر احتدامًا"، كما يقول جورج قرم في كتابه شرق وغرب: الشرخ الأسطوري[1]. كذا الشرق بالنسبة للغرب لم يعد شرقًا واحدًا؛ فهناك الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى،والشرق الأوسط هو الذي تعرض لألوان من الحوار، كان منها الحوار الحربي، حينما وصلت الفتوح الإسلامية مشارفَ فرنسا غربًا، ثم مشارف فينَّا عن طريق الشرق، بل وصلت إلى جبال الألب[2]، وتخللتها الحروب الصليبية التي كانت موجهة إلى منطقة الشرق الأوسط، ثم زُرِعَت دولة قومية أو وطن قومي لليهود في فلسطين المحتلة، ليستمر هذا النوع من الحوار العنيف بين الشرق والغرب. ثم في الشرق الأقصى برزت فكرة "الخطر الأصفر"، حين أعلن الغرب هذا الشرق عالمًا غريبًا،ويتجلى هذا مثلًا في الصورة الساخرة والمهينة التي رسمها الأدب الغربي الشعبي لليابانيين والصينيين "قصيري القامة"، ذوي الوجوه الصفراء، والأسنان البارزة، والقامات المنحنية، والنفوس التي يكتنفها الخداع والغموض"،ولم يسكت "الشرق أقصويون" عن هذا، فبادلوا الغربيين باحتقار مماثل؛ إذ إن الصينيين واليابانيين "يرون في الإنسان الغربي الأبيض نموذجًا للبربري المبتذل والغضوب وغير القادر على التحكم بمشاعره، والذي يريد بأي ثمن فرض دينه وتجارته"،كما ينقل جورج قرم في الشرخ الأسطوري[3]. إلا أن الخطر الأصفر قد بدأ في الزوال منذ أكثر من خمسين سنة مضت بعد أن حقق الشرق الأقصى إنجازات باهرة في المجال الاقتصادي، لا سيما اليابان، والآن ماليزيا والصين وكوريا[4]. يمضي جورج قرم في تحليل هذا المفهوم الذي فرض حائطًا كبيرًا وطويلًا بين الشرق والغرب، بما في ذلك تقسيم العالم إلى آريين وساميين، على طريقة إرنست رينان وجورج دوميزيل وميرسيا إلياد، مع إعطاء كل جنس خصائصه،ومن المتوقع أن يصدر هذا التصنيف العرقي عن إرنست رينان المتقدم زمنيًّا، وكذلك يصدر من نظرة جون كافن في تصنيفهما للساميين، وكونه ليس إيجابيًّا، بينما يتمتع الآريون بسمات القدرة على العيش والتحضر والتفكير ونحوها من مقومات الحياة[5]. هذا الشرخ الأسطوري نما وترعرع في ضوء هذا الحوار العنيف، وتكرر طرحه حتى صدقه الناس إلى حد كبير، لكنه لم يكن صحيحًا، ولن يكون صحيحًا مهما قيل عنه ذلك؛ إذ إن الشواهد الحضارية ومشاركة الأجناس الشرقية والإفريقية في بناء هذه الحضارة الحديثة لدليلٌ "أنثروبولجي" قويٌّ على دحض هذا التوجه، على ما يقوم به علماء وفلاسفة غربيون، ناهيكم عن الشرقيين، أمثال إدوارد سعيد وجاك ج.شاهين وريجيس دوبريه ويورغن هابرماس وإربك هوسباوم ونعوم تشومسكي[6]، وغيرهم كثير. ليس من المصلحة في هذه المنطقة، وهي تتبنى دينًا عظيمًا، أن يُعمَّق مثل هذا الحوار العنيف الذي يزيد من هذا الشرخ، ويضخم الفجوة؛ فإن الحوار مع الآخر ينبني على أن الناس مخلوقون من ذكر وأنثى، وأنهم جُعلِوا من الله تعالى شعوبًا وقبائل لتتعارف، وتبقى الأفضلية بينهم مرهونة بالتقوى؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. ================================ [1] انظر: جورج قرم،شرق غرب: الشرخ الأسطوري - مرجع سابق - ص 43. [2] انظر: محمد السماك،عندما احتل المسلمون جبال الألب - التسامح - ع 13 (شتاء 1426هـ/ 2006م) - ص 254 - 280. [3] انظر: جورج قرم،شرق وغرب: الشرخ الأسطوري - مرجع سابق - ص 43. [4] انظر: مهاتير محمد وشنتارو إيشيهارا،صوت آسيا: زعيمان آسيويان يناقشان أمور القرن المقبل - بيروت: دار الساقي، 1998م - ص 125،وانظر كذلك: مهاتير محمد،خطة جديدة لآسيا - ترجمة فاروق لقمان - دار الإحسان: بيلاندوك للنشر، د.ت - ص 230. [5] انظر: حسن الباش،صدام الحضارات: حتمية قدرية أم لوثة بشرية؟ - دمشق: دار قتيبة، 1423هـ/ 2002م - ص 25 - 28. [6] انظر: نعوم تشومسكي،الدول المارقة: حكم القوة في الشؤون الدولية/ ترجمة محمود علي عيسى - دمشق: نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، 2003م - ص 274.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |