|
|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
لمحة
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: لمحة
لمحة (2) مصطفى صلاح محمد قلتُها أمامَ أحد زملائي مرَّةً، فنظر إلَيَّ وقال مستفهمًا ومتعجِّبًا: فيمَن؟! وقلتُها مرَّةً أمامَ أمِّي - حفظها الله - فإذا هي تغضَبُ بشدَّة، وينقَلبُ مزاجُها، وتقول في عصبيَّة: فيمَن تُحَسْبِنُ يا ولد؟ مُعتادٌ أنا على قول: "حسبي الله ونعم الوكيل"، أكاد أُكرِّرها مئات المرَّات يوميًّا، حتى حين مزَحَ معي أحدُ زملائي مرَّةً وقلتُها كعادتي فإذا به ينقلبُ مزاحُه جدًّا، ويتغيَّر وجهُه، ويسألني إنْ كانَ أخطأ في حقِّي، ويَطلبُ مِنِّي الصفحَ والعفوَ! لا يكاد النَّاس يقولون هذا الذكرَ العظيمَ إلا في مقام الدُّعاء على الظالمين، أو عند وَقْع البلاء، وشدَّة القضاء، أمَّا أنْ يقولوه مثلاً تسبيحًا وذكرًا، كما يقولون: سبحان الله، فلا. لِكُلِّ خَطْبٍ مُهِمٍّ حَسْبِيَ اللَّهُ أَرْجُو بِهِ الأَمْنَ مِِمَّا كُنْتُ أَخْشَاهُ[1] وَأَسْتَغِيثُ بِهِ فِي كُلِّ نَائِبَةٍ وَمَا مَلاَذِيَ فِي الدَّارَيْنِ إِلاَّ هُو ذُو المَنِّ وَالمَجْدِ وَالفَضْلِ العَظِيمِ وَمَنْ يَدْعُوهُ سَائِلُهُ رَبَّاهُ رَبَّاهُ لَهُ المَوَاهِبُ وَالآلاَءُ وَالمَثَلُ الْ أَعْلَى الَّذِي لاَ يُحِيطُ الوَهْمُ عُلْيَاهُ "حسبي الله..." يكفيني همِّي، ويَهدِيني طريقي، ويُنَوِّر بصيرتي، ويُنِير دربي. "حسبي الله..." لا أحمل همَّ رزقٍ، فهو الرزَّاق. "حسبي الله..." لا أخاف من أحدٍ بطشًا ولا ظلمًا، فهو المطّلعُ الخبير، مالكُ يومِ الدين. "حسبي الله..." يَقبَل توبتي، ويجبرُ عثرتي، ويغفر ذنبي، ويستَجِيب دعائي. "حسبي الله..." ألجأُ إليه في رغدِ العيش وفي قسوته، وأَضرَعُ إليه عند النعمة وعند النقمة، وألهَجُ بذكره في السرَّاء والضرَّاء. "حسبي الله..." حين تُغلَق جميعُ الأبواب، وتُسدُّ كلُّ الطرق، ويغلبُ الهم، وينتصر الظلم. مَنْ قَالَ حَسْبِي مِنَ الوَرَى بَشَرٌ فَحَسْبِيَ اللهُ حَسْبِيَ اللهُ[2] رَبِّي عَزِيزٌ فِي مُلْكِهِ صَمَدٌ لاَ عِزَّ إِلاَّ لِمَنْ تَوَلاَّهُ لَوْلاَهُ لَمْ تُوجَدِ السَّمَاءُ وَلاَ ال أَرْضُ وَلاَ العَالَمُونَ لَوْلاَهُ كَمْ آيَةٍ لِلإِلَهِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّهُ حين يشتدُّ بي الهمُّ، وينزلُ بي الكربُ، وتضيقُ عليَّ الدنيا بما رحبتْ، أقولُ: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فكأنَّه ماءٌ يجلو صدأَ النَّفس، ويمحو رانَ القلب، ويُصفِّي كدَر الروح. عندما أقولها أستشعرُ عظمةَ الله. عندما أقولها أستشعرُ معيّة الله. عندما أقولها أستشعرُ قربَ الله. عندما أقولها أستشعرُ رحمةَ الله. عندما أقولها أستشعرُ أمانَ الله. قالها المؤمنون حين خوَّفهم النَّاسُ من النَّاسِ، فانقلب خوفُهم أمنًا، وفزَعُهم طمأنينةً، واضطرابهم ثَباتًا؛ ï´؟ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ï´¾ [آل عمران: 173 - 174]. وقالها إبراهيم - عليه السلام - حين أُلقِي في النار؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((كان آخِرُ قول إبراهيم حين أُلقِي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل))؛ البخاري (ح4564). ولَمَّا قد علمتُ واستقرَّ في ذهني أنَّ الشيطانَ - لعنه الله - إذا رأى أمرًا ميسورًا من العبادات يفعله الناس ويترتَّب عليه ثوابٌ كبير، فإنَّه يلهثُ خلف أنْ يصرفهم عنه، ويتفنَّن في ذلك. انظر إلي الذكر بعد الصلاة مثلاً، وكيف يشغلُ الشيطانُ المسلمين عنه، فهذا ينصَرِف مسرعًا بعد الصلاة ليقضي حاجة أو ليلحق موعدًا، أو ليبحث عن شيءٍ نسيه... إلخ، وهذا يتكلَّم مع مَن بجواره، وهذا يقوم مسرعًا ليصلي السنَّة، وكلُّ ذلك من ألاعيب الشيطان، ليشغلَ الناس عن ثواب أذكار الصلاة، يَكفِي فيه قول النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن سبَّح في دُبُرِ كلِّ صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، ثم قال تَمام المائة: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قدير - غُفِرتْ له خَطاياه وإنْ كانتْ مثل زبد البحر)). وانظر إلى الشيطان كيف يشغل الناس عن هذا الذكر بعد الصلاة فلا يَكاد يذكره أحد؛ عن معاذ بن جبلٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخَذ بيده ثم قال: ((يا معاذ، والله إنِّي لأحبُّك))، فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبُّك، قال: ((أُوصِيك يا معاذ لا تدعن في دُبُرِ كلِّ صلاة أنْ تقول: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)). لَمَّا علمتُ ذلك فهمتُ لِمَ ينفر الناس إذا سمعوا مَن "يُحَسْبِن" أمامَهم، ويطلبون منه الكفَّ والانتهاء، فهي عادة الشيطان في شغل الناس عن اليسيرِ عملُه من العبادات، العظيم فضلُه وأجرُه. فحسبي الله ونعم الوكيل في المحيا وفي الممات. حسبي الله ونعم الوكيل في كل وقت وحين. حسبي الله ونعم الوكيل إذا كثُرَت الخطوب، واشتدَّت الأزمات، وقلَّ الأصدقاء. حسبي الله ونعم الوكيل. حسبي الله ونعم الوكيل. [1] عبدالرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني. شاعر، متصوف من سكان (النيابتين) في اليمن. أفتى ودرَّس، وله ديوان شعر أكثره في المدائح النبويَّة. والبرعي نسبة إلى "بُرع" وهو جبل بتهامة (كما ورد في "التاج"). [2] حازم بن محمد بن حسن، ابن حازم القرطاجني أبو الحسن، 608 - 684 هـ/ 1211 - 1285 م. أديبٌ من العُلَماء له شعر، من أهل قرطاجنة شرقي الأندلس، تعلَّم بها وبمرسية، وأخَذ عن علماء غرناطة وإشبيلية، وتتَلمَذ لأبي علي الشلوبين ثم هاجر إلى مراكش ومنها إلى تونس، فاشتهر وعُمِّر وتُوفِّي بها.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: لمحة
لمحة (3) مصطفى صلاح محمد القشَّة التي قصمت ظهر البعير! هل سمعْتُم من قَبل عن الرجل الذي طلق زوجتَه؛ لأنَّها لم تُعِدَّ له كوبًا من الشاي؟ وهل سمعتم بالذي طلَّق امرأته؛ لأنَّها أيقظَتَه في موعد غير مناسب؟! أو الذي طلَّق؛ لأنَّها ذهبت إلى بيت أهلها دون إذنه؟ أو لأنَّها لم تَطْهُ له الطعامَ المفضَّل؟ مؤكَّد أنكم سمعتم بهذا أو ببعضه. الآن ما هو رأيكم في مثل هذا الزوج؟ أراكم تحرِّكون رؤوسكم متعجبِّين من رُعونته، وقلَّة ورعه، وتسرُّعِه، آسِفين على البيت الذي دُمِّر، والأولاد الذين شُرِّدوا، والحياة التي هُدِمَت بسبب شيء تافه! معقول أن يكون كوب الشاي سببًا في شتات الشَّمل، وتفرُّق الأحباب؟! هل من الممكن أن يكون ذهاب الزوجة إلى بيت أهلها سببًا في ضياع الأولاد؟! لكنني أريد أن ننظر لها من وجهة أخرى: أوَّلاً: لا يُعقل أن يكون هناك زوجٌ بمثل هذه العقلية السَّطحية ليطلِّق امرأته ويهدمَ بيتَه بيديه؛ بسبب كوب شاي! فعلام تَزوَّج إذًا؟ وخطبَ وعقدَ وبنى بيتَه وأسَّسه وعمَّرَه، وقدَّم مهرَ زوجتِه، ودفعَ تكاليف عرسِه؟! ثم بعدَ ذلك يمحو كلَّ هذا بسبب كوبِ شاي! لا يوجد أحدٌ بمثل هذه الحماقة قطعًا. ثانيًا: " يُحكى أنَّ رَجُلاً كان لديه جملٌ فأرادَ أن يسافرَ إلى بلدةٍ ما، فجعَل يحملُ متاعًا كثيرًا فوق ظهر ذلك الجمل حتىَّ كوَّم فوقَ ظهره ما يحملُه أربعةُ جمال، فبدأ الجمل يهتزُّ من كثرة المتاع الثَّقيل، حتى أخذ الناس يصرخون في وجْه صاحب الجمل: يكفي ما حمَلْتَ عليه! إلاَّ أنَّ صاحب الجمل لم يهتمَّ، بل أخذ حزمةً من تِبْن، فجَعَلها فوق ظهر البعير، وقال: هذه خفيفة، وهي آخِر المتاع، فما كان مِن الجمَل إلاَّ أن سقَط أرضًا، فتعجَّب الناس، وقالوا: "قشَّة قصَمَت ظهر البعير"! والحقيقة أنَّ القشة لم تكن هي التي قصمت ظهره، بل إنَّ الأحمال الثقيلة هي التي قصمَتْ ظهر البعير الذي لم يَعُد يحتمل الأمر، فسَقَط على الأرض". تَعجُّبُ النَّاسِ من طلاقِ المرأة بسببِ كوبِ الشاي، كتعجُّبِ هؤلاءِ النَّاسِ من سقوط الجمل بسبب حزمة التِّبن الخفيفة. هناك مثَلٌ بالعامِّية عندنا نحن المصريِّين يقول: "عدوُّك يتمنَّى لك الغلط، وحبيبك يبلع لك الزلط"[1]. فلأنَّ الزوجَ حبيبُ زوجتِه، فهو يسامحها إن أخطأت في حقِّه، ويتجاوز عنه؛ حرصًا منه على بيتِه واستقرارِه، ويبلعُ لحبيبتِه الزلط؛ وهو ضرب من الأحجار. ويظلُّ يحدُثُ الموقفُ تلو الآخر، والمصيبة تتلوها المصيبة، ويبلع المسكينُ "الزلطة" تلو الأخرى، حتى تمتلئ معدتُه عن آخرِها؛ لتقفَ في النِّهاية "زلطة" صغيرةٌ في المَرِّيء فتخنقُه وتقتلُه! ليست تلك "الزلطة" الصغيرة هي سبب مقتله قطعًا، بل السبب هو "الزلط" الكبير الذي بلعَه طول حياته. فالزوجة حمَّلَت زوجَهَا أثقالاً بعد أثقال، حمْلٌ تنوءُ به الجمال، وهو صابرٌ محتَسِب، حتى كانت حزمة التِّبن الأخيرة، وهي رَفْضُها أن تعمل كوب الشَّاي؛ ليسقط الجمَل - أو الزَّوج - بما حملَ، ويظنُّ النَّاس - مخطئين - أنَّه سقط بسبب كوب الشاي! [1] الزَّلَطُ: الحصى الصِّغار الملس؛ فُرِشَ الزَّلَط على الطريق تمهيدًا لتعبيده، واحدته زَلَطةٌ؛ "المعجم المحيط". (الزَّلَطُ): الحَصى الصغارُ الملس، واحدتُهُ: زَلَطَةٌ، (د)؛ "الوسيط".
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: لمحة
لمحة (4) مصطفى صلاح محمد الخشوع؛ هل هو عمل قلبي، لذَّة عقلية، أم هو متعة روحيَّة؟ صلَّيتُ صلاةَ القيامِ خلفَ أحدِ الأئمة؛ الشَّادِينَ بأصواتهم كأنَّهم بلابل، المنغِّمينَ أصواتهم، الملحِّنينَ طبقاتِها، المنوِّعين مقاماتِها، فشعرتُ أنِّي طافٍ على سطح الأرضِ لا واقف، لا أشعرُ بتعب، ولا يرهقني ملل، أو يشغلني جلل، بلْ تخلَّلتِ الآياتُ خلاياي نفسها - أو هكذا شعرتُ - فدبَّتِ الحياةُ في أرجائها، فراحتْ كلُّ واحدةٍ تنتشي؛ كأنها كانت ظمأى فرُوِيَتْ، تائهةً فثابتْ، ضالةً فآبتْ. كان الإمامُ يقرأ في سورةِ إبراهيم - عليه السَّلام - ففَرِحْتُ بنفسي؛ ظانًّا منها أنَّها - أخيرًا - خَشَعَت! لكنَّ بعض الظن إثم. وصل الإمام في القراءة إلى قوله تعالى: ï´؟ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ï´¾ [إبراهيم: 29]، فبلَغ في إتقان قراءَتِها الغاية، ووصَل بإبداعِ تلاوتِها النهاية، نغَّمَها فأحسن، ولحَّنَها فأطرب، وزخرفَها فأوجب، قرأهَا كأنَّه لم يقرأ آيةً مثلَها، وسمعتُها كأنِّي لم أسمعْ قرآنًا من قبلُ، وجدْتُني بعد أنْ ختمَها، وسكتْ، أصرخُ من داخِلي، في داخِلي، وبأعلى صوتٍ لا يسمعُه سوى نفسي قائلاً: "الله". • • • ثم بعد أن هدأَتْ ثورةُ روحي، ومرَّتْ زوبعتي الداخلية بسلام، وبعد أن دَعوتُ للإمامِ في سرِّي بطولِ العمر، وبركةِ الرِّزق، وأن يحرسَه الله ويصونَه من شرِّ كلِّ ذي شر؛ رَجَعَتْ إليَّ نَفْسي، وثابَ إلي رشدي، وخاطبتُ نفسي لائمًا، مؤنبًا: "يَذْكرُ اللهُ جهنَّمَ؛ فتقولُ منتشيًا: الله؟ يذكرُ الله عقابَ الكافرين، ومآلَ الجاحدينَ المشركينَ الطاغينَ الظالمينَ المتكبرينَ المفسدينَ، وأنَّ جهنَّم يَدْخلُونها، يقاسُون حرَّها، وينالونَ ويلَها وثبورَها وزَقُّومَها وغِسْلينَها وسلاسلَها وقيحَها وصديدَها، هي مقامُهم وقرارُهم ومستقرُّهم، قبح المستقرُّ، وبئس القرار، وذلَّ حينها المقام!! ثم تقول طَرِبًا: الله؟!". وجدتُ أنِّي أخطأتُ حين وسمتُ نفسي بالخاشعة؛ فظهرَ لي أنِّي لم أخشعْ للكلمات، ولم أعتبر بالآيات، لم أقفْ عند العِبَر متأمِّلاً، ولم أتأنَّ عند الصورِ معتبرًا، بل شدَّني النغم، وهزَّني اللحن، وأبهرني الطربُ، فتلذذَ عقلي - لا قلبي - بالسماع، وطربت أذني - لا روحي - بالأداء، فانتهت الصلاة، وأنا كما أنا، لم أزدد إيمانًا، ولم أرْقَ إحسانًا، بل دخلتُ كما خرجت، أو خرجتُ كما دخلت. إذًا فالحالةُ التي كنتُ فيها كانتْ لذَّةً عقليةً، وطربًا سمعيًّا، لا يلبثُ أن يذهبَ ويذوي، كالصَّدى في الأرجاء الفسيحة، يبدأ قويًّا، ثم يخفت ويخفت.. لمَّا وصلتُ لهذا الاستنتاج، قررتُ أن أركِّزَ في المعاني، وأتأمَّلَ في المباني، لا ألتفتُ إلى لحنٍ أو مغنى، فلبثتُ على ذلك دقائق، ثم تفكَّرتُ في نفسي، فوجدْتُ أنَّ الخشوعَ - الحقيقي - يرتكزُ في القلب، ويصل إليه عبر العقل والأذن، شريطةَ ألاَّ تنقطع الطريقُ الموصلةُ بينهما، فإن طربتِ الأذنُ فقط، أو تلذذ العقلُ فقط، دون القلب، فليس هذا بالخشوع. فالخشوع إذًا منظومة كاملة؛ أُذنٌ تسمعُ فتطْرَب، عقلٌ يفهمُ فيعي فيتدبَّر، طريقٌ مفتوحةٌ موصلةٌ بينهما وبين القلب، وأخيرًا القلبُ النابض، ثم الجوارح. فحسنُ الصوتِ يخدمُ جانبَ السماعِ في المقامِ الأول، وحسنُ التصرُّف في أن يعي الإنسان جمالَ الآية بعقله؛ ليخشع بها قلبُه وجوارحُه. والعقلُ لن يعيَ الآياتِ إلا إن فهمَ تفسيرَها، ولن يفهمَ تفسيرَها إلا إذا قرأه من مظانِّه، ولن يستوعبَ ما يقرأ إلاَّ إنْ تعلَّم اللغة العربية وقواعدَها، هكذا، سلسلة متَّصلة. ولتنشيط هذا الجانب العقلي؛ يجبُ على المرءِ أن يقرأ في كتبِ التفسير، وليبدأ بأيسرِها ثم يتدرَّجُ صعودًا. وأخيرًا القَلْب، والذي يُحرِّكُه التأمُّل، وتشحنُهُ الرَّقائق بشحناتٍ إيمانية، فالقراءةُ في كتبِ الرقائق، وخصوصًا ما يتعلقُ بالدار الآخرة، حيثُ المآلُ والمعاد، والنَّعيم والجحيم، والبعث والحشر، والجنة والنار... إلخ تُساعدُ القلبَ على الخشوع. وأيضًا تركُ ما قد يمنع وصولَ الآيات للقلب، كالذنوب والمعاصي، وفضول الأعمال، كفضول الأكل والشرب، وفضول النوم والكلام، وفضول النظر والمزاح. كذلك الاستعداد الجيِّد للصلاة قبلها، بأن يفرِّغ الإنسان عقلَه من شواغلِه، وأن يتأمَّل فيمن يقفُ بين يديه، ويستحضرُ ذنوبَه السابقة، والتي سترها الكريم فلم يفضحْه، وإسرَافه في حقِّ نفسه، وحق ربِّه وحقِّ دينه، وأن يستشعرَ أنَّه ضيف على الله في بيته. هنا، تُسكبُ العبرات، وهنا تُستجاب الدعوات، هنا ملاذُ الخائفين، وموضع قبول توبة التائبين، هنا حيث تتنَزَّل السكينة، وتعمُّ الرحمة، وتنتشر الملائكة، ربما لو تأمَّل في هذا لحصل له الخشوع الذي يطلبه. وهناك أشياء أخرى لا شك، لكن هذه لمحة يسيرة.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: لمحة
لمحة (5) مصطفى صلاح محمد ترك الذنب أيسر من الاعتذار أحيانًا نُخطِئ في حقِّ أحد أصدقائنا، وقد يَقَعُ تَبَعًا لذلك الخطأ مُشاحنةٌ أو مُباغضةٌ أو مُلاسنةٌ، وقد تنقَلِبُ شجارًا وخِصامًا وفراقًا، وقد يتبعُ ذلك الخصام مفاسد أخرى كثيرة، ويتجشَّمُ المرء في نهاية الأمرِ عناءَ إصلاحِ ذلك كلِّه، وأحيانًا يكونُ إرضاءُ ذلك الشخص صَعبًا جِدًّا، كأنَّك تتسلَّقُ جبلاً وعرًا أعيَتْك صُخورُه وأدمَتْك بروزُه، وفي النِّهاية وبعد كلِّ هذا العناء جرح القلوبِ المتنافرة يستحيلُ أو لنَقُلْ: يصعبُ أنْ يلتئمَ تمامًا، بل يُخلِّفُ وَراءَه أثرًا غالبًا ما يُترَك للزمنِ مهمَّة طمسِه رُوَيدًا رُوَيدًا، ويبقى ذلك الأثرُ ثلمًا في جِدارِ المحبَّة، أو ضَعفًا فيه يُهيِّئُه لانهيارٍ آخَر عند زلَّةٍ أخرى. وقد يكون هذا الخطأ في حقِّ الله - عزَّ وجلَّ - فيقعُ الواحدُ في ذنبٍ تدومُ لذَّته ثَوانٍ، وربما دقائقَ، وربما - إنْ طالتْ - ساعات، ثم تذهبُ اللذَّة وتزوي كمَا يزوي الصَّدَى في أحضان الفَراغ، ويَتبقَّى بعدَها تَبعاتُها؛ سَوادٌ في القَلب، واضطِرابٌ في النَّفس، وظَلامٌ في الوَجْه، وتأنيبٌ في الضمير، وخَوْفٌ من المستقبل، وارتِباكٌ في الحِسابات، ومن ثَمَّ يُحاوِلُ المرءُ بَعدَها أنْ يُصلِحَ مِن نفسه، وأنْ يَترُكَ ذلك الذنبَ، لكن قد يكون قلبُه متعلِّقا به، أو يكتَشِف أخيرًا أنَّه قد غرق فيه حتى أذنَيْه، فيَتجشَّم عَناءً ما بعدَه عَناء، ويلتَمِسُ لذلك سُبُلاً عِدَّة، ويظلُّ تائهًا ضالاًّ يَتَسَوَّلُ نصيحةً مِن هنا، ودُعاءً من هناك، ومساعدةً من أخٍ، ومساندةً من كتاب، والنتيجة أنَّه قد ينجَح وقد لا ينجَح. فماذا لو فكَّر الواحد فينا في كلِّ هذه العَواقِب قبل أنْ يُخطِئ في حقِّ صَدِيقه، فتَرْكُ الخطأ يُوفِّر عليه شَقاءً وعَناءًً طويلَيْن مُرَّين، وكذلك الذنوبُ التي نعلَمُ يقينًا زوالَ لذَّتها بانقِضاءِ وقْتها، ومع ذلك نصرُّ على الوقوع فيها، لو ترَكناها لكان ذلك أيسرَ ممَّا بعدَها مِن مشقَّة؛ راحةً في القلب، وطمأنينة في النفس، وانشراحًا في الصدر، وضِياءً في الوجه وإرضاءً للرب - سبحانه وتعالى. وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي - رحمه الله - في "صيد الخاطر": "مَن عايَن بعين بَصِيرته تَناهِي الأمور في بِداياتها، نالَ خيرَها، ونجا من شرِّها، ومَن لم يَرَ العواقبَ غلبَ عليه الحسن، فعادَ عليه بالألم ما طلبَ منه السلامة، وبالنّصبِ ما رجَا منه الراحة. وبيانُ هذا في المستقبل يتبيَّنُ بذكرِ الماضي؛ وهو أنَّك لا تخلو أن تكونَ عصيتَ الله في عمرِك أو أطعتَه، فأينَ لذَّة معْصيتِك؟ وأين تعبُ طاعتِك؟ هيهاتَ رحلَ كلٌّ بما فيه! فليتَ الذنوبَ إذ تخلَّت خلَّت! وأزيدُك في هذا بَيانًا: مثل ساعة الموت، وانظُر إلى مَرارةِ الحسَرات على التَّفريط، ولا أقولُ: كيف تغلب حلاوة اللذَّات؛ لأنَّ حَلاوة اللذَّات استَحالَتْ حَنظَلاً، فبقيَتْ مَرارة الأسى بلا مُقاوِم، أتراك ما علمتَ أنَّ الأمرَ بعَواقبِه؟ فراقِب العَواقِب تَسلَم، ولا تمل مع هوى الحسن فتندم".
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |