مدرسة مكة الأولى ومنهجها الدراسي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         النظافة في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          الحج وذو القعدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          رُدُود أفعال الناس معك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          نظرة شمولية لمعنى الرزق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          أحسنوا الظن بالله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          خطر تحديد النسل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          شرح النووي لحديث: خير نسائها مريم بنت عمران (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          حديث: فأسرَّ إليَّ حَديثًا لا أحدِّثُ بِهِ أحَدًا من النَّاسِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          حديث: تُلُقِّيَ بصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          الوقت والفراغ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-12-2021, 01:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,996
الدولة : Egypt
افتراضي مدرسة مكة الأولى ومنهجها الدراسي

مدرسة مكة الأولى ومنهجها الدراسي
محمد شريف راشد



مدرسة مكة الأولى ومنهجها الدراسي

بقلم/ فضيلة الدكتور عبدالحليم النعماني حفظه الله
رئيس التخصص في علوم الحديث
جامعة العلوم الإسلامية، علامة بنوري تاون كراتشي
ترجمه إلى العربية/ محمد شريف راشد
مدرس بالجامعة الحمادية، كراتشي



الفصل الأول بداية التعليم والتربية في الإسلام:
1- القرآن الكريم جامع الكليات والأصول:
القرآن الكريم (الذي أنزله الله لفلاح الإنسانية) أصلٌ كامل للحياة، وقانون جامع للهداية.
هو جامعٌ للأصول والكليات، وجزئياتُ تلك الأصول يشرَحُها قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم وفعلُه وسكوته، وهذا هو منهج التعليم في عهد النبوة، وهو معتَبَر معمولٌ به عند جميع الفقهاء في الماضي وسيبقى في المستقبل إلى الأبد؛ قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ [الأعراف: 157]، ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [الأنعام: 153]، ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108].
والمراد من الاتِّباع (في هذه الآيات) العملُ على منهج التعليم النبويِّ.

قال أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت 790 هـ 1388م) في كتابه "الموافقات": "فالقرآن على اختصاره جامعٌ، ولا يكون جامعًا إلا والمجموع فيه أمورٌ كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله؛ لقوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3] الآية.

وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبيَّن جميعُ أحكامها في القرآن، إنما بيَّنتها السنة، وكذلك العبادات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها.

يُعلَم من كلام الشاطبي رحمه الله، أن مِن فضلِ الله سبحانه وتعالى العظيم على أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم أَنْ أكمل لهم الدين، وتكفَّل بحفظه، بنظام مُعجِز بديع، جعل صدور المؤمنين محفظةً يُحفظ فيها القرآن الكريم عن التحريف اللفظي، وحفِظ الله رسم خط القرآن الكريم، وبالقرآن الكريم ارتقى فنُّ الخط في العالم، وحظِي قَبولًا عامًّا.

وحفِظ الله معاني القرآن الكريم بأن جعل قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم وفعلَه وسكوته وإنكاره حجةً، وبذلك سدَّ باب التحريف في القرآن إلى الأبد؛ لذلك لم يُفلِح مَن تصدى للتفسير بالرأي الفاسد والمعاني المخترعة من عند النفوس الكاذبة في الأمة الإسلامية.

بدأت رسالةُ مُعلِّم الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عام 611م، وكان عمرُه أربعين سنةً، ثم فتَر الوحي ثلاث سنوات، ثم بدأ الوحي[1] ثلاثًا وعشرين سنة.

2- دار الأرقم:
سيدنا الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه كان مِن السابقين الأولين في الإسلام، وقد وقف داره لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يسكن فيه، واشتهر بين المسلمين بـ"دار الأرقم"، المنطلق الأول للدعوة في الإسلام.

وقد كان موافقًا لجوِّ مكة وحالة الدعوة؛ لأنه كان في موضع يكثر فيه اجتماع الناس بسبب الحج، بعيدًا عن سوق مكة، وواقعًا في جبل الصفا منعزلًا عن البيوت، مما يفيد الوارد والصادر، فلا يُراقَب بسهولة، وخاصة في ظلام الليل.
وكانت له حصتان: حصة لسكن النبي صلى الله عليه وسلم، وحصة أخرى للمدرسة.

عن عثمان بن الأرقم قال: أنا ابن سابع سبعة في الإسلام، أسلم أبي سابع سبعةٍ، وكانت داره بمكة على الصفا، وهي الدارُ التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيها أول الإسلام، وفيها دعا الناس إلى الإسلام، وأسلم فيها قومٌ كثير، وقال ليلة الاثنين فيها: ((اللهم أعزَّ الإسلام بأحبِّ الرجلينِ إليك: عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام)).

فجاء عمر بن الخطاب من الغدِ بكرةً، فأسلم في دار الأرقم، وخرجوا منها، فكبروا وطافوا البيت ظاهرين، ودُعِيَتْ دارُ الأرقم دارَ الإسلام.


وتصدَّق بها الأرقم على ولده، فقرأتُ نسخةَ صدقةِ الأرقم بداره: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى الأرقم في رِبعه ما حاز الصفا: إنها محرَّمة بمكانها من الحرم، لا تُباع ولا تُورث، شهِد هشام بن العاص، وفلان مولى هشام بن العاص، قال: فلم تزل هذه الدار صدقةً قائمة فيها ولده يسكنون ويؤاجِرون[2].
1- هي المدرسة الأولى في الإسلام التي أُعِدَّ فيها نظامُ التعليم والتربية ليلًا ونهارًا.
2- وفيها كان نظام التربية والتعليم لمن يُسلِم بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
3- هو المكان المبارك الذي بدأَتْ فيه سلسلة تعليم القرآن ليلًا ونهارًا.
4- وهنا كانت كتابة القرآن الكريم.
5- وقراءته وتفقيهُه.
6- وحفظه وتحفيظه.
7- وهنا كان انعقاد اجتماع الصحابة الكرام لدروس المسائل الضرورية وتشريحها.
كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يأمر بكَتْب وحِفْظ كل ما ينزل من القرآن الكريم في الليل والنهار[3].

وكانت قراءة الوحي وإقراؤه، وفقهه والعمل عليه، وكذلك إبلاغه إلى المسلمين، من واجبات المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد اعترف بذلك المشركون.

قد اعترف المشركون بمحاولات الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية، وأنه مشغول فيها ليلًا ونهارًا، فقد نقل الرب سبحانه وتعالى ما قالوه فيه في هذا الشأن: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 5]؛ وهذه الجملة شاهدة على الأمور المذكورة أعلاه.


3- بداية كلية تعليم الصباح والمساء (day and night) في الإسلام:

يعلم من الآية السابقة أن القراءة والكتابة سُلَّم أول لتطور العلوم الإنسانية، يُدَوَّن بهما العلوم، ويشاع بهما العلم وتفتح بهما المكتبات في أطراف العالم.

ويعلم منها أيضًا أن الاهتمام بالقراءة والكتابة والتعليم والإملاء كان من بداية عهد النبوة؛ فكانوا:
1- يكتبون كلَّ ما يجدون من العلم.
2- ويحفظونه أيضًا.
3- يُدَرِّسونه في الصباح والمساء.
4- ويُحَفِّظونه.
5- يسمعون ويُسمعونه.
6- يُصلِحون ما كتبوه أو حفِظوه.
7- الإملاء من شعار المسلمين، وطريقة ناجحة للتعليم والتعلُّم قبل إيجاد المطابع.
8- والإملاء هو المحرِّك الأول لثورة التعليم والعالِميَّة ضد الجاهِلية السائدة آنذاك.
9- وببركةِ الإملاء تم تدوينُ جميع العلوم من العهد الأول.
10- وببركة العلم والتعليم ارتقى العرب - (الذين ما كانوا يعلمون شيئًا) - في علوم القرآن والشريعة إلى أقصى الغايات.

4- بداية المكتبات في الإسلام:
يعلم مِن الآية السابقة أن بدايةَ المكتبات في الإسلام كانت من القرآنِ الكريم في مدرسة دار الأرقم؛ حيث جعل الرسول صلى الله عليه وسلم نظامَ الدرس والتدريس، والتعليم والتعلم، ونشر الدين، في تلك الدار المباركة.

يقول المستشرق تامس أرنلد:
"في العام الرابع مِن النبوة اتَّخذ الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم مقرًّا له، لعل هذا الموقف كان بالنظر إلى عداوة قريش الشديدة، كان السيد الأرقم من الرجال الذين سبقوا في قَبول الإسلام، وكانت داره في موضعٍ يكثر فيه عدد الزائرين والمسافرين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقدر في ذلك المكان أن يُبلِّغ رسالة الله إلى مَن يأتيه مِمَّن يبحث عن الحق، بسهولة وأمن، ومن غير أي معارض، وتلك الأيام - (أيام قيام الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم) - تحملُ أهميةً كبيرة في مسار الدعوة في مكة؛ لأن كثيرًا من الناس آمنوا في تلك الفترة"[4].
لذلك تُبنَى المكتبة في المكان الذي يسهل إليه وصول الناس.

5- الكتاب الأكثر قراءةً في العالم:
القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يُتلى ويكتب كثيرًا من البداية إلى الآن، من أول عهد قيام الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم (614م) إلى اليوم؛ لذلك لم يصحَّ ما قاله صاحب دائرة المعارف البريطانية: (بأن القرآن هو الكتاب الأكثر قراءةً في العالم في القرن التاسع عشر الميلادي)، بل القرآن الكريم هو الكتاب الأكثر قراءةً وكتابة من (614م القرن السادس) الميلادي إلى اليوم.
♦♦♦♦♦

الفصل الثاني: مصادر المنهج الدراسي في الإسلام:
المأخذ الأول للمنهج الدراسي في الإسلام:
ذكر اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه أربعَ صفات للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [آل عمران: 164]:
1- تلاوة القرآن الكريم وإقراءه.
2- التزكية: تهذيب أخلاق الناس وأعمالهم، وتهذيب المعاملات وسائر جوانب الحياة، والثبات على ذلك.
3- تعليم القرآن الكريم (تشريح أحكامه).
4- تعليم السُّنة (وتقديم النماذج العملية لها).

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرْسِلَ إلى الأميِّين، وكان صلى الله عليه وسلم أميًّا بنفسه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ [الجمعة: 2]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48]، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّا أمةٌ أميةٌ لا نكتب ولا نحسب))[5]، فالقرآن الكريم هو المأخذ الأول للمنهج التعليمي.

المصدر الثاني للمنهج الدراسي:
كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يشرح ويوضِّح كلما نزَل أمرٌ من القرآن الكريم؛ كالصلاة، وحكمها موجود في القرآن الكريم إجمالًا، أما التفاصيل - (أوقات الصلاة، ركعات الصلاة، طريقة الصلاة؟) - فلا يوجد شيءٌ منها في القرآن الكريم، بل جميع تلك التفاصيل موجودةٌ في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وسكوته.

وكذلك الزكاة والبيع والشراء، والنكاح والطلاق، والجهاد والغنائم، والزهد والأخلاق - أحكامها الإجمالية موجودة في القرآن الكريم، لكن التفاصيل والاستهداء في شُعَبِ الحياة الباقية كل ذلك قد فُسِّر من الرسول صلى الله عليه وسلم.
(أما تعيين الواجب والنفل، والسنة والمستحب - فمن أعمال المجتهد).

والله سبحانه وتعالى - (المُقنِّنُ الأعظم لقانون الهداية ذاك) - لم يترُكِ المعاني غير مقيَّدة، بأن عَلَّمَ الألفاظ فحسب، بل جعل حق التفسير والتعبير لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم[6]، وجعل سائر أفعاله وأقواله، وإنكاره وسكوته حجة أبدية[7].

وقد أدَّى الرسول صلى الله عليه وسلم فريضة تَبَيُّنِ القرآن الكريم بأن:
1- فصَّل المجمل.
2- وضَّح المبهم.
3- قَيَّد المطلق.
4- عَيَّنَ المشترك.
5- بَيَّن توحيد الرب سبحانه وتعالى.
6- علَّمَ الغرض والغاية.
7- بَيَّنَ المعنى المراد من كلام الله سبحانه وتعالى.
8- قدَّم نموذجًا عمليًّا لذلك.
9- وفي فترة (23 عامًا) القليلة جعل جزيرة العرب كلَّها بقعة النور والهداية.

ولَمَّا نزلت ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82]، لم يفهَمْ الصحابةُ رضي الله عنهم - (مع كونهم من أهل اللسان) - هذه الآية، حتى فسرها لهم النبي صلى الله عليه وسلم.

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: لَمَّا نزلت هذه الآية: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لم يظلِمْ نفسه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس كما تظنُّون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13][8].
فالرسول صلى الله عليه وسلم بذاته وصفاته هو المأخذ الثاني لمنهج التعليم، كما اتضح من النصوص السالفة.



المنهج الدراسي الأبدي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

كلمة "الأسوة" تُفسَّرُ بالاتباع في العهد المكي؛ فالنظام الدراسي للمسلمين هو أسوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذاتُ الرسول صلى الله عليه وسلم - التي جعلها الله سبحانه وتعالى أسوةً - هي مجموعة أمور ثلاثة:
1- القول.
2- العمل.
3- السكوت، والإنكار والمؤاخذة، التي يعبر عنها في اصطلاح المحدثين ب"التقرير"[9]، ودليل ذلك حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه (74هـ):
روى البخاري عن مالك بن حويرث قال: أتَيْنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَةٌ متقارِبون، فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلةً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلَنا، (أو قد اشتقنا) - سألنا عمَّن ترَكْنا بعدَنا، فأخبرناه، قال: ((ارجِعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعَلِّمُوهم ومُرُوهم - وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها - وصلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي))[10].

((صلُّوا)) قولٌ، ويعلم منه حُجِّية قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصَّة الحديث الثانية ((كما رأيتموني أصلي)) إشارةٌ إلى حجية العمل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل عملَه حجةً في باب الصلاة، وأَمَرَ باتباعه، فعُلِم منه حجية عمل النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما دليل حجية سكوته وإنكاره، فهو ما روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه (57/ 59 هـ): أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه السلامَ، فقال: ((ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تصلِّ))، فصلى، ثم جاء، فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ارجِعْ فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ)) ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره، فعلِّمني! قال: ((إذا قمتَ إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرَأْ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركَعْ حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفَعْ حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجُدْ حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعَلْ ذلك في صلاتك كلِّها))[11].

في هذا الحديث المبارك أنكر الرسولُ صلى الله عليه وسلم على هذا الصحابي تركَ التعديلِ في أركانِ الصلاة، وأمره بإعادة الصلاة، فعلم منه أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم وإنكاره حجةٌ وأسوة للأمة؛ (كما يدل سكوت العروس على رضاها)؛ لذلك لَمَّا حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة 10 هـ، أدَّى المناسك راكبًا على الناقة، ليشاهد الصحابة الكرام أفعالَه وأعمالَه أَتَمَّ المشاهدة، فيتَّبِعوه[12].

أصول التعليم والتربية الثلاثة المذكورة (القول، والفعل، والسكوت والإنكار)، أصولٌ فطرية أبدية وعالَمية، قد نُفِّذَتْ في جميع الفنون في العالم، يدور التعليم في سائر الفنون بهذه الطرق والأصول الثلاثة.

المنهج الدائم للتعليم في عهد النبوة:
من خصائص ذات النبي صلى الله عليه وسلم جريان سلسلة التعليم في سائر الأحوال، (في الجلوة والخلوة، في داخل البيت وخارجه).

عن زينب بنت أبي سَلَمَةَ قالت: جاءَتْ أم سُليم بنتُ مِلحان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة - تعني غُسْلًا - إذا هي رأَتْ في المنام مثل ما يرى الرجل ؟ قال: ((نعم، إذا هي رأت الماء فلتغتَسِلْ))، قالت أم سلمة رضي الله عنها (61/ 62 هـ): قلتُ لها: فَضَحْتِ النساءَ يا أم سُلَيم![13].
فكان الرجال والنساء من أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم يسألون مثل هذه المسائل أيضًا.


صفات الشيخ والمربي:
روى مسلمٌ في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بَيْنا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارِهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعَلوا يضربون بأيدِيهم على أفخاذهم، فلما رأيتُهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه؛ فوالله، ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.


قلتُ: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالًا يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتِهم))، قال: ومنا رجال يتطيَّرون؟ قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم - (أو قال - فلا يصدنكم))، قال: قلت: ومنا رجال يخطُّون؟ قال: ((كان نبيٌّ من الأنبياء يخطُّ، فمَن وافق خطه فذاك))، قال: وكانت لي جاريةٌ ترعى غنمًا لي قِبَل أُحُد والجوَّانية، فاطَّلعت ذات يوم فإذا الذيبُ قد ذهب بشاةٍ مِن غنمها، وأنا رجلٌ من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتُها صكَّة، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أُعتِقُها، قال: ((ائتِنِي بها))، فأتيتُه بها، فقال لها: ((أين الله؟))، قالت: في السماء، قال: ((مَن أنا؟))، قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتِقْها؛ فإنها مؤمنة))[14].


الحديث المذكور يدل على الأمور الآتية:
1- إذا صدر مِن التلميذ أمرٌ ممنوع أوان التعليم والتربية، ينبغي للمعلم أن يعامله معاملة الرفق والرأفة، لا أن يغلظ عليه فييئس من التعليم ويسوء ظنه بالمعلم، بل ينبغي التعامل معه بالمحبة واللين.


2- ألا يُعاتب الطالب على الخطأ.


3- الاحتراز عن الضرب.


4- الاحتراز عن شتم الطالب.


5- من فرائض المعلم أن يصلح خطأ التلميذ ويرشده الصواب.


6- ينبغي للطالب أن يقدم إلى الشيخ الاستفسارات التي تدور في ذهنه أثناء الطلب، ولا يستحيي في ذلك، فالله تعالى لا يستحيي من الحق.


7- وعلى المعلم والشيخ أن يرحب بأسئلة الطلاب بالطلاقة والسَّعة، ويجيب عن جميع الأسئلة، حتى تتم للطالب الفائدة المرجوَّة.


8- من شأن المؤمن أنه لا يطمئن مع الخطأ، ويُحِس الخطأ فورًا، فهذا معاوية بن الحكم السلمي قد غضِب فضرَب جاريته، لكنه أحسَّ الخطأ فندِم، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقص عليه القصة[15].


[1] السيرة النبوية لابن هشام: 1 / 251، 242، 260.

[2] الطبقات الكبرى: 3 / 242، 243.

[3] علوم القرآن للزركشي: 1 / 241، وفيه: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض مَن كان يكتب، فيقول: ((ضَعُوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا))؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن.

[4] دعوت إسلام (أردو)؛ للمستشرق تامس ارنلد، ترجمة، نعيم الله ملك، ص 28.

[5] سنن أبي داود:1/ 337، مكتبة رحمانية، ملتان.

[6] ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44].

[7] وجعل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم طيبًا سليمًا؛ بحيث لم يصدر منه إلا الحق.

[8] مسند أحمد: 7 / 275، رقم 4240، مسند عبدالله، وإسناده صحيح على شرط الشيخين؛ مؤسسة الرسالة، ط2، 1429هـ.

[9] مقدمة ابن الصلاح: النوع الثامن، ص 32، دار الكتاب العربي، بيروت.

[10] صحيح البخاري، كتاب الأذان:1/ 88، كتاب الآداب: 2/888، كتاب أخبار الآحاد: 2/ 1076، قديمي كتب خانه، كراتشي.

[11] صحيح البخاري، كتاب الأذان: 104، 105، 109، كتاب الاستئذان: 2/ 924، قديمي كتب خانه، كراتشي.

[12] البداية والنهاية:5 / 209، مكتبه رشيدية، كويته.

[13] رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول عامة الفقهاء؛ أبواب الطهارة، باب المرأة ترى في المنام: 1 / 207، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

[14] وإنما جاءه ليستغفر له الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 64].

[15] صحيح مسلم: كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة: 1 / 203، قديمي كتب خانه، كراتشي.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 68.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 66.49 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.50%)]