|
|
من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
البرميل الرابع (قصة)
البرميل الرابع (قصة) أسعد أحمد السعود البرميل الرابع: شاهدت صورة لطفلة تنبض بالحياة الحقيقية، وجه جميل ربّاني الملامح، قمري التوهج، يتوسط تناثر شعر معفر حالك السواد من كل الجهات، بدر في ليلة تحكي قصتها بتلقائية وعفوية من دون أشعار ولا قصيد ولا سمار ولا رائحة قهوة مغلية مقهورة، عيونها شاردة لا تعرف مكانًا تحط عليه، ثغرها الطفولي الحيران يبعث أنات مختلطة بين البكاء وأنين الألم، وابتسامة شاردة كأنها ترحب بمن حولها، ذهول مسيطر على إدراكها، ولا تقوى على تثبيت التفافات رأسها باتجاه واحد. لا يظهر من الصورة إلا كفَّان أبيضان تمسحان بقطعة قطن ما تراكم على وجهها، وما غطى ملامحه الوضّاءة من دماء مختلطة بالأتربة السوداء المحترقة. وفي آخر زمن للصورة الملتقطة، رأيت يدًا ثالثة تمتد لرأس الفتاة الطفلة، وتمسح خصلات الشعر المتناثرة بحنان واضح. لم أستطع البقاء في المشاهدة لرؤية أو سماع آخر ما تناهت إليه حالتها، وحال المكان الذي انتشلت منه، من بين ركام هائل، أحدثته ثلاثة براميل مجرمة مدمّرة، اقتحمته صباح هذا اليوم مستهدفة كل ما يمتُّ للحياة بصلة. وأنا مسرع الخطى كنت أستجمع كلمات الشوق لدقائق حرجة أغتنمها، وأسابق بها الزمن لرؤية هذه الطفلة حية ترزق، وأردت بيني وبين نفسي أن أسألها بعضًا من الأسئلة المقتضبة والسريعة. نعم، ليست هي بالأسئلة المعتادة، هي كلمات في حقيقتها خفيفة دمثة غير ثقيلة الوقع، ولا سمجة، أردف بها استشفاعًا بأن تكون أجوبتها غير مكلفة ولا صعبة، ولا تتطلب جهدًا ولا عناءً بالرد عليها، أكتفي بكلمة واحدة قليلة الأحرف، وربما من حرف واحد، أو حتى بالإشارة أو الإيحاء، أو بهزة من رأسها المصاب المتعب. حاولت تأنيب نفسي على ما كنت أفكر فيه، وما كنت أريده، وقلت لها: ربما يكون السؤال -أي سؤال- صعبًا وثقيلاً جوابه، ولفظه يكون مثل قَفَزاتي وأنا أركض من بين ركام الأبنية والأزقة المهدَّمة من التدمير المبرمج الذي بدأ بها منذ زمن ليس بقليل. كيف لي أن أسألها ورأسها الصغير الجميل كان قبل قليل يحمل من فوقه مئات الأطنان من أنقاض الأبنية والبيوت التي وجدت طفلتنا حية تحتها؟ بل وكيف لي أن أسمح لنفسي مرة أخرى أن أرفع صوتي أمامها وأُذُناها قبل قليل قد استقبلتا صوت دويٍّ هائل لا تتحمل قوتَه أيٌّ من الكائنات، بشريةً كانت أو حيوانية؟ وربما -وهذا هو المتوقع- تكون جميلتنا قد فقدت سمعها، أو بصرها، وأضف إلى ذلك، ربما تكون قد فقدت قدرتها على الكلام نهائيًّا. وكان آخر تحرير لسؤال أسألها إياه وأقول لها أو أطلب منها ولو بالإشارة: أنْ مُدِّي إليَّ يديك، حاولي ببطء وبلطف إمساك يدي، أريد أن أطمئن على سلامة حركتها، وقوة إرادتها الضعيفة، وكل هاجسي وأمنيتي أن تكون سليمة غير مصابة بأي كسور أو جروح بليغة في أي من أنحاء جسمها الطفولي الغض، قد تحدُّ من قدرتها على الحركة، وهذا متوقع جدًّا في مثل هذه الحالات! رحماك يا رب الأرباب، أستعين بك لا بسواك يا ألله! لم أرَ سوى خيالات تهيم من أمام عيني، وبعد جهد متفانٍ وسط آلام لا أقوى على تحمُّلها يعج بها كل جسمي، رأيت من عمق ما تبقى من بصري ذاتَ الكفين الأبيضين وهي تمسح وتنظِّفُ بالقطن والمطهِّر عيوني وبقية وجهي، وما عفر به رأسي كله من دم عرفت طعمه المخلوط بالتراب المحروق بفمي! سمعت وبصعوبة بالغة ممن كان حولي يقول لي: • لولا أنك كنت تركض، لَمَا سلِمتَ من البرميل الرابع!
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |