تدبر سورة الواقعة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 213765 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-02-2023, 10:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي تدبر سورة الواقعة

تدبر سورة الواقعة
هبة حلمي الجابري

عندما نسمع آيات القرآن، نجد له حلاوة، وعليه طلاوة، يريح النفوس، ويقنع العقول، ويلهب العواطف، في كل مرة نقرؤه نرى لكلماته معانيَ جديدةً؛ فإذا اختلفت حالتنا ما بين صحة ومرض، أو حزن وفرح، وقعت كلماته علينا وقعًا مختلفًا، وفتحت لنا آفاقًا جديدةً من كنوز المعاني والدروس والعِبر.

وأحببت أن أشارككم بعض تأملاتي عند قراءة سورة الواقعة، والتي قد يظهر غيرها عندما أقرأها مرة أخرى، وقد يكون لمن يقرأها غيري تدبُّرات أخرى، فمَعين القرآن وغزارة معانيه وكنوزه لا تنضب.

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ﴾ [الواقعة: 1 - 3].

تبدأ السورة بالحديث عن أحداث النهاية في بضع آيات، لكن يأتي وقع الآيات على الأذن كالصاعقة شديدًا بمجرد أن نبدأ السورة، وكأنها تقول لي: أفيقي من غفلتكِ، فمهما شغلتكِ الدنيا وأنستكِ الآخرة، فهي قادمة لا محالة، وحين تأتي لن يكذب بها أحد، كل من أنكرها وأنكر البعث في الدنيا سيعلم أنها حق لا كذب.

ولكن متى ستكون؟
لا أدري، وماذا يعنيني أن أعرف أنها في يوم كذا وفي عام كذا، إذا كنت سأموت قبلها؟!

بمجرد أن تخرج الروح سنبدأ أول منازل الآخرة، وسنرى مقعدنا من الجنة أو النار والعياذ بالله، ولكن كل هذا ليس شيئًا بجوار أهوال الواقعة، حين نُبعث من القبور بعد سماع الصيحة؛ ولذلك سُمِّيَ يوم القيامة بالواقعة، فالواقعة هي: الصيحة؛ أي النفخ في الصور.

حينها ستسقط كل درجات الدنيا ومنازلها ومراتب الناس فيها، لا يهم جاهك، ولا منصبك، ولا مالك في الدنيا، لا تحزن إذا لم تكن ذا بال ولا شأن في الدنيا، كل هذا قد ذهب وتركته يوم وُضعت في القبر، التفاوت الحقيقي بين الناس يكون يوم القيامة، المنازل الحقيقة للناس تكون يوم القيامة، فالرفيع حقًّا من ارتفع ذلك اليوم، والوضيع من انخفض ذلك اليوم، ألم يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن معيار التفاضل بين الناس عند الله هو التقوى؟ فهل حققنا التقوى لنكون من أهل الرفعة يوم القيامة؟

﴿ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ﴾ [الواقعة: 4 - 6].
كل شيء سيتغير، ستتغير في هذا اليوم حال الأرض والجبال، ستهتز الأرض وتتزلزل، وستتفتت الجبال الصلبة القوية الشامخة حتى تصير كالدقيق المبسوس، وهو المبلول، فكانت هباءً: أي: هدرًا، وحتى إذا تعدد تفسير معناها، فكلها تؤدي إلى معنى واحد أنها انتهت إلى لا شيء، انتهت الدنيا وتغيرت معالم الأرض، لقد بدأنا دارًا جديدة، تغير فيها كل شيء كما تغيرت مراتب الناس وتفاوتت، فكيف سيكون حال الناس حينها؟

﴿ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴾ [الواقعة: 7 - 10].

سيتفرق الناس إلى ثلاثة أصناف مختلفة، ولكن لماذا كانت على هذا الترتيب؟
عندما نرتب مجموعة من الأشياء نرتبها تصاعديًّا أو تنازليًّا، نبدأ بالأعلى منزلة ثم ننزل، أو نبدأ بأدناها ونصعد، فعلى أي أساس كان اختيار هذا الترتيب؟ ولماذا اختلف الترتيب عند الحديث عنها بالإجمال عن ترتيبها عند التفصيل؟

يقول صالح المغامسي: "فبدأ جل وعلا بأصحاب الميمنة حتى يرغب فيهم الراغب، ثم قال: ﴿ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴾ [الواقعة: 9]؛ حتى يرهِّب الناس أن يكونوا مثلهم، ثم قال جل شأنه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴾ [الواقعة: 10]؛ حتى يطمع أصحاب الميمنة إلى أن يرتقوا بأنفسهم إلى درجة السابقين".

ويقول العلامة ابن عثيمين: "ذكَّرهم الله تعالى غير مرتبين في الفضل، فبدأ الله بأصحاب الميمنة ثم ثنَّى بأصحاب الشمال، ثم ثلَّث بالسابقين، لكن عند التفصيل بدأ بهم مرتبين على حسب الفضل فبدأ بالسابقين، ثم بأصحاب اليمين، ثم بأصحاب الشمال، وهذا التفصيل المرتب خلاف الترتيب المجمل، وهو من أساليب البلاغة".

ولكن ألَا يشد الانتباه ويثير الفضول ويجذب الأسماع قول الله تعالى: ﴿ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ [الواقعة: 8]؛ أي شيء أصحاب الميمنة؟ ﴿ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴾ [الواقعة: 9]؛ أي شيء أصحاب المشأمة؟ لنعرفهم عن قرب أكثر؟ هذه هي بلاغة القرآن ولا بد أن حالهم حال عظيمة لا بد أن ننتبه له.

فهل انتبهنا؟ إذًا هيا نتعرف على هذه الأصناف الثلاثة وعلى حالهم.
وها نحن قد انتبهنا، فتبدأ الآيات بالحديث عن أعظم وأعلى فريق.

﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴾ [الواقعة: 10 - 26].


لماذا لم يقل هنا "والسابقون ما السابقون" مثل أصحاب اليمين وأصحاب المشأمة؟
والجواب: كأنما ليقول إنهم هم هم وكفى، فهو مقام لا يزيده الوصف شيئًا.
هذا هو القرآن، كل لفظ بل كل حرف له معنى وغرض.

لا يكفي أصحاب الهمم أن يكونوا من أصحاب اليمين، بل يتسابقون ويسارعون لكل خير وعمل صالح، فرقٌ بين من يعمل فقط وبين من يسارع ويسابق ويبادر، وكأن الدنيا مكان لسباق كبير، فأين نحن من هذا السباق؟

ولأن الجزاء من جنس العمل فكانوا في الآخرة من السابقين للكرامة؛ فقال الله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [الواقعة: 11]، من الذي قربهم؟ الله.

إذًا ليس القرب بسبب عملهم، وإنما برحمة الله وفضله وكرمه وإحسانه، أدخلهم جناته يتنعمون فيها بما أعده لهم، ومهما بلغ عظم ما أعده لهم، فليس هناك نعيم أعظم من القرب من الله والنظر إلى وجهه الكريم في الجنة، فهنيئًا لهم قربهم من الله، وهنيئًا لهم فوزهم في السباق، لقد بذلوا الجهد واستحقوا المكافأة، ولكن ليس الجميع يستطيع أن يتقدم ويسبق، فهذا يحتاج إلى همة عالية، فلذلك هم عدد محدود وفريق منتقًى، كثرتهم في الأولين وقلتهم في الآخرين، إذًا كما يقول عبدالله بلقاسم: "الإحصاء يشهد لمذهب السلف".

فهل فات الأوان لنكون منهم؟ لا أبدًا، فهناك في الآخرين منهم، حتى وإن كانوا قليلًا، فلنحرص على أن نكون من هذا القليل.

وتبدأ الآيات ببيان بعض هذه النعم، وتقريبه للأذهان، بمسميات نعرفها، أما في الواقع، فالجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

فيها سرر مصنوعة من الذهب، في الدنيا كنا منهيين عنه، والآن جزاء من امتثل للنهي أن يتنعم بما حُرم منه في الدنيا.

ومع أنواع النعيم التي تذكرها الآيات نراهم يشربون من خمر صافية سائغة، لا تنتهي، ولا تُذهِب العقل، نُهوا عنها في الدنيا فأطاعوا فكُوفِئوا في الجنة بشربها، ولكن مع إزالة أي أثر ضار كان لها في الدنيا؛ إنه النعيم.

نرى دقة القرآن في ترتيب الألفاظ والإتيان بالفواكه قبل أكل اللحم؛ ﴿ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [الواقعة: 20، 21]؛ يقول الدكتور عبدالدائم الكحيل: "إن الذي يتأمل آيات القرآن أثناء الحديث عن طعام أهل الجنة يلاحظ أن الله تعالى يذكر الفاكهة أولًا ثم اللحم، وفي ذلك حكمة طبية عظيمة فالفاكهة تحوي سكريات بسيطة وسهلة الامتصاص والهضم، وهي المصدر الأساسي للطاقة في الجسم، وبالتالي فإنها تذهب الجوع، بينما لو بدأ الإنسان بأكل اللحم أولًا، فسوف يحتاج جسمه إلى ثلاث ساعات حتى تكتمل عملية الامتصاص، وهنا تتجلى الحكمة من ذلك؛ يقول تعالى: ﴿ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [الواقعة: 20، 21]؛ ولذلك يجب أن نتذكر هذه الحقيقة العلمية ونطبقها أثناء إفطارنا في شهر الصيام".

ولكن لماذا خص لحم الطير؟ يقول صالح المغامسي: "لأن الناس جرت أعرافهم وتقاليدهم على أنهم يأكلون من بهيمة الأنعام، ولحم الطير عزيز لا يناله كل أحد، فإنما يحصل للملوك غالبًا إذا نفروا أو ذهبوا للصيد، فأخبر الله جل وعلا أن ذلك الشيء الممتنع في الدنيا عند البعض، إنما هو متاح للكل لمن دخل الجنة، رزقني الله وإياكم الجنة".

هل اشتهينا فاكهة الآخرة ولحمها؟
هناك فقراء في الدنيا يشتهون فاكهة الدنيا ولحومها ولا يجدونها، فلماذا لا نتصدق على فقير بفـاكهة أو لحم لعلنا ننال فـاكهة الجنة ولحمها؟ فالجزاء من جنس العمل.

وهل لاحظنا صفات الحور العين؟
﴿ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴾ [الواقعة: 23]، واللؤلؤ المكنون هو اللؤلؤ المصون، الذي لم يتعرض للمس والنظر، فلم تثقبه يد ولم تخدشه عين، لم يقل كأمثال اللؤلؤ فقط، بل قال المكنون؛ أي المصون، فهلَّا تشبهت نساء المؤمنين بالحور العين، وصُنَّ أنفسهن عن كثرة الخروج من بيوتهن بلا حاجة، فكنَّ كاللؤلؤ المكنون؟

كل هذا جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا، ألَا يشجعنا ذلك على العمل لنجازَى على عملنا؟ لن نحصل على ذلك النعيم بالأماني، بل بالعمل لنستحق رحمة الله وفضله.

وفوق هذا النعيم نعيم آخر قد لا ننتبه له: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴾ [الواقعة: 25، 26]، هل نريد أن نعيش في جزء ولمحة من نعيم الآخرة؟ إذًا فلنحمِ سمعنا ونصُنْه عن سماع اللغو والإثم، ولنجعل حياتنا كلها سلامًا.

هل تاقت أنفسنا لنكون منهم بعد معرفة كل هذا النعيم الذي ينتظرهم، ولكن عجزت همتنا عن اللحاق بهم؟
لا بأس فلنحاول مرات ومرات، فإن لم نستطع الصمود في السباق، فما زالت أمامنا فرصة لنكون من أهل الجنة، ولو في منزلة أدنى منهم، فتنتقل الآيات للحديث عن أصحاب اليمين.

﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ﴾ [الواقعة: 27 - 40].

يعيد السؤال عنهم بتلك الصيغة التي تفيد التفخيم والتهويل، ويتحدث عن نوع آخر من النعيم، "ولأصحابنا هؤلاء نعيم مادي محسوس، يبدو في أوصافه شيء من خشونة البداوة، ويلبي هواتف أهل البداوة حسبما تبلغ مداركهم وتجاربهم من تصور ألوان النعيم"، فالسدر منزوع الشوك، والطلح أيضًا بلا شوك يحصلون عليه بلا مشقة، وإذا غاية ما يتمناه البدوي في الشمس الحارقة الظل والماء، فهو هناك في الجنة موجود بلا عناء.

وفيها فاكهة لا تنقطع شتاء ولا صيفًا، بل أُكُلها دائم مستمر أبدًا، مهما طلبوا وجدوا، لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء.

وفيها فرش مرفوعة، ولكن لماذا مرفوعة؟ لماذا ليست على الأرض مباشرة؟
للرفع في الحس معنيان؛ مادي ومعنوي يستدعي أحدهما الآخر، ويلتقيان عند الارتفاع في المكان والطهارة من الدنس، فالمرفوع عن الأرض أبعد عن نجسها، والمرفوع في المعنى أبعد عن دنسها.

وهنا أقف لبرهة وأنا أقرآ الآية بعدها فالحديث عن الفرش، ثم تنتقل الآيات فجأة للحديث عن النساء في الجنة، فما الربط بينها؟
يقول ابن كثير: "وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾ [الواقعة: 35 - 38]، جرى الضمير على غير مذكور، لكن لما دل السياق وهو ذكر الفُرُش على النساء اللاتي يضاجعن فيها، اكتفى بذلك عن ذكرهن، وعاد الضمير عليهن".

فما صفاتهن؟ كانت نساء الدنيا لا تحب الحديث عن عمرها، وتتمنى كلما كبرت لو كان عمرها أصغر، ها أنت في الجنة يتحقق حلمكِ، وربك يعيدكِ صغيرة مليحة كما كنتِ ترغبين دومًا في الدنيا، إنه يوم تحقيق الأماني والعودة للشباب، بل بكرًا أيضًا.

من صفاتهن أنهن متحببات لأزواجهن، فيا كل زوجة تحببي إلى زوجكِ ليكون فيكِ صفة من صفات نساء الجنة.

كل هذا النعيم كثير سيستطيع الوصول إليه والحصول عليه من الأولين والآخرين، فإذا فاتك أن تكون من القليل المتأخرين من السابقين، فلا أقل من أن تكون من الكثيرين من أهل اليمين، المهم ألَّا تكون مع الفريق الثالث أصحاب الشمال.

﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴾ [الواقعة: 41 - 48].

يا ألله! من يستطيع تحمل كل هذا العذاب؟ حتى من يحاول الهروب من الهواء الحار والماء الحار ليبحث عن ظل يستظل به، فالظل هناك ظل الدخان الخانق لا فيه برد ولا راحة معه.

وصف يقشعر له البدن، فلماذا كل هذا؟ ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾ [الواقعة: 45]، ما هذا؟ هل الترف في الدنيا سبب في عذاب الآخرة؟ هل عندما يفتح لي أبواب الرزق وأعيش في مباهج الدنيا يكون ذلك سببًا في عذاب الآخرة؟!

بالطبع ليس هذا المقصود، ويوضح لنا ابن عاشور المقصود ويقول: "لأنهم لما قصروا أنظارهم على التفكير في العيشة العاجلة، صرفهم ذلك عن النظر والاستدلال على صحة ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهذا وجه جعل الترف في الدنيا من أسباب جزائهم الجزاء المذكور".

المشكلة أن انشغالهم بالترف أنساهم عبادة ربهم واليوم الآخر؛ ولهذا جاءت الآية بعدها لتوضح أكثر حالهم وتقول: ﴿ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 46]، والحنث الذنب؛ وهو هنا الشرك بالله، وكانوا ينكرون البعث الذي حدثتنا أول السورة أنه إذا وقع، فلن يكذب به أحد.

فماذا كان الرد عليهم وعلى تكذيبهم بالبعث؟ قبل أن يصدقوا ذلك حتمًا حين لا ينفع الندم؛ ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [الواقعة: 1، 2]، هل سيكون الرد بالرفق واللين والترغيب أم الشدة والتقريع والتوبيخ والترهيب؟

﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الواقعة: 49 - 56].

الأولون والآخرون من ظننتم أنهم ماتوا وتحولوا إلى التراب، من كانوا في الماضي ومن هم في الحاضر، الآن الكل سيجتمع، ثم يعود إلى ما ينتظر المكذبين، فيتم صورة العذاب الذي يلقاه المترفون بعبارات مرعبة مخيفة.

فما بال مَن إذا سمعوا الوعَّاظ يُرهبون ويخوِّفون من عذاب النار وجحيمها، نفروا وقالوا لا تحدثونا بالترهيب، وإنما نحن لا يؤثر فينا إلا الترغيب، هذا هو القرآن يستعمل ألفاظ الترهيب أحيانًا عندما يحتاج المستمع أن يفيق، يحتاج الإنسان أحيانًا لمن يرجُّه رجًّا لعله يرجع عما هو فيه.

نعود لوصف عذاب أصحاب الشمال وأكلهم، فقد عرفنا بعض أشكال طعام أهل الجنة، فما طعام أهل النار؟
إنه من شجرة الزقوم التي أخبرنا القرآن في آيات أخرى أن طلعها كرؤوس الشياطين، تخيلوا الوصف الشنيع، فكيف يأكلون منها؟ إنهم لآكلون، بل ﴿ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴾ [الواقعة: 53]، فما الذي يجبرهم على ذلك؟ يقول السعدي في تفسيره: "والذي أوجب لهم أكلها - مع ما هي عليه من الشناعة - الجوع المفرط، الذي يلتهب في أكبادهم وتكاد تنقطع منه أفئدتهم، هذا الطعام الذي يدفعون به الجوع، وهو الذي لا يسمن ولا يغني من جوع".

تذكرت وقتها عندما جاع الصحابة في شِعب أبي طالب حتى أكلوا ورق الشجر، هؤلاء تحملوا الجوع في الدنيا من أجل الله ودينه، فكانوا من السابقين، وجزاهم الله بأفضل الطعام في الجنة، أما أصحاب الشمال المترفون الذي أكلوا ما لذَّ وطاب في الدنيا دون أن يهتموا أمن حلال أم من حرام، هذا طعامهم في النار، فشتان بين طعام الفريقين.

وعندما نأكل لا بد من الشراب، خصوصًا لو كان الطعام غير مستساغ، فما شراب أصحاب الشمال؟ إن شرابهم من الحميم، وليته يرويهم، بل مهما شربوا فسيظلون عطاشًا كالإبل الهيم، وهو داء يصيب الإبل، لا تُروى معه من شراب الماء.

﴿ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الواقعة: 56]، هذا المكان الذي يعد لضيافتهم، هذه هي الضيافة التي تقدم لهم، فالنزل أول ما يأكله الضيف، فكأنه يقول: هذا أول عذابهم، فما ظنك بالعذاب نفسه؟

بهذا ينتهي استعراض أصناف الناس يوم القيامة، وتبدأ الآيات في عرض الأدلة والبراهين على البعث، ما زال هناك وقت ليراجعوا أنفسهم بعد سماع هذه الأدلة ليؤمنوا قبل أن تأتي الواقعة، فيؤمنوا ولن يكذب بالبعث والدار الآخرة وقتها أحد، ولكن عندها سيكون الأوان قد فات، ولن ينفع الندم.

﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الواقعة: 57 - 62].

هذا هو القرآن منهاج حياة، ونبراس لكل مسلم ومن ضمنهم الدعاة، فيعلم الدعاة كيف يحاورون أهل الكفر والضلال بالحجة والبرهان، وضرب أمثلة قريبة من عقولهم مرتبطة بحياتهم، يدركها العالم والجاهل.

فمن يستطيع أن ينكر قضية الخلق والوجود؟ "إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري أو يجادل فيه".

إعجاز في بداية الخلق وإعجاز في نهايته عند الموت، فلا أحد يستطيع أن يخلق ولا أحد يستطيع أن يمنع الموت عن نفسه أو غيره.

وربنا القادر على تغيير خلقنا يوم القيامة، وإنشائنا فيما لا نعلم من الصفات والأحوال، قادر على أن يبدل حالنا من حال إلى حال، فلندعُهُ فهو القادر على كل شيء.

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [الواقعة: 63 - 67].

تنتقل الآيات إلى الحديث عن الزرع، من الزارع الحقيقي؟ من يلقي البذر ويسقيه أمَّن ينبته وينميه بقدرته ولو شاء لَما جعله ينبت؟

وهنا لفتة جميلة ينبهنا لها فضيلة الشيخ ابن عثيمين فيقول: "﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾ [الواقعة: 65]، ولم يقل عز وجل لو نشاء لم نخرجه، بل قال: ﴿ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾ [الواقعة: 65]؛ أي: بعد أن يخرج ويكون زرعًا وتتعلق به النفوس، يجعله الله تعالى حطامًا، وهذا أشد ما يكون سببًا للحزن والأسى؛ لأن الشيء قبل أن يخرج لا تتعلق به النفوس، فإذا خرج وصار زرعًا ثم سلط الله عليهم آفة، فكان حطامًا؛ أي: محطومًا لا فائدة منه، فهو أشد حسرة".

﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 68 - 70].

ثم ينتقل إلى مادة الحياة؛ وهو الماء؛ وهنا يقول العلامة ابن عثيمين: "﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 70]، ولم يقل: لو نشاء لغورناه، أو منعنا إنزاله؛ لأن كونهم ينظرون إلى الماء رأي العين ولكن لا يمكنهم شربه، أشد حسرة مما لو لم يكن موجودًا، والله عز وجل يريد أن يتحداهم بما هو أعظم شيء في حسرة نفوسهم، ﴿ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 70]؛ أي فهلا تشكرون الله عز وجل على إنزاله من المزن، وعلى كونه سائغًا عذبًا لذيذَ الطعم سريعَ الهضم.

ولكن لماذا مع الزرع قال: ﴿ لَجَعَلْنَاهُ ﴾ ومع الماء بدون اللام ﴿ جَعَلْنَاهُ ﴾؟ في الزرع لأن للإنسان دورًا فيه؛ حيث يحرث ويغرس ويسقي فأتى بلام الجزم؛ لكيلا يدَّعي الإنسان أنه أنبته، أما نزول المطر فلا يجرؤ أحد على أن يدعي أنه أنزله.

نرى في الآيات أن الله يمنُّ علينا بنعمه، ثم يذكِّرنا بقدرته على سلبها؛ حتى لا نغتر بها، وهنا نتذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)).

وهنا نقرأ: ﴿ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 70]، نعم، هل تدبرنا حولنا في نعم الله علينا وشكرناه عليها؟ ألا نخاف إذا لم نشكر أن يرفعها الله عنا ويسلبها منا؟

هل شكرنا الله على نعمه ونسبناها له وحده أم كفرناها ونسبناها لغيره؟ هل تعلقنا بالأسباب ونسينا رب الأسباب؟

هل لاحظنا ﴿ لَوْ نَشَاءُ ﴾ كل شيء يحدث إنما هو بمشيئة الله وحده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلنلجأ إليه وحده.

﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ﴾ [الواقعة: 71 - 73].

نعمة الزرع والماء معروفة للجميع، لكن هل خطر في بالنا أن النار نعمة؟ فلنتخيل لو لم يكتشف الإنسان النارَ كيف ستكون حياته، ولكن من الذي أنشأ وقودها؟ من الذي أنشأ الشجر الذي توقد به النار؟ كل تفصيلة من حياتنا اعتَدْنا عليها، ولا نُلقي لها بالًا هي نعمة من الله.

تلك النار جعلها الله لنا تذكرة، كلما رأيناها تذكرنا نار الآخرة، تذكرنا يوم القيامة، تذكرنا الواقعة، فهل فعلنا ذلك كلما أشعلناها، كلما شعرنا بحرارتها أو لسعتنا؟

وينتفع بها المقوون، وهم المسافرون، فلماذا خص المقوين بالذكر بالرغم من أن التذكرة والمتاع يعم المسافرين وغيرهم؟

قال ابن القيم رحمه الله: "وخص المقوين بالذكر، وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين؛ تنبيهًا لعباده - والله أعلم بمراده من كلامه - على أنهم كلهم مسافرون، وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين، وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر"؛ [طريق الهجرتين، ص142، ط. السلفية].

تنتقل الآيات لتخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمره بالتسبيح، فكل هذه الأمثلة هي دليل لا ريب فيه على وجود الله وعظمته وربوبيته، لا نملك بعدها إلا تسبيح الله وتنزيهه عن كل نقص.

﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 74]، ولما نزلت هذه الآية؛ قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اجعلوها في ركوعكم))، ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال: ((اجعلوها في سجودكم))؛ ولهذا ينبغي للإنسان إذا كان يصلي وقال: سبحان ربي العظيم، أن يستحضر أمر الله في قوله: ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 74]، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ((اجعلوها في ركوعكم))؛ حتى يجمع بين الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ [العلامة العثيمين].

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الواقعة: 77 - 80].

ثم تربط الآيات بين القرآن وبين هذا الكون في قسم عظيم من رب العالمين، ونرى الدقة والإعجاز في حديث الآيات عن مواقع النجوم وليست النجوم فقط، في إعجاز علمي آخر في السورة لم يكن ليدركه من عاش وقت نزول الآيات، أما نحن اليوم، فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به نصيبًا أكبر بكثير مما كانوا يعلمون، ولعلنا لم نعرف إلا القليل منه، وسيأتي بعدنا من يدرك الإعجاز فيها بشكل أكبر منا، فأسرار القرآن وإعجازه لا ينتهي ولا يتوقف.

يقول الدكتور زغلول النجار: "وهذا القسم القرآني العظيم بمواقع النجوم يشير إلى سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى إحدى حقائق الكون المبهرة‏، والتي تقول: إنه نظرًا للأبعاد الشاسعة التي تفصل نجوم السماء عن أرضنا‏، فإن الإنسان على هذه الأرض لا يرى النجوم أبدًا‏، ولكنه يرى مواقع مرت بها النجوم ثم غادرتها‏، وعلى ذلك فهذه المواقع كلها نسبية‏، وليست مطلقة، ليس هذا فقط، بل إن الدراسات الفلكية الحديثة قد أثبتت أن نجومًا قديمة قد خبت أو تلاشت منذ أزمنة بعيدة، والضوء الذي انبثق منها في عدد من المواقع التي مرت بها لا يزال يتلألأ في ظلمة السماء في كل ليلة من ليالي الأرض إلى اليوم الراهن‏، كما أنه نظرًا لانحناء الضوء في صفحة الكون، فإن النجوم تبدو لنا في مواقع ظاهرية غير مواقعها الحقيقية‏، ومن هنا كان هذا القسم القرآني بمواقع النجوم‏، وليس بالنجوم ذاتها على عظم قدر النجوم التي كشف العلم عنها أنها أفران كونية عجيبة يخلق الله‏‏ تعالى‏ لنا فيها كل صور المادة والطاقة التي ينبني منها هذا الكون المدرك"‏.‏

لماذا هذا القسم؟ وهو قسم عظيم فالمقسم عليه عظيم أيضًا، فلننتبه له جيدًا.
﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ [الواقعة: 77] عظيم، فتوضح لنا السورة السبيل للإيمان والابتعاد عن أصحاب الشمال، وتقدم لهم ولنا توجيهًا بأن نتفكر ونتذكر، فنشكر ونؤمن، وبينت لنا أن كل ما نحتاجه لنرتفع في درجات الجنات، وننجو من مصير أصحاب الشمال موجود في هذا القرآن الذي أنعم به رب العالمين على عباده، وأرشدنا ربنا هنا إلى طريقة الانتفاع بالقرآن؛ فقال: ﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ [الواقعة: 79]؛ قال ابن تيمية: "فإذا كان ورقه لا يمسه إلا المطهرون، فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة".

إذًا الربانيون هم الذين يعلمون عظم قدر القرآن، وأنه منزل من ربهم تعالى، ويستيقنون بما فيه من الحق والوعد الصدق، فإذا تمسكوا وعملوا به، نجَوا يوم تخرج الروح من الجسد ووجدوا ما يسرهم.

﴿ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 81 - 96].

ثم تأتي الآيات لتحدثنا عن لحظة الموت، لحظة الانتقال من الدنيا لأول منازل الآخرة؛ حيث لا رجوع، ولا يمكن تدارك ما فات.

هل تكذبون بيوم القيامة، وتشكُّون في الآخرة، وتكذبون بالقرآن وما يقصه عليكم من شأن الآخرة، وما يقرره لكم من أمور العقيدة؟ ستعلمون أن كل هذا حق في هذه اللحظة، لحظة خروج الروح، وعندها يبدأ كل صنف من الأصناف الثلاثة التي وردت في السورة في معرفة منزلتهم ومكانهم ومصيرهم.

ثم تصور الآيات هذا الموقف الجليل تصويرًا يكاد يشعرنا أننا ننظر إليه بأعيننا، في مشهد جليل يصف ما يحدث، والأحاسيس التي يشعر بها من يحضره، ننظر إلى جسد ملقًى قد فارقته الروح، ونحن عاجزون عن إنقاذ من نحب، عاجزون عن مساعدته، عاجزون عن تقديم أي شيء له، نراه يُحتضر ونحن ننظر لا نستطيع فعل شيء.

ننظر إليه ولا نعرف ما يراه هو، فهو يرى ما لا نرى، يرى ملائكة العذاب أو ملائكة الرحمة.
ربنا القريب قريب منا في كل وقت ولكننا ننسى.

يقول الشيخ ابن عثيمين: "﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ﴾ [الواقعة: 85]؛ يعني أن الله تعالى أقرب إلى الحلقوم من أهله، ولكن المراد أقرب بملائكتنا؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 85]، والله تعالى يضيف الشيء إلى نفسه إذا قامت به ملائكته؛ لأن الملائكة رسله عليهم السلام، وليس هذا من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولكنه من باب تفسير الشيء بما يقتضيه السياق؛ لأنه ربما يقول قائل: إن ظاهر الآية ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ﴾ [الواقعة: 85] أن الأقرب هو الله عز وجل، فلماذا تحرفونه؟ فنقول: نحن لا نحرفها، بل فسرناها بما يقتضيه ظاهرها؛ لأن الله قال: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 85]، وهذا يدل على أن هذا القريب في نفس المكان، ولكن لا نبصره، وهذا يعين أن يكون المراد قرب الملائكة؛ لاستحالة ذلك في حق الله تعالى، وأيضًا فإن القرب مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة؛ لقوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]".

ثم تحكي لنا الآيات حال كل صنف عند الاحتضار، وهو ذاهب إما إلى نعيم أو عذاب حسب حاله في الدنيا.

أما السابقون، فالآيات كلها رقة وعذوبة، تحكي لنا حالهم عند خروج الروح؛ فلهم روح وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت.

وأما أصحاب اليمين تبشرهم الملائكة بذلك، تقول لأحدهم: سلام لك؛ أي: لا بأس عليك، أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين، يا له من كلام يُدخِل الاطمئنان في القلب!

وأما أصحاب الشمال، فضيافتهم من حميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، ومآلهم إلى الجحيم، فشتان بينهم وبين المقربين وأصحاب اليمين.

هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا شك فيه، ولا محيدَ لأحدٍ عنه، وهنا يأتي الأمر مرة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم بالتسبيح، فما هو حالنا مع التسبيح؟

كم مرة نسبح الله وننزهه عن كل نقص وعيب؟
سبحان الله العظيم!
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 81.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 79.46 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.33%)]