تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 38 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية إلى دعوة انفعالية صدامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          معالجة الآثار السلبية لمشاهد الحروب والقتل لدى الأطفال التربية النفسية للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          المسجد الأقصى وفلسطين في حياة الصحابة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 109 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #371  
قديم 13-11-2022, 11:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ مَرْيَمَ
الحلقة (371)
صــ 219 إلى صــ 226


والثاني: الذي خاطبها هو الذي حملته، ودخل من فيها، قاله أبي بن كعب . [ ص: 219 ]

وفي مقدار حملها سبعة أقوال:

أحدها: أنها حين حملت وضعت، قاله ابن عباس، والمعنى: أنه ما طال حملها، وليس المراد أنها وضعته في الحال ; لأن الله تعالى يقول: " فحملته فانتبذت به " ، وهذا يدل على أن بين الحمل والوضع وقتا يحتمل الانتباذ به .

والثاني: أنها حملته تسع ساعات ووضعت من يومها، قاله الحسن .

والثالث: تسعة أشهر، قاله سعيد بن جبير وابن السائب .

والرابع: ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، قاله مقاتل بن سليمان .

والخامس: ثمانية أشهر، فعاش، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر، فكان في هذا آية، حكاه الزجاج .

والسادس: في ستة أشهر، حكاه الماوردي .

والسابع: في ساعة واحدة، حكاه الثعلبي .

قوله تعالى: " فانتبذت به " يعني: بالحمل، " مكانا قصيا " ; أي: بعيدا . وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: ( قاصيا ) . قال ابن إسحاق: مشت ستة أميال . قال الفراء: القصي والقاصي بمعنى واحد . وقال غير الفراء: القصي والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد . وإنما بعدت فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج .

قوله تعالى: " فأجاءها المخاض " وقرأ عكرمة، وإبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري: ( المخاض ) بكسر الميم . قال الفراء: المعنى: فجاء بها المخاض، فلما ألقيت الباء، جعلت في الفعل ألفا، ومثله: آتنا غداءنا [ الكهف: 63 ] ; أي: [ ص: 220 ] بغدائنا، ومثله: آتوني زبر الحديد [ الكهف: 96 ] ; أي: بزبر الحديد . قال أبو عبيدة: أفعلها من جاءت هي، وأجاءها غيرها . وقال ابن قتيبة: المعنى: جاء بها وألجأها، وهو من حيث يقال: جاءت بي الحاجة إليك، وأجاءتني الحاجة إليك . والمخاض: الحمل . وقال غيره: المخاض: وجع الولادة . " إلى جذع النخلة " وهو ساق النخلة، وكانت نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا سعف . " قالت يا ليتني مت قبل هذا " اليوم أو هذا الأمر . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: ( مت ) بكسر الميم .

وفي سبب قولها هذا قولان:

أحدهما: أنها قالته حياء من الناس . والثاني: لئلا يأثموا بقذفها .

قوله تعالى: " وكنت نسيا منسيا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر النون . وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: ( نسيا ) بفتح النون . قال الفراء: وأصحاب عبد الله يقرؤون: ( نسيا ) بفتح النون، وسائر العرب بكسرها، وهما لغتان، مثل: الجسر والجسر، والوتر والوتر، والفتح أحب إلي . قال أبو علي الفارسي: الكسر على اللغتين . وقال ابن الأنباري: من كسر النون قال: النسي: اسم لما ينسى، بمنزلة البغض اسم لما يبغض، والسب اسم لما يسب، والنسي بفتح النون: اسم لما ينسى أيضا، على أنه مصدر ناب عن الاسم، كما يقال: الرجل دنف ودنف، فالمكسور هو الوصف الصحيح، والمفتوح مصدر سد مسد الوصف، ويمكن أن يكون النسي والنسي اسمين لمعنى، كما يقال: الرطل والرطل .

وللمفسرين في قوله تعالى: " نسيا منسيا " خمسة أقوال: [ ص: 221 ]

أحدها: يا ليتني لم أكن شيئا، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال عطاء وابن زيد .

والثاني: " وكنت نسيا منسيا " ; أي: دم حيضة ملقاة، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة . قال الفراء: النسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها . وقال ابن الأنباري: هي خرق الحيض تلقيها المرأة، فلا تطلبها ولا تذكرها .

والثالث: [ أنه من ] السقط، قاله أبو العالية والربيع .

والرابع: أن المعنى: يا ليتني لا يدرى من أنا، قاله قتادة .

والخامس: أنه الشيء التافه يرتحل عنه القوم، فيهون عليهم فلا يرجعون إليه، قاله ابن السائب . وقال أبو عبيدة: النسي والمنسي: ما ينسى من إداوة وعصا، يعني: أنه ينسى في المنزل، فلا يرجع إليه لاحتقار صاحبه إياه . وقال الكسائي: معنى الآية: ليتني كنت ما إذا ذكر لم يطلب .

قوله تعالى: " فناداها من تحتها " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: ( من تحتها ) بفتح الميم والتاء . وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: ( من تحتها ) بكسر الميم والتاء . فمن قرأ بكسر الميم ففيه وجهان: أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة . وقيل: كانت على نشز، فناداها الملك أسفل منها . والثاني: ناداها عيسى لما خرج من بطنها . قال ابن عباس: كل ما رفعت إليه طرفك فهو فوقك، وكل ما خفضت إليه طرفك فهو تحتك . ومن قرأ بفتح الميم ففيه الوجهان المذكوران . وكان الفراء يقول: ما خاطبها إلا الملك على القراءتين جميعا .

قوله تعالى: " قد جعل ربك تحتك سريا " فيه قولان:

[ ص: 222 ] أحدهما: أنه النهر الصغير، قاله جمهور المفسرين واللغويون، قال أبو صالح وابن جريج: هو الجدول بالسريانية .

والثاني: أنه عيسى، كان سريا من الرجال، قاله الحسن، وعكرمة، [ وابن زيد ] . قال ابن الأنباري: وقد رجع الحسن عن هذا القول إلى القول الأول، ولو كان وصفا لعيسى، كان غلاما سريا أو سويا من الغلمان، وقلما تقول العرب: رأيت عندك نبيلا، حتى يقولوا: رجلا نبيلا .

فإن قيل: كيف ناسب تسليتها أن قيل: لا تحزني، فهذا نهر يجري ؟

فالجواب من وجهين: أحدهما: أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه، وعدم الطعام والشراب، والماء الذي تتطهر به، فقيل: لا تحزني قد أجرينا لك نهرا، وأطلعنا لك رطبا، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

والثاني: أنها حزنت لما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج، فأجرى الله تعالى لها نهرا، فجاءها من الأردن، وأخرج لها الرطب من الشجرة اليابسة، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله تعالى في إيجاد عيسى، قاله مقاتل .

قوله تعالى: " وهزي إليك " الهز: التحريك .

والباء في قوله تعالى: " بجذع النخلة " فيها قولان:

أحدهما: أنها زائدة مؤكدة، كقوله تعالى: فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج: 15 ]، قال الفراء: معناه: فليمدد سببا . والعرب تقول: هزه وهز به، وخذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلق زيدا وتعلق به . وقال أبو عبيدة: هي مؤكدة، كقول الشاعر:


نضرب بالسيف ونرجو بالفرج


[ ص: 223 ] والثاني: أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهز، فهي مفيدة للإلصاق، قاله ابن الأنباري .

قوله تعالى: " تساقط " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والسكائي، وأبو بكر عن عاصم: ( تساقط ) بالتاء مشددة السين . وقرأ حمزة وعبد الوارث: ( تساقط ) بالتاء مفتوحة مخففة السين . وقرأ حفص عن عاصم: ( تساقط ) بضم التاء وكسر القاف مخففة السين . وقرأ يعقوب وأبو زيد عن المفضل: ( يساقط ) بالياء مفتوحة وتشديد السين وفتح القاف، فهذه القراءات المشاهير . وقرأ أبي بن كعب وأبو حيوة: ( تسقط ) بفتح التاء وسكون السين ورفع القاف . وقرأ عبد الله بن عمرو، وعائشة، والحسن: ( يساقط ) بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف . وقرأ الضحاك وعمرو بن دينار: ( يسقط ) برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف . وقرأ عاصم الجحدري وأبو عمران الجوني مثله، إلا أنه بالتاء . وقرأ معاذ القارئ وابن يعمر مثله، إلا أنه بالنون . وقرأ أبو رزين العقيلي وابن أبي عبلة: ( يسقط ) بالياء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف . وقرأ أبو السماك العدوي وابن حزام: ( تتساقط ) بتاءين مفتوحين وبألف . وقال الزجاج: من قرأ: ( يساقط )، فالمعنى: يتساقط، فأدغمت التاء في السين . ومن قرأ: ( تساقط ) فكذلك أيضا، وأنث لأن لفظ النخلة يؤنث . ومن قرأ: ( تساقط ) بالتاء والتخفيف، فإنه حذف من ( تتساقط ) اجتماع التاءين . ومن قرأ: ( يساقط ) ذهب إلى معنى: يساقط الجذع عليك . ومن قرأ: ( نساقط ) بالنون، فالمعنى: نحن نساقط عليك، فنجعله لك آية . والنحويون يقولون: [ ص: 224 ] إن " رطبا " منصوب على التمييز إذا قلت: يساقط أو يتساقط، المعنى: يتساقط الجزع رطبا . وإذا قلت: تساقط بالتاء، فالمعنى: تتساقط النخلة رطبا .

قوله تعالى: " جنيا " قال الفراء: الجني: المجتنى . وقال ابن الأنباري: هو الطري، والأصل: مجنو، صرف من مفعول إلى فعيل، كما يقال: قديد وطبيخ . وقال غيره: هو الطري بغباره . ولم يكن لتلك النخلة رأس، فأنبته الله تعالى، فلما وضعت يدها عليها، سقط الرطب رطبا . وكان السلف يستحبون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام .

قوله تعالى: " فكلي " ; أي: من الرطب، " واشربي " من النهر، " وقري عينا " بولادة عيسى عليه السلام . قال الزجاج: يقال: قررت به عينا أقر، بفتح القاف في المستقبل، وقررت في المكان أقر، بكسر القاف، " وعينا " منصوب على التمييز . وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال: معنى " وقري عينا " : ولتبرد دمعتك ; لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة . واشتقاق " قري " من القرور، وهو الماء البارد . وقال لنا أحمد بن يحيى: تفسير " قري عينا " : بلغت غاية أملك حتى تقر عينك من الاستشراف إلى غيره، واحتج بقول عمرو بن كلثوم:


بيوم كريهة ضربا وطعنا أقر به مواليك العيونا


أي: ظفروا وبلغوا منتهى أمنيتهم، فقرت عينهم من تطلع إلى غيره .

قوله تعالى: " فإما ترين " وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، والضحاك، وأبو العالية، وعاصم الجحدري: ( ترئن ) بهمزة مكسورة من غير ياء ; أي: إن رأيت من البشر أحدا فقولي، وفيه إضمار تقديره: فسألك عن أمر ولدك . " فقولي إني نذرت للرحمن صوما " فيه قولان: [ ص: 225 ]

أحدهما: صمتا، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، والضحاك، وكذلك قرأ أبي بن كعب، وأنس بن مالك، وأبو رزين العقيلي: ( صمتا ) مكان قوله: " صوما " . وقرأ ابن عباس: ( صياما ) .

والثاني: صوما عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة . وقال ابن زيد: كان المجتهد من بني إسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إلا من ذكر الله عز وجل . قال السدي: فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت . قال ابن مسعود: أمرت بالصمت ; لأنها لم تكن لها حجة عند الناس، فأمرت بالكف عن الكلام ليكفيها الكلام ولدها مما يبرئ بها ساحتها . وقيل: كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس . قال ابن الأنباري: الصوم في لغة العرب على أربعة معان، يقال: صوم لترك الطعام والشراب، وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذرق النعام .

واختلف العلماء في مقدار سن مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها ولدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبه .

والثاني: بنت اثنتي عشرة سنة، قاله زيد بن أسلم .

والثالث: بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل .
فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني [ ص: 226 ] مباركا أين ما كنت ?وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .

قوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله " قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أتتهم به بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها . وقال في رواية الضحاك: انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتهم حملت عيسى فتلقتهم به، فذلك قوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله " .

فإن قيل: " أتت به " يغني عن " تحمله " ، فلا فائدة للتكرير .

فالجواب: أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهم السامع " فأتت به " أن يكون ساعيا على قدميه، فيكون سعيه آية كنطقه، فقطع ذلك التوهم، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مثل قول العرب: نظرت إلى فلان بعيني، فنفوا بذلك نظر العطف والرحمة، وأثبتوا [ أنه ] نظر عين . وقال ابن السائب: لما دخلت على قومها بكوا، وكانوا قوما صالحين، و " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: شيئا عظيما، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة . قال الفراء: الفري: العظيم، والعرب تقول: تركته يفري الفري: إذا عمل فأجاد العمل، ففضل الناس قيل هذا فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فما رأيت عبقريا يفري فري عمر " .

والثاني: عجبا فائقا، قاله أبو عبيدة .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #372  
قديم 13-11-2022, 11:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ مَرْيَمَ
الحلقة (372)
صــ 227 إلى صــ 234


والثالث: شيئا مصنوعا، ومنه يقال: فريت الكذب وافتريته، قاله اليزيدي . [ ص: 227 ]

قوله تعالى: " يا أخت هارون " في المراد بهارون هذا خمسة أقوال:

أحدها: أنه أخ لها من أمها، وكان من أمثل فتى في بني إسرائيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال الضحاك: كان من أبيها وأمها .

والثاني: أنها كانت من بني هارون، قاله الضحاك عن ابن عباس . وقال السدي: كانت من بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنسبت إليه لأنها من ولده .

والثالث: أنه رجل صالح كان في بني إسرائيل، فشبهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وقتادة، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون: " يا أخت هارون " ، وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى ؟ فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم " .

والرابع: أن قوم هارون كان فيهم فساق وزناة، فنسبوها إليهم، قاله سعيد بن جبير .

والخامس: أنه رجل من فساق بني إسرائيل شبهوها به، قاله وهب بن منبه . [ ص: 228 ]

فعلى هذا يخرج في معنى ( الأخت ) قولان:

أحدهما: أنها الأخت حقيقة . والثاني: المشابهة لا المناسبة، كقوله تعالى: وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها [ الزخرف: 48 ] .

قوله تعالى: " ما كان أبوك " يعنون: عمران، " امرأ سوء " ; أي: زانيا، " وما كانت أمك " حنة، " بغيا " ; أي: زانية، فمن أين لك هذا الولد ؟

قوله تعالى: " فأشارت " ; أي: أومأت، " إليه " ; أي: إلى عيسى فتكلم . وقيل: المعنى: أشارت إليه أن كلموه، وكان عيسى قد كلمها حين أتت قومها، وقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما أشارت أن كلموه تعجبوا من ذلك، و " قالوا كيف نكلم من كان " وفيها أربعة أقوال:

أحدها: أنها زائدة، فالمعنى: كيف نكلم صبيا في المهد ؟

والثاني: أنها في معنى وقع وحدث .

والثالث: أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى: من يكن في المهد صبيا، فكيف نكلمه ؟ حكاها الزجاج، واختار الأخير منها . قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي ; أي: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء .

والرابع: أن " كان " بمعنى صار، قاله قطرب .

وفي المراد بالمهد قولان: أحدهما: حجرها، قاله نوف، وقتادة، والكلبي . والثاني: سرير الصبي المعروف، حكاه الكلبي أيضا .

قال السدي: فلما سمع عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه، فقال: إني عبد الله . قال المفسرون: إنما قدم ذكر العبودية ليبطل قول من ادعى فيه الربوبية . [ ص: 229 ]

وفي قوله: " آتاني الكتاب " أسكن هذه الياء حمزة . وفي معنى الآية قولان:

أحدهما: أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أمه، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقيل: علم التوراة والإنجيل وهو في بطن أمه .

والثاني: قضى أن يؤتيني الكتاب، قاله عكرمة .

وفي " الكتاب " قولان: أحدهما: أنه التوراة . والثاني: الإنجيل .

قوله تعالى: " وجعلني نبيا " هذا وما بعده إخبار عما قضى الله له، وحكم له به ومنحه إياه مما سيظهر ويكون . وقيل: المعنى: يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا إذا بلغت، فحل الماضي محل المستقبل، كقوله تعالى: وإذ قال الله يا عيسى [ المائدة: 116 ] .

وفي وقت تكليمه لهم قولان:

أحدهما: أنه كلمهم بعد أربعين يوما . والثاني: في يومه . وهو مبني على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم .

قوله تعالى: " وجعلني مباركا أين ما كنت " روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، قال: " نفاعا حيثما توجهت " . وقال مجاهد: معلما للخير .

وفي المراد بـ " الزكاة " قولان:

أحدهما: زكاة الأموال، قاله ابن السائب . والثاني: الطهارة، قاله الزجاج . [ ص: 230 ]

قوله تعالى: " وبرا بوالدتي " قال ابن عباس: لما قال هذا، ولم يقل: ( بوالدي ) علموا أنه ولد من غير بشر .

قوله تعالى: " ولم يجعلني جبارا " ; أي: متعظما، " شقيا " عاصيا لربه، " والسلام علي يوم ولدت " قال المفسرون: السلامة علي من الله يوم ولدت حتى لم يضرني شيطان . وقد سبق تفسير الآية [ مريم: 15 ] .

فإن قيل: لم ذكر هاهنا " السلام " بألف ولام، وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام ؟ فعنه جوابان:

أحدهما: أنه لما جرى ذكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام، كان الأحسن أن يرد ثانية بألف ولام، هذا قول الزجاج .

وقد اعترض على هذا القول، فقيل: كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى، على الأول وهو قول الله عز وجل ؟

وقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: عيسى إنما يتعلم من ربه، فيجوز أن يكون سمع قول الله في يحيى، فبنى عليه وألصقه بنفسه، ويجوز أن يكون الله عز وجل عرف السلام الثاني ; لأنه أتى بعد سلام قد ذكره، وأجراه عليه غير قاصد به إتباع اللفظ المحكي ; لأن المتكلم له أن يغير بعض الكلام الذي يحكيه، فيقول: قال عبد الله: أنا رجل منصف، يريد: قال لي عبد الله: أنت رجل منصف .

والجواب الثاني: أن سلاما والسلام لغتان بمعنى واحد، ذكره ابن الأنباري .
[ ص: 231 ] ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم .

قوله تعالى: " ذلك عيسى ابن مريم " قال الزجاج: أي: ذلك الذي قال: إني عبد الله، هو ابن مريم، لا ما تقول النصارى: إنه ابن الله وإنه إله .

قوله تعالى: " قول الحق " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، ونافع، وحمزة، والكسائي: ( قول الحق ) برفع اللام . وقرأ عاصم، وابن عامر، ويعقوب بنصب اللام . قال الزجاج: من رفع " قول الحق " فالمعنى: هو قول الحق، يعني: هذا الكلام، ومن نصب فالمعنى: أقول قول الحق . وذكر ابن الأنباري في الآية وجهين:

أحدهما: أنه لما وصف بالكلمة جاز أن ينعت بالقول .

والثاني: أن في الكلام إضمارا، تقديره: ذلك نبأ عيسى، ذلك النبأ قول الحق .

قوله تعالى: " الذي فيه يمترون " ; أي: يشكون . قال قتادة: أمترت اليهود فيه والنصارى، فزعم اليهود أنه ساحر، وزعم النصارى أنه ابن الله وثالث ثلاثة . قرأ أبو مجلز، ومعاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو رجاء: ( تمترون ) بالتاء .

قوله تعالى: " ما كان لله أن يتخذ من ولد " قال الزجاج: المعنى: أن يتخذ ولدا . و " من " مؤكدة تدل على نفي الواحد والجماعة ; لأن للقائل أن يقول: ما اتخذت فرسا، يريد: اتخذت أكثر من ذلك، وله أن يقول: [ ص: 232 ] ما اتخذت فرسين ولا أكثر، يريد: اتخذت فرسا واحدا، فإذا قال: ما اتخذت من فرس، فقد دل على نفي الواحد والجميع .

قوله تعالى: " كن فيكون " وقرأ أبو عمران الجوني وابن أبي عبلة: ( فيكون ) بالنصب، وقد ذكرنا وجهه في ( البقرة: 117 ) .

قوله تعالى: " وإن الله ربي وربكم " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : ( وأن الله ) بنصب الألف . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ( وإن الله ) بكسر الألف . وهذا من قول عيسى، فمن فتح عطفه على قوله: " وأوصاني بالصلاة والزكاة " وبأن الله ربي، ومن كسر ففيه وجهان:

أحدهما: أن يكون معطوفا على قوله: " إني عبد الله " .

والثاني: أن يكون مستأنفا .
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون .

قوله تعالى: " فاختلف الأحزاب من بينهم " قال المفسرون: " من " زائدة، والمعنى: اختلفوا بينهم . وقال ابن الأنباري: لما تمسك المؤمنون بالحق، كان اختلاف الأحزاب بين المؤمنين مقصورا عليهم .

وفي " الأحزاب " قولان:

أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، فكانت اليهود تقول: إنه لغير رشدة، والنصارى تدعي فيه ما لا يليق به .

[ ص: 233 ] والثاني: أنهم فرق النصارى، قال بعضهم: هو الله، وقال بعضهم: ابن الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة .

قوله تعالى: " فويل للذين كفروا " بقولهم في المسيح، " من مشهد يوم عظيم " ; أي: من حضورهم ذلك اليوم للجزاء .

قوله تعالى: " أسمع بهم وأبصر " فيه قولان:

أحدهما: أن لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، فالمعنى: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة، سمعوا وأبصروا حين لم ينفعهم ذلك ; لأنهم شاهدوا من أمر الله ما لا يحتاجون معه إلى نظر وفكر، فعلموا الهدى وأطاعوا، هذا قول الأكثرين .

والثاني: أسمع بحديثهم اليوم وأبصر كيف يصنع بهم " يوم يأتوننا " ، قاله أبو العالية .

قوله تعالى: " لكن الظالمون " يعني: المشركين والكفار، " اليوم " يعني: في الدنيا " في ضلال مبين " .

قوله تعالى: " وأنذرهم " ; أي: خوف كفار مكة، " يوم الحسرة " يعني: يوم القيامة، يتحسر المسيء إذ لم يحسن، والمقصر إذ لم يزدد من الخير .

وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة، فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قيل: يا أهل الجنة ; فيشرئبون وينظرون، وقيل: يا أهل النار ; فيشرئبون وينظرون، فيجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيقال لهم: هل تعرفون هذا ؟ [ ص: 234 ] فيقولون: هذا الموت، فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون " .

قال المفسرون: فهذه هي الحسرة إذا ذبح الموت، فلو مات أحد فرحا مات أهل الجنة، ولو مات أحد حزنا مات أهل النار .

ومن موجبات الحسرة ما روى عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى يوم القيامة بناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها، واستنشقوا ريحها، ونظروا إلى قصورها، نودوا: أن اصرفوهم عنها، لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها، فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا، قال: ذلك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني، وأجللتم الناس ولم تجلوني، تركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من الثواب " .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #373  
قديم 13-11-2022, 11:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ مَرْيَمَ
الحلقة (373)
صــ 235 إلى صــ 242



ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود، قال: ليس من نفس يوم القيامة إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار، ثم يقال - يعني: لهؤلاء -: لو عملتم، ولأهل الجنة: لولا أن من الله عليكم . [ ص: 235 ]

ومن موجبات الحسرة قطع الرجاء عند إطباق النار على أهلها .

قوله تعالى: " إذ قضي الأمر " قال ابن الأنباري: " قضي " في اللغة بمعنى: أتقن وأحكم، وإنما سمي الحاكم قاضيا لإتقانه وإحكامه ما ينفذ . وفي الآية اختصار، والمعنى: إذ قضي الأمر الذي فيه هلاكهم .

وللمفسرين في الأمر قولان:

أحدهما: أنه ذبح الموت، قاله ابن جريج والسدي . والثاني: أن المعنى: قضي العذاب لهم، قاله مقاتل .

قوله تعالى: " وهم في غفلة " ; أي: هم في الدنيا في غفلة عما يصنع بهم ذلك اليوم، " وهم لا يؤمنون " بما يكون في الآخرة .

قوله تعالى: " إنا نحن نرث الأرض " ; أي: نميت سكانها فنرثها، " ومن عليها وإلينا يرجعون " بعد الموت .

فإن قيل: ما الفائدة في " نحن " وقد كفت عنها " إنا " ؟

فالجواب: أنه لما جاز في قول المعظم: ( إنا نفعل )، أن يوهم أن أتباعه فعلوا، أبانت " نحن " بأن الفعل مضاف إليه حقيقة .

فإن قيل: فلم قال: " ومن عليها " ، وهو يرث الآدميين وغيرهم ؟

فالجواب: أن " من " تختص أهل التمييز، وغير المميزين يدخلون في معنى الأرض ويجرون مجراها، ذكر الجوابين عن السؤالين ابن الأنباري .
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ ص: 236 ] يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا .

قوله تعالى: " واذكر في الكتاب إبراهيم " ; أي: اذكر لقومك قصته . وقد سبق معنى الصديق في [ النساء: 69 ] .

قوله تعالى: " ولا يغني عنك شيئا " ; أي: لا يدفع عنك ضرا .

قوله تعالى: " إني قد جاءني من العلم " بالله والمعرفة " ما لم يأتك " .

قوله تعالى: " لا تعبد الشيطان " ; أي: لا تطعه فيما يأمر به من الكفر والمعاصي . وقد شرحنا معنى " كان " آنفا . و " عصيا " ; أي: عاصيا، فهو ( فعيل ) بمعنى ( فاعل ) .

قوله تعالى: " إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن " قال مقاتل: في الآخرة . وقال غيره: في الدنيا . " فتكون للشيطان وليا " ; أي: قرينا في عذاب الله، فجرت المقارنة مجرى الموالاة . وقيل: إنما طمع إبراهيم في إيمان أبيه ; لأنه [ ص: 237 ] حين خرج من النار قال له: نعم الإله إلهك يا إبراهيم، فحينئذ أقبل يعظه، فأجابه أبوه: " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم " ; أي: أتارك عبادتها أنت ؟ " لئن لم تنته " عن عيبها وشتمها، " لأرجمنك " وفيه قولان:

أحدهما: بالشتم والقول، قاله ابن عباس ومجاهد .

والثاني: بالحجارة حتى تتباعد عني، قاله الحسن .

قوله تعالى: " واهجرني مليا " فيه قولان:

أحدهما: اهجرني طويلا، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والفراء، والأكثرون . قال ابن قتيبة: اهجرني حينا طويلا، ومنه يقال: تمليت حبيبك .

والثاني: اجتنبني سالما قبل أن تصيبك عقوبتي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة والضحاك، فعلى هذا يكون من قولهم: فلان ملي بكذا وكذا: إذا كان مضطلعا به، فالمعنى: اهجرني وعرضك وافر، وأنت سليم من أذاي، قاله ابن جرير .

قوله تعالى: " قال سلام عليك " ; أي: سلمت من أن أصيبك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمر بقتاله على كفره، " سأستغفر لك ربي " فيه قولان:

أحدهما: أن المعنى: سأسأل الله لك توبة تنال بها مغفرته .

والثاني: أنه وعده الاستغفار، وهو لا يعلم أن ذلك محظور في حق المصرين على الكفر، ذكرهما ابن الأنباري .

قوله تعالى: " إنه كان بي حفيا " فيه ثلاثة أقوال: [ ص: 238 ]

أحدها: لطيفا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد والزجاج .

والثاني: رحيما، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والثالث: بارا عودني منه الإجابة إذا دعوته، قاله ابن قتيبة .

قوله تعالى: " وأعتزلكم " ; أي: وأتنحى عنكم، وأعتزل " ما تدعون من دون الله " يعني: الأصنام .

وفي معنى " تدعون " قولان:

أحدهما: تعبدون .

والثاني: أن المعنى: وما تدعونه ربا، " وأدعو ربي " ; أي: وأعبده، " عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا " ; أي: أرجو أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام ; لأنها لا تنفعهم ولا تجيب دعاءهم . " فلما اعتزلهم " قال المفسرون: هاجر عنهم إلى أرض الشام، فوهب الله له إسحاق ويعقوب، فآنس الله وحشته عن فراق قومه بأولاد كرام . قال أبو سليمان: وإنما وهب له إسحاق ويعقوب بعد إسماعيل .

قوله تعالى: " وكلا " ; أي: وكلا من هذين . وقال مقاتل: " وكلا " يعني: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، " جعلناه نبيا " .

قوله تعالى: " ووهبنا لهم من رحمتنا " قال المفسرون: المال والولد، والعلم والعمل، " وجعلنا لهم لسان صدق عليا " قال ابن قتيبة: أي: ذكرا حسنا في الناس مرتفعا، فجميع أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته ويثنون عليهم، فوضع اللسان مكان القول ; لأن القول يكون باللسان . [ ص: 239 ]
واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .

قوله تعالى: " إنه كان مخلصا " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، والمفضل عن عاصم: ( مخلصا ) بكسر اللام . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم بفتح اللام . قال الزجاج: ( المخلص ) بكسر اللام: الذي وحد الله وجعل نفسه خالصة في طاعة الله غير دنسه، و( المخلص ) بفتح اللام: الذي أخلصه الله وجعله مختارا خالصا من الدنس .

قوله تعالى: " وكان رسولا " قال ابن الأنباري: إنما أعاد " كان " لتفخيم شأن النبي المذكور .

قوله تعالى: " وناديناه من جانب الطور " ; أي: من ناحية الطور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير . قال ابن الأنباري: [ إنما ] خاطب الله العرب بما يستعملون في لغتهم، ومن كلامهم: عن يمين القبلة وشمالها، يعنون: مما يلي يمين المستقبل لها وشماله، فنقلوا الوصف إلى ذلك اتساعا عند انكشاف المعنى ; لأن الوادي لا يد له فيكون له يمين . وقال المفسرون: جاء النداء عن يمين موسى ; فلهذا قال: " الأيمن " ، ولم يرد به يمين الجبل .

قوله تعالى: " وقربناه نجيا " قال ابن الأنباري: معناه: مناجيا، فعبر [ ص: 240 ] ( فعيل ) عن ( مفاعل )، كما قالوا: فلان خليطي وعشيري، يعنون: مخالطي ومعاشري . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: " وقربناه " ، قال: حتى سمع صريف القلم حين كتب له في الألواح .

قوله تعالى: " ووهبنا له من رحمتنا " ; أي: من نعمتنا عليه إذ أجبنا دعاءه حين سأل أن نجعل معه أخاه وزيرا له .
واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا .

قوله تعالى: " إنه كان صادق الوعد " هذا عام فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس . وقال مجاهد: لم يعد ربه بوعد قط إلا وفى له به .

فإن قيل: كيف خص بصدق الوعد إسماعيل، وليس في الأنبياء من ليس كذلك ؟

فالجواب: أن إسماعيل عانى [ في الوفاء ] بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فأثنى عليه بذلك . وذكر المفسرون: أنه كان بينه وبين رجل ميعاد، فأقام ينتظره مدة فيها لهم ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه أقام حولا، قاله ابن عباس . والثاني: اثنين وعشرين يوما، قاله الرقاشي . والثالث: ثلاثة أيام، قاله مقاتل .

قوله تعالى: " وكان رسولا " إلى قومه، وهم جرهم . " وكان يأمر أهله " قال مقاتل: يعني: قومه . وقال الزجاج: أهله: جميع أمته . فأما الصلاة والزكاة فهما العبادتان المعروفتان . [ ص: 241 ]

قوله تعالى: " ورفعناه مكانا عليا " فيه أربعة أقوال:

أحدها: أنه في السماء الرابعة، روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج: أنه رأى إدريس في السماء الرابعة، وبهذا قال أبو سعيد الخدري، ومجاهد، وأبو العالية .

والثاني: أنه في السماء السادسة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك .

والثالث: أنه في الجنة، قاله زيد بن أسلم، وهذا يرجع إلى الأول ; لأنه قد روي أن الجنة في السماء الرابعة .

والرابع: أنه في السماء السابعة، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

وفي سبب صعوده إلى السماء ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه كان يصعد له من العمل مثل ما يصعد لجميع بني آدم، فأحبه ملك الموت، فاستأذن الله في خلته، فأذن له، فهبط إليه في صورة آدمي، [ ص: 242 ] وكان يصحبه، فلما عرفه قال: إني أسألك حاجة، قال: ما هي ؟ قال: تذيقني الموت، فلعلي أعلم ما شدته، فأكون له أشد استعدادا، فأوحى الله إليه أن اقبض روحه ساعة ثم أرسله، ففعل، ثم قال: كيف رأيت ؟ قال: كان أشد مما بلغني عنه، وإني أحب أن تريني النار . قال: فحمله فأراه إياها، قال: إني أحب أن تريني الجنة، فأراه إياها، فلما دخلها طاف فيها، قال له ملك الموت: اخرج، فقال: والله لا أخرج حتى يكون الله تعالى يخرجني، فبعث الله ملكا فحكم بينهما، فقال: ما تقول يا ملك الموت ؟ فقص عليه ما جرى، فقال: ما تقول يا إدريس ؟ قال: إن الله تعالى قال: كل نفس ذائقة الموت [ آل عمران: 185 ] وقد ذقته، وقال: وإن منكم إلا واردها [ مريم: 71 ] وقد وردتها، وقال لأهل الجنة: وما هم منها بمخرجين [ الحجر: 48 ] ; فوالله لا أخرج حتى يكون الله يخرجني، فسمع هاتفا من فوقه يقول: بإذني دخل وبأمري فعل، فخل سبيله، هذا معنى ما رواه زيد بن أسلم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

فإن سأل سائل فقال: من أين لإدريس هذه الآيات وهي في كتابنا ؟ فقد ذكر ابن الأنباري عن بعض العلماء، قال: كان الله تعالى قد أعلم إدريس بما ذكر في القرآن من وجوب الورود، وامتناع الخروج من الجنة، وغير ذلك، فقال ما قاله بعلم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #374  
قديم 13-11-2022, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ مَرْيَمَ
الحلقة (374)
صــ 243 إلى صــ 250



والثاني: أن ملكا من الملائكة استأذن ربه أن يهبط إلى إدريس، فأذن له، فلما عرفه إدريس قال: هل بينك وبين ملك الموت قرابة ؟ قال: ذاك أخي من الملائكة . قال: هل تستطيع أن تنفعني عند ملك الموت ؟ قال: سأكلمه فيك [ ص: 243 ] فيرفق بك، اركب ببن جناحي، فركب إدريس فصعد به إلى السماء، فلقي ملك الموت، فقال: إن لي إليك حاجة . قال: أعلم ما حاجتك، تكلمني في إدريس، وقد محي اسمه من الصحيفة، ولم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين ؟ فمات إدريس بين جناحي الملك، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال أبو صالح عن ابن عباس: فقبض ملك الموت روح إدريس في السماء السادسة .

والثالث: أن إدريس مشى يوما في الشمس فأصابه وهجها، فقال: اللهم خفف ثقلها عمن يحملها، يعني به: الملك الموكل بالشمس، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف، فسأل الله عز وجل عن ذلك، فقال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته . فقال: يا رب اجمع بيني وبينه واجعل بيننا خلة، فأذن له، [ فأتاه ]، فكان مما قال له إدريس: اشفع لي إلى ملك الموت ليؤخر أجلي، فقال: إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، ولكن أكلمه فيك، فما كان مستطيعا أن يفعل بأحد من بني آدم فعل بك، ثم حمله الملك على جناحه فرفعه إلى السماء، فوضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال: إن لي إليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله، قال: ليس ذاك إلي، ولكن إن أحببت أعلمته متى يموت، فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا، ولا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، فقال: إني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلا ميتا، فوالله ما بقي من أجله شيء، فرجع الملك فرآه ميتا . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وكعب في آخرين، فهذا القول والذي قبله يدلان على أنه ميت، والقول الأول يدل على أنه حي . [ ص: 244 ]
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا وما نتنـزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا .

قوله تعالى: " أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين " يعني: الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة، " من ذرية آدم " يعني: إدريس، " وممن حملنا مع نوح " يعني: إبراهيم ; لأنه من ولد سام بن نوح، " ومن ذرية إبراهيم " يريد: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، " وإسرائيل " يعني: ومن ذرية إسرائيل، وهم موسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى .

قوله تعالى: " وممن هدينا " ; أي: هؤلاء كانوا ممن أرشدنا، " واجتبينا " ; أي: واصطفينا .

قوله تعالى : " خروا سجدا " قال الزجاج : " سجدا " حال مقدرة ، المعنى : خروا مقدرين السجود ; لأن الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا ، [ ص: 245 ] فـ " سجدا " منصوب على الحال ، وهو جمع ساجد ، " وبكيا " معطوف عليه ، وهو جمع باك ، فقد بين الله تعالى أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا من خشية الله .

قوله تعالى : " فخلف من بعدهم خلف " قد شرحناه في ( الأعراف : 169 ) . وفي المراد بهذا الخلف ثلاثة أقوال :

أحدها : أنهم اليهود ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني : اليهود والنصارى ، قاله السدي . والثالث : أنهم من هذه الأمة ، يأتون عند ذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يتبارون بالزنا ، ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زناة ، قاله مجاهد وقتادة .

قوله تعالى : " أضاعوا الصلاة " وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين العقيلي ، والحسن البصري : ( الصلوات ) على الجمع .

وفي المراد بإضاعتهم إياها قولان :

أحدهما : أنهم أخروها عن وقتها ، قاله ابن مسعود ، والنخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والقاسم بن مخيمرة .

والثاني : تركوها ، قاله القرظي ، واختاره الزجاج .

قوله تعالى : " واتبعوا الشهوات " قال أبو سليمان الدمشقي : وذلك مثل استماع الغناء ، وشرب الخمر ، والزنا ، واللهو ، وما شاكل ذلك مما يقطع عن أداء فرائض الله عز وجل .

قوله تعالى : " فسوف يلقون غيا " ليس معنى هذا اللقاء مجرد الرؤية ، وإنما المراد به الاجتماع والملابسة مع الرؤية . [ ص: 246 ]

وفي المراد بهذا الغي ستة أقوال :

أحدها : أنه واد في جهنم ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال كعب . والثاني : أنه نهر في جهنم ، قاله ابن مسعود . والثالث : أنه الخسران ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والرابع : أنه العذاب ، قاله مجاهد . والخامس : أنه الشر ، قاله ابن زيد وابن السائب . والسادس : أن المعنى : فسوف يلقون مجازاة الغي ، كقوله : يلق أثاما [ الفرقان : 68 ] ; أي : مجازاة الآثام ، قاله الزجاج .

قوله تعالى : " إلا من تاب وآمن " فيه قولان :

أحدهما : تاب من الشرك، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .

والثاني : تاب من التقصير في الصلاة ، وآمن من اليهود والنصارى .

قوله تعالى : " جنات عدن " وقرأ أبو رزين العقيلي ، والضحاك ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : ( جنات ) برفع التاء . وقرأ الحسن البصري ، والشعبي ، وابن السميفع : ( جنة عدن ) على التوحيد مع رفع التاء . وقرأ أبو مجلز وأبو المتوكل الناجي : ( جنة عدن ) على التوحيد مع نصب التاء . وقوله : " التي وعد الرحمن عباده بالغيب " ; أي : وعدهم بها ولم يروها ، فهي غائبة عنهم .

قوله تعالى : " إنه كان وعده مأتيا " فيه قولان :

أحدهما : آتيا ، قال ابن قتيبة : وهو ( مفعول ) في معنى ( فاعل ) ، وهو قليل أن يأتي الفاعل على لفظ المفعول به . وقال الفراء : إنما لم يقل : آتيا ; لأن [ ص: 247 ] كل ما أتاك فأنت تأتيه ، ألا ترى أنك تقول : أتيت على خمسين سنة ، وأتت علي خمسون [ سنة ] .

والثاني : مبلوغا إليه ، قاله ابن الأنباري . وقال ابن جريج : " وعده " هاهنا : موعوده ، وهو الجنة ، و " مأتيا " : يأتيه أولياؤه .

قوله تعالى : " لا يسمعون فيها لغوا " فيه قولان :

أحدهما : أنه التخالف عند شرب الخمر ، قاله مقاتل .

والثاني : ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري : اللغو في العربية : الفاسد المطرح .

قوله تعالى : " إلا سلاما " قال أبو عبيدة : السلام ليس من اللغو ، والعرب تستثني الشيء بعد الشيء وليس منه ، وذلك أنها تضمر فيه ، فالمعنى : إلا أنهم يسمعون فيها سلاما . وقال ابن الأنباري : استثنى السلام من غير جنسه ، وفي ذلك توكيد للمعنى المقصود ; لأنهم إذا لم يسمعوا من اللغو إلا السلام ، فليس يسمعون لغوا البتة ، وكذلك قوله : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [ الشعراء : 77 ] ، إذا لم يخرج من عداوتهم لي غير رب العالمين ، فكلهم عدو .

وفي معنى هذا السلام قولان :

أحدهما : أنه تسليم الملائكة عليهم ، قاله مقاتل .

والثاني : أنهم لا يسمعون إلا ما يسلمهم ، ولا يسمعون ما يؤثمهم ، قاله الزجاج .

قوله تعالى : " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " قال المفسرون : ليس في الجنة بكرة ولا عشية ، ولكنهم يؤتون برزقهم - على مقدار ما كانوا يعرفون - في الغداة والعشي . قال الحسن : كانت العرب لا تعرف شيئا من العيش أفضل من الغداء والعشاء ، فذكر الله لهم ذلك . وقال قتادة : كانت العرب إذا أصاب أحدهم [ ص: 248 ] الغداء والعشاء أعجب به ، فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيا على قدر ذلك الوقت ، وليس ثم ليل ولا نهار ، وإنما هو ضوء ونور . وروى الوليد بن مسلم ، قال : سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى : " بكرة وعشيا " ، فقال : ليس في الجنة ليل ولا نهار ، هم في نور أبدا ، ولهم مقدار الليل والنهار ، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب .

قوله تعالى : " تلك الجنة " الإشارة إلى قوله : " فأولئك يدخلون الجنة " .

قوله تعالى : " نورث " وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة ، وابن أبي عبلة بفتح الواو وتشديد الراء . قال المفسرون : ومعنى " نورث " : نعطي المساكن التي كانت لأهل النار - لو آمنوا - للمؤمنين . ويجوز أن يكون معنى " نورث " : نعطي ، فيكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك مستأنف . وقد شرحنا هذا في ( الأعراف : 43 ) .

قوله تعالى : " وما نتنزل إلا بأمر ربك " وقرأ ابن السميفع وابن يعمر : ( وما يتنزل ) بياء مفتوحة .

وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال :

أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا " ، فنزلت هذه الآية ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . [ ص: 249 ]

والثاني : أن الملك أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه ، فقال : لعلي أبطأت . قال : " قد فعلت " . قال : وما لي لا أفعل وأنتم لا تتسوكون ، ولا تقصون أظفاركم ، ولا تنقون براجمكم ، فنزلت الآية ، قاله مجاهد . قال ابن الأنباري : البراجم عند العرب : الفصوص التي في فصول ظهور الأصابع ، تبدو إذا جمعت ، وتغمض إذا بسطت . والرواجب : ما بين البراجم ، بين كل برجمتين راجبة .

والثالث : أن جبريل احتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله [ قومه ] عن قصة أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح ، فلم يدر ما يجيبهم ، ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ، فأبطأ عليه ، فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة ، فلما نزل جبريل ، قال له : " أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك " ، فقال جبريل : إني كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة ، وقتادة ، والضحاك .

وفي سبب احتباس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولان :

أحدهما : لامتناع أصحابه من كمال النظافة ، كما ذكرنا في حديث مجاهد .

والثاني : لأنهم سألوه عن قصة أصحاب الكهف ، فقال : " غدا أخبركم " ، ولم يقل : إن شاء الله ، وقد سبق هذا في سورة ( الكهف : 24 ) .

وفي مقدار احتباسه عنه خمسة أقوال :

أحدها : خمسة عشر يوما ، وقد ذكرناه في ( الكهف ) عن ابن عباس . والثاني : أربعون يوما ، قاله عكرمة ومقاتل . والثالث : اثنتا عشرة ليلة ، قاله مجاهد . والرابع : ثلاثة أيام ، حكاه مقاتل . والخامس : خمسة وعشرون يوما ، [ ص: 250 ] حكاه الثعلبي . وقيل : إن سورة ( الضحى ) نزلت في هذا السبب . والمفسرون على أن قوله : " وما نتنزل إلا بأمر ربك " قول جبريل . وحكى الماوردي أنه قول أهل الجنة إذا دخلوها ، فالمعنى : ما ننزل هذه الجنان إلا بأمر الله . وقيل : ما ننزل موضعا من الجنة إلا بأمر الله .

وفي قوله : " ما بين أيدينا وما خلفنا " قولان :

أحدهما : ما بين أيدينا : الآخرة ، وما خلفنا : الدنيا ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، ومقاتل .

والثاني : ما بين أيدينا : ما مضى من الدنيا ، وما خلفنا : من الآخرة ، فهو عكس الأول ، قاله مجاهد . وقال الأخفش : ما بين أيدينا : قبل أن نخلق ، وما خلفنا : بعد الفناء .

وفي قوله تعالى : " وما بين ذلك " ثلاثة أقوال :

أحدها : ما بين الدنيا والآخرة ، قاله سعيد بن جبير .

والثاني : ما بين النفختين ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، وأبو العالية .

والثالث : حين كوننا ، قاله الأخفش . قال ابن الأنباري : وإنما وحد ذلك ، والإشارة إلى شيئين : أحدهما : " ما بين أيدينا " ، والثاني : " ما خلفنا " ; لأن العرب توقع ذلك على الاثنين والجمع .

قوله تعالى : " وما كان ربك نسيا " النسي بمعنى الناسي .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #375  
قديم 13-11-2022, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ مَرْيَمَ
الحلقة (375)
صــ 251 إلى صــ 258



وفي معنى الكلام قولان :

أحدهما : ما كان تاركا لك منذ أبطأ الوحي عنك ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : ما نسيك عند انقطاع الوحي عنك . [ ص: 251 ]

والثاني : أنه عالم بما كان ويكون ، لا ينسى شيئا ، قاله الزجاج .

قوله تعالى : " فاعبده " ; أي : وحده ; لأن عبادته بالشرك ليست عبادة ، " واصطبر لعبادته " ; أي : اصبر على توحيده ، وقيل : على أمره ونهيه .

قوله تعالى : " هل تعلم له سميا " روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يدغم ( هل تعلم ) ، ووجهه أن سيبويه يجيز إدغام اللام في التاء ، والثاء ، والدال ، والزاي ، والسين ، والصاد ، والطاء ; لأن آخر مخرج من اللام قريب من مخارجهن . قال أبو عبيدة : إذا كان بعد ( هل ) تاء ففيه لغتان ، بعضهم يبين لام ( هل ) وبعضهم يدغمها .

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال :

أحدها : مثلا وشبها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة .

والثاني : هل تعلم أحدا يسمى ( الله ) غيره ، رواه عطاء عن ابن عباس .

والثالث : هل تعلم أحدا يستحق أن يقال له : خالق وقادر ، إلا هو ، قاله الزجاج .
ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .

قوله تعالى : " ويقول الإنسان " سبب نزولها أن أبي بن خلف أخذ عظما [ ص: 252 ] باليا ، فجعل يفته بيده ويذريه في الريح ، ويقول : زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وروى عطاء عن ابن عباس : أنه الوليد بن المغيرة .

قوله تعالى : " لسوف أخرج حيا " إن قيل : ظاهره ظاهر سؤال ، فأين جوابه ؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري :

أحدها : أن ظاهر الكلام استفهام ، ومعناه معنى جحد وإنكار ، تلخيصه : لست مبعوثا بعد الموت .

والثاني : أنه لما استفهم بهذا الكلام عن البعث ، أجابه الله عز وجل بقوله : " أولا يذكر الإنسان " ، فهو مشتمل على معنى : نعم ، وأنت مبعوث .

والثالث : أن جواب سؤال هذا الكافر في ( يس : 78 ) عند قوله تعالى : وضرب لنا مثلا ، ولا ينكر بعد الجواب ; لأن القرآن كله بمنزلة الرسالة الواحدة ، والسورتان مكيتان .

قوله تعالى : " أولا يذكر الإنسان " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بفتح الذال مشددة الكاف . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر : ( يذكر ) ساكنة الذال خفيفة . وقرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل الناجي : ( أولا يتذكر الإنسان ) بياء وتاء . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن : ( يذكر ) بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف ، والمعنى : أولا يتذكر هذا الجاحد أول خلقه ، فيستدل بالابتداء على الإعادة . " فوربك لنحشرنهم " يعني : المكذبين بالبعث ، " والشياطين " ; أي : مع الشياطين ، وذلك أن كل كافر يحشر مع شيطانه في سلسلة ، " ثم لنحضرنهم [ ص: 253 ] حول جهنم " . قال مقاتل : أي : في جهنم ، وذلك أن حول الشيء يجوز أن يكون داخله ، تقول : جلس القوم حول البيت : إذا جلسوا داخله مطيفين به . وقيل : يجثون حولها قبل أن يدخلوها .

فأما قوله : " جثيا " فقال الزجاج : هو جمع جاث ، مثل : قاعد وقعود ، وهو منصوب على الحال ، والأصل ضم الجيم ، وجاء كسرها إتباعا لكسرة الثاء .

وللمفسرين في معناه خمسة أقوال :

أحدها : قعودا ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثاني : جماعات جماعات ، روي عن ابن عباس أيضا . فعلى هذا هو جمع جثوة ، وهي المجموع من التراب والحجارة . والثالث : جثيا على الركب ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والزجاج . والرابع : قياما ، قاله أبو مالك . والخامس : قياما على ركبهم ، قاله السدي ، وذلك لضيق المكان بهم .

قوله تعالى : " لننزعن من كل شيعة " ; أي : لنأخذن من كل فرقة ، وأمة ، وأهل دين ، " أيهم أشد على الرحمن عتيا " ; أي : أعظمهم له معصية ، والمعنى : أنه يبدأ بتعذيب الأعتى فالأعتى ، وبالأكابر جرما ، والرؤوس القادة في الشر . قال الزجاج : وفي رفع " أيهم " ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه على الاستئناف ، ولم تعمل " لننزعن " شيئا ، هذا قول يونس .

والثاني : أنه على معنى الذي يقال لهم : أيهم أشد على الرحمن عتيا ؟ قاله الخليل ، واختاره الزجاج . وقال : التأويل : لننزعن الذي من أجل عتوه ، يقال : أي هؤلاء أشد عتيا ؟ وأنشد [ ص: 254 ]


ولقد أبيت عن الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم


المعنى : أبيت بمنزلة الذي يقال له : لا هو حرج ولا محروم .

والثالث : أن " أيهم " مبنية على الضم ; لأنها خالفت أخواتها ، فالمعنى : أيهم هو أفضل . وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول : اضرب أيهم أفضل ، ولا يحسن : اضرب من أفضل ، حتى تقول : من هو أفضل ، ولا يحسن : كل ما أطيب ، حتى تقول : ما هو أطيب ، ولا خذ ما أفضل ، حتى تقول : الذي هو أفضل ; فلما خالفت ( ما ) ، و( من ) ، و( الذي ) بنيت على الضم ، قاله سيبويه .

قوله تعالى : " هم أولى بها صليا " يعني : أن الأولى بها صليا الذين هم أشد عتيا ، فيبتدأ بهم قبل أتباعهم . و " صليا " منصوب على التفسير ، يقال : صلي النار يصلاها : إذا دخلها وقاسى حرها .

قوله تعالى : " وإن منكم إلا واردها " في الكلام إضمار ، تقديره : وما منكم أحد إلا وهو واردها .

وفيمن عني بهذا الخطاب قولان :

أحدهما : أنه عام في حق المؤمن والكافر ، هذا قول الأكثرين . وروي عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية للكفار ، وأكثر الروايات عنه كالقول الأول . قال ابن الأنباري : ووجه هذا أنه لما قال : " لنحضرنهم " ، وقال : " أيهم أشد [ ص: 255 ] على الرحمن عتيا " ، كان التقدير : وإن منهم ، فأبدلت الكاف من الهاء ، كما فعل في قوله : إن هذا كان لكم جزاء [ الإنسان : 22 ] ، المعنى : كان لهم ; لأنه مردود على قوله : وسقاهم ربهم [ الإنسان : 21 ] ، وقال الشاعر :


شطت مزار العاشقين فأصبحت عسرا علي طلابك ابنة مخرم


أراد : طلابها . وفي هذا الورود خمسة أقوال :

أحدها : أنه الدخول . روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الورود : الدخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار - أو قال : لجهنم - ضجيجا من بردهم " . وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن هذه الآية ، فقال له : أما أنا وأنت فسندخلها ، فانظر أيخرجنا الله عز وجل منها أم لا ؟ فاحتج بقوله تعالى : فأوردهم النار [ هود : 98 ] ، وبقوله تعالى : أنتم لها واردون [ الأنبياء : 98 ] . وكان عبد الله بن رواحة يبكي ويقول : أنبئت أني وارد ، ولم أنبأ أني صادر . وحكى الحسن البصري : أن رجلا قال لأخيه : يا أخي هل أتاك أنك وارد النار ؟ قال : نعم . قال : فهل أتاك أنك خارج منها . قال : لا . قال : ففيم الضحك ؟ وقال خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يعدنا ربنا أن نرد النار ؟ فيقال لهم : بلى ، ولكن مررتم بها وهي خامدة .

وممن ذهب إلى أنه الدخول : الحسن في رواية ، وأبو مالك . [ ص: 256 ] وقد اعترض على أرباب هذا القول بأشياء ، فقال الزجاج : العرب تقول : وردت بلد كذا ، ووردت ماء كذا : إذا أشرفوا عليه، وإن لم يدخلوا ، ومنه قوله تعالى: ولما ورد ماء مدين [ القصص : 33 ] ، والحجة القاطعة في هذا القول قوله تعالى: أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها [ الأنبياء : 101 ، 102 ] ، وقال زهير :


فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم


أي : لما بلغن الماء قمن عليه .

قلت : وقد أجاب بعضهم عن هذه الحجج ، فقال : أما الآية الأولى ، فإن موسى لما أقام حتى استقى الماء وسقى الغنم ، كان بلبثه ومباشرته كأنه دخل ، وأما الآية الأخرى فإنها تضمنت الأخبار عن أهل الجنة حين كونهم فيها ، وحينئذ لا يسمعون حسيسها . وقد روينا آنفا عن خالد بن معدان أنهم يمرون بها ولا يعلمون .

والثاني : أن الورود : الممر عليها ، قاله عبد الله بن مسعود وقتادة . وقال ابن مسعود : يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم ، فأولهم كلمح البرق ، ثم كالريح ، ثم كحضر الفرس ، [ ثم كالراكب في رحله ] ، ثم كشد الرحل ، ثم كمشيه .

والثالث : أن ورودها : حضورها ، قاله عبيد بن عمير .

والرابع : أن ورود المسلمين : المرور على الجسر ، وورود المشركين : دخولها ، قاله ابن زيد . [ ص: 257 ]

والخامس : أن ورود المؤمن إليها : ما يصيبه من الحمى في الدنيا ، روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال : الحمى حظ كل مؤمن من النار ، ثم قرأ : " وإن منكم إلا واردها " ; فعلى هذا من حم من المسلمين فقد وردها .

قوله تعالى : " كان على ربك " يعني : الورود ، " حتما " والحتم : إيجاب القضاء والقطع بالأمر . والمقضي : الذي قضاه الله تعالى ، والمعنى : أنه حتم ذلك وقضاه على الخلق .

قوله تعالى : " ثم ننجي الذين اتقوا " وقرأ ابن عباس ، وأبو مجلز ، وابن يعمر ، وابن أبي ليلى ، وعاصم الجحدري : ( ثم ) بفتح الثاء . وقرأ الكسائي ويعقوب : ( ننجي ) مخففة . وقرأت عائشة ، وأبو بحرية ، [ وأبو الجوزاء الربعي : ( ثم ينجي ) بياء مرفوعة قبل النون خفيفة الجيم مكسورة . وقرأ أبي بن كعب ] ، وأبو مجلز ، وابن السميفع ، وأبو رجاء : ( ننحي ) بحاء غير معجمة مشددة . وهذه الآية يحتج بها القائلون بدخول جميع الخلق ; لأن النجاة : تخليص الواقع في الشيء ، ويؤكده قوله تعالى: " ونذر الظالمين فيها " ، ولم يقل : وندخلهم ، وإنما يقال : نذر ونترك لمن قد حصل في مكانه . ومن قال : إن الورود للكفار خاصة ، قال : معنى هذا الكلام : نخرج المتقين من جملة من يدخل النار . والمراد بالمتقين : الذين اتقوا الشرك ، وبالظالمين : الكفار . وقد سبق معنى قوله تعالى : جثيا [ مريم : 68 ] .
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا .

قوله تعالى : " وإذا تتلى عليهم " يعني : المشركين ، " آياتنا " يعني : القرآن . [ ص: 258 ] " قال الذين كفروا " يعني : مشركي قريش ، " للذين آمنوا " ; أي : لفقراء المؤمنين ، " أي الفريقين خير مقاما " قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، وحفص عن عاصم : [ مقاما ] بفتح الميم . وقرأ ابن كثير بضم الميم . قال أبو علي الفارسي : المقام : اسم المثوى ، إن فتحت الميم أو ضمت .

قوله تعالى : " وأحسن نديا " والندي والنادي : مجلس القوم ومجتمعهم . وقال الفراء : الندي والنادي لغتان . ومعنى الكلام : أنحن خير أم أنتم ؟ فافتخروا عليهم بالمساكن والمجالس ، فأجابهم الله تعالى فقال : " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " ، وقد بينا معنى القرن في ( الأنعام : 6 ) ، وشرحنا الأثاث في ( النحل : 80 ) .

فأما قوله تعالى: " ورئيا " فقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : ( ورئيا ) بهمزة بين الراء والياء في وزن : ( رعيا ) . قال الزجاج : ومعناها : منظرا ، من ( رأيت ) .

وقرأ نافع وابن عامر : ( ريا ) بياء مشددة من غير همز . قال الزجاج : لها تفسيران : أحدهما : أنها بمعنى الأولى . والثاني : أنها من الري ، فالمعنى : منظرهم مرتو من النعمة ، كأن النعيم بين فيهم .

وقرأ ابن عباس ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي سريج عن الكسائي : ( زيا ) بالزاي المعجمة مع تشديد الياء من غير همز . قال الزجاج : ومعناها : حسن هيئتهم .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #376  
قديم 13-11-2022, 11:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ مَرْيَمَ
الحلقة (376)
صــ 259 إلى صــ 266




قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا . [ ص: 259 ]

قوله تعالى : " قل من كان في الضلالة " ; أي : في الكفر والعمى عن التوحيد ، " فليمدد له الرحمن " قال الزجاج : وهذا لفظ أمر ومعناه الخبر ، والمعنى : أن الله تعالى جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها . قال ابن الأنباري : خاطب الله العرب بلسانها ، وهي تقصد التوكيد للخبر بذكر الأمر ، يقول أحدهم : إن زارنا عبد الله فلنكرمه ، يقصد التوكيد ، وينبه على أني ألزم نفسي إكرامه . ويجوز أن تكون اللام لام الدعاء على معنى : قل يا محمد : من كان في الضلالة ، فاللهم مد له في النعم مدا . قال المفسرون : ومعنى مد الله تعالى له : إمهاله في الغي . " حتى إذا رأوا " يعني : الذين مدهم في الضلالة ، وإنما أخبر عن الجماعة ; لأن لفظ " من " يصلح للجماعة . ثم ذكر ما يوعدون فقال : " إما العذاب " يعني : القتل والأسر ، " وإما الساعة " يعني : القيامة وما وعدوا فيها من الخلود في النار ، " فسيعلمون من هو شر مكانا " في الآخرة ، أهم أم المؤمنون ؟ لأن مكان هؤلاء الجنة ومكان هؤلاء النار ، ويعلمون بالنصر والقتل من " أضعف جندا " جندهم أم جند رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا رد عليهم في قولهم : " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " .

قوله تعالى : " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " فيه خمسة أقوال :

أحدها : ويزيد الله الذين اهتدوا بالتوحيد إيمانا . والثاني : يزيدهم بصيرة في دينهم . والثالث : يزيدهم بزيادة الوحي إيمانا ، فكلما نزلت سورة زاد إيمانهم . والرابع : يزيدهم إيمانا بالناسخ والمنسوخ . والخامس : يزيد الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ . قال الزجاج : المعنى : أن الله تعالى يجعل جزاءهم أن يزيدهم يقينا ، كما جعل جزاء الكافر أن يمده في ضلالته .

قوله تعالى : " والباقيات الصالحات " قد ذكرناها في سورة ( الكهف : 46 ) . [ ص: 260 ]

قوله تعالى : " وخير مردا " المرد هاهنا مصدر مثل الرد ، والمعنى : وخير ردا للثواب على عامليها ، فليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت .
أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .

قوله تعالى : " أفرأيت الذي كفر بآياتنا " في سبب نزولها قولان :

أحدهما : ما روى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث مسروق عن خباب [ بن الأرت ] ، قال : كنت رجلا قينا ; [ أي : حدادا ] ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه ، فقال : [ لا ] والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث . قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك ، فنزلت فيه هذه الآية إلى قوله تعالى : " فردا " .

والثاني : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة ، وهذا مروي عن الحسن ، والمفسرون على الأول .

قوله تعالى : " لأوتين مالا وولدا " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر بفتح الواو . وقرأ حمزة والكسائي بضم الواو . وقال الفراء : وهما لغتان ، كالعدم والعدم ، وليس يجمع ، وقيس تجعل الولد جمعا ، والولد بفتح الواو واحدا .

وأين زعم هذا الكافر أن يؤتى المال والولد ، فيه قولان : أحدهما : أنه أراد في الجنة على زعمكم . والثاني : في الدنيا . قال ابن الأنباري : وتقدير الآية : أرأيته مصيبا ؟ [ ص: 261 ]

قوله تعالى : " أطلع الغيب " قال ابن عباس في رواية : أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا ؟ وقال في رواية أخرى : أنظر في اللوح المحفوظ ؟

قوله تعالى : " أم اتخذ عند الرحمن عهدا " فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أم قال : لا إله إلا الله ، فأرحمه بها ؟ قاله ابن عباس . والثاني : أم قدم عملا صالحا فهو يرجوه ؟ قاله قتادة . والثالث : أم عهد إليه أنه يدخله الجنة ؟ قاله ابن السائب .

قوله تعالى : " كلا " ; أي : ليس الأمر على ما قال من أنه يؤتى المال والولد . ويجوز أن يكون معنى " كلا " : أي : إنه لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الله عهدا . " سنكتب ما يقول " ; أي : سنأمر الحفظة بإثبات قوله عليه لنجازيه به ، " ونمد له من العذاب مدا " ; أي : نجعل بعض العذاب على إثر بعض . وقرأ أبو العالية الرياحي ، وأبو رجاء العطاردي : ( سيكتب ) ، ( ويرثه ) بياء مفتوحة .

قوله تعالى : " ونرثه ما يقول " فيه قولان :

أحدهما : نرثه ما يقول إنه له في الجنة ، فنجعله لغيره من المسلمين ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفراء .

والثاني : نرث ما عنده من المال والولد ، بإهلاكنا إياه وإبطال ملكه ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال قتادة . قال الزجاج : المعنى : سنسلبه المال والولد ونجعله لغيره .

قوله تعالى : " ويأتينا فردا " ; أي : بلا مال ولا ولد .
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ألم تر أنا أرسلنا [ ص: 262 ] الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا .

قوله تعالى : " واتخذوا من دون الله آلهة " يعني : المشركين عابدي الأصنام ، " ليكونوا لهم عزا " قال الفراء : ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة .

قوله تعالى : " كلا " ; أي : ليس الأمر كما قدروا ، " سيكفرون " يعني : الأصنام بجحد عبادة المشركين ، كقوله تعالى : ما كانوا إيانا يعبدون [ القصص : 63 ] ; لأنها كانت جمادا لا تعقل العبادة ، " ويكونون " يعني : الأصنام ، " عليهم " يعني : المشركين ، " ضدا " ; أي : أعوانا عليهم في القيامة ، يكذبونهم ويلعنونهم .

قوله تعالى : " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين " قال الزجاج : في معنى هذا الإرسال وجهان .

أحدهما : خلينا بين الشياطين وبين الكافرين ، فلم نعصمهم من القبول منهم .

والثاني ، وهو المختار : سلطناهم عليهم ، وقيضناهم لهم بكفرهم . " تؤزهم أزا " ; أي : تزعجهم إزعاجا حتى يركبوا المعاصي . وقال الفراء : تزعجهم إلى المعاصي ، وتغريهم بها . قال ابن فارس : يقال : أزه على كذا : إذا أغراه به ، وأزت القدر : غلت .

قوله تعالى : " فلا تعجل عليهم " ; أي : لا تعجل بطلب عذابهم . وزعم بعضهم أن هذا منسوخ بآية السيف ، وليس بصحيح . " إنما نعد لهم عدا " في هذا المعدود ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أنفاسهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال طاووس ومقاتل . [ ص: 263 ]

والثاني : الأيام ، والليالي ، والشهور ، والسنون ، والساعات ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

والثالث : أنها أعمالهم ، قاله قطرب .
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا .

قوله تعالى : " يوم نحشر المتقين " قال بعضهم : هذا متعلق بقوله : " ويكونون عليهم ضدا ، يوم نحشر المتقين " . وقال بعضهم : تقديره : اذكر لهم يوم نحشر المتقين ، وهم الذين اتقوا الله بطاعته واجتناب معصيته . وقرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني : ( يوم يحشر ) بياء مفتوحة ورفع الشين ، ( ويسوق ) بياء مفتوحة ورفع السين . وقرأ أبي بن كعب ، والحسن البصري ، ومعاذ القارئ ، وأبو المتوكل الناجي : ( يوم يحشر ) بياء مرفوعة وفتح الشين ، ( المتقون ) رفعا ، ( ويساق ) بألف وياء مرفوعة ، ( المجرمون ) بالواو على الرفع . والوفد : جمع وافد ، مثل : ركب وراكب ، وصحب وصاحب . قال ابن عباس ، وعكرمة ، والفراء : الوفد : الركبان . قال ابن الأنباري : الركبان عند العرب : ركاب الإبل .

وفي زمان هذا الحشر قولان :

أحدهما : أنه من قبورهم إلى الرحمن ، قاله علي بن أبي طالب .

والثاني : أنه بعد الحساب ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

قوله تعالى : " ونسوق المجرمين " يعني : الكافرين ، " إلى جهنم وردا " قال [ ص: 264 ] ابن عباس ، وأبو هريرة ، والحسن : عطاشا . قال أبو عبيدة : الورد : مصدر الورود . وقال ابن قتيبة : الورد : جماعة يردون الماء ، يعني : أنهم عطاش ; لأنه لا يرد الماء إلا العطشان . وقال ابن الأنباري : معنى قوله : " وردا " : واردين .

قوله تعالى : " لا يملكون الشفاعة " ; أي : لا يشفعون ولا يشفع لهم .

قوله تعالى : " إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " قال الزجاج : جائز أن يكون " من " في موضع رفع على البدل من الواو والنون ، فيكون المعنى : لا يملك الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ، وجائز أن يكون في موضع نصب على استثناء ليس من الأول ، فالمعنى : لا يملك الشفاعة المجرمون ، ثم قال : " إلا " على معنى ( لكن ) ، " من اتخذ عند الرحمن عهدا " فإنه يملك الشفاعة . والعهد هاهنا : توحيد الله والإيمان به . وقال ابن الأنباري : تفسير العهد في اللغة : تقدمة أمر يعلم ويحفظ ، من قولك : عهدت فلانا في المكان ; أي : عرفته وشهدته .
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .

قوله تعالى : " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " يعني : اليهود والنصارى ، ومن زعم من المشركين أن الملائكة بنات الله ، " لقد جئتم شيئا إدا " ; أي : شيئا عظيما من الكفر . قال أبو عبيدة : الإد والنكر : الأمر المتناهي العظم .

قوله تعالى : " تكاد السماوات يتفطرن " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، [ ص: 265 ] وابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم : ( تكاد ) بالتاء . وقرأ نافع والكسائي : ( يكاد ) بالياء . وقرآ جميعا : ( يتفطرن ) بالياء والتاء مشددة الطاء ، وافقهما ابن كثير ، وحفص عن عاصم في ( يتفطرن ) . وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : ( ينفطرن ) بالنون . وقرأ حمزة وابن عامر في ( مريم ) مثل أبي عمرو ، وفي ( عسق : 5 ) مثل ابن كثير . ومعنى ( يتفطرن منه ) : يقاربن الانشقاق من قولكم . قال ابن قتيبة : وقوله تعالى : " هدا " ; أي : سقوطا .

قوله تعالى : " أن دعوا " قال الفراء : من أن دعوا ، ولأن دعوا . وقال أبو عبيدة : معناه : أن جعلوا ، وليس هو من دعاء الصوت ، وأنشد :


ألا رب من تدعو نصيحا وإن تغب تجده بغيب غير منتصح الصدر


قوله تعالى : " وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا " ; أي : ما يصلح له ولا يليق به اتخاذ الولد ; لأن الولد يقتضي مجانسة ، وكل متخذ ولدا يتخذه من جنسه ، والله تعالى منزه عن أن يجانس شيئا أو يجانسه ، فمحال في حقه اتخاذ الولد . " إن كل " ; أي : ما كل ، " من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن " يوم القيامة ، " عبدا " ذليلا خاضعا . والمعنى : أن عيسى وعزيرا والملائكة عبيد له . قال القاضي أبو يعلى : وفي هذا دلالة على أن الوالد إذا اشترى ولده ، لم يبق ملكه عليه ، وإنما يعتق بنفس الشراء ; لأن الله تعالى نفى البنوة لأجل العبودية ، فدل على أنه لا يجتمع بنوة ورق .

قوله تعالى : " لقد أحصاهم " ; أي : علم عددهم ، " وعدهم عدا " فلا يخفى [ ص: 266 ] عليه مبلغ جميعهم من كثرتهم ، " وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " بلا مال ولا نصير يمنعه .

فإن قيل : لأية علة وحد في " الرحمن " و " آتيه " ، وجمع في العائد في " أحصاهم ، وعدهم " .

فالجواب : أن لكل لفظ توحيدا وتأويل جمع ، فالتوحيد محمول على اللفظ ، والجمع مصروف إلى التأويل .
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #377  
قديم 13-11-2022, 11:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ طَه
الحلقة (377)
صــ 267 إلى صــ 274




قوله تعالى : " سيجعل لهم الرحمن ودا " قال ابن عباس : نزلت في علي عليه السلام ، وقال : معناه : يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين . قال قتادة : يجعل لهم ودا في قلوب المؤمنين . ومن هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا أحب الله عبدا قال : يا جبريل ; إني أحب فلانا فأحبوه ، فينادي جبريل في السماوات : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيلقى حبه على أهل الأرض فيحب " ، وذكر في البغض مثل ذلك . وقال هرم بن حيان : ما أقبل عبد بقلبه إلى [ ص: 267 ] الله عز وجل ، إلا أقبل الله عز وجل بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم .

قوله تعالى : " فإنما يسرناه بلسانك " يعني : القرآن . قال ابن قتيبة : أي : سهلناه وأنزلناه بلغتك . واللد جمع ألد ، وهو الخصم الجدل .

قوله تعالى : " وكم أهلكنا قبلهم " هذا تخويف لكفار مكة ، " هل تحس منهم من أحد " قال الزجاج : أي : هل ترى ، يقال : هل أحسست صاحبك ; أي : هل رأيته ؟ والركز : الصوت الخفي ، وقال ابن قتيبة : الصوت الذي لا يفهم ، وقال أبو صالح : حركة ، [ والله تعالى أعلم ] .
[ ص: 268 ]

سُورَةُ طَه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

طه مَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْـزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .

وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ ، وَفِي سَبَبِ نُزُولِ ( طَه ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيَهِ ، يَقُومُ عَلَى رِجْلٍ ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، قَالَهُ [ عَلِيٌّ ] عَلَيْهِ السَّلَامُ .

وَالثَّانِي : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ صَلَّى هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَّا لِيَشْقَى ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ . [ ص: 269 ]

وَالثَّالِثُ : أَنَّ أَبَا جَهْلٍ ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ ، وَالْمُطْعَمَ بْنَ عَدِيٍّ ، قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّكَ لَتَشْقَى بِتَرْكِ دِينِنَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .

وَفِي " طه " قِرَاءَاتٌ . قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ : ( طَه ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ : ( طَه ) بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ، وَهُوَ إِلَى الْفَتْحِ أَقْرَبُ ، كَذَلِكَ قَالَ خَلَفٌ عَنِ الْمُسَيِّبِيِّ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ ، وَرَوَى عَنْهُ عَبَّاسٌ مِثْلَ حَمْزَةَ . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ . وَقَرَأَ الْحَسَنُ : ( طَهْ ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ . وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَمُوَرِّقٌ : ( طِهْ ) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ .

وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّ مَعْنَاهَا : يَا رَجُلُ ، رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ بِأَيِّ لُغَةٍ هِيَ ، عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : أَحُدُهَا : بِالنَّبَطِيَّةِ ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ ، وَالضَّحَّاكُ . وَالثَّانِي : بِلِسَانِ عَكٍّ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : بِالسُّرْيَانِيَّةِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ فِي رِوَايَةٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ ، وَقَتَادَةُ . وَالرَّابِعُ : بِالْحَبَشِيَّةِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ فِي رِوَايَةٍ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَلُغَةُ قُرَيْشٍ وَافَقَتْ هَذِهِ اللُّغَةَ فِي الْمَعْنَى .

وَالثَّانِي : أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ . ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّاءَ مِنَ اللَّطِيفِ ، وَالْهَاءَ مِنَ الْهَادِي ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّاءَ افْتِتَاحُ اسْمِهِ ( طَاهِرٍ ) وَ( طَيِّبٍ ) ، [ ص: 270 ] وَالْهَاءَ افْتِتَاحُ اسْمِهِ ( هَادِي ) ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مِنْ غَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحُدُهَا : أَنَّ الطَّاءَ مِنْ طَابَةَ ، وَهِيَ مَدِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْهَاءُ مِنْ مَكَّةَ ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّاءَ طَرَبُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَالْهَاءَ هَوَانُ أَهْلِ النَّارِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ الطَّاءَ فِي حِسَابِ الْجُمَلِ تِسْعَةٌ وَالْهَاءَ خَمْسَةٌ ، فَتَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ . فَالْمَعْنَى : يَا أَيُّهَا الْبَدْرُ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ، حَكَى الْقَوْلَيْنِ الثَّعْلَبِيُّ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَى كَوْنِهِ اسْمًا فِي فَاتِحَةِ ( مَرْيَمَ ) . وَقَالَ الْقُرَظِيُّ : أَقْسَمَ اللَّهُ بِطَوْلِهِ وَهِدَايَتِهِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ .

وَالرَّابِعُ : أَنَّ مَعْنَاهُ : طَإِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ ، قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " لِتَشْقَى " : لِتَتْعَبَ وَتَبْلُغَ مِنَ الْجُهْدِ مَا قَدْ بَلَغَتَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ وَبَالَغَ ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ لِطُولِ الْقِيَامِ ، فَأُمِرَ بِالتَّخْفِيفِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " إِلا تَذْكِرَةً " قَالَ الْأَخْفَشُ : هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ : " لِتَشْقَى " ، مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً ; أَيْ : عِظَةً .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " تَنْزِيلا " قَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى : أَنْزَلْنَاهُ تَنْزِيلًا ، و " الْعُلا " جَمْعُ الْعُلْيَا ، تَقُولُ : سَمَاءٌ عُلْيَا وَسَمَاوَاتٌ عُلَى ، مِثْلَ : الْكُبْرَى وَالْكُبَرِ ، فَأَمَّا " الثَّرَى " فَهُوَ التُّرَابُ النَّدِيُّ ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ : أَرَادَ : الثَّرَى الَّذِي تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ " ; أَيْ : تَرْفَعْ صَوْتَكَ ، " فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ " وَالْمَعْنَى : لَا تُجْهِدْ نَفْسَكَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ السِّرَّ . [ ص: 271 ]

وَفِي الْمُرَادِ بِـ " السِّرَّ وَأَخْفَى " خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّ السِّرَّ : مَا أَسَرَّهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ ، وَأَخْفَى : مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَسَيَكُونُ ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ .

وَالثَّانِي : أَنَّ السِّرَّ : مَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسَكَ ، وَأَخْفَى : مَا لَمْ تَلْفِظْ بِهِ ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّ السِّرَّ : الْعَمَلُ الَّذِي يُسِرُّهُ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّاسِ ، وَأَخْفَى مِنْهُ : الْوَسْوَسَةُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .

وَالرَّابِعُ : أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ : يَعْلَمُ إِسْرَارَ عِبَادِهِ ، وَقَدْ أَخْفَى سِرَّهُ عَنْهُمْ فَلَا يُعْلَمُ ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ .

وَالْخَامِسُ : يَعْلَمُ مَا أَسَرَّهُ الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَمَا أَخَفَاهُ فِي نَفْسِهِ ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : " لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى " قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي ( الْأَعْرَافِ : 180 ) .
وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى .

قوله تعالى : " وهل أتاك حديث موسى " هذا استفهام تقرير ، ومعناه : قد أتاك . قال ابن الأنباري : وهذا معروف عند اللغويين أن تأتي " هل " [ ص: 272 ] معبرة عن ( قد ) ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أفصح العرب : " اللهم هل بلغت " ، يريد : قد بلغت .

قال وهب بن منبه : استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الرجوع إلى والدته ، فأذن له ، فخرج بأهله ، فولد له في الطريق في ليلة شاتية ، فقدح فلم يور الزناد ، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق ، وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في كتاب " الحدائق " ، فكرهنا إطالة التفسير بالقصص ; لأن غرضنا الاقتصار على التفسير ليسهل حفظه . قال المفسرون : رأى نورا ، ولكن أخبر بما كان في ظن موسى . " فقال لأهله " يعني : امرأته ، " امكثوا " ; أي : أقيموا مكانكم . وقرأ حمزة : ( لأهله امكثوا ) بضم الهاء هاهنا وفي ( القصص : 29 ) . " إني آنست نارا " قال الفراء : إني وجدت ، يقال : هل آنست أحدا ; أي : وجدت ؟ وقال ابن قتيبة : " آنست " بمعنى : أبصرت . فأما القبس ، فقال الزجاج : هو ما أخذته من النار في رأس عود ، أو في رأس فتيلة .

قوله تعالى : " أو أجد على النار هدى " قال الفراء : أراد : هاديا ، فذكره بلفظ المصدر . قال ابن الأنباري : يجوز أن تكون " على " هاهنا بمعنى ( عند ) ، [ ص: 273 ] وبمعنى ( مع ) ، وبمعنى الباء . وذكر أهل التفسير أنه كان قد ضل الطريق ، فعلم أن النار لا تخلو من موقد . وحكى الزجاج : أنه ضل عن الماء ، فرجا أن يجد من يهديه الطريق أو يدله على الماء .

قوله تعالى : " فلما أتاها " يعني : النار ، " نودي يا موسى إني أنا ربك " إنما كرر الكناية ; لتوكيد الدلالة ، وتحقيق المعرفة ، وإزالة الشبهة ، ومثله : إني أنا النذير المبين [ الحجر : 89 ] . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : ( أني ) بفتح الألف والياء . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( إني ) بكسر الألف ، إلا أن نافعا فتح الياء . قال الزجاج : من قرأ : ( أني أنا ) بالفتح ، فالمعنى : نودي [ بأني أنا ربك ، ومن قرأ بالكسر ، فالمعنى : نودي ] يا موسى ، فقال الله : إني أنا ربك .

قوله تعالى : " فاخلع نعليك " في سبب أمره بخلعهما قولان :

أحدهما : أنهما كانا من جلد حمار ميت ، رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعكرمة .

والثاني : أنهما كانا من جلد بقرة ذكيت ، ولكنه أمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة ، فتناله بركتها ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة .

قوله تعالى : " إنك بالواد المقدس " فيه قولان قد ذكرناهما في ( المائدة : 21 ) عند قوله : الأرض المقدسة . [ ص: 274 ]

قوله تعالى : " طوى " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : ( طوى وأنا ) غير مجراة . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( طوى ) مجراة ، وكلهم ضم الطاء . وقرأ الحسن وأبو حيوة : ( طوى ) بكسر الطاء مع التنوين . وقرأ علي بن نصر عن أبي عمرو : ( طوى ) بكسر الطاء من غير تنوين . قال الزجاج في " طوى " أربعة أوجه : ( طوى ) بضم أوله من غير تنوين وبتنوين ; فمن نونه فهو اسم للوادي ، وهو مذكر ، سمي بمذكر على فعل ، نحو : حطم وصرد ، ومن لم ينونه ترك صرفه من جهتين :

إحداهما : أن يكون معدولا عن طاو ، فيصير مثل ( عمر ) المعدول عن عامر ، فلا ينصرف كما لا ينصرف ( عمر ) .

والجهة الثانية : أن يكون اسما للبقعة ، كقوله : في البقعة المباركة [ القصص : 30 ] ، وإذا كسر ونون فهو مثل معى ، والمعنى : المقدس مرة بعد مرة ، كما قال عدي بن زيد :


أعاذل إن اللوم في غير كنهه علي طوى من غيك المتردد


أي : اللوم المكرر علي ، ومن لم ينون جعله اسما للبقعة .

[ وللمفسرين في معنى " طوى " ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه اسم الوادي ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #378  
قديم 13-11-2022, 11:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ طَه
الحلقة (378)
صــ 275 إلى صــ 282



والثاني : أن معنى " طوى " : طإ الوادي ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وعن مجاهد كالقولين . [ ص: 275 ]

والثالث : أنه قدس مرتين ، قاله الحسن وقتادة ] .

قوله تعالى : " وأنا اخترتك " ; أي : اصطفيتك . وقرأ حمزة والمفضل : ( وأنا ) بالنون المشددة ( اخترناك ) بألف . " فاستمع لما يوحى " ; أي : للذي يوحى . قال ابن الأنباري : الاستماع هاهنا محمول على الإنصات ، المعنى : فأنصت لوحيي ، والوحي هاهنا قوله : " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " ; أي : وحدني ، " وأقم الصلاة لذكري " فيه قولان :

أحدهما : أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة ، سواء كنت في وقتها أو لم تكن ، هذا قول الأكثرين . وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، لا كفارة لها غير ذلك ، وقرأ : " أقم الصلاة لذكري " .

والثاني : أقم الصلاة لتذكرني فيها ، قاله مجاهد . وقيل : إن الكلام مردود على قوله : " فاستمع " ، فيكون المعنى : فاستمع لما يوحى واستمع لذكري . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن السميفع : ( وأقم الصلاة للذكرى ) بلامين وتشديد الذال .

قوله تعالى : " أكاد أخفيها " أكثر القراء على ضم الألف .

ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال :

أحدها : أكاد أخفيها من نفسي ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد في آخرين . وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومحمد بن علي : ( أكاد أخفيها من نفسي ) . [ ص: 276 ] قال الفراء : المعنى : فكيف أظهركم عليها ؟ قال المبرد : وهذا على عادة العرب ، فإنهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمته حتى من نفسي ; أي : لم أطلع عليه أحدا .

والثاني : أن الكلام تم عند قوله : " أكاد " ، وبعده مضمر تقديره : أكاد آتي بها ، والابتداء : أخفيها ، قال ضابئ البرجمي :


هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله


أراد : كدت أفعل .

والثالث : أن معنى " أكاد " : أريد ، قال الشاعر :


كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى


معناه : أرادت وأردت ، ذكرهما ابن الأنباري .

فإن قيل : فما فائدة هذا الإخفاء الشديد ؟

فالجواب : أنه للتحذير والتخويف ، ومن لم يعلم متى يهجم عليه عدوه كان أشد حذرا . وقرأ سعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، وأبو رجاء العطاردي ، وحميد بن قيس : ( أخفيها ) بفتح الألف . قال الزجاج : ومعناه : أكاد أظهرها ، قال امرؤ القيس :


فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
[ ص: 277 ]

أي : إن تدفنوا الداء لا نظهره . قال : وهذه القراءة أبين في المعنى ; لأن معنى ( أكاد أظهرها ) : قد أخفيتها وكدت أظهرها . " لتجزى كل نفس بما تسعى " ; أي : بما تعمل . و " لتجزى " متعلق بقوله : " إن الساعة آتية " لتجزى ، ويجوز أن يكون على " أقم الصلاة لذكري " لتجزى .

قوله تعالى : " فلا يصدنك عنها " ; أي : عن الإيمان بها ، " من لا يؤمن بها " ; أي : من لا يؤمن بكونها ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لجميع أمته ، " واتبع هواه " ; أي : مراده ، وخالف أمر الله عز وجل ، " فتردى " ; أي : فتهلك ; قال الزجاج : يقال : ردي يردى : إذا هلك .
وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى .

قوله تعالى : " وما تلك بيمينك " قال الزجاج : " تلك " اسم مبهم يجري مجرى ( التي ) ، والمعنى : ما التي بيمينك .

قوله تعالى : " أتوكأ عليها " التوكؤ : التحامل على الشيء ، " وأهش بها " قال الفراء : أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي . قال الزجاج : واشتقاقه من أني أحيل الشيء إلى الهشاشة والإمكان . والمآرب : الحاجات ، واحدها : مأربة ، ومأربة . وروى قتيبة وورش : ( مآرب ) بإمالة الهمزة . [ ص: 278 ]

فإن قيل : ما الفائدة في سؤال الله تعالى له : " وما تلك بيمينك " وهو يعلم ؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أن لفظه لفظ الاستفهام ، ومجراه مجرى السؤال ، ليجيب المخاطب بالإقرار به ، فتثبت عليه الحجة باعترافه ، فلا يمكنه الجحد ، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعندك ماء : ما هذا ؟ فيقول : ماء ، فتضع عليه شيئا من الصبغ ، فإن قال : لم يزل هكذا ، قلت له : ألست قد اعترفت بأنه ماء ؟ فتثبت عليه الحجة ، هذا قول الزجاج . فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرر موسى أنها عصا ، لما أراد أن يريه من قدرته في انقلابها حية ، فوقع المعجز بها بعد التثبت في أمرها .

والثاني : أنه لما اطلع الله تعالى على ما في قلب موسى من الهيبة والإجلال حين التكليم ، أراد أن يؤانسه ويخفف عنه ثقل ما كان فيه من الخوف ، فأجرى هذا الكلام للاستئناس ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

فإن قيل : قد كان يكفي في الجواب أن يقول : " هي عصاي " ، فما الفائدة في قوله : " أتوكأ عليها " إلى آخر الكلام ، وإنما يشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنه أجاب بقوله : " هي عصاي " ، فقيل له : ما تصنع بها ؟ فذكر باقي الكلام جوابا عن سؤال ثان ، قاله ابن عباس ووهب .

والثاني : أنه إنما أظهر فوائدها وبين حاجته إليها ; خوفا [ من ] أن يأمره بإلقائها كالنعلين ، قاله سعيد بن جبير .

والثالث : أنه بين منافعها ; لئلا يكون عابثا بحملها ، قاله الماوردي .

فإن قيل : فلم اقتصر على ذكر بعض منافعها ولم يطل الشرح ؟ فعنه [ ثلاثة ] أجوبة : [ ص: 279 ]

أحدها : أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها .

والثاني : استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد .

والثالث : أنه اقتصر على اللازم دون العارض .

وقيل : كانت تضيء له بالليل ، وتدفع عنه الهوام ، وتثمر له إذا اشتهى الثمار ، وفي جنسها قولان :

أحدهما : أنها كانت من آس الجنة ، قاله ابن عباس . والثاني : [ أنها ] كانت من عوسج .

فإن قيل : المآرب جمع ، فكيف قال : " أخرى " ، ولم يقل : ( أخر ) ؟

فالجواب : أن المآرب في معنى جماعة ، فكأنه قال : جماعة من الحاجات أخرى ، قاله الزجاج .

قوله تعالى : " قال ألقها يا موسى " قال المفسرون : ألقاها ظنا منه أنه قد أمر برفضها ، فسمع حسا فالتفت ، فإذا هي كأعظم ثعبان ، تمر بالصخرة العظيمة فتبتلعها ، فهرب منها .

وفي وجه الفائدة في إظهار هذه الآية ليلة المخاطبة قولان :

أحدهما : لئلا يخاف منها إذا ألقاها بين يدي فرعون .

والثاني : ليريه أن الذي أبعثك إليه دون ما أريتك ، فكما ذللت لك الأعظم وهو الحية ، أذلل لك الأدنى . [ ص: 280 ]

ثم إن الله تعالى أمره بأخذها وهي على حالها حية ، فوضع يده عليها فعادت عصا ، فذلك قوله : " سنعيدها سيرتها الأولى " ، قال الفراء : طريقتها ، يقول : نردها عصا كما كانت . قال الزجاج : و " سيرتها " منصوبة على إسقاط الخافض وإفضاء الفعل إليها ، المعنى : سنعيدها إلى سيرتها .

فإن قيل : إنما كانت العصا واحدة ، وكان إلقاؤها مرة ، فما وجه اختلاف الأخبار عنها ، فإنه يقول في ( الأعراف : 107 ) : فإذا هي ثعبان مبين ، وهاهنا : " حية " ، وفي مكان آخر : كأنها جان [ النمل : 10 ] ، والجان ليست بالعظيمة ، والثعبان أعظم الحيات ؟

فالجواب : أن صفتها بالجان عبارة عن ابتداء حالها ، وبالثعبان إخبار عن انتهاء حالها ، والحية اسم يقع على الصغير والكبير ، والذكر والأنثى . وقال الزجاج : خلقها خلق الثعبان العظيم ، واهتزازها ، وحركتها ، وخفتها ، كاهتزاز الجان وخفته .

قوله تعالى : " واضمم يدك إلى جناحك " قال الفراء : الجناح : من أسفل العضد إلى الإبط .

وقال أبو عبيدة : الجناح : ناحية الجنب ، وأنشد :


أضمه للصدر والجناح


قوله تعالى : " تخرج بيضاء من غير سوء " ; أي : من غير برص ، " آية أخرى " ; أي : دلالة على صدقك سوى العصا . قال الزجاج : ونصب " آية " على معنى : آتيناك آية ، أو نؤتيك [ آية ] .

قوله تعالى : " لنريك من آياتنا الكبرى " . [ ص: 281 ]

إن قيل : لم لم يقل : الكبر ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنه كقوله : " مآرب أخرى " وقد شرحناه ، هذا قول الفراء .

والثاني : أن فيه إضمارا تقديره : لنريك من آياتنا الآية الكبرى . وقال أبو عبيدة : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : لنريك الكبرى من آياتنا .

والثالث : إنما كان ذلك لوفاق رأس الآي ، حكى القولين الثعلبي .
اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا .

قوله تعالى : " إنه طغى " ; أي : جاوز الحد في العصيان .

قوله تعالى : " اشرح لي صدري " قال المفسرون : ضاق موسى صدرا بما كلف من مقاومة فرعون وجنوده ، فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق حتى لا يخاف فرعون وجنوده ، ومعنى قوله : " ويسر لي أمري " : سهل علي ما بعثتني له . " واحلل عقدة من لساني " قال ابن قتيبة : كانت فيه رتة . قال المفسرون : كان فرعون قد وضع موسى في حجره وهو صغير ، فجر لحية فرعون بيده ، فهم بقتله ، فقالت له آسية : إنه لا يعقل ، وسأريك بيان ذلك ، قدم إليه جمرتين ولؤلؤتين ، فإن اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل ، فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه ، فأحرقت لسانه وصار فيه عقدة ، فسأل حلها ليفهموا كلامه . [ ص: 282 ]

وأما الوزير ، فقال ابن قتيبة : أصل الوزارة من الوزر وهو الحمل ، كان الوزير قد حمل عن السلطان الثقل . وقال الزجاج : اشتقاقه من الوزر والوزر : الجبل الذي يعتصم به لينجى من الهلكة ، وكذلك وزير الخليفة ، معناه : الذي يعتمد عليه في أموره ويلتجئ إلى رأيه . ونصب " هارون " من جهتين : إحداهما : أن تكون " اجعل " تتعدى إلى مفعولين ، فيكون المعنى : اجعل هارون أخي وزيري ، فينتصب " وزيرا " على أنه مفعول ثان . ويجوز أن يكون " هارون " بدلا من قوله : " وزيرا " ، فيكون المعنى : اجعل لي وزيرا من أهلي ، [ ثم ] أبدل هارون من وزير ، والأول أجود . قال الماوردي : وإنما سأل الله تعالى أن يجعل له وزيرا ; لأنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى يكون شريكا في النبوة ، ولولا ذلك لجاز أن يستوزر من غير مسألة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح ياء ( أخي ) .

قوله تعالى : " اشدد به أزري " قال الفراء : هذا دعاء من موسى ، والمعنى : اشدد به يا رب أزري ، وأشركه يا رب في أمري . وقرأ ابن عامر : ( أشدد ) بالألف مقطوعة مفتوحة ، و( أشركه ) بضم الألف ، وكذلك يبتدئ بالألفين . قال أبو علي : هذه القراءة على الجواب والمجازاة ، والوجه الدعاء دون الإخبار ; لأن ما قبله دعاء ، ولأن الإشراك في النبوة لا يكون إلا من الله عز وجل . قال ابن قتيبة : والأزر : الظهر ، يقال : آزرت فلانا على الأمر ; أي : قويته عليه وكنت له فيه ظهرا .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #379  
قديم 13-11-2022, 11:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ طَه
الحلقة (379)
صــ 283 إلى صــ 290



قوله تعالى : " وأشركه في أمري " ; أي : في النبوة معي ، " كي نسبحك " ; أي : نصلي لك ، " ونذكرك " بألسنتنا حامدين لك على ما أوليتنا من نعمك ، " إنك كنت بنا بصيرا " ; أي : عالما ; إذ خصصتنا بهذه النعم . [ ص: 283 ]
قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري .

قوله تعالى : " قال قد أوتيت سؤلك " قال ابن قتيبة ; أي : طلبتك ، وهو ( فعل ) من ( سألت ) ; أي : أعطيت ما سألت .

قوله تعالى : " ولقد مننا عليك " ; أي : أنعمنا عليك ، " مرة أخرى " قبل هذه المرة . ثم بين متى كانت بقوله : " إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى " ; أي : ألهمناها ما يلهم مما كان سببا لنجاتك ، ثم فسر ذلك بقوله : " أن اقذفيه في التابوت " وقذف الشيء : الرمي به .

فإن قيل : ما فائدة قوله : " ما يوحى " وقد علم ذلك ؟ فقد ذكر عنه ابن الأنباري جوابين :

أحدهما : أن المعنى : أوحينا إليها الشيء الذي يجوز أن يوحى إليها ; إذ ليس كل الأمور يصلح وحيه إليها ; لأنها ليست بنبي ، وذلك أنها ألهمت .

والثاني : أن " ما يوحى " أفاد توكيدا ، كقوله : فغشاها ما غشى [ النجم : 54 ] [ ص: 284 ]

قوله تعالى : " فليلقه اليم " قال ابن الأنباري : ظاهر هذا الأمر ، ومعناه معنى الخبر ، تأويله : يلقيه [ اليم ] ، ويجوز أن يكون البحر مأمورا بآلة ركبها الله تعالى فيه ، فسمع وعقل ، كما فعل ذلك بالحجارة والأشجار . فأما الساحل : فهو شط البحر . " يأخذه عدو لي وعدو له " يعني : فرعون . قال المفسرون : اتخذت أمه تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا ، ووضعت فيه موسى وأحكمت بالقار شقوق التابوت ، ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية ، إذا بالتابوت ، فأمر الغلمان والجواري بأخذه ، فلما فتحوه رأوا صبيا من أصبح الناس وجها ، فلما رآه فرعون أحبه حبا شديدا ، فذلك قوله : " وألقيت عليك محبة مني " ، [ قال أبو عبيدة : ومعنى " ألقيت عليك " ; أي : جعلت لك محبة مني ] . قال ابن عباس : أحبه وحببه إلى خلقه ، فلا يلقاه أحد إلا أحبه من مؤمن وكافر . وقال قتادة : كانت في عينيه ملاحة ، فما رآه أحد إلا حبه .

قوله تعالى : " ولتصنع على عيني " وقرأ أبو جعفر : ( ولتصنع ) بسكون اللام والعين والإدغام . قال قتادة : لتغذى على محبتي وإرادتي . قال أبو عبيدة : على ما أريد وأحب . قال ابن الأنباري : هو من قول العرب : غذي فلان على عيني ; أي : على المحبة مني . وقال غيره : لتربى وتغذى بمرأى مني ، يقال : صنع الرجل جاريته : إذا رباها ، وصنع فرسه : إذا داوم على علفه ومراعاته ، والمعنى : ولتصنع على عيني ، قدرنا مشي أختك وقولها : " هل أدلكم على من يكفله " ; لأن هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله عز وجل . فأما أخته ، فقال مقاتل : اسمها مريم . قال الفراء : وإنما اقتصر على ذكر المشي ، [ ص: 285 ] ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل فرعون ، فدلتهم على الظئر ; لأن العرب تجتزئ بحذف كثير من الكلام وبقليله ، إذا كان المعنى معروفا ، ومثله قوله : أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون [ يوسف : 45 ] ، ولم يقل : فأرسل حتى دخل على يوسف .

قال المفسرون : سبب مشي أخته أن أمه قالت لها : قصيه ، فاتبعت موسى على أثر الماء ، فلما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة ، فقالت لهم أخته : " هل أدلكم على من يكفله " ; أي : يرضعه ويضمه إليه ، فقيل لها : ومن هي ؟ فقالت : أمي ، قالوا : وهل لها لبن ؟ قالت : لبن أخي هارون ، وكان هارون أسن من موسى بثلاث سنين فأرسلوها ، فجاءت بالأم فقبل ثديها ، فذلك قوله : " فرجعناك إلى أمك " ; أي : رددناك إليها ، " كي تقر عينها " بك وبرؤيتك . " وقتلت نفسا " يعني : القبطي الذي وكزه فقضى عليه ، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، " فنجيناك من الغم " وكان مغموما مخافة أن يقتل به ، فنجاه الله بأن هرب إلى مدين ، " وفتناك فتونا " فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : اختبرناك اختبارا ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .

والثاني : أخلصناك إخلاصا ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .

والثالث : ابتليناك ابتلاء ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة . وقال الفراء : ابتليناك بغم القتيل ابتلاء . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : الفتون : وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها ، أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر ، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل [ ص: 286 ] الدرة ، ثم قتله القبطي ، ثم خروجه إلى مدين خائفا ، وكان ابن عباس يقص هذه القصص على سعيد بن جبير ، ويقول له عند كل ثلاثة : وهذا من الفتون يابن جبير . فعلى هذا يكون " فتناك " : خلصناك من تلك المحن ، كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث . والفتون مصدر .

قوله تعالى : " فلبثت سنين " تقدير الكلام : فخرجت إلى أهل مدين . ومدين : بلد شعيب ، وكان على ثماني مراحل من مصر ، فهرب إليه موسى . وقيل : مدين : اسم رجل ، وقد سبق هذا [ الأعراف : 86 ] .

وفي قدر لبثه هناك قولان :

أحدهما : عشر سنين ، قاله ابن عباس ومقاتل .

والثاني : ثماني وعشرون سنة ، عشر منهن مهر امرأته ، وثماني عشرة أقام حتى ولد له ، قاله وهب .

قوله تعالى : " ثم جئت على قدر " ; أي : جئت لميقات قدرته لمجيئك قبل خلقك ، وكان ذلك على رأس أربعين سنة ، وهو الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء ، هذا قول الأكثرين . وقال الفراء : " على قدر " ; أي : على ما أراد الله به من تكليمه .

قوله تعالى : " واصطنعتك لنفسي " ; أي : اصطفيتك واختصصتك ، والاصطناع : اتخاذ الصنيعة ، وهو الخير تسديه إلى إنسان . وقال ابن عباس : اصطفيتك لرسالتي ووحيي ، " اذهب أنت وأخوك بآياتي " وفيها ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها العصا واليد ، وقد يذكر الاثنان بلفظ الجمع .

والثاني : العصا ، واليد ، وحل العقدة التي ما زال فرعون وقومه يعرفونها ، ذكرهما ابن الأنباري . [ ص: 287 ]

والثالث : الآيات التسع . والأول أصح .

قوله تعالى : " ولا تنيا " قال ابن قتيبة : لا تضعفا ولا تفترا ، يقال : وني يني في الأمر ، وفيه لغة أخرى : وني يونى .

وفي المراد بالذكر هاهنا قولان :

أحدهما : أنه الرسالة إلى فرعون . والثاني : أنه القيام بالفرائض والتسبيح والتهليل .
اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى .

قوله تعالى : " اذهبا إلى فرعون " فائدة تكرار الأمر بالذهاب التوكيد . وقد فسرنا قوله : إنه طغى [ طه : 24 ] .

قوله تعالى : " فقولا له قولا لينا " وقرأ أبو عمران الجوني وعاصم الجحدري : ( لينا ) بإسكان الياء ; أي : لطيفا رفيقا .

وللمفسرين فيه خمسة أقوال :

أحدها : قولا له : قل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، رواه خالد بن معدان عن معاذ ، والضحاك عن ابن عباس .

والثاني : أنه قوله : هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى [ النازعات : 18 ، 19 ] ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل . [ ص: 288 ]

والثالث : كنياه ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال السدي . فأما اسمه فقد ذكرناه في ( البقرة : 49 ) ، وفي كنيته أربعة أقوال : أحدها : أبو مرة ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني : أبو مصعب ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . والثالث : أبو العباس . والرابع : أبو الوليد ، حكاهما الثعلبي .

والقول الرابع : قولا له : إن لك ربا وإن لك معادا ، وإن بين يديك جنة ونارا ، قاله الحسن .

والخامس : أن القول اللين : أن موسى أتاه فقال له : تؤمن بما جئت به وتعبد رب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم ، وتكون ملكا لا ينزع منك حتى تموت ، فإذا مت دخلت الجنة ، فأعجبه ذلك ; فلما جاء هامان أخبره بما قال موسى ، فقال : قد كنت أرى أن لك رأيا ، أنت رب أردت أن تكون مربوبا ؟ فقلبه عن رأيه ، قاله السدي . وحكي عن يحيى بن معاذ أنه قرأ هذه الآية ، فقال : إلهي هذا رفقك بمن يقول : أنا إله ، فكيف رفقك بمن يقول : أنت إله .

قوله تعالى : " لعله يتذكر أو يخشى " قال الزجاج : " لعل " في اللغة : ترج وطمع ، تقول : لعلي أصير إلى خير ، فخاطب الله عز وجل العباد بما يعقلون . والمعنى عند سيبويه : اذهبا على رجائكما وطمعكما . والعلم من الله تعالى من وراء ما يكون ، وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشى ، إلا أن الحجة إنما تجب عليه بالآية والبرهان ، وإنما تبعث الرسل وهي لا تعلم الغيب ، ولا تدري أيقبل منها أم لا ، وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم ، ومعنى " لعل " متصور في أنفسهم ، وعلى تصور ذلك تقوم الحجة . قال ابن الأنباري : ومذهب الفراء في هذا : كي يتذكر . وروى خالد بن معدان عن معاذ ، قال : والله ما كان فرعون ليخرج من الدنيا حتى [ ص: 289 ] يتذكر أو يخشى لهذه الآية ، وإنه تذكر وخشي لما أدركه الغرق . وقال كعب : والذي يحلف به كعب ، إنه لمكتوب في التوراة : فقولا له قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن . قال المفسرون : كان هارون يومئذ غائبا بمصر ، فأوحى الله تعالى إلى هارون أن يتلقى موسى ، فتلقاه على مرحلة ، فقال له موسى : إن الله تعالى أمرني أن آتي فرعون ، فسألته أن يجعلك معي ; فعلى هذا يحتمل أن يكونا حين التقيا قالا : ربنا إننا نخاف . قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون القائل لذلك موسى وحده ، وأخبر الله عنه بالتثنية لما ضم إليه هارون ، فإن العرب قد توقع التثنية على الواحد ، فتقول : يا زيد قوما ، يا حرسي اضربا عنقه .

قوله تعالى : " أن يفرط علينا " وقرأ عبد الله بن عمرو ، وابن السميفع ، وابن يعمر ، وأبو العالية : ( أن يفرط ) برفع الياء وكسر الراء . وقرأ عكرمة وإبراهيم النخعي : ( أن يفرط ) بفتح الياء والراء . وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن محيصن : ( أن يفرط ) برفع الياء وفتح الراء . قال الزجاج : المعنى : أن يبادر بعقوبتنا ، يقال : قد فرط منه أمر ; أي : قد بدر ، وقد أفرط في الشيء : إذا اشتط فيه ، وفرط في الشيء : إذا قصر ، ومعناه كله : التقدم في الشيء ; لأن الفرط في اللغة : المتقدم ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " أنا فرطكم على الحوض " [ ص: 290 ]

قوله تعالى : " أو أن يطغى " فيه قولان :

أحدهما : يستعصي ، قاله مقاتل . والثاني : يجاوز الحد في الإساءة إلينا . قال ابن زيد : نخاف أن يعجل علينا قبل أن نبلغه كلامك وأمرك .

قوله تعالى : " إنني معكما " ; أي : بالنصرة والعون ، " أسمع " أقوالكم ، " وأرى " أفعالكم . قال الكلبي : أسمع جوابه لكما ، وأرى ما يفعل بكما .

قوله تعالى : " فأرسل معنا بني إسرائيل " ; أي : خل عنهم ، " ولا تعذبهم " وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة ، " قد جئناك بآية من ربك " قال ابن عباس : هي العصا . قال مقاتل : أظهر اليد في مقام والعصا في مقام .

قوله تعالى : " والسلام على من اتبع الهدى " قال مقاتل : على من آمن بالله . قال الزجاج : وليس يعني به التحية ، وإنما معناه : أن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله وسخطه ، والدليل على أنه ليس بسلام ، أنه ليس بابتداء لقاء وخطاب .

قوله تعالى : " على من كذب " ; أي : بما جئنا به وأعرض عنه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #380  
قديم 13-11-2022, 11:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,927
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ طَه
الحلقة (380)
صــ 291 إلى صــ 298

قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى [ ص: 291 ]

قوله تعالى : " قال فمن ربكما " في الكلام محذوف معناه معلوم ، وتقديره : فأتياه فأديا الرسالة . قال الزجاج : وإنما لم يقل : فأتياه ; لأن في الكلام دليلا على ذلك ; لأن قوله : " فمن ربكما " يدل على أنهما أتياه وقالا له .

قوله تعالى : " أعطى كل شيء خلقه " فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أعطى كل شيء صورته ، فخلق كل جنس من الحيوان على غير صورة جنسه ، فصورة ابن آدم لا كصورة البهائم ، وصورة البعير لا كصورة الفرس ، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير .

والثاني : أعطى كل ذكر زوجه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال السدي ، فيكون المعنى : أعطى كل حيوان ما يشاكله .

والثالث : أعطى كل شيء ما يصلحه ، قاله قتادة .

وفي قوله : " ثم هدى " ثلاثة أقوال :

أحدها : هدى كيف يأتي الذكر الأنثى ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير .

والثاني : هدى للمنكح والمطعم والمسكن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

والثالث : هدى كل شيء إلى معيشته ، قاله مجاهد . وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، والأعمش ، وابن السميفع ، ونصير عن الكسائي : ( أعطى كل شيء خلقه ) بفتح اللام .

فإن قيل : ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا ؟

فالجواب : أنه قد ثبت وجود خلق وهداية ، فلا بد من خالق وهاد .

قوله تعالى : " قال فما بال القرون الأولى " اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال : [ ص: 292 ]

أحدها : أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها ، ولم يكن له بذلك علم ; إذ التوراة إنما نزلت عليه بعد هلاكفرعون ، فقال : " علمها عند ربي " ، هذا مذهب مقاتل . وقال غيره : أراد : إني رسول ، وأخبار الأمم علم غيب ، فلا علم لي بالغيب .

والثاني : أن مراده من السؤال عنها : لم عبدت الأصنام ، ولم لم يعبد الله إن كان الحق ما وصفت ؟

والثالث : أن مراده : ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تجازى ؟ فقال : علمها عند الله ; أي : علم أعمالها . وقيل : الهاء في " علمها " كناية عن القيامة ; لأنه سأله عن بعث الأمم ، فأجابه بذلك .

وقوله : " في كتاب " أراد : اللوح المحفوظ .

قوله تعالى : " لا يضل ربي ولا ينسى " وقرأ عبد الله بن عمرو ، وعاصم الجحدري ، وقتادة ، وابن محيصن : ( لا يضل ) بضم الياء وكسر الضاد ; أي : لا يضيعه . وقرأ أبو المتوكل وابن السميفع : ( لا يضل ) بضم الياء وفتح الضاد . وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال ، والمعنى : لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم . وقيل : أراد : لم يجعل ذلك في كتاب ; لأنه يضل وينسى .

قوله تعالى : " الذي جعل لكم الأرض مهدا " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : ( مهادا ) . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : ( مهدا ) بغير ألف . والمهاد : الفراش ، والمهد : الفرش . " وسلك لكم " ; أي : أدخل لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها ، " وأنزل من السماء ماء " يعني : المطر . [ ص: 293 ] وهذا آخر الإخبار عن موسى . ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله : " فأخرجنا به " يعني : بالماء ، " أزواجا من نبات شتى " ; أي : أصنافا مختلفة في الألوان والطعوم ، كل صنف منها زوج . و " شتى " لا واحد له من لفظه . " كلوا " ; أي : مما أخرجنا لكم من الثمار ، " وارعوا أنعامكم " يقال : رعى الماشية يرعاها : إذا سرحها في المرعى ، ومعنى هذا الأمر : التذكير بالنعم . " إن في ذلك لآيات " ; أي : لعبرا في اختلاف الألوان والطعوم ، " لأولي النهى " قال الفراء : لذوي العقول ، يقال للرجل : إنه لذو نهية : إذا كان ذا عقل . قال الزجاج : واحد النهى : نهية ، يقال : فلان ذو نهية ; أي : ذو عقل ينتهي به عن المقابح ، ويدخل به في المحاسن ; قال : وقال بعض أهل اللغة : ذو النهية : الذي ينتهى إلى رأيه وعقله ، وهذا حسن أيضا .

قوله تعالى : " منها خلقناكم " يعني : الأرض المذكورة في قوله : " جعل لكم الأرض مهدا " . والإشارة بقوله : " خلقناكم " إلى آدم والبشر كلهم منه . " وفيها نعيدكم " بعد الموت ، " ومنها نخرجكم تارة " ; أي : مرة أخرى بعد البعث ، يعني : كما أخرجناكم منها أولا عند خلق آدم من الأرض .

ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان [ ص: 294 ] لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى .

قوله تعالى : " ولقد أريناه " يعني : فرعون ، " آياتنا كلها " يعني : التسع الآيات ، ولم ير كل آية لله لأنها لا تحصى ، " فكذب " ; أي : نسب الآيات إلى الكذب وقال : هذا سحر ، " وأبى " أن يؤمن ، " قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا " يعني : مصر ، " بسحرك " ; أي : تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها ، " فلنأتينك بسحر مثله " ; أي : فلنقابلن ما جئت به من السحر بمثله ، " فاجعل بيننا وبينك موعدا " ; أي : اضرب بيننا وبينك أجلا وميقاتا ، " لا نخلفه " ; أي : لا نجاوزه ، " نحن ولا أنت مكانا " وقيل : المعنى : اجعل بيننا وبينك موعدا مكانا نتواعد لحضورنا ذلك المكان ، ولا يقع منا خلاف في حضوره . " سوى " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي بكسر السين . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وخلف ، ويعقوب : ( سوى ) بضمها . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو المتوكل ، وابن أبي عبلة : ( مكانا سواء ) بالمد والهمز والنصب والتنوين وفتح السين . وقرأ ابن مسعود مثله ، إلا أنه كسر السين . قال أبو عبيدة : هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين ، والمعنى : مكانا تستوي مسافته على الفريقين ، فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر . " قال موعدكم يوم الزينة " قرأ الجمهور برفع الميم . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، [ وقتادة ] ، وابن أبي عبلة ، وهبيرة عن حفص بنصب الميم . وفي هذا اليوم أربعة أقوال :

أحدها : يوم عيد لهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، والسدي عن أشياخه ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد . [ ص: 295 ]

والثاني : يوم عاشوراء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

والثالث : يوم النيروز ، ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والرابع : يوم سوق لهم ، قاله سعيد بن جبير .

وأما رفع اليوم ، فقال البصريون : التقدير : وقت موعدكم يوم الزينة ، فناب الموعد عن الوقت ، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إذا ظهر . فأما نصبه ، فقال الزجاج : المعنى : موعدكم يقع يوم الزينة . " وأن يحشر الناس " موضع " أن " رفع ، المعنى : موعدكم حشر الناس ، " ضحى " ; أي : إذا رأيتم الناس قد حشروا ضحى . ويجوز أن تكون " أن " في موضع خفض عطفا على الزينة ، المعنى : موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحى . وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : ( وأن تحشر ) بتاء مفتوحة ورفع الشين ونصب ( الناس ) . وعن ابن مسعود والنخعي : ( وأن يحشر ) بالياء المفتوحة ورفع الشين ونصب ( الناس ) .

قال المفسرون : أراد بالناس : أهل مصر ، وبالضحى : ضحى اليوم ، وإنما علقه بالضحى ليتكامل ضوء الشمس واجتماع الناس ، فيكون أبلغ في الحجة وأبعد من الريبة .

" فتولى فرعون " فيه قولان :

أحدهما : أن المعنى : تولى عن الحق الذي أمر به .

والثاني : أنه انصرف إلى منزله لاستعداد ما يلقى به موسى . " فجمع كيده " ; أي : مكره وحيلته ، " ثم أتى " ; أي : حضر الموعد . " قال لهم موسى " ; أي : للسحرة . وقد ذكرنا عددهم في ( الأعراف : 114 ) . [ ص: 296 ]

قوله تعالى : " ويلكم " قال الزجاج : هو منصوب على ( ألزمكم الله ويلا ) ، ويجوز أن يكون على النداء ، كقوله تعالى : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا [ يس : 52 ] .

قوله تعالى : " لا تفتروا على الله كذبا " قال ابن عباس : لا تشركوا معه أحدا .

قوله تعالى : " فيسحتكم " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : ( فيسحتكم ) بفتح الياء من ( سحت ) . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : ( فيسحتكم ) بضم الياء من ( أسحت ) . قال الفراء : ويسحت أكثر ، وهو الاستئصال ، والعرب تقول : سحته الله ، وأسحته ، قال الفرزدق :


وعض زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف


هكذا أنشد البيت الفراء والزجاج . ورواه أبو عبيدة : ( إلا مسحت أو مجلف ) بالرفع . [ ص: 297 ]

قوله تعالى : " فتنازعوا أمرهم بينهم " يعني : السحرة تناظروا فيما بينهم في أمر موسى وتشاوروا ، " وأسروا النجوى " ; أي : أخفوا كلامهم من فرعون وقومه . وقيل : من موسى وهارون . وقيل : " أسروا " هاهنا بمعنى : أظهروا .

وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال :

أحدها : أنهم قالوا : إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه ، وإن يكن من السماء كما زعمتم فله أمره ، قاله قتادة .

والثاني : أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا : ما هذا بقول ساحر ، ولكن هذا كلام الرب الأعلى ، فعرفوا الحق ، ثم نظروا إلى فرعون وسلطانه ، وإلى موسى وعصاه ، فنكسوا على رؤوسهم وقالوا : إن هذان لساحران ، قاله الضحاك ومقاتل .

والثالث : أنهم قالوا : " إن هذان لساحران . . . " الآيات ، قاله السدي .

واختلف القراء في قوله تعالى : " إن هذان لساحران " ، فقرأ أبو عمرو بن العلاء : ( إن هذين ) على إعمال ( إن ) ، وقال : إني لأستحيي من الله أن أقرأ ( إن هذان ) . وقرأ ابن كثير : ( إن ) خفيفة ( هذان ) بتشديد النون . وقرأ عاصم في رواية حفص : ( إن ) خفيفة ( هذان ) خفيفة أيضا . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( إن ) بالتشديد ( هاذان ) بألف ونون خفيفة . فأما قراءة أبي عمرو فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روي عن عثمان وعائشة ، أن هذا من غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى : والمقيمين الصلاة في سورة [ النساء : 162 ] . وأما قراءة عاصم فمعناها : ما هذان إلا ساحران ، [ ص: 298 ] كقوله تعالى : وإن نظنك لمن الكاذبين [ الشعراء : 186 ] ; أي : ما نظنك إلا من الكاذبين ، وأنشدوا في ذلك :


ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليه عقوبة المتعمد


أي : ما قتلت إلا مسلما . قال الزجاج : ويشهد لهذه القراءة ما روي عن أبي بن كعب ، أنه قرأ : ( ما هذان إلا ساحران ) ، وروي عنه : ( إن هذان إلا ساحران ) ، ورويت عن الخليل : ( إن هذان ) بالتخفيف ، والإجماع على أنه لم يكن أحد أعلم بالنحو من الخليل . فأما قراءة الأكثرين بتشديد ( إن ) وإثبات الألف في قوله : ( هذان ) ، فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال : هي لغة بلحارث بن كعب . وقال ابن الأنباري : هي لغة لبني الحارث بن كعب وافقتها لغة قريش . قال الزجاج : وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب ، وهو رأس من رؤوس الرواة : أنها لغة لكنانة ، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد ، يقولون : أتاني الزيدان ، ورأيت الزيدان ، ومررت بالزيدان ، وأنشدوا :


فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى مساغا لناباه الشجاع لصمما




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 412.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 406.15 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]