معنى القبول والانقياد في شروط لا إله إلا الله - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 187 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28432 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60056 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 827 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-07-2020, 12:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي معنى القبول والانقياد في شروط لا إله إلا الله

معنى القبول والانقياد في شروط لا إله إلا الله
محمد مصطفى الشيخ












الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.







وبعد:



فتحدَّثنا من قبل في "نظرات حول شروط لا إله إلا الله" على معنى هذه الشروط وحقيقتها واشتمالها على أمور باطنة وظاهرة، وأنَّها تتكون من جنسَي العلم والعمل كليهما؛ فالعلم من باب قول القلب، والقبولُ والانقياد - في المقابل - يتعلَّقان بالقلب وبالجوارح كليهما، وهما من باب العمل.







ثم إنَّ العلم أو القبول أو المحبَّة أو غيرها من الشروط، هي حقائق لها أصل وكمال، والأصل هو الشرط الذي يَنتفي الإسلامُ بانتفائه، وتحقيق الكمال من العلم أو الخشية لازم لبلوغ درجتَي الإيمان والإحسان.







ولمَّا كان القبول والانقياد - وقد درج العلماء على اعتبارهما شرطين اثنين - من أعظم هذه الشروط، تأكَّد الحديث عنهما بشيء من التفصيل.







ولنتَّفق ابتداء على اعتبار القبول والانقياد والالتزام والطاعة ألفاظًا متقاربة، تدور حول حقيقةٍ واحدة لغة وعقلاً وشرعًا، وهي تتلاقى مع حقيقة الإسلام؛ الذي هو الاستسلام والخضوع والإذعان، وضد هذه الحقيقة هي المخالفة التي تأخذ وصفَ الإباء أو الرد أو الاستكبار أو العِصيان ونحوها، بحسب درجة هذه المخالفة.







يقول تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].







هذه آية عظيمة تتوعَّد من يخالف الرسولَ صلى الله عليه وسلم بالوعيد الشديد بنصِّها، وتأمرنا بالانقياد له وطاعته بمفهومها.







يقول ابن تيمية: (أَمَرَ من خالفَ أمرَه أن يَحذرَ الفتنة، والفتنة: الرِّدَّة والكُفر؛ قال سبحانه: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [البقرة: 193]، وقال: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 217]، وقال: ﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا ﴾ [الأحزاب: 14]، وقال: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ﴾ [النحل: 110].







قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: نظرتُ في المصحف فوجدتُ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعًا، ثم جعل يتلو: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾ الآية [النور: 63]، وجعل يكرِّرها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك؛ لعله إذا ردَّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيء من الزَّيغ فيزيغ قلبه فيُهلكه، وجعل يتلو هذه الآية: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65].







وقال أبو طالب المُشْكاني - وقيل له: إن قومًا يَدَعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره - فقال: أعْجَبُ لقومٍ سمعوا الحديثَ وعرفوا الإسناد وصِحَّتَه يَدَعُونَه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وتدري ما الفتنة؟ الكُفر، قال الله تعالى: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 217]، فيَدَعون الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرَّأي.







فإذا كان المخالِف عن أمره قد حُذِّر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم، دلَّ على أنه قد يكون مُفضيًا إلى الكفر أو إلى العذاب الأليم، ومعلومٌ أنَّ إفضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنَّما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحقِّ الآمِر، كما فعل إبليس)؛ [الصارم: المسألة الأولى، فصل الأدلة من القرآن الدالة على كفر الشاتم وقتلِه، الدليل السابع، 2 / 115 - 117].







فمن هذا النقل يتبين لنا وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن مخالفة ذلك تفضي إلى الفسق أو الكفر، ولضبط ذلك نقول: الطاعة تُطلَق ويُراد بها معنيان:



أولاً: طاعة القبول والانقياد:



وهي أحد ركنَي الإيمان الذي لا يصحُّ إلا بهما؛ فإنَّ الإيمان تصديق وانقياد (قول وعمل)، وهذه هي الطاعة الراجعة لأصل الدِّين، ومعناها: انعقاد القلب على التزام أمر الله، وإعلان ذلك ظاهرًا بالإقرار بالشهادتين، من جنس ما أقرَّ النبيون إقرارَ انقيادٍ لا مجرَّد إقرار تصديق في قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا ﴾ [آل عمران: 81].







إنَّ العبادة التي خلَقنا الله لأجلها مدارُها على الخضوع والذلِّ والانقياد والطاعة، فهي من باب العمل؛ قال في الصحاح: (وتقول: عَبْدٌ بيِّن العُبُودَة والعُبُوديَّة، وأصل العُبُودية الخضوع والذل، والتَّعْبِيدُ: التذليل، يقال: طريق مُعَبَّدٌ... والعِبَادَةُ: الطاعة، والتَّعَبُّدُ: التنسُّك)؛ [مختار الصحاح: مادة (ع ب د)، ص 467].







وقال في القاموس: (والعَبْدِيَّةُ والعُبودِيَّةُ والعُبودَةُ والعِبادَةُ‏:‏ الطَّاعَةُ‏... والمُعَبَّدُ كمُعَظَّمٍ‏:‏ المُذَلَّلُ من الطَّريقِ... وتَعَبَّدَ‏:‏ تَنَسَّكَ)؛ [القاموس المحيط: باب الدال، فصل العين، 1 / 322 - 323].







وهي كذلك لغة وشرعًا: (والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء: مقصودها واحد، ولها أصلان؛ أحدهما: ألا يُعبد إلا الله، والثاني: أن يُعبد بما أَمر وشَرع، لا بغير ذلك من البدع)؛ [الفتاوى: 10 / 172 - 173].







وهذا هو المعنى الذي ذكره ابنُ تيمية في حقِّ الأعراب حين ذَكر أنَّ الإسلام ليس مجرد الكلمة؛ بل يراد به - كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم - الكلمة بتوابعها من الأعمال الظَّاهرة، وأنَّ الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم أُلزموا بالأعمال الظَّاهرة - الصلاة والزكاة والصيام والحج - ولم يكن أحد يُترك بمجرد الكلمة[1].







فهذا العقد بالقلب واللِّسان يَلزم عنه قطعًا التزام الظَّاهر بحسبه؛ لقاعدة التلازم بين الظاهر والباطن، التي هي من أهمِّ أصول أهل السنَّة في مسائل الإيمان، ولا نعني بالتزام الظَّاهر التنفيذ الفِعلي للواجبات والترك الفِعلي للمحرَّمات؛ وإنَّما نعني دلالة الظاهر على الدخول في الإسلام والخضوع لله في الجملة، وضابطُ ذلك: ألاَّ يَظهرَ ناقضٌ للإقرار الأول من أمور الإباء والتولِّي والاستكبار، المذكورة أمثلتها أدناه.







وضد هذه الطاعة يسمَّى إباء واستكبارًا وامتناعًا عن الشرائع، وإباءً لقبول الفرائض، وردًّا لحكم الله، وهي كلُّها كُفر، ولهذا بوَّب البخاريُّ لحديث: ((أُمِرتُ أن أُقاتِل الناس)) بالترجمة: (باب قتل من أبى قبول الفرائض، وما نُسبوا إلى الرِّدة).







وهي الطاعة المذكورة في مثل قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 60، 61] إلى قوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64]، فوازِنْ بين هذه وبين قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والقرآن يصدِّق بعضه بعضًا؛ فقد ذكر تعالى الغايةَ من الخَلق أنَّها عبادته وحده، وذكر أنَّ الغاية من إرسال الرسول طاعة الرسول بإذن الله - بأمره الشرعي - فهذه الطاعة وتلك العبادة أصلٌ لا فرع، وضدهما كُفر لا معصية.







ويقول تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80]، ﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 47]؛ أي: كفَّار، ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [المائدة: 7]، ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ﴾ [طه: 116]، فضد هذه الطاعة التولِّي، والتولِّي من صفات المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار.







وهي الاستجابة التي جعلها الله تعالى أُولى صفات المؤمنين، فهي في هذا السِّياق نظير الأمر بتوحيده وإفراده بالعبادة: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38]، فوازِن بين آية الشورى وبين ما تواتر في النُّصوص من الأمر بتوحيده / بعبادته / بالإيمان به، معطوفًا عليه الصلاة والزَّكاة، يتَّضح لك أنَّ الاستجابة هنا هي أصل دين الإسلام، ونمثِّل بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بُني الإسلام على خمسة: على أن يوحَّد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج))، وفي رواية: ((على أن يُعبد الله ويُكفر بما دونه، وإقام الصلاة...))، وفي رواية: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة...))، وفي رواية: ((إيمان بالله ورسوله، والصلاة الخمس...))؛ [متفق عليه].







أصل الإيمان: تصديق الخبر والانقياد للأمر:



فهذه الطاعة هي مقتضى الإيمان، وهي التي نَكَلَ عنها بنو إسرائيل، فوُصفوا بالعصيان ووُصفوا بالكفر لمَّا رفضوا ما يَأمُرُ به الإيمان: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 93]، نعم، لم يقل: (يخبركم به إيمانُكم)، بل الإيمان بأنبياء الله ورسله يأمرُ بأصلٍ، هو طاعتهم، بل هذه حقيقة الإيمان في الشَّرع: تصديق الخبر والانقياد للأمر، وضد ذلك هو الكُفر، وهذا من أعظم أصول الإيمان عند أهل السنة، (فلا بدَّ أن يكون الإيمان تصديقًا مع موافقة وموالاة وانقياد؛ لا يكفى مجرَّد التصديق؛ فيكون الإسلامُ [بهذا الاعتبار] جزءَ مُسمَّى الإيمان؛ كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزءَ مسمَّى الكُفر، فيجب أن يكون كل مؤمن مسلمًا منقادًا للأمر، وهذا هو العمل)؛ [الفتاوى: 7 / 292].







وقد يقال: لِمَ اقتصرنا على الانقياد مع أنَّ أعمال القلوب كثيرة، ومنها ما يلزم لصحة الإيمان ابتداء، وذكرَها العلماء في شروط لا إله إلا الله؛ كأصل المحبة وأصل الخوف... إلخ؟



والجواب: أنَّ الانقياد هو الباب الذي منه يَدخل العبد في الدين؛ دينِ الإسلام؛ إذ هو معنى لفظ "الإسلام"؛ لأنَّ أسلَم؛ أي: استَسلم وانقاد، وهو معنى لفظ "الدين"؛ لأن دان؛ أي: خضع وذَلَّ، وهو من مدلول "العبادة" كما علمنا.







كما أنَّ الانقياد الباطن هو المقتضِي المباشر للالتزام الظاهر، وقد جعله الله تعالى علامةً على ما يدَّعيه البعض من وجود أعمالٍ أخرى للقلوب؛ كالمحبة القلبية، فقال: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، ولهذا نقول العبارة الشَّهيرة: أصل الإيمان التصديق والانقياد؛ تصديق الخبر والانقياد للأمر.







ونحن في زماننا حين نريد أن نَصِفَ من أتى بأصل دين الإسلام - حقيقةً لا ادعاءً - ودخل في الطاعة، نقول عنه: إنَّه "التزم" وصار "ملتزمًا"، ولا نقول: إنَّه صار محبًّا أو متوكِّلاً... وإن كان أصل هذه الأعمال موجودًا بلا ريب.







وقالوا سمعنا وأطعنا:



وتتبيَّن طاعة القبول أوضح بيان في قصَّة خواتيم سورة البقرة التي أُعطيها النبيُّ ولم يؤتها نبيٌّ قبله.







فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلَت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ برَكوا على الرُّكَب، فقالوا: أيْ رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطيق؛ الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكِتابَيْنِ مِن قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)) - وفي رواية ابن عباس: ((قولوا: سمعنا وأطعنا وسَلَّمْنا)) - قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذَلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسَخَها الله تعالى، فأنزل الله عزَّ وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ (قال: نعم) ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ ﴾ [البقرة: 286] (قال: نعم) ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286] (قال: نعم) ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286]، (قال: نعم)؛ [مسلم].







فقد خاف عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الوقوع في ردِّ حكم الله عليه كما فعل أهل الكتابَيْن، فأَمَرَهم بالتسليم والقبول لأمرٍ شقَّ عليهم (وهو وجوب رعاية خواطر النفس لدخولها في المؤاخذة)، وكان هذا إيمانَهم - طاعة القبول والانقياد - الذي زكَّاه الله في الآية التالية.







ولأجل كون هذه الطاعة أصلاً ينتقض الإسلامُ بهدمه، وهي أصل في القلب يظهر لزامًا على أعمال الجوارح، حَكَمَ مَن حَكَمَ من أئمة الفقه بكفر من ترك المباني الأربعة - على خلافٍ وروايات - لأنَّهم اعتبروا تحقُّق أصل الانقياد والخضوع لله ورسوله مع ترك مباني الإسلام التي بُني عليها أمرًا غير متصوَّر عقلاً ولا شرعًا، مؤيَّدين في هذا بنصوص الشرع القاضية بكفر تاركها؛ بل قد عدَّ ابن تيمية مَن قال من الفقهاء بأنَّ تارك الصلاة عمدًا مسلمٌ باقٍ على إسلامه أنه إنما قال ذلك لدخول شبهة المرجئة والجهمية عليه! [الفتاوى: 7 / 616].







فهذه هي الطَّاعة بالمعنى الأول، ونتكلَّم في المقالة الثَّانية على الطاعة بالمعنى الثاني، ثمَّ نضرب أمثلة للتفريق بينهما إن شاء الله.







وصلَّى الله على محمد وآله وسلم.







[1] راجع مقالة: نظرات حول شروط لا إله إلا الله (2).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-07-2020, 12:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معنى القبول والانقياد في شروط لا إله إلا الله

معنى القبول والانقياد في شروط لا إله إلا الله(2)
محمد مصطفى الشيخ




الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه.

أما بعد:
فنستكمل في هذه المقالة حديثَنا عن نوعَي الطاعة، حيث ذكرنا سابقًا طاعة القبول والانقياد، التي هي أصل دين الإسلام.

ثانيًا: طاعة التنفيذ والدخول في الأعمال:
وهي تحقيق مقتضى أصل الإيمان؛ وذلك بفعل المأمور واجتناب المحظور، وبذا يتمُّ الإيمان ويكون صاحبه من المؤمنين حقًّا.

وضد هذه الطَّاعة هو العصيان في مثل قوله تعالى: ï´؟ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ï´¾ [طه: 121]، وهو الذي ينقص من الإيمان ولا يَنقُضه بمجرَّده.

فالمسلِم الذي أقرَّ بالتوحيد إذا أُمر بواجب أو نُهي عن محرَّم، قد يَغلِبُ داعي الشهوة عنده داعيَ الإيمان - ومعلومٌ أنَّ الإيمان يزيد وينقص - فيقع في مخالفة الأمر والنهي؛ ففي هذه الحال لم يقوَ إيمانُه على إنشاء إرادة الفعل المعيَّن في القلب، وإلاَّ لو وُجدَت هذه الإرادة الجازمة لَلَزِمَ انبعاثُ جوارحه بالطاعة، وليس هذا ببعيد؛ أعني: اجتماع العصيان بالفعل مع التزام الأمر والنهي.

وتأمَّل قصة بَغِيِّ بني إسرائيل [أخرجها الشيخان] - ولا أقول: قاتل المائة؛ لأنَّه تائب من الذَّنب - هل غُفر لها لأنَّها تابت من البغاء؟ وإذا لم تتب فكيف يَجتمع فيها إيمانٌ يُدخلها الجنة، وإصرار على الفاحِشة بلغ حد اتخاذها عملاً تتكسَّب منه؟

لقد بيَّن الحديثُ أنَّها لم تتب من البغاء؛ ممَّا يعني أنَّ إيمانها لم يقوَ على إيجاد الإرادة الكافية لترك الزِّنا، فأصرَّت على الكبيرة، ومع ذلك غُفر لها من غير توبة؛ لأنَّه ما دام أصل الإسلام سالمًا صحيحًا، فعفو الله تعالى عظيم، خاصة إذا كان في القلب إخلاص لله يدفعها إلى ما فعلَت مع ذلك الحيوان الذي هو مَهين عند الناس.

ولكن هذه الإرادة المعيَّنة أمرٌ، وإرادة أصل السَّمع والطاعة (الإسلام) أمرٌ آخر، ولا تعارُض؛ فنحن نعلم أنَّ هذه البغيَّ مقرَّةٌ بحُرمة ما تفعل، غيرُ مستنكِفة عن حكم الله بالتحريم، وهذه حالٌ يَعلمها من له خبرة بعصاة المسلمين، فكم من عاصٍ يتقطَّع قلبه بالمعصية التي يفعلها ندمًا وخوفًا من الله، ويعود إليها مرارًا وهذه حاله.

فهذه حال، وحال المستكبر إباءً لحكم الله بالإيجاب، أو استحلالاً لحكم الله بالتحريم - أمرٌ آخر.

الاشتباه بين نوعي الطاعة:
فإن قلتَ: ففي أيتهما تقع حالُ من قال كذا أو فعل كذا أو ظهر منه كذا، مثل من قال: لا أترك الرِّبا، أو من قالَت: تعدُّد الزوجات غير مقبول، ونحو ذلك؟
فالجواب: أنَّه يُنظر إلى حال كلِّ شخص بحسبه، والقرائن ترجِّح قُربَه من هذه أو تلك، ونضرب مثلاً لذلك بشِرعة من شرائع الإسلام أصابها الخَلَل - إفراطًا أو تفريطًا - في عصرنا، وهي فريضة الجهاد، والمثال هنا لصورتين من صور التفريط:
فقد يقعد المسلم مثلاً عن الجهاد وقد داهمه العدوُّ في عقر داره قائلاً: "القتال شاق، وأنا أرعى الأهلَ والذريَّة"؛ فهذا عاصٍ فاسق بتركه واجبًا عظيمًا، ومن الصحابة من تكرَّر منه شرب الخمر كعبدالله حمار، ومع ذلك شهد له الرسولُ صلى الله عليه وسلم بأنه يحبُّ الله ورسوله.

وقد يقول مسلمٌ آخر: "الجهاد يسيء إلى صورة الإسلام، فينبغي أن نعدل عنه إلى السياسة الحديثة"، أو يقول: "بل الجهاد واجب بالكتاب والسنَّة مُحكَم غير منسوخ، لكنِّي لا أرى الجهاد ولا يصلح لعصرنا وطرائق حياتنا"، فهذا كُفر من جهة عدم الإقرار بحكم الله (شبهة)، أو من جهة الاستكبار عنه (شهوة)، والمستكبر لا بدَّ له أيضًا من نوع شبهة - كإبليس - لكن شهوته أظهر؛ وكلاهما رادٌّ لشرعة النبي الأمين، خارجٌ عن سبيل من اتَّبعه من المؤمنين.

وقد يَمتنع الرجل إباء محضًا عن حكم الله بغير اعتذار ولا استدلال، خاصة عند ضعف سلطان الإسلام؛ كالحال في مكَّة التي وصفَتها عائشة: "ولو نزل أول شيء: (لا تشربوا الخمر)، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: (لا تزنوا)، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا"؛ [البخاري].

وقد تلتبس هذه الحالة (الإباء المحض) بالحالة الأولى (الإصرار على المعصية؛ كالبَغِيِّ)، والاجتهاد مطلوب فيمن تردَّد حالُه بين الحالين، وحديثنا في هذا السياق مقصوده بالطبع فهم حقائق الدِّين، وليس الكلام على الحكم بالكفر على المعيَّنين؛ فإنَّ ذلك له مقامٌ آخر.

يقول ابن كثير في المقيم على الرِّبا: (وهذا تهديد ووعيد أكيد لمن استمرَّ على تعاطي الرِّبا بعد الإنذار، قال ابن جريج: قال ابن عباس: ï´؟ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ï´¾[البقرة: 279]؛ أي: استيقِنوا بحرب من الله ورسوله... وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ï´؟ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ï´¾ [البقرة: 279]: فمن كان مقيمًا على الرِّبا لا ينزع عنه، كان حقًّا على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزَع وإلا ضرَب عنقَه)؛ [ابن كثير: 1 / 431]، فتأمَّل كيف عدَّه من جنس الرادِّين لحكم الله تعالى، رغم أنَّ آكل الرِّبا هو مرتكب لموبِقَة من الكبائر، ولم يقل أحدٌ بكفره وخروجه من الملَّة لمجرد فعله هذا.

وفي مثل الممتنع لشبهة أو إباءً واستكبارًا يقول أبو بكر الجصاص الحنفي في الكلام على قوله تعالى: ï´؟ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ï´¾ [النساء: 65]: (وفي هذه الآية دلالة على أنَّ من ردَّ شيئًا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو خارجٌ من الإسلام، سواء ردَّه من جهة الشك أو ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجبُ صحَّةَ ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد مَن امتنع عن أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريِّهم؛ لأنَّ الله تعالى حَكَمَ بأنَّ من لم يُسَلِّم للنبي صلى الله عليه وسلم وحُكمِه، فليس من أهل الإيمان)؛ [أحكام القرآن: (النساء)، باب وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، 3 / 181].

وثمَّة حالة أخرى تنعدم فيها الطاعة بالمعنى الأول وتوجَد بالمعنى الثاني، وهي حال المنافقين الذين يَدخلون في شرائع الإسلام ظاهرًا، لكن لا يفعلون ذلك امتثالاً لله ورسوله، بل تقليدًا للآباء أو لأجل أي غرض دنيويٍّ آخر؛ كخوف سلطان المسلمين، يقول ابن تيمية: (لكن لمَّا كان غالب المسلمين يولد بين أبوين مسلمين يصيرون مسلمين إسلامًا حكميًّا من غير أن يوجد منهم إيمان بالفعل، ثمَّ إذا بلغوا:
♦ فمنهم من يُرزق الإيمان الفعلي، فيؤدِّي الفرائض.

♦ ومنهم من يفعل ما يفعله بحكم العادة المحضة والمتابعَة لأقاربه وأهلِ بلده ونحو ذلك؛ مثل أن يؤدِّي الزكاة؛ لأنَّ العادة أنَّ السلطان يأخذ الكُلَف، ولم يستشعر وجوبَها عليه لا جملة ولا تفصيلاً...، أو من يَخرج من أهل مكَّة كل سنة إلى عرفات؛ لأنَّ العادة جارية بذلك، من غير استشعار أنَّ هذا عبادة لله لا جملة ولا تفصيلاً، أو يقاتِل الكفَّار لأنَّ قومه قاتَلوهم، فقاتَلَ تبعًا لقومه ونحو ذلك، فهؤلاء لا تصح عبادتهم بلا تردد... وأيضًا فغالبُ الناس إسلامهم حكمي، وإنما يَدخلُ[1] في قلوبهم في أثناء الأمر إن دخل، فإن لم توجَب عليهم هذه النيَّةُ، لم يقصدوها، فتخلو قلوبهم منها، فيصيرون منافقين؛ إنَّما يعملون الأعمال عادة ومتابعة كما هو الواقع في كثير من الناس)؛ [الفتاوى: 26 / 30 - 32].

أمثلة للتفريق بين نوعي الطاعة:
ولمزيد بيان للفرق بين نوعَي الطاعة، فلنطبِّق مفهوم الطاعة على مثالين من حياتنا اليومية:
أمَّا الأول، فطاعة المشرِّع الوضعي؛ ففي القوانين الوضعية مَن أقرَّ جملةً بخضوعه للقانون ثمَّ خالفه جزئيًّا (كالتهرب من الضرائب أو التزوير...)، وقعَت عليه عقوبة بحسب المخالَفة، أمَّا من دعا إلى تعطيل أحكام الدستور مثلاً أو دعا إلى تغيير النظام، فعقوبته قد تصل إلى الإعدام؛ لنقضه عقد المواطنة من الأساس، واعتدائه على حِمى المشرِّع الوضعي.

والمثال الآخر: الطَّاعة في حقِّ الزوج؛ فإنَّ كل زوجة قد تنسى أو تتغافَل عن أمرٍ من أمور البيت والزوج، وقد تقصِّر في حقِّه، لكن لا تُسمَّى ناشزًا إلا بسلوكها مسلكًا آخر؛ وهو رفض الطاعة من حيث المبدأ، وهي حالةٌ فيها إباء واستكبار؛ لذا كانت مؤذِنة بانتقاض عقد الزوجيَّة، وليس من خيارٍ أمامها إلا زوال النشوز بأساليب العلاج المختلفة ورجوع الزَّوجة إلى حظيرة الطاعة، أو التفريق بين الزوجين.

وعلى هذا النسق نفهم مسألة عقوق الوالدين.

معنى "الالتزام" و"الأخ الملتزم" اليوم:
إنَّ تِبيان الحقائق والأوصاف الشرعيَّة مقصودُه معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، واتِّباع هذه الحدود في أقوالنا وأعمالنا وحياتنا كلِّها؛ لذا كان تحرير هذا الوصف الذي يوصَف به طائفة من المسلمين أمرًا هامًّا؛ لئلا تختلط حقائق الدين وحدوده، فتضطرب العصمة بين أيدي المسلمين.

إنَّه من المعلوم أنَّ من أعلن التزامَه في واقعنا إنَّما هو قد أعلن التزامَه بشرائع الإسلام ودخولَه في أهل الطاعة لله ورسوله؛ ولهذا يذكِّرنا حال[2] الداخلين في "الالتزام" اليوم بوصف ابن تيمية المتقدم لإسلام الأعراب، وهذا لا يعني تحقيقه لمرتبة الإيمان الواجب، فإنَّ كونه ملتزمًا أو حتى طالب علم أو داعية لا يمنعه في دائرة الأعمال (طاعة التنفيذ) من الوقوع في كبائر الذنوب؛ كالغيبة والسرقة والزنا وخيانة الأمانة وغير ذلك، فضلاً عن الصغائر، ولا مِن تَرْك الواجبات مِن طلب العلم والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والجهاد وغيرها، إضافة إلى الواجبات القلبية، ونسأل اللهَ العافيةَ للجميع، لكن فيصل التفرقة بينه وبين "المسلم غير الملتزم!" أنَّ الأول أقرَّ بالتوحيد وبمقتضاه من الخضوع والانقياد والالتزام، أمَّا الثاني - وهو المسلم العامِّي - فقد استحقَّ اسم الإسلام حكمًا لظاهره الذي لنا من تلفُّظٍ للشهادتين أو ما دونها من علائم الإسلام الظاهرة.

ولا يقال: إنَّ فاعل الكبائر لا يصح إلحاقه بالإخوة الملتزمين وإنْ عَقَدَ النيَّة على التزام أمر الله ورسوله ثمَّ أُتيَ من ضعف النَّفس ونقص التربية الإيمانيَّة؛ وإلا لجعلنا فضلاء من الصحابة؛ كماعز والغامدية وحاطب، دون مرتبة إخوة اليوم!

فإن قيل: ألا يوجد في عوام الناس من هو محقِّق لهذه المرتبة؟ ونعني بذلك المسلم العامي، الذي لا هو "أخ ملتزم"، ولا هو "مسلم غير ملتزم".

قيل: بلى، فلا يَخفى أنَّ عوام الناس فيهم مَن هم مسلمون "ملتزمون"، وعلامة ذلك أنهم مُقِرُّونَ بالشرع، منقادون للأحكام، منكرون للشِّرك، وإن لم يحسنوا المحاجَّة والجدال.

♦ ثم إنَّ منهم مَن تمَّت إرادتُه وقَصَرَ به عِلمُه، ما قد يجعله يترك من الهَدي النبوي أو يأتي من المنكر؛ فهؤلاء معذورون لغلَبة الجهل وقلَّة العلم بآثار الرسالة، وهم متى عرفوا الحكمَ الشرعي اتَّبعوه، ومتى لاح لهم عَلَمٌ دينيٌّ اقتفوا أثرَه، فهم من أهل لا إله إلا الله على التحقيق؛ (فكم من عامِّي اجتمعَت فيه والتزمها، ولو قيل له: اعددها، لم يُحسِن ذلك)؛ [معارج القبول: 2 / 418].

♦ ومنهم من دنت همَّتُه مع صحَّة عقد القلب وأصل الالتزام الظاهر، فهم غير معذورين بالكليَّة فيما يقع منهم من المخالفة، لكنهم أيضًا من أهل لا إله إلا الله[3] على التحقيق.

وهؤلاء وأولئك وإن كانوا أعزَّ من الذَّهب، إلا أنَّ ظاهر حالهم لا يخرجهم عن وصف العوام، ولا يبلغون أن نطلِق عليهم "إخوة ملتزمين" على الاصطلاح المعروف.

والسبب في ذلك - والله تعالى أعلم - أنَّ حال "الملتزمين" فيه خيرٌ كثير، ولا يقفون عند مرتبة الإسلام؛ إذ إنَّ إعلانهم الإسلام صراحة، وتبرِّيَهم من الشِّرك والجاهليَّة صراحة في أزمنة الفتن - حسَنةٌ عظيمة، ما يُلَقَّاها ï´؟ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ï´¾ [فصلت: 35]، فيندُرُ النِّفاقُ في هؤلاء مثلما كان في العهد المكِّي عهد استضعاف الفئة المؤمنة الذين ï´؟ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ï´¾ [الأنعام: 52]، ويؤيِّده أحاديث غربة الإسلام في آخر الزَّمان وفضل أهلها، كما في حديث معقل بن يسار: ((العبادة في الهرْج كهجرةٍ إليَّ))؛ [مسلم].

ومن أهم ما يميِّز هذا "الأخ" سعيُه العملي لتحقيق مقتضى إسلامه، وإقامة حياته كلها على ذلك؛ فلهذا تجده صاحب قضيَّة واضحة، ثمَّ يتفاوت الإخوة بعد ذلك في مدى وضوح هذه القضيَّة وعُمق الأهداف وفاعليَّة الوسائل والأساليب، وتتنوَّع همَّتهم وتضحيتهم في ميادين طلب العلم والدَّعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله، ويتنوع ابتلاؤهم في الله تبعًا لذلك؛ كلُّ هذا ممَّا لا يُعرف عن عوام المسلمين الصالحين.

ولعلَّ هذا هو السبب في ظن البعض أنَّ "الأخ الملتزم" هو في مرتبة الإيمان، مقارنة بالمسلم "غير الملتزم" الذي هو في مرتبة الإسلام!

وننبه أخيرًا إلى أنَّ الأَولى العدول عن الأوصاف الموهِمة ما أمكن - كلفظ "الالتزام" - إلى استخدام الأوصاف الشرعيَّة لمراتب المؤمنين المختلفة وأحوالهم المختلفة، فيقال: مسلم ومؤمن وذو دين، وصالح ومستقيم وأمين، وعدل وفاسق ومجاهد، مع وجوب التثبُّت قبل الوصف، والحذر من ذِكر المسلِم بسوء في غيبته إلاَّ لمصلحة شرعيَّة راجحة، والبُعد عن الورَع الكاذب بتزكية مَن ليس بأهلٍ أو السُّكوت عن جرحه في مقام يحتاج فيه إلى ذلك، واجتناب التنابز بالألقاب، والتخلُّق بخُلق النبيِّ الحكيم صلى الله عليه وسلم الذي علَّمَنا الشِّدَّة في موضعها، واللِّينَ والمداراة في موضعها.

نسأل اللهَ تعالى أن يجعلنا من أهل طاعته.

وصلى الله على محمد وآله وسلم.


[1] أي الإسلام.

[2] الكلام هنا على حقيقة الإسلام، لا أحكام الظاهر؛ فتنبَّه.

[3] ولعلَّ هذا نظير ما أورده ابن القيم من الكلام على الفَرق بين الطالب والمعرض والمتمكن والعاجز؛ [طريق الهجرتين: فصل في مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها، الطبقة السابعة عشرة، ص 607 - 612]، فنقول: إنَّ عوام المسلمين منهم المعرضون بالكليَّة، ومنهم الملتزمون بالشرع، وهو ما نحن فيه، ثمَّ إن هؤلاء منهم الطالب ومنهم المتهاون، ولا نقول: المعرض؛ لاستيفائه أصل دين الإسلام.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 101.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 98.64 كيلو بايت... تم توفير 2.39 كيلو بايت...بمعدل (2.36%)]