|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#21
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
الثانية: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263]. ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾ [البقرة: 263]؛ أي: تعرفه القلوب ولا تنكره، ويدخل في ذلك كلُّ قولٍ كريم، فيه إدخال السرور على قلب المسلم، ويدخل فيه ردُّ السائل بالقول الجميل والدعاء له، ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ [البقرة: 263] لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذًى؛ لأن القول المعروف إحسانٌ قولي، والمغفرة إحسان أيضًا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذًى بمنٍّ أو غيره، وإنما كان المنُّ بالصدقة مُفسدًا لها محرمًا؛ لأن المنة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمُنُّ بنعمة الله وإحسانه وفضله، وهو ليس منه، وأيضًا فإن المانَّ مُستعبد لمن يمن عليه، والذل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غنيٌّ بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلُّها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم، ﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ [البقرة: 263] عنها، ومع هذا فهو ﴿ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263] على من عصاه، لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه"؛ [تفسير السعدي]. وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المنِّ في الصدقة؛ ففي صحيح مسلم، من حديث شعبة، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنَّان بما أعطى، والْمُسْبِل إزاره، والْمُنْفِق سلعته بالحلف الكاذب)). الثالثة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264]. وهذه الآية فيها ستُّ مسائل: هل تُبطِل السيئاتُ الحسناتِ؟ يخبرنا الله تعالى أن الصدقة تبطُل بما يتبعها من المن والأذى، فما يَفِي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى. يقول السعدي في تفسيره: "ينهى عباده تعالى لطفًا بهم، ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى؛ ففيه أن المن والأذى يُبطل الصدقة، ويُستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تُبطل الأعمال الحسنة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2]، فكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فالسيئات تُبطل ما قابلها من الحسنات. تشبيه المنَّان بالمرائي في صدقته، وكلاهما صدقته باطلة: ﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ [البقرة: 264]؛ أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهَرَ لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدحُ الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة؛ ليُشكَر بين الناس، أو يُقال: إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى، وابتغاء مرضاته، وجزيل ثوابه". تشبيه المنَّان والمرائي بالكافر: ﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 264]. مثَّل الله تعالى الذي يمُنُّ ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس، لا لوجه الله تعالى، وبالكافر الذي يُنفق ليُقال: جواد، وليُثنَى عليه بأنواع الثناء. • تشبيه المنان بالصخر الأصم الذي لا ينفعه ماء، ولا يُنْبِت كلأً: ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾ [البقرة: 264]. "ثم مثَّل هذا المنفق أيضًا بصفوان عليه تراب، فيظنه الظانُّ أرضًا مُنبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر، أذهب عنه التراب وبقِيَ صلدًا، فكذلك هذا المرائي، فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة، فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل عن الصفوان، وهو الحجر الكبير الأملس"؛ [القرطبي]. • عجز المنان والمرائي عن الانتفاع بصدقاتهم: ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ [البقرة: 264]. ومعنى ﴿ لَا يَقْدِرُونَ ﴾ يعني المرائي والكافر والمانَّ ﴿ عَلَى شَيْءٍ ﴾؛ أي: على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم، وهو كسبهم عند حاجتهم إليه، إذا كان لغير الله، فعبَّر عن النفقة بالكسب؛ لأنهم قصدوا بها الكسب - كسب الشهرة، كسب المنفعة، تحصيل مصلحة - وقيل: ضرب هذا مثلًا للمرائي في إبطال ثوابه، ولصاحب المنِّ والأذى في إبطال فضله؛ [ذكره الماوردي، كما جاء في تفسير القرطبي]. • هم محرومون من الهداية كحرمان الكافرين منها: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264]. وفي مقابل المنان يعرِض لنا الله سبحانه وتعالى مَثَلَ المنفِق ابتغاءَ رضوان الله؛ فيقول: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265]. "لما ذكر الله تعالى صفةَ صدقاتِ القوم الذين لا خَلَاقَ لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقَّب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم؛ إذ كانت على وفق الشرع ووجهه، و﴿ ابْتِغَاءَ ﴾ [البقرة: 265] معناه طَلَب، و﴿ مَرْضَاتِ ﴾ [البقرة: 265] مصدر من رضِيَ يرضى، ﴿ وَتَثْبِيتًا ﴾ [البقرة: 265] معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم؛ قاله مجاهد والحسن، قال الحسن: كان الرجل إذا همَّ بصدقة تثبَّت، فإن كان ذلك لله أمضاه، وإن خالطه شكٌّ أمسك، وقيل: معناه تصديقًا ويقينًا؛ [القرطبي]. وإن كانت نفقة المنان والمرائي كمثل صفوان عليه تراب، فنفقة المنفق في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، ﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ ﴾ [البقرة: 265]؛ وهو البستان ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾ [البقرة: 265]؛ أي: في مكان مرتفع، عليها تراب خصب مُنبت، كلا المكانين أصابه وابل، لكن الوابل الذي أصاب الصفوان تركه صلدًا، بينما أنبتت الجنة بالوابل الذي أصابها ضعفي ما تنبت عادة، ﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ [البقرة: 265]؛ يقول ابن كثير: "قال الضحاك: هو الرذاذ، وهو اللين من المطر؛ أي: هذه الجنة بهذه الربوة لا تُمحل أبدًا؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطلٌّ، وأيًّا ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا، بل يتقبله الله ويُكثره ويُنمِّيه، كل عامل بحسبه؛ ولهذا قال: ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265]"؛ [انتهى]. ثم يسوق لنا الله عز وجل مثالًا مُصوَّرًا يجسِّد حال الذي يعمل عملًا لوجه الله تعالى؛ من صدقة أو غيرها، ثم يعمل أعمالًا تُفسده؛ يقول تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 266]. "أخرج البخاري عن عبيد بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فِيمَ ترَون هذه الآية نزلت: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ [البقرة: 266]؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فغضِب عمر، وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال: يا بن أخي، قُلْ ولا تَحْقِر نفسك، قال ابن عباس: ضُرِبت مثلًا لعملٍ، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعملِ رجل غنيٍّ يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله عز وجل له الشيطان، فعمِل في المعاصي حتى أحرق عمله، وفي رواية: فإذا فنِيَ عمره، واقترب أجله، خُتِم ذلك بعمل من أعمال الشقاء، فرضِيَ ذلك عمرُ، وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية، وقال: هذا مَثَلٌ ضُرب للإنسان يعمل عملًا صالحًا، حتى إذا كان عند آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه، عمِلَ عَمَلَ السوء"؛ [ابن كثير]. ثانيًا: آداب الصدقة: ومن آداب الصدقة: 1- الإنفاق من طيب الكسب وطيب المال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267]. "قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنْفَسِه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيه وهو خبيثه؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا ﴾ [البقرة: 267]؛ أي: تقصدوا ﴿ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ﴾ [البقرة: 267]؛ أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضَوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون، وقيل: معناه: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 267]؛ أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه"؛ [ابن كثير]. ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 268، 269]. ثم إن الامساك عن الإنفاق، والبخل به، وقبض اليد، لا يتأتى إلا من وسوسة الشيطان وتخويفه لابن آدم أن يفتقر لو أنه أعطى من ماله، فما إن ينوِ ابن آدم دَفْعَ الصدقة حتى تبدأ الوساوس، وتطفوَ على السطح كل المصارف التي يجد أنها تلزمه أن يضع فيها هذا المال، فينتهي وقد أقلع عن فكرة الإنفاق، سواء أكان صدقة أم زكاة! ولئن لم يقلع عن الفكرة نهائيًّا، يلجأ إلى إخراج أردأ ما لديه؛ من ملابس، أو ثمار، أو أنعام، أو أي شيء تجب فيه الزكاة، أو يريد أن يتصدق به، وكل هذا من تخويف الشيطان. يقول القرطبي في تفسيره: "﴿ يَعِدُكُمُ ﴾ [البقرة: 268] معناه: يخوفكم ﴿ الْفَقْرَ ﴾ [البقرة: 268]؛ أي: بالفقر لئلا تنفقوا، فهذه الآية متصلة بما قبل، وأن الشيطان له مدخل في التثبيط للإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالفحشاء؛ وهي المعاصي والإنفاق فيها". ﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ ﴾ [البقرة: 268] لذنوبكم، وتطهيرًا لعيوبكم، ﴿ وَفَضْلًا ﴾ [البقرة: 268]، وإحسانًا إليكم في الدنيا والآخرة، من الخلف العاجل، وانشراح الصدر، ونعيم القلب والروح والقبر، وحصول ثوابها وتَوفِيَتِها يوم القيامة، ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ [البقرة: 268] بعطائه وعِوَضِه، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268] بكم، وبما تُسرون وما تُعلنون من أمر الإنفاق"؛ [انتهى]. وقال الشوكاني في فتح القدير: "قوله: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ [البقرة: 268]، معناه: يخوِّفكم الفقر؛ أي: بالفقر؛ لئلا تنفقوا، فهذه الآية متصلة بما قبلها، والفحشاء: الخصلة الفحشاء؛ وهي المعاصي، والإنفاق فيها، والبخل عن الإنفاق في الطاعات؛ قال في الكشاف: والفاحش عند العرب: البخيل. وقوله: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ ﴾ [البقرة: 269] هي العلم، وقيل: الفهم، وقيل: الإصابة في القول، ولا مانع من الحمل على الجميع شمولًا أو بدلًا، وقيل: إنها النبوة، وقيل: العقل، وقيل: الخشية، وقيل: الورع، وأصل الحكمة: ما يمنع من السَّفَهِ، وهو كل قبيح،والمعنى: أن من أعطاه الله الحكمة فقد أعطاه خيرًا كثيرًا؛ أي: عظيمًا قدره، جليلًا خطره"؛ [انتهى الشوكاني]. 2- من آداب الصدقة أيضًا مراقبة الله: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270]. ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ﴾ [البقرة: 270]، ما: شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، والعائد محذوف، أي: الذي أنفقتموه، وهذا بيان لحكم عامٍّ يشمل كل صدقة مقبولة وغير مقبولة، وكل نذر مقبول أو غير مقبول، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ [البقرة: 270]؛ أي: يعلم ما كان خالصًا لله، وما لم يكن. ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270]؛ أي: ما للظالمين أنفسهم - بما وقعوا فيه من الإثم لمخالفة ما أمر الله به من الإنفاق في وجوه الخير - من أنصار ينصرونهم، ويمنعونهم من عقاب الله، بما ظلموا به أنفسهم، والأولَى الحمل على العموم من غير تخصيص لِما يفيده السياق؛ أي: ما للظالمين بأي مظلمة كانت من أنصار"؛ [الشوكاني، فتح القدير]. 3- إخفاء الصدقة و/ أو إعلانها: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271]. يرى ابن كثير أن في هذه الآية دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، والأصل أن الإسرار أفضل؛ لهذه الآية، ويستشهد بما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دَعَتْهُ امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))؛ [انتهى]. بينما يفصل الشوكاني في فتح القدير: إن تُظهِروا الصدقات فنعم شيئًا إظهارُها، وإن تخفوها وتصيبوا بها مصارفها من الفقراء، فالإخفاء خير لكم. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، لا في صدقة الفرض، فلا فضيلة للإخفاء فيها، بل قد قيل: إن الإظهار فيها أفضل، وقالت طائفة: إن الإخفاء أفضل في الفرض والتطوع؛[انتهى، والله أعلم]. ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272]: يحمل بعض المفسرين هذه الآية على أنها نزلت في مشروعية الصدقة على الكفار وغير المسلمين، ويسوقون لها سبب نزول، فإن كان الأمر كذلك، فهي منسوخة بآية الصدقات: جاء في تفسير القرطبي: "روى سعيد بن جبير مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذِّمَّة، فلما كثُر فقراء المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم))، فنزلت هذه الآية مُبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام، وذكر النقَّاش أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطِني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس لك من صدقة المسلمين شيء))، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ [البقرة: 272]، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات"؛ [انتهى]. وتبدو الآية، ومن خلال السياق أنها مرتبطة بما قبلها من أمرٍ بالصدقات بشروطها وآدابها، فمن لم يهتدِ، ويعمل بما أُنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أحكام الصدقة، فإن الأمر لله يهدي من يشاء، ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272]، والله أعلم. ثم تُبيِّن الآية في خطابها للمؤمنين أن الإنفاق إنما ينتفع به صاحبه لِما يجده من ثمراته في الدنيا والآخرة، وأن هذا الإنفاق المنتفَع به هو ذاك المقيَّد بما يُبتغى به وجه الله فقط؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أُجِرْتَ بها، حتى ما تجعل في في امرأتك))؛ [صحيح البخاري، صحيح الأدب المفرد]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272]، ﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 272] تأكيد وبيان لقوله: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ﴾ [البقرة: 272]، وأن ثواب الإنفاق يُوفَّى إلى المنفقين، ولا يُبخسون منه شيئًا، فيكون ذلك البخس ظلمًا لهم. 4- تحرِّي المتعفِّفين عن السؤال في الصدقة: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]. قال السدي ومجاهد وغيرهما: المراد بهؤلاء الفقراء فقراءُ المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقراء غابرَ الدهر، وإنما خصَّ فقراء المهاجرين بالذكر؛ لأنه لم يكن هناك سواهم، وهم أهل الصُّفَّة، وكانوا نحوًا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لهم أهل ولا مال، فبُنِيت لهم صُفَّة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم: أهل الصُّفَّة، قال أبو ذر: كنتُ من أهل الصُّفَّة، وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر كل رجل فينصرف برجلٍ، ويبقى من بقِيَ من أهل الصُّفَّة عشرة أو أقل، فيُؤتى النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه ونتعشى معه"؛ [تفسير القرطبي]. ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ [البقرة: 273]؛ أي: الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعفُّفهم في لباسهم وحالهم ومقالهم؛ وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غِنًى يُغنيه، ولا يُفطَن له فيُتصدَّق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا))، وقد رواه أحمد، من حديث ابن مسعود أيضًا. ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ [البقرة: 273]؛ أي: لا يُلِحُّون في المسألة، ويُكلِّفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال، فقد ألحف في المسألة. ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]؛ [تفسير ابن كثير]. 5- جزاء المنفق في سبيل الله على كل الوجوه: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274]، سواء كان المنفق نفقة سرٍّ أو نفقة علانية، لا رياء فيها ولا سمعة، وسواء كانت في الليل أم في النهار، فجزاؤه ثلاثة: • أجره مُدَّخَر عند ربه الرحمن الرحيم، الواسع العليم. • وصدقته أمان من الخوف. • وأمان من الحزن. اللهم اجعلنا منهم، اللهم آمين. والحمد لله رب العالمين. يتبع بإذن الله.
__________________
|
#22
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
وقفات ودروس من سورة البقرة (16) والأخيرة ميسون عبدالرحمن النحلاوي وفيها: • تشريعات مالية أساسية في المجتمع الإسلامي: أحكام الربا، أحكام المداينة. • وختام السورة. بسم الله الرحمن الرحيم الربا الكبيرة التي استوجبت حرب الله ورسوله: لطالما كان الحديثُ في الكبائر مستفيضًا في الخطب، وعلى المنابر، وفي الدروس والمواعظ، ونصُّ حديث الصحيحين: ((اجتنبوا السبع الْمُوبِقات، قالوا: وما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)). ولطالما تربَّى في النفوس أن الشرك والسحر، وقتل النفس وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات من الكبائر، ولطالما تحرَّى المؤمنون اجتنابها وأفلحوا في ذلك، وبقِيَت كبيرة، يتم تناولها في الوعظ والإرشاد على استحياء وفي عُجالة؛ وهي كبيرة الربا، مع أنها الكبيرة الوحيدة التي استوجبت حربَ الله ورسوله للمتعامل بها، سواء كان آكلَها أو موكلها، أو شاهدها أو كاتبها. كبيرة الربا هي تلك التي قبَّحها صلى الله عليه وسلم بأشدَّ ما يكون عليه التمثيل قباحة؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، وأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمَّه، وإن أربى الربا عِرْضُ الرجل المسلم))؛ [أخرجه ابن ماجه، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع]. وأخرج الترمذي في صحيحه عن عبدالله بن مسعود، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الربا وموكله، وشاهدَيه وكاتبه))، وهؤلاء هم الذين لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ قال ابن عباس: "آكل الربا يُبعَث يوم القيامة مجنونًا يخنق"، ومع ذلك تربَّى في النفوس استصغار كبيرة الربا، فكانت أكبر مداخل أعداء الإسلام للهيمنة على الأمة، وخنقها بكل ما لهذه الكلمة من معنًى، وكان حجر الأساس المصارف الربوية اليهودية التي دخلت على الأمة بأسماء بريطانية وفرنسية وأمريكية، في منتصف القرن التاسع عشر، واليوم أصبحت نسبة المبرِّرين لضرورة التعامل مع المصارف الربوية، والسابحين في مستنقعه من أبناء الأمة نسبةً مُخجلة لعِظَمِها، متذرِّعين بالعجز عن مجانبته، وما يعيشه المسلمون اليوم من ضنك، على مستوى الأفراد والشعوب والنُّظُم التي رَتَعتْ في الربا عن رضًا، وأكلته بشراهة من أجل متاع الحياة الدنيا - أبلغُ دليل على محق الله للربا وحربه على آكليها وموكليها، وشاهدِيها وكاتبِيها. حربُهُ جل وعلا على المجتمعات التي لبِست لَبُوس الربا واختالت به، فهل من مُدَّكِرٍ؟ نعود إلى سياق الآيات: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 275 - 281]. يقول الشوكاني: "الربا في اللغة: الزيادة مطلقًا، يُقال: رَبَا الشيء يربو: إذا زاد، وفي الشرع يُطلَق على شيئين: على ربا الفضل، وربا النَّسِيئة، حسبما هو مفصَّل في كتب الفروع، وغالبُ ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلَّ أجَلُ الدَّين، قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تُربي؟ فإذا لم يقضِ، زاد مقدارًا في المال الذي عليه، وأخَّر له الأجل إلى حين"؛ [انتهى]. • والربا أنواع، وأشهرها ربا الفضل وربا النسيئة: فأما ربا النسيئة؛ فقد قال عنه قتادة: إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مُسمًّى، فإذا حلَّ الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه. • وأما ربا الفضل، فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة؛ عن أبي سعيد الخدري قال: ((جاء بلالٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْنِيٍّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال: كان عندنا تمر رديءٌ، فبِعْتُ منه صاعَين بصاعٍ، فقال: أوَّهْ عينُ الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتريَ، فَبِعِ التمر ببيع آخر، ثم اشترِ به))؛ [صحيح البخاري]، وفي الحديث نهيٌ عن ربا الفضل. نستعرض في آيات الربا عددًا من المسائل، والله المستعان: 1- حال آكِلِ الربا: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]، لما ذكر تعالى الأبرارَ المؤدِّين النفقاتِ، المخرجين الزكواتِ، المتفضِّلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات، في جميع الأحوال والآنات، شرع في ذِكْرِ أكَلَةِ الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشُّبُهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة، إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبُّط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قيامًا مُنكرًا، وقال ابن عباس: آكل الربا يُبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق"؛ [ابن كثير]. 2- حكم الربا: حرمة قطعية ظاهرة غير قابلة للتأويل: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]. 3- حكم من أقلع عن الربا: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: من بلغه نهيُ الله عن الربا، فانتهى حالَ وصول الشرع إليه، فله ما سلف من المعاملة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((وكل ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول رِبًا أضعُ ربا العباس))، ولم يأمرهم بردِّ الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عما سلف؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 275]. 4- حكم من لم يَنْتَهِ: ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 275]، ﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾؛ أي: إلى الربا، ففعله بعد بلوغ نهيِ الله له عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحُجَّة، ولهذا قال: ﴿ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 275]. 5- تكفل الله بمحق الربا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 276]، فليس لمجتهدٍ أن يقول: آخُذُ الربا وأُنفقه حتى لا يستفيد منه الكفَّار، فالله قد تكفَّل بمحق الربا على كل وجوهه ومن كل مصادره، فالربا محرَّم في جميع الشرائع السماوية. 6- المفاضلة بين الربا والصدقات: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، يمحق الربا؛ أي: يُذهِبه، إما بأن يُذهِبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرِمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة، وهذا نظير الخبر الذي رُوِيَ عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((الربا وإن كثُر فإلى قُلٍّ))، وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده، فقال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شريك عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الربا وإنْ كَثُرَ، فإن عاقبته تصير إلى قُلٍّ))، وقد رواه ابن ماجه، عن العباس بن جعفر، عن عمرو بن عون، عن يحيى بن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أحدٌ أكْثَرَ من الربا، إلا كان عاقبة أمره إلى قِلَّةٍ)). وقوله: ﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، قُرِئ بضم الياء والتخفيف، من رَبَا الشيء يربو، وأرْباهُ يُربيه؛ أي: كثَّره ونمَّاه يُنمِّيه، وقُرِئ: ويربي بالضم والتشديد، من التربية؛ كما قال البخاري: حدثنا عبدالله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - وإن الله لَيقبلها بيمينه، ثم يُربِّيها لصاحبه، كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه، حتى يكون مثل الجبل)). 7- وصف المرابي بالكفَّار الأثيم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276]، يقول ابن كثير: "الله عز وجل لا يحب كَفُورَ القلب، أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شُرِع له من التكسُّب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لِما عليه من النعمة، ظَلومٌ آثمٌ بأكل أموال الناس بالباطل"؛ [انتهى]. 8- المؤمنون هم من يمتثلون لأوامر الله، وأجرهم أمان من الحزن والخوف: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 277]. فلما ذكر أكَلةَ الربا، وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانًا ينفعهم، لم يصدر منهم ما صدر، ذكر حالة المؤمنين وأجرَهم، وخاطبهم في الآية التالية بصفة إيمانهم هذه، فنهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]؛ [السعدي]. 9- الأمر بترك الربا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]؛ قال مقاتل بن حيان، والسدي في سبب نزول الآية: إن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربًا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام، فكتب في ذلك عتَّاب بن أُسَيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278، 279]، فقالوا: نتوب إلى الله، ونَذَرُ ما بقِيَ من الربا، فتركوه كلهم. 10- الربا وحرب الله ورسوله: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279]. وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار؛ قال ابن عباس ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ﴾؛ أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله. وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يُقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، وقال عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يَسْتَتَيبه، فإن نزع، وإلا ضرب عنقه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبدالأعلى، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن وابن سيرين، أنهما قالا: والله إن هؤلاء الصيارفة لَأَكَلَةُ الربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمامٌ عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلا وَضَعَ فيهم السلاح، وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون، وجعلهم بَهْرَجًا أينما أتَوا، فإياكم وما خالط هذه البيوع من الربا؛ فإن الله قد أوسَعَ الحلال وأطابه، فلا تُلْجِئنَّكم إلى معصيته فاقةٌ؛ [رواه ابن أبي حاتم]، وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل؛ [رواه ابن جرير]. وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 279]؛ أي: بأخذ الزيادة، ﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279]؛ أي: بوضع رؤوس الأموال أيضًا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه، ولا نقص منه؛ [تفسير ابن كثير]. 11- إنظار الْمُعْسِر في دفع رأس المال: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280]؛ يقول القرطبي: "لما حَكَمَ جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال، حَكَمَ في ذي العسرة بالنَّظِرة إلى حال الميسرة؛ وذلك أن ثقيفًا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة، شكَوا العسرة - يعني بني المغيرة - وقالوا: ليس لنا شيءٌ، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم، فنزلت هذه الآية: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]، والصدقة في السدِّ عن المعسر ثوابها عظيم؛ ورد في السنة النبوية عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتى الله بعبدٍ من عبيده يوم القيامة، قال: ماذا عمِلت لي في الدنيا؟ فقال: ما عمِلتُ لك يا ربِّ مثقالَ ذرة في الدنيا أرجوك بها؛ قالها ثلاث مرات، قال العبد عند آخرها: يا رب، إنك أعطيتني فضلَ مالٍ، وكنتُ رجلًا أبايع الناس، وكان من خُلُقي الجَوَازُ، فكنت أيسِّر على الْمُوسر، وأنْظُر الْمُعْسِر، قال: فيقول الله عز وجل: أنا أحق من ييسر، ادخل الجنة))؛ [أخرجه البخاري ومسلم]. 12- وتختم آيات الربا بتذكرة الله عز وجل لعباده بزوال الدنيا، وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، فالمال يفنى، ويبقى إثمه أو ثوابه، يُحاسَب عليه العبد يوم الرجوع إلى الله: ﴿ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود: 103]، فيجازي الله عباده بما كسبوا من خيرٍ وشرٍّ؛ وهذا قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، وقد روى النسائي عن عكرمة، عن عبدالله بن عباس، قال: "آخر شيء نزل من القرآن: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]". قال الثوري عن ابن عباس قال: "آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا"؛ [رواه البخاري]، وروى أحمد عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قال: قال: "من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِضَ قبل أن يفسِّرها لنا، فدَعُوا الرِّبا والرِّيبة". آية المداينة: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282]. عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: ((لما نزلت آية الدَّين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول من جَحَدَ آدمُ عليه السلام، أو أول من جحد آدمُ، إن الله عز وجل لما خلق آدم، مسح ظهره، فأخرج منه ما هو من ذراريَّ إلى يوم القيامة، فجَعَلَ يعرِض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلًا يزهر، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون عامًا، قال: رب زِدْ في عمره، قال: لا إلا أن أزيده من عمرك، وكان عُمْرُ آدمَ ألفَ عامٍ، فزاده أربعين عامًا، فكتب الله عز وجل عليه بذلك كتابًا، وأشهد عليه الملائكة، فلما احتُضر آدم، وأتَتْهُ الملائكة لتقبضه، قال: إنه قد بقِيَ من عمري أربعون عامًا، فقيل: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما فعلتُ، وأبرز الله عز وجل عليه الكتابَ وشهدت عليه الملائكة))؛ [المصدر: مسند أحمد، وصححه أحمد شاكر]. وآية الدَّين هي أطول آيات القرآن، وقد اشتملت على أحكام دقيقة معجِزة في إيجازها، تغطي مسألة الدين الواسعة، نبسطها مع بعض الوقفات: 1- فرض كتابة المداينات: قال ابن كثير: "﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ﴾ [البقرة: 282]، هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين، إذا تعاملوا بمعاملات مؤجَّلة أن يكتبوها؛ ليكون ذلك أحفظَ لمقدارها وميقاتها، وأضبطَ للشاهد فيها، وقد نبَّه على هذا في آخر الآية؛ حيث قال: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾ [البقرة: 282]، وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282]، قال: أُنزِلت في السَّلَمِ إلى أجل معلوم"؛ [انتهى]. يتبع
__________________
|
#23
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
وقال القرطبي: "لا بد للسَّلَمِ من أجل، وأنه لا بد أن يكون معينًا معلومًا، فلا يصح حالًّا، ولا إلى أجل مجهول، قال ابن المنذر: دلَّ قول الله: ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [البقرة: 282] على أن السَّلَمَ إلى الأجل المجهول غير جائز، ودلَّت سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى؛ ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أسلف في تمر، فلْيُسْلِفْ في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم))؛ [رواه ابن عباس، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما]"؛ [انتهى]، ﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282]؛ يعني: الدَّين والأجل، الأمر بكتابة جميع عقود المداينات؛ تجنُّبًا للمغالطات والمشاجرات، والنزاع والنكران التي تنتهي بظالم ومظلوم. 2- العدل في كتابة المداينة: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ [البقرة: 282]، أمَرَ الكاتب أن يكتب، قال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقاله الشعبي، وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه، فواجب عليه أن يكتب بالعدل؛ أي: بالحق والمعدلة؛ أي: لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل، وإنما قال: ﴿ بَيْنَكُمْ ﴾ ولم يقل: أحدكم؛ لأنه لما كان الذي له الدَّين يَتَّهِم في الكتابة الذي عليه الدَّين، وكذلك بالعكس، شرع الله سبحانه كاتبًا غيرهما يكتب بالعدل، لا يكون في قلبه ولا قلمه موادَّة لأحدهما على الآخر، وقيل: إن الناس لما كانوا يتعاملون، حتى لا يشذ أحدهم عن المعاملة، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب، أمر الله سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل، الباء في قوله تعالى: ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾ متعلقة بقوله: ﴿ وَلْيَكْتُبْ ﴾ وليست متعلقة بـ﴿ كَاتِبٌ ﴾؛ لأنه كان يلزم ألَّا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها، أما المنتصبون لكتبها، فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولًا مرضيين؛ قال مالك رحمه الله تعالى: لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها، عدل في نفسه مأمون؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ [البقرة: 282]؛ [القرطبي]. وقال السعدي: "إنه يجب عليه العدلُ بينهما، فلا يميل لأحدهما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك، وأن يكون الكاتب عارفًا بكتابة الوثائق، وما يلزم فيها كل واحد منهما، وما يحصل به التوثق؛ لأنه لا سبيل إلى العدل إلا بذلك، قال العلماء: إنه إذا وُجِدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة، يُعمَل بها، ولو كان هو والشهود قد ماتوا". 3- على الكاتب أن يكتب إذا دُعِيَ لكتابة المداينة: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282]، فلا يمتنع مَنْ مَنَّ الله عليه بتعليمه الكتابة، أن يكتب بين المتداينين، فكما أحسن الله إليه بتعليمه، فليُحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى كتابته، ولا يمتنع من الكتابة لهم، أمَرَ الكاتب ألَّا يكتب إلا ما أملاه مَن عليه الحق. 4- على الكاتب أن يكون أمينًا تقيًّا في كتابته: ﴿ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [البقرة: 282]، فأمَرَ الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء؛ لأن الشهادة إنما تكون بسبب إقراره، وأمره تعالى بالتقوى فيما يُمِلُّ، ونهى عن أن يبخس شيئًا من الحق، والبخس النقص؛ ومن هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ [البقرة: 228]، أمَرَهُ أن يُبيِّن جميع الحق الذي عليه ولا يبخس منه شيئًا، ويكون مرجعه في ذلك تقوى الله ومخافته. وإقرار الإنسان على نفسه مقبول؛ لأن اللهَ أمَرَ مَن عليه الحق أن يُمِلَّ على الكاتب، فإذا كتب إقراره بذلك، ثبت موجبه ومضمونه، وهو ما أقر به على نفسه، ولو ادَّعى بعد ذلك غلطًا أو سهوًا؛ قاله السعدي. 5- إنابة الولي في الإملاء والإقرار: ﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾ [البقرة: 282] فمن لا يقدر على إملاء الحق؛ لصِغَرِهِ، أو سفَهِهِ، أو خَرَسِهِ، أو نحو ذلك، فإنه ينوب وليُّه منابَه في الإملاء والإقرار؛ ويقول السعدي: "أنه يلزم الولي من العدل ما يلزم مَن عليه الحق من العدل، وعدم البخس؛ لقوله: ﴿ بِالْعَدْلِ ﴾، وأنه يشترط عدالة الولي؛ لأن الإملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق، العشرون: ثبوت الولاية في الأموال، وأن إقرار الصغير والسفيه، والمجنون والمعتوه، ونحوهم وتصرفهم غير صحيح؛ لأن الله جَعَلَ الإملاء لوليِّهم، ولم يجعل لهم منه شيئًا لطفًا بهم ورحمة؛ خوفًا من تلاف أموالهم، وتصرف السفيه المحجور عليه دون إذن وليِّه فاسدٌ إجماعًا، مفسوخ أبدًا، لا يُوجِب حكمًا ولا يؤثر شيئًا، ويشترط عدالة الولي؛ لأن الإملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق"؛ [انتهى، السعدي]. 6- الشهادة على المكاتبة: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ [البقرة: 282]؛ قال القرطبي: "﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ [البقرة: 282] الاستشهاد: طلب الشهادة، واختلف الناس هل هي فرض أو ندب؟ والصحيح أنه ندب"؛ [انتهى]. 7- ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282]؛ يقول السعدي: "فنِصاب الشهادة في الأموال ونحوها رجلان، أو رجل وامرأتان، ودلَّت السُّنَّةُ أيضًا أنه يُقبَل الشاهد مع يمين المدَّعِي، ويستدل أيضًا أن شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل، وأن شهادة النساء منفردات في الأموال ونحوها لا تُقبَل؛ لأن الله لم يقبلهن إلا مع الرجل، والله أعلم، أن شهادة العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر؛ لعموم قوله: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ [البقرة: 282]، والعبد البالغ من رجالنا، وأن شهادة الكفار - ذكورًا كانوا أو نساء - غير مقبولة؛ لأنهم ليسوا منا، ولأن مبنى الشهادة على العدالة، وهو غير عدل"؛ [انتهى]. 8- ﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282]؛ يقول القرطبي: "﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282]، وقال تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [الطلاق: 2] فـ﴿ مِنْكُمْ ﴾ خطاب للمسلمين، وهذا يقتضي قطعًا أن يكون معنى العدالة زائدًا على الإسلام ضرورة؛ لأن الصفة زائدة على الموصوف، وكذلك ممن ترضون مثله، ثم لا يُعلَم كونه مرضيًّا حتى يُختبَر حاله، فيلزمه ألَّا يكتفي بظاهر الإسلام" [انتهى]. 9- ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ [البقرة: 282] يجب على الشاهد إذا دُعِيَ للشهادة، وهو غير معذور أن يستجيب، لا يجوز له أن يأبى؛ لقوله: ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ [البقرة: 282]، ومن لم يتصف بصفة الشهداء المقبولة شهادتهم، لم يجب عليه الإجابة لعدم الفائدة بها، ولأنه ليس من الشهداء؛ هذا قول السعدي في تفسيره، أما القرطبي فيقول: "قال ابن عطية: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق، فالمدعوُّ مندوب، وله أن يتخلَّف لأدنى عذر، وإن تخلَّف لغير عذر، فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا كانت الضرورة وخِيف تعطُّل الحق أدنى خوفٍ، قوِيَ الندب، وقرُب من الوجوب، وإذا عُلِمَ أن الحق يذهب ويتلف بتأخُّر الشاهد عن الشهادة، فواجبٌ عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة، وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد؛ لأنها قلادة في العنق، وأمانة تقتضي الأداء"؛ [انتهى]. 10- وفي قوله: ﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ﴾ [البقرة: 282]، النهي عن السآمة والضَّجَر من كتابة الديون كلها، من صغير وكبير، وصفة الأجل، وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود. 11- والحكمة في مشروعية الكتابة والإشهاد في العقود، يُبيِّنها سبحانه وتعالى في قوله: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾ [البقرة: 282]؛ يقول ابن كثير: "هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجَّلًا هو ﴿ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 282]؛ أي: أعدل، ﴿ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ﴾ [البقرة: 282]؛ أي: أثبت للشاهد إذا وضع خطَّه، ثم رآه، تذكر به الشهادة؛ لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا، ﴿ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾ [البقرة: 282]: وأقرب إلى عدم الرِّيبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه، فيفصل بينكم بلا ريبة"؛ [انتهى]، وقال السعدي: "يُؤخَذ من ذلك أن من اشتبه وشكَّ في شهادته، لم يَجُزْ له الإقدام عليها، بل لا بد من اليقين"؛ [انتهى]. 12- ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ﴾ [البقرة: 282]؛ أي: إذا كان البيع بالحاضر يدًا بيد، فلا بأس بعدم الكتابة؛ لانتفاء المحذور في تركها. 13- ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ [البقرة: 282]؛ عن سعيد بن جبير في قول الله: ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ [البقرة: 282]؛ يعني: أشهدوا على حقِّكم، إذا كان فيه أجل أو لم يكن، فأشهدوا على حقِّكم على كل حال، قال: ورُوِيَ عن جابر بن زيد، ومجاهد، وعطاء، والضحاك نحوُ ذلك، وقال الشعبي والحسن: هذا الأمر منسوخ بقوله: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ [البقرة: 283]، وهذا الأمر محمولٌ عند الجمهور على الإرشاد والندب، لا على الوجوب"؛ [ابن كثير]، والله أعلم. 14- ﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ﴾ [البقرة: 282]، قيل: معناه: لا يُضارَّ الكاتب ولا الشاهد، فيكتب هذا خلافَ ما يُملى، ويشهد هذا بخلاف ما سمع، أو يكتمها بالكلية، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما، وقيل: معناه: لا يُضَر بهما، كما قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في هذه الآية: ﴿ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ﴾ [البقرة: 282] يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة، فيقولان: إنا على حاجة، فيقول: إنكما قد أُمِرْتُما أن تُجيبا، فليس له أن يضارهما، ﴿ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ [البقرة: 282]؛ أي: إن خالفتم ما أُمِرْتُم به، وفعلتم ما نُهِيتم عنه، فإنه فسقٌ كائن بكم؛ أي: لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه؛ [ابن كثير]، وفيه أن الأوصاف كالفسق والإيمان والنفاق، والعداوة والولاية، ونحو ذلك، تتجزأ في الإنسان، فتكون فيه مادة فسق وغيرها، وكذلك مادة إيمان وكفر؛ لقوله: ﴿ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ [البقرة: 282]، ولم يقل: فأنتم فاسقون أو فُسَّاق؛ قاله السعدي في تفسيره. 15- ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 282]، فاعملوا بما أمركم به، ولا تخالفوا شرعه وقوانينه. 16- ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282]، فالله عز وجل أنزل لنا القرآن ليزكِّينا، ويُعلِّمنا ما ينفعنا من أمور ديننا ودنيانا، وهو العليم بكل شيء، كل ما ينفع مَن خَلَقَ وكل ما يضرهم. أحكام الرهان: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 283]. • فإن كنتم مسافرين، وتداينتم إلى أجل مسمًّى، ولم تجدوا كاتبًا يكتب لكم؛ قال ابن عباس: أو وجدوه، ولم يجد قرطاسًا أو دواةً أو قلمًا، ﴿ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ [البقرة: 283]؛ أي: فليكن بدل الكتابة رهانٌ مقبوضة في يد صاحب الحق. • وقد استدل بقوله: ﴿ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ [البقرة: 283] على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، كما هو مذهب الشافعي والجمهور. • وقد ثبت في الصحيحين، عن أنس ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفِّيَ ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعير؛ رهنها قوتًا لأهله، وفي رواية: من يهود المدينة، وفي رواية الشافعي: عند أبي الشحم اليهودي))، قال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضًا، فلا بأس ألَّا تكتبوا أو لا تُشهِدوا. • ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ [البقرة: 283]؛ يعنى: المؤتَمَن. • ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ﴾ [البقرة: 283]؛ أي: لا تُخفوها وتغلوها ولا تُظهروها. • ﴿ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283]؛ قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمانها كذلك. • ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 283]؛ [ابن كثير]. خاتمة السورة: وفيها تقعيد لأركان الإيمان، مشفوعة بعهد المؤمنين لله ورسوله بالسمع والطاعة، وسؤال المغفرة على كل تقصير، يُردفها الرحمن الرحيم بآية التخفيف عن عباده رحمةً بهم، ودعاء المؤمنين ربهم بالنصرة على معسكر الكفر: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 284 - 286]. ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]. أورد ابن كثير في تفسيره لهذه الآية حديث قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبدالله بن عمر، وهو يطوف، إذ عرض له رجلٌ، فقال: يا بنَ عمر، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يدنو المؤمن من ربه عز وجل، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: ربِّ أعرف – مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: فيُعطى صحيفة حسناته - أو كتابه - بيمينه، وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]))؛ [هذا الحديث مخرَّج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة]. وروى مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لما نزلت: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 284] إلى آخر الآية، قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم برَكوا على الرُّكَب، فقالوا: أي رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطيق؛ الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نُطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابَينِ من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا، وإليك المصير، قالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا، وإليك المصير، فلما اقترأها القومُ ذلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك، نسخها الله تعالى؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286] قال: نعم)). وختام سورة البقرة لها فضلٌ عظيم: • روى مسلم في صحيحه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((بينما جبريلٌ قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمِع نقيضًا من فوقه فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فُتِحَ اليوم، لم يُفتح قط إلا اليوم، فنزل منه مَلَكٌ، فقال: هذا مَلَكٌ نزل إلى الأرض، لم ينزل قطُّ إلا اليوم، فسلَّم، وقال: أبْشِرْ بنورَينِ أُوتيتَهما لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك؛ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيتَه)). • وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة، كَفَتَاه))؛ [متفق عليه]. تمَّت حلقات وقفات ودروس من سورة البقرة، ولله الحمد والمنة. نسأل الله القبول، والعفو والمغفرة على كل خطأ أو زَلَلٍ. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم. وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |