|
من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
قيد الانتظار
قيد الانتظار مروة سعيد علي تخرجت في جامعتي وأنا بنتُ العشرين، كان الأمل في مستقبل مُضِيء هو زادي، ولكن الواقع كان يحمل العديد من المفاجآت التي لم أحسبْ لها حسابًا، فالأمل في الخطبة ثم الزواج كبقيَّة الفتيات، بات عسيرًا كعُسر حال أبي! كنت أرى الفتيات الأصغر منِّي سنًّا يرتدين ثوب الزفاف، وأنا أجلس مع المدعوِّين (قيد الانتظار)، أترقَّب أن يأتي دَوْري، ولكن للأسف طال بي الوقت، وأصبح الصبر هو رفيقَ دربي، فكلَّما تقدَّم لي خاطب، وعلم أن أبي لا يمكنه المساهمة في متطلبات الزواج، يتعلَّل ويطلب الانصراف، ويَعِدُ بتكرار الزيارة، ولكنه لم يكن يأتي، فجواب أبي كان سببَ عزوفهم عني، فأبي رقيقُ الحال، كثير العيال، لا يملك ما يجاري به طوفان التباهي والتفاخر، كعادة أهل بلدتي! وما كان يزيد مِن حزني أنه ما مِن خاطب قدَّر زهد مهري الذي كان يطلبه أبي، ولم يَلتَفِتْ أحدُهم إلى ما أمَر به الشرع، وكأن الأعرافَ أصبحت هي شريعتَهم! وبعد حين اعتدتُ على سماع دفوف أعراس بنات عائلتي، ولم أعد أسأل: متى ستدق دفوف عرسي؟! وواساني عملي قليلًا، وأشعَرَني أن هناك ما يميزني، صرتُ أسمع كلمات التمنِّي لعملٍ مثل عملي. وفي العمل أتى زميلٌ لي يطلبني على استحياءٍ، كان رقيق الحالِ، ولم يكن يدري حال أهلي، وافقتُ دون تردُّد، ولم أطلب منه مهرًا ولا مَصاغًا، فقط طلبتُ أن يقيم لي عرسًا، أرتدي فيه ثوب الزفاف، وأسمع صوت دفوف عرسي، وتبسَّمتْ لي الحياة قليلًا، ووعدتُ قلبي أن أكدَّ في عملي وأُعِين زوجي؛ حتى أملأ الفراغ الذي أسَّست به بيتي! ويومًا بعد يومٍ تحقَّق حلمي، ولكن ظل حلمٌ آخر (قيد الانتظار)، يُولد الأمل في تحققه مع مطلع كل شهر ويموت في آخره، حلم أن يصبح لي صغيرٌ يكون قرَّة عيني، هوَّنت سماحةُ أخلاق زوجي عليَّ حزني، كلما سمعت طفلًا ينادي أمَّه ليرتميَ في أحضانها، ودموعي كنتُ أحجبها كلما رأيت أمًّا تداعب خصلات شعر وليدها، لتهدهده وهو يبكي، وتذكَّرت أوقاتي التي كنت أمضيها أنتظر عرسي، وأردِّد لنفسي: لا تجزعي؛ فصغيري سوف يأتي لأحمله بين ذراعيَّ، وأسعد به وأُسعد زوجي الذي أبدى صبرًا وحلمًا على عجزي. وكما أسعدني القدرُ بعد طول صبري بالزواج، أسعدني بحملي، امتزجَتْ دموعي بالضحكات، وطبيبي يبشِّرني بنجاح جراحتي، وتحقق حلمي، واقتراب قدوم مُنْيَة قلبي، وأصبحتُ أمضي أوقاتي مستلقيةً على سريري، وزوجي هو مَن يخدمني، أعدُّ الأيام، وأشعر أنها سنوات؛ لشدة شوقي، أتحسَّس بطني وهو يزداد حجمًا، وأحاور جنيني وهو يتحرك في رَحِمي، أتساءل في طيات نفسي: "أسيكون صغيري ولدًا أم بنتًا؟ أبيضَ أم أسودَ؟ طويلًا أم قصيرًا؟". وجاء اليوم المرتَقَب، وحملت وليدي بين ذراعيَّ، بعدما حملتُه في أحشائي عدَّة أشهر، كدتُ أُجَنُّ وأنا أتطلَّع إلى النور الذي يشعُّ من عينَيْه، وكان حبيبُ قلبي أبيضَ الوجه، أسودَ الشعر والعينين، فإذا بالضد يُظهِر حسنَه الضدُّ. سميته "يحيى"؛ لأنه بقدومه إلى الدنيا أَحْيَا السعادة والفرحة في قلبي، وبدأ صغيري ينمو رويدًا رويدًا، وصارَتْ ضحكاته الصغيرة تملأُ أرجاء شقَّتي، أما دموعه، فتسقط كجمراتِ النار على صدري، فأنا لم أكن أحتمل أن أراه يبكي، وكلما تقدَّم به العمر، زاد الصخب مِن حولي، وأصبحَتْ أحداث يومي - التي أرويها لزوجي عند قدومِه من العمل مساءً - هي أهم ما فعله ولدي، وجاء اليوم الذي يجب أن يُفارِقَ فيه صغيري لبعض الوقت عيني، أيقظتُه على قُبُلاتي كعادتي معه كلَّ صباح، ثم أطعمته وبدَّلت له ثيابه واصطحبته إلى المدرسة التي اخترتُها له، غير مبالية بمصروفاتها الباهظة، فمستقبل ولدي هو كل ما يشغلني، وتقدَّم ولدي بنجاح في دراسته عامًا بعد عام، كم سعد بنجاحه قلبي! وتجاوز ولدي مرحلةَ الطفولة، وبدأ مرحلة الصبا، ثم الشباب، فإذا بأعين الفتيات تَلْتَفِفْن مِن حوله في كل مكان، وكأنه شمسٌ مضيئة، تطوف مِن حولها الكواكب والأقمار، ترجو أن تحظَى منها بقدر من الضياء، وأصبح ولدي مُنْيَةَ كلِّ أم لديها بنات. وتخرَّج ولدي في الجامعة، والتحق بوظيفةٍ مناسبة، وأبدى رغبته في الزواج، وامتزجَتْ في قلبي الفرحة بالحزن، الفرحة بالغد القريب الذي سيُصبِح لي فيه عائلةٌ كبيرة وأحفاد، والحزن لأن ولدي سيُفارِق أحضاني، وربما تمر أيامٌ وليالٍ لا تراه عيوني، ولا يُسعِد صوتُه أُذُني، وهوَّن عليَّ ابني أمري عندما طلب مني أن أختارَ له العروس، فاخترتُ له ابنة أختي؛ لأنها هادئة الطبع، مرهفة الحس، كما أني كنت ألاحِظُ وَلَعها بولدي منذ سنوات، وذهبنا لخطبتِها ولم أُخْفِ أنها اختياري أنا، رغم علمي أنها كانت تتمنَّى أن تكون اختيار ولدي. وحاولت كثيرًا أن أتجاهل نفسي الغيور، التي كادت أن تُفسِد الأمر لصغائر الأسباب، وجاهدتُها كثيرًا وأنا ألاحظ سعادةَ ولدي بالخطبة وتعلُّقه سريعًا بعروسه، وانشغلت قليلًا بتأسيس شقَّة الزوجية، كنتُ أختار بنفسي كلَّ شيء؛ بَدْءًا من لون الطلاء، حتى شراء الأثاث وتنظيم الأماكن لكل قطعة ما صغُر منها وما كبُر، وتعاملَتْ أختي وابنتها معي بالحكمة والحذر، فكانتا تقدران صعوبة أن تشاركني امرأةٌ أخرى في قلب ولدي. وأتى يوم الزفاف، فاستجمعت حبي وحناني لولدي، ورغبتي في إسعاده؛ لأقتل الحزن الذي كان يعتصرُ قلبي لابتعاده عني، وتركت لدموعِ الفرحة اللجام عندما رأيتُه وهو يرتدي سترته السوداء، وكنت قد اخترت له رابطة عنق تقارب لون ثوبي، واحتضنتُه وهو يُقبِّل يَدِي، ودعوت له بالسعادة والهناء، وركِبنا العربات إلى بيت العروس، واصطحبناها إلى قاعة الأفراح، وهناك طَغَت سعادة ولدي على غَيْرتي، التي لم يكن لها أوتاد، وانتهى العرس، وركِبنا العربات مرة أخرى لتوصيلهما إلى شقة الزوجية، فإذا بالفزع يهاجم قلبي دون سابق إنذار، فقد لاحظت عربة تسير بسرعة جنونية في الطريق المعاكس لنا، كانَتْ أسرع من صراخي الذي حاولت به تحذير زوجي، وإذا بتلك العربة تنحرفُ عن طريقها وتصطدم بعربتنا من إحدى جوانبها، وفي لحظات انتهى كلُّ شيء! انتهى العرس، وانتهت الأغاريد، وحل محلها العويل والبكاء، وإذا بقميص ولدي الناصع البياض ملطَّخ بالدماء، وقفتُ في ذهول، لا أرى ولا أسمع، رغم أن عيوني مفتحة الأجفان، وسألت بالله ولدي أن يجيب رجائي ويحدثني، ولكنه لأول مرة لا يطيع لي رجاءً، وسألت زوجي مرارًا أن يقول لي أن ما أراه أمامي ليس إلا حلمًا مفزعًا، وسأصحو منه بعد حين، فأجاب بالدمع: "لستِ تحلمين!"، وأُغشِي عليَّ عندما رأيت زوج أختي يُغمض العيون لولدي. وأفقتُ على صوت الإمام، وهو يسأل المصلين في المسجد الدعاء لولدي بأن يسكنه الله أعلى الجنان، وأن يلهمني وزوجي الصبر على تلك الفاجعة، لا ليست فاجعة، إنها نهاية المطاف، نهاية عمري وحياتي وكل أيامي، لم يقتُلْ هذا الشابُّ الذي أطاح الخمرُ برأسِه ولدي، بل قتلني وتركني أتلقى في نفسي العزاء، وأُغشِي عليَّ مرةً أخرى عندما سمعتُ زوجي يقول: "كنت أنتظر اليوم الذي تحمل فيه يا ولدي نعشي، فإذا به يأتي وأنت المحمول يا فِلْذَة كبدي". ومضت أيامٌ ثم شهور، وأنا وعقلي وقلبي نحيا في غربة، ونحن بين ذوينا، نبكي على أطلال ما زلنا ساكنيها، تلازمنا الوحدة ونحن بين محبِّينا، نصارع الأحزان ودومًا منهزمين. وجاءت أختي لتطلب مني أن أذهب لابنتها التي وُئِدت فرحتها في المهد، وتحول عرسها إلى سراب، فقد لازَمَتِ الشقة التي أُعدت مسبقًا للزواج، ولا تريد أن تتركها، فلم أُجِبْها، وذهب زوجي يرجوها الصبر، وهو لا يعرف له عنوانًا، وانهارت باكيةً، وأقسمت لهم أنها ما زالت تراه وتسمع صوته، وكأنه على قيد الحياة، فلم يصدِّقوها، وأخرجوها من الشقة رغمًا عنها! أما أنا، فأصدِّقها؛ لأنني أيضًا ما زلت أراه يطلب مني الطعام والشراب، يسامرني في الشرفة كل مساءٍ، أراه في صحوي يشدُّ من أزري إن عصفت بي الأحزان، أراه في صدري يحيا في قلبي لا يُفني ذكراه دهرٌ، ولا يُبليها الزمان، فكيف أصدِّق أنه لم يعد من الأحياء؟ وكيف أنسى جنينًا دقَّت أولى دقاتُ قلبه في جوفي؟ وفجأة رأيت أمامي طفلًا صغيرًا يحمل وردةً، فنظرت إليه بعين الدهشة، وسمعتُ صوتًا يقول: "طفلٌ بلا أم، وأم بلا أطفال، ما الذي يمنع ترابطهما معًا؟"، كان الصوتُ صوتَ إحدى صديقاتي، أحضرت طفلًا يتيمًا من إحدى دُور رعاية الأيتام؛ لانتشالي من طوفانِ أحزاني، ولكني تذكرتُ - وأنا أنظر إليه - ولدي عندما كان في مثل عمره، وأجهشتُ بالبكاء، فاحتضنَتْني صديقتي وقالت: • ولدكِ الآن في أعلى الجنان، وإن كنتِ تودِّين اللحاق به، فعليكِ أولًا اجتياز أصعب اختبار؛ "اختبار الصبر على البلاء"، الدموع لن تعاونكِ؛ بل تزيد الأمر صعوبة، ربما يعاونكِ هذا الصغير الذي شاطركِ البكاء. ونظرتُ إلى الصغير مرةً أخرى، فوجدت دموعَه ملأت الأجفان، فاحتضنتُه وجفَّفتُ دموعه بيدي، وحاولت أن أبتَسِم لأهوِّن عليه عندما مسح دموعي بيديه، وسألتُه عن اسمه فأجاب دون خوف، ووُلد بينه وبيني ودٌّ، وكأنه يعرِفني منذ سنوات، وأمضى الصغيرُ تلك الليلة معي في منزلي. وفي صباح اليوم التالي ذهبتُ إلى تلك الدار التي أتى منها، بصحبة صديقتي، ووجدت هناك ضالَّتي بين هؤلاء الصغار الذين حُرِموا من أمهاتهم، وأصبحت أمضي معظم ساعات يومي بينهم، أواسي بضحكاتهم قلبي، الذي ما زال ينتظر اليوم الذي تجمعني فيه الأقدار بولدي مرة أخرى. وهكذا عدتُ مِن جديد (قيد الانتظار).
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |