شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4426 - عددالزوار : 862052 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3957 - عددالزوار : 396414 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12595 - عددالزوار : 218587 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 220 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 183 - عددالزوار : 62251 )           »          حديث قل آمنت بالله ثم استقم وقفات وتأملات كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »          التغافل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »          الطريق يبدأ من هنا.... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          دور القائد المسلم في إدارة الأزمات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          يا بنيّ إنني أمك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-04-2024, 06:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (1)

باب: في فاتحة الكتاب

اعداد: الفرقان

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2095. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم
سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: «أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ».

الشرح:
هذا شرح كتاب فضائل القرآن، من مختصر صحيح الإمام مسلم ، للإمام المنذري رحمهما الله تعالى.
وفضائل القرآن تعني ما ورد في فضل القرآن العظيم وسوره الكثيرة، من الأحاديث النبوية، وقد جمع أهل الحديث كتبا في هذا الباب، منها:
- ما جمعه الإمامان: البخاري ومسلم في صحيحيهما، وبقية أصحاب السنن الأربعة، وأفرده بالتصنيف كلٌ من: أبي بكر ابن أبي شيبة، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وابن الضريس وغيرهم، وكذلك للإمام ابن كثير كتاب في فضائل السور، وللسيوطي رسالة باسم: «حمائل الزهر في فضائل السور».
وقد دخلت في هذا الباب أحاديث كثيرة موضوعة ومكذوبة، وبعض القصاص والوعاظ كان يضع الحديث احتسابا للأجر! فقد قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي – وهو أحد من كذّبه أهل الحديث واتهموه -: من أين لك: عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟! فقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحق، فوضعت الحديث حسبة! «أي: احتسابا للأجر والثواب».
وكذلك قيل لميسرة بن عبد ربه – وهو ممن يفتعل الكذب حسبة -: من أين جئت بهذه الأحاديث: من قرأ كذا فله كذا؟ قال: وضعتها أرغّب الناس فيها! «كما في الجرح والتعديل 8/254» لابن أبي حاتم.
وانظر مقدمة كتاب: «الموضوعات» لابن الجوزي وغيره.
وقد رد الله تعالى كيد الوضاعين والكذابين، وفضح صنيعهم، بما هيأ لهذه الأمة من العلماء الأجلاء، الذين أفنوا أعمارهم في البحث والتحري، وبيان ما صح من الأحاديث مما لم يصح، وكتبوا في ذلك الكتب والمؤلفات الكثيرة.
وقد دخلت هذه الأحاديث المكذوبة والضعيفة كثيرا من كتب التفسير – وللأسف الشديد - بسبب جهل مؤلفيها بالحديث والأسانيد، ككتاب الكشاف للزمخشري المعتزلي، فإنه أورد فيه الأحاديث الموضوعة في آخر كل سورة من سور القرآن!!
وقد صحّ في فضل القرآن من الحديث، ما فيه كفايةٌ وغنية عن الضعيف والواهي، والحمد لله.
وبعض الناس يظن أنه لا بد لكل سورة من فضل خاص بها! وهذا ليس بصحيح.
فقد جعل الله تبارك وتعالى لكتابه فضلاً عاما عظيما، يشمل جميع الآيات والسور، كقوله تبارك وتعالى: {اللهُ نزّل أحسنَ الحديث كتاباً مُتشابهاً مثاني تقشعرُ منه جلودُ الذين يخشون ربهم ثم تلينُ جُلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هُدى الله يهدي به من يشاءُ ومن يُضلل الله فما له من هادٍ} (الزمر: 23).
وقال سبحانه وتعالى: {إنّ هذا القُرآنَ يَهدي للتي هي أقومُ ويبشّر المؤمنينَ الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا} (الإسراء: 9).
وقال سبحانه وتعالى: {ونُنزّل من القُرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين} (الإسراء: 82)،
وقال سبحانه وتعالى: {وإنه لكتابٌ عزيزٌ لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد} (فصلت: 41-42).
وغيرها من الآيات الكثيرة التي دلت على فضل الكتاب العزيز عامة، وفي الأحاديث النبوية أيضا فضائل كثيرة للقرآن، كقول الرَسُولَ
صلى الله عليه وسلم
: « اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ...».

وغيره مما سيأتي ذكره في هذا الكتاب المبارك.
وهذه الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة تدل على أن القرآن متفاضلٌ، يعني بعضه أفضل من بعض، وهو قول عامة أهل العلم، من أهل الحديث وغيرهم، ومنهم هاهنا: الإمامان: الإمام مسلم ثم الإمام المنذري؛ إذ قولهم في كتابهم هذا: كتاب فضائل القرآن، يدل على اختيارهم أن هناك بعض السور في القرآن أفضل من غيرها.
فإذا قال القائل: القرآن كلُّه كلام الله تعالى، وكله مما نزل به جبريل عليه السلام على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فلماذا يكون بعضه أفضل من بعض؟!
- والجواب أن نقول: التفاضل يكون بحسب موضوع السورة، فالسورة التي تتحدث عن الله سبحانه وتعالى، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله، تكون أعظم بكثير من غيرها؛ لأن الموضوع يشرف بمتعلقه، فإذا تعلق الموضوع بشيء عظيم، كان الموضوع عظيما، وهكذا السور القرآنية.
- وأيضا: فبعض السور تجمع المعاني الجليلة على قصر آياتها، ومن ذلك سورة الفاتحة، التي تسمى بأم الكتاب، وتسمى بفاتحة الكتاب، وتسمى بأم القرآن، وتسمى بالشفاء، وتسمى بالكافية، وتسمى بالرقية أو بالراقية، وغيرها من الأسماء التي وردت في السنة النبوية.
وكما قلنا: إن القرآن أفضل من التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله ، وكلها كلام الله تعالى كما هو معلوم.
وقال النووي رحمه الله: «والمختار جواز قول هذه الآية أو هذه السورة أعظم وأفضل».
ثم قال: «بمعنى أن الثواب المتعلق بها أكثر! وهو معنى الحديث، والله أعلم». انتهى
- قلت: وفيه نوع تأويل لمعنى الحديث، والصحيح الأول، وأن كلام الله تعالى بعضه أفضل من بعض، ولا يقتضي ذلك نقصا لصفات الله وكلامه.
وقد أورد المنذري فضائل السور من صحيح مسلم بدءاً من فاتحة الكتاب، حتى نهاية القرآن حسب الترتيب في المصحف الشريف ثمانية وعشرين حديثا، فأورد في باب فاتحة الكتاب حديث ابن عباس رضي الله عنهما، الذي رواه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين (806) وبوب عليه النووي: باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة.
وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بينما جبريلُ قاعدٌ عند النبي
صلى الله عليه وسلم
« قد يكون تمثل له في صورة رجل أو غيره، وجلس عند النبي
صلى الله عليه وسلم
.

قوله: «سمع نقيضا من فوقه» والنقيض هو: صوت الباب إذا فتح.
- قوله: «فرفع رأسه فقال - أي جبريل -: هذا بابٌ من السماء فتح اليوم لم يفتح قطٌ إلا اليوم» قال جبريل للنبي
صلى الله عليه وسلم
لما فتح باب من أبواب السماء: هذا الباب لم يفتح قبل هذا اليوم، وهذا يدل على علمه بأحوال السماء، ومعرفته بأبوابها، ورئاسته للملائكة.

قوله: «فنزل منه ملكٌ، فقال جبريل: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلى اليوم» يعني لم يسبق له أن نزل إلى الأرض إلا هذا اليوم.
قوله: « فسلم وقال: « أبشر بنورين أوتيتهما» أي: لما نزل إلى الأرض جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم بشره قائلا له: « أبشر بنورين « فيه وصف للقرآن وسوره بأنها نورٌ، والقرآن نور كما وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك في أكثر من موضع من كتابه سبحانه، قال تعالى: {قد جاءكم بُرهانٌ من ربكم وأنزلنا إليكم نُوراً مبينا} (النساء: 174).

{قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ يَهدي به الله من اتبع رضوانه سبلَ السلام ويُخرجهم من الظلماتِ إلى النورِ بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم} (المائدة: 16).
{وكذلك أوحينا إليك روحاً من أَمرنا ما كنتَ تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ ولكن جعلناه ُنوراً نهدي به من نشاءُ من عبادنا} (الشورى: 52).
فالقرآن قد اشتمل على العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، والأمر بكل عدل وخير وإحسان، والنهي عن كل شر وظلم وطغيان، والناس إذا لم يستضيئوا بأنواره هم في ظلام عظيم، وشقاء وبلاء.
وربنا سبحانه وتعالى يهدي لنوره من يشاء من عباده، كما قال: {يَهدي اللهُ لنوره من يشاء} (النور: 35) ممن يعلم طهره ونقاء قلبه.
- قوله: «لم يؤتهما نبيٌ قبلك» فبشره بنورين ثم بين له أن هذين النورين لم يؤتهما نبي قبله، أي هذا من خصوصيات النبي
صلى الله عليه وسلم
التي اختص بها، فمما جعله ربنا عز وجل خاصا بنبي هذه الأمة نزول فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، وهذا يدل على أن فاتحة الكتاب لم ينزل مثلها قط، وسميت فاتحة الكتاب لأنه يفتتح بها القرآن، فأول ما يستفتح القارئ التلاوة سورة الفاتحة، وأيضا تستفتح بها الصلوات.

- قوله: «وخواتيم سورة البقرة» وهما الآيتان الأخيرتان من سورة البقرة، وهذا أيضا مما اختص الله تعالى به نبينا محمدا
صلى الله عليه وسلم
، فلم ينزل مثل الفاتحة ولا خواتيم البقرة فيما سبق من الكتب.

- قال: «لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته» يعني: إلا أعطيت ثوابه، أو أعطاك الله سبحانه وتعالى ما اشتمل عليه من الدعاء، فإن الفاتحة فيها ثناءٌ ودعاء، فقوله سبحانه {الحمدُ لله ربّ العالمين الرحمنِ الرحيم مالك يوم الدين} هذا كله ثناءٌ على الله سبحانه وتعالى، ثم قال: {إياك نعبدُ وإياك نستعين} هذا فيه تخصيصُ الله عز وجل بالعبادة دون ما سواه، وتخصيصه بالاستعانة أيضا بقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} ثم جاء الدعاء فقال: {اهْدنا الصّراط المستقيمَ صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالين} وهذا دعاءٌ يدعو به المصلي كل يوم في الفرائض سبع عشرة مرة، غير السنن الرواتب والنوافل، فهو إذاً في كل يوم يدعو بهذا الدعاء أكثر من عشرين مرة أو أكثر، إذا هو داوم على السنن الرواتب وغيرها، يسأل الله سبحانه وتعالى الهداية إلى الصراط المستقيم.
- وكذلك خواتيم سورة البقرة فيها ثناءٌ على الله سبحانه وتعالى ودعاء، فقوله: {لا يكلّف الله نفساً إلا ُوسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تُؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا...} إلى آخر الآية، كله دعاء وثناء على الله سبحانه وتعالى، وطلب منه تعالى.
وقد ورد في فضل الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة أحاديث أخر، كما ورد في سورة الفاتحة أحاديث أخر.
- ففي سورة الفاتحة: روى الإمام البخاري في صحيحه: من حديث أبي سعيد بن المعلى: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال له: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، فلما أراد أن يخرج من المسجد، قال: «هي فاتحة الكتاب، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».

فسورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن، وذلك لأنها مشتملة على جميع مقاصد القرآن، ومن تدبرها وأمعن النظر فيها، وجد فيها توحيد الألوهية والربوبية، والإيمان بالله تعالى وبأسمائه الحسنى، والإيمان بالرسل والنبيين، واليوم الآخر والحساب، وغير ذلك مما حوته هذه السورة من الهداية إلى الشريعة المحمدية، التي هي وسطٌ بين شريعة المغضوب عليهم والضالين.
فلا عجب أن تكون أعظم سورة في كتاب الله تبارك وتعالى.
- وجاء في الحديث الآخر: قوله [: «والذي نفسي بيده، ما أنزلَ اللهُ في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، إنها السّبع المثاني» رواه الترمذي والنسائي من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه.
- وجاء هنا في الحديث: «أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك»، ففاتحة الكتاب ما نزل مثلها في الكتب السماوية السابقة أبدا.
- وكذلك خواتيم سورة البقرة: ورد فيها قوله
صلى الله عليه وسلم
: «إن الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يَخلق السموات والأرض بألفي عام، وهو عند العرش، وإنه أنزل منه آيتين خَتَم بهما سورة البقرة، ولا يُقرآن في دارٍ ثلاث ليال فيقربها شيطانٌ» رواه أحمد (4/274) والترمذي في فضائل القرآن (2882) والنسائي في عمل اليوم (967).

- وقال أيضا
صلى الله عليه وسلم
في الحديث الصحيحين: «من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة كفتاه» ومعنى «كفتاه» قيل: من كل سوء ومن كل شر، فمن يقرأ هاتين الآيتين في ليلة - والليلة تبدأ من بعد المغرب - فمن قرأها في أول الليل حفظته إلى الصباح، ولم يمسسه سوء ولا شيطان حتى يصبح. وقيل: كفتاه عن قيام الليل، فمن قرأ هاتين الآيتين في ركعة أو في ركعتين كفتاه من قيام الليل، وهذا ببركة ما في هاتين الآيتين العظيمتين، واللتين أوتيهما النبي
صلى الله عليه وسلم
من كنز تحت العرش، كما جاء في هذا الحديث الصحيح السابق.

- ومن الفوائد في هذا الحديث: أن السماء لها أبواب، وأن أبوابها إذا فتحت لها نقيض وصوت يسمعه من شاء الله أن يسمعه.
وأن الملائكة تعرج وتنزل من هذه الأبواب، وأن القرآن ينزل من السماء بواسطة جبريل عليه السلام، وأما قول جبريل هنا: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، وبشره بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة، فقد قيل: إن جبريل نزل بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة قبل هذا في مكة، ثم نزل هذا الملك يخبر الرسول
صلى الله عليه وسلم
بفضل هذه السورة، وهاتين الآيتين.

- وفيه أيضا: فضل قراءة القرآن، وأن الأجر بكل حرف، فلن تقرأ بحرف منه إلا أعطيت أجره، وليس على السورة فقط، ولا على الجملة من القرآن، بل على الحرف الواحد منه. وهذا من فضل الله تعالى على عبادة.
وروى الإمام الترمذي : أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به عشرُ حسنات، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرفٌ، ولام حرف، وميم حرف».

والله تعالى أعلم

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-04-2024, 06:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (2)

باب: في قراءة القرآن وسورة البقرة وآل عمران

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2096.عن أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ». قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ.
- الشرح: قال المنذري: باب في قراءة القرآن وسورة البقرة وآل عمران، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في الموضع السابق وهو كتاب صلاة المسافرين (804) وبوب عليه النووي: باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.
- وقوله: «سورة البقرة وآل عمران» في هذا دليل على جواز أن يقال: سورة كذا، كسورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة المائدة، وهكذا.
هذا الذي عليه أكثر السلف، وأنه لا كراهة فيه، وقد كرهه بعض المتقدمين، وقال: إنما يقال السورة التي يُذكر فيها البقرة، السورة التي يذكر فيها آل عمران، السورة التي يذكر فيها النساء، السورة التي تذكر فيها المائدة، وعلى هذا جرى الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره.
- لكن الصواب هو: القول الأول، وبه قال الجمهور؛ لأن المعنى معلوم، فإذا قلنا: سورة البقرة، فالجميع يعلم أن المقصود من قولنا: سورة البقرة، أي السورة التي ذكرت فيها قصة البقرة، وإذا قلنا: سورة آل عمران، فهذا يعني السورة التي ذكرت فيها قصة امرأة عمران أو تفضيل آل عمران على العالمين، وهكذا في بقية السور.
أما الحديث فعن أبي أُمامة الباهلي، واسمه صُدّي بن عجلان، صحابي مشهور رضي الله عنه، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين.
- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» في هذا دليل على أن القرآن يشفع لأصحابه يوم القيامة، وأصحابه هم الذين يتلونه ويقرءونه ويحفظونه ويدرسونه ويفهمونه ويعلمونه، كل هؤلاء أصحاب القرآن، فهذه فضيلة لأهل القرآن؛ ولذلك حثّ الرسول صلى الله عليه وسلم على قراءته وتلاوته، والعمل بما فيه، وأخرج الإمام ابن حبان في صحيحه: من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القرآن شافعٌ مشفّع، وماحِلٌ مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار». ومعنى « ماحل» يعني: شاهد، فالذي يجعل القرآن أمامه، ويقتدي به، ويعمل بأحكامه، ويعظمه ويجله، ويجعله نصب عينه، فإنه يقوده إلى الجنة، ومن جعل القرآن خلف ظهره، ونسيه وتناساه، واشتغل بغيره، وأعرض عن العمل به، فإنه يدفعه في قفاه في جهنم والعياذ بالله، كما قال تعالى: {فإما يأتينّكم منّي هُدًى فمنْ اتبّعَ هداي فلا يضلُّ ولا يشقى ومنْ أعرضَ عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكاً ونحشره يومَ القيامة أعمى} (طه: 123-124).
- وقال تعالى عن اليهود: {ولما جاءهم رسولٌ من عند الله مصدّقٌ لما معهم نَبذَ فريقٌ من الذين أُوتوا الكتبَ كتابَ الله وراءَ ظُهورهم كأنهم لا يعلمون واتّبعوا ما تتلو الشياطين} (البقرة: 101 – 102).
- وقال صلى الله عليه وسلم أيضا في شفاعة القرآن: «الصيامُ والقرآن يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامة، يقولُ الصيام: أي ربّ، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآنُ: ربّ منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، فيشفعان» رواه أحمد والطبراني.
- قوله: «اقرءوا الزهراوين» والزهراوان مثنى زهراء، والزهراء هي المنيرة المضيئة، وسميت البقرة وآل عمران بالزهراوين لعظيم نورهما على أصحابهما في الدنيا والآخرة، وكثرة هدايتهما، وكثير أجرهما في الدنيا والآخرة.
- قوله: «فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان» الغمامة والغياية كلاهما بمعنى واحد، فالغمامة هي ما تغم الإنسان يعني تغطيه وتستره عن السماء، والغياية كذلك، وهي الظله كالغمامة فوق الرأس، من سحابة أو غيرها، فالمعنى: تأتي هاتان السورتان كأنهما غمامتان يوم القيامة تظلان صاحبهما من حرّ الشمس في الموقف.
- قوله: «أو كأنهما فرقان من طير صواف» فرقان: يعني قطعتان أو جماعتان من طير، أي: تأتي هاتان السورتان يوم القيامة كأنهما جماعتان من الطير، وفي رواية «حزقان من طير» والمعنى واحد، والطير الصواف هي الطير التي بسطت أجنحتها في السماء أثناء الطيران، فالطير في طيرانه يبسط جناحيه ويقبض، فيوم القيامة تأتي هاتان السورتان كالطير باسطات أجنحتها على أصحابها، فتظلل أصحابها من حر الشمس يوم القيامة.
- قوله: «تحاجان عن أصحابهما» أي: إن البقرة وآل عمران تحاجان أي تجادلان عن أصحابهما، وتقيمان الحجة لهم، وتدافعان عن المستكثر من قراءتهما، وهذا الحديث ظاهره أن البقرة وآل عمران تجسمان يوم القيامة كالطير أو كالغمام، أو كأنهما فرقان من طير، وهذا أمر ليس بعجيب على قدرة الله سبحانه وتعالى؛ فإنه قادر على أن يجعل الأشياء المعنوية أشياء حسية، كما جاء في كثير من النصوص، فقد ورد في الحديث الصحيح: «أن الموت ُيجاء به يوم القيامة على صورة كبش أملح، ويذبح بين الجنة والنار...» الحديث، فانقلب هذا الشيء المعنوي إلى شيء مادي، كما ذكرنا أن الصيام والقرآن يشفعان لأصحابهما يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، مع أن هذه الأشياء معنوية، إلا أن الله سبحانه وتعالى يجعلها أشياء حسية، قادرة على النطق بحجج، والدفاع عن صاحبها يوم القيامة.
قال الشوكاني: وذلك غير مستبعد من قدرة القادر القوي الذي يقول للشيء: كن فيكون.
- قوله: «اقرءوا سورةَ البقرة؛ فإن أخذها بركة» هذه السورة العظيمة أخذها بركة، وذلك لكثرة ما فيها من المنافع العظيمة، والخير الكثير، والحجج والأحكام والمواعظ والفوائد والعبر، والله تعالى قد ذكر جملة عظيمة وافرة من الأحكام الشرعية في هذه السورة، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يبقون في حفظ هذه السورة مدة طويلة، فقد ورد في الموطأ: أن ابن عمر يقول: مكثت في حفظ سورة البقرة ثماني سنين، وذلك أنهم كانوا يحفظون الآيات والأحكام ولا يكتفون بحفظ الآية فقط، وإنما يتعلمون ما فيها من العقائد والتوحيد والإيمان، والأحكام الفقهية، وما فيها من العمل، أي:كيف يكون العمل بهذه الأحكام التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات.
- وقال أنس رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جدَّ فينا. رواه أحمد. جد يعني: صار عظيما فينا؛ لكونه أصبح عالما من العلماء، فمن قرأ البقرة وآل عمران صار من العلماء، وقراءتهما هنا ليست مجرد التلاوة كما قلنا؛ لأن التلاوة يمكن للرجل أن تكون في ساعة من الزمان، إنما المقصود أنه يقرأ البقرة وآل عمران قراءة تدبر وفهم، ويتعلم أحكامها وكيفية العمل بهذه الأحكام.
ومن تدبر البقرة وآل عمران رأى فيهما جملة عظيمة وافرة من العقائد وأركان الإيمان والإسلام والإحسان، والأحكام الفقهية والعملية والشرعية، من أحكام العبادات من الصلاة والقبلة والطهارة والصيام والحج والعمرة، ونظام الأسرة المسلمة من الزواج والطلاق والعدة والميراث، وأحكام الدولة المسلمة وأحوال الحرب والسلم والعهود، ثم ما فيها من قصص أهل الكتاب وأحوالهم مع أنبيائهم وما في ذلك من المواعظ والعبر، وغير ذلك كثير، مما يفوق العد والحصر، حتى إنك إذا رجعت إلى كتب الأحكام (أحكام القرآن) ككناب القاضي ابن العربي، أو كتاب الجصاص أو تفسير القرطبي وغيرها، ستجد أن سورة البقرة قد استحوذت على الجل الأكبر من أحكام الإسلام، وهكذا الأحكام في سورة آل عمران؛ ولذا كان أخذها بركة على العبد، فيبارك الله تعالى في علمه وإيمانه وفهمه.
- قوله: «وتركها حسرة» أي: من اشتغل عنها بغيرها، فإنه سيتحسر على هذا إما في الدنيا وإما في الآخرة، وذلك إذا رأى ثواب أهل القرآن يوم القيامة، فإنه سيتحسر على هذا الهجر للقرآن، وما فاته من الفضل والدرجات العلا، وكثير من المسلمين اليوم – للأسف الشديد - اشتغلوا بالدنيا وبتعلم علوم الدنيا، وأنفقوا الأوقات الكثيرة في تعلم العلوم المادية كالطب والهندسة والحاسوب (الكمبيوتر) والتجارات والصناعات وغفلوا عن القرآن الكريم، والذكر الحكيم، والنور المبين، الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو كلام الله عز وجل الذي هو أفضل الكلام، كلام العلي القدير، إلا من رحم الله.
- قوله: «ولا تستطيعها البطلة» قال معاوية - وهو أحد رواة الحديث -: «بلغني أن البطلة: السحرة» فمعاوية وهو ابن سلام أبو سلام الدمشقي وهو ثقة، وهو أحد رواة الحديث: أن البطلة هم السحرة، وهم ممن يوصفون بالباطل ويقعون في الكفر، فقراءة سورة البقرة مما يبطل السحر، ويفسد أعمال السحرة من الإنس والجن بإذن الله تعالى.
- وأيضا معتى قوله: «ولا تستطيعها البطلة» أي: لا يستطيعها أهل الباطل على اختلافهم ومللهم، وهم الذين يأتون بالباطل ويدعون إليه، فمن تعلم سورة البقرة وآل عمران، صار قادرا على الرد على أهل الباطل؛ لأنه عرف الحق بتفصيل، وما كان عليه أهل الباطل من يهود ونصارى ومشركين وملاحدة، وما دام أنه عرف الحق الذي في سورة البقرة وآل عمران فهو قادر على الرد على أهل الباطل، فلا يستطيع أهل الباطل أن يتسلطوا عليه، ولا أن يغلبوه.
- وفي هذا الحديث: دليل على أن الذي يشتغل بالقرآن تلاوة وقراءة، وتدبراً وتفكرا وتفسيرا، وتعليماً وتعلما، ليلاً ونهارا، يجازيه الله سبحانه وتعالى أفضل الجزاء وأعظم الإجابة يوم القيامة، وقد ورد في الحديث عند الترمذي: «مَن شغله القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم وحسنه آخرون، ومعنى هذا الحديث: أن الذي يشتغل بالقرآن وبالعلم به، يعطيه الله سبحانه وتعالى أفضل ما يعطي السائلين الداعين، الذين يسألون الله: اللهم أعطني كذا، اللهم أسألك كذا، فهذا الذي اشتغل بالعلم وبالقرآن وبالتفسير، يعطيه الله أفضل ما يعطي هؤلاء الذين يسألونه لأنه اشتغل بكلام الله.
- وجاء عن عبد الله بن خباب رضي الله عنهأنه قال: فضلُ كلام الله على سائر الكلام، كفضل الله على سائر خلقه. رواه عبدالله في السنة.
- أي: إذا أردت أن تعلم فضل القرآن على سائر الكلام، فتذكر أنه كلام الله سبحانه، والله سبحانه وتعالى أعظم من كل شي فكلامه عظيم كذلك، ولأن الكلام صفة من صفات ربنا سبحانه وتعالى، فكلامك أنت كلام يليق بك وبعلمك، وكلام الله سبحانه وتعالى يليق بجلاله وكماله وجماله، وقد نزل بعلم الله، وشاهدا بعظمة الله، كما قال سبحانه وتعالى: {لكنِ اللهُ يَشهد بما أَنزلَ إليك أَنزله بعلمهِ والملائكةُ يَشهدون وكفى بالله شهيدا} (النساء: 166).
فكلام الله تعالى نزل بعلمه وبحكمته ورحمته، وعظمته وقدرته على كل شيء، ومن كان من أهل القرآن فإنه يغلب أهل الباطل جميعا؛ فإن من تعلم القرآن صار بيده أعظم الحجج والبراهين على إبطال كل باطل، وإذا كان من أخذ بسورة البقرة استطاع أن يبطل بها كل باطل، ودعوة كل مبطل، فكيف إذا تعلم القرآن كله؟!! فلا شك أنه يكون حبراً من الأحبار الربانيين، وعالما من العلماء المتبحرين، قال سبحانه: {ومنْ يؤتَ الحكمةَ فقد أُوتي خيراً كثيراً} (البفرة: 269). والقرآن معدن الحكمة والعلم.
وينبغي في الحقيقة أن يندم الإنسان على تضييع الأوقات في غير تعلم القرآن وتفسيره، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر حياته: ندمت على الأوقات التي ضيعتها في غير تفسير القرآن، وودت أني أمضيت عمري كله في تفسير القرآن.
هذه كلمات قالها شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أمضى عمره في العلم والبحث والقراءة والكتابة والتأليف، فما أمضى عمره في تجارة ولا في زراعة ولا في حساب، وإنما أمضى عمره في القرآن والسنة وعلوم السلف، ونصرة عقيدة أهل السنة والجماعة، والدفاع عنها، والرد على أهل البدع بأنواعهم، ومع ذلك يقول: ندمت على أنني ما أمضيت عمري كله في دراسة القرآن!
نسأل الله تعالى أن ينفعنا بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأن يجعلنا من العلماء به، العاملين بآياته، إنه هو السميع العليم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-04-2024, 02:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (3)

باب: في فضل آية الكرسي

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2097. عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: « يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ « قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: « يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ « قَالَ قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِر».
الشرح:
قال المؤلف المنذري -رحمه الله- في مختصر صحيح مسلم: باب فضل آية الكرسي، وقد رواه مسلم في كتاب المسافرين وقصرها (810) وبوب عليه النووي: باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
وكما ذكرنا في الحديث السابق أن هذه الأحاديث وأمثالها حجة لمن قال بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، كما أن القرآن يفضل سائر الكتب السماوية وقد منع منه الأشاعرة وجماعة من الفقهاء؟! وقالوا: لأن تفضيل بعض القرآن على بعض يقتضي نقص المفضول، وليس في كلام الله عز وجل نقص؟!
لكن هذا القول مردود؛ لأنّ الكلام يشرف بشرف موضوعه، فإذا كان الكلام عن الله عز وجل وصفاته ونعوته والثناء عليه، كان هذا أعظم وأفضل من غيره من السور والآيات، وهذا القول هو المختار عند عامة أهل العلم.
قال الإمام النووي رحمه الله: والمختار جواز قول هذه الآية أو السورة أعظم وأفضل بمعنى أن الثواب المتعلق بها أكثر، وهذا معنى الحديث، والله أعلم.
هذا اختيار الإمام النووي إذ جعل الأفضلية من جهة الثواب، والحقيقة أن هذا لا يمنع من القول بأن هذه الآية أو أن هذه السورة أعظم وأفضل من غيرها من السور، والقول بذلك لا يقتضي أن في الآخر نقصا كما بينا.
أما حديث الباب فهو عن أبي بن كعب الأنصاري رضي الله عنه، ابن قيس بن عبيد بن النجار الخزرجي، قال ابن حجر: سيد القراء.
- قلت: وهو أحد القراء الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « خُذُوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى حذيفة « رواه أحمد والترمذي.
- قوله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا المنذر» وهي كنيته «أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟» يعني: هل تدري أي آية معك مما تحفظ من كتاب الله عز وجل هي أعظم.
- قال: قلت: الله ورسوله أعلم. وهذا من أدب الصحابة رضي الله عنهم، أنهم دائما يتركون الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتقدمون بين يديه، كما أمرهم الله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لا تُقدِموا بين يَدي الله ورسوله} (الحجرات: 1). وأخذ منه أهل العلم: أنه يستحب للمتعلم ألا يكثر الكلام بين يدي العالم، كي يكون ما يستفيد منه، أو ما يسمع منه أكثر مما هو يتكلم بين يديه.
- فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال، وقال له: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم» لما كرر عليه السؤال عرف أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد منه أن يتكلم بما يعلم.
قال قلت: {اللهُ لا إله إلا هُو الحيّ القيوم} أي: إن هذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله تبارك وتعالى.
وورد أيضا في الحديث الصحيح في فضلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وكّل أبا هريرة بحفظ زكاة الفطر في رمضان، فأتاه من يأخذ من هذه الزكاة ويحثو منه... إلى أن أمسك به في الليلة الثالثة وقال له: ألا أعلمك شيئاً ينفعك الله به، وكانوا أحرص شيء على الخير، قال: نعم، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، قال عليه الصلاة والسلام: «صدقك وهو كذوب».
- أي: إن هذه الكلمة صدق وحقٌ، وإنْ كان الذي تكلم بها كذوبا، وهو الشيطان؛ فإنّ من قرأ هذه الآية عند نومه، وكّل الله به حافظا من الملائكة يحرسه، ولا يقربه شيطانٌ حتى يصبح.
- وقال أهل العلم: إنما كانت هذه الآية أعظم آية في القرآن؛ لأنها قد تميزت بذكر أصول الأسماء الحسنى، والصفات العلا لله عز وجل، فأصول الأسماء الحسنى والصفات العلا ذكرت في هذه الآية، فإن هذه الآية ذكر فيها خمسة أسماء من أسماء الله الحسنى، وهي: في أولها: الله، الحي، القيوم، وختمت: بالعلي العظيم، فهذه خمسة أسماء لله تعالى، وهذه الأسماء تدل على الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة، وهذه الصفات السبعة هي أصول الأسماء الحسنى، والصفات العلى، فاسمه «الله» اسم علم ترجع إليه جميع الأسماء الحسنى، وهو الاسم الأعظم كما هو القول الصحيح وقال به عند كثير من أهل العلم. و»الحي» ترجع إليه جميع الأسماء والصفات، و»القيوم» أيضا يدل على كمال قيامه، وبعده عن الغفلة والنوم والمرض وترجع إلى «الحي القيوم» جميع صفات الكمال والجلال.
وأما الصفات فبالتأمل في هذه الآية - كما ذكر شيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله - قال: بالتأمل فإن هذه الآية بالإضافة إلى الأسماء الحسنى الخمسة قد حوت ستا وعشرين صفة لله سبحانه وتعالى.
فمن قرأ هذه الآية متمعناً، متدبراً ما فيها، فإنه لا يقرب قارئها شيطان حتى يصبح، وبعض الناس يقول: أنا أقرأ هذه الآية، وبعد ذلك أحلم أحلاما مزعجة وكوابيس؟! نقول: العيب فيك أنت، فالسلاح قوي ولكن الذي أخذ بالسلاح ضعيف، فما استطاع أن ينتفع به إلا قليلا.
وورد في فضلها حديث عند الترمذي (1348) قال عليه الصلاة والسلام: «لكل شيء سَنَام، وإنّ سنام القرآن سورة البقرة، فيها آية هي سيدة آي القرآن، ولا تقرأ في بيت وفيه شيطان إلا خرج منه، هي: آية الكرسي» ورواه ابن حبان أيضا لكن فيه حكيم بن جبير ضعيف عند عامة أهل العلم.
لكن قوله: «لكل شيء سَنَامٌ، وإنّ سنام القرآن سورة البقرة» حسن لغيره لمجيئه من طريق آخر يشهد له (انظر صحيح الترغيب 1461، 1462).
أما الضعيف فتسمية «آية الكرسي» بسيدة آي القرآن، ولم يثبت مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كانت هذه الآية لها السيادة على جميع آي القرآن بما لها من الشرف العظيم المذكور في هذا الحديث وغيره بأنها أعظم آية.
وفي فضلها أيضا: حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عند النسائي وابن حبان: «من قرأ آية الكرسي دُبُر كل صلاةٍ مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت».
وفي فضائلها أحاديث وآثار أخرى.
- قوله: «فضرب في صدري، وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر» أي إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في صدر أبي بن كعب كالفرح والمسرور بإجابته وموافقته للصواب.
- قوله: «ليهنك العمل يا أبا المنذر» يعني لتهنأ بهذا العلم الكثير الغزير، كأنه يهنئه صلى الله عليه وسلم بذلك، وهذا فيه تبجيل النبي صلى الله عليه وسلم للعلماء من أصحابه وتكريمهم، وفيه جواز مدحهم، ومدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحة ولم يخف عليه الإعجاب بنفسه لكمال إيمانه وتقواه، ورسوخه في العلم.
- والحديث فيه أيضا: منقبة عظيمة لأبي بن كعب رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى عليه وعلى كثرة علمه، وعلى فهمه في كتاب الله تبارك وتعالى.
باب: في خواتيم سورة البقرة
2098. عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ».
الشرح:
الباب الرابع في كتاب فضائل القرآن من مختصر مسلم باب في خواتيم سورة البقرة، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين (808) وبوب عليه النووي: باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة القرآن، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة.
وهو عن أبي مسعود واسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، صحابي جليل، مات قبل الأربعين، وقيل بعدها.
- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وقد اختلف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم «كفتاه» فقال بعضهم: أجزأته عن قيام الليل، أي كفتاه عن قيام الليل، والليلة متى تبدأ؟ هل بعد العشاء أم بعد المغرب؟ على قولين لأهل العلم، فمنهم من قال: إن الليل يبدأ من بعد العشاء إلى الفجر، ومنهم من قال: إن الليل يبدأ من بعد المغرب إلى الفجر، وهذا أصح، فمن قرأ هاتين الآيتين في وقت الليلة كفتاه عن قيام الليل.
- وقيل: كفتاه شرّ كل شيطان، فلا يقربه في تلك الليلة، هذا قول ثان وقوي، والقول الثالث: كفتاه ما يكون من الآفات والشرور في تلك الليلة.
- والرابع: كفتاه حسبا وأجرا وفضلا وثوابا قراءتها في تلك الليلة.
- وقال الإمام الشوكاني: والأولى حمل كفتاه على جميع هذه المعاني؛ لأن حذف المتعلق مشعرٌ بالتعميم، كما تقرر في علم المعاني. انتهى.
- أي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قادرا على أن يقول كفتاه من كل شر أو من قيام الليل، لكن لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كفتاه» وسكت، دلّ على السعة والتعميم، وأنه يشمل كل هذه المعاني التي ذكرناها جميعا، وقرره الإمام النووي فقال: يحتمل الجميع. انتهى.
وسواء قرأ بها المصلي في صلاته، أو تلاها تلاوة، أو قرأها وهو ماشٍ، أو وهو في بيته أو في عمله، حصل له هذا الأجر، والحمد لله, ومما ثبت في فضل هاتين الآيتين: ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، وهو عند العرش، وأنه أنزل منه آيتين خَتم بهما سورة البقرة، ولا يُقرآن في دارٍ ثلاثَ ليالٍ فيقربها الشيطان» أي: لا تقرأ هاتان الآيتان في دار ثلاث ليال متوالية، فيقرب تلك الدار شيطان، أي إنها تطرد الشيطان عن البيت.
- كما ورد في الحديث أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنّ الشيطان ينَفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم (1/539) وأحمد.
ومما ورد فيها ما مر معنا في حديث ابن عباس السابق قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم،لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ من قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة،لم تقرأ بحرف منهما إلا أُعطيته «.
وفي هاتين الآيتين من المعاني:
بيان أركان الإيمان بالله تعالى، وشهادة الله تعالى أن الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين آمنوا بذلك كله، وأنهم آمنوا بما أنزل الله، وأنهم لا يفرقون في الإيمان بالرسل، بأن يؤمنوا ببعض الرسل ويكفرون ببعض، كما يفعل أهل الكتاب، وأنهم استجابوا لربهم سبحانه وتعالى أعظم استجابة، وقالوا مقرين: سمعنا وأطعنا، ثم اعترفوا بتقصيرهم لغلبة الطباع البشرية، فقالوا: غفرانك ربنا، ثم أقروا برجوعهم ومعادهم إلى الله فقالوا: وإليك المصير.
ثم بين الله سبحانه وتعالى أنه لا يكلّف نفسا إلا وسعها، وهذا يتضمن أن العباد مطيقون جميع ما كلفهم الله سبحانه، وأن العبد لا يؤاخذ بكسب غيره {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. وأن الله عز وجل برحمته وإحسانه لا يؤاخذ عباده إنْ أخطؤوا أو نسوا، وأنه عز وجل لا يعذّب نفسا إلا بما كسبت وعملت، وأن ثمرة العمل عائدة عليهم، فلهم بذلك الثواب الجزيل عنده.
وفيه: أن للعباد كسبا وسعيا ردا على الجبرية.
وفي ختامها سألوا الله تعالى العفو، والمغفرة، والرحمة، والنصر على الأعداء، وبهذه الأربعة تتم النعمة المطلقة على العباد، فلا يصفو عيشٌ في الدنيا إلا بها، وعليها مدار السعادة والفلاح، فنسال الله تعالى أن يغفر لنا وأن يعفو عنا ويرحما وينصرنا على عدونا. (ينظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 14/133-141)
والله تعالى أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 14-04-2024, 02:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

(4) باب: فضل سورة الكهف

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2099. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ».
وفي رواية: « مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ «.
الشرح: الباب الخامس باب: فضل سورة الكهف وهي سورة مكية، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في الكتاب السابق وهو كتاب صلاة المسافرين (809) وبوب عليه النووي ( 6/92): باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
- قال عن أبي الدرداء وهو الصحابي المشهور واسمه عويمر بن زيد ابن قيس الأنصاري، مشهور بكنيته، أول مشاهده أحد، وكان عابدا، مات في أواخر خلافة عثمان، وقيل عاش بعدها.
- قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» حفظ، أي: عن ظهر قلب.
واختلف العلماء في السبب الذي من أجله قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها ما قال؟
- فقال الإمام النووي: سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات، فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال، وكذا في آخرها قوله تعالى: {أفحسبَ الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء....} انتهى. يعني: من هذه الآية إلى قوله: {فمن كانَ يرجو لقاء ربّه فليعملْ عمل صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربّه أحدا} الكهف: (102 - 110).
فهذه السورة المباركة كما قال أهل العلم: ذكر الله سبحانه وتعالى فيها أربع فتن، أولها: فتنة الدّين، ثم فتنة المال، ثم فتنة العلم، ثم فتنة الملك والجاه والسلطان. أما فتنة الدين: فهي ما تعرض له أصحاب الكهف من فتنة في دينهم، قال سبحانه: {إنهم فتيةٌ آمنوا بربهم وزدْناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا ربّ السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذاً شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين...} (الكهف: 9)، وما بعدها.
فقد تعرضوا لفتنة عظيمة في دينهم، مع صغر سنّهم، وقلة الناصر لهم والمعين، والله سبحانه وتعالى بدأ بذكر فتنة الدين؛ لأنها أعظم الفتن، ولأن الدين هو أغلى ما يملك الإنسان، ويجب أن يحافظ عليه، أكثر مما يحافظ على ماله وولده وجاهه وسلطانه وكل شيء، ولذلك بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر فتنة أصحاب الكهف، وكيف أن الله سبحانه وتعالى حفظ دينهم وتوحيدهم وإيمانهم، وعصمهم باللجوء إلى الكهف بعيدا عن فتنة قومهم، وخوفا من إجبارهم على الشرك بالله ومتابعتهم على دينهم، وانضم بعضهم إلى بعض، فإن الصحبة الصالحة مما يعين على التقوى والصلاح، فالله سبحانه وتعالى جعل الصحبة الصالحة سببا للنجاة من الفتن في الدنيا.
ثم ذكر الله تعالى الفتنة الثانية: وهي فتنة المال، في قصة الرجل الذي آتاه الله سبحانه وتعالى جنتين، وفيهما من النخيل والأعناب، والزروع والثمار والأنهار، شيء كثير، كما قال الله تعالى: {واضربْ لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعنابٍ وحففناهما بنخلٍ وجعلنا بينهما زرعاً كلتا الجنتين آتتْ أُكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمرٌ فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ودخلَ جنّته وهو ظالمٌ لنفسه قالَ ما أظنُّ أنْ تَبيد هذه أبداً وما أظنُّ الساعةَ قائمة..} (الكهف: 32-36).
فافتخر على صاحبه بالمال العريض، وكثرة الأنصار من أقارب وخدم وعبيد، وقال: {أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نفراً} (الكهف: 34) حتى ابتلاه الله تبارك وتعالى بذهاب الجنتين، فأزال عنه هذه النعمة لكفره لما قال {ما أظنُّ أن تبيدَ هذه أبدا وما أظنّ الساعة قائمة} (الكهف: 35- 36).
فبدلا من شكره لنعم الله تعالى عليه، كفر بها وكفر بالله، وأنكر الساعة والبعث، وظن أنه مخلد فيما هو فيه من زروع وثمار ونخيل، واغتر بها، وأعجب بالحياة الدنيا وزينتها.
ولا شك أن فتنة الدنيا هي من أعظم الفتن اليوم، بل هي الصنم الذي يعبده كثير من الناس، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: « تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله... » رواه البخاري.
ووقع في ذلك كثير من المسلمين اليوم وللأسف الشديد!
وهو ما خافه نبينا عليه الصلاة والسلام على أمته، إذ يقول: «إنّ مما أخافه عليكم بعدي، ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها» متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: « إنّ الدنيا حلوةٌ خضرةٌ، وإنّ الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدُّنيا واتقوا النساء » رواه مسلم.
وفتنة الدنيا فتنة للجميع، للرجال والنساء، والشاب والشيخ، والصغير والكبير، بخلاف فتنة النساء مثلا فهي للرجال فقط؟! نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة.
- وأما الفتنة الثالثة: فهي فتنة العلم، وذلك في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه خطب خطبة بليغة، كما روى البخاري في صحيحه: فجاءه رجل من بني إسرائيل فقال له: هل تعلم أحدا أعلم في الأرض منك؟ قال: لا! وموسى عليه الصلاة والسلام قال ذلك لأنه نبي الله لبني إسرائيل، وهي الأمة المسلمة الوحيدة على وجه الأرض إذ ذاك، فعتب الله تعالى عليه ذلك إذ لم يرد العلم إليه، أي لماذا لم يقل: الله أعلم؟! فأراد الله أن يبين له أن هناك من عباد الله من هو أعلم منه؟ على الأقل في بعض الأمور وليس في كلها، فأنت قد تكون عالما مبرزا في علم من العلوم، ولكن هناك من يفوقك في علم آخر، فأمره بالبحث عن رجل صالح وهو نبي الله الخضر عليه السلام، وأنه أعلم منه في أمور علمها الله إياها، وأن يسير في الأرض حتى يجده، ويلازمه ويتعلم منه، فوجده وقال له في تواضع جم: {هل أتبعك على أن تُعلمن مما عُلمتَ رُشدا} (الكهف: 66). ولما قال له: {إنك لنْ تستطيع معي صبراً} قال موسى عليه السلام له: {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمرا} (الكهف: 69).
فأطلع على عجب من الأمور الغيبية التي لا يعلمها، من قتل الغلام، وخرق السفينة، وإقامة الجدار.
- وأما الفتنة الرابعة: فهي فتنة الملك والتمكين والجاه العريض والرئاسة، الملك الواسع الذي أوتيه الملك الصالح ذو القرنين، فقد آتاه الله سبحانه وتعالى من كل شيء سبباً، يعني آتاه الله عز وجل كل ما يحتاج إليه في الملك والتمكين، من الجيوش والجند والآلات والسلاح ووسائل فتح البلاد والأقاليم، وقد جال في الأرض وسار حتى بلغ مغرب الشمس، ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس، ومكنه الله تعالى من هؤلاء وهؤلاء، وحكمه فيهم، فأمره بالعدل والإنصاف، بأن يحسن إلى المؤمن الصالح، ويبشره بما له عند الله في الآخرة، وأن يعاقب الكافر المسيء، ويخوفه مما ينتظره في الدار الآخرة من العذاب، فقال مستجيبا لأمر الله تعالى ولم يظلم أو يغتر بقوته ويتعدى حدود الله، قال: {أما مَنْ ظَلم فسوفَ نُعذّبه ثم يُرد إلى ربّه فيعذّبه عذاباً نُكرا وأما من آمنَ وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى وسنقولُ له من أمرنا يُسرا} (الكهف: 87 - 88).
ولا شك أن فتنة السلطان والقوة فتنة عظيمة، هلك بها أقوام كثر، فكم من الناس عندما يكون عنده ملك وقوة، وجند وسلاح، يأخذه الغرور والاستكبار على الناس، فيظلم ويتعدى على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، كما نسمع ونشاهد ذلك من كثير من الطغاة قديما وحديثا، كيف أخذهم الغرور والاستبداد والاستكبار حتى ظلموا من ظلموا، وتسلطوا على من تسلطوا، فكان عاقبة أمرهم خسرا؟!
لكن هذا الملك الصالح قام بما أمره الله عز وجل، فمن ظلم وكفر بالله أدبه بما يليق به، وأما من آمن بالله، واستقام على دين الله، فقال له الحسنى.
كما أنه بما آتاه الله من قوة وتمكين، قام بحماية الناس من فساد قبيلتي يأجوج ومأجوج، وذلك عندما بنى السدّ العظيم بين الجبلين، أعظم بناء وأمنعه، وبه منعهم من الخروج على الناس لإفساد الحرث والنسل، وهو الذي ذكره الله تعالى في أواخر هذه السورة الكريمة. فهذه أربع فتن عظيمة، ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة الكهف.
وأما كون من حفظ «سورة الكهف» فإنه يعصم من فتنة الدجال، فلأن الدجال إذا جاء يفتن الناس في دينهم، يقول لهم متبجحا: أنا ربكم؟؟! فهذه فتنة الدين، كما أن الدجال إذا جاء يفتن الناس في دنياهم، يمر بالقوم يدعوهم إلى نفسه فيكفرون به، فيصبحون ممحلين ليس عندهم شيء، أي: يصيبهم قحط وحاجة وفقر، ويأتي إلى آخرين فيدعوهم إلى نفسه فيؤمنون به، فتخصب أراضيهم وتشبع مواشيهم حتى تمتلئ ضروعها باللبن، فهذه فتنة، ويقول للأرض: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها وتتبعه كأنها يعاسيب النحل، فهذا كله من الفتن التي تكون مع الدجال، فضلاً عن فتنة الملك واغتراره بقوته وجيشه الذي يبلغ به مشارق الأرض ومغاربها.
فمن قرأ سورة الكهف قراءة تدبر وتأمل، ووقف على معاني هذه الفتن العظيمة التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، فإنه يعصم من الدجال كما قال أهل العلم ما فيها من العجائب والآيات من تدبرها لم يفتن بالدجال.
- أما رواية: «من آخر الكهف» فهذه رواية ذكر أهل العلم أن فيها شذوذا، وأن الصحيح هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من حفظ أول عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال».
وأما من أراد أن يحصل له التمام والكمال فعليه بقراءة سورة الكهف كلها يوم الجمعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين» رواه الحاكم والبيهقي.
- وفي رواية: «أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» رواه سعيد ابن منصور في سننه والبيهقي.
فهذه القراءة والفضل والأجر يكون يوم الجمعة فقط، واليوم يبتدئ من بعد الفجر وينتهي بغروب الشمس، وسمعت بعض الإخوة من طلبة العلم يقول: إن سورة الكهف لو قرأها في أي يوم من الأسبوع يحصل له الأجر!!
وهذا القول مخالف لظاهر الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة» فقط، وحتى ليلة الجمعة فيها خلاف؛ لأن رواية: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة» فهذه الزيادة وردت موقوفة على بعض الصحابة، ولم تثبت مرفوعة! وفي ثبوتها نظر.
فبقي هذا الفضل ليوم الجمعة بنص الحديث.
هذا والله تعالى أعلم, وصلى الله وبارك وسلم على نبيه ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14-04-2024, 02:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

(5) فضل قراءة: {قلْ هو الله أحد}

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2099- عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيعجزُ أحدُكم أن يَقرأ في ليلةٍ ثلثَ القرآن؟» قالوا: كيف يَقرأ ثلثَ القرآن؟ قال: «{قلْ هو الله أحد} تَعدلُ ثلث القرآن».
الشرح: الباب السادس باب: فضل سورة الإخلاص وهي سورة مكية، وأورد فيه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقد أخرجه مسلم في الكتاب السابق، وهو كتاب صلاة المسافرين (811) وبوب عليه النووي (6/94) باب فضل قراءة: {قلْ هو الله أحد}.
قوله: «أيعجزُ أحدُكم أن يقرأ في ليلةٍ ثلث القرآن؟» أي: إنه شيءٌ يسير لا يعجز عنه الإنسان لسهولته، وقلة الجهد والزمن الذي يُبذل في قراءتها، فلا يعجز عنه كلُّ أحد. ومع ذلك يتكاسل عنه أكثر الخلق، ويعرضون عنه، مع كثرة ثوابه وفضله، إلا القليل منهم.
وفي رواية البخاري: أنهم شقّ ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك؟! يعني ظنوا أنهم يقرؤون عشرة أجزاء في الليلة، وهو شاق عليهم، فقال لهم عليه الصلاة والسلام موضحا: «الله الواحد الصمد ثلث القرآن».
وقوله هنا «قالوا: كيف يَقرأ ثلث القرآن؟ قال: «{قلْ هو الله أحد} تَعدلُ ثلث القرآن».
وفي الرواية الأخرى لمسلم: «إنّ الله جزّأ القرآنَ ثلاثةَ أجزاء، فجعل: {قل هو الله أحد} جُزءاً من أجزاء القرآن».
وفي رواية ثالثة له: قال لهم صلى الله عليه وسلم : «احشدوا – أي اجتمعوا واستحضروا الناس - فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن: « فحَشدَ مَنْ حَشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ {قلْ هو الله أحد} ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني قلت لكم: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن».
- قال المازري: قيل معناه: إنّ القرآن على ثلاثة أنحاء: قصص، وأحكام، وصفات الله تعالى، و{قل هو الله أحد} مُتمحضةٌ (أي خالصة) للصفات، فهي ثلثٌ وجزء من ثلاثة أجزاء. وقيل معناه: إنّ ثواب قراءتها يضاعف، بقدر ثواب قراءة ثلث القرآن بغير تضعيف. انتهى.
أما كونها متمحضةٌ لذكر صفات الله عز وجل، فصحيح؛ إذْ ليس فيها شيءٌ غير ذكر الله تعالى وصفات كماله، ونعوت جلاله، فلم تذكر فيها أمور الدنيا ولا الآخرة.
- وقد روى الإمام أحمد سبب نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم : فعن أبي بن كعب ] قال: إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد، انسبْ لنا ربك؟! فأنزل الله تعالى: {قل هو الله أحدٌ اللهُ الصمد لم يلدْ ولم يولد ولم يكنْ له كفواً أحد}.
- ورواه الترمذي وابن جرير في التفسير، وزادا من قول أبي العالية: {الصّمد} الذي {لم يلدْ ولم يُولد} لأنه ليس شيءٌ يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإنّ الله عز وجل لا يموت ولا يورث {ولم يكن له كُفُواً أحد} ولم يكن له شَبهٌ ولا عدْل، وليس كمثله شيء.
فيخبر الله تعالى عن نفسه أنه الواحدُ الأحد، الذي ليس له نظير، ولا وزير ولا نديد، ولا يطلق لفظ «الأحد» في الإثبات إلا على الله عز وجل؛ لأنه الكامل في جميع أسمائه وصفاته وأفعاله.
والصمد: يعني الذي يصمد له الخلائق في حوائجهم ومسائلهم.
وقال قتادة: الصمد الدائم.
وقال بعض السلف: الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب.
كما قال سبحانه: {وهو يطِعم ولا يطعَم} (الأنعام: 14).
وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد. وبنحوه قال عكرمة.
كأنهم جعلوا ما بعده تفسيراً له، قاله ابن كثير.
- وقال على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الصمد) هو السّيد الذي كَمُل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي كمل في عظمته، والحليم الذي كمل في حلمه، والعليم الذي كمل في علمه، والحكيم الذي كمل في حكمته، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته، لا تنبغي إلا له.
رواه ابن جرير (24/ 736) وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء (98).
أي إن «الصمد» يشعر بجميع أوصاف الكمال.
{ولم يكن له كفواً أحد} قال: لم يكن له شبيهٌ ولا عدل، وليس كمثله شيء.
يعني: لا كفاءة ولا مثل، كما في القراءة الثانية (كفؤاً).
وقال مجاهد: (كفوا) أي: صاحبة.
- قال القرطبي: اشتملت هذه السورة على اسمين من أسماء الله تعالى يتضمنان جميع أوصاف الكمال، وبيان ذلك: أن الأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، والصمد يشعر بجميع أوصاف الكمال؛ لأنه الذي انتهى إليه سؤدده فكان مرجع الطلب منه وإليه (الفتح 9/61).
وقال بعض العلماء: إنها تضاهي كلمة التوحيد؛ لما اشتملت عليه من الجمل المثبتة والنافية، مع زيادة تعليل.
- وقالوا: لأن القرآن خبرٌ وإنشاء، والإنشاء أمرٌ ونهي وإباحة، والخبر خبر عن الخالق، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورةُ الإخلاص الخبر عن الله، وخلّصتْ قارئها من الشرك الاعتقادي، وحصول الأجر العظيم بقراءتها، وأن من قرأها ثلاثا كان كمن ختم القرآن ختمةً كاملة، لا يعني الإعراض عن بقية سور القرآن الكريم؛ لما فيها من العقائد والإيمان، والأحكام والحلال والحرام، والمواعظ والترغيب والترهيب، والقصص والأخبار، كما هو معلوم.
وقد ورد في فضلها أحاديث أخرى:
فروى البخاري في صحيحه (5013): عن أبي سعيد: أن رجلا سمع رجلا يقرأ: {قل هو الله أحدٌ} يردّدها – وفي رواية: لا يزيد عليها - فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالّها - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده، إنها لتعدلُ ثلثَ القرآن».
- ومما جاء في فضلها: أن قراءتها تُوجب الجنة، فقد روى مالك في الموطأ: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ: {قل هو الله أحدٌ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وجبتْ» قلت: وما وجبتْ؟ قال: «الجنة « ورواه الترمذي والنسائي.
- حديث آخر: روى الإمام أحمد: عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {قل هو الله أحدٌ} حتى يختمها عشر مرات، بنى الله له قصرا في الجنة» فقال عمر رضي الله عنه : إذاً نستكثر يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهُ أكثرُ وأطيبُ».
- حديث آخر: عن معاذ بن عبدالله بن حبيب عن أبيه قال: أصابنا عطشٌ وظلمة، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فخرج فأخذ بيدي، فقال: «قل» فسكت، قال: «قل» قلت: ما أقول؟ قال: «قل هو الله أحد والمعوذتين، حين تمسي وحين تصبح ثلاثا، تكفيك كل يوم مرتين» رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
- حديث آخر: عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلةٍ جمع كفّيه، ثم نفثَ فيهما وقرأ: {قل هو الله أحدٌ} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات « رواه البخاري في فضائل القرآن (5017).
وورد أن الدعاء بها، هو الدعاء باسم الله الأعظم:
- فروى أصحاب السنن: عن عبدالله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه : أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل يصلي يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، قال صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده، لقد سأله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب».
وغير ذلك من الأحاديث.
باب منه: عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سَريّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختمُ بـ{قل هو الله أحدٌ}، فلما رجعوا ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «سَلُوه، لأي شيءٍ يَصنع ذلك؟» فسألوه، فقال: «لأنها صفةُ الرحمن، فأنا أحبُّ أنْ أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أخبروه أنْ الله يُحبُّه».
الشرح: الحديث أخرجه الإمام مسلم في الكتاب السابق (813) وبوب النووي: باب فضل قراءة {قلْ هو الله أحد}. وأخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7375).
- قولها»: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سَريّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختمُ بـ: {قل هو الله أحدٌ}» يدل هذا على جواز الجمع بين سورتين في ركعة من الصلاة، فرضا كانت أو نفلا.
قولها: «فيختمُ بـ:{قل هو الله أحدٌ}» أي إنه يقرأ بسورة ثم يقرؤها في كل ركعة.
ويحتمل أنه يختم بها قراءته فيختص بالركعة الأخيرة، والأول أظهر.
قولها: «فقال: لأنها صفةُ الرحمن» أي: لأن فيها أسماءه وصفاته، وأسماؤه مشتقة من صفاته، ولأنها ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى.
وفيه دليل على جواز قول: إن لله تعالى صفة، وأنها لفظة صحيحة، وهو قول الجمهور.
- وشذ ابن حزم فقال: هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم، ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه؟! ثم ضعف حديث الباب؟؟! (انظر الفتح للحافظ ابن حجر).
وقد دلت أدلة الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة: على أن لله صفات، وأن صفاته منها ذاتية، وهي لا تنفك عنه بحال، كالحياة والسمع والبصر والقدرة والعلم وغيرها، وصفات فعلية يفعلها متى شاء، كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والاستواء والنزول وغيرها.
ومن قواعد أهل السنة والجماعة: أنه لا يجوز وصفه تبارك وتعالى إلا بما دلّ عليه الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة الثابتة، وما أجمعت عليه الأمة (1).
قوله: «فأنا أحبُّ أنْ أقرأ بها» أي: لأن فيها صفات الرحمن فأنا أحب أن أتلوها وأتذكرها.
- قوله: «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أخبروه أنْ الله يُحبُّه» قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون سبب محبة الله له، محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دلّ عليه كلامه؛ لأن محبته لذكر صفات الله الرب دالة على صحة اعتقاده.
قال المازري ومن تبعه: محبة الله لعباده إرادته ثوابهم وتنعيمهم! وقيل: هي نفس الإثابة والتنعيم!
قلت: هذا تفسير للصفة بلازمها، وهو مذهب المعتزلة والأشاعرة وغيرهم! وهو تأويل باطل، وتحريف لمعنى الحديث، وغيره من الآيات والأحاديث الكثيرة في الباب.
- ومذهب السلف في ذلك: إثبات صفة المحبة لله تعالى، كما أثبتها تعالى لنفسه في كلامه، وكلام أعلم الخلق به رسوله [، قال تعالى: {إن الله يحب المحسنين} وقال: {إن الله يحب المقسطين} وقال: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} وقال: {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وقال: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} وغيرها من الآيات.
- وفي الحديث الصحيح: «إنّ الله إذا أحبَّ عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحبُّ فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبُّوه، فيُحبه أهل السماء... « رواه مالك والبخاري ومسلم.
- وفي الحديث الآخر:»... وما يزالُ عبدي يتقرّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به... « رواه البخاري (11/340) والبيهقي في الزهد (690).
ومن أسمائه تعالى «الودود» أي: المحب لأوليائه، والمحبوب لهم.
قال ابن جرير في تفسيره (12/64): ذو محبة لمن أناب وتاب إليه، يودُّه ويحبه. انتهى.
وهو قول عامة أهل العلم من سلف الأمة وخلفها.
فإن قيل: إن العقل يمنع من المحبة؛ لأنها ميل، وهو سبحانه مقدس عن ذلك؟!
قلنا: السمع والدليل دلّ على إثبات هذه الصفة، فيجب التسليم والقبول لها، وترك الاعتراض بالعقل.
فإن قيل: المحبة لا تكون إلا بين متجانسين!
- قلنا: هذا غير صحيح، فالإنسان قد يحب دابته التي يركبها إذا كانت تطاوعه، أو بهيمته التي عنده ينتفع بها، بل قد يحب آلة من الآلات في عمله، كما هو مشاهد ومحسوس.
وسبيل المؤمنين في ذلك التسليم والقبول لمعاني الآيات والأحاديث، وتفسيرها بما دلّت عليه من المعاني المعلومة من كلام العرب، والمعاني الشرعية المعروفة.
والله تعالى أعلم وأحكم.
هامش:
1- وقد كتب علماء الإسلام في ذلك جملة وافرة من الكتب والرسائل، ككتاب التوحيد لابن خزيمة، وكتاب الصفات للدارقطني، وكتاب العقيدة الطحاوية وشروحها، ومن الكتب الجيدة في هذا الموضوع: العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد شرحه بتفصيل الشيخ العلامة ابن عثيمين، رحمهم الله تعالى جميعا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17-04-2024, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (6)

باب: فضل قراءة المعوذتين



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2102. عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)».
الشرح: باب: فضل قراءة المعوذتين، وقد رواه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين (814) وبوب عليه النووي: باب فضل قراءة المعوذتين.
وقد أورد فيه حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، وهو صحابي مشهور، ولي إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيها فاضلا، مات في قرب الستين، روى له الستة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس».
هذا الحديث قال الإمام النووي: فيه بيان عظم فضل هاتين السورتين، وقد سبق قريبا الخلاف في إطلاق تفضيل بعض القرآن على بعض. انتهى.
وقد ذكرنا أن الصحيح في هذه المسألة هو أنه يجوز تفضيل بعض القرآن على بعض، وأن هذا التفضيل من عند الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى جعل بعض كلامه أفضل من بعض، وذلك أن الكلام يشرف بشرف موضوعه، فالآيات التي تتحدث عن الله تعالى وعن أسمائه وصفاته، أشرف من الآيات التي تتحدث عن صفات عباده، أو عن الحلال والحرام، أو عن صفات الجنة والنار، وغيرها من المواضع، والمرجع في التفضيل بينها هو الأدلة الصحيحة.
وقوله: «ألم تر آيات أنزلت الليلة» هذا دليل على تفخيم وتعظيم أمر هاتين السورتين من القرآن.
وقد كثرت الأحاديث في فضلهما وثواب قراءتهما، كما سنذكر منها ما تيسر.
وقد جاء فيما رواه عبد الله بن أحمد في المسند والطبراني والبزار: عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله!»، وفي رواية عنه: «إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما».
قال البزار: لم يتابع عبدالله بن مسعود أحدٌ من الصحابة، وقد صحّ عن النبي أنه قرأهما في الصلاة، وأثبتتا في المصحف. انتهى.
قلت: وهذا قوله أولا؛ فإنه توهّم أنهما تعوذاتٌ وأدعية وأذكار، وليستا من القرآن، ثم رجع إلى قول الجماعة؛ فإنَّ الصحابة قاطبة أثبتوهما في المصاحف الأئمة، وأرسلوا بها إلى سائر الآفاق، ولم يختلفوا في ذلك، وكذا جميع أهل الإسلام طبقة بعد طبقة أجمعوا على أن المعوذتين من القرآن، بأدلة كثيرة، ولله الحمد والمنة.
ومنها هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ألم تر آياتٍ أنزلت هذه الليلة» وهذا دليل على أنهما آيات من القرآن، وأنهما من كتاب الله عز وجل.
وأيضا ورد عند أبي داود والنسائي (5024): عن عقبة بن عامر أيضا: قال صلى الله عليه وسلم له: «ألا أعلّمك خير سورتين قُرئتا» فعلّمني: {قلْ أعوذُ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}. وهذا يدل على أنهما من القرآن أيضا.
ومن الأدلة: أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في الصلاة، فورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في صلاة الغداة. رواه النسائي (5022).
وأنه أحيانا كان يقرأ بهما في صلاة الوتر في الركعة الأخيرة بعد سورة الإخلاص، يضم إليها: {قلْ أعوذُ برب الفلق}، و:{قل أعوذ برب الناس}.
وفي هذا الحديث: دليل على أن لفظة (قل) هي من هذه السورة، وثابتة في القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أنزلت علي آيات {قل أعوذ برب الفلق} {قل أعوذ برب الناس} خلافا لقول من قال من الجهلة إن لفظة (قل) كانت موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم ؟! أما نحن فلا نقول: قل؟! فهذا القول باطل! لأن الحديث نصّ على أن كلمة (قل) هي من القرآن الكريم، وأنها ثابتةٌ من أول السورة، وقد أجمعت الأمة على هذا، كما قال الإمام النووي: أجمعت الأمة على أن لفظ (قل) من القرآن.
ومما ورد في هاتين السورتين من الفضل والمزية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ بهما، ونفث في يده اليمنى ومسح بها على الموضع الذي يشتكي، فلما كان مرضه صلى الله عليه وسلم كانت عائشة تقرأ بهما وتنفث في يده صلى الله عليه وسلم ، وتمسح بها، قالت: «لأنها كانت أعظمُ بركةً منّي».
وأيضا: كان عليه الصلاة والسلام يقرأ بهما دبرَ كل صلاةٍ، وأمر بذلك عقبة بن عامر، كما رواه أبوداود والترمذي (3079) والنسائي.
وفي لفظ للنسائي قال له: «إن الناس لم يتعوّذوا بمثل هذين {قل أعوذ برب الفلق} {قل أعوذ برب الناس}».
وفي لفظ له أيضا: «ما سأل سائلٌ بمثلهما، ولا استعاذَ مستعيذٌ بمثلهما».
ونحوه عن جابر وابن عابس الجهني رضي الله عنهما.
وفي لفظ له أيضا: «اتبعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكبٌ، فوضعت يدي على قدميه، فقلت: أقرئني سورة هود، أو سورة يوسف، فقال: «لن تقرأ شيئاً أنفع عند الله من {قل أعوذ برب الفلق}».
قال الحافظ ابن كثير في التفسير: فهذه طرقٌ عن عقبة كالمتواترة، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث. اهـ.
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة: عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ من أعين الجان، ومن أعين الإنسان، فلما نزلت المعوذتان، أخذَ بهما، وتركَ ما سواهما.
وذلك لأن فيهما التعوذ بالله عز وجل من الشرور كلّها؛ إذ يقول الله تعالى فيها: {قل أعوذ برب الفلق} والفلق هو الصبح، كقوله {فالق الإصباح}.
وقال ابن عباس: (الفلق): الخَلق.
{من شر ما خلق}، أي: من شر ما خلق الله تعالى فيه الشر، من إنس أو جان أو شيطان أو حيوان أو ثعبان أو سبع أو عدو، أو جهنم أو عذاب القبر، وكل ما فيه شر.
{ومنْ شرّ غاسقٍ إذا وَقَب} الغاسق هو الليل، إذا وقب، أي: إذا دخل، فاستعاذ من شر الليل وما يكون فيه، حيث تنتشر الشياطين ومن شابههم وتابعهم، من الأشرار والفجار، كاللصوص وأهل الخيانة والفساد، والفواحش والمنكرات، كما هو معلوم ومشاهد.
{ومنْ شرّ النّفّاثات في العُقد} وهنّ السّواحر من النساء إذا رقين ونفثن في عقد الخيوط؛ إذ يكثر فيهن ذلك، وقيل: أهل النفوس الخبيثة من السحرة.
ودلت هذه الآية على أن السحر له حقيقة، وأن له ضرراً يخشى منه، فينبغي الاستعاذة بالله منه ومن أهله.
{ومنْ شرّ حاسدٍ إذا حسد} وهو من يتمنّى زوال النعمة عن المحسود، ويسعى في ذلك بقولٍ أو عمل.
ويدخل في الحاسد: والعائن، فإنه في العادة يكون حاسدا.
وأما سورة الناس، فهي مشتملةٌ أيضا على الاستعاذة برب الناس ومالكهم وإلههم، من شر الشيطان ووساوسه، والذي هو أصل الشرور كلها ومادتها.
{الذي يوسوس في صدور الناس} أي: يزيّن لهم القبائح، ويحسّن لهم الشرور، ويثبّطهم عن الخيرات ويقبحها لهم، وهو يقوى بالغفلة عن ذكر الله تعالى، ويخنس -أي: يضعف ويتأخر- إذا ذكر العبدُ ربّه واستعان به، واستعاذ به من شره.
والوسوسة وتزيين الشرور، وتقبيح الحسن، كما تكون من شياطين الجن، فإنها تكون من شياطين الإنس أيضا، ولهذا قال: {من الجنة والناس}.
فهذا مضمون هاتين السورتين العظيمتين.
باب: منْ يُرفع بالقرآن
2103. عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا؟ قَال:َ فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».
الشرح: هذا الحديث في فضل القرآن وأهله، وقد رواه مسلم في صلاة المسافرين (817) وقد بوب عليه النووي: باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، وفضل من تعلم حكمةً من فقهٍ أو غيره فعمل بها وعلّمها.
وهو حديث عامر بن واثلة، وهو أبو الطفيل الليثي، ولد عام أحد ورأى النبي عليه الصلاة والسلام وروى عن أبي بكر، وعمّر حتى مات سنة 110 للهجرة، وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم وغيره، روى له الستة.
قال: «إن نافع بن عبد الحارث» هو الخزاعي، وهو أحد الصحابة ممن أسلم عام الفتح، وأمّره عمر رضي الله عنه على مكة، فأقام بها إلى أن مات، روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
قال: «لقي عمر بعسفان» كان نافع والي عمر على مكة، وعمر جاء إلى مكة فلقيه في الطريق، فقال له: «من استعملت على أهل الوادي» أهل الوادي يعني أهل مكة؛ لأن مكة في وادٍ تحيط به الجبال {إني أسكنتُ منْ ذُريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم} (إبراهيم: 37).
فقال له: «من استعملت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا» المولى هو العبد الذي أعتق وصار حرا.
فقال له عمر رضي الله عنه: «استخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله، وإنه عالم بالفرائض» أي إن عمر تعجب كيف تستخلف على أهل مكة، وعلى قريش التي هي أشرف العرب نسبا، وفيها مشايخ العرب وأشرافهم، تستخلف عليهم رجلا كان عبدا فأعتق؟! أي استغرب عمر رضي الله عنه من ذلك الاستخلاف، فقال عامله نافع: إنه قارئٌ لكتاب الله، وإنه عالمٌ بالفرائض، يعني أنه حافظٌ لكتاب الله سبحانه وتعالى، وعالم بأحكامه وفرائضه؛ لأن القارئ في عُرف السلف ليس مجرد من يقرأ القرآن، فمجرد القراءة لا يقال لصاحبها: إنه قارئ لكتاب الله، بل لا بد من شيء من الفهم والعلم والفقه والدراية بكتاب الله سبحانه وتعالى، وأيضا هو عالم بعلم الفرائض، الذي هو علم المواريث، وهذا العلم من العلوم العزيزة، أي قلّ منْ يتقن هذا العلم الشريف، بل جاء في بعض الآثار: أن علم الفرائض هو أول علم يرفع وينسى، أو أول علم يتركه الناس فلا يكاد يعلمه إلا القليل.
فبين له سبب أن استخلاف ابن أبزى على أهل مكة هو العلم والفقه والقرآن، فعند ذلك قال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين» يعني أن الله يرفع بالقرآن أقواما منازل عالية في الدنيا والآخرة، حتى يفوقوا غيرهم ممن هو أشرف منهم نسبا وحسبا، كما قال سبحانه: {يرفع اللهُ الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلمَ درجات} (المجادلة:11).
قوله «ويضع به آخرين» يضع يعني يذل ويخفض، أي: يضع منزلتهم فتكون منزلتهم وضيعة أي دنيئة، وسبب الذلة: الإعراض عن القرآن وتعلمه وفهمه.
قال العلامة صديق حسن خان: وهذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في هذا، ورفع الله بكتابه العظيم جمعاً جما من الناس الموالي وغيرهم، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا، ووفق عصابةً عظيمة منهم لتفسيره، وضبط معانيه ومبانيه، فارتفعت منازلهم، وهكذا. وترك أقوام إياه - أي تركوا القرآن – قال: كالروافض ومن يحذوا حذوهم، ونبذوه وراء ظهورهم وهجروه، فاتضعتْ مراتبهم، وُنسوا كما نسوه.
اللهم نوّر قلوبنا بالقرآن، واختم أعمالنا به يا رحمن. اهـ.
قلت: صدق رحمه الله، ومن العجيب أن كثيرا من أهل البدع لا يحفظون القرآن؟! ولا يهتمون لذلك؟ حتى إن بعض القنوات الفضائية المتخصصة في الرد على المبتدعة، عملت تحديا بأن يأتي إمام منهم حافظ للقرآن، فلم يتقدم أحد؟!! وقالوا: نعطيه مليون ريال إذا ثبت أنه حافظ للقرآن، ولم يتقدم أحد؟؟! وقد وضعوا لأهل البدع عدة مقاطع صوتية يخطئون فيها في جزء (عم) وبعضهم يخطئ في المعوذتين؟! وبعضهم يخطئ في السور القصار، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
فسبب رفعة المنزلة في الدنيا والآخرة هي بهذا الكتاب، وأيضا ليست بمجرد العلم والتعليم، بل بالعمل به واتباع آياته، فيقرأ ويعمل به ويعلمه، فيهذا ترتفع منزلته عند الله.
وورد في الحديث أنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: «اقرأ وارتق، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه الترمذي، فكلما قرأ آية ارتفع منزلة عند الله تبارك وتعالى.
نسال الله تعالى أن يرفع منازلنا بالقرآن العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 17-04-2024, 08:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (7)

باب: فضل تعلم القرآن

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2104. عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ، فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ».
الشرح: بوب المنذري على هذا الحديث: باب: فضل تعلم القرآن، وقد رواه مسلم في الكتاب السابق (803) كتاب صلاة المسافرين، وبوب عليه النووي: باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه.
وأورد فيه حديث عقبة بن عامر وهو الجهني رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة « والصفة كانت موضعا مظللا يؤوي إليه فقراء المهاجرين، ممن لا يرجعون إلى أهل ولا مال في المدينة، فهيأ لهم النبي صلى الله عليه وسلم مكانا يبيتون فيه ويأكلون ويشربون؛ لأنهم أضياف الإسلام، هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لهم قرابات في المدينة ولا أهل ولا زوجات، بل تركوا كل شيءٍ وهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرةً له ولدين الله عز وجل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث الناس على أن يتصدقوا عليهم ويصلوهم.
قوله: فقال: «أيكم يحبُ أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق» بطحان بضم الباء موضع بقرب المدينة، والعقيق وادٍ أيضا قريب من المدينة، فقال لهم: أيكم يحب أن يذهب إلى هذا المكان القريب، وهو بطحان أو وادي العقيق، فيأتي منه «بناقتين كوماوين» الناقة معلومٌ أنها من أنفس أموال العرب، ويقاس عزّ الإنسان وملكه وثروته بقدر ما يملك من الإبل، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإبلُ عزٌّ لأهلها، والغنمُ بركةٌ، والخيلُ معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» كما جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجة عن عروة البارقي رضي الله عنه.
وقوله: «فيأتي منه بناقتين كوماوين» الناقة الكوماء هي الناقة العظيمة السنام، وعظم السنام يدل على السمن ووفرة اللحم، فهي ناقة سمينة نفيسة، وقوله: «في غير إثم ولا قطع رحم» أي: هذا المال الذي يحصل عليه وهو الناقة الكوماء، يحصل عليها بسهولة ودون جهد وتعب، وفي غير إثم، أي ليس سرقة ولا نهبا ولا وقوعا في شيء من الإثم والحرام، بل ناقة تأتيك بسهولة بغير إثم ولا قطيعة رحم.
قوله: «فقلنا يا رسول الله، كلنا يحب ذلك» لأن المخاطبين هم أهل الصفة من فقراء المهاجرين المحتاجين.
فقال عليه الصلاة والسلام: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين» أي: لو أن أحدكم غدا إلى المسجد والغدو هو الذهاب أو الخروج لطلب الرزق في أول النهار، يقول لو أن أحدكم خرج في أول النهار إلى المسجد فيعلم أو يعلّم غيره، أي يمكن أن تتعلم وتقرأ، أو تكون ممن يعلم إذا كنت عالما، آيتين من كتاب الله، خير له من ناقتين، فإذا قرأ آيتين من كتاب الله هما عند الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل، من الإبل السمينة ومن أعدادهن من الإبل مهما كثرت الآيات، وهذا في ميزان الله سبحانه وتعالى وليس في موازين البشر، وخلافا لما يعظمه البشر من الأموال والدنيا وكنوزها وزخارفها.
وفي حديث آخر لأبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مقارب لهذا اللفظ: يقول النبي [: «أيحب أحدُكم إذا رجع إلى أهله أنْ يجد فيه ثلاثَ خَلِفاتٍ عِظامٍ سمان؟! «قلنا: نعم» أي: كل واحدٍ منا يحبُ أنْ يرجع إلى بيته فيجد فيه ثلاث خلفات عظيمة سمينة، والخلفات هي الإبل الحامل إذا مضى عليها أكثر من نصف الأمد من الحمل، ثم يقال لها: ِعشار، فالواحدة منها خلفه، وواحدة العشار: عشراء، وهي كما ذكرنا أثمن الأموال عند العرب، وهي من أثمن الأموال حتى في زماننا اليوم فهي بمئات الدنانير.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في تتمة الحديث: «فثلاثُ آياتٍ يقرأ بهن أحدُكم في صلاته، خيرٌ له من ثلاث خلفات عظام سمان» رواه مسلم (802).
وفي هذا فضل عظيم لقراءة كتاب الله وتعلّمه وتعليمه، وهناك أحاديث أخرى كثيرة طيبة في فضل الكتاب العزيز وقراءته وتعلمه وتعليمه، منها:
قوله صلى الله عليه وسلم : «خيرُكم من تعلّم القرآن وعلّمه» رواه الشيخان من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فخير هذه الأمة المسلمة هم أهل القرآن والمشتغلون به وبعلومه، على خلاف ما يعظم الناس اليوم من المهن الدنيوية المختلفة، كالطب والهندسة والفلك.
وأخرج مسلم أيضا في صحيحه من حديث أبي هريرة الحديث المشهور: «ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليه السكينة، وغشيتهم الرحمةُ، وحفّتهم الملائكةُ، وذكرهم الله فيمن عنده».
فالله سبحانه وتعالى يذكر هؤلاء أصحاب هذا المجلس الشريف المبارك في الملأ الأعلى، والذي غفل عنه كثير من المسلمين اليوم، فيذكرهم الله سبحانه وتعالى في الملأ الأعلى، فالله سبحانه وتعالى ما ذكر في الملأ الأعلى أصحاب العقار ولا الأسواق ولا البورصة ولا غيرها، وإنما ذكر أهل مجلس يذكر فيه الله تبارك وتعالى، فهؤلاء الذين يذكرهم الله تبارك وتعالى فيمن عنده تشريفا لهم وتكريما، كما قال الله في كتابه {فَاذْكروني أذكركم واشْكروا لي ولا تكفرون} (البقرة: 152).
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقال لصاحب القرآن: اقرأْ وارتقِ، ورتّل كما كنتَ ترتّل في الدنيا، فإنَّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة.
فاللهم ربنا اجعلنا منهم برحمتك وأنت أرحم الراحمين.
10 - باب: مَثَلُ منْ يقرأ القرآن ومَنْ لا يقرؤه
2105. عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ، لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ».
الشرح: الباب العاشر في كتاب فضائل القرآن من مختصر مسلم للمنذري، هو باب مثل من يقرأ القرآن ومن لا يقرؤه، وهو حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد رواه مسلم في صلاة المسافرين (797) وبوب عليه النووي: باب فضيلة حافظ القرآن. والحديث أخرجه البخاري أيضا.
قال: قال رسول الله [: «مثلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُترجّة» في هذا الحديث ضرب الأمثال كالحديث السابق، وبضرب الأمثال يتضح المقال، فالأمثلة الحسية تقرب المعاني إلى الأفهام والأسماع، والنبي عليه الصلاة والسلام يضرب مثلا هاهنا للمؤمن الذي يقرأ القرآن والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن فيقول: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب» والأترجة ثمرة تشبه البرتقالة، ريحها طيب، أي لها رائحةٌ زكية عطرة، وطعمها حلوٌ إذا أكلها الإنسان، وهكذا المؤمن قارئ القرآن غير الهاجر لتلاوته، فإنَّ باطنه حلوٌ بالإيمان، وظاهره حلو أيضا بتلاوته لكلام الله تعالى، فاستوى عنده الظاهر والباطن، كهذه الثمرة الطيبة، باطنها طيبٌ حلو ورائحتها طيبةٌ زكية، ففيه فضيلة لقارئ القرآن وتالي الآيات، ومعلم القرآن من المؤمنين والمؤمنات، فهو قد جمع بين صلاح الظاهر والباطن.
قوله: «ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو»، أما المؤمن الذي لا يقرأ القرآن فعنده أصل الإيمان، وهو باطنه وفي قلبه، وهو حلو، فعنده حلاوة في باطنه، ولكنه قصّر في الظاهر فترك قراءة القرآن أو تكاسل عن قراءته، فهو كالتمرة، ليس له رائحة نفاذة زكية كالأترج، وكالليمون، والبرتقال ونحوها، فهذه إذا وضعت في غرفة، تجد أن الغرفة كلها تعبق بهذه الرائحة، لكن التمرة ليس لها رائحة، فهذا مثل المؤمن المقصر تجاه كتاب الله، الحلاوة في باطنه، ولكنه لما ترك قراءة القرآن لم يعلم الناس ما في باطنه من الحلاوة والخير والصلاح، فعليه أن يسعى في تكميل نفسه وإصلاح حاله.
أما المنافق الذي يقرأ القرآن فهو «كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر» فالمنافق باطنه خبيث، وجوفه لا نور فيه، بل مظلم، لا إيمان ولا صلاح، فهو إذا قرأ القرآن يكون كالريحانة، والريحانة عود الريحان الذي يشم ولا يؤكل؛ لأنه مرّ الطعم، لكن إذا شممته وجدت له رائحة طيبة، فهذا حال المنافق الذي يقرأ القرآن، يشعر الناس بحلاوة القرآن وجماله ونوره وفضله الذي يخرج منه ومن قراءته، ولكن التالي له جوفه مرٌ وخرب، فباطنه وقلبه غير معمور بالإيمان وحب ما يتلو من الكتاب، بل هو مخالف لما يقرأ من الهدى والبيان والصلاح والعياذ بالله.
وبعض القراء أوتي تلاوة حسنة ومجودة، ولكن إذا نظرت إلى أفعاله وجدت أن أفعاله أفعال الفساق! كما قال بعض السلف: رب قارىء للقرآن والقرآن يلعنه!
وذلك أنه يقرأ مثلا: {ألا لعنةُ الله على الظّالمين} وهو ظالمٌ، ويقرأ: {ألا لعنة الله على الكاذبين} وهو يكذب.
فهذا ينطبق عليه هذا الحديث لأن باطنه سيئ، ولكن ما يخرج منه على لسانه من التلاوة والقراءة من أجمل ما يكون.
قوله: «ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة التي ليس لها ريح وطعمها مرٌ» نبات الحنظل نبات مستدير كالبطيخ الصغير لونه أخضر، إذا شممته لا ريح له، وإذا كسرت الثمرة فإنّ طعمها شديد المرارة، حتى يضرب بمرارتها المثل فيقال: مرٌ كالحنظل، وهو مشهور عند العرب وجاء في أشعارهم كثيرا، فهذا مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، وهو في أردأ المنازل وأسوئها، وهو منافقٌ أصلا ولا يقرأ القرآن، فباطنه قبيح، وظاهره قبيح من قول وعمل، وفي زمننا كعلماني - لا ديني – أو ليبرالي متحرر أو متكبر بالأصح عن العبودية لله عز وجل! فهو لا يقيم وزناً للقرآن، ومع ذلك يتظاهر بالإسلام، ولو تعرض له أحدٌ فقال له: كلامك كفر أو عملك كفر، قال له: أتكفر المسلمين؟! وهو لا يعرف من الإسلام إلا الاسم والرسم فقط، كما قال النبي [ هنا: «منافق لا يقرأ القرآن» فهذا مثله كمثل الحنظلة.
وفي رواية لهما: «ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن» أي هو مسلم فاجر مرتكب للكبائر ومنتهك للمحرمات، ومن لم يجعل الله له نورا، فما له من نور.
وهذا الحديث من جملته فضيلة قراءة القرآن، سواء كانت القراءة بالنظر في المصحف، أو كانت القراءة من الحفظ، وقد اختلف العلماء في التفضيل بينهما؟ فمن أهل العلم من قال: إن القراءة من المصحف أفضل من القراءة من الحفظ؛ لأن الذي يقرأ من الحفظ يكون قد اعتمد على ما في قلبه فقط، وأما الذي يقرأ بالنظر، فإنه جمع مع أجر التلاوة أجر النظر في المصحف، وعلى كل حال فكلاهما على خير، متى وفق العبد لأحدهما.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 17-04-2024, 08:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (8)

باب: في الماهر بالقرآن والذي يشتد عليه

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2106. عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ».
الشرح:
الباب الحادي عشر من مختصر مسلم للمنذري: باب الماهر بالقرآن والذي يشتد عليه، وأورد فيه الإمام المنذري حديث عائشة رضي الله عنها، وقد أخرجه مسلم في صلاة المسافرين ( 798 ) وبوب عليه النووي: باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه.
- قولها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» الماهر هو الحاذق بقراءة القرآن، والكامل الحفظ الذي لا يتوقف عند القراءة، ولا تشق عليه القراءة لجودة حفظه، وإتقانه لكتاب ربه، فهو ماهر في القراءة والتلاوة والأداء وحسن الصوت، ماهر في الحفظ، فهذا هو الماهر بالقرآن، والمهارة لا تكون إلا من دربة وتمرين ومداومة قراءة وإتقان حفظ، فالمهارة لا تأتي إلا بعد بذل الجهد والمداومة والتعاهد، فهذا الماهر يكون مع السفرة الكرام البررة.
- أما معنى قوله: «مع السفرة»، فقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة: أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة السفرة؛ لاتصافه بصفتهم، من حمل كتاب الله تعالى.
قال: ويحتمل أن يراد أنه عاملٌ بعملهم، وسالك مسلكهم. انتهى.
- أي: لكونه حمل كتاب الله عز وجل في الدنيا، فهو يوم القيامة يكون مع الملائكة الذين كان الله سبحانه وتعالى يرسلهم سفراء بينه وبين خلقه، أو لأنه يعمل كعمل الملائكة، ويسلك طريقا كطريقهم، من كونه يحمل كتاب الله سبحانه وتعالى ويقرؤه ويعلمه، فهو كالملائكة السفرة، والسفرة جمع سافر، ككتبة وكاتب، والسافر هو الرسول، والسفرة الرسل، وسمي سافراً لأنه يسفر برسالة الله إلى الناس، يعني يظهر رسالة الله إلى الناس، فأسفر فلان عن كذا: أي أظهر وبيّن، فالرسل من البشر والملائكة سفرة، وأيضا السفرة من السفارة وهي السعي بين القوم، كما قال الله سبحانه {بأيدي سفرة كرام بررة} (عبس: 15-16).
فهذا ما وصف الله تبارك وتعالى به ملائكته السفراء الكرام، أنهم كرامٌ بررة، وكرام جمع كريم، أي هم كرام على ربهم، وبررة جمع بر، أي أتقياء مطيعون لله، صادقون في إيمانهم.
- قوله: «والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران» وأما الذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، والتعتعة فيه لأن القراءة عليه شاقة وصعبة، إما لكونه في بداية التعلم والحفظ، أو لاختلاف لغته عن اللغة العربية لكونه أعجميا مثلاً، ولمّا كانت القراءة عليه شاقة، فله أجران: أجر بالقراءة، وأجر التعتعة في التلاوة والمشقة في القراءة، أو التعتعة بسبب بثقل اللسان خلقة وطبيعة.
- وقيل: الذي يتتعتع هو الذي يتردد في التلاوة لضعف حفظه وإتقانه؟! لكن - والله تعالى أعلم - الأول هو الأصح والأقوى؛ لأنّ الإنسان إذا قصّر في الحفظ والمراجعة، وحصل له تردد في التلاوة والقراءة، فإن هذا لا يكون له فيه مزية أو فضل؛ لأنه أهمل المراجعة والحفظ.
وكون الذي يتتعتع له أجران، لا يدل على أنه أفضل درجة من الماهر، فقد يكون للماهر أجور أكثر منه، وذلك لمهارته.
- وأيضا: فإن مجرد كثرة الأجر، لا تدل على ارتفاع الدرجة عند الله تعالى، فحال الماهر أفضل وأرفع درجة، بدليل أنه مع الملائكة السفرة، الذين لهم منازل عالية.
ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم كم للماهر من الأجر، وإنما قال: «هو مع السفرة الكرام البررة» وهي بشارة عظيمة بلا شك لكل من اعتنى بكتاب الله وحفظه وأتقنه، وأكمل قراءته وأتمه، فإنه يكون مع ملائكة الرحمن السفرة الكرام البررة.
والله تعالى أعلم.
باب: تنزل السكينة لقراءة القرآن
2107. عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ».
الشرح:
الباب الثاني عشر في كتاب فضائل القرآن، قال الإمام المنذري في مختصره: باب تنزل السكينة لقراءة القرآن، وقد أخرجه الإمام مسلم في صلاة المسافرين (795) من صحيحه، وبوب عليه النووي: باب نزول السكينة لقراءة القرآن.
وأورد فيه حديث البراء، وهو ابن عازب الأنصاري رضي الله عنه، الأوسي، صحابي ابن صحابي، استُصغر يوم بدر، نزل الكوفة، ومات سنة اثنتين وسبعين، روى له الستة.
- يقول البراء: «كان رجل يقرأ سورة الكهف» وفي رواية لمسلم أيضا: «يقرأ سورة البقرة» وفي الرواية الأخرى لمسلم: «أن أُسيد بن حضير بينما هو يقرأ في مِربده – وهو الموضع الذي ييبس فيه التمر – إذْ جَالتْ فرسه – أي وَثَبت – فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضا، قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى، فقمت إليها فإذا مثل الظُّلة فوق رأسي، فيها أمثال السُّرُج، عَرَجتْ في الجوّ حتى ما أَراها».
- قال: «وعنده فرسٌ مربوط بشطنين» شطنين تثنية شطن والشطن هو الحبل الطويل.
- قال «فتغشته سحابه فجعلت تدور وتدنو» تغشته أي: غطته، والغشاء هو الغطاء، أي: جعلت تعلوه سحابه وتدور هذه السحابة وتدنو منه.
- وفي رواية لمسلم: «فنظر فإذا ضبابةٌ أو سحابة قد غشيته».
- قال: «وجعل فرسه ينفر منها» لفظة «ينفر» ورد فيها ثلاث روايات، الأولى: ينفر، والثانية: تنفر، والرواية الثالثة: تنقز، بالزاي، وهذا كما قال أهل اللغة لأن الفرس يذكر ويؤنث، أي إن كلمة «الفرس» تطلق على الذكر والأنثى، وإن كانت على الأنثى أشهر.
- ولذلك يجوز أن يقول: فرسه تنفر، أو فرسه ينفر، بالتذكير والتأنيث، أما رواية: تنقز، فتعني: تقفز، أي: إنها خافت واضطربت من السحابة التي تدور فوقها، وفي الرواية الأخرى: «إذْ جَالتْ فرسه» أي: وَثَبت، وهنا أنّث الفرس أيضا.
- قال: «فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له» وهذا يدل على أنه كان يقرأ من الليل؛ لأنه قال: فلما أصبح، والصحابة رضي الله عنه كانوا يقطعون الليل بقراءة القرآن، وبالصلاة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه أنه كان يمر على بيوت أصحابه بالليل ويستمع إلى قراءتهم للقرآن، ويقول: «إني لأعرفُ أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن، حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنتُ لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار» رواه مسلم في فضائل الصحابة (2499).
- فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: «تلك السكينة تنزلت للقرآن» والسكينة هي الطمأنينة والراحة التي يجدها الإنسان في نفسه، وانشراح الصدر، وتنزل السكينة يكون مع الملائكة، التي تتنزل عند الرحمة وعند الطمأنينة وتكون في مجالس الذكر وقراءة القرآن التي هي مجالس يحبها الله سبحانه وتعالى.
- وقال بعض أهل العلم: السكينة شيء من مخلوقات الله عز وجل فيها طمأنينة ورحمة، ومعها الملائكة! لكن هذا القول ليس عليه دليل! والراجح هو الأول: أن السكينة هي الطمأنينة والراحة التي يجدها الإنسان في نفسه، وتكون معها الملائكة عادة، فوجود الملائكة في المكان، يعطي الشعور بالسكينة وبالراحة النفسية، وذلك؛ لأنها مخلوقات نورانية كثيرة الطاعة لرب العالمين، والذكر والصلاة والعبادة، كما قال الله عنها: {وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون} (الصافات: 160-166). وقال: {يُسبّحون الليل والنهار لا يفترون} (الأنبياء: 20). وقال عنهم أنهم: {ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وسعتَ كل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدنٍ التي وعدتهم ومنْ صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات} (غافر: 7-9).
وجاء في بعض الأحاديث أنها «تحفّهم» يعني أنها تلاصق أجساد الذاكرين لله تعالى، وتقترب منهم، وتلتصق بهم.
وفي هذا الحديث دليل على جواز رؤية المؤمنين وغيرهم الملائكة أحيانا، كما في قصة لوط عليه السلام وقومه، أن الملائكة تبدّت لهم في صورة شباب حسان امتحاناً لهم واختبارا، لتقوم الحجة عليهم، ثم أخذهم الله سبحانه أخذ عزيز مقتدر.
وقد وقعت الرؤية لبعض الصحابة رضي الله عنهم، ولهم قصص كثيرة في هذا الباب، فتارة يرونها كما في هذا الحديث: على شكل سحاب أو غمام، أو على شكل أنوار ومصابيح، كما في الرواية السابقة لمسلم: «فإذا مثلُ الظُّلة فوق رأسي، فيها أمثالُ السُّرُج، عرجتْ في الجو حتى ما أراها، فقال صلى الله عليه وسلم : «تلك الملائكةُ كانت تستمعُ لك، ولو قرأتَ لأصبحتْ يراها الناس ما تَستتر منهم».
وتارة يرونها بصور الرجال، فقد كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه ، وهو رجل جميل من الصحابة.
- وكما في حديث جبريل عليه السلام المشهور في الإيمان: لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا ُيرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان.
- وأيضا: حديث أنس رضي الله عنه قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله رجلين يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. قال: هما جبرائيل وميكائيل.
رواه البخاري وغيره.
وإن كان الأصل أننا لا نرى الملائكة؛ لاجتنانها عن النظر، لكن قد تتبدى الملائكة أحيانا لبعض الناس لحكمة يريدها الله تعالى.
- وفي هذا الحديث أيضا: فضيلة قراءة القرآن، ومجالس القراءة والاستماع للقرآن، وأنها مواضع لنزول الرحمة والسكينة في المكان وعلى أصحابه وحضور الملائكة، وطريق لتحصيل ذلك.
- وأيضا: فيه أن الفضيلة للقارئ للقرآن والمستمع أيضا، فهذا المجلس الذي يقرأ فيه القرآن، أو يتذاكر فيه القرآن ويسمع تلاوته فيه، له فضلٌ عظيم عند الله، وهو سبب لنزول الرحمة فيه والسكينة وحضور الملائكة، وإن أعرض عنه أهل الدنيا والشهوات وأهل الغفلة.
- وورد في الحديث الصحيح: «إن لله ملائكة سياحين، يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا مجلساً من المجالس يذكر فيه الله عز وجل، أو قوما يذكرون الله، تنادوا: هلمُوا إلى حاجاتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء، فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك..» متفق عليه.
وهذا يدخل فيه أيضا قراءة القرآن من باب أولى؛ لأنه أفضل الذكر.
ويؤخذ أيضا من الحديث: فضل سورة الكهف، وأنها سورة عظيمة وفيها بركة وسبب لتنزل الملائكة والسكينة.
وفي الرواية الأخرى: «أنها سورة البقرة» وهذا أيضا في فضل سورة البقرة وأن قراءتها سببٌ لتنزل الرحمة والبركة وحضور الملائكة. وهذا الفضل يشمل على الصحيح جميع سور القرآن، فقراءة القرآن سبب لنزول الرحمة وحضور الملائكة وتنزل السكينة. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسول محمد.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 19-04-2024, 11:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (9) باب: الأمر بتعاهد القرآن بكثرة التلاوة

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2110. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ».
الشرح: قال المنذري: باب الأمر بتعاهد القرآن بكثرة التلاوة، والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (789) وبوب عليه النووي: باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول: نسيت آية كذا، وجواز قول: أنسيتها.
وقد رواه البخاري في فضائل القرآن (5031).
قوله «إنما مثل صاحب القرآن» المثل هو الصورة والحال المشابهة، وضرب الأمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية كثير جدا، وذلك لأجل تقريب المعنى المراد، فالأمثال المحسوسة تقرب المعاني إلى الأذهان، ويتضح بها المقال، ويتضح المراد، وتحصل بها الذكرى والموعظة، والترغيب والترهيب المقصود من الكلام، وقد عقد الإمام ابن القيم رحمه الله فصلا طويلا في كتابه الممتع « أعلام الموقعين » لشرح أمثال القرآن الكريم، وألف أهل الحديث كتبا في أمثال الحديث النبوي، ككتاب «أمثال الحديث» للرامهرمزي، و«أمثال الحديث» لأبي عبيد القاسم بن سلام، و«أمثال الحديث» لأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم من أهل العلم، وقد شرحوا فيها أمثلة الحديث النبوي ومعانيها.
وقوله «الأمر بتعاهد القرآن» التعاهد من المعاهدة، ويعني المراجعة والتأكد والمراقبة والحفظ، وذلك يكون بكثرة التلاوة والقراءة، والمراجعة والحفظ للقرآن، كما فسّره هنا الإمام المنذري، واستدل بالحديث الذي ساقه بالباب.
والحديث عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة» مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لحافظ القرآن.
وقوله صلى الله عليه وسلم «مثل صاحب القرآن» وصاحب القرآن يعني الذي ألفه وصار القرآن صاحبا له، كما يقول القاضي عياض: صاحب القرآن أي: الذي ألفه، والمصاحبة: المؤالفة، ومنه: فلانا صاحب فلاناً، وأصحاب الجنة وأصحاب النار، وأصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، وأصحاب الصفة، وأصحاب إبل وغنم، وصاحب كنز وصاحب عبادة. انتهى (شرح النووي: 6/109).
- أي: كل هؤلاء بمعنى الذين قربوا من هذه الأشياء وألفوها، وصارت عشرتهم لها عادة، فصاحب القرآن يعني الذي تعود قراءة القرآن وحفظه والقيام به، وألف ذلك نظرا أو عن ظهر قلب.
فصاحب القرآن شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بصاحب الإبل المعقلة، والمعقلة يعني التي تربط بالعقال، وهو الحبل الذي يشد فيركبه البعير لئلا يتفلت ويشرد على أهله، فالعقال يحفظ الإبل من الضياع، كما جاء في الحديث: أن رجلا جاء إلى النبي [ فقال: يا رسول الله، أعقل بعيري وأتوكل، أم أطلقها وأتوكل ؟ قال له صلى الله عليه وسلم : «اعقلها وتوكل».
فلا بد أن تعقل الإبل إن لم تكن بحظيرة وتربط؛ لئلا تفلت وتسير وتضيع على صاحبها، وهكذا صاحب القرآن إذا تعاهد القرآن فقد عقل هذه الآيات وربطها، وأحكم رباطها، وإذا ترك المعاهدة والمراجعة والحفظ وكثرة القراءة والتلاوة، فقد عرضه للنسيان والضياع، فهذا معنى هذا مَثَل النبي صلى الله عليه وسلم .
- وأيضا: فإن الإبل إن تركت طويلا في العقال، فإنه يتخلخل بكثرة الحركة إلى أن ينحل، وهكذا الإنسان إذا ترك قراءة القرآن طويلا، فإنّ القرآن يتفلت منه.
- وأيضا: خص الإبل بالذكر؛ لأنها من أشد الحيوانات نفورا، كما هو معروف عنها.
بابٌ منه
2111. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «بِئْسَمَا لِأَحَدِهِمْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، مِنْ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا».
الشرح: هذا الحديث في الباب نفسه الذي بوب عليه الإمام النووي: باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا.
وقد رواه البخاري في فضائل القرآن (5033).
يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - وهو من حفاظ القران من الصحابة - قال صلى الله عليه وسلم : «بئسما لأحدكم «بئس» أخت «نعم» فالأولى للذم، والثانية للمدح، تقول: نعم الرجل وبئس الرجل.
فالحديث يبين أن هذه الكلمة فيها كراهة، فلا يقولها الإنسان لأنه قال: بئست هذه الكلمة. أي: لا يقولها أحدكم.
قوله: «يقول نسيت آية كيت وكيت» كيت وكيت بمعنى كذا وكذا، ويعبر بها عن الجمل الكثيرة والحديث الطويل، ومثلها: ذيت وذيت.
وقال ثعلب: كيت للأفعال، وذيت للأسماء.
فقوله «بئس» يدل هذا القول على أن فيه كراهة؛ لأن قوله: نسيت كذا وكذا أو كيت وكيت، فيه شهادة على نفسه بالتقصير في حفظ القرآن وتعاهده، ويتضمن التساهل في الواجب، والغفلة عن آيات القرآن، وأيضا في قوله «نسيت» إشعار بعدم المبالاة والاعتناء والاهتمام بالقرآن، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الذي يحشره يوم القيامة أعمى {قال ربي لما حَشرتني أعمى وقدْ كنتُ بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتَها وكذلك اليوم تُنسى وكذلك نجزي منْ أسرفَ ولم يؤمنْ بآياتِ ربه ولعذابُ الآخرة أشد وأبقى} (طه: 125-127).
فالنبي صلى الله عليه وسلم كره أن يطابق قوله قول هذا الأعمى الضال - والعياذ بالله - الذي تغافل عن القرآن العظيم، وأعرض عن الهداية به والاقتداء بنوره واستذكاره على الدوام.
وقال عياض: أولى ما يُتأول به الحديث أن معناه: ذم الحال لا ذم القول، أي بئست الحالة، حالة من حفظ القرآن فغفل عنه حتى نسيه. انتهى.
قوله صلى الله عليه وسلم : «بل هو نُسي» يعني الذي أنساه هو الله تعالى؛ لأنه أعرض عنها وتغافل عنها وتشاغل، فعوقب بنسيان الآيات، كما قال الله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67) أي: تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة.
وقيل: الكراهة في نسبة الإنسان النسيان إلى نفسه، وهو لا صنع له فيه، فكأنه يوهم أنه انفرد بفعله!
وفيه نظر! فليس هو متعلق الذم؛ لأنه يصح نسبة النسيان للنفس، فهو من أفعال الناس التي تقع منهم، كما قال موسى عليه السلام: {فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} (الكهف: 63). وإن كان الله تعالى خالق أفعال العباد، فالعبد مخلوق، وما يصدر عنه من قول أو فعل مخلوق، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وتفصيله في موضعه في كتب العقيدة كالطحاوية وشرحها.
ثم قال: «استذكروا القرآن» الألف والسين والتاء في قوله «استذكروا» بمعنى الطلب، يعني تذكروا القرآن، واطلبوا تذكر القرآن، وواظبوا على تلاوته ولا تقصروا.
قوله «فلهو» هذه اللام لام القسم، فيقسم النبي صلى الله عليه وسلم على أنه: «أشد تفصيّا» تفصيا أي تفلتا، «من صدور الرجال، من النعم بعقلها» يعني: أن آيات القرآن أشد تفلتا من الصدور من تفلت الإبل من عقلها.
فمحل حفظ القرآن القلوب التي في الصدور، كما قال الله تعالى: {بل هو آياتٌ بيناتٌ في صدور الذين أوتوا العلم} (العنكبوت: 49).
قال الحافظ: لأن من شأن الإبل أن تطلب التفلت ما أمكنها، فمتى لم يتعاهدها برباطها تفلتت، فكذلك حافظ القرآن إنْ لم يتعاهده تفلت، بل هو أشد. (الفتح).
وقال ابن بطال: هذا الحديث يوافق الآيتين: قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} (المزمل: 5). وقوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} (القمر: 17). فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد، يسّر له، ومنْ أعرض عنه تفلت منه.
والنَّعم المقصود بها هنا الإبل، والنعم عموما قد تطلق على البقر والغنم والإبل، لكن المقصود هنا الإبل، لأنها هي التي تعقل، وأما البقر والغنم فلا تعقل، والعقل جمع ومفرده عقال، ككتاب وكتب، والنعم تذكر وتؤنث، أي يصح فيها التذكير والتأنيث، وقوله صلى الله عليه وسلم هنا: «من النعم بعقلها» أي: من عقلها، فالباء هنا بمعنى من، وقال أهل العلم: هي كقوله تعالى: {عيناً يشربُ بها عبادُ الله} (الإنسان: 6). أي: يشربون منها.
وقد ورد في الرواية الأخرى: «من عقلها».
والله أعلم

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 19-04-2024, 11:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,235
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري

شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (10) باب: باب تحسين الصوت بقراءة القرآن

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2112. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ، مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ».
الشرح: قال المنذري: باب تحسين الصوت بقراءة القرآن، وهذا الحديث أيضا أخرجه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين، وبوب عليه النووي: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن. وأخرجه البخاري (5023، 5024) باب من لم يتغن بالقرآن وقوله تعالى: {أولم يَكفهم أنّا أنزلنا عليكَ الكتابَ يُتلى عليهم} (العنكبوت: 51).
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أذن الله لشيء» معنى أذن في اللغة: استمع، وهو مأخوذ من الأذن التي يسمع بها الإنسان، ويمكن أن يعبر بأذن للشيء بمعنى استمع، ولا يعرف له أذن، كقول الله تبارك وتعالى عن الأرض يوم القيامة: {وأَذنتْ لربها وحُقّت} (الانشقاق:2). وهو بمعنى استمعت وأطاعت أمر ربها، فالأرض تسمع وتطيع أمر الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل في الآية الأخرى: {فقالَ لها وللأرضِ ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت: 11).
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث «ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به» بيان صريح في أن الله سبحانه وتعالى يستمع لقراءة النبي حسن الصوت بالقرآن، وهو من صفات الله سبحانه وتعالى، وقد ثبتت صفة السمع والبصر في القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة، والله تعالى من أسمائه: السميع والبصير، قال تعالى: {ربّنا تقبّل منا إنك أنتً السميعُ العليم}(البقرة: 127). وقال: {(إنك سميع الدعاء} (آل عمران: 38). وقال: {وكان اللهُ سميعاً بصيرا} (النساء: 58).
وإنه سبحانه وتعالى يسمع ويبصر، كما قال الله عز وجل: {أبصرْ به وأَسمعْ} (الكهف:26). وهو تعجبٌ من بصره وسمعه، أي: ما أبصره وما أسمعه. وقال تعالى: {والله يَسمعُ تحاوركما إنّ الله سميعٌ بصير} (المجادلة: 2).
وهو سبحانه واهب السمع والبصر لمن شاء من خلقه.
فنطقت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية المحكمة الثابتة بإثبات صفة السمع والبصر لربنا سبحانه وتعالى، والحكم فيهما كالحكم في جميع صفات الله، أن تثبت لله تعالى ويؤمن بها، بغير تكييفٍ ولا تشبيه ولا تمثيل، ولا تعطيلٍ ولا تأويل.
أما قول النووي رحمه الله: قالوا لا يجوز أن تُحمل هنا على الاستماع بمعنى الإصغاء! فإنه يستحيل على الله تعالى - هكذا يقول - بل هو مجاز! ومعناه الكناية عن تقريبه القارئ، وإجزال ثوابه! لأن سماع الله تعالى لا يختلف، فوجب تأويله! انتهى كلامه.
ولا شك أن هذا القول غير صحيح!! والإمام النووي عفا الله عنه يتابع الأشاعرة أحيانا في شرحه للأسماء والصفات في كتابه «شرح صحيح مسلم» فقوله هنا: «لا يجوز أن تحمل على الاستماع، فإنه يستحيل على الله بل هو مجاز!» هو على مذهبهم في تعطيل للصفة الإلهية، وهو تأويل فاسد مردود! وصرف للمعنى المراد دون دليل ولا برهان.
والصحيح كما قدمنا: أن الله تعالى يوصف بأنه يسمع كما في القرآن، ويستمع كما في هذا الحديث الشريف،
وفي هذا الحديث: أنه عز وجل يأذن لنبي يتغنى بالقرآن بمعنى يستمع للنبي الحسن الصوت إذا تغنى بالقرآن، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم من أجمل الناس صوتاً بالقرآن، كما يقول أنس رضي الله عنه : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت صوتا أحسن منه.
وقال عدي بن جبير بن مطعم: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بمكة بالطور {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون} (الطور: 35-36). قال: فكاد قلبي أن يطير، وذلك قبل أن يسلم. رواه البخاري. والنبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد دخوله مكة بعد فتحها، في صلاة المغرب، فتعجّب له أهلها.
قوله: «يتغنى بالقرآن» يعني يحسن صوته بقراءة القرآن، وقال سفيان ابن عيينة: يتغنى بالقرآن يعني يستغني به عن الناس، وعن كل كتاب! وقد ارتضى ذلك أبو عبيد وقال: إنه جائز في كلام العرب. قال: فعلى هذا يكون المعنى: من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا فليس منا، أي على طريقتنا.
لكن هذا القول أنكره الإمام أبو جعفر الطبري صاحب التفسير، وقال: إنه خطا من حيث اللغة ومن حيث المعنى، والصحيح أن معنى «يتغنى» يحسّن صوته. وذكر عن الشافعي: أنه سئل عن تأويل ابن عيينة التغني بالاستغناء، فلم يرتضه، وقال: لو أراد الاستغناء لقال: لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت.
وقال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة وعبدالله بن المبارك والنضر بن شميل. (الفتح 9/ 70).
وجاء في الحديث الآخر عند الإمام مسلم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن، يجهر به» وبمثله فسّره أحد رواه الحديث عند الإمام البخاري؛ فإن التغني بالقرآن لا يكون إلا برفع الصوت، والجهر به.
ويؤيد ذلك الرواية التالية في استماع النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، ووصفه لصوته بالمزمار، أي: وصف صوته بأنه جميل كالمزمار، وقد جاء الحث على تحسين الصوت عند قراءة القرآن، كما صح في الحديث: «حسنوا القرآن بأصواتكم؛ فإنّ الصوتَ الحسنَ يزيد القرآن حسنا» رواه الدارمي والحاكم. وفي رواية للحاكم: «زينوا القرآن بأصواتكم،...». ورواه هكذا مختصرا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم.
فقارئ القرآن إذا زيّن صوته بالقرآن اجتذب الناس للقرآن، وحبّبهم في تلاوة القرآن، وأثر فيهم.
وكل ذلك من غير مبالغة ولا تكلف، كما يفعل بعض القراء هداهم الله.
قال النووي في التبيان: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفا، أو أخفاه حرم.
وقال العلامة صديق حسن خان: ولا شك أن المراد بالتغني ما كانوا يتغنون به على عهد النبوة، أي: قدر ما يحسنون الصوت ويجهرون به، لا هذه الأصوات المحدثة للتجويد والتبديل، التي يتعاطها القراء، ويحصل لهم بها عوج الفم والأنف والعين والشفتين، وزعجٌ في الأطراف والأعضاء! فهذه بدعة بقيت فيها أصحابها. انتهى (شرح مختصر صحيح مسلم).
وهذا الذي ذكره عن بعض القراء، هو كما قال ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعين لهم بإحسان، ولم ينقل عنهم شيء منه، فالمبالغة في إخراج الحروف والتمايل بالرأس، ووضع اليد على الفم والخد وما أشبه ذلك، هذا كله لا يعرف عنهم، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أمته إلى تحسين الصوت بقراءة القرآن، وبيّن أن من حسّن صوته بالقرآن استمع الله له، يعني أن الله عز وجل يكرمه بأن يُنصت له ويستمع له جلّ في علاه، وهو دليل محبته لهذا العمل ورضاه عنه.
ومثل هذا المعنى الوارد في هذا الحديث، مذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حَمدني عبدي، وإذا قال {الرحمن الرحيم} قال الله: أَثنى علي عبدي، وإذا قال {مالك يوم الدين} قال الله: مجّدني عبدي...» الحديث رواه مسلم وأحمد والأربعة.
فثبت في هذا الحديث أيضا: أن الله سبحانه وتعالى يستمع لقراءة الناس في صلاتهم، ويرد عليهم عند قراءتهم لفاتحة الكتاب المباركة.
باب منه
2113. عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي مُوسَى: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد»َ.
الشرح: الحديث الثاني في هذا الباب: باب تحسين الصوت بقراءة القرآن حديث أبي بردة عن أبيه أبي موسى رضي لله عنه.
وقد أخرجه البخاري (9/5048) في فضائل القرآن: باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن.
أبوموسى هو الأشعري رضي الله عنه ، واسمه عبد الله بن قيس، والأشعرية قبيلة من اليمن، وكانوا يكثرون قراءة القرآن ويشتغلون بتلاوته ليلا، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما روى أبو موسى رضي الله عنه -: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإنْ كنت لم أرْ منازلهم حين نزلوا بالنهار» متفق عليه.
أما اليوم فيمر المسلم أحيانا على بعض بيوت المسلمين، فيسمع أصوات الغناء والمعازف! تصدر عن البيوت عالية، بدلا من صوت القرآن وتلاوته! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول أبو موسى: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى» ولم يقل: قال لي رسول الله، كأنه قال ذلك حياء، أو بعدا عن تزكية النفس.
قوله: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة» يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقرب بيت أبي موسى الأشعري فسمعه يقرأ في الليل، فوقف صلى الله عليه وسلم واستمع لقراءته وأنصت، وهذا لمحبته صلى الله عليه وسلم للقرآن وسماع آياته، وكما سبق أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمعه من غيره من المتقنين المهرة به، خاصة إذا كان حسن الصوت بالقرآن؛ فإن لذلك أثرا عجيبا في النفوس المؤمنة كما هو معلوم ومشاهد، أنها تتأثر بالقرآن إذا سمعته ممن يجيد قراءته، ويجود تلاوته، بل إن الجبال والطير والحيوان يتأثر بذلك ويبكي.
وورد في الحديث عند أحمد: أن أبا موسى قال للنبي صلى الله عليه وسلم : «أما إني لو علمت بمكانك، لحبرته لك تحبيرا» يعني لحسنت صوتي ولجملته تجميلا، أي إن أبا موسى كان يقرأ قراءته المعتادة، ولم يكن قد استعدّ واهتم كثيرا، فلو علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستمع له، لحسن تلاوته وبالغ في تجويد القراءة.
وورد عند ابن سعد من حديث أنس: أن أبا موسى قام ليلة يصلي، فسمع أزواج النبي صوته – وكان حلو الصوت – فقمن يستمعن إليه، فلما أصبح قيل له فقال: «لو علمت لحبرته لهم تحبيرا» قال الحافظ: إسناده على شرط مسلم.
وأخرج ابن أبي داود: عن أبي عثمان النهدي قال: «دخلت على دار أبي موسى فما سمعت صوت صنج، ولا بربط، ولا ناي أحسن من صوته». وسنده صحيح، قاله الحافظ.
والصنج آلة تتخذ من نحاس كالطبقتين تضرب إحداهما بالأخرى، والبربط بوزن جعفر، هو آله تشبه العود، والناي هو المزمار.
قوله: «فقال صلى الله عليه وسلم : لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» المزمار هنا المقصود به هو الصوت الحسن، وأصله: الآلة، فأطلق اسمه عليه للمشابهة، فالمقصود بالمزمار هنا هو: أن صوته كان صوتا حسنا جدا كالمزمار.
وآل داود المقصود هو داود نفسه، وآل فلان يطلق على نفسه؛ لأنه لم ينقل أن أحدا من أولاده ولا من أقاربه، كان قد أعطي صوتا حسنا كما أعطي داود، وقد كان داود عليه الصلاة والسلام حسن الصوت بالزبور جدا، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه العزيز، فقال سبحانه في سورة سبأ: {ولقدْ آتينا داودَ منّا فضلاً يا جبالُ أوّبي معه والطّير}. فكانت الجبال تؤوب معه، أي: تردد معه إذا قرأ، وأيضا في قوله تعالى في سورة: (ص) لما ذكر داود عليه السلام قال تعالى: {إنّا سَخّرنا الجبالَ معه يُسبّحن بالعشي والإشراق والطير محشورة ًكلٌ له أواب}. فالله سبحانه وتعالى سخر لنبيه داود عليه السلام الجبال فكن يسبحن معه إذا سبح، وإذا تلا كتابه تلت معه كتابه، وكان داود عليه السلام يسمعُ تسبيح الجبال إذا سبحت معه، وكانت الطير إذا سمعت قراءة داود حُشرت في الهواء، بمعنى حبست، فتقف الطير في السماء وتستمع لقراءة داود عليه السلام، من سحر وجمال قراءته عليه السلام، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قراءة أبي موسى قال له: أوتيت مزمارا من مزامير آل داود، أي مزمارا واحدا من مزاميره، يعني أن داود عليه الصلاة والسلام كان أحسن صوتا منك بكثير، وإنما أنت أوتيت شيئا مما أوتيت داود عليه السلام، وقد جاء في الحديث: «أنه كان من أعبد البشر» فكان من أكثر الأنبياء وأشدهم تعبدا لله سبحانه وتعالى صلاتا وقياما وقراءة وصياما، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعبد منه وأقرب لله تعالى.
ولا يقصد بهذا الحديث أن أبا موسى الأشعري كانت قراءته على نهج الموسيقى والغناء، والمبالغة المذمومة في هذا الباب، كما يفعل بعض القراء بحيث تظن أنه يغني ولا يقرأ القرآن! لبعده عن هدي السلف في القراءة المؤثرة التي يهتدي بها السامع، ويدرك بها معاني كتاب الله سبحانه وتعالى، ويحصل له الخشوع والبكاء من خشية الله، وقد ورد أن السلف رحمهم الله أفتوا بحرمة من يقرأ على نهج الموسيقى والغناء، ولحون أهل الفسق، ولا شك أن هذا ليس هو المقصود بهذا الحديث. والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 222.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 216.39 كيلو بايت... تم توفير 5.90 كيلو بايت...بمعدل (2.65%)]