التشبيه المستطرف: رؤية نقدية - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 850058 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386243 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 56 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 31-08-2020, 05:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي التشبيه المستطرف: رؤية نقدية

التشبيه المستطرف: رؤية نقدية (1/2)
عيد شبايك

الاستطراف لغة:
تقول: شيء طريف: طيب غريب يكونُ في الثَّمَرِ وغَيرِه، وطَرُفَ الشَّيءُ: صارَ طَريِفًا؛ عن ابن الأعرابي قال: قال خالد بن صفوان: "خير الكلام ما طرُفت معانيه، وشرُفتْ مبانيه، والتذَّته آذان سامعيه".
وأطرف فلان: إذا جاء بطُرفة، واستطرف الشيء؛ أي: عدَّه طريفًا، استطرفت الشيء: استحدثته[1]، وهذه طُرفة من الطرف: المستحدث المعجب[2].
الاستطراف في الاصطلاح:
إنشاء مشبه يعد طرفة لجدته وغرابته بغية التلذذ به؛ لأن لكل جديد مستحدث لذة في الأعم الأغلب[3]، أو كما يقال: كل جديد مستحب.
ويصح أن يكون بالظاء من الظَّرْف؛ بمعنـى: البراعة وذكاء القلب[4]، وحسن المنطق، وطلاقة اللسان، ولا مانع من إرادة ذلك المعنـى؛ لأن من معاني الظرف: حسن الوجه والهيئة[5]، فيكون استظراف المشبه؛ أي: جعله مستحسنًا جميلاً"؛ لكونه أظهر في وصْف أمر غريب مستحدث"[6] يدل علـى براعة مُوجِده وشاعريته.
إذًا؛ فالتشبيه المستطرف هو: التشبيه الذي يلفت الانتباه بغرابته وندرة مكونات المشبه به أو نفاستها.
وينبع استطرافه مِن إبراز المشبه المعلوم في صورة المشبه به المعدوم، أو جعْل المشبه به نادر الحضور في الوجود أو في الذهن[7].
ولذلك ذَهَبَ البلاغيون القدماء إلـى أن التشبيه إذا قام علـى عناصر متقاربة كل التقارب، كان تشبيهًا عاديًّا مبْتذلاً، فقد ذكر الفارابـي: "أن كثيرًا من الناس يجعلون محاكاة الشـيء بالأمر الأبعد أتم وأفضل من محاكاته بالأمر الأقرب، ويجعلون الصانع للأقاويل التي بهذه الحال أحق بالمحاكاة، وأدخل في الصناعة، وأجرى علـى مذهبها"[8].
ويرى عبدالقاهر أن الصنعة والحذق والنظر الذي يلطف ويدق في أن يجمع البليغ بين أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة، ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة، وما شرفت صنعة، ولا ذكر بالفضيلة عمل، إلا لأنهما يحتاجان من دقة الفكر، ولطف النظَر، ونفاذ الخاطر إلـى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ولا يقتضيان ذلك إلا مِن جِهَة إيجاد الائتلاف في المختلفات"[9].
وسائل أو طرق الاستطراف في التشبيه
أولاً:الغرابة:
ونعنـي بها: حسن الجمع بين المتباعدين، والتأليف بين المتضادين؛ بحيث "يؤول التنافر المعجمـي - بواسطة الخيال - إلـى تكامُل سياقـي"[10] يكون أقدر علـى إثارة التأمُّل لما فيه من الحذق واللطف والظرف، وتتجلَّـى هذه الغرابة فـي:
1-إبراز المشبه المعلوم في صورة المشبه به المعدوم:
كما في قول الشاعر:
رَأَيْتُ فَحْمًا سَرَى فِيهِ اللَّهِيبُ حَكَى *** بَحْرًا مِنَ المِسْكِ ذَا مَوْجٍ مِنَ الذَّهَبِ
حيث شبه الفحم الذي فيه جمر موقد ببحر من المسك مَوْجُه الذهب، فإنه من الصعب أن تتمثل في خيالك صورة بحر من المسك موجه الذهب حين تنظر إلـى فحم فيه جمر موقد، وإنما استطرف المشبه هنا؛ لإظهاره في صورة الممتنع، وذلك أن المشبه به وهو البحر من المسك الذائب، وأمواجه الذهب ممتنع عادةً، ونادر الحضور في الذهن، وندرة الحضور موجبة لغرابة ذلك النادر، وإذا شُبِّه غير النادر بالنادر المستطرف انتقلتْ صفة الندرة لذلك المشبه، وصار مبرزًا في صورته - أي: بصفته - فينجرُّ الاستطراف إليه.
إذًا؛ فالاستطراف هنا له جهتان: إبراز المشبه في صورة المُمتنع، وإظهاره في صورة نادر الحضور، ولا منافاة بين الجهتَيْن[11].
فالناس في واقع حياتهم الطويلة الممتدة لم يروا ولن يروا مثل هذا البحر العجيب الغريب، الذي لا يتحقق إلا في سبحات الخيال، وأضغاث الأحلام.
ومنه قول السري الرفاء يصف شمعة:
كَأَنَّهَا نَخْلَةٌ بِلاَ سَعَفٍ *** تَحْمِلُ أتْرُجَّةً مِنَ النَّارِ
فمثل هذه النخلة (المشبه به) بهذا الوصف الطريف الغريب لا تبرزه العادة يومًا ما، ولا هي حاضرة في الوجود.
ولما كان وجْهُ الشبَه في هذا التشْبيه هيئة اعتبرتْ في الممتنع عادة، لَم يقتضِ أن يكونَ الوجْه أظهر وأعرف[12]؛ لأن هذه الهيئة في المشبه أعرف، إذ هو بنفسه أظهر وأقرب إدراكًا من المشبه به، ولكن لما كان المشبه به أخفـى - ومعلوم أن يلزم من خفائه خفاء وصفه - كان التشبيه أشد استطرافًا علـى ما تقرَّر في جميع الغرائب، وليس وجْهُ الشبه هنا هو منشأ المنْع عادةً، بل منشأ المنع ذات المشبه به[13]؛ بسبب ندرة مكوناته، ونفاستها، أو عدم تحققها في واقع الناس.
2-أن يكون المشبه به نادر الحضور في الوجود أو في الذهن:
إما مُطلقًا لبُعْد تصوُّره؛ سواء أخْطَرْتَ المشبه ببالك أم لا - كما في الأمثلة السابقة - فإنه من الصعوبة بمكان أن تتمثل في خيالك صورة بحر من المسك موجه الذهب حين تنظر فحمًا فيه جمر موقد، فإذا أُحضرت هذه الصورة استُطرِفت استطراف النوادر عند مشاهدتها، واستلذت استلذاذ الفلتات لجدتها.
وإما أن تكون ندرة الحضور ليست في كلِّ الأحوال، بل عند حضور المشبه في إبان الحديث عنه، بأن يكون المشبه به مشاهدًا مُعتادًا، لكن مواطنه غير مواطن المشبه؛ لأن كلاًّ منهما من وادٍ غير وادي الآخر، فيبعد حضور أحدهما في الذهن عند حضور الآخر، لبُعد نسبته إليه، كما في قول الشاعر[14]:
وَلَازِوَرْدِيّ َةٍ تَزْهُو بِزُرْقَتِهَا *** بَيْنَ الرِّيَاضِ عَلَى حُمْرِ الْيَوَاقِيتِ
كَأَنَّهَا فَوْقَ قَامَاتٍ ضَعُفْنَ بِهَا *** أَوَائِلُ النَّارِ فِي أَطْرَافِ كِبْرِيتِ [15]
فهو يشبه صورة زهر البنفسج بلونها المائل إلـى الزرقة، وقد أحاطت بها باقة من الورود الحمراء، أقصر منها قامة، بصورة اللهب المشتعل في أوائل عود كبريت.
وهذا التشبيه - في رأي عبدالقاهر - بلغ حدًّا كبيرًا من الإغراب والإعجاب؛ لأن الشاعر جمع فيه بين متباعدين، وهما نبات غض يرف، ولهب نار في جسم مستولٍ عليه اليبس، وبادٍ فيه الكلف[16].
فهذان الطرفان متباعدان لا يفطن إلـى علاقاتهما إلا ذَكِـيٌّ يقِظ، يستطيع أن يستشرف العلاقات الخفية بين الأشياء ليبرزها للمتلقـي في نسق لُغوي أخَّاذ، يصنع صنيع السحر في النفوس، فالنفس تهفو إلـى كل ما هو غريب جديد.
هذا وما بين طرفي الصورة من عمق الفجوة الشعورية أمر لا يحتاج إلـى مزيد بيان، فكلاهما يستدعي إلـى النفس مشاعر متباينة بل متنافرة، مع ما يستدعيها الطرف الآخر، فزهرة البنفسج بنضرتها اليانعة توحي بمعاني الرقة والوداعة والجمال وطيب الرائحة، وهي معانٍ تنتشي بها النفس، وتحلق في عالم الأحلام، بينما لهب الكبريت يوحي بحرارة النار والاحتراق بها، مما يبعث في النفْس الخوف والفزع، وشتَّان ما بين هذه وتلك[17].
ومما يدل علـى دقة الوصف ولطف النظر، تقييده بـ"أوائل"؛ لأن النار متـى طال مقامها في الكبريت وتمكنت منه واشتعلت، احمرَّتْ وصفت، وزال ما فيها من الزرقة، ولهذا قيد أيضًا بقوله "في أطراف"، ولم يقُل: في كبريت؛ لأن أوائل النار الواقعة في أواسط الكبريت لا في أطرافه لا زرقة فيها[18].
ولا يخفـى أن صورة اتِّصال النار بأطراف الكبريت لا يندر حضورها في الذهن ندرة صورة بحر من المسك موجه الذهب - كما أشرنا سابقًا - لكن يندر حضورها عند حضور صورة البنفسج[19]، فإذا أحضر المشبه به مع صحَّة التشبيه، استطرف لمشاهدة عناق بين صورتين متباعدتين كل التباعُد.
وقد ذهب عبدالقاهر مذهبًا طريفًا في بيان سر الاستطراف في بيتي "البنفسج والكبريت"، فبناه علـى القاعدة النفسية: "ظهور الشيء من معدنه لا يستغرب".
وقد ظهر الشيء هنا من غير معدنه فعُدّ غريبًا، "ولذلك نجد في تشبيه البنفسج في قوله: "وَلاَزوردية" أغرب وأعجب وأحق بالولوع، وأجدر من تشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق[20]؛ لأنه أراك شبهًا لنبات غض يرف، وأوراق رطبة ترى الماء فيها يشف، بلهب نار مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف"[21]، ولو أنه شبه البنفسج ببعض النبات أو صادف له شبهًا في شيء من المتلونات، لَم تجد له هذه الغرابة، ولم ينلْ من الحسن هذا الحظ"[22].
ورغم ما تجده النفس من أريحية ولذة من بعد معاندة التشبيهات التي تجمع بين متضادَيْن، وتقرب بين متباعدين، فإنها لا تستسيغ دومًا كل جمع بين متباعدين، بل إنها تشترط في مثل هذه التشبيهات "أن تصيب بين المختلفين في الجنس وفـي ظاهر الأمر شبهًا صحيحًا معقولاً، وتجد للملائمة والتأليف السوي بينهما مذهبًا وإليهما سبيلاً"[23]، فإذا توافر عقليًّا الوفاق الحسن مع الخلاف البين، كأن تكون الأفعال سببًا لضدها، أو أن يكون المشبه شيئًا حقيرًا أبرز في صورة شـيء نفيس، أو أن يكون شيئًا مكروهًا بغيضًا أبرز في صورة شـيء جميل محبوب، كان ذلك أدعـى إلـى الاستطراف والقبول.
فمن الأول قول الشاعر:
أَعْتَقَنِي سُوءُ مَا صَنَعْتَ مِنَ الرْ***رِقِّ فَيَا بَرْدَهَا عَلَى كَبَدِي
فَصِرْتُ عَبْدًا لِلسُّوءِ فِيكَ وَمَاَ *** أحْسَنَ سُوءٌ قَبْلي إِلَى أَحَدِ
فهذا مما يثلج الصدر، ويحرك النفس، ويستثير الأريحية لحسن تبدي الأضداد وتآلفها؛ لأن الوفاق بين الأضداد يفتح "أبواب الاتصال بين عالمين جرت العادة علـى اعتبارهما منفصلين"[24] مما يثير في المتلقـي الاستغراب والدهشة، وهنا مكمن الاستطراف.
ومن الثاني: قول ابن المعتز يصف النار[25]:
كَأَنَّ الشِّرَارَ عَلَى نَارِنَا *** وَقَدْ رَاقَ مَنْظَرُهُ كُلَّ عَيْنِ
سُحَالَةُ تِبْرٍ إِذَا مَا عَلا ***فَإِمَّا هَوَتْ فَفُتَاتُ[26] اللُّجَيْنِ

وقد أخذه أبو هلال العسكري فقال[27]:
أَوْقَدْتُ بَعْدَ الهُدُوِّ نَارًا *** لَهَا عَلَى الطَّارِقَيْنِ عَيْنُ
شِرَارُها إِنْ عَلاَ نُضَارٌ *** لَكِنَّهُ إِنْ هَوَى لُجَيْنُ
فبناءُ التشبيه هنا اشتمل علـى عُنصرين متضادين متغايرَيْن، مما أظهرهما في معرض الغرابة والجدة، هذا فضلاً عما تعبق به الصورة من دِقَّة الوصْف، وحيوية الحرَكة، وجمال المشْهد، وامتزاج الألوان، إلا أن ابن المعتز كان أكثر توفيقًا، وزاد التشبيه استطرافًا، حيث أضفـى عليه لونًا من الجدة والابتكار باستخدام: "فتات اللجين"، وقد اعتاد الشعراءُ الجمع بين التبْر واللجين دون الفتات.
ومن الثالث: قول أبـي تمام في صفرة المرض[28]:
مَعْدِنُ الحُسْنِ وَالمَلاحَةِ قَدْ أَصْ *** بَحَ لِلسُّقْمِ مَعْدِنًا وَقَرَارَا
لَم تَشِنْ وَجْهَهُ المَلِيحَ وَلَكِنْ *** جَعَلَتْ وَرْدَ خَدِّهِ جُلَّنَارَا
وهنا أيضًا جمعٌ بين المتضادات في ربقة، وتأليف بين المتنافرات في صورة حية، وعمدٌ إلـى تحسين القبيح؛ إما للتزين، وإما للتهكم، أو التلهِّي، أو المُجُون، ومن هنا ينبع الاستطراف.
الأمر إذًا في بلاغة التشْبيه عند عبدالقاهر والبلاغيين العرب عامةً يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعوامل متشابكة، تتمثَّل في مدى ما يكون بين طرفيه من تباين في الجنس أو المكان، ينشأ عنه تباعُد في الحضور الذِّهني والنفسي، وفي كونه في صورة مركبة، ليس ذلك فحسب، بل أيضًا فيما يتوافر بين أجزاء تلك الصورة المرَكَّبة وعناصرها من غرابة وبعد عن المألوف، علـى نحو يمنحها خصوصية تتميَّز بها عن التشْبيهات المتداولة التي يستوي في تصوُّرها العامة والخاصة، ولا تقتصر هذه الخصوصية علـى الجمع بين العناصر المتباعدة المتنافرة، إذ تتعدَّى ذلك إلـى قدرتها علـى التأثير النفسي؛ حيث يشعر المتلقي إزاءها بمشاعر الدهشة والإعجاب لهذه القوة الخيالية التي ألفتْ بين الأشياء المتنافرة، والأجزاء المتباينة تأليفًا مثيرًا.
وقد سبق عبدالقاهر الجرجاني بهذه الفكرة النُّقَّاد المحدثين في الأدب الأوربي، وبصفة خاصة الناقد الشاعر المعاصر (عزرا بوند)، الذي اقترب من فكرة عبد القاهر عند تناوُله الصورة الشعرية، التي تشمل وجوه البيان المختلفة، من تشبيه واستعارة وكناية، فقد ذكر أن هذه الصورة ليستْ مقصورة علـى تصوير الواقع وتشكيله في لوحة فنية، لكنها تُعنَى بالجمع بين الأفكار المتباعدة، والانفعالات المتباينة، بهدف إحداث تأثير حاد، أو صدمة شعورية سريعة في نفس المتلقي.
وقد عمق هذه الفكرة تلميذه الشاعر الناقد ت. س (اليوت)، عند حديثه عن فاعلية "الحس الشعري"، التي تتمثل في قدرته علـى الجمْع بين تجارب وخبرات متنافرة في الظاهر، يضمها قالب فنِّي مترابط أو وحدة عضوية[29].
والذي لا شك فيه أن التشبيه الذي يستند إلـى أمر تبصره العيون أو تكثر مشاهدته في الحياة اليومية، يفقد عنصر الطرافة والجدة إلـى الحد الذي يمكن اعتباره تشبيهًا مبتذلاً، وفي هذا يقول عبدالقاهر: "ذلك أن العيون هي التي تحفظ صور الأشياء علـى النفوس، وتجدد عهدها بها، وتحرسها من أن تدثُر، وتمنعها من أن تزول، ولذلك قالوا: "من غاب عن العين غاب عن القلب"[30].
وعلـى العكس من ذلك التشبيه الذي يقوم علـى أمر تقل رؤيته، وتندر مشاهدته، يُعَد تشْبيهًا غريبًا نادرًا بديعًا (مستطرفًا)؛ لأنه يعتمد علـى "قوة التركيز ونفاذ البصيرة التي تدرك ما لم يسبق لنا أن أدركناه، أو نادرًا ما ندركه، ومن هنا تكون الهزة المفاجأة التي تضعها الصورة، وتكون حالة الارتياح"[31]، ومما يجتمع فيه النُّدرة والتفصيل قول الشاعر أبـي طالب الرقـي:
وَكَأَنَّ أَجْرَامَ النُّجُومِ لَوَامِعًا *** دُرَرٌ نُثِرْنَ عَلَى بِسَاطٍ أَزْرَقِ
لأن الناس ترى أبدًا في الصياغات فضَّة قد أجرى فيها ذهب وطليتْ به، ولا يكاد يتفق أن يوجد در قد نثر علـى بساط أزرق[32].
وأظن أن حسن الجمع بين المتباعدات يتولَّد من المفارقة بين تنافُر المتباعدات في الواقع الخارجـي، وانسجامها في التركيب اللغوي لدقة التخيل، فالخيال "لا يظهر في شـيء بقدْر ما يظهر في إحالة فوضـى الدوافع المنفصلة إلـى استجابة موحدة منتظمة"[33]، لذلك ليس من الغريب أن "يؤول التنافر المعجمـي بالخيال إلـى تكامل سياقـي"[34]؛ ليكون أقدر علـى إثارة التأمُّل، وعندما يصل التشبيه إلـى هذا المستوى من اللطافة والرقة والغموض والحداثة، تتحرر فيه الدلالة من إطارها الضيِّق لتتَّجه نحو الإيحاء الذي هو ميزة اللغة الشِّعرية.
ثانيًا: الاستطراف والتمثيل:
ومما يزيد المعاني جدة وطرافة إذا أبرزتْ في معرض التمثيل، ونقلتْ عن صورها الأصلية إلـى صورته كساها أبهة، وضاعف من قواها في تحريك النفوس لها، ولا سيما إذا اشتمل التشبيه التمثيلي علـى علة طريفة تجلي المعنـى وتُقربه، وللتمثيل في هذا الشأن المدى الذي لا يجارى إليه، والباع الذي لا يطاول فيه؛ لأنه يفيد صحة التشبيه، وينفي الريب، ويؤمن صاحبه تكذيب المخالف، وتهجم المنكر.
ومن أمثلة ذلك قول البحتري يمدح أبا الفضل إسماعيل بن إسحاق[35]:
دَانٍ إِلَى أَيْدِي العُفَاةِ وَشَاسِعٌ *** عَنْ كُلِّ نِدٍّ فِي النّدَى وَضَرِيبِ
كَالبَدْرِ أَفرَطَ فِي العُلُوِّ وَضَوءُهُ *** لِلعُصبَةِ السَّارِينَ جَدُّ قَرِيبِ
يقدم البحتري في هذا التشبيه التمثيلي معنـى رائعًا، لا يستطيع القارئ فهمه بمجرد قراءة البيت الأول، بل لا بد من قراءة البيتين؛ لتدرك ما أراده الشاعر من التناهي في القرب والبعد؛ فالبحتري يدعي في البيت الأول - الجمع بين معنيين متضادين هما: (دانٍ، وشاسع)؛ حيث وصف ممدوحه بأنه قريب بعيد، وهذا في بادئ الأمر يشعر القارئ أنه إزاء معنـى غريب بديع، وهو أمر ترفضه العقول؛ لاستحالة الجمع بين المتضادتين، ولكنه بصنعته الشاعرة وخياله المحلق ما لبث أن أراكهما إلفين متآلفين بوضعه المعنـى في إطار بديع من التمثيل، وجعله بمثابة تعليق لصدق دعواه، فأرانا - عن طريق الحسَّ- ذلك المعنـى في صورة البدْر البعيد في مكانه القريب بضوئه، فلم يسَع العقل - عندئذٍ - إلا أن يقرّ، ولا النفس إلا أن تذعن بما حدث لها من الأنس، نتيجة كشْف الحجاب عن الموصوف المخبر عنه.
إن ما يميز هذا التشبيه التمثيلـي المركب تلاحمه بتداخل المعانـي فيه وائتلافها، فلا يصلح أن يكون أحد طرفيه مُستقلاً عن الآخر، وإن التغيير في صياغته يفقده جماله وتأثيره، وهذا يؤكِّد قول ليبنتز: "إن التصورات المركبة أكثر شاعرية من الأفكار البسيطة"[36].
هكذا استطاع البحتري بشاعريته أن يتجاوز ما يحضر العين إلـى ما يحضر العقل، واستخدم الخيال التصويري، لإيضاح ما لا يستطيع التعبير العادي أن يؤديه، ولرسم صورة إيحائية، أضافتْ جديدًا إلـى المعنـى، وقوة الإيحاء وسيلة يستطيع الشاعر بها أن يضيف إضافات جديدة إلـى المعنـى المصور، بانتقاله من المدلول العادي للألفاظ إلـى المعنـى حين يجمع بين المتضادات، ويصور ما ليس بواقع ولا مشاهد، كأنه واقع مشاهد.
يضاف إلى ذلك ما طالعنا به الشاعر من تعليل مليح ذي علة خيالية، أراد به مدح ابن إسحاق، بأن يدخل عليه السرور، ويؤثر في وجدانه بالتظرف في مدْحه، والتلطُّف في الثناء عليه، فجاء مدحه في ثنايا هذا التشبيه المطوى في التمثيل الرائع، فكان أوقع في نفس الممدوح، وأجلب لسروره، وأوجب شفاعة للمادح.
وتكمن العلة الأخيرة للتمثيل في هزِّ نفس المتلقي، واستثارة أحاسيسه عقب تحصيل المعنـى كاملاً وواضحًا بالتصوير التمثيلي، بعد أن بذلت الجهود الكبيرة طلبًا له، وأملاً في نواله.
وقالوا: إن أبا تمام لما سمع البحتري ينشد بين يدي محمد بن يوسف قصيدته[37]:
فِيمَ ابْتِدَارُكُمَا المَلامَ وُلُوعَا *** أَبَكَيْتَ إِلاَّ دِمْنَةً وَرُبُوعَا
وبلغ قوله[38]:
فِي مَنْزِلٍ ضَنْكٍ تَخَالُ بِهِ القَنَا *** بَيْنَ الضُّلُوعِ إِذَا انْحَنَيْنَ ضُلُوعَا
نهض أبو تمام فقبل البحتري بين عينيه سرورًا به، وتحفيا بالطائية، ثم قال أبـى الله إلا أن يكون الشعرُ يمنيًّا[39].
ويشهد عبدالقاهر للبحتري كما شهد له أبو تمام حيث يقول: "وإنك لا تكاد تجد شاعرًا يعطيك في المعاني الدقيقة من التسهيل والتقريب، ورد البعيد الغريب إلـى المألوف القريب، ما يعطي البحتري؛ فإنه ليروض لك المُهرَ الأَرِنَ رياضةَ الماهر حتـى يعنِق من تحتك إعناق القارح المذلل"[40].
وهذا التشبيه الذي استجاش أبا تمام مِن هذا الضرب الذي يستحسنه قدامة؛ لأن الشبه بين القنا التي غرزت في ضلوع الأعداء، ثم انحنت لقوة الطعنة، تصير وهـي في مغرزها، وعلـى حال الانحناء أشبه بالضلوع، فالطرفان متباعدان، ولكن الشاعر كشف ما بينهما من علاقة أدنتهما إلـى حال القرب والاتحاد، والفضل والتقدُّم في التشبيهات التي تلتقط الأشباه بين الأمور المتباعدة[41].
وعلـى هذا إذا قدم الشاعر المعنـى بالنهج التمثيلي، فإن المتلقِّي يسهل عليه إدراكه والتأثر به إعجابًا واستحسانًا واستمتاعًا، خاصة أنه قد سبق تعذُّر الإحاطة به، لعُمقه ودقته، ويذكر عبدالقاهر محددًا هذه العلة: "إن المعنـى إذا أتاك ممثلاً فهو في الأكثر ينجلي لك، بعد أن يحوجك إلـى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمة في طلبه، وما كان منه ألطف كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، فإذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضَنّ وأشغف"[42].
وكلما غنيت الصورة في التشبيه التمثيلي بالدلالة، كان ذلك أدعى إلى زيادة خفائها، وتبدو عندئذٍ ذات مستويات دلالية، تتوالَى في إثْر بعضها، أو يستدعي بعضها بعضًا، كما في قول المتنبي يخاطب سيف الدولة[43]:
فَوَاعَجَبًا مِنْ دَائِلٍ أَنْتَ سَيْفُهُ *** أَمَا يَتَوَقَّى شَفْرَتَيْ مَا تَقَلَّدَا
وَمَنْ يَجْعَلِ الضِّرْغَامَ بَازًا لِصَيْدِهِ *** تَصَيَّدَهُ الضِّرْغَامُ فِيمَا تَصَيَّدَا
فسيف الدولة ليس إلا أميرًا من أمراء الخليفة العباسي في بغداد، بيد أنه كان يعدُّه أقواهم بأسًا، وأشدهم سطوة، فكان يعتمد عليه في صدِّ هجمات الأعداء الذين يغيرون على أطراف الدولة وتخومها، ويتعَجَّب المتنبي من هذا المسلك للخليفة، ويتجه بخطابه إلى سيف الدولة قائلاً: ألا يخشي يستمد قوته منك، ويتخذك سلاحًا بتارًا في يده، من أن ترتدَّ إليه، وتفتك به، فيصبح ضحية من ضحاياك.
ثم يبرز هذا المعنى في صورة مادية حسية، هي أن من يتخذ الأسد أداة لاقتناص فرائسه يُمَكِّن الأسد مِنْ نفسه، فلا يكون بمأمن مِنْ غدْره، وتحين الفرَص للانقضاض عليه وافتراسه، ولا نظن أن هذا المعنى يتكشف للمتلقي من القراءة الأولى، بل يحتاج إلـى معاودة القراءة، وإمعان النظر والتفكير.
والدلالة الشعرية السابقة هي الدلالة الظاهرة للتشبيه، وهي بالطبع تحمل معنى الإشادة بشجاعة سيف الدولة، وقوته الضاربة، إلا أنها مبطنة - في الوقت نفسه - بمستويات دلالية أخرى تشعها بطرق الإيحاء، منها ما يمثله ذلك الوضع من خطورة بالغة على سلطة الدولة العليا، وما يستتبعه ذلك من ضرورة يقظتها وحذرها، حتـى لا تؤتَى من مأمنها، ومحط ثقتها، وكأن الخطاب الشعري بهذا الاعتبار، تنبيه لها من طرف خفي، لا يلام عليه الشاعر، ولا يؤاخذ به، ومن تلك الدلالات الإيحائية أيضًا إلقاء ظلال من الشك على ولاء سيف الدولة للخلافة التي يستمد شرعية ولايته وحكمه منها، وقد يذهب الخيال إلـى دلالة أخرى أبعد من ذلك، تتمثل في التشكيك في وفاء سيف الدولة للمقربين منه، ومنهم الشاعر نفسه[44].
إن جودة هذا التشبيه تتمثل في النظر المستقصـى، وقدرة الشاعر علـى التنويه بالقضايا التي تشغله، وهو تشبيه يفضل في سياق المقارنة التشبيهات التي لا تتعمَّق الأشياء ولا تتقصـى أحوالها وأوصافها؛ لأن التشبيهات التي تعتمد النظرة الإجمالية لا تؤدي دورها من حيث التأثير في المتلقـي؛ لأن قيمة التشبيه فيما يحدثه من تفعيل دور المتلقـي، وأخذه إلـى ساحة الفن لإدراك أبعاد التشبيه، والوقوف علـى مضماراته، والكشف عن إيحاءاته، وإزالة غموضه، فإذا تحقق هذا بعد عناء النظر، وتأمل الفكر، كان موقعه من النفس أجل وألطف.
ثالثًا: الاستطراف والتفصيل:
إن التشبيه بين المتباعدات لا بد أن يقوم علـى رابطة يقرها العقل، وترضاها النفس، وإن مما يزداد به التشبيه دقة وسحرًا أن يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركات، كما في قول جبار بن جزء بن ضرار ابن أخ الشماخ:
وَالشَّمْسُ كَالْمِرْآةِ فِي كَفِّ الأَشَلِّ
ويُحَلِّل عبدالقاهر هذا التشبيه تحليلاً يصف مدلوله وصفًا بالغًا في الدِّقة، يقول في ذلك:
"أراد أن يريك مع الشكل الذي هو الاستدارة، ومع الإشراق والتلألؤ علـى الجملة، الحركة التي تراها للشمس إذا أمعنت التأمل، ثم ما يحصل في نورها من أجل تلك الحركة، وذلك أن للشمس حركة متصلة دائمة في غاية السرعة، ولنورها بسبب تلك الحركة تموج واضطراب عجيب، ولا يتحصل هذا الشبه إلا بأن تكون المرآة في يد الأَشَل؛ لأن حركته تدور وتتَّصل، ويكون فيها سرعة وقلق شديد، حتـى ترى المرآة لا تقر في العَيْن، وبدوام الحركة وشدة القلق فيها، يتموج نور المرآة، ويقع الاضطراب الذي كأنه يسحر الطرف، وتلك حال الشمس بعينها حين تحد النظر، وتُنفذ البصر، حتـى تتبين الحركة العجيبة في جرمها وضوئها، فإنك ترى شعاعها كأنه يهمُّ بأن ينبسط حتـى يفيض من جوانبها، ثم يبدو له فيرجع من الانبساط الذي بدأه إلـى انقباض، كأنه يجمعه من جوانب الدائرة إلـى الوسط، وحقيقة حالها في ذلك مما لا يكمل البصر لتقريره وتصويره في النفس، فضلاً عن أن تكمل العبارة لتأديته، ويبلغ البيان كنه صورته"[45].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 182.11 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 180.14 كيلو بايت... تم توفير 1.97 كيلو بايت...بمعدل (1.08%)]