عيد دمشق: نفحة عبق من زمن مضى - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         قيام الليل يرفعك إلى درجة الشاكرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          إسرائيل تخسر الجامعات الأميركية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          أسرار الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          موعظة الصيف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          ثقافة السوق والاستعمار الناعم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          أزمة المسلمين الحضارية: جذورها وأبعادها وحلولها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          منهج خالد لا أشخاص عابرون (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          "لعل" في كلام الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          من معالم الهدي النبوي الاهتمام بالناس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-04-2024, 10:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,165
الدولة : Egypt
افتراضي عيد دمشق: نفحة عبق من زمن مضى

عيد دمشق

نفحة عبق من زمن مضى

د. إياد أربكان


بزغَت خيوطُ الفجر الأولى، تملأ الأفقَ ضياء، وتنثُر النور في الأرجاء، ومضَت ليلةُ السابع والعشرين من رمضان تسحب ذيولها إلى بارئها، مضمَّخةً بآهات المُنيبين وأنَّات التائبين.

وغادر الدمشقيون المساجد التي عمَروها بالذِّكر والطاعة طَوالَ الليل، يُحاكون سلفَ الأمَّة في طاعتهم يومًا واحدًا في السَّنة بعد أن عجَزوا عن سلوك سبيلهم كلَّ العام.

وتَشيعُ منذ هذه اللحظة في دمشقَ مشاعرُ متباينة، فيرمُق الدمشقيون بعينٍ رمضانَ وهو يُلملم سَقَطَ مَتاعه، ويُعِدُّ عُدَّةَ سفَره البعيد، يودِّعهم ويلوِّح بيدِ الفِراق إليهم، فتكاد القلوبُ تنفطر لفِراقه، والعيونُ تنساب لوداعه، ويستشرفون بعينٍ أُخرى طلعةَ الوافد البهيَّة وفرحةَ العيد المُقبلة، فتتهلَّل لها وجوهُهم، وتنفرج له أساريرُهم.

ويقف بلبلُ دمشق (توفيق المنجِّد) - ذلك الصوتُ الذي شابَ صاحبُه وما فقدَ يومًا بريقَه وسِحرَه، حاله كحال دمشقَ التي شاخَ الزمانُ وما ذهب عنها ألقُها وبهاؤها- يقف ليبثَّ رمضانَ أشواقَه، ويُفضي إليه بآهاته، ويُناجيه معاتبًا:
تعجَّلتَ مِيقاتَ النَّوى رمَضانُ
مَهلًا أُخَيَّ فكلُّنا وَلْهانُ




ويؤوب المنجِّد إلى نفسه ليعلمَ أن رمضانَ راحلٌ لا محالة، فيزفِرُ عندها زَفرتَه المتأوِّهة تبعث الحُرقةَ في قلوب الشاميين، وتُلهب لوعةً في صدورهم، لا يُطفئ حرَّها إلا الدمعُ تسكبُه المآقي غِزارًا؛ إذ يصافح قلوبَهم نداءُ البلبل الواله:
(فوَدِّعُوه، ثم قولوا له: يا شهرَنا هذا عليك السَّلام).


وتمرُّ أيامُ رمضانَ الأخيرةُ في عجَلة وسرعة، فالكلُّ يُعِدُّ العُدَّة لاستقبال الوافد الجديد، فحيثُ سِرتَ في أزِقَّة الشام سَرَت إليك روائحُ (المعمول بفستق) و(الغريبة) و(البَرازِق) و(أقراص العَجْوة) تفوح من بيوت الدمشقيين تعطِّر الجوَّ بعطر العيد بعد أن زيَّنَت الحلوى جوانبَ الأسواق، فتشعر وكأنما دمشقُ في مِهرجان الجمال يفيضُ من كلِّ زاوية ومكان.

ومع آخر أيام رمضانَ تتوارى شمسُ الأَصِيل على استحياء وراء قاسِيون، ذلك الجبلِ الشَّامخ كالطَّود الأشَمِّ يحمي دمشقَ من عَوادي الزمن، وكم حَماها! فيؤوبُ الدمشقيون إلى بيوتهم يتسابقون إلى الإفطار الأخير في رمضان، يودِّعون فيه لمَّة العائلة وبهجة اللقاء.


وتمرُّ الساعاتُ الأخيرة في ليلة الثلاثين من رمضان، وتعيشها دمشقُ على أُهْبة الاستعداد، لا تدري أتفرحُ بقدوم العيد أم تجزَعُ لوداع رمضان.

وعند أذان العِشاء الأخير يؤمُّ الدمشقيون المساجدَ ينهَلون آخرَ رَشْفةٍ من وِصال الحبيب الذي آنسَ بقُربه وحشَتَهم، وأزال بجُوده فاقتَهم، وتدخلُ المسجدَ فتتبدَّى لك الوجوه حزينةً كاسفة، وتُلْذَعُ بحُرقة الفِراق تلوِّع الأفئدة.

وينتظر الدمشقيون مَدفعَ العيد يعلن إثباتَ القاضي الشرعي لهلال أوَّل أيام شوَّال، وهم بين راجٍ عيدَ غدٍ ومتحسِّرٍ على رمضانِ أمس.

وبين زحمة الأسواق وضجيج الباعة يتعالى صوتُ المدافع تضربها دمشقُ فرحًا بقدوم الضَّيف العزيز، وتُدوِّي في أرجائها صَيحاتُ التكبير ألمًا على فراق الحبيب الذاهب. ويعلو صوتُ التهاني كلَّ صوتٍ في دمشق، فلا تسمع الناسَ إلا مهنِّئًا بعضُهم بعضًا، ولا تراهم إلا معانقًا كلٌّ صاحبَه.

وتتسارع الخُطا في كلِّ مكان، وتغَصُّ الشوارع بالرَّائح والغادي، وتمتزجُ صيحات الباعة -يزيِّنون لك بضاعتهم- بأصواتِ ألعاب النار تخترق الفضاء، فأنَّى مشَيتَ في دمشق سمعتَ جلَبةً ورأيت زَحْمة، وعلِمتَ أن الكلَّ في شُغل وحركة.

فالحلَّاق يُؤنس الجالسين بحديثه ومِزاحه حتى لا يَمَلُّوا طولَ الانتظار، يريد كلٌّ منهم أن يزيِّنَ ظاهره بعد أن طهَّر في رمضانَ باطنه.

وصاحبُ ألعاب العيد يستنفر أبناء عمومته وأصدقاءه يُعينونه على نَصْب (الأراجيح) التي بدأ الصِّغار يتحلَّقون حولها، يرمُقونها بعيون زيَّنتها الفرحةُ ورسَمتها البسمة.

ويروح الخيَّاط ويجيء بين زُبُنه يكسوهم ما أعدَّ لهم من أبهى الحُلَل، يتزيَّن بها الدمشقيون ويُظهرون فرحتهم، فترى الناسَ عنده بين قائم وقاعد، كلٌّ يرى ثوبه ويُعاين حُلَّته.

ولا يكاد يُغلق (البَغَجاتي) و(الحلواني) عُلبةً حتى يفتحَ أُخرى، يملؤها بأطيب حلوى قد تفنَّن بعرضها، وصبَّ فيها من إتقان صنعته وخير بلده ما يُنسيه تعبه وعرَقَه الذي تتناثر حبَّاتُه على جبهته وقد احمرَّت مِن فَرْط نشاطه، فتراه يصُفُّ (البَقلاوة) و(الكُول شكُور) و(المَبرومة) و(الآسِيّة) و(البَلُّورية) في عُلب المشترين مَزهوًّا بمظهر صَنعته، وطيب مَذاقها.

ويقف اللحَّام خلف مِنصَّته يقطِّع اللحمَ قِطعًا كبارًا لتنالَ رضا (شاكرية خانم) أكلة الدمشقيين المفضَّلة، تَبيَضُّ بها أولُ أيام عيدهم.

وتدخل حمَّامَ السُّوق فلا تكاد تجد -لازدحام الناس- مكانًا لك بين المُغتسِلين، وتتعالى في رَدْهة الاستقبال صَيحاتُ الترحيب بك والتأهيل بمَن معك، لتدخلَ بعدها في مَعمَعة الحمَّام، وتتنقَّل بين (البَرَّاني) و(الجَوَّاني)، وتتَناوَبُك أيدي (الـمُكَيِّس) و(الـمُدَلِّك)، لتخرجَ بعد ذلك من الحمَّام وكأنك قد خُلِقتَ خلقًا آخر، تقليدٌ حرَصَ عليه الدمشقيون عنايةً منهم بالنظافة والطهارة منذ القديم.

ويفزَعُ طلَّاب المسجد -الذي خَلا من زُوَّاره في ليلة العيد- لتنظيفه وتعطيره، فيقضُون ليلهم منكبِّين على الأرض لا للسُّجود وإنما لمسح السَّجَّاد، ويَحْنون ظهورهم لا للرُّكوع وإنما لتنظيف الجُدرانوالبَلاط، وتفوح روائحُ الطِّيب من كلِّ زاوية تنادي الرُّكَّعَ السجود أن أقبِلوا ولا تُدبروا.

وتسهر ليلةُ العيد لا يغفو لها جَفْن، وتتثاءب عن بريق الفجر، وكأنما تأبى أن يَبينَ نورُه ويشعَّ ضياؤه. ويطلُع الفجر لتعلوَ معه أصواتُ التكبير ترتجُّ لها أرجاءُ دمشقَ كلُّها فرحًا وطربًا، ويَدْلِفُ المصلُّون إلى مساجد الأحياء الكُبرى جماعاتٍ جماعات، وقد التفَّ في كلِّ جماعة رجالُ العائلة الواحدة يحُفُّ بهم صغارُ العائلة وأبناؤها، تغشى المحبَّةُ وجوهَهم وتزينُ البسمةُ مُحيَّاهم، وتمتِّن الفرحة أواصرَ القُربى بينهم، فتحسُّ بالأُلفة تنساب في كلِّ مكان.


ويتوسَّط الأمويُّ مساجدَ البلد، كالقلب يتوسَّط كلَّ الجسد، ويعلو بهُتافه المقدَّس مردِّدًا (الله أكبرُ الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. والله أكبر، الله أكبر، ولله الحَمْد)، تكبيراتٌ تذوب لها قلوبُ الدمشقيين إذ يسمعونها من رابطة المُنشدين بإيقاعها الفريد المحبَّب، الذي تكاد تُحِسُّ لفَرْط العاطفة فيه أنه نداءُ الواله لحبيبه، أو استغاثة المُضطَرِّ لسيِّده.

وما إن تنقضي خُطبة العيد حتى يموجَ المسجد بمَن فيه، كلٌّ يسلِّم على صاحبه، وتفيض القلوبُ بعبارات الودِّ والتهنئة (عيد مبارك) (الله يُحييكم لأمثاله)، في مشهد ما ترى أعجبَ منه، ولا أدلَّ على لطف الشاميين ومحبَّة بعضِهم لبعض.

ويخرج الدمشقيون من المسجد وقد أدَّوا حقَّ الله، فيَؤمُّون المقابرَ يذكرون فيها حقَّ موتاهم، لتعلم وفاءَ الدمشقيين لأسلافهم واعترافَهم بفضل أجدادهم. وتعلو المقابرَ خُضرةٌ، ما زرعَتها يدُ فلَّاح ولا غرسَت نبتَها، وإنما أنبتتها محبَّةُ الأبناء للآباء، وغرَسَها احترامُ الأحفاد للأجداد، وكأنما أبى الدمشقيون -لشدَّة فرحتهم بالعيد- إلا أن يُشركوا فيها مَن رحلَ عنهم مِن موتاهم.

ويروح الرجالُ عائدين إلى بيوتهم، وتجتمع الأسرةُ كلُّها -بقَضِّها وقَضِيضها، بصغيرها وكبيرها، بنسائها ورجالها- في بيت العائلة الكبير، وتُعَدُّ مائدة الفطور ليتحلَّق الجميع من حولها، يتصدَّرها الجَدُّ والجَدَّة، وقد غَصَّت أحضانهما بالأحفاد يتسابقون إلى جدِّهم يقبِّلون يده، وتهفو قلوبهم إلى مِحفظته ليتحفَهم بالمال يقضون فيه حقَّ طفولتهم من اللعب والبهجة.

ويتراكض الأولادُ في فضاء الحارة الدمشقية يَهْرِجُون ويَمْرَحُون، وقد تسلَّح كلٌّ منهم بسلاحه، فتتراءى لك القوَّة في أبناء دمشقَ منذ الصِّغَر، قوَّةٌ يُسَرُّ بها الآباء وتستاء من صَخَبها وضوضائها الأمَّهات، وتتعالى بين هذا وذاك ضَحِكاتُ الأجداد وغمَزات الأخَوات.

ويتوافد الجيرانُ و أبناء العائلة يزور بعضُهم بعضًا، وتنساب كلماتُ التهنئة والتبريك بين المُتزاوِرين، يزيِّنون بها شفاههم بعد أن ازدانت بأجمل الأثواب أجسادُهم، وتَشيعُ البهجة في كلِّ زاوية من حارات دمشق، وتهبِطُ الرحمة على هذه البلدة الوادعة الآمنة، فتزيدُها في يوم العيد رحمةً وأمانًا، وتجذِّرُ في قلب كلِّ دمشقي محبةَ الشام وعشقَها.

وتبقى دمشقُ على مَرِّ الزمان في قلب كلِّ عاشق حُلمًا، وعلى لسان كل مُتَيَّم ذكرى، فلا ينسى أيُّ دمشقي مهما شاخَ به الزمان، وناءت به الأيام، ذكرياتِ العيد في عاصمة الدهر والزمان.


دمشق عام 2010م


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 53.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 52.20 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (3.18%)]