وقفات ودروس من سورة البقرة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 308 - عددالزوار : 56245 )           »          علامات حسن الخاتمة التي تظهر للناس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 195 )           »          إصلاح الحياة الزوجية من سورة النساء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 224 )           »          أهمية إدراج المسائل الفقهية في كتب العقيدة: أسباب ودلالات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 374 )           »          تأملات حول قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 185 )           »          الشيخ والمريد من الذي يصنع الآخر؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 148 )           »          اللطيف الخبير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 269 )           »          من فقه الدعاء في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 160 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 21 - عددالزوار : 6754 )           »          أسباب سقوط الدولة الأموية.. في الأندلس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 533 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #21  
قديم 14-08-2024, 05:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,975
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة



الثانية: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263].


﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾ [البقرة: 263]؛ أي: تعرفه القلوب ولا تنكره، ويدخل في ذلك كلُّ قولٍ كريم، فيه إدخال السرور على قلب المسلم، ويدخل فيه ردُّ السائل بالقول الجميل والدعاء له، ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ [البقرة: 263] لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذًى؛ لأن القول المعروف إحسانٌ قولي، والمغفرة إحسان أيضًا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذًى بمنٍّ أو غيره، وإنما كان المنُّ بالصدقة مُفسدًا لها محرمًا؛ لأن المنة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمُنُّ بنعمة الله وإحسانه وفضله، وهو ليس منه، وأيضًا فإن المانَّ مُستعبد لمن يمن عليه، والذل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غنيٌّ بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلُّها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم، ﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ [البقرة: 263] عنها، ومع هذا فهو ﴿ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263] على من عصاه، لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه"؛ [تفسير السعدي].


وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المنِّ في الصدقة؛ ففي صحيح مسلم، من حديث شعبة، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنَّان بما أعطى، والْمُسْبِل إزاره، والْمُنْفِق سلعته بالحلف الكاذب)).

الثالثة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].

وهذه الآية فيها ستُّ مسائل:
هل تُبطِل السيئاتُ الحسناتِ؟
يخبرنا الله تعالى أن الصدقة تبطُل بما يتبعها من المن والأذى، فما يَفِي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى.


يقول السعدي في تفسيره: "ينهى عباده تعالى لطفًا بهم، ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى؛ ففيه أن المن والأذى يُبطل الصدقة، ويُستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تُبطل الأعمال الحسنة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2]، فكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فالسيئات تُبطل ما قابلها من الحسنات.

تشبيه المنَّان بالمرائي في صدقته، وكلاهما صدقته باطلة:
﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ [البقرة: 264]؛ أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهَرَ لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدحُ الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة؛ ليُشكَر بين الناس، أو يُقال: إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى، وابتغاء مرضاته، وجزيل ثوابه".

تشبيه المنَّان والمرائي بالكافر:
﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 264].

مثَّل الله تعالى الذي يمُنُّ ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس، لا لوجه الله تعالى، وبالكافر الذي يُنفق ليُقال: جواد، وليُثنَى عليه بأنواع الثناء.

تشبيه المنان بالصخر الأصم الذي لا ينفعه ماء، ولا يُنْبِت كلأً: ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾ [البقرة: 264].

"ثم مثَّل هذا المنفق أيضًا بصفوان عليه تراب، فيظنه الظانُّ أرضًا مُنبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر، أذهب عنه التراب وبقِيَ صلدًا، فكذلك هذا المرائي، فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية في الآخرة، فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل عن الصفوان، وهو الحجر الكبير الأملس"؛ [القرطبي].

عجز المنان والمرائي عن الانتفاع بصدقاتهم: ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ [البقرة: 264].


ومعنى ﴿ لَا يَقْدِرُونَ ﴾ يعني المرائي والكافر والمانَّ ﴿ عَلَى شَيْءٍ ﴾؛ أي: على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم، وهو كسبهم عند حاجتهم إليه، إذا كان لغير الله، فعبَّر عن النفقة بالكسب؛ لأنهم قصدوا بها الكسب - كسب الشهرة، كسب المنفعة، تحصيل مصلحة - وقيل: ضرب هذا مثلًا للمرائي في إبطال ثوابه، ولصاحب المنِّ والأذى في إبطال فضله؛ [ذكره الماوردي، كما جاء في تفسير القرطبي].

هم محرومون من الهداية كحرمان الكافرين منها: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264].

وفي مقابل المنان يعرِض لنا الله سبحانه وتعالى مَثَلَ المنفِق ابتغاءَ رضوان الله؛ فيقول: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265].

"لما ذكر الله تعالى صفةَ صدقاتِ القوم الذين لا خَلَاقَ لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقَّب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم؛ إذ كانت على وفق الشرع ووجهه، و﴿ ابْتِغَاءَ ﴾ [البقرة: 265] معناه طَلَب، و﴿ مَرْضَاتِ ﴾ [البقرة: 265] مصدر من رضِيَ يرضى، ﴿ وَتَثْبِيتًا ﴾ [البقرة: 265] معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم؛ قاله مجاهد والحسن، قال الحسن: كان الرجل إذا همَّ بصدقة تثبَّت، فإن كان ذلك لله أمضاه، وإن خالطه شكٌّ أمسك، وقيل: معناه تصديقًا ويقينًا؛ [القرطبي].

وإن كانت نفقة المنان والمرائي كمثل صفوان عليه تراب، فنفقة المنفق في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، ﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ ﴾ [البقرة: 265]؛ وهو البستان ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾ [البقرة: 265]؛ أي: في مكان مرتفع، عليها تراب خصب مُنبت، كلا المكانين أصابه وابل، لكن الوابل الذي أصاب الصفوان تركه صلدًا، بينما أنبتت الجنة بالوابل الذي أصابها ضعفي ما تنبت عادة، ﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ [البقرة: 265]؛ يقول ابن كثير: "قال الضحاك: هو الرذاذ، وهو اللين من المطر؛ أي: هذه الجنة بهذه الربوة لا تُمحل أبدًا؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطلٌّ، وأيًّا ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا، بل يتقبله الله ويُكثره ويُنمِّيه، كل عامل بحسبه؛ ولهذا قال: ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265]"؛ [انتهى].

ثم يسوق لنا الله عز وجل مثالًا مُصوَّرًا يجسِّد حال الذي يعمل عملًا لوجه الله تعالى؛ من صدقة أو غيرها، ثم يعمل أعمالًا تُفسده؛ يقول تعالى:

﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 266].


"أخرج البخاري عن عبيد بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فِيمَ ترَون هذه الآية نزلت: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ [البقرة: 266]؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فغضِب عمر، وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال: يا بن أخي، قُلْ ولا تَحْقِر نفسك، قال ابن عباس: ضُرِبت مثلًا لعملٍ، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعملِ رجل غنيٍّ يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله عز وجل له الشيطان، فعمِل في المعاصي حتى أحرق عمله، وفي رواية: فإذا فنِيَ عمره، واقترب أجله، خُتِم ذلك بعمل من أعمال الشقاء، فرضِيَ ذلك عمرُ، وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية، وقال: هذا مَثَلٌ ضُرب للإنسان يعمل عملًا صالحًا، حتى إذا كان عند آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه، عمِلَ عَمَلَ السوء"؛ [ابن كثير].

ثانيًا: آداب الصدقة:
ومن آداب الصدقة:
1- الإنفاق من طيب الكسب وطيب المال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267].

"قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنْفَسِه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيه وهو خبيثه؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا ﴾ [البقرة: 267]؛ أي: تقصدوا ﴿ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ﴾ [البقرة: 267]؛ أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضَوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون، وقيل: معناه: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 267]؛ أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه"؛ [ابن كثير].

﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 268، 269].


