أداء الأمانة فرقان بين الأحياء والأموات وبين المحسنين والمخسرين - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4417 - عددالزوار : 853374 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3948 - عددالزوار : 388534 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 214001 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 31-01-2023, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي أداء الأمانة فرقان بين الأحياء والأموات وبين المحسنين والمخسرين

أداء الأمانة فرقان بين الأحياء والأموات وبين المحسنين والمخسرين
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي


تفسير سورة الأنفال (الحلقة الخامسة)

أداء الأمانة فرقان بين الأحياء والأموات
وبين المحسنين والمخسرين


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.


قال الله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 24 - 29].


أخطر ما تُبتلى به الأمم أن تنال من عدوِّها ثم تستنيم بنشوة النصر وطعم الغنائم عن مكره، وهو في شِرَّة [1] الهزيمة يُعِدُّ العدة للثأر واسترجاع مبادرة التحكم في المواقف والمواقع؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم بخبرة القائد المحنك الموجَّهِ بالوحي لا يكف عن تنبيه الأنصار والمهاجرين بعد النصر في بدر إلى مخاطر الركون إلى الدعة وحلاوة المكاسب، كي لا يُدالَ عليهم من عدوِّهم ويعودوا لحالة الاستضعاف التي كانوا عليها من قبل، ويدعوهم لمواصلة الإعداد والاستعداد والتأهُّب لإتمام مشروعهم العظيم في بناء النواة الأولى لأمة الإسلام الظاهرة في الأرض، وإقامة دولتها العتيدة الشاهدة إلى يوم الدين، لا سيما وقد نزل من القرآن الكريم عقب غزوة بدر واستخلاصًا من تجربتها، ما بين الله لهم به جوهر هذه الأمة وأخطر أداة لبنائها وتحديد مراميها وأهدافها واجتناء ثمارها، فقال تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾؛ وذلك لأن الإيمان بالله تعالى إن تحقق في قلب المرء استوجب الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وأوجب طاعته فيما يدعو له، فإن لم تكن طاعةلم يكن إيمان.
وقوله تعالى:﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ فعل أمر للمبادرة بالطاعة والامتثال لما يريده الله تعالى دون تردد أو مراجعة أو تأخير، من فعل "جَاب"، وهو أصلان؛ أولهما: يعني السير في الأرض، فيقال جاب الأرض جوبًا؛ أي: سار فيها وقطعها، والثاني: يعني مراجعة الكلام، فيقال: كلَّمه فأجابه، والجوابُ هو رَديدُ الكلام سؤالًا كان أو حديثًا، تقول: أساء سمعًا فأساءَ جابةً أو إجابة أو جوابًا، وتقول: دعاه فأجابه واستجاب له واستجابه، والجوائب: الغرائب من الأخبار، من أجاب يجيبُ، واستجاب زيدت فيه السين والتاء للمبالغة، ويعني الإجابة بحزم وحرص وحسن تقدير للسائل أو الداعي، والأمر بالطاعة لله في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين في العهد النبوي وهم يشاركون في الجهاد من أجل فك الحصار المضروب عليهم، وكف أذى المشركين المتألبين عليهم، أو في تدبير الشأنين الخاص والعام بما ينزل على نبيِّهم صلى الله عليه وسلم من الأحكام الشرعية، كما هو موجه لكافة المسلمين في كل عصر ترشيدًا لتصرفاتهم وما ينبغي أن يكون عليه حالهم.
ثم قال تعالى: ﴿ وَلِلرَّسُولِ ﴾؛ أي: واستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ إِذَا دَعَاكُمْ ﴾؛ لأن دعوة الله تسمع من رسوله صلى الله عليه وسلم وقد اختاره للبلاغ، ولا بلاغ إلا بوحي، والوحي أمر ونهي وتشريع وبشارة ونذارة، كما أن الاستجابة واجب على كل من بلغته الدعوة بقوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقوله عز وجل عن الجن الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن عند منصرفه من الطائف فآمنوا ودعوا به قومهم، قالوا: ﴿ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأحقاف: 31، 32].
وقوله تعالى: ﴿ اسْتَجِيبُوا ﴾ فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجار والمجرور بعدها في قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ ﴾ متعلقان بالفعل، وحرف "إِذا" ظرف متعلق بالفعل "استجيبوا"، وقوله تعالى: ﴿ دَعاكُمْ ﴾ فعل ماضٍ مبني على الفتحة المقدرة على الألف، فاعله ضمير مستتر يعود للرسول صلى الله عليه وسلم، وحرف الكاف مفعوله.
والأمر بالاستجابة في الآية الكريمة للوجوب يؤيد وجوبه ما روى أبو هريرة من (أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَرَّ على باب أُبَيِّ بن كعب فناداه وهو في الصَّلاة، فعجَّل في صلاته، ثم جاء، فقال له: ((ما منعكَ عَنْ إجابتِي؟))، فقال: كنتُ أصلِّي، فقال: ((أليس الله يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾))، فلامه على ترك الإجابة مستشهدًا بهذه الآية الكريمة التي أبيح بها للمسلم قطع صلاة الفريضة لتدارك أي أمر فيه ضرر لا يرفع إلا بقطعها، من أجل التنبيه له، أو لرفعه أو المساعدة على دفعه، إن لم يكف الجهر بالتسبيح للرجل والتصفيق للنساء كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من نابه شيء في صلاته فليُسبِّح الرجال، ولتصفِّق النساء)).
ولئن كان الأمر في هذه الآية الكريمة موجهًا حين نزولها للمهاجرين والأنصار وهم يجاهدون لكسر حصار المشركين حولهم وكف أذاهم وإقامة دولتهم، فإنه موجه كذلك لكل المسلمين في كل عصر ترشيدًا لهم وتبيانًا لما ينبغي أن يكون عليه حالهم، واقتداء برسولهم صلى الله عليه وسلم، وكانت دعوته دائمًا إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له، تصورًا إيمانيًّا واضحًا سليمًا لا شبهة فيه من شرك خفي أو ظاهر، فأُوذي وطُورد من أقرب الناس إليه، في بطاح مكة، كما في رواية طارق المحاربي إذ قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ [2] وَأَنَا فِي بياعَةٍ أَبِيعُهَا، قَالَ: فَمَرَّ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ لَهُ حَمْرَاءُ، وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا)) وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ بِالْحِجَارَةِ قَدْ أَدْمَى كَعْبَيْهِ وَعُرْقُوبَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُطِيعُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا غُلَامُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قُلْتُ: فَمَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ؟ قَالُوا: عَمُّهُ عَبْدُ الْعُزَّى وَهُوَ أَبُو لَهَبٍ"[3].
وذلك ما داوم صلى الله عليه وسلم على الدعوة إليه ووجب الاستجابة له طيلة حياته الشريفة، ونزل به الوحي في المرحلة المدنية تذكيرًا به وتأكيدًا له بقوله تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136]، وكان آخر ما تكلم عند وفاته صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس: ((جلال ربي الرفيع فقد بلَّغْت)).
إلا أن نجاح دعوة التوحيد وفلاح أهلها يقتضي طاعة المدعوين، فإن لم تكن طاعة لم يكن إيمان ولم يكن فلاح؛ ولذلك وردت الدعوة إليه بفعل الأمر الذي يقتضي الوجوب ﴿ اسْتَجِيبُوا ﴾، ثم أعقبه الترغيب في الطاعة بما يبين فضل التوحيد مجملًا بقوله تعالى: ﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾، إشارة إلى أن الحياة الحقيقية للأفراد والأمم رهن بالتوحيد الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولئن اختلف تعريف المأمور به في هذه الآية الكريمة؛ فقال السدي: إن المأمور بالاستجابة هو الإيمان، وقال قتادة: هو القرآن وبه النجاة والعصمة في الدارين، وقال مجاهد: هو الحق، وقال غيره: هو الجهاد كله، وَأخرج ابْن إِسْحَق وَابْن أبي حَاتِم عَن عُرْوَة بن الزبير رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تعالى ﴿ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾: "أَي للحرب الَّتِي أعزَّكم الله بهَا بعد الذل، وقوَّاكم بها بعد الضعْف، ومنعكم بهَا من عَدوكُمْ بعد الْقَهْر مِنْهُم لكم"، فإن الإسلام كله، قرآنه وسنته، وأحكامه ونظامه وجهاده هو الحياة الحقيقية للإنسان، وهي العصمة والنجاة له في الدارين، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الصف: 7]، وقال: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ﴾ [الشورى: 47]، والاستجابة التامة لربِّنا ولدعوة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم هي الاستجابة لدعوة الإسلام كله؛ لأن الإسلام منهج متكامل، لدين واحد متكامل، لا تحيا البشرية إلا به، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [آل عمران: 19]، والناس بدونه سادرون في غفلتهم، أموات غير أحياء، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النحل: 20، 21]، والاستجابة لدعوة الإسلام هي التي أحيت المهاجرين والأنصار أول عهد الناس بها، وهي التي تحافظ على حياة المسلمين مهما طال بهم النوى، وبعدت بهم الشقة، ترفع قدرهم، وتقوي شوكتهم، وترضي ربهم، وتدخلهم الجنة في الآخرة، حيث الحياة الحقيقية لعباد الله المتقين، قال تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
لقد عانى الصف الإسلامي الأول وهو يتجه للقتال في بدر رجَّاتٍ عند الخروج إليه وقد أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخرى عند الاختيار بين مواجهة جيش المشركين أو الاكتفاء بقافلتهم التجارية، وعند اقتسام الغنائم بعد النصر، وكانوا في أشد الحاجة إلى الدعم النفسي وتقوية ثقتهم بربهم وما آمنوا به من الحق، وتبديد ما قد ينتاب بعض النفوس والقلوب من الخوف والتردد أو الاضطراب أو المشاعر الانهزامية؛ ولذلك بعد أن دعاهم الوحي الكريم إلى الاستجابة لدعوة الله التي تُحييهم، بيَّن لهم فضلها عليهم، فقال عز وجل: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ [الأنفال: 24]؛ أي: اعلموا أن الاستجابة لأمر الله تحول بين قلبه وبين أهوائه وهواجسه ووساوسه وشطحات الشيطان فيه، فتنجلي عن فطرته أغباشها، ويتجرَّد من علائق الدنيا، ويزداد إيمانه، وينصع ويقتحم عقبة اليقين، ويستأثر حب الله بقلبه؛ فيحول بينه وبين الشرك والمعاصي، ويصبح ربانيًّا مزهرًا منيرًا حيًّا، كما قال عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو سعيد الخُدْري: (أَجْرَد فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ أَزْهَر) [4]، فإذا صاحبه من أولياء الله الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))، وقد روى ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ قال: يحول بين المؤمن وبين المعصيةِ التي تجرُّهُ إلى النارِ، وسمع عُمرُ رجلًا يقولُ: اللَّهُمَّ إنك تحولُ بين المرءِ وقلبِهِ، فحُل بيني وبينَ معاصيك، فأعجبَ عُمرَ ودعا له بخيرٍ.
ثم عقب الحق تعالى على هذا الفضل الذي يناله المؤمن تأكيدًا بقوله عز وجل: ﴿ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾؛ أي: واعلموا أنكم ستبعثون يوم القيامة وتحشرون وترون عاقبة الذين استجابوا لربِّهم في النعيم والذين لم يستجيبوا في الجحيم.
إلا أن لهذا الحال الرباني والمآل الإحساني عوائق ومزالق قد يستدرج المرء إليها غفلة أو تقصيرًا أو ضعفًا فيجد نفسه بين فكَّي الشيطان يتلاعب به كيف يشاء؛ لذلك بادر عز وجل بالتحذير منها رحمةً بعباده وحمايةً لهم، فقال تعالى:﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً ﴾ احذروا فتنة قد تنزل بكم أو تقعون فيها أو تحضرونها أو ترونها أو تستدرجون إليها أو تسمعون بها، ولفظ "الفتنة" من حروف الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدل على الابتلاء والاختبار، وعلى الإحراق بالنار، فيقال فتنتُ الذهب بالنار إذا أحرقتُه لأعرف صفاءه، من قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [الذاريات: 13]؛ أي: يحرقون، والفتنة أيضًا العذاب، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُفتنون عن دينهم فيصبرون ويثبتون، والفتَّان هو الشيطان ومن يعمل عمله، قال صلى الله عليه وسلم فيما حسَّنَه الألباني: ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، يَظْهَرُ النِّفَاقُ، وَتُرْفَعُ الْأَمَانَةُ، وَتُقْبَضُ الرَّحْمَةُ، وَيُتَّهَمُ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ غَيْرُ الْأَمِينِ، أَنَاخَ بِكُمُ الشُّرُف الجُونُ)) [5]، قَالُوا: وَمَا الشُّرُفُ الْجُونُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((فِتَنٌ كقطع الليل المظلم))، وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: ((الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ) [6]، والفتنة في الحياة هي كل قول أو فعل أو شعور نفسي أو نجوى أو وسوسة أو علاقة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية تفسد على المرء دينه أو تصدُّه عن صواب أو تلبس عليه في حق.
إن الفتنة لورودها نكرة غير موصوفة وعامة مطلقة في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً ﴾، تفيد الابتلاء والاختبار والتأديب إذا كانت من الله كما قال تعالى: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168]، كما تفيد البلية والمصيبة إذا كانت من العباد، قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [الحديد: 14]، فإن كانت الفتنة من الله اختبارًا للعبد مرضًا أو شقاء بغيره أو زوجة سيئة أو زوجًا سيئًا أو ولدًا عاقًّا، وجب على العبد التدبُّر ومراجعة النفس والتوبة واللجوء إلى الله القادر على رفعها، وإن كانت من العباد المفتونين ضلالات أو انحرافات وجب العمل على رفعها وإبطال آثارها بالحسبة أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، فإن لم يكن للمفتونين تدبر وتذكر أو تضرع وتوبة، ولم يكن في المجتمع نهي عن منكر وأمر بالمعروف أعطت الفتنة آثارها السيئة في المجتمع وعمَّت جميع مرافقه؛ لذلك حذَّر الحق سبحانه من رسوخها في المجتمع وسريانها فيه إن أهمل أمرها، وقال عز وجل: ﴿ لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]؛ أي: لا تصيب مستحقيها الظالمين وحدهم؛ بل تتعدَّاهم إلى غيرهم من الصالحين؛ لامتناعهم عن معالجة أسبابها ومسبِّباتها وآثارها، أو استنكارهم لها على الأقل، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه، أوشك الله أن يعُمَّهم بعقابه))، وقال: ((لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده))، وقال: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قادرون على أن يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ))، وروي عن جابر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلى جبريلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِ اقْلِبْ مَدِينَةَ كَذَا وَكَذَا بِأَهْلِهَا، قَالَ: يارب، إِنَّ فِيهِمْ عَبْدَكَ فُلَانًا لَمْ يَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَالَ: اقْلِبْهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فَإِنَّ وَجهه لم يتمعر فِي سَاعَة قطُّ))، قال السدي: "هذه الآية نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل"، وقال الزبير بن العوام: "نزلت فينا وقرأناها زمانًا، وما ظننا أنَّا أهلها فإذا نحن المعنيون بها"، وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إذ أقبل عليٌّ رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرًا من فتنة قد تصيبه: ((كيف حُبُّك لعليٍّ؟))، فقال الزبير: "يا رسول الله، أحِبُّه كحُبِّي لولدي أو أشد"، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنت إذا سِرْتَ إليه تُقاتِلُه؟)).
وختم الحق تعالى تحذيره من إثارة الفتن أو الركون إليها أو مهادنتها أو استثمارها مُذكِّرًا بعاقبة ذلك في الآخرة بقوله عز وجل:﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾؛ أي: اعلموا أن عقوبة الاستهانة بالفتن أو الخوض فيها أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن ظهرت في المجتمع، شديدة عند الله تعالى، قد تكون لعنًا في الدنيا والآخرة كما هو الشأن في بني إسرائيل بقوله تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79]، وقد تكون هلاكًا للأمة بعذاب عام مباشر كما كان في قوم لوط؛ إذ شاعت فيهم الفاحشة، فلم يتناهوا عنها ولم يقبلوا نصيحة فيها، وقال عنهم: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ﴾ [الحجر: 73، 74] وفي قوم فرعون وقد قال فيهم عز وجل: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ﴾ [الزخرف: 55، 56] وكما هو شأن المسلمين في صدر الإسلام؛ إذ أدَّى ببعضهم الصراع على السلطة إلى سفك الدماء وقطع الأرحام وتخريب البلاد ثم تمزقها دويلات وأقطارًا، عليها أمراء فسدة ظلمة، ساموا الأمة سوء العذاب؛ مما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من مواقفه الشريفة، وأمر باعتزاله فقال: ((إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفًا من خشب))، وما رواه ثوان بن ملحان بإسناد حسن قال: كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ فَمَرَّ عَلَيْنَا عَمَّارٌ، فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَقْتَتِلُونَ عَلَى الْمُلْكِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بَعْضًا))، قُلْنَا: لَوْ حَدَّثَنَا بِهِ غَيْرُكَ كَذَّبْنَاهُ أَمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ.
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 31-01-2023, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أداء الأمانة فرقان بين الأحياء والأموات وبين المحسنين والمخسرين


وما فهمه بعض خيار الصحابة رضي الله عنهم فكفوا أيديهم، مثل عبدالله بن عمر إذ سئل: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، مَا تَقُولُ فِي الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَاللَّهُ يَقُولُ: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [البقرة: 193]؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَدْرِي مَا الفِتْنَةُ ثَكَلَتْكَ أمُّكَ؟! إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ بِقِتَالِكُمْ عَلَى المُلْك.
وما روي بسند صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قام فحمد الله، ثم قال: يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الناسَ إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك أن يعُمَّهم بعقابه)).
إن الفتن قد تنتاب المؤمن كل حين؛ لأنها في حقيقتها اختبار حتمي في الحياة الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3] وهي في ساعات الرخاء والجِدَةِ والقوة والثقة بالنفس أشد وقعًا، وقد نزلت آية التحذير هذه منها عقب النصر في غزوة بدر وتوزيع غنائمها، وبُدُوِّ الاعتزاز والتفاخر بمنجزاتها بين بعض المقاتلين؛ مما كاد يُهدِّد الصفَّ المسلم بنسيان واقعهم وأهدافهم وما يعده لهم عدوُّهم؛ ولذلك بعد أن حذَّرهم الحق من الفتن واصَلَ تأديبهم فذكرهم - حثًّا لهم على الشكر ولزوم الإخلاص - بما كانوا عليه من ضعف ومهانة في مكة بين المشركين، وما آل إليه حالهم من عِزٍّ وقوة ووفرة بعد بدر، وقال لهم: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ قليل عددكم مستضعفون لا يهابكم أحد في الأرض كلها، وفي مكة بين قريش والعرب خاصة ﴿ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ﴾ في مكة والجزيرة؛ لضعفكم وفقركم وقلتكم وما نالكم من اضطهاد وهوان ﴿ فَآوَاكُمْ ﴾ في المدينة بين الأوس والخزرج يحمونكم ويقاسمونكم طعامهم وشرابهم ومساكنهم ﴿ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ﴾ في بدر على جيش قريش البالغ عدده ثلاثة أضعاف عددكم ﴿ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ غنائم ومغانم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ هذه النعم التي ساقها الله لكم كي تذكروها وتشكروها ولا تكفروها.
ثم عزَّز الحق تعالى تحذيره من الفتن وكفران النعم التي يستدرج إليها المرء غفلة أو نسيانًا ولو كان سليم الإيمان صافي النية، بالتحذير من أخطر آفة تمحق الإيمان أو تكاد، هي آفة الخيانة، فقال عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
ولفظ "الخيانة" جذره اللُّغوي هو مادة "خون"، يقال: خان يخون خونًا وخيانة وخانة ومخانة. فيه الخاء والواو والنون أصل واحد معناه التنقص والضعف، يقال: في ظهره خَوَن؛ أي: ضعف، وخان السيف: إذا نبا عن الضربة، وخانه الدهر: إذا تغيَّر حاله إلى الشر.
ثم لما نزل القرآن نقل لفظ "الخيانة" إلى معناها المصطلحي المتضمن للغدر والكذب والتفريط في الأمانة وتزييف الحق وتزوير الوقائع والتجسس وكشف عورات المسلمين بالقول والعمل والإشارة والعبارة، وهي الصفات التي تحدد معالم شخصية مريضة حاقدة مضطربة، دنيئة لئيمة، تُطْرَدُ من الصف المسلم إن تعذَّر تقويمُها وإصلاحُها، قال عدي بن زيد العبادي:
يَأْبى لِيَ اللهُ خَوْنَ الأَصْفِيَاءِ وَإِنْ
خَانوا وِدَادي لأَنِّي حَاجِزِي كَرَمِي




كما أطلق لفظ "الخائن" صفة لمن يؤتمن فلا يفي، والذي يستشار فلا يشير بصواب وهو يعرفه، والذي يستنصح فلا ينصح، ولناقض العهد ومبيت الغدر، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 71]، ومنه قيل: للنظر بريبة إلى ما لا يحلُّ للمرء النظر إليه: "خائنة الأعين"، بزيادة التاء للمبالغة مثل "نسَّابة"، كما في قوله تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين))، ولئن اشتبهت الخيانة بالنفاق أحيانًا فإنهما في جوهرهما شيء واحد يتداخلان في مواطن كثيرة، إلا أن الخيانة تُقال باعتبار العهد والأمانة، والنفاق يُقال باعتبار العقيدة.
إن الخيانة لغةً واصطلاحًا وعُرفًا آفةٌ تأباها النفوس الحُرَّة، وتترفَّع عنها العقول الراجحة الأبيَّة؛ لأنها تركس الأخلاق الفردية والجماعية في الخلل والفساد، إذا ظهرت في الصديق سقطت صداقته، أو في الأمين سقطت أمانته، أو الشريك سقطت شركته، أو في الرفيق سقطت رفقته، أو في الدولة أسرع إليها الخراب؛ بل إن القرآن الكريم قد حرَّم مجرد المجادلة عن الخائن أو الدفاع عنه بالباطل لتبرئته، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾ [النساء: 107]، كما حرم أن يجازى الخائن بالخيانة، فقال تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك))، وقال: ((المؤمنُ يطبعُ على الخلالِ كلِّها إِلَّا الخيانةَ والكذبَ))، وفي الصحيح عن أبي مسعود البدري قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم ساعيًا، ثم قال: ((انطلق أبا مسعود ولا أُلْفِينَّكَ يوم القيامة تجيءُ على ظهرك بعيرٌ من إبل الصَّدَقة له رُغاء قد غَلَلْتَه))، قال: إذًا لا أنطلِق، قال: ((إذًا لا أُكْرِهُكَ)).
ولذلك فصَّل القرآن أصناف الخيانة تقريبًا للفهم والاستيعاب، وتنبيهًا للغافلين وتقريعًا للمُصرِّين، وتحذيرًا للسالكين الصادقين، وجعلها ثلاثة أصناف هي: خيانة الله، وخيانة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخيانة الأمانة، ثم بيَّن في آية أخرى صنفًا رابعًا هو أصلها ومنبتها والمتضرر بها، وهو من يمارسها وكانت له خلقًا بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾ [النساء: 107]، وقوله سبحانه: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ [البقرة: 187]، وعدَّ الخيانة أيًّا كانت دوافعها وبأصنافها الثلاثة قتلًا معنويًّا للنفس بقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]؛ لأنها خيانة واحدة حقيقتها ظلم وبغي يمارسه الخائن في حق نفسه، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [يونس: 23]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الكذب والصدق جميعًا، ولا تجتمع الخيانة والأمانة)) [7]، ولأن أصنافها كالأواني المستطرقة يؤول ضررها كلها إلى صاحبها وحده، هو المتضرر بها والمحاسب عليها؛ إذ خيانة النفس خيانة لله وللرسول وللأمانة، وكذلك خيانة الله وخيانة الرسول وخيانة الأمانة خيانة للنفس، وما تفصيلها بقوله تعالى: ﴿ لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ﴾ إلا للتوضيح والتحذير والتنبيه والحث على اجتنابها والبُعْد عن مصادرها ومواردها؛ وذلك لأن خيانة المرء لله تعالى تتمثَّل أوَّل ما تتمثَّل في الكفر والشرك؛ لأنهما رأس الموبقات، كما أنها داخل الصفِّ المسلم يُجسِّدها النفاقان العقدي والعملي، وهما إظهار الإيمان والعمل الصالح، وإسرار الشرك والرياء وخيانة عهد الله تعالى، وخيانة المرء للرسول صلى الله عليه وسلم هي عدم الامتثال لأمره ونهيه، وعدم الاقتداء به والتأسِّي بهديه، وإدخال البدعة في سُنَّته، وخيانة الأمانة هي الانتقاص من الشريعة أو العقيدة بتحريفهما أو التنقص منهما أو إنكارهما أو تأويل نصوصهما تأويلًا ضالًّا أو مغرضًا، وأكثر ما يكون ذلك في المقربين من السلطان الذين يفتون له بغير الحق أو يعينونه على الظلم؛ ولذلك حذَّر الحق تعالى من الركون إلى الظلمة أو القرب منهم والتقرُّب إليهم، فقال: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: 113]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عباس: ((مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ))، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: ((مَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السُّلْطَانِ دُنُوًّا إِلَّا ازْدَادَ من اللَّهِ بُعْدًا))، وكل ذلك في حقيقة الأمر خيانة للنفس؛ لأنه يوردها موارد الهلاك.
ثم عقب عز وجل بذكر أخطر ما يركس في الخيانة مذكِّرًا وآمِرًا، فقال: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾، فلم تبق بعد هذه الآية حجة للذين يفتنون فيسقطون في الخيانة حماية لأبنائهم أو حفاظًا وتنمية لأموالهم، يؤكد ذلك أن أهم فتنة خلخلت الصف في بَدْر كانت حول قسمة مغانمها لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قسمها بينهم بما أمره الله به فوقاهم الله شرَّها، ومن عجيب أن أهم خيانتين وقعتا بعدها في الصفِّ المسلم كانتا بسبب مصالح يَرُبُّها من تورَّط فيها لدى المشركين، ففي غزوة بني قريظة وقد انتهت باستسلامهم بشرط التحكيم وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، لنستشيره في أمرنا، وكان أبو لبابة حليفًا لهم؛ بل روي أنه كان قد وضع ماله وولده عندهم، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرَقَّ لهم، وقالوا له:‏ يا أبا لبابة،‏ أترى أن ننزل على حكم محمد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وأشار بيده إلى حلقه؛ أي: إنه الذبح‏. قال أبو لبابة:‏ "فوالله، ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"، ‏ثم انطلق على وجهه، ولم يأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال‏:‏ لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت، وعاهد الله ألَّا يطأ بني قريظة أبدًا، وألا يُرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدًا، وقال: "والله لا أَذُوقُ طعامًا ولا شَرَابًا حتى أمُوتَ، أوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَمَكَثَ سَبْعَةَ أيام حتى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيهِ، قال ابن إسحاق‏:‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه، قال‏:‏ أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأمَّا إذ قد فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، ثم تاب الله عليه، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]، فقال أبو لبابة: إِنَّ من تَمام تَوْبَتِي أن أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الّتِي أصَبْتُ فيها الذَّنْب، وأن أنخَلِعَ من مالي، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يَجْزِيكَ الثُّلثُ أنْ تَتَصَّدَّقَ بِه))[8].
وبعدها كانت خيانة حاطب بن أبي بلتعة وقد قال عنها ابن إسحاق: (لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَمْرِ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، ثم خرجت به، وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ والزُّبير بْنَ الْعَوَّامِ وقَالَ لهما: ((أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابٍ إِلَى قُرَيْشٍ يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا له من أمرهم))، فخرجا حتى أدركاها فَاسْتَنْزَلَاهَا، والْتَمَسَاهُ فِي رَحْلِهَا، فَلَمْ يَجِدَا فِيهِ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا كُذِبْنَا، وَلَتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُ قَالَتْ: أَعْرِضْ، فَأَعْرَضَ، فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا ((حَاطِبُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟))، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، مَا غَيَّرْتُ وَلَا بدَّلْتُ؛ ولكنني كنتُ امرأً لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ، فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخطَّاب: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ، لَعَلَّ الله قد اطَّلع على أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لكم))، وأنزل الله في حاطبٍ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ ﴾ [الممتحنة: 1].
ثم عقب الحق تعالى بعد التحذير من الخيانة والتنفير من إيثار الأموال والأهل والولد على الإخلاص لله والرسول وأداء الأمانة، بقوله عز وجل: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾؛ أي: أعرضوا عن فتن الدنيا ومكاسبها، واسعوا إلى ما عند الله، واجعلوا همَّكم رضاه، ولا تفوتوا أجره العظيم بإيثاركم الأموال أو الأولاد على الصِّدْق والإخلاص وأداء الأمانة، ثم فصل عز وجل هذا الأجر العظيم فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وهم الرعيل الأول من المؤمنين مهاجرين وأنصارًا، وجميع المؤمنين في كل مصر وعصر إلى يوم الدين ﴿ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ ﴾ فتستجيبوا لدعوة الله وتخلصوا الإيمان بالله والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتحفظوا أمانة الله ووديعته عندكم ﴿ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ ينر بصيرتكم، ويجعل لكم نورًا في قلوبكم وفهمًا في عقولكم تُميِّزون به الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والحلال من الحرام، والمحكم من المتشابه، ﴿ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ ويُبدِّل سيئاتهم من غير الكبائر حسنات؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر))، ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ ويمحو بفضله العظيم كبائر ذنوبكم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31] [9].

[1] الشِّرَّةُ بكسر الشين وفتح الراء مشددة: الحِدّة.
[2] ذو المجاز من أسواق العرب الأدبية في الجاهلية، كانت العرب بعد فراغها من سوق مَجنَّة تنتقل إليه؛ لقربه من جبل عرفات ينتظرون فيه حتى يحين موسم الحج فيدخلون مكة للحج.
[3] المستدرك على الصحيحين للحاكم، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَاد.
[4] تمام الحديث: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: فَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ أَزْهَرُ، وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَسِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ، عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ، وَذَلِكَ قَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ وَالدَّمُ، فَأَيُّ الْمَادَّتَيْنِ غَلَبَتْ صَاحِبَتَهَا غَلَبَتْ عَلَيْهِ)).
[5] الشُّرُف: جمعُ شارِف، وهي الناقة المُسِنَّة السمينة، والجون: السوداء، شبه الفتن في تتابع ورودها واتصالها ببعضها وطول مددها وبطء انكشافها بمسيرة النوق السوداء السمينة المسنَّة.
[6] حسن صحيح، الألباني.
[7] صحيح الإسناد.
[8] أخرجه عن قتادة مرسلًا ابن جرير في التفسير، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن جرير.
[9] لفظ المغفرة على أرجح الأقوال أكمل من لفظ: التكفير؛ ولهذا كانت المغفرة للكبائر، وكان التكفير لما دونها.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 92.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 89.70 كيلو بايت... تم توفير 2.35 كيلو بايت...بمعدل (2.56%)]