ثم إن الامساك عن الإنفاق، والبخل به، وقبض اليد، لا يتأتى إلا من وسوسة الشيطان وتخويفه لابن آدم أن يفتقر لو أنه أعطى من ماله، فما إن ينوِ ابن آدم دَفْعَ الصدقة حتى تبدأ الوساوس، وتطفوَ على السطح كل المصارف التي يجد أنها تلزمه أن يضع فيها هذا المال، فينتهي وقد أقلع عن فكرة الإنفاق، سواء أكان صدقة أم زكاة!


ولئن لم يقلع عن الفكرة نهائيًّا، يلجأ إلى إخراج أردأ ما لديه؛ من ملابس، أو ثمار، أو أنعام، أو أي شيء تجب فيه الزكاة، أو يريد أن يتصدق به، وكل هذا من تخويف الشيطان.


يقول القرطبي في تفسيره:
"﴿ يَعِدُكُمُ ﴾ [البقرة: 268] معناه: يخوفكم ﴿ الْفَقْرَ ﴾ [البقرة: 268]؛ أي: بالفقر لئلا تنفقوا، فهذه الآية متصلة بما قبل، وأن الشيطان له مدخل في التثبيط للإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالفحشاء؛ وهي المعاصي والإنفاق فيها".


﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ ﴾ [البقرة: 268] لذنوبكم، وتطهيرًا لعيوبكم، ﴿ وَفَضْلًا ﴾ [البقرة: 268]، وإحسانًا إليكم في الدنيا والآخرة، من الخلف العاجل، وانشراح الصدر، ونعيم القلب والروح والقبر، وحصول ثوابها وتَوفِيَتِها يوم القيامة، ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ [البقرة: 268] بعطائه وعِوَضِه، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268] بكم، وبما تُسرون وما تُعلنون من أمر الإنفاق"؛ [انتهى].

وقال الشوكاني في فتح القدير: "قوله: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ [البقرة: 268]، معناه: يخوِّفكم الفقر؛ أي: بالفقر؛ لئلا تنفقوا، فهذه الآية متصلة بما قبلها، والفحشاء: الخصلة الفحشاء؛ وهي المعاصي، والإنفاق فيها، والبخل عن الإنفاق في الطاعات؛ قال في الكشاف: والفاحش عند العرب: البخيل.

وقوله: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ ﴾ [البقرة: 269] هي العلم، وقيل: الفهم، وقيل: الإصابة في القول، ولا مانع من الحمل على الجميع شمولًا أو بدلًا، وقيل: إنها النبوة، وقيل: العقل، وقيل: الخشية، وقيل: الورع، وأصل الحكمة: ما يمنع من السَّفَهِ، وهو كل قبيح،والمعنى: أن من أعطاه الله الحكمة فقد أعطاه خيرًا كثيرًا؛ أي: عظيمًا قدره، جليلًا خطره"؛ [انتهى الشوكاني].

2- من آداب الصدقة أيضًا مراقبة الله:
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270].


﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ﴾ [البقرة: 270]، ما: شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، والعائد محذوف، أي: الذي أنفقتموه، وهذا بيان لحكم عامٍّ يشمل كل صدقة مقبولة وغير مقبولة، وكل نذر مقبول أو غير مقبول، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ [البقرة: 270]؛ أي: يعلم ما كان خالصًا لله، وما لم يكن.


﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270]؛ أي: ما للظالمين أنفسهم - بما وقعوا فيه من الإثم لمخالفة ما أمر الله به من الإنفاق في وجوه الخير - من أنصار ينصرونهم، ويمنعونهم من عقاب الله، بما ظلموا به أنفسهم، والأولَى الحمل على العموم من غير تخصيص لِما يفيده السياق؛ أي: ما للظالمين بأي مظلمة كانت من أنصار"؛ [الشوكاني، فتح القدير].

3- إخفاء الصدقة و/ أو إعلانها:
﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271].


يرى ابن كثير أن في هذه الآية دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، والأصل أن الإسرار أفضل؛ لهذه الآية، ويستشهد بما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دَعَتْهُ امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))؛ [انتهى].

بينما يفصل الشوكاني في فتح القدير: إن تُظهِروا الصدقات فنعم شيئًا إظهارُها، وإن تخفوها وتصيبوا بها مصارفها من الفقراء، فالإخفاء خير لكم.


وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، لا في صدقة الفرض، فلا فضيلة للإخفاء فيها، بل قد قيل: إن الإظهار فيها أفضل، وقالت طائفة: إن الإخفاء أفضل في الفرض والتطوع؛[انتهى، والله أعلم].


﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272]: يحمل بعض المفسرين هذه الآية على أنها نزلت في مشروعية الصدقة على الكفار وغير المسلمين، ويسوقون لها سبب نزول، فإن كان الأمر كذلك، فهي منسوخة بآية الصدقات:
جاء في تفسير القرطبي: "روى سعيد بن جبير مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذِّمَّة، فلما كثُر فقراء المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم))، فنزلت هذه الآية مُبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام، وذكر النقَّاش أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بصدقات فجاءه يهودي فقال: أعطِني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس لك من صدقة المسلمين شيء))، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ [البقرة: 272]، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم نسخ الله ذلك بآية الصدقات"؛ [انتهى].


وتبدو الآية، ومن خلال السياق أنها مرتبطة بما قبلها من أمرٍ بالصدقات بشروطها وآدابها، فمن لم يهتدِ، ويعمل بما أُنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أحكام الصدقة، فإن الأمر لله يهدي من يشاء، ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272]، والله أعلم.


ثم تُبيِّن الآية في خطابها للمؤمنين أن الإنفاق إنما ينتفع به صاحبه لِما يجده من ثمراته في الدنيا والآخرة، وأن هذا الإنفاق المنتفَع به هو ذاك المقيَّد بما يُبتغى به وجه الله فقط؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أُجِرْتَ بها، حتى ما تجعل في في امرأتك))؛ [صحيح البخاري، صحيح الأدب المفرد]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272]، ﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 272] تأكيد وبيان لقوله: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ﴾ [البقرة: 272]، وأن ثواب الإنفاق يُوفَّى إلى المنفقين، ولا يُبخسون منه شيئًا، فيكون ذلك البخس ظلمًا لهم.

4- تحرِّي المتعفِّفين عن السؤال في الصدقة:
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273].


قال السدي ومجاهد وغيرهما: المراد بهؤلاء الفقراء فقراءُ المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقراء غابرَ الدهر، وإنما خصَّ فقراء المهاجرين بالذكر؛ لأنه لم يكن هناك سواهم، وهم أهل الصُّفَّة، وكانوا نحوًا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يقدمون فقراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لهم أهل ولا مال، فبُنِيت لهم صُفَّة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم: أهل الصُّفَّة، قال أبو ذر: كنتُ من أهل الصُّفَّة، وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر كل رجل فينصرف برجلٍ، ويبقى من بقِيَ من أهل الصُّفَّة عشرة أو أقل، فيُؤتى النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه ونتعشى معه"؛ [تفسير القرطبي].

﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ [البقرة: 273]؛ أي: الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعفُّفهم في لباسهم وحالهم ومقالهم؛ وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غِنًى يُغنيه، ولا يُفطَن له فيُتصدَّق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا))، وقد رواه أحمد، من حديث ابن مسعود أيضًا.


﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ [البقرة: 273]؛ أي: لا يُلِحُّون في المسألة، ويُكلِّفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال، فقد ألحف في المسألة.


﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]؛ [تفسير ابن كثير].

5- جزاء المنفق في سبيل الله على كل الوجوه:
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274]، سواء كان المنفق نفقة سرٍّ أو نفقة علانية، لا رياء فيها ولا سمعة، وسواء كانت في الليل أم في النهار، فجزاؤه ثلاثة:
أجره مُدَّخَر عند ربه الرحمن الرحيم، الواسع العليم.


وصدقته أمان من الخوف.


وأمان من الحزن.


اللهم اجعلنا منهم، اللهم آمين.
والحمد لله رب العالمين.
يتبع بإذن الله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 768.98 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 767.31 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (0.22%)]