عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         ولا تبغوا الفساد في الأرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          تحرر من القيود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          فن التعامـل مع الطالبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 774 )           »          العمل السياسي الديـموقراطي سيؤثر في الصرح العقائدي وفي قضية الولاء والبراء وهي قضية م (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 128 )           »          طرائق تنمية الحواس الخمس لدى الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 16 )           »          حقيقة العلاج بالطاقة بين العلم والقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          الله عرفناه.. بالعقل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 90 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-04-2020, 02:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة


عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان
(1)
محمود العشري
1 - التمـهيد
لقد أجمع العُقلاء على أن أنفسَ ما صُرِفتْ له الأوقات، هو عبادة ربِّ الأرض والسموات
والسَّير في طريق الآخرة، وبذل ثَمن الجنة، والسعاية للفكاك من النار.
ولما كان هذا الطريقُ - كغيره من الطُّرق والدروب - تكتَنِفُه السُّهول والوِهَاد والوِدْيان والجبال والمَفاوز ويتربَّص على جنباته قُطَّاع الطُّرق ولصوص القلوب؛ احتاج السَّائر إلى
- الدليل الحاذق في معرفة الطرق والمسالك -
يُبَصِّرُهُ الدروب الآمنة، والمسالك النافذة، ويُعَرِّفُهُ مكامن اللُّصوص، وأفضل الأزمنة للسَّير، وأنسب الأوقات للجدِّ في السفر، - في طريق الآخرة - هو منهج سلَفِنا الصالح في النُّسك، وطرائقهم في السير إلى الله - تعالى - وعباراتهم في الدلالة عليه، فهذه - بحقٍّ - خيرُ معوان على انتحاء جهة الأمان، وهذا النسك السَّلفي العتيق والمنهج السُّني الرشيد في التزكية، لا غِنى عنه لكلِّ طالب طريق السلامة، فلا عصمة لمنهجٍ في مُجْمله
إلا المنهج السَّلفي.
ولما كانت الأزمنة الفاضلة من أنسب أوقات الجدِّ والاجتهاد في الطاعة
وكان شهر رمضان من مواسم الجود الإلهيِّ العميم، حيث تُعتَق الرِّقاب من النار، وتوزَّع الجوائز الربَّانية على الأصفياء والمُجتهدين؛ كان لزامًا أن تتواصى الهِممُ على تحصيل الغاية من مرضاة الربِّ في هذا الشهر، وهذا من التواصي بالحقِّ المأمور به في سورة العصر.
وإذا كان دُعاة الباطل واللَّهو والفجور تتعاظم هِممُهم في الإعداد لغواية الخَلْق في هذا الشهر بما يُذِيعونه بين النَّاس من مسلسلاتٍ ورقص، ومُجونٍ وغِناء، فأَخْلِقْ بأهل الإيمان أن يُنافسوهم في هذا الاستعداد، ولكن في البِرِّ والتَّقْوى!
ولقد صامَتْ أمَّتُنا دهورًا، غير أنَّ صومها لهذا الشهر ما كان يَزِيدُهَا إلاَّ بعدًا عن ربِّها ومليكها وحاكمِها الحقيقي، فصار رمضان موسِمًا مُفَرَّغًا من مضمونه، مُجَرَّدًا عن حقائقه، بل صار ميدانًا للعربدة، وشَغْل الأوقات بما يغضب الكريم المتعال - سبحانه وتعالى، وعزَّ وجلَّ.
ولو تجهَّزَت الأمة لهذا الشهر الفضيل، وأعدَّت له عُدَّته، وشَمَّر الناس جميعًا سواعد الجِدِّ، وشَدُّوا مآزرهم في الطاعة، لرأَيْنا أمَّة جديدة تُولد ولادةً شرعيَّة، وذلك بعد استعداد جادٍّ ومَخاض، عولِجَت فيه الهمم والعزائم؛ لِتَدخل في الشهر وهي وثَّابة إلى الطاعات.
وهذا التمهيد نصيحةٌ لعامَّة المسلمين، بَثَثْتُهَا غَيْرةً على حالهم مع الله - تعالى - في هذا الشهر، وجُهدُ مُقلٍّ أبذله تَأَثُّمًا، ويعلم ربِّي ما هنالك، هي منهاجٌ في كيفية الاستعداد لشهر رمضان، وبيانٌ لبعض الأعمال التي ينبغي أن يقوم بها سالك طريق الآخرة لاستثمار رمضان، إرشادات نَفِيسة من أئمَّة التربية والتزكية من السَّلف الصالح، تقود المرءَ قيادةً حثيثةً للوصول إلى درب القبول، حرَصْتُ فيها أن تكون واقعيَّة وعمَلية، وقبل ذلك: سلَفِيَّة سُنِّية، بيَّنت فيها طرق الاستعداد للشهر الكريم بعزيمة قويَّة قادرة على الاجتهاد الحقيقيِّ في الطَّاعة، بدلاً من الأمانيِّ والأحلام.
وأنا لك ناصحٌ - أخي يا بن الإسلام -:
إذا أردتَ الاستفادة من هذا السِّفْرِ فلا تَمُرَّ على ألفاظه مرَّ الكرام، بل جُلْ بخواطرك حول المعنى ومعنى المعنى
فلقد استلَلْت لك النقي، وانتقيتُ لك الأطايب، فإذا استدللتُ بآيةٍ فَحُمْ حول حِماها، ثم طُفْ في أعماق مداها، وإذا ذكرتُ لك حديثًا فتمثَّل نفسك جالسًا بين يدي النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تَسْمعُه وتتدبَّر عنه، وإذا رَويتُ لك سيرة عبقريٍّ من السَّلف فهَبْ نفسك ترمقه عن كثب، كأنَّك في حضرته تشتار من رحيق كلماته، وبدون ذلك فلا تَتَعَنَّ، فإنما جمَعتُه لك ورتَّبته لتتذوَّق، لا لتقول للناس: قرأتُه!
واعلم أخيرًا أنَّ ما ذكرتُه لك في هذا التمهيد ما هو إلاَّ محاولة لتكوين صورةٍ عن الشخصية الربَّانية ذات العلاقة العامرة بإله الكون، والمهيَّأة لسيادة البشريَّة، وإنقاذها من وهدتها.
القواعد الحسان في الاستعداد لرمضان
القاعدة الأولى: بعث الشوق إلى الله واستثارته:
فعلى مرِّ الأيام والليالي يخْلَقُ الإيمان في القلب - يَبْلَى - وتَصْدأ أركان المحبَّة، فتحتاج إلى مَن يهَبُك سربالاً إيمانيًّا جديدًا تستقبِلُ به شهر رمضان، وأصل القدرة على فعل الشيء معونة الله، ثم مؤونة العبد، وأعني بالمَؤُونة: رغبتَه وإرادته، فعلى قدْرِ المَعُونة تأتي المَؤونة، والبداية حتمًا من العبد، ثم التَّمام من الله - تعالى - فلا بد من إثارة كوامنِ شوقك إلى الله - عزَّ وجلَّ - حتَّى تلين لك الطاعات، فتؤديها؛ ذائقًا حلاوتَها ولذَّتَها، وأية لذَّة يمكن أن تحصِّلها من قيام الليل، ومكابدة السَّهر، ومُراوحة الأقدام المتعبة، أو ظمأ الهواجر، أو ألم جوع البطون، إذا لم يكن كلُّ ذلك مبنيًّا على معنى:
﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
[طه: 84]
ومن لبَّى نداء حبيبه بدون شوقٍ يَحْدوه، فهو باردٌ سمج - قبيح - دعوى محبَّتِه لا طعم لها!
لا جرم أنَّه كان من دعاء النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صلاته - كما روى النَّسائيُّ
بسند صحيح -:
((وأسأَلُك الرِّضا بعد القضاء، وبَردَ العيش بعد الموت، ولذَّة النظرِ إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك))...
وشوقك لربِّك ولإرضائه أفناه رَيْن الشُّبهات والشهوات، وأهلكته جوائِحُ المعاصي، ومرور الأزمنة دون كدحٍ إلى الله، فتحتاج يا بن الإسلام إلى بعث هذا الشَّوق من جديد لو كان ميتًا، أو استثارته إن كان موجودًا كامِنًا.


فما هي أهمُّ العوامل التي تُساعدك على هذا الأمر العظيم؟!
• مطالعة أسماء الله الحُسْنى وصفاته العُلَى
وتدبُّر كلامه، وفَهْم خطابه؛ فإنَّ مِن شأن هذه المطالعة والفهم والتدبُّر فيها أن يَشْحذ من القلب همَّةً للوصول إلى تجليات هذه الأسماء والصفات والمعاني، فتتحرك كوامن المعرفة في القلب والعقل ويأتي عندئذٍ المدد، وراجِعْ لزامًا كلام ابن القيِّم في الفائدة: 36 من فوائد الذِّكر من كتابه:
"الوابل الصيب"، وتأمَّل قصة أبي الدَّحْداح - رضي الله عنه - في فهمه كلام ربِّه، كيف حرَّك أريحته، وألبسه حُبَّ البَذْل؛ فعن عبدالله بن مسعودٍ قال: لمَّا نزلَت هذه الآية:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
[البقرة: 245]
قال أبو الدَّحداح الأنصاريُّ
وإن الله يريد منَّا القرض؟
قال: ((نعَم يا أبا الدحداح))
قال: أرنِي يدَك يا رسول الله
قال: فناولَه رسولُ الله يده
قال: فإنِّي أقرضتُ ربِّي حائطي
قال: حائطه له ستّمائة نخلة
وأمُّ الدحداح فيه وعيالها
قال: فجاء أبو الدحداح
فنادى: يا أمَّ الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرُجي من الحائط؛ فإنِّي أقرضتُه ربِّي - عزَّ وجلَّ.
وفي روايةٍ أخرى أنَّها لما سَمِعته يقول ذلك، عمدَتْ إلى صبيانها تُخرج ما في أفواههم، وتنفض
ما في أكمامهم، فقال النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((كم من عِذْقٍ رَدَاح في الجنَّة لأبي الدحداح))
والعِذْق من النخل كالعنقود من العنب، "رَداح"؛ أيْ: ثقيل؛ لكثرة ما فيه من التَّمر، والقصة في
"الإصابة" و"صِفَة الصفوة".
وتأمَّل - رعاك الله من عَطَنِ الشُّبهات - كيف فَهِم الصحابيُّ من كلام الله - عزَّ وجلَّ - المعنى الظَّاهر بدون أن يكون في قلبه تردُّد أو تهيُّب؛ وذلك لأن شجرة إيمانه قامت على ساق التَّنْزيه، ولابن القيِّم - رحمه الله - مقالاتٌ رائقة حول كثيرٍ من الأسماء والصفات، جمعَها بعضُهم في كتابٍ مستقل، وللغزاليِّ رسالة اختصرها النبهانيُّ في "مختصر المقصد الأسني" لا تخلو من هَناتٍ تَظهر لممارِس الكتاب والسُّنة، والله المستعان.
• مطالعة مِنَن الله العظيمة وآلائه الجسيمة
فالقلوب مَجْبولة على حُبِّ من أحسن إليها؛ ولذلك كَثُر في القرآن سَوْق آيات النِّعم على الخلق والفضل؛ تنبيهًا لهذا المعنى، وكلَّما ازددْتَ علمًا بنعم الله عليك ازددتَ شوقًا إلى شكره على نعمائه.
• التحسُّر على فوات الأزمِنة في غير طاعة الله
بل على قضائها في عبادة الهَوى، وهذا اللَّحظ - كما يقول ابن القيِّم - يؤدِّي به إلى مُطالعة الجناية، والوقوف على الخطر فيها، والتَّشمير لتداركها والتخلُّص من رقها، وطلب النَّجاة بتمحيصها.
• تذكُّر سَبْق السابقين مع تخلُّفك مع القاعدين
يورثك هذا تحرُّقًا للمسابقة والمسارعة والمنافسة
وكلُّ ذلك أمر الله به:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
[آل عمران: 133]
﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
[الحديد: 21]
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ
[المطففين: 26]...
واعلم - أخي يا بن الإسلام - أنَّ بعث الشوق وظيفةٌ لا ينفَكُّ عنها السائرُ إلى الله، ولكن ينبغي مُضاعفة هذا الشوق قبل رمضان؛ لِتُضاعف الجهد فيه، وهذا الشوق نوعٌ من أنواع الوَقود الإيمانيِّ الذي يحفِّز على الطاعة
ثم به يذوق المتعبِّدُ طعم عبادته ومناجاته.
ومجالات الشوق عندك كثيرة؛ أعظمها وأخطَرُها الشوق إلى رؤية وجه الله - تعالى - ويمكنك أن تتمرَّن على قراءة هذا الحديث، مع تحديث نفسك بِمَنْزلتها عند الله، وهل ستَنال شرف رؤيته أوْ لا؟
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه مسلمٌ:
((إذا دخل أهل الجنَّةِ الجنةَ يقول الله - تعالى -: تريدون شيئًا أَزِيدكم؟ فيقولون: ألَم تبيِّضْ وجوهنا؟ ألم تُدْخِلنا الجنة، وتُنجِّنا من النَّار؟ فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النَّظر إلى ربِّهم)).


وفي مجالات الشوق:
الشوق إلى لقاء الله وإلى جنَّتِه ورحمته، ورؤية أوليائه في الجنَّة، وخاصة الشوق إلى لقاء النبيِّ
- صلَّى الله عليه وسلَّم - في الفردوس الأعلى.
واعلم أنَّ لهذا الشوق لصوصًا وقُطَّاعًا يتعرَّضون لك، فاحذر الترَفُّه - وخاصَّة في رمضان - واحذر فتنةَ الأموال والأولاد والأزواج، خَلِّفْهم وراءك ولا تلتفِت، وامضِ حيث تُؤمَر
واجعل شعارك في شهر رمضان:
﴿ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
[طه: 84].
قال الشاعر
فَحَيَّهَلاَ إِنْ كُنْتَ ذَا هِمَّةٍ فَقَدْ

حَدَا بِكَ حَادِي الشَّوْقِ فَاطْوِ الْمَرَاحِلا

وَلاَ تَنْتَظِرْ بِالسَّيْرِ رُفْقَةَ قَاعِدٍ
وَدَعْهُ فَإِنَّ العَزْمَ يَكْفِيكَ حَامِلاَ




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18-04-2020, 03:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة


عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان
(2)
محمود العشري
القواعد الحسان في الاستعداد لرمضان
القاعدة الثانية:
معرفة فضل المواسم، ومِنَّة الله فيها، وفرصة العبد فيها:
قال ابن رجب - رحمه الله -: وجعَل الله - سبحانه وتعالى - لبعض الشُّهور فضلاً على بعض، كما قال - تعالى -:
﴿ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
[التوبة: 36]



وقال - تعالى -:
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
[البقرة: 197]
وقال - تعالى -:
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
[البقرة: 185].
كما جعل بعض الأيَّام والليالي أفضلَ مِن بعض، وجعل ليلة القَدْر خيرًا من ألفِ شهر، وأقسم بالعشر، وهي عَشْر ذي الحجة على الصَّحيح، وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلاَّ ولله - تعالى - فيه وظيفةٌ من وظائف طاعتِه، يُتقرَّب بِها إليه، ولله فيه لطيفةٌ من لطائف نفحاته، يُصيب بها مَن يعود بفضله ورحمته عليه؛ فالسَّعيد مَن اغتنم مواسم الشُّهور والأيام والساعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطَّاعات؛ فعسى أن تصيبه نفحةٌ من تلك النفحات، فيَسْعدَ بها سعادةً يأمن بعدها من النار وما فيها من اللَّفحات.


وقد خرَّج ابنُ أبي الدُّنيا والطبرانيُّ وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
((اطْلُبوا الخير دهْرَكم كلَّه، وتعرَّضوا لنفحات ربِّكم؛ فإنَّ لله نفحاتٍ من رحمته يُصيب بها مَن يشاء من عباده
وسَلُوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم))
وهو في "ضعيف الجامع".
وفي "الطَّبراني" من حديث محمد بن مَسْلَمة مرفوعًا:
((إنَّ لله في أيام الدهر نفحاتٍ فتعرَّضوا لها؛ فلعلَّ أحدَكم أن تُصِيبه نفحةٌ فلا يشقى بعدها أبدًا))
والحديث في "صحيح الجامع".
وفي "مسند الإمام أحمد" عن عقبة بن عامر عن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:
((ليس مِن عملِ يومٍ إلاَّ يُختم عليه))
والحديث في "صحيح الجامع".
روى ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن مُجاهد، قال: "ما من يومٍ إلاَّ يقول: ابْنَ آدم، قد دخلْتُ عليك اليوم، ولن أرجع إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل فِيَّ، فإذا انقضى طواه، ثم يختم عليه، فلا يفكّ حتى يكون الله هو الذي يَفُضُّ ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أراحني من الدُّنيا وأهلها! ولا ليلة تدخل على الناس إلاَّ قالت كذلك"، وبإسناده - أي: ابن أبي الدُّنيا - عن مالك بن دينار.



وعن الحسن قال: "ليس يومٌ يأتي من أيام الدُّنيا إلا يتكلَّم، يقول: يا أيُّها الناس، إنِّي يوم جديد، وإنِّي على ما يُعمل فيَّ شهيد، وإنِّي لو قد غربَت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة"، وعنه أنه كان يقول: "يا بْنَ آدم، اليوم ضيفك، والضيف مرتَحِل، يَحْمدك أو يذمُّك، وكذلك ليلتك"، وبإسناده عن بكرٍ المُزني أنه قال: "ما من يومٍ أخرجه الله إلى أهل الدُّنيا إلا ينادي: ابن آدم، اغتنِمني؛ لعلَّه لا يومَ لك بعدي، ولا ليلةٍ إلاَّ تنادي: ابن آدم، اغتنمني، لعلَّه لا ليلة لك بعدي"، وعن عمر بن ذرٍّ أنه كان يقول: "اعمَلوا لأنفسكم - رَحِمكم الله - في هذا اللَّيل وسوادِه؛ فإنَّ المغبون من غُبِن خير الليل والنَّهار، والمَحْروم من حُرِم خيرهما، وإنما جُعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربِّهم، ووبالاً على الآخَرين للغفلة عن أنفسهم، فأحْيُوا لله أنفُسَكم بذِكْره؛ فإنَّما تَحيا القلوب بذِكْر الله".
واعلم يا بن الإسلام - رحِمَني الله وإيَّاك - أنَّ معرفة فضل المواسم يكون بِمُطالعة ما ورد فيها من فضلٍ، وبما يحصل للعبد من الجزاء إذا اجتهد، ويمكنك مطالعةُ هذه النُّصوص والآثار في الكتب المَعنيَّة بالفضائل؛ كـ"رياض الصالحين" للنووي، و"الترغيب والترهيب" للمنذري، و"لطائف المعارف" لابن رجب.
القاعدة الثالثة:
تمارين العزيمة والهمة.
فإذا كان الأصوليُّون يعرِّفون العزيمة بأنَّها ما بُنيت على خلاف التيسير، كالصوم في السَّفَر لمن أطاقه، وعدم التلفُّظ بكلمة الكفر وإن قُتل، فإنَّ العزيمة عند أهل السُّلوك لها حظٌّ من هذا المعنى؛ فالعزيمة أو العزم عندهم هو استجماعُ قوى الإرادة على الفعل، وكأنَّ صاحب العزيمة لا رُخْصة له في التخلُّف عن القيام بالمهمَّة، بل هو مُطالَب باستجماع قوَّته، وشحذها، حتَّى يطيق الأداء.


وغالب مَن تكلَّم في هذا الباب لم يُشِر إلى أهمية تمارين العزيمة؛ أيْ: تحفيز الهِمَّة؛ لِتَقْوَى على المُجاهدة في الأزمنة الفاضلة، مع أنَّ الشرع أشار إلى ذلك باستحباب صوم شعبان لتتأهَّب النفس، وتَقْوى على صيام رمضان بسهولة، وكان من هَدْي النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قيام الليل أن يبدأ بركعتين خفيفتين؛ حتى تتريَّض نفْسُه ولا تضجر، وأشار الشاطبِيُّ في "الموافقات" إلى أن السُّنن والنوافل بمثابة التَّوطئة، وإعداد النَّفس للدخول في الفريضة على الوجه الأكمل.
وكثيرٌ من الناس يَعْقد الآمال بفِعْل جملة من الطَّاعات في شهر رمضان؛ فإذا ما أتى الشَّهر:
((أَصبح خبيثَ النفْسِ كَسْلان))؛ وذلك لأنَّه لم يحلَّ عقدة العادة والكسل والقعود.
والعزيمة لا تكون إلاَّ فيما لا تألَفُه النُّفوس أو لا تحبُّه، فتحتاج النَّفْسُ إلى المُجاهدة في معرفة فضل ذلك العمل المكروه إليها، ثم في مجاهدة وارِدَات العجز والكسل؛ ولذلك قال الله - تعالى - عن الجهاد:



﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
[البقرة: 216].
وتَمارين العزيمة من صميم القِيام بحقِّ شهر رمضان، وتحصيل المغفرة فيه؛ لأنَّه لا قوة للنَّفْس ما لم تُعِدَّ العدة للطاعة؛ قال - تعالى -:
﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ
[التوبة: 46]
وهاك أمثلةً من هذه التَّمارين؛ لِتَقيس عليها، والله يوفِّقك.
التَّمرين الأول:
التدريب على تجديد التوبة:
فأوَّل واجبٍ للاستعداد لرمضان: التوبة؛ وذلك لأنَّ التوبة وظيفة العمر، تَلْزم العبدَ في كلِّ لحظة من لحظات حياته، قال - تعالى -:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
[النور: 31]
وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَسْتغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّة، وكان يُسمَع منه في
المجلس الواحد مائة مرَّة يقول:



((ربِّ اغفر لي وتب عليَّ؛ إنَّك أنت التواب الرحيم))
كما أخرجه الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ.
وليست التوبة كما تُفعَل دائمًا، تقول: "تبتُ - بلسانك - أستغفر الله"، وقلبك لاهٍ غافل، أو تظنُّ أن التوبة هي التوبة من النَّظر إلى المتبرِّجات، أو التوبة من الكذب والغيبة والنميمة فقط لا غير، لا يا بن الإسلام!
إنني أريد التوبة هذه المرَّة من حياتك: أن نتوب إلى الله - تعالى - من نمط الحياة التي نعيشها، ومن نمط التَّفكير الذي نفكِّر به، توبة من الآمال العريضة التي نعيش لها، توبة من حياتنا كلِّها، أريد أن نتوب حقًّا، وأن نجوِّد التوبة، أريد أن نتدرب عمَلِيًّا على توبة جديدة جيِّدة.
أخي يا بن الإسلام، قبل دخول شهر رمضان جدِّد التوبة، وحسِّنها، وأتقِنْها، واصدقها، إنَّنا جميعًا بحاجةٍ إلى أن نتوب؛ لا من الذُّنوب والمعاصي فحسب - وإن كانت هي الأُولى والأَوْلى - ولكنَّنا بحاجة إلى توباتٍ أُخَر، نعم؛ أريد بعد التَّوبة من الكبائر الظاهرة والباطنة، والتوبة من المعاصي الملازمة والعارضة: أن نتوب من أشياء أُخَر، منها:
أولاً:
التوبة من تضييع الأوقات:
1 - الليل:



قال - تعالى -:
﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا
[النبأ: 10 - 11]
وقال - تعالى -:
﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
[الذاريات: 17 - 18].
وحين وصَف الله - تعالى - عباد الرَّحمن قال عنهم:
﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا
[الفرقان: 64]
فهذه وظيفة اللَّيل في الإسلام: السُّكون والراحة، والخلوة مع الله - تعالى - للتعبُّد، هذا هو ليل المسلمين، ولكن - مع شديدِ الأسف!
- انظر إلى ليل المسلمين هذه الأيَّام: يا حسرةً على العباد! تحوَّل ليلُ المسلمين إلى لعبٍ ولهو، ومعاصٍ وغفلة، وحوَّل بعضُهم
ليلَه نهارًا، ونهاره ليلاً، وضاع اللَّيل، ضمن الأوقات الضائعة!
ضاع الليل بساعاته الغالية، وأوقاته النَّفيسة، ضاع اللَّيل بِفُرَصِه الذهبيَّة، وفتوحاته الربَّانية، ضاع الليل وهم يقولون:
شهر رمضان شهر السَّهَر!
هذه فرصتُك - يا بن الإسلام - فتقرَّب إلى الله - تعالى - وتُبْ مِن تضييع ليلك في المعاصي واللَّهو، وأثبِت صدق توبتك هذه بقيامك بين يدَيْه تُناجيه وتَسْتجديه أن يغفر لك، واللهِ - يا بن الإسلام - فرصة، فلا تضيِّعها.
2 - الشُّرود الذِّهني في الفراغ:
أخي يا بن الإسلام، هل تمرُّ عليك أوقات تجلس صامتًا لا تفعل شيئًا؟! فقط تجلس شاخصًا ببصرك إلى الفراغ، وتفكِّر في لا شيء؟! هذا هو التَّجسيد الحقيقيُّ للغفلة، غفلة مُطْبِقة على القلب، على العقل، غفلة مستحكِمة، وكلَّما ازداد شُخوصك هذا زاد تمكُّنها منك، فتب إلى الله من ذلك، ولا تجلس فارغًا، اشغل لسانك وقلبَك بذِكْر الله، واشغل عقلك بالتفكُّر في هذا الذِّكْر، توبة يتبعها عملٌ صالِح.
3 - مأساة المواصلات:
كم من الوقت يضيع منك يوميًّا في المواصلات أخي يا بن الإسلام؟! على الأقلِّ ثلاث ساعات يوميًّا، وكلها تضيع في معصية الله؛ من الاختلاط بالنِّساء، وإطلاق البصَر، وغيرها، ولو شئت في هذه الساعات لذكَرْت الله، فاغتنم هذا الوقت ولا تضيِّعه؛ فإنه يكفيك لآلافٍ من الذِّكر يوميًّا.
أيضًا: جوِّد هذه التوبة بيقينك أنَّ هذه الفترة فرصة سانحة لذِكْر الله - تعالى - والانشغال به.
4 - النوم:
كثيرًا ما أكرِّر معك - يا بن الإسلام - أنَّ هذا الشَّهر يحتاج إلى هِمَّة عالية، وأصحاب العَشْر الساعات نومًا يوميًّا ليسوا ذوي هِمَّة عالية، بل أهل البطالة والكسل، فإذا قُلْتَ لي - كما يقول كثيرٌ غيرك -: إنني أحتسب نومي هذا لله، قلتُ لك: تحتسب عشر ساعات! بل وثمان أيضًا! كيف تحتسبها؟! الاحتساب أن تقول: يا رب، سأرقد فقط لأتقوَّى على طاعتك، وهل تتقوَّى على طاعة الله بعشر ساعات نوم؟!
أنا لن أحدِّد لك عدد ساعات نومك، ولكن أذكِّرك أن معظم هذا الوقت ضائعٌ من عمرك، فحدِّد أنت ما يكفيك، والتوبة من ذلك أن تتوب من الخِدَاع؛ بأن تعلم أنَّ الله الذي يُراقبك يعلم - سبحانه - ما يَكْفيك، فجوِّد التوبة ولا تُخادِع.
ثانيًا: التوبة من اللِّسان:
قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما عند التِّرمذي وصحَّحه الألبانيُّ:
((وأعوذ بك مِن شرِّ لساني))
وفي حديث معاذٍ المشهور
((وهل يكبُّ الناسَ على وجوههم في النَّار إلاَّ حصائدُ ألسنتهم))
وهو في "مسند أحمد" وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع".
فهل يجرُّ عليك لسانُك إلا كلَّ شر؟! فأنت إن تركتَه أهلكَك: كذب، غيبة، نميمة، بُهْتان، رياء، عُجْب، احتِقار، زنا... فاللَّهم إنا نعوذ بك من شرور ألسنتنا، ومن مآسي اللِّسان في عصرنا:
1 - مأساة التليفونات:
لا شكَّ أن ثورة الاتِّصالات التي حدثت في هذا العصر لها فوائد، ونفع الله بها المسلمين في جوانب، وخدمت الدَّعوة الإسلامية في نواحٍ متعدِّدة؛ لكن مأساة (التليفونات) في عصرنا عجيبةٌ، ولا بد لها من وقفة شرعيَّة، أيُّها الإخوة؛ فأكثر الناس اليوم يحمل أكثر من (تليفون) في جيوبه، والسُّؤال لك أيُّها الأخ المسلم الملتزم السُّنِّي، يا طالب الآخرة، ويا حريصًا على رضا الله: ماذا تصنع بهذا (التليفون)؟!
دعونا من المراوغة، وتعالوا نتكلم في الصَّميم: إنَّ وجود (التليفون) في يد كثيرٍ من الناس مجرَّد (مَنْظرة)، مِثل الناس، تقليد أعمى، فليس صاحبنا رجلَ أعمالٍ خطيرًا، ولا شخصيَّة مهمة، ولا يمثِّل (التليفون) بالنسبة له أيَّ دور ولا أثر، فما الذي كان؟!


الآفات الثلاثة التي يكرهها الله: ((قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال))، كما في الصَّحيحين، اجتمعَتْ تلك الآفات الثلاثة في (التليفون)، فليس في هذه الاتصالات إلا القيل والقال، وفواتير (التليفونات)، وثمن (الكروت) صار إرهاقًا للميزانيَّة يُقتَطع من فم الأولاد، فتُبْ أخي يا بن الإسلام، وألق عنك هذا الجهاز قبل دخول رمضان، تستجمع شمل قلبك، وتفرِّغ هَمَّك للطاعة، ويقلُّ الانشغال.
2 - القصص والحكايات والمنامات، وكرة القدم والفن:
اعلم أخي - يا بن الإسلام - أنَّ الكلام شهوة، حتَّى إنك تجد بعض الناس لا يكفُّ عن الكلام، وإنك إذا جلَسْت في مجلسٍ - وجرِّب ذلك - ساكتًا صامتًا تتأمَّل، نقِّل بصرك وأُذنك لتسمع الأطراف المتحاورة، تجد كلامًا فارغًا، وحواراتٍ سقيمةً، وحكايات عقيمة، قصصًا وحكاياتٍ، أخبارًا وروايات، كلها لا قيمة لها، تضرُّ ولا تنفع.
ومما زاد الطينَ بِلةً كثرة الافتراءات في ذِكْر المنامات، فتجد الكلَّ يؤلِّف ويحكي أنَّه رأى، والآخر يفتي ويؤوِّل، ومثله الكلام عن كرة القدم والفن... وأكثره زورٌ وبُهتان.
فتب إلى الله - أخي يا بن الإسلام - من القصص والحكايات قولاً وسمعًا، واغتنم الوقت بذِكْر الله - تعالى.
3 - الوصف والمبالغات والنفاق والمجاملات:
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الترمذيُّ وصححه الألباني:
((مِن حُسْنِ إسلام المرء تَرْكه ما لا يَعْنيه))
وآفة الاختلاط بالنَّاس، وبدافع الفضول البشريِّ، والاستشراف للاطِّلاع على أسرار الخلق؛ يجعل كل ذلك شغف الناس بكثرة الكلام، ولكن المصيبة الأكبر أن يَحْصل نوعٌ من المبالغات أو التوسُّع في الوصف الدَّقيق لموضوعات لا تَحْتاج ولا تحتمل، والأبشع من كلِّ ما مَرَّ: المُجاملات الزائفة الكاذبة، والنِّفاق الاجتماعي المتبادَل، فهل من توبةٍ من هذا الخطر المستطير الذي يهدِّد بخسفٍ ومسخ وقذف؟!
4 - التَّهريج والمزاح، والفحش والبذاء:
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الترمذيُّ وصححه الألباني:
((ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان، ولا الفاحش ولا البذيء))
وقال فيما رواه ابن ماجهْ وصححه الألباني:
((لا تُكْثِروا الضحك؛ فإنَّ كثرة الضحك تميت القلب)).
صار من سِمات الباطل في عصرنا خفَّة الدم - زعموا! - وليس أثقل من كذوبٍ فاحش، يستضحك الناس بالباطل، والأخبَثُ في الموضوع أن يُشارك في هذا الأمر مَن يلتزمون بالدِّين، ويُظهرون حبَّ اللهِ ورسولِه، فيحوِّلون أكثرَ المواقفِ جديةً إلى مزاح!
فاتَّقوا الله يا قوم، ونزهوا ألسنتكم عن فضول الكلام، فضلاً عن الفحش والبذاء، والتهريج والمزاح.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19-04-2020, 04:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة


عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان
(3)
محمود العشري
القواعد الحسان في الاستعداد لرمضان
ثالثًا: التوبة من العلاقات:
1 - معارف للظروف:
كثيرًا ما تسأل أحدهم: كم جزءًا قرأتَ من القرآن اليوم؟ ويكون الجواب: أنا أتمنَّى والله أن أقرأ؛ ولكن المشكلة، ليس هناك وقت! وحين تتساءل: أين ضاع الوقت؟ وكيف ضاع؟ فإنَّك ستجد أنَّ مِن أخطر ما يُضيع الوقت كثرةَ الاختلاط بالناس، إنَّنا نستهين بِمُكالمة لمجرَّد المجاملة، قد يضيع فيها نصف ساعة، ومصافحة و(كلمتين ع الماشي) بعد الصلاة أمام المسجد يضيع فيها نصف ساعة أخرى، وهكذا تضيع الأوقات بغير فائدة، والعبد مسؤولٌ عن عمره فيمَ أفناه؟!


فالرجاء - أخي يا بن الإسلام - قبل دخول رمضان أن تُحجِّم علاقاتك، أن تَختصر معارفك؛ فليس هناك مجال لأداء حقوق كلِّ هؤلاء.
والتوبة من هذا تكون بتحقيق الإخلاص في العلاقات، بإقامة صرح الحبِّ في الله
((وأن يُحِبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله))، فتنضبط العلاقات بضابط الحبِّ في الله، والبُغْض في الله، فتكون عبادة.
2 - مجاملات بالحرام:
في العلاقات الكثيرة المتشعِّبة لا بد من المُجاملة، وأحيانًا لا مجال للمجاملة إلاَّ بالكذب، أو على حساب الآخرين، وكلاهما حرام، فلا بدَّ من التوبة من المُجاملات: قل الحق ولو كان مُرًّا، والساكت عن الحقِّ شيطان أخرس، فلا تُجامِل بالحرام، وكُفَّ لسانَك.
3 - الاختلاط المحرَّم:
أكبر آفات العلاقات أن تكون العلاقةُ آثمةً بين رجل وامرأة، مهما زعَموا أنَّها علاقة بريئة، دعونا نكون صُرَحاء: ليست هناك علاقةٌ بريئة، كلها علاقات محرَّمة.
إننا يا قوم عبيد!
يحكمنا دينٌ يقوم على أمرٍ ونَهْي، وليس الحاكم في ذلك العادات والتقاليد، أو الهوى والشَّهوات، فتجب التوبةُ قبل دخول رمضان من كلِّ علاقةٍ آثِمة؛ حتى يطهر القلب.
رابعًا: توبة القلب:
1 - التوبة من الخواطر:
أحلام اليقظة مُتْعة بعض الناس، فإيَّاك أخي يا بن الإسلام أن يقتلك الوهم، عِشِ الحقيقة، وإيَّاك وأحلامَ اليقظة، إيَّاك من الخواطر الرديئة، اجعل خواطرك تحت السيطرة، لا تدَعْها تخرج من تحت يدك؛ إنَّك إذا تركْتَ الخواطر ترعى في قلبك وعقلك بغير ضابطٍ ولا رابط، فستعيش الوهم وتصدِّقه، كم من أناسٍ عاشوا وَهْمَ المشيخة، وهُم ليسوا على شيء، وآخَرون قتلَهم وهْمُ طلب العلم، وعاشوا أحلام اليقظة في ثياب فضفاضةٍ ليست من ثيابهم.


أخي يا بن الإسلام، قبل رمضان عشِ الحقيقة، وانْسَ الوهم، وتُبْ إلى الله - تعالى - واعلم أن انشغالك بالعمل يُخْرجك من هذا الوهم.
2 - التوبة من التعلُّق بغير الله:
قال - تعالى -:
﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا
[مريم: 81 - 82]
فإياك أخي يا بن الإسلام والتعلُّقَ بغير الله - تعالى - فالكلُّ سيَخْذلك، ويتخلَّى عنك، إلا الله العظيم، فلا تنشغِل بالآخرين، واجعل انشغالك به، تب من التعلق بالأسباب، والتعلُّقِ بغير الله، وتعلَّقْ به - سبحانه.


3 - التوبة من الأماني والتسويف وطول الأمل:
قال الحسن البصريُّ - رحمه الله -: "ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقرَ في القلب وصدَّقه العمل، وإنَّ قومًا غرَّتْهم أمانِيُّ المغفرة حتى خرجوا من الدُّنيا ولا حسَنة لهم، قالوا: نُحْسِن الظنَّ بالله، وكذَبوا؛ لو أحسَنوا الظنَّ لأحسَنوا العمل"؛ فاحذر أخي يا بن الإسلام مِن التَّسويف، واحذر من الاغترارِ بالأماني.
4 - التَّوبة من العُجْب والكِبْر والغرور ورؤيةِ النفس:
وهذه الأمراض أيضًا تقتل الإيمان، وتَذْهب بالعبد إلى الجحيم، فالمُعجب مُحْبطٌ عمَله، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْر، والغرور قتَّال، ورؤية النَّفْس تجعلك تَخْتال، فاحذر يا مسكين؛ فإنَّك لا تدري بمَ يختم لك، تب من كلِّ ذلك، وانكسر واخضع، وذلَّ لربك؛ لعلَّ أحد هؤلاء الذين تزدريهم قد سبَقك إلى الجنَّة بِمراحل، ولله في خلقه شؤون، فاحذر؛ عجِّل بالتوبة، ومن تواضع لله رفعه.
خامسًا: التوبة من الكسل:
1 - كم بين العلم والعمل:
ونحن على أبواب رمضان، والكلُّ - بلا استثناءٍ - يعرف فضائل رمضان، ويَحْفظ الوعودَ على الأعمال، ولكن ماذا أفاد هذا العِلم؟! وبمَ نفع الحفظ؟! أين العمَل؟!
تُبْ أيُّها المسكين من الكسل؛ فقد استعاذ النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - منه، فقالَ كما في الصَّحيحين:
((اللَّهم إنِّي أعوذ بك من الهمِّ والحزَن، والعجز والكسَل، والبُخل والجبن، وضلَع الدَّين، وغلَبة الرِّجال)) فاستعِذ بالله، وانتفض قائمًا، واعْمَل بما علِمْت، هذه توبة.
2 - ضعف اليقين في الوعد والوعيد:
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الترمذيُّ وصححه الألباني:
((من قال: سبحان الله وبحمده، غُرِسَت له نخلةٌ في الجنَّة))
إنَّ هذه الكلمة لا تستغرق أكثرَ من ثانيةٍ واحدة، فلو ثبت يقينُك في هذا الوعد، وأنَّك تَكْسب بالثَّانية الواحدة نخلةً في الجنة، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الترمذيُّ وصححه الألباني أيضًا:
((ما من نخلةٍ في الجنَّة إلا وساقُها من ذهب))
فوَزْنُ ساق نخلةٍ من ذهب مئات الكيلوات، هذا ثمن كلِّ ثانية من عمرك، وأنت تضيعه شذرَ مذَر! ولا تُبالي ولا تذَر! وإنما أُتِيتَ من ضعفِ يقينك، فلو ثبتَ يقينُك في ذلك الوعد ما ضيَّعت لحظةً من عمرك، وما ركَنْتَ إلى الكسل، وترْكِ العمل.


3 - التَرَخُّص المهين:
بعض الناس يريد التفلُّت من الدِّين، ولكن بِدين! فهو يبحث عن الرُّخص، ويتَّخِذ الخلاف بين العلماء مسوِّغًا للهروب، فكلُّ المسائل عنده فيها خلافٌ بين العلماء، وهو يرجِّح فيها بِهَواه، ويَخْتار ما يوافق شهوته، ويظنُّ أنه على شيءٍ:
﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ
[المجادلة: 18 - 19]
فتُبْ أخي يا بْنَ الإسلام من هذا الترخُّص المَهِين، واستعن بالله على الأخذ بالعزائم، والعمل الجادِّ المُثْمِر، والله المستعان.
وقد جعلت الكسل آخرَ هذه العناصر؛ حتى لا نكسل في التَّوبة، فلْنُسارع الآن، حالاً، ونَتُبْ إلى الله، فهذه توبةٌ لازمة، ليست لرمضان فحسب، ولكنها لازمةٌ استعدادًا للموت، فقد تموت الآن، في هذه اللحظة، إذًا: فتب يا عبد الله، ولا تسوِّف.
التمرين الثانِي:
التدريب على تهدئة نمط الحياة:
تخفيف سرعة حركة الحياة؛ تمهيدًا للتوقُّف في رمضان، والتخفيف من أعباء الدُّنيا، ومحاولة إزالة همومها العارضة، والحذر من الانشغال بها، والتلهِّي بها عن طاعة الله - تعالى - لا بد من رَوِيَّة، ولا بدَّ من دقَّة في التوفيق بين أعمال الآخرة التي هي خير وأبقى، وبين أعمال الدُّنيا التي هي ذاهبة زائلة.
إنَّنا نعيش في هذا الزمان حياةً مليئة بالحركة والسُّرعة، نعيش في هذه الأيام سرعة التَّغيير، ودوام التغيير، ومفاجأة التغيير؛ فلا توجد فرصة حقيقيَّة للإنسان للتفكير قبل التغيير، وهذه أكبر أخطاء هذا العصر؛ لذلك قبل رمضان نحتاج أن يُمْهِل الإنسانُ نفْسَه، يعطي نفسه فرصةً للهدوء الذِّهني والقلبي، فرصة لِمُراجعة نمط الحياة، وتهدئة هذه السُّرعة؛ ليحصل التروِّي والتعقُّل في أخذ القرار بإيثار الآخرة على الدُّنيا، فيكون الاستمرار؛ لأنَّ القرارات السريعة تتغيَّر بنفس السُّرعة، فهيَّا - أخي يا بن الإسلام - هيا أيها الحبيب، الهدوءَ الهدوءَ، والسكينةَ السكينةَ.
أخي يا بن الإسلام
قال الله - تعالى -:
﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
[البقرة: 185]
وقال جابرٌ - رضي الله عنه -:
"لا تَجْعَل يوم صومِك كيوم فِطْرِك"
لا تجعَلْهُما سواءً، لا بُدَّ من التَّغيير، إنَّه بمجرد ظهور هلال رمضان في السَّماء، تُفتح أبواب الجنَّة، وتغلَّق أبواب النار، وتُصَفَّد الشياطين، ويُنادي المنادي.
سبحان الله:
تغيُّر جذري عجيبٌ في الكون كلِّه، يجب أن يستشعره المؤمنُ صاحبُ العقل اليقظ والقلب الحي، ويحصل منه استقبالٌ لِهذا الشهر استقبالاً حقيقيًّا، فيظهر أثرُ ذلك الاستقبال في تغيير نمط الحياة؛ لأنَّه يتعامل مع الكون، فإذا تغيَّر الكون يجب أن يتغيَّر هو أيضًا؛ ولذلك فإنَّ أول ما تستقبل به هذا الشهر الكريم لِتُحْسِن استثماره على الوجه الأكمل: فكُّ الشدِّ العصبي في العراك مع الحياة لتحصيل المُصالحة، لا بُدَّ من عقد هدنة بين جميع الأطراف خلال هذا الشهر؛ لتصل إلى الهدف المنشود بسلامٍ: "العتق من النِّيران".
فاحرص - أخي الحبيب يا بن الإسلام - على:
(1) هُدْنةمع المناقشات والجدال:
في المَنْزل مع الزَّوجة والأولاد، واجتهد في تَهْيئة بيئةٍ رمضانيَّة إيمانية، قال - تعالى -:
﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا
[النحل: 80]
ويكون ذلك بما يَلي:
* محاولة فضِّ جميع المشاكل والمنازعات قبل دخول الشَّهر؛ حتَّى لا تُعَرقل طاعتك التي تريد القيامَ بِها، وحتَّى لا تعكِّر عليك جوَّك الإيماني.
* إجراء مَحاضر صُلْح بين جميع أفراد الأُسْرة، حتى تُنَقِّي البيئة من حولك من شائبة الاختلافات والخصومات، واعمل على أن توجِد جوًّا من المحبَّة والتوادِّ والتَّقارُبِ بينؤ أفراد الأُسْرة؛ فإنَّ ذلك مما يُيَسِّرُ السبيل أن يطيعوك ويطيعوا ربَّهم:
﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ
[الإسراء: 53].
* عَقْد اجتماعٍ طارئ وعاجل مع جميع أفراد الأسرة؛ للاتِّفاق على المبادئ والأصول التي سيتمُّ السير في ظلالها خلال شهر رمضان، ومن هذه المبادئ:


* التخلِّي عن التليفزيون ومشاهدته، وإقناعهم أنَّهم لن يخسروا شيئًا إذا فعلوا، وتعالوا نجرِّب أن نستبدل بذلك أعمالاً إيمانيَّةً، وقرباتٍ نافعة، وانتفع من مادَّة هذه الكتاب في هذه الأعمال والقربات.
* إيقاف سيول الأغاني الجارفة التي تَقْتل الإيمان.
* ضَبْط اللِّسان، والحذر من انحرافه إلى ما يغضب الله.
* إلغاء جميع السَّهرات والعزومات والدعوات، أو التَّقَلُّل منها قدر الإمكان.
* اتِّخاذ السُّبل الجادة لإنقاذ جميع أفراد الأسرة من النَّار؛ قال - تعالى -:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ
غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
[التحريم: 6].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 19-04-2020, 04:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

(2) هدنةٌ في العمل مع الزملاء والمسؤولين:
وذلك يكون بالتَّجاوز عن الخصومات، ومصالحة الجميع، ونسيان الخلافات، والبَدْء بصفحة نقيَّة بيضاء، لا نريد زوبعة المشاكل في العمل، ولا نريد الانشغال بقيل وقال، لا نريد ضياع الأوقات في فُضول الكلام، ولا بدَّ من الإصلاح بين المُتخاصمين، والوصول إلى حلٍّ وسط لإرضاء جميع الأطراف، بشرط ألاَّ يكون في معصية الله، قال - تعالى -:
ï´؟ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ï´¾
[الأنفال: 1].
نريد أن يكون تعامُلُك مع الزملاء في العمل مبنِيًّا على حصول المكاسب لك في الدِّين، وإن خسرْتَ الدُّنيا، ولا بدَّ كذلك من إتقان العمل وإحسانه، ولا سيَّما وأنت صائم تُراقب الله، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أبو يَعْلى، والطَّبَراني، وصحَّحه الألبانيُّ:
((إن الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتْقِنه)).
(3) إقامة هدنة مع نفسك؛ للتخلُّص من سموم القلب:
وسموم القلب خمسة: فضول الطَّعام، وفضول الكلام، وفضول النَّوم، وفضول الاختِلاط، وفضول النظر.


* فلْتَعقد هدنةً مع الطعام؛ فإذا أكل المرءُ كثيرًا، شرب كثيرًا، فنام كثيرًا، وخسر كثيرًا
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بِحَسْبِ ابنِ آدم لقيمات يُقِمن صلبَه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً، فثُلثٌ لطعامه، وثلُث لشرابه، وثلث لِنَفَسِه))
كما روى ابن ماجهْ وصحَّحه الألباني.
وقال - تعالى -:
ï´؟ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ï´¾
[طه: 81]
فلتكتَفِ بلقيماتٍ كما أُمِرت.
* ولتعقد هدنةً مع الكلام: رجاءً، أغلق فمَك في رمضان، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في "الصحيحين": ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخِر، فلْيَقُل خيرًا أو لِيَصمت)).


وانتبه؛ فكلُّ كلمة تخرج من فمِك فهي إمَّا لك وإما عليك؛ إما ثواب وإما عقاب، قال - تعالى -:
ï´؟ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ï´¾ [ق: 18]
وكثرة الكلام مَدْعاة للخطأ؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أحمد وصححه الألباني:
((من صمتَ نَجا))
فلا تتكلَّمْ إلا لطاعةٍ، وأحجم لسانَك عن قول ما لا يُرضي الله، فقد سُئل النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أكثرِ ما يُدْخِل النَّاسَ النارَ، فقال:
((الفَمُ والفرْج))
كما رواه أحمد، وصحَّحه الألباني.
وهما أيضًا سببٌ لدخول الجنَّة؛ فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في "صحيح البخاري":
((من يضمن لي ما بين لَحْييه وما بين رِجْليه، أضمَنْ له الجنَّة)).
وهذا يدلُّك على خطر اللِّسان، وخطر ما يخرج منه، فلا تتكلَّم - أخي يا بن الإسلام - إلاَّ إذا ترجَّحت المصلحة، أمَّا إذا تساوَت المصلحة مع المفسدة فلا تتكلَّم، فضلاً عن أن المفسدة إذا زادت فلا تتكلَّم.
* ولْتَعقد هُدنةً مع السَّرير: دعْه يستَرِح منك شهرًا، نحن نعترف أنَّ النوم نعمةٌ من الله - عزَّ وجلَّ - على عباده، لكن إذا أساء العبْدُ استخدامها، وتعدَّى بها إلى حدِّ الإفراط، أفسدَتْ قلبه؛ فاحذر كثرةَ النَّوم؛ حتَّى لا يضيع عمرُك، ويضيع دينك وقلبك.


كلَّما حدَّثتْك نفْسُك بالنَّوم والتكاسل في العبادة، فأغمِض عينك، وتخيَّل الجنَّة، وقل لنفسك: أترضَين أن نخسر الجنة؟! أتنامين وهناك من يسبقنا إلى الجنَّة؟! أما علمتِ أنَّ فلانًا يتلو القرآن الآن، وفلانًا يصلِّي من الليل الآن، فماذا سيفيدك النوم إذا سبقَكِ هؤلاء إلى الجنَّة بدرجاتٍ؟! ولذلك أنصحك - أخي يا بن الإسلام - أن تجعل لك صديقًا مخلصًا ذا همَّة عالية، تتنافس معه في العبادات
ï´؟ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ï´¾
[المطففين: 26].
* ولْتَعقد هدنة مع النَّاس: فأنفاسُ الناس دُخَان القلوب، ومُخالطة الناس بلاء، ولا سيَّما هذه الأيَّام، قال بعض السَّلَف: "هذا أوان السُّكوت، ولزوم البيوت"، فاحْذَر مُخالطة أهل الدُّنيا؛
فَإِنَّ خَلاَئِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي
فإن كان لا بدَّ من المُخالطة، فلتكن يسيرةً، ولتكن بالصَّالحين، وعليك بِذَوي الهمم العالية منهم.
* ولْتَعقد هدنة مع العين: أرِحْ بصرك حتى تنطلقَ بصيرتُك، وسبيل ذلك أن يسَعَك بيتُك، ولا تنطلق في الشَّوارع، اشْغَل نفسك ببعض الطاعات، لا تَجِدْ وقتًا للخروج، واشغل بصرك بالنظر إلى المصحف لا ترَ أحدًا.
(4) هدنة مع الوالدين والأرحام:
إن مجرَّد شعورك أن كلَّ الناس يحبُّونك، ويُعجبون بك، وأنه ليس لك أعداء، ولا أحد يَحْقِد عليك، هذا الشُّعور بِمُفرده يجلب راحة نفسيَّة، وهدوءًا قلبيًّا، وراحةَ ضمير، وراحة بالٍ، وكلها مطلوبةٌ يَحْتاج الإنسان إليها.
إنَّنا نطلب ذلك لا لنُعجَب بأنفسنا وراحتنا فقط، ولكن لنستطيع أن نَجْمع الهمَّ؛ كي نَعْبد ربَّنا كما ينبغي، فأحسن أخي إلى الجميع، وأرِح الجميع ولو على حساب نفسك، سامِح الكلَّ، وتنازل عن الحقوق، وأدِّ جميع الواجبات تُجَاه الجميع، ابْذل كلَّ ما تستطيع لعقد هدنة مع كلِّ مَن حولك من الأقارب.
(5) هدنة مع نفسك لِتَرك الذنوب والمعاصي:
هدنة في الحرب مع الله، قال - تعالى -:
ï´؟ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ï´¾
[البقرة: 229]
ابدأ فورًا بإقامة العهد مع النفس بالإقلاع عن الذُّنوب، والتوبة إلى الله، والعَزْمِ على عدم العودة بنيَّة حقيقيَّة صادقة.
(6) هدنة مع طول الغياب خارج المنزل، وكثرة الارتباطات والمواعيد واللقاءات:
تفرَّغ في رمضان لعبادة ربِّك، لِمُعالجة نفسك، والعمل على تهذيبها، أنت في فترة عنايةٍ مركَّزة للقلب، فلماذا تُكْثِر الخروج من البيت لغير فائدة؟! تشتري كذا! وتزور فلانًا! وتكلِّم فلانًا!
يُمْكِنُك أن تشتري حاجيات رمضان قبل دخوله؛ حتَّى لا تنشغل بغير العِبادة، يُمْكنك أن تشتري ملابس العيد قبل دخول رمضان، وتتركها حتَّى العيد، والأشياء الأخرى التي تُرِيدها في العيد اشتَرِها من الآن.
سأل عقبةُ بن عامر رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن النَّجاة، فقال:
((أمسِكْ عليك لسانَك، ولْيَسعْك بيتُك، وابْكِ على خطيئتك))
رواه الترمذيُّ، وصححه الألباني.
(7) هدنة مع كثرة الإنفاق والتبذير:
شُرع الصيامُ للتقليل من الطَّعام والشراب، ولكن - للأسف الشديد - تجد النَّاس يُنْفِقون مِن الطعام والشَّراب في رمضان ما لا يُنْفِقونه في غيره، والتَّبذير ليس من صفات المؤمنين، بل من صفات الشياطين، ويمكنك أن تتَّفِق مع الأسرة على أمورٍ، منها: الاتِّفاق على:
* الصَّدقة؛ فهي دليلٌ على صِدْق المرء في إيمانه، فاتَّفِق على أن تتصدَّق كلَّ يوم ولو بشيءٍ قليل؛ فإنَّ الله يضاعفه، تصدَّقْ أنت مرَّة، وأعط زوجتَك هي الأخرى تتصدَّق مرَّة، وأعط ولدَك يتصدَّق؛ ليتعوَّد الجميعُ على العطاء والبذل، والله يُضاعف لمن يشاء.
* الاجتهاد في تَفْطير صائمٍ، أو صائمين، أو ثلاثة، أو عشرة كلَّ يومٍ قدر استطاعتك؛ فإنَّ لك مثْلَ أجْرِه كلَّ يوم.
* إطعام المساكين ومساعدة المُحتاجين.
(8) هُدْنة مع العقول والقلوب من التَّفكير والتدبير للدنيا:
فالدُّنيا لا تستحِقُّ أن تفكر فيها؛ فهي أهون من ذلك، وأحقَرُ من أن تنشغل بها وتدبِّر لها، لذلك اجعل تفكيرك كلَّه في الآخرة:
* فكِّر في حسنةٍ جديدة تعمَلُها، ابحث عن عبادةٍ مهجورة لتقوم بها، ابحث عن ذِكْرٍ مهجور لا يقوله كثيرٌ من الناس، أو لم تَقُله أنت أبدًا، واذْكُر الله به، فكِّر كيف تجمع الحسنات، وتدَّخِر الأجر عند الله.


* فكِّر في خدمة المسلمين، كيف تخدمهم وتبذل الخير لهم؟
* فكِّر في خدمة الدِّين، كيف تخدم دينَك؟ وكيف تبذل في سبيله؟ تعطي شريطًا هديَّة، تقوم بإلقاء موعظة، تُهدي كتيبًا، تدعو رجلاً لترك التدخين، وتدعو آخَر للمحافظة على الصلوات، تقوم بعمل مجلَّة حائط، تقوم على حلقةٍ لتحفيظ القرآن وتجويدِه، تفكِّر في خدمة دينك، فدينُنا يحتاج إلى كلِّ يد تكتب عنه، وتُدافع عنه، وإلى كل لسان يُبَيِّنُ حقيقته وعظمته للناس، وإلى كل قلب ينبض بحبِّه، وأنصحك بكتاب "33 وسيلة لخدمة الدِّين" لشيخنا/ "رضا صمدي" - حفظه الله - فإنَّه ينفعك كثيرًا - إن شاء الله تعالى.
* فكر في لذَّةٍ أخروية، فكر كيف تفوز غدًا بالجنة؟ كيف تستشعر قرب الله إذا ذكَرْتَه؟ كيف تحقِّق الخشوع في الصَّلاة؟ كيف تخلو بربِّك في ساعة النُّزول الإلهيِّ؟ كيف تبكي بين يديه، وتفزع إليه، فتَشْعر بِقُربه منك، وقربك منه، وحبِّه لك؟ فكِّر دائمًا في الآخرة، كيف تَحْظى برضا الله عنك، وحُبِّه لك؛ فإنَّ ذلك أدعى إلى الوصول إلى كلِّ مأمول، والله - تعالى - المُسْتعان.
(9) هُدْنة مع استهلاك الأعضاء:
ففي رمضان أرِح عينيك بعدم التطلُّع إلى الدنيا وما فيها من شهوات، وأرِح أُذنيك من ضجيج الكلام وصخب الهموم والغموم والمُحرَّمات، وأرح رجليك من كثرة الانتقال هنا وهناك من غير فائدة، وأرح عقلَك من هموم الدُّنيا ونكدِها، وانشغل بالطاعات، وأرح معدتَك بعدم دسِّ الطعام فيها على الدوام، وأرح أمعاءك كذلك، وأرِح قلبك من التعلُّق بالبشر، والتعلُّق بالأسباب، اجمع هَمَّك - أخي يا بن الإسلام - وأرح جوارحك، تستَمْتِعْ بحبِّ الله - تعالى.
(10) هدنة مع الهموم:
أريدُك أن تطرح الهمومَ عن صدرك، لا تشغل ذِهْنَك بها؛ فهذا رجلٌ طلب منه أولادُه ملابس المدرسة، وكتب المدرسة، وكراريس المدرسة، فلم يَدْرِ من أين يأتي بالمال؛ لكي يشتري لأولاده ما يريدون، وظل الهمُّ في صدره، ونام وعقْلُه مشغولٌ بذلك، ولكنه استراح من ذلك الهمِّ فجأة! أتدرون ماذا حدث؟! مات! راحة أبديَّة من هذه الدنيا!


لذلك أقول لك: والله إن هذه الدُّنيا لا تستحقُّ أن تقتل نفسك من أجْلِها، ولذلك أيضًا: اجعل الهمَّ هَمًّا واحدًا، وهو رضا الله، اجعل هذا هَمَّك: أن تُرضي الله وحده، فلو رَضِيَ عنك، لنالك كلُّ بِرٍّ وخير، وبرَكةٍ وفضل.
هذا الهمُّ لا يُؤَجَّل، وجميع الهموم تُؤَجَّل، فليكن هَمُّك في رمضان هو عِتْقَ رقبتك من النَّار، والفوز برضوان الله العزيز الغفَّار - تبارك وتعالى.
فيا ابن الإسلام:
إذا كانت هذه الهدنة تامَّة، كانت الراحة التامَّة، فكان الاستقبال لرمضان بحفاوةٍ بالغة، وبداية مُوَفَّقة، وعناية مركَّزة، فتعيش رمضان حقيقةً كما ينبغي، وتحافظ دائمًا على إشراقتِه الإيمانيَّة، والله الموفق.
التمرين الثالث:
التدريب على تعظيم الشعائر:
غفلة القلب من أضرِّ الأشياء على العبد؛ ولذلك لا بدَّ في الاستعداد لرمضان من التدريب على يقظة القلب، ولا شكَّ أن من يقظة القلب أن يُراعي شعائر الله، وأن يعطيها حظَّها من التوقير والتعظيم وحِفْظ الحرمة، وهذا مطلبٌ خطير، يجب أن يُراعَى في رمضان.


يجب أن نكون من داخلنا خائفين قلقين أن يفوتنا رمضانُ من غير أن نُعتق من النار، ونُكتبَ من أهل الجنة؛ أصحابُ السبت لَمَّا لم يُعظِّموا أمْرَ الله في عدم الصَّيد يوم السبت مسخَهم الله قردةً:
ï´؟ فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ï´¾
[الأعراف: 166]
والله - تعالى - يقول:
ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ï´¾
[البقرة: 183]
فهذا أمرٌ وفَرْض، وشعيرة عظيمة، مَن عظَّمَها فهو التقيُّ؛ قال - تعالى -:
ï´؟ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ï´¾
[الحج: 32].
التَّمرين الرابع:
التدريب على استقامة القلب:
لكي نستعد لرمضان؛ لا بُدَّ من استقامة القلب، بأن يكون الله أحبَّ إلينا من كلِّ شيء، فنُقَدِّم محبَّتَه على كلِّ شيء، وأن نعظِّم أمره ونهيه؛ لأنَّ تعظيم الأوامر والنواهي من تعظيم الآمِر والنَّاهي، وأن نقوم بعمليَّة تطهيرٍ ظاهري وباطني، ويكون ذلك بأمورٍ، منها:
1- التعلُّق بالله:
أن يتعلَّق القلب بالله وحده، وإنَّ من أكبر عوامل فساد القلب التعلُّقَ بالأسباب، لا تظنَّ أنك بهذه الأسباب وحْدَها ستُوَفَّق لطاعة الله؛ بل لا بدَّ من عون الله لك، لا بدَّ أن يتعلق قلبُك بالله؛ فأنت لا حول لك ولا قوَّة، والحول والقوة لله وحده، ومن أخطر نتائج التعلُّقِ بالأسباب أن يَحُول الله بينك وبين قلبك: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ï´¾ [الأنفال: 24]، لا بدَّ لك من شوقٍ مُحْرق، يأخذ بيدك إلى ربِّك، وقد تناولتُ هذه المسألة من قبل.


2 - استيعاب القلب لأسرار الطاعات، واستلهام حلاوة الإيمان:
فإذا فَقِه القلبُ أسرار الطاعة، وذاق لذَّتَها، انصلح حالُه، وآفة أعمالنا أنَّها تجري على الشكليَّات والمناظر، وما يبدو في الظاهر، هكذا نشَأْنا؛ نؤدِّي العبادات كما رأينا آباءنا وأجدادنا يفعلون، دون دراسةٍ لأسرارها، أو فقهٍ لِرُوحها، ومن ثَمَّ ضاع أثرُها، فعُدْتَ ترى صلاةً بغير خشوع، وقرآنًا بغير تدبُّر، وصيامًا بغير تبتُّل، وحجًّا وعمرة بغير حبٍّ وشغَفٍ وشوق... كلُّ العبادات تؤدَّى شكليًّا أداءً للواجب؛ ولكن دون وعيٍ صحيحٍ بأسرار العبادة؛ فكانت النتيجة أن تجد أعمالاً بغير نتيجة، ولا أثر لها على شخصيَّة العبد، وعلى حاله مع الله!
إنَّنا - يا بن الإسلام - إذا أرَدْنا أن نذوق طعم العِبادة، ولذَّة الطاعة، فلا بُدَّ من معرفة حقيقيَّة لأسرار العبادة، ورمضانُ له أسرار، وأسرار الصِّيام أعظم، وسأَذْكُر لك - أخي يا بن الإسلام - طرَفًا من أسرار بعض العبادات فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
التمرين الخامس:
التَّرويض على الانكسار لله - عزَّ وجلَّ:
قال - تعالى -: ï´؟ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ï´¾
[العلق: 6 - 7]
إنَّ رؤية الإنسان لنفسه بعين الغِنَى تجرُّه إلى الطغيان ومجاوزة الحدِّ، فلا يليق بالمؤمن إلاَّ الفقر، وهو أصْلُ خِلْقته، ولكن هذا الفقر الداخليَّ يحتاجُ إلى استشعار حقيقيٍّ؛ لِيَظهر أثَرُه على الجوارح وفي الفكر والتعبُّد.
ومعلومٌ أن الفقر وصفٌ ذاتي لكلِّ مخلوق، وصفٌ لازم له، كما أن الغِنَى وصْفٌ ذاتِيٌّ للخالق - جلَّ وعلا -:
ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ï´¾
[فاطر: 15]
فلا بد أن تُظهر فقرَك وذُلَّك وانكسارَك بين يديه - سبحانه وتعالى - والطاعات مدَدٌ وأرزاق، وحينما تدخل على المَلِك وأنت فقيرٌ يعطيك، وإذا دخَلْتَ عليه وأنت مُسْتعلٍ طردَك؛ لا بُدَّ أن تدخل بفقرك وضعفك وحاجتك ومسكنَتِك.


وهذا الباب - باب الذُّل - بابٌ عظيم يوصل إلى رضا الربِّ الكريم - جلَّ جلاله - كما قال بعض السَّلَف: أتيتُ الله من الأبواب كلِّها، فوجدْتُها ملأى، فأتيتُه من باب الذُّل، فوجدتُه خاليًا.
إنَّ إظهارك الافتقار لله يستجلب لك رحمته وعفْوَه؛ فأنت فقيرٌ إلى الله، والله غنيٌّ عنك وعن عمَلِك، وكل ما تعمل من عملٍ إنَّما هو لِنَفع نفسك:
ï´؟ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ï´¾
[يونس: 108]
فالله - تعالى - لا تنفعه طاعةٌ، ولا تضرُّه معصية، ولو أنَّ خلْقَه كلهم؛ أوَّلَهم وآخرهم، وإنسهم وجِنَّهم كانوا على أتقى قلب رجلٍ منهم، ما زاد ذلك في مُلْكِه شيئًا، ولو أن أولهم وآخرهم وإِنْسهم وجِنَّهم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحد منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئًا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21-04-2020, 02:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة

عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان
(4)
محمود العشري
القواعد الحسان في الاستعداد لرمضان
القاعدة الرابعة:
نبذ البطالة والبطَّالين ومصاحبة ذوي الهمم:
ليس هناك أشأَمُ على السائر إلى الله من البطالة وصُحْبة البطَّالين؛ فالصاحب ساحبٌ، والقرين بالمقارن يقتدي، "والبُرْهان الذي يعطيه السَّالكون - علامةً لصدقهم - أنَّهم يأبون إلاَّ الهجرة والانضمامَ إلى القافلة، ويَذَرون كلَّ رفيق يثبِّطهم ويزين لهم إيثار السلامة، ينتَفِضون ويهجرون كلَّ قاعد، ويهاجرون مع المهاجرين إلى الله، ويَطْرحون أغلال الشَّهوات وحُبَّ الأموال عن قلوبهم".
ولما أراد قاتِلُ المائة أن يتوب حقًّا، قيل له: اُتْرُك أرضك؛ فإنَّها أرض سوء، واذهب إلى أرض كذا وكذا؛ فإنَّ بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم - وقصَّته في الصحيحين - فلا بُدَّ لمن أراد تحصيل المغفرة من شهر رمضان أن يترك المُخلِدين إلى الأرض، ويُزامل ذوي الهمم العالية، كما قال الجُنَيد: سيروا مع الهِمَم العالية.


وقد أمر الله خير الخلق - صلَّى الله عليه وسلَّم - بصحبة المُجِدِّين في السَّير إلى الله وترك الغافلين
فقال - عزَّ من قائلٍ -:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
[الكهف: 28]
وقال: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان: 15]
وقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ﴾ [التوبة: 119].
فلو صحب الإنسانُ من يظنُّون أنَّ قيام ساعة من الليل إنجازٌ باهر، فهو مغبون لن يعدو قدْرَه، بل سيظَلُّ راضيًا عن نفسه، مَانًّا على ربِّه بتلك الدقائق التي أجهد نفسه فيها، ولكنَّه لو رأى الأوتاد من حوله تقف الساعات الطِّوال في تهجُّد وتبتُّلٍ وبكاء - وهم مُتَقالُّوها - فأقلُّ أحواله أن يظل حسيرًا كسيرًا على تقصيره.


ونبْذُ البطالةِ هِجِّيرى الناسكِ - دأبُه وشأنه وعادتُه - في كلِّ زمان، وقد قيل: طلَبُ الراحة للرِّجال غفلة، وقال شُعْبة بن الحجَّاج البصريّ - أميرُ المؤمنين في الحديث -: "لا تقعدوا فراغًا؛ فإن الموت يطلبكم"، وقال الشافعيُّ: "طلب الراحة في الدُّنيا لا يصحُّ لأهل المروءات؛ فإنَّ أحدهم لم يزل تعبان في كلِّ زمان"، وقيل لأحد الزُّهَّاد: كيف السبيل ليكون المرءُ من صفوة الله؟ فقال: "إذا خلع الرَّاحةَ، وأعطى المَجْهود في الطاعة"، وقيل للإمام أحمد: متى يَجِدُ العبْدُ طعم الرَّاحة؟ فقال: "عند أوَّل قدمٍ يضعُها في الجنَّة".
أما البحث عن ذوي الهمم والمروءات، وأصحاب السرِّ مع الله، فهي بُغية كلِّ مُخْلِص في سيره إلى الله، قال زين العابدين: "إنَّما يجلس الرَّجلُ إلى من ينفعه في دينه"، وقال الحسن البصري: "إخواننا أحبُّ إلينا من أهلنا وأولادنا؛ لأن أهلنا يُذكِّروننا بالدُّنيا، وإخواننا يُذَكِّروننا بالآخرة"، قال شاعر:


لَعَمْرُكَ مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةٍ


وَلَكِنَّ إِخْوَانَ الثِّقَاتِ الذَّخَائِرُ


وكان من وصايا السَّلف انتقاءُ الصُّحبة، فاجتهد أيُّها الأريب باحثًا عن أعوان المسير أصحاب الهمم العالية، ابحث عنهم في المساجد بالضَّرورة، اسأل عنهم في مجالس التُّقاة، لا تستبعد المفاوز لتصل إليهم.
مع هذه الصُّحبة تتعاونون على تَدارُك الثَّواني والدقائق، تُحاسِبون أنفسكم على الزَّفرات والأوقات الغاليات، لو فرَّط أحدُكم في صلاة الجماعة وجد من يستحِثُّه على عقاب نفسه كما كان يفعل ابن عمر.


ترى البطَّالين يصلُّون التراويح سويعة، ثم يسهرون ويسمرون ويسمدون، وتضيع عليهم صلاة الفجر:
﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
[الكهف: 104]!
لا أيها الرَّشيد؛ تعال أُخْبِرْكَ بحال مَن اجتمعوا على السَّيْر إلى الله: أوقاتهم بالذِّكْر وتلاوة القرآن معمورة، مساجدهم تهتزُّ بضجيج البكاء من خشية الله، تراهم ذابلين من خوف الآخِرَة، وعند العبادة تراهم رواسِيَ شامخاتٍ كأنَّهم ما خُلِقوا إلا للطَّاعة، ليس في قاموسهم: فاتَتْني صلاة الجماعة، دَعْ عنك أصل الصَّلاة، تراهم في قيامهم وقعودهم خاشعين، كأنَّهم على حياءٍ من الله يقولون: سبحانك ما عبَدْناك حقَّ عبادتك!
ليلهم، وما أدراك ما ليلهم؟! نحيب الثَّكالى يتوارى عند نشيجهم:
﴿ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
[الأنفال: 6]
صلاتُهم في الظَّلام تُجَلَّل بأنوار الكرامة، فهُم في حُلَلها يتبخترون، وببهاء مُناجاتهم لربِّهم يتيهون، مَحَا استغفارُ الأسحار سخائمَ - أحقادَ - قلوبِهم، فهم في نعيم الأنس يتقلَّبون، وبلذيذِ الخِطَاب يستمتعون.


واعلم أيُّها النبيه أنَّ مِن تمام سعيك لتحصيل المغفرة من شهر رمضان أن تبحث لك عن شيخٍ مُرَبٍّ أريب، قد يكون ظاهرًا أو خفيًّا، قد يكون عالِمًا أو طالب علم، ولكنَّك من لَحْظِه ولفظه تعلم أنَّه صاحب سرٍّ مع الله، ومثل هؤلاء يشتهر أمرهم غالبًا بين الناس، وإن بالغوا في التخفِّي؛ فلن تعدم من يدلُّك عليهم إذا أكثرت التَّسْآل عنهم، وشرط انتفاعك بهم أن يكونوا من أهل السُّنة، والنُّسك السَّلفي، فهؤلاء هم أمَنة الأمَّة وهُداتها.
ومثل هؤلاء تنتفع بِهَديهم ودَلِّهم وسَمْتِهم، وبِفعالهم قبل أقوالهم، تراهم في الصَّلاة نَمُوذجًا للتبتُّل والتنسُّك، تكبيرتهم في الصَّلاة - وإن خفتَتْ بها أصواتهم - فكأنَّها صرخة في مجرَّات الكون بحقيقة أكبريَّة الله - عزَّ وجلَّ - ركوعهم وسجودهم رمز السُّجود لكلِّ الكائنات، إذا أبصرَتْ عيناك عبادتَهم ودِدْتَ لو سبَّحَت الخليقة كلُّها بتسبيحهم، ولعلَّها تفعل! أَمَا قال الله - تعالى - عن داود:
﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ
[ص: 18 - 19]
فاللَّهم إنا نسألك صحبة الصَّالِحين، وألْحِقنا بهم يا ربَّنا في جنات النعيم.
القاعدة الخامسة:
إعداد بيانٍ عن عيوبك وذنوبك المستعصية، وعاداتك القارَّةِ في سُوَيداء فؤادك:
لتبدأ علاجها جديًّا في رمضان، وكذا إعداد قائمة بالطاعات التي ستجتهد في أدائها؛ لِتُحاسب نفسك بعد ذلك عليها، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه البخاري:
((إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبَل، يخاف أن يقع عليه، وإنَّ الفاجر
يرى ذنوبه كَذُباب مرَّ على أنفه، فقال به هكذا))
لأن هِمَّة أبناء الآخرة تأبى إلاَّ الكمال، وأقل نَقْص يعدُّونه أعظمَ عيب، قال الشاعر:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا
كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ


وعلى قدْرِ نفاسة الهِمَّة تشرئبُّ الأعناق، وعلى قدر خساستها تثَّاقل إلى الأرض، قال الشاعر:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ الْمَكَارِمُ




وهذا ردٌّ على من يقول: ومن لنا بِمَعصوم عن عيبٍ غير الأنبياء، ويردِّد:
وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْجَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا
كَفَى الْمَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ
فإنَّ هذه القاعدة في التعامل مع الناس، أمَّا معاملة النَّفس - أيُّها الأريب - فهي مبنيَّة على التُّهمة، وعلى طلب الكمال، وعدم الرِّضا بالدُّون:
فَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا
تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ


فذاك السَّالك دومًا يستكمل عناصر الإيمان، كلَّما علم أنَّ ثَمَّة ثلمة، يعزم لذلك عزمة - تأمَّل - فإذا شرع في الاستكمال، أدرك ضرورة الصَّفاء فيه، وأن يرفأ ويَرتُق بجنس ما وهبه الله مِن خير آنفًا؛ لئلاَّ يفضحه النَّشاز - وجود العيب مع خصال الحُسن - فيعزم لذلك عزمةً أخرى، فثالثة، تستدعي رابعة... في نهضات متواليةٍ حتَّى يصيب مُراده - أي: استِكمال عناصر الإيمان.


هذه العزمات المتوالية تستحِثُّها في كلِّ زمان، ولكن قد يتسرطَنُ عيب، ويتجدَّر ذنب، وتتأصَّل عادة، ولا يُجْدِي مع مثل هذا أساليبُ علاجٍ تقليديَّة، إنما هي عمليَّة جراحية استئصالية، تتطلَّب حِمْيَةً متوفرة في شهر رمضان، وهِمَّةً شحذْتَها قُبيل هذا الزمان المُبارك، فما بقي إلاَّ أن تضع مبضع العزيمة الحادَّ - وبِجَلَدٍ وصبرٍ - على آلام القطع تستأصل تلك الأورام النَّاهشة في نسيج إيمانك وتَقْواك، لا تستعمل أي مخدِّر؛ فإنَّ شأن المخدِّر أن يسافر بك في سمادير السَّكارى، وأوهام الحيارى، فتُفيق دون أن تدري بأيِّ الورم لم يُستأصل بكامله، بل بقيَتْ منه مُضغةٌ متوارية ريثما تتسرطن ثانية، فإذا كنت مدخِّنًا أو مبتلًى بالنَّظر أو الوسوسة أو العشق، فبادِرْ إلى تقييد كلِّ هذا البلاء، وابدأ العمليَّات الجراحية في شهر رمضان، ولا تتذرَّع بالتدرُّج الذي سميناه مخدِّرًا، بل اهجر الذَّنب، وقاطع المعصية، وابتُر العادة، ولا تجزع من غزارة النَّزيف وشدَّة الآلام؛ فإنَّه ثَمن العلاج الناجح، وضرورة الشِّفاء الباتِّ الذي لا يغادر سقمًا - إن شاء الله تعالى.
ووَجْه كون شهر رمضان فرصةً سانحة لعلاج الآفات والمعاصي والعادات: أنَّه شهر حِمْيَة؛ أي: امتناع عن الشَّهوات - طعامٍ وجِماع - والشهوات مادَّة النُّشوز والعصيان، كما أنَّ الشياطين فيه تُصفَّد - وهم أصل كلِّ بلاء يصيب ابنَ آدم - أضف إلى ذلك: جماعيَّة الطاعة، حيث لا يبصر الصائم في الغالب إلاَّ أُمَّةً تصوم، وتتسابق إلى الخيرات، فتضعف هِمَّتُه في المعصية، وتَقْوى في الطاعة، فهذه عناصر ثلاثة مهمَّة، تتضافر مع عزيمة النفس الصادقة للإصلاح، فيتولَّد طقسٌ صحِّي، وظروفٌ مناسبة لاستئصال أي داء.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 21-04-2020, 02:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان


وقبل كلِّ ذلك وبَعْدَه: لا يجوز أن ننسى ونغفل عن ديوان العُتَقاء والتائبين والمَقْبولين الَّذي يفتحه الربُّ - جلَّ وعلا - في هذا الشهر، وبنظرةٍ عابرة إلى جمهور المتديِّنين تجد بداياتهم كانت بِعَبرات هاطلة في سكون ليلةٍ ذات نفحاتٍ من ليالي رمضان.
وما لم تتحفَّز الهمم لعلاج الآفات في هذا الشهر؛ لن تبقى فرصةٌ لأولئك السالكين أن يَبْرؤوا، فمن حُرِم بركة رمضان ولم يبْرَأ من عيوب نفسه فيه، فأي زمان آخر يستظلُّ ببركته؟!
وفي "صحيح ابن خُزَيمة" أنَّ جبريل قال:
((مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفَر له فدخل النَّار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلتُ - أي: النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال -: آمين))
والحديث صحيح، وروى الطَّبراني بسندٍ ضعيف عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((بُعْدًا لمن أدرك رمضان فلم يُغفَر له، إذا لم يغفر له فمتَى؟))
وروى الطبرانيُّ بإسنادٍ فيه نظر عن عُبَادة بن الصامت مرفوعًا:
((أتاكم رمضان، شهر برَكة، يغشاكم الله فيه، فيُنْزِل الرَّحمة، ويحُطُّ الخطايا، ويستجيب فيه الدُّعاء، ينظر الله - تعالى - إلى تَنافُسِكم فيه، ويباهي بكم ملائكتَه، فأروا الله من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقيَّ من
حُرِم فيه رحمة الله))


أما استِحْضار أنواع الطَّاعات وتقييدها وتَوْطين العزيمة على أدائها في رمضان، فهو من أهمِّ ما يُستعدُّ له في هذا الشهر، وعلى هذا الأصل تُحْمَل كلُّ النصوص الواردة في فضل رمضان والاجتهاد فيه، فمعظمها صريحٌ أو ظاهر في أنه قيل قبل رمضان، أو في أوَّله.
ويُمَنِّي بعض الخياليِّين نفسه بأمانيِّ العزيمة التي لا تَعْدو أن تكون سرابًا يحسبه الظَّمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجِدْه شيئًا، فنراه يحلم أحلامًا ورديَّة بأن يجتهد في هذا الشهر اجتهادًا عظيمًا، وتراه يرسم لنفسه صور الحلال، وأُبَّهة الولاية، فإذا ما هجم الشَّهر، قال المسكين: اليوم خمر، وغدًا أمر، ولو أنَّ هؤلاء كانت لهم قبل شهر رمضان جولاتٌ في ميادين الاجتهاد في الطاعة لأَنِسُوا من نفوسهم خيرًا، لكنهم طمعوا في نوال القُرب ولَمَّا يستكملوا زاد المسير، كمثَل من ذهب إلى السوق بلا مال، فلا يجهد إذًا نفسه في المساومة، بل يُقال له: تَنكَّب؛ لا يقطرك الزَّحام.


لما قال أنس بن النَّضر لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد غزوة بدر: يا رسول الله، غبت عن أول قتالٍ قاتَلْت فيه المشركين، والله لئن أشهدَني الله قتالَ المشركين ليَرَيَنَّ الله ما أصنع، ثم روَوْا لنا أنَّهم وجدوه في أُحُد صريعًا به بضعٌ وسِتُّون ضربة؛ ما بين ضربةٍ بسيف، أو طعنةٍ برمح، أو رمية بسهم، فعَلِمنا ما أضمر الرَّجُل.
ولَمَّا قال ذلك الصحابيُّ: يا رسول الله، ما بايعتُك إلاَّ على سهم يدخل هاهنا، فأدخل الجنَّة، قال له الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((إن تَصْدُق الله يَصْدُقكَ))
ثم رووا أن السَّهم دخل من موضع إشارته، فعلمنا ما عزَم عليه الرجل.
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ الْمَكَارِمُ


وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا
وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ العَظِيمِ العَظَائِمُ



القاعدة السادسة:
الإعداد للطاعة ومحاسبة النفس عليها:
وهما وظيفتان متبايِنَتان، لكنَّهما متداخِلتان؛ أيْ: يتعاقبان، ويتوارد أحَدُهما على الآخَر؛ أمَّا الإعداد للعمل، فهو علامة التوفيق، وأمَارة الصِّدق في القصد:
ï´؟ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ï´¾
[التوبة: 46]
والطاعة لا بدَّ أن يُمَهَّد لها بوظائفَ شرعيَّةٍ كثيرة حتى تؤتِيَ أُكلها، ويُجتَنى جَناها، وخاصَّة في شهر رمضان؛ حيث تكون الأعمال ذات فضلٍ وثواب، وشرَفٍ مُضاعف لفضل الزَّمان، فصلاة الجماعة لا بدَّ أن تُسبق بإحسان الوضوء، ونيَّةٍ صادقة حسَنة في تحصيل الأجر، وزيارة الله - عزَّ وجلَّ - في بيته، وتعظيم أمره، والبِدار في تلبية ندائه: "حي على الصَّلاة"، والمسارعة في سماع خطابِه، والالتذاذ بِمُناجاته ولقائه.


فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((صلاة الرَّجل في جماعة تَضعُفُ صلاتَه في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنَّه إذا توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يُخرِجه إلا الصلاةُ، لم يَخْطُ خطوة إلاَّ رُفِعت له بِها درجةٌ، وحُطَّت عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تزَل الملائكة تصلِّي عليه ما دام في مُصلاَّه ما لم يُحدث، تقول: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحَمْه، ولا يزال في الصَّلاة ما انتظر الصلاة))
والحديث متَّفق عليه.
ويَحتفُّ بهذا الإعداد - في التطهُّر والنِّيات - إعدادٌ نفسي للُقْيا الله - عزَّ وجلَّ - ويكون ذلك بأمورٍ، منها: ترداد الأذكار الشرعيَّة الواردة عند الخُروج من البيت والمَشْي إلى المسجد؛ فإنَّها مهمَّة في حضور القلب، ومنها عدم فِعْل ما يتَنافى مع الوقار والطُّمَأنينة أثناء المَشْي إلى المسجد؛ كتشبيكِ الأصابع، وكثرة التلفُّت والتطلُّع إلى المارَّة، وزخارفِ وزهرة الدنيا - وخاصة في هذه العصور - وعدم الإسراع والسَّعي؛ وذلك أن المشي إلى الصلاة جزءٌ هامٌّ ممهِّد للخشوع في الصلاة؛ لذا قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((إذا أُقِيمت الصَّلاة فلا تأتوها وأنتم تسعَوْن، وأْتُوها وأنتم تَمْشون وعليكم السَّكينة))
والحديث متَّفَق عليه، وفي رواية لمسلمٍ:
((فإنَّ أحدَكم إذا كان يعمدُ إلى الصلاة فهو في صلاة))
ولا ينبغي أن يُكْثِر من الضَّحك قبل الصلاة وبعدها؛ فإنَّه يذهب لذَّة الخشوع، ويقسِّي القلب، ويَحُول بينه وبين الشُّعور بثمرة الطَّاعة.


وعند دخول المسجد لا بُدَّ أن يَدْخله معظِّمًا، مُظهِرًا الوجَل من مهابة المكان وصاحبه؛ فإنَّ المساجد منازِلُ الرحمة، ومهابط البَركات؛ لذا شرع أن يقول الدَّاخلُ إلى أيِّ مسجد: أعوذ بالله العظيم، وبوجهِه الكريم، وسُلْطانه القديم من الشيطان الرَّجيم.
فإذا دخل المسجدَ شَرع في السُّنة الراتبة أو النافلة، ريثما يُقام للصلاة، وأهمِّية هذه السُّنة أو النافلة تَكْمُن في تهيئتها وتمهيدِها للفريضة لكمال الحضور فيها.
ثم يَشْرع في صلاة الفريضة، مستحضرًا ما سأذكره عن وسائلِ تحصيل لذَّة الطَّاعة في الصلاة عند الكلام عن وسيلة المُحافظة على الصلاة - إن شاء الله.
ومن جنس هذا: الاستعدادُ لصلاة التراويح؛ فإنَّها من أعظم العبادات في ليالي رمضان؛ ففي الصحيح أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:
((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه))
وعن أبي ذرٍّ قال: صُمْنا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رمضان فلم يَقُم بنا شيئًا من الشهر حتى بقي سبعٌ، فقام بنا حتى ذهب ثُلث اللَّيل، فلما كانت السادسة لم يَقُم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلتُ: يا رسول الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة - أيْ: قُمْت بنا الليلة كلَّها - قال: فقال:
((إن الرجل إذا صلَّى مع الإمام حتَّى ينصرف حُسِب له قيام الليلة))
والحديث رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.


ويشكو كثيرٌ من المواظبين على قيام الليل في رمضان من عدم لَمْسهم لثمرة هذه الصَّلاة، مع اعتقادهم بأهميتها، وسَعْيِهم لبلوغ الغاية من أدائها، والحقُّ أن هذه الصلاة المهمَّة - كغيرها - تحتاج إلى إعدادٍ وتَهْيئة، فيَلْزم الراغب في الانتفاع من صلاة التراويح إقلالُ الطَّعام للغاية، ويُحبَّذ أن يأتي المسجد وفي بطنه مسٌّ من جوع؛ فإنه مُثْمِر جدًّا في حضور القلب، ويَنْبغي عليه أن يتطهَّر جيدًا، ويلبس أحسن الثِّياب، ويأتي الصلاة مبكرًا، وقبيحٌ جدًّا أن تفوته صلاة العشاء، فهذا دليلُ الحرمان وعدم الفقه في الدِّين؛ فإنَّ صلاة العشاء في جماعةٍ تَعْدِل قيام نصف ليلة، كما في الحديث، فوق كونِها فريضةً، والله - عزَّ وجلَّ - يقول في الحديث القدسيِّ الذي رواه البخاريُّ:
((وما تقرَّب إليَّ عبدي بأحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه)).
ثم يَسْتحضر القدومَ على الله، والوفادة إليه، وانتهاز فرصة التعرُّض لرحمته والعتقِ من النَّار، ويذهب إلى المسجد يدفعه الشَّوق والرغبة في الفضل، ويكدِّره الحياء من الله، وخوف الردِّ والإعراض، ويطلب مساجد أهل السُّنة حتى يُوهَب للصالحين إن كان من غير المقبولين، ثم يَسْتحضر ما ذكرتُه من وظائف عند الدُّخول في الصلاة وأثناءَها.
وأما مُحاسبة النفس على الطاعات، فهذا من أنفع الوظائف التي يقوم بها العابدون في شهر رمضان، والأصل أنَّ المُحاسبة وظيفةٌ لازمة لسالك طريق الآخرة، ولكنَّها تتأكَّد وتزداد في هذا الشهر.
والمُحاسبة معناها: فَحْصُ الطاعة ظاهرًا وباطنًا، وأولاً وآخِرًا؛ بحثًا عن الثَّمرة؛ ليعرف مأتاها فيحفظَه، وقدْرَها فينمِّيه، ووصولاً للنقص سابقًا؛ ليتداركه لاحقًا.


والمُحاسبة تكون قبل العمل وأثناءه وبَعده؛ أما قبله فبالاستعداد له، واستحضارِ ما قصَّر فيه؛ حتَّى يتلافاه، وأثناءه: بمراقبة العمل ظاهرًا وباطنًا، أوَّله وآخره، والمحاسبة بعد العمل: بإعادة ذلك العمل.
وهذه المُحاسبة إذا واظب عليها المرءُ صارت مسلكًا لا يحتاج إلى تكلُّفٍ ومعالجة، وسيجد غِبَّ هذه المُحاسبة وثمرتَها تزايدًا في مقام الإحسان الذي سعى إليه كلُّ السالكون: أن يعبد الله كأنَّه يراه.
ومثلُ هذه المُحاسبة ينبغي أن تكون في الخَفاء، يحاور نفْسَه وهواه، ويعالِجُ أيَّ قصورٍ بِلوم نَفْسِه وتقريعها، وعقابِها على كسَلِها وخمولها.
ولا يُنصح بِمُداومة الاعتماد على أوراد المُحاسبة الشائعة، وقد اختلف فيها الناس على طرفَيْن، فمنهم من جعلَها وسيلةً دائمة للتَّربية، وطريقةً ناجحة لتقويم النَّفْس، ومنهم من بالغ ومنَع منها مطلقًا، واصفًا إيَّاها بالبدعة، والحقُّ التوسُّط، نعم هي وسيلةٌ لم تَرِد عن سلف هذه الأمَّة، لكن تشهد لها نظائر في الشَّرع؛ مثل: عدِّ التسبيح بالحصى، ونحو ذلك مما ثبتَ عن الصحابة والتابعين، ثم إننا لا نقول بجواز الاعتماد على تلك الأوراد في كلِّ الأحايين، بل ننصح بها في بداية السير، وأيضًا لا نُلزم بها أحدًا، ولكن من عوَّل عليها في بداية سيره - لكون نفسه متمردةً شَمُوسًا - فنرجو ألاَّ يكون ثَمَّةَ حرَج؛ شرطَ عدمِ توالي اعتمادِه عليها.


والصَّواب تنشئة النَّفس على دوام المُحاسبة الذاتيَّة والمراقبة الشخصيَّة، وتعويدها على العقاب عند الزَّلَل؛ فإن هذا من شأنه أن يُنقِّي العبادة من أيِّ حافز خارجي، دخيلٍ على النِّية الصالحة كرغبةٍ في تسويد ورقة المحاسبة أو نحو ذلك، وقال الحفظيُّ:
شَارِطِ النَّفْسَ وَرَاقِبْ
لاَ تَكُنْ مِثْلَ البَهَائِمْ


ثُمَّ حَاسِبْهَا وَعَاتِبْ
وَعَلَى هَذَا فَلاَزِمْ


ثُمَّ جَاهِدْهَا وَعَاقِبْ
هَكَذَا فِعْلُ الأَكَارِمْ


لَمْ يَزَالُوا فِي سِجَالٍ
لِلنُّفُوسِ مْحَارِبِينَا


فَازَ مَنْ قَامَ اللَّيَالِي
بِصَلاَةِ الْخَاشِعِينَا










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 22-04-2020, 04:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة


عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان
(5)
محمود العشري
القواعد الحسان في الاستعداد لرمضان
القاعدة السابعة:
مُطالَعة أحكام الصَّوم وما يتعلَّق بشهر رمضان:
وهذا مِن آكَدِ الواجبات؛ فمفتاح السَّعادة ومنشورُ الولاية مرهونٌ بالعلم الصحيح النافع، المُمَهِّد للعمل الصَّالِح، وليس ثَمَّة عملٌ صالح بدون عِلْمٍ نافع، والعلم النافع يُنادي على العمل الصالح، فإن أجابه وإلا ارتحَل، فيقبح قبحًا شرعيًّا أن يتعرَّض الناسك لأجلِّ مواسم الطاعات، وهو مُفْلس من طرائق المنافسة، فقيرٌ في زاد المعاملة.



ولا بُدَّ من معرفة أحكام الصَّوم وأعذاره، وأركانه، ومُبطِلاته، ومُباحاته، وأحكام صلاة التَّراويح والاعتكاف، وفي حقِّ المرأة أن تتعلَّم أحكام الصوم؛ في حقِّ الحائض والمستحاضة، والنُّفَساء، والصوم في حقِّ الحامل والمرضع، وأنصح بالكتب الآتية في تحصيل أحكام الصِّيام منها، مع عدم الامتناع عن سؤال أهل العلم ومراجعتهم عند المشكلات:

1 - "زاد المعاد في هَدْي خير العباد" لابن القيِّم (باب: هَدْيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الصَّوم).

2 - "صَفْوة الكلام في مسالك الصِّيام"، لأبي إدريس محمد عبدالفتاح (رسالة مختصرة).

3 - "فقه السُّنة" للشيخ سيد سابق، مع "تمام المنة في التعليق على فقه السُّنة" للشيخ الألباني.

وتجنَّبْ أيها الأريب التصدُّرَ للفتيا، والتبَرُّع بالإفادات حال كونِك لست من أهل هذا الشَّأن؛ فإنَّه مشأمة لك، ومظلمة لغيرك، ومما تتأكَّد مطالعتُه: ما يتعلَّق بفقه المعاملة مع الربِّ، وما ينبغي فعله في المواسم، وأنصح بكتاب "لطائف المعارف" للحافظ ابن رجب - رحمه الله.

القاعدة الثامنة:
إعداد النفس لتذوق عبادة الصبر:
قال - تعالى -:
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
[فصلت: 35]
فبعض الخَلِيقة تجعل من مواسم الطَّاعة مرتعًا لِنَيل اللذَّات بكلِّ أنواعها، وهو مرتعٌ وخيم على صاحبه؛ إذْ به يَخْرج من الشهر كما دخل، بل أفسد، وتزداد المسافة بينه وبين حقيقة قصد الآخرة، وتتكاثف غيوم الشَّهوات حائلةً بينه وبين الوصول إلى الله - تعالى.



وإذا كان شهر رمضان هو شهْرَ الصوم والصبر، فما أحْرَانا أن نتذوَّق حقيقة الصَّبر، أن نتذوَّق حقيقة الصوم، وأمامَك - أيُّها الساعي إلى الخيرات في هذا الشهر - صبْرٌ عن المَحارم، وصبرٌ على الطاعات، وبعد ذلك كلِّه صبرٌ على كل بليَّة تنالك، وأنواع الصبر هذه هي أوسمة الولاية، وقلادات الإمامة في الدِّين، كما قال شيخُ الإسلام: "إنَّما تُنال الإمامة في الدِّين بالصبر واليقين"، واستدلَّ بقوله - تعالى -:
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
[السجدة: 24].

قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "فإنَّه لا خلاف بين أهل العلم أنَّ أظهر معاني الصَّبر: حَبْسُ النَّفْس على المَكْرُمة، وأنَّه من أصعب المنازل على العامَّة، وأوحَشِها في طريق المَحبَّة، وإنَّما كان صعبًا على العامَّة؛ لأن العامِّي مبتدئٌ في الطريق، وليس له دُرْبةٌ في السُّلوك، وليس تَهذيبُ المرتاض بقطعِ المنازل، فإذا أصابَتْه المِحَن أدركَه الجزَع، وصعب عليه احتمال البلاء، وعزَّ عليه وجدان الصبر؛ لأنَّه ليس في أهل الرِّياضة، فيكون مستوطنًا للصبر، ولا من أهل المحبَّة فيلتذّ بالبلاء في رضا مَحْبوبه".



مما نقلتُه لك تَعْلم - أيُّها الحريص على النَّجاة - أن شهر رمضان ميدانك الرَّحب؛ لِتُمارس رياضة الصَّبر، وأنت مُعانٌ في كلِّ فجٍّ: فعين الله تصنَعُك، والأبالسة في أصفادها ترمُقك، ونفسك ستَراها إلى الخير وثَّابة، وعن الشر هيَّابة، فلم يبق إلاَّ أن تُعالج الخطرات، والوساوسَ الوالجات في حنايا قلبِك، ليت شعري: ما أشبه قلبَك بالمريضِ في غرفة العناية المركَّزة! إنَّه محرومٌ من كلِّ طعام يفسد دورة علاجه، بل محرومٌ من مُخاطبة أقرب الأقربين لتتفرَّغ أجهزة جسمه للانتعاش، واستردادِ العافية، ثم إنَّه يتنفس هواءً معقَّمًا، خاليًا من كل تلوُّث، وتدخل في شرايينه دماء نقيَّة؛ لِتمدَّه بأسباب القوة، ويُقاس نبضه ودرجة حرارته كلَّ حين؛ ليتأكَّد الطبيب من تحسُّن وظائف جسمه، فما أحرى هذا القلب السَّقيمَ الذي أوبقَتْه أوزارُه، وتعَطَّن بالشَّهوات، وتلوَّث بالشُّبهات، وترهَّل بمرور الشهور والدُّهور دون تزكيةٍ وتربية - ما أحراه أن يدخل غرفة العناية المركزية في شهر رمضان، فتكون كلُّ إمدادات قوته مادَّة التقوى، وإكسير المَحبَّة لله ورسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وطاعتِهما.



فلْتُصدر مرسومًا على نفسك أن تَلْزم جناب الحِشْمة في هذا الشَّهر أمام شهوة البَطْن وغيره، فإن أعلنَتْ عليك التمرُّدَ فلا تتردَّد في فرض الأحكام الاستثنائيَّة، وأصدِرْ قرارًا باعتقال هذه النَّفْس الناشِز، وأدخِلْها سجن الإرادة؛ حتَّى تنقاد لأوامرك إذا صدَرَت، فإن ازداد تَمرُّدُها وتجرَّأت في ثورتِها، فألهب ظهرها بسياط العزيمة، وعنِّفْها على مُخالفتها أمْرَك، وعصيانِها إرادتَك، فإن أبَتْ إلاَّ الشرود فلوِّح لها بحكم الإعدام، وأنَّها ليست عليك بعزيزة.

فإن تمنَّعَت دَلالاً وطمَعًا في عطفك، فلا بُدَّ من تنفيذ حكم الإعدام في ميدان العشر الأواخر؛ بِحَبسها في معتكَف التهذيب؛ حتَّى تتلاشى تلك النفس المتمرِّدة وتفنى، وتتولَّد في تلك الليالي والأيامِ نفسٌ جديدة، وادعة مطمئنَّة، تلين لك عند الطاعات إذا أمرتَها، وتثور عليك عند المعاصي إذا راودْتَها، فقد وُلدت ولادة شرعيَّة في مكانٍ وزمان طاهرَيْن، ونشأت وتربَّت في كنفِ الصالحين، فلن تراها بعد ذلك إلاَّ على الخير - إن شاء الله - إنَّها ولادةٌ لنفسٍ ذات إمامة في الدين، تَنَشَّأَتْ على مهد الولاية، وترقَّت في سلك الرَّهبوت والتبتُّل.


القاعدة التاسعة:
معرفة كيفيَّة تحصيل حلاوة الطَّاعات:
أمَّا كون الطاعة ذاتَ حلاوة، فيدلُّ له قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أحمد ومسلم:
((ذاق طعْمَ الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم – رسولاً))
وقولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "الصحيحين":
((ثلاثةٌ من كُنَّ فيه، وجد حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، ومَن كان يحبُّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، ومَن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذْ أنقذَه الله منه كما يكره أن يُلقَى في النَّار)).
ولما نَهى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابَه عن الوِصال، قالوا: إنَّك تُواصل؟ قال:
((إنِّي لَسْت كهيئتِكم، إنِّي أُطعَم وأُسقَى))
رواه البخاريُّ ومسلم، وفي لفظٍ في "الصحيحين" أيضًا:
((إنِّي أظَلُّ عند ربِّي يُطعمني ويسقيني))
وفي لفظٍ عند البخاري وأبي داود:
((إنَّ لي مُطعمًا وساقيًا يسقيني))
قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وقد غلُظَ حجابُ من ظنَّ أن هذا طعامٌ وشراب حسِّي للفم"، ثم قال: "والمقصود أنَّ ذوق حلاوة الإيمان والإحسان أمرٌ يَجِده القلب، تكون نسبتُه إليه كنسبة ذوق حلاوة الطَّعام إلى الفم".


واعلم أوَّلاً أيُّها السَّالك في مرضاة إلهك: أنَّ كلمات القوم في هذا الباب رُسوم، وإرشاداتِهم في هذا الباب عموم، ولا تبقى إلاَّ الحقيقة الثابتة في نفسها، وهذه لا يَنالها إلاَّ من أناله الله - تعالى - إيَّاها، ومن ذاق عرَف، فكُن مِن هذا على ذُكْر؛ لأنَّني سأسوق إليك كلامًا لا يفهمه غليظُ الحجاب، كثيف الرَّيْن، فإن استعصى عليك الفهم فلن أُبادر إلى اتِّهام صلتك بالله، بل أَتْممنَّ قراءة هذه السُّطور، ونفِّذ ما سأوصيك به، ثم أعِد القراءة، فإن وجَدْت الأمر كما وصَفْت، فاحمد الله الذي أذاقك طعم الإيمان وحلاوة الطاعة.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 22-04-2020, 04:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

بدءًا يجب أن تَعْلم أنَّ الفكر لا يُحدُّ، واللِّسان لا يَصْمت، والجوارح لا تسكن، فإن لم تَشْغلها بالعظائم شُغلت بالصَّغائر، وإن لم تُعملها في الخير عملت في الشرِّ، إنَّ في النفوس ركونًا إلى اللَّذيذ والهيِّن، ونفورًا عن المكروه والشاقِّ، فارفع نفسك ما استطعتَ إلى النافع الشاقِّ، وروِّضها وسُسْها على المكروه الأحسن، حتَّى تألف جلائل الأمور، وتطمح إلى معاليها، وحتَّى تنفر عن كلِّ دنِيَّة، وتربأ عن كلِّ صغيرة، علِّمها التحليق تَكرَه الإسفاف، عرِّفها العزَّة تنفِرْ من الذُّل، أذِقْها اللذَّات الرُّوحيةَ العظيمة تحقِّر اللذَّاتِ الحسِّيةَ الصغيرة.


ودومًا يكون الإلحاحُ على علوِّ الهمة باعتبارها عنصرًا جوهريًّا في أيِّ سعي عظيم، وأي سعيٍ
أعظم من سعي الآخرة؟!
ï´؟ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ï´¾
[الإسراء: 19].
ثُمَّ اعلم - علمت كلَّ خير - أنَّ حلاوة الطاعة مِلاكُها في جمع القلب والهمِّ والسر على الله - تعالى - ويفسِّرُه ابن القيِّم قائلاً: هو عكوف القلب بِكُليَّتِه على الله، لا يلتفت عنه يَمْنة ولا يسرة، فإذا ذاقت الهِمَّة طعم هذا الجمع، اتَّصل اشتياقُ صاحبها، وتأجَّجَت نيرانُ المَحبَّة والطلب في قلبه، ثم يقول: فللَّه هِمَّةُ نفسٍ قطعت جميع الأكوان، وسارت فما ألقَتْ عصا السَّير إلاَّ بين يدي الرحمن - تبارك وتعالى - فسجدَتْ بين يديه سجدة الشُّكر على الوصول إليه، فلم تزَل ساجدةً حتَّى قيل لها:
ï´؟ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ï´¾
[الفجر: 27 - 30]
فسبحان من فاوَت بين الخلق في هِمَمهم حتى ترى بين الهِمَّتين أبعد ما بين المشرقين والمغربين، بل أبعد مِمَّا بين أسفل سافلين وأعلى علِّيين، وتلك مواهب العزيز الحكيم:
ï´؟ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ï´¾
[الحديد: 21].


ثم يقول: "وهكذا يجد لذَّةً غامرة عند مناجاة ربِّه، وأنسًا به، وقربًا منه، حتى يصير كأنه يُخاطبه ويسامره، ويعتذر إليه تارةً، ويتملَّقه تارة، ويُثْنِي عليه تارة حتى يبقى القلب ناطقًا بقوله: "أنت الله الذي لا إله إلا أنت" من غير تكلُّفٍ له بذلك، بل يبقى هذا حالاً ومقامًا، كما قال النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((الإحسان أن تَعْبد الله كأنَّك تراه))
وهكذا مخاطبته ومناجاته له، كأنَّه بين يدَيْ ربِّه، فيسكن جأشه، ويطمئنّ قلبه، فيزداد لهجًا بالدعاء والسؤال، تذللاً لله الغني - سبحانه - وإظهارًا لفقر العبوديَّة بين يدي عزِّ الربوبية.
فإن الربَّ يحبُّ مِن عبْدِه أن يسأله ويرغب إليه؛ لأنَّ وصول بِرِّه وإحسانه إليه موقوفٌ على سؤاله، بل هو المتفضِّل به ابتداءً بلا سببٍ من العبد، ثم أمره بسؤاله والطَّلب منه؛ إظهارًا لمرتبة العبوديَّة والفقر والحاجة، واعترافًا بعز الربوبيَّة وكمال غنى الربِّ، وتفرُّده بالفضل والإحسان، وأن العبد لا غِنى له عن فضله طرفةَ عين، فيأتي بالطَّلب والسؤال إتيانَ مَن يعلم أنه لا يستحقُّ بطلبه وسؤاله شيئًا، ولكن ربَّه - تعالى - يحب أن يُسأل ويُرغب إليه ويُطلب منه".


ثم قال: "فإذا تَمَّ هذا البذل للعبد، تم له العلم بأنَّ فضل ربِّه سبق له ابتداءً قبل أن يخلقه، مع علم الله - تعالى - به وتقصيره، وأنَّ الله - تعالى - لم يمنعه عِلمُه بتقصير عبدِه أن يقدِّر له الفضل والإحسان، فإذا شاهد العبدُ ذلك اشتدَّ سرورُه بربِّه، وبِمَواقع فضله وإحسانه، وهذا فرح محمودٌ غير مذموم؛ قال - تعالى -:
ï´؟ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ï´¾
[يونس: 58].
وهذا كلام راقٍ يحتاج إلى تردادٍ لفهمه، وتجوالٍ في حنايا نظمِه:
فَأَدِمْ جَرَّ الْحِبَالِ
تَقْطَعِ الصَّخْرَ الثَّخِينَا


ولكنَّني لا أدعك للرُّسوم والإشارات، وعموم تلك العبارات، بل ألِجُ بك - بإذن الله - إلى واقعٍ عمَلي تُكابد به حقائق الخدمة، وتتجلَّى لك من ورائه دقائقُ علم السُّلوك، فتستغني - أيُّها النابه العابد - بالمثال الواحد عن ألف شاهد، فهاك جملةً من الطاعات التي يؤدِّيها كلُّ الناس، أَذْكرها لك الآن إجمالاً، وأُرْجئك إلى مكانِها في الوسائل لِتَنظر كيف يجب أن تُؤدَّى وتُقام:


• ذِكْر الله - تعالى - ووسائِلُ تحصيل لذَّتِه.
• وسائل تحصيل لذَّة الصِّيام.
• وسائل تحصيل لذة الصَّلاة.
• وسائل تحصيل لذة التِّلاوة وقراءة القرآن.
• وسائل تحصيل ثمرة الدُّعاء.

القاعدة العاشرة:
إحياء الطَّاعات المهجورة والعبادات الغائبة:
فشأن التِّجارة الرَّابحة مع الله: أن تتناول كلَّ مَراضيه، والذي يفتِّش عن مُرادات إِلَهه ومَحابِّه فيأتيها، هو الحاذق في تِجارته مع ربِّه - عزَّ وجلَّ.
وقد اعتاد الناسُ عباداتٍ معيَّنةً ظَنُّوها هي وَحْدها الأبواب المفتوحة إلى الله، لكن ينبغي أن يكون السَّاعي في مرضاة ربِّه بحَّاثًا عن المَسالك المهجورة، والأبواب البعيدة، ذات الطُّرق الوعرة التي تنكَّبَت عنها إرادات الناس كسلاً أو عجزًا، فمِن تلك الطَّاعات التي غفل النَّاسُ عنها، وأهْمَلوها، ولم نَجِد من يُحافظ عليها إلاَّ القليل: الاستغفار بالأسحار، وهي عبادة الصَّادقين؛ قال تعالى:
ï´؟ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ï´¾
[آل عمران: 15 - 17].


والسَّحَر هو آخر الليل، وهو وقت السُّحور؛ لذا استُحِبَّ أن يَطعَم مريدُ الصَّوم في هذا الوقت، ثم يُستَحبُّ له أن يُبقي وقتًا يسيرًا قبل الفجر للاستغفار، وطلب العَفْو والصفح، والعتقِ من النار، وهذا الوقت زبدة الأوقات العامرة، وخلاصة الأزمنة السَّائرة، تتَّصل الأرض بالسَّماء، ويعبق ليلُ المتهجِّدين بأنفاس الملائكة المُنَزَّلة، والألطاف الهاطلة، ويكون النُّزول الإلهيُّ المهيب في الثُّلث الأخير من الليل؛ حيث الأقدامُ مصفوفةٌ في مَحاريب التَّبجيل، والمآقِي مُغرَوْرِقة فرحًا بقرب الكبير الجليل، والأيادي مرفوعة بالأدعية والتَّراتيل، والألسنة لَهِجَة بالذِّكر وتلاوة التَّنْزيل.
ملاحظة:
في "صحيح البخاري ومسلم" عن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه
- أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:
((يَنْزِل ربُّنا - تبارك وتعالى - كلَّ ليلة إلى السماء الدُّنيا حين يَبْقى ثلث اللَّيل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأُعْطيه؟ من يستغفِرُني فأغفر له؟)).
ومِن تلك العبادات المَهْجورة:
عبادة التأمُّل والتفكُّر في مخلوقات الله وعجائب قدرته، والتدبُّر في أسمائه وصفاته وآلائه ونعمته، قال - تعالى -:
ï´؟ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ï´¾
[آل عمران: 190 - 191].


وقال - تعالى -:
ï´؟ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَï´¾
[البقرة: 164].
وقال - تعالى -:
ï´؟ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ï´¾
[الأنعام: 97 - 99].


وقال - تعالى -:
ï´؟ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ï´¾ [النحل: 68 - 69]...
وغير ذلك من الآيات الدالَّة على قدرة الله - عزَّ وجلَّ - الداعية إلى التفكُّر، والتدبر، والتأمُّل فيها.
واعلم أنَّ هذه العبادة هي أصلُ طريق اليقين في الله - عزَّ وجلَّ - وبهذا التدبُّر يَثْبت بالضَّرورة في الذِّهن وجودُ الرَّب الخالق المدبِّر، ومن ثمَّ إِلَهيَّة هذا الربِّ المدبِّر، واستحقاقه للعبادة دون غيره، وبِهذا التقرير خاطبَ الله - عزَّ وجلَّ - المشركين، مُطالبًا إيَّاهم بأن يتفكَّروا في هذه الحقائق
قال - تعالى -:
ï´؟ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ï´¾ [سبأ: 46]
وقال - تعالى -:
ï´؟ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ï´¾
[يونس: 31].


واعلم أيضًا أنَّ هذه العبادة مِن أعظم ما يقرِّب الإنسانَ من ربِّه، ويوقفه على جلاله وعظَمتِه، بل هي العلم الذي أشار الله - عزَّ وجلَّ - إليه باعتباره موصِّلاً لخشية الله
قال - تعالى -:
ï´؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ï´¾
[فاطر: 27 - 28].
وكذلك عبادة التبتُّل؛ أي: الانقطاع إلى الله تعالى، قال - تعالى -:
ï´؟ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ï´¾
[المزمل: 8]
والتبتُّل: الانقطاع، وهو تَفعُّل من البَتْل وهو القَطْع، وسُمِّيت مَرْيم: البَتُول؛ لانقطاعها عن الأزواج، وعن أن يكون لها نُظَراء من نِساء زمانِها، ففاقَتْ نساء الزمان شرفًا وفضلاً، وقُطعت منهن.
ومَصْدر بتَّل: تبتُّلاً، كالتعلُّم والتفهُّم، ولكن جاء على التَّفعيل مصدر تفعّل؛ لسِرٍّ لطيف؛ فإنَّ في هذا الفعل إيذانًا بالتدريج والتكلُّف والتعمُّل والتكثُّر والمبالغة، فأتى بالفعل الدالِّ على أحدِهما، وبالمصدر الدالِّ على الآخر، فكأنه قيل: بَتِّل نفسك إليه تبتيلاً، وتبتَّلْ إليه تبتُّلاً، ففُهِم المعنيان من الفعل ومصدره، فالتبتُّل الانقطاع إلى الله بالكُلِّية.


ومِثْل هذه العبادة تُلازم الإنسانَ في كلِّ زمان ومكان، لا تنفكُّ عنه، فهو بَيْن الناس بِجِسمه، ولكن روحه تَطُوف حول العرش، يكلِّمهم بمحيَّاه ولِسانه، لكن مُشاهدة عظَمة الله وجَلاله في سُوَيداء جنانِه؛ يَفْرح مع الناس لفرحهم، لكن قلبه قد مُلئ وجلاً وخوفًا وخشية من ربِّه، يحزن مع الناس لحزنهم، ولكن فؤاده قد ملئ أنسًا ورِضًا وحبورًا بما قَضى الله وقدَّر، إنه ذلك الحاضر الغائب، الموجود المفقود بين الهَياكل والصُّوَر، والأجسام والغِيَر.
وأيضًا: عِبادة الصَّدَقة والإنفاق، وهي من أرْجَى الطَّاعات عند السَّالكين، والفقه فيها عظيمٌ أثرُه في النَّفْس، في "الصحيحين" عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: "كان النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يَلْقاه جبريلُ، فيُدارسه القرآن، فلَرسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين يلقاه جبريلُ أجودُ بالخير من الرِّيح المُرْسَلة".
قال الشافعيُّ - رحمه الله -: أُحبُّ للرجل الزيادةَ بالجُود في شهر رمضان؛ اقتداءً برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولحاجة الناس فيه إلى مَصالحِهم، وتَشاغُل كثيرٍ منهم بالصَّوم والصلاة عن مَكاسبِهم.
وليس المقصودُ كثرة المُنفَق، بل كثرة الإنفاق؛ أيْ: فعله وإن قلَّ المال، ورُبَّ درهمٍ يُنفقه امرؤٌ من درهمين يَمْلكهما أحبُّ إلى الله من مائةٍ ينفقها مَن يملك الآلاف، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الحسَن الذي رواه النَّسائيُّ:
((سبَق درهمٌ مائة ألف درهم؛ رجلٌ له درهمان أخذ أحدَهما فتصدَّق به، ورجل له مالٌ كثير، فأخذ من عُرْضِه مائة ألف فتصدَّق بها))
وقد خرج أبو بكرٍ من ماله كلِّه، وترك لأهله الله ورسولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخرج عُمَر من نصفِ ماله، وتصدَّق عبدُالرحمن بن عوف بقافلة قدِمَت المدينة بأحلاسها وأقتابِها.


وأدبُ المتصدِّق أن يعلم منَّةَ الله عليه؛ إذْ رزَقه المال، ثم وفَّقه للصَّدَقة، ويسَّر له مَن يقبل منه صدقتَه، ثم تلقَّاها منه ربُّه، وقبِل منه ما رزقه، وأن يتصدَّق بأفضل ما عنده:
ï´؟ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ï´¾
[آل عمران: 92]
وأن يتلطَّف في إعطائها للفقير أو المُحتاج؛ حتَّى لا يشعر بِمنَّة العبد فيها، فيعمل على إخفائها، أو إرسالها مع قريبٍ له، أو نحو ذلك.
وكان بعض السَّلَف إذا أعطى الصَّدَقة وضعَها على كفِّه، وناولها للفقير على يده مبسوطةً، حتى يتَناولها الفقيرُ بنفسه، فقيل له في ذلك، فقال: حتَّى تكون يدُه هي اليدَ العليا؛ يُشير إلى قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((واليَدُ العليا خيرٌ من اليد السُّفلى))
وهذا من لطيف ما يَقوم به أولئك الأكابر، والله الموفِّق.
ومن الطاعات المهجورة، بل مِن أعظمها:
تحديثُ النَّفْس بالغَزْو والجِهاد، وخاصَّة في شهر رمضان، شهر المعارك الكُبْرى، كبَدْر وفَتْح مكَّة وغيرهما، بل إنَّ المتبادر من الحديث أنَّ هذه الطاعة واجبة، لا يجوز الانفِكاك عنها؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه مسلمٌ وأحمد:
((من مات ولم يَغْزُ، ولم يحدِّث نفسه بالغزو، مات على شُعْبة من نفاق))
فالظَّاهر وجوب أحَدِ الأمرين حتى يَبْرأ من هذا النفاق.
وفائدة تحديث النفس بالغَزْو:
إحياء معاني الجهاد والعِزَّة، والولاء والنُّصرة للدِّين، والبَراءة من الكفر والشِّرك، ومُعاداة أهله، والوصول بالنَّفس إلى أعلى مراتب البَذْل، وهو بذل الأرواح والمُهَج في سبيل الله.
ولقد هُجِرَت هذه المعاني حتَّى صارت بين الملتزِمين - فضلاً عن عامَّة المسلمين - نسيًا منسيًّا! وما أجدرَنا أن نُعاود إحياء هذه المعاني في هذا الشَّهر المبارك؛ شهر الصَّبر والبذل وجهاد النَّفس.
فهذه بعض نماذج من العبادات المهجورة الغائبة، ولو تأمَّلت قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((الإيمان بضعٌ وسِتُّون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة))
لعرَفْت كم ضيَّع الناس من شُعَب الإيمان العمَلِيَّة، وطرق الخير المُوصلة لرضا الربِّ - تبارك وتعالى - والله المُستعان.
وهذه العبادات - وكثيرٌ غيرها - ستأتي معَنا - إن شاء الله.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 23-04-2020, 05:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة

عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان
(6)
محمود العشري
القواعد الحسان في الاستعداد لرمضان
القاعدة الحادية عشر:
معرفة قُطَّاع الطريق إلى الله - تعالى -:
فهأنت قد شَمَّرت عن ساعد الجدِّ، وحثَثْت الهِمَّة الخاملة، وأوقدت نارَ العزيمة الخامدة، وألجَمْت هواك بلِجام الإرادة، وجمعتَ رقاب الأماني بزمام التوكُّل على الله في الفِعْل، وبدأت السَّيْر إلى الله - تعالى - لِتَصل إلى شهر رمضان وقد توقَّدَت عزيمتُك، وانقادت لك إرادتُك، وأذعنَتْ لك هِمَّتُك، لقد بدأت المعركة الحقيقيَّة مُذْ تمحَّض اختيارك لله وجدَّ سيرك إليه، ويممَّت القلب والقالب في الإقبال عليه، فاحذر حينئذٍ قُطَّاع هذا الطريق الوعر؛ فإنَّه طريق الجنَّة، وهو محفوف بالشهوات والهَوى والشياطين والنَّزغ والشُّبهات، وكلُّها أنواع لجِنس واحد، وهو العائق عن الوصول لِدَرب القبول، المُؤْذِن لشمس عزمك بالأفول، فتعال معًا نتذاكَرْ صفات بعض هؤلاء القُطَّاع ومكامِنهم وخدعهم؛ فبذلك تتعلَّم صفة الشرِّ؛ لتتجنَّبه، والمقصود بيان نماذج من هؤلاء القُطَّاع؛ ليُستدل بهم على غيرهم.
فمن هؤلاء القُطَّاع:
الفُتور والسَّآمة والملل، وهو مِن أعظم ما يعتري السَّالكين، وقد يتَعاظم أمْرُه ويستفحل، حتى يكون سببًا للرِّدة والنُّكوص، والعياذ بالله! وغالب شأنِ هذا الفتور مِن كثرة الفرَح بالطاعة، وعدم الشُّكر عليها، وعدم رؤية مِنَّة الله فيها، ومشاهدة النَّفس في أدائها.
قال ابن القيِّم - رحمه الله - واصفًا ومحلِّلاً ومُعالجًا لهذا الدَّاء: فإذا نَسِي السَّالكُ نفْسَه، وفَرِح فرحًا لا يُقارنه خوف، فلْيَرجع إلى السَّير إلى بدايات سُلوكه وحِدَّة طلبه؛ عسى أن يعود إلى سابقِ ما كان منه من السَّيْر الحثيث الذي كانت تسوقه الخشية، فيترك الفُتور الذي لا بُدَّ أن ينتج عن السُّرور.


فتخلُّل الفترات للسَّالكين أمرٌ لازم لا بُدَّ منه، فمن كانت فترتُه إلى مُقارَبةٍ وتسديدٍ، ولم تُخْرِجه مِن فرض، ولم تُدْخِله في محرَّم: رُجِيَ له أن يعود خيرًا مما كان، قال عمر بن الخطاب: إنَّ لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإذا أقبلَتْ فخُذوها بالنَّوافل، وإن أدبرَت فألزِموها الفرائض.
وفي هذه الفترات والغيوم والحجُب التي تَعْرِض للسَّالكين - من الحِكَم ما لا يَعْلم تفصيلَه إلاَّ اللهُ، وبهذا يتبيَّن الصادق من الكاذب، فالكاذب ينقلب على عقِبَيه، ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه، والصادق ينتظر الفرَج، ولا يَيْئس من رَوْح الله، ويُلقي نفسه بالباب طريحًا ذليلاً، مِسكينًا مُستكينًا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ألبتَّة، ينتظر أن يضع فيه مالِكُ الإناء وصانِعُه ما يصلح له، لا بسببٍ من العبد - وإن كان هذا الافتقارُ من أعظم الأسباب - لكن ليس هو منك، بل هو الذي منَّ عليك به، وجرَّدَك منك، وأخلاك عنك، وهو الذي:
﴿ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
[الأنفال: 24]
فإذا رأيتَه قد أقامك في هذا المقام فاعلَم أنَّه يريد أن يرحَمك، ويملأ إناءك، فإن وضَعْت القلب في غير هذا الموضع، فاعلم أنه قلب مُضيَّع، فسَلْ ربَّه ومن هو بين أصابعه أن يَردَّه عليك، ويجمع شملك به.
وقد أخبر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((إنَّ لكل عامل شِرَّة، ولكلِّ شِرَّة فَترة))
فالطالب الجادُّ لا بدَّ من أن تَعْرِض له فترة، فيشتاق في تلك الفترة إلى حالِه وقْتَ الطلب والاجتهاد، وربما كانت للسَّالك بدايةٌ ذات نشاط، كان فيها عالِيَ الهمة، فيفيده عند فتوره أن يَرْجع إلى ذكريات تلك البداية، فتتجدَّد له العزيمة، ويعود إلى دأبه في الشُّكر.


وكان الجُنَيد - رحمه الله - كثيرَ الذِّكْر لبداية سَيْره، وكان إذا ذكَرها يقول:
"واشَوْقاه إلى أوقات البداية"
يعني لذَّة أوقات البداية، وجمع الهمَّة على الطلب والسير إلى الله، والإعراض عن الخَلْق.
أمَّا إذا راودَتْك السَّآمةُ في عبادتك - كصلاةٍ أو ذِكْر أو تلاوة قرآن - فلا تُرسل زمام هواك للشيطان، محتجًّا بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:




((فوالله، إنَّ الله لا يَملُّ حتى تملُّوا))
وقد ذكَرْتُ لك في تمارين العزيمة فقْهَ هذا الحديث ونحْوِه عن الأئمَّة الأعلام، فحريٌّ بمن ملَّ العبادة أن يعود إلى نفسه؛ هلعًا وخوفًا من أن يكون ذلك من إعراض الله عنه، ولْيَستحضر في قلبه سوء أدبه مع الله، وعدمَ تعظيمه وقَدْرِه حقَّ قدره؛ إذْ تَطِيب نفسه مع شهوات الدُّنيا، ومُعافسة الأولاد والزَّوجات للساعات الطِّوال، ثم هو يُبتلى في عبادته بالملل بعد لُوَيحظات معدودات، وما رُوِي عن بعض السَّلَف من أنَّهم كانوا يتكدَّرون لطلوع الفجر؛ لأنَّه يحول بينهم وبين لذيذ المُناجاة فيُحمَل على أنهم يحزنون لعدم تواصل لذَّة المناجاة، لا أنَّهم كانوا يكرهون طلوع الفجر، ويقدِّمون قيام الليل على الفريضة، فهذا أبعَدُ ما يكون عن هَدْيِهم، ومُتواترِ سيرتهم، كيف وهم يَعْلمون أنَّ قرآن الفجر مشهود، تحضره الملائكة، وترفع أمره إلى الله؟!
ومن قُطَّاع الطَّريق إلى الله:
الوساوِسُ والخواطر الرَّديئة التي تَرِد على السَّالك طريقَ الآخرة، وتشمل هذه الخواطرُ الرديئة ما يَرِدُ على المبتلَيْن بالشَّهوات من التفكير في الصُّوَر، وفيما يعشقون، ومن يَهْوون... وكذا أصحاب الحِقْد والحسد، والأمراض القلبيَّة، والآفات النَّفْسية، وكلُّها انحرافات سلوكيَّة؛ أيْ: في السَّالك طريق الآخرة.
ومِن أعظمها خطرًا:
وساوس الشُّبهات في وجود الله، وذاته، وصفاته، وهذا مما ابتُلِي به كثيرٌ من شباب هذه العصور؛ لِغَلبة الأفكار الإلحاديَّة والعلمانيَّة، المبنيَّة على المادَّة والتفسير العِلْمي لكلِّ الظواهر الكونيَّة، وشيوع الفَحْشاء والشهوات الصارفة للقلوب عن مُمارسة عبوديَّتِها في التسليم والإذعان.
وتحليلاً للخواطر؛ يُمكِنُنا تقسيمُها إلى ثلاثة أنواع:
الأوَّل:
خواطر الشُّبهات؛ وهي العارضة في شأن وجود الله وذاته وصفاته، وفي قُرآنه، وأنبيائه ورسله، وقضائه وقدَرِه.
والثاني:
خواطر الشَّهَوات؛ وهي وارِداتُ الذِّهْن من الصُّوَر ونماذج المعشوقات.
والثالث:
خواطر القلب من آفاتٍ وأمراض نفسية؛ كالكبرياء والعُجْب والحِقْد.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 23-04-2020, 05:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

وعلاج النَّوع الأول:
باستحضار اليقين، وكلامُنا مع مَن اعتقد وجودَ الله؛ أمَّا المُلْحد فلا خطابَ معه، وعندي: أنَّ الإلحاد هو النَّوع الوحيد من الجُنون الذي يُؤاخَذ الإنسان به، فمَن أيقن وجود الله وربوبيَّته، وهيمنتَه وتصرُّفَه، وعدْلَه وحِكْمَته - مثَّل هذا اليقين بالشمسِ يراها، ثم يستعرض الشُّبهات ويمثِّلها بمن يُماريه في رؤيته للشمس، ويُجادله في الدليل المفيد لطلوعها، حينئذٍ يردِّد قولَه - عزَّ وجلَّ -:
ï´؟ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ï´¾
[إبراهيم: 10]
ويردِّد قوله: آمنتُ بالله، ويستعيذ بالله من نزغ الشيطان، معتَصِمًا بالله، لائذًا بحفظه وكَلاءته، متعجِّبًا من تفاهة شُبهتِه:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَذْهَانِ شَيْءٌ
إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ


وأما النوع الثانِي:
فهو الأعمُّ الأفشى بين الناس، وعلاجه من أصعب العلاجات، لكنَّنا نأتي على ذِكْر جملةٍ من الفوائد المهمَّة، المُجتثَّة لهذا المرض من جذوره.
فاعلم - أيُّها الأريب - أنَّ الشهوات في أصلها فطريَّة قدَرِيَّة، لا فكاك للعبد منها، فهو مَفْطور على الغضب واللَّذة، وحُبِّ الطعام والشَّراب، غير أنَّ هذه الشهوات رُكزت في الجبِلَّة لغاياتٍ، هي: حفظ النَّفس بالطعام، وردُّ الاعتداء وصيانة الذَّات بالغضب، وحفظ النَّسل باللذَّة - أعني شهوة الفَرْج - فإذا تعدَّت هذه الشَّهوات غاياتها، كانت وبالاً على أصحابها؛ ولذلك جاء عن النبيِّ - عليه السَّلام - التنبيهُ على حِفْظ الفَرْج والبطن واللِّسان، وأنَّه مِن أعظم أسباب النجاة والفوز.


فإذا علمتَ ذلك، تبيَّن سلطانُك على هذه الشَّهوات، وأنَّ الله - تعالى - قد أَمَّرَك في الحقيقة عليها، وأعطاك زمام قيادتها، فما عليك إلا ممارسةُ هذه الإمارة دون خوفٍ أو تباطؤ.
وحسم مادة الشهوات يكون بِحَسم موارد حياتِها، وأهمُّ تلك الموارد حبُّ الدنيا، والرغبة في نوال كلِّ ما يراه من جميلٍ فيها، فقَطْعُ شجرة الدنيا من القلب كفيلٌ بِصَرف الهمة مطلقًا عن الدنيا، والاهتمام بما تحصل به النَّجاة.
وهاك بعضَ الفوائد المُعِينة على حسم مادة الشهوات، وصَرْفِ واردات الخواطر الشيطانيَّة:
أوَّلاً:
التبَرُّؤ من حول النفس وقوَّتِها، والالْتِجاء والاعتصام والاستعاذة بالله تعالى، ومن جليل ما ينبغي ترداده في حقِّ المبتلى بالشهوة: "لا حول ولا قوَّة إلا بالله"، ومعناها: لا تحوُّل عن معصيةٍ إلاَّ بمعونة الله - عزَّ وجلَّ - ولا قوَّة على طاعةٍ إلاَّ بتوفيقٍ من الله - تبارك وتعالى.
ثانيًا:
تذكُّر المنغِّصات: سكرات الموت، ونزع الرُّوح، والقبر وأهواله، وسؤال الملَكَين، والبعث والنُّشور، وأهوال يوم القيامة، والمُثول بين يدي الله عاصيًا مذنِبًا، والنار وأهوالها.
ثالثًا:
تذكُّر المشوقات: كلذَّة المناجاة، وتوفيق الله للطاعة، وشرف الولاية، والانتساب إلى حِزْب الله، والكرامات اللاَّئقة لأوليائه عند موتهم، ودخولهم الجنَّة وما فيها من الحور العين، اللائي لا تُقارَن الدُّنيا كلها بأنملة من أنامل الواحدة منهنَّ، ورؤية الله يوم القيامة، ورضوانه على أهل الجنة.
رابعًا:
تذكُّر جمال خالق الجمال البشريِّ، الذي سماه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - جميلاً، فكلُّ جمال فُتِن به المرء لو تذكَّر معه جمال الله - تعالى - لتلاشَتْ كلُّ خواطره الرَّديئة.
خامسًا:
تذكُّر مثالب الصور المعشوقة وآفاتها وأمراضها، وفساد بواطنها وظواهرها.
سادسًا:
البُعْد عن المُثِيرات؛ كالسَّيْر في الطُّرقات العامة - وخاصَّة في هذه الأزمنة - وفي أماكن الفجور والفسوق، أو مشاهدة التليفزيون والفيديو، والمجلاَّت والجرائد السَّاقطة، التي تهدف غواية النُّفوس المطمئنَّة، وتحبُّ أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا، ومن هذا القبيل عدَمُ المكوث في خلوة إذا طرأ عارض الشَّهوة، بل يشتَغِل بالصَّوارف التي تلهيه عن تلك الخواطر؛ كذِكْر الله، وزيارة الصَّالحين، وحضور مجالس العلم، أو خدمة الأهل والمسلمين.
ويَنصح ابنُ القيِّم بما يلي:
• العلم الجازم باطِّلاع الرَّب - سبحانه - ونظره إلى قلبك، وعِلمه بتفصيل خواطرك.
• حياؤك منه.
• إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في البيت الذي خلَقه لتُسْكِنَه معرفته ومحبَّته.
• خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
• إيثارك له أن تُساكن قلبك غير محبته.
• خشيتك أن تتولَّد تلك الخواطر، ويستعر شرَرُها، فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبَّة الله، فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.
• أن تعلم أن هذه الخواطر بِمَنْزِلة الحَبِّ الذي يُلقى للطائر ليُصاد به، فاعلم أن كلَّ خاطر منها فهو حبَّة في فخٍّ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.


• أن تَعْلم أنَّ الخواطر الرَّديئة لا تجتمع مع خواطر الإيمان ودواعي المحبَّة أصلاً، بل هي ضِدُّها من كلِّ وجه.
• أن تعلم أنَّ الخواطر بحرٌ من بحور الخيال، لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص، فلا يجد إليه سبيلاً، فيكون بعيدًا عن الفلاَح.
• أن تعلم أنَّ الخواطر وادي الحَمْقى، وأماني الجاهلين، فلا تُثْمر إلاَّ الندامةَ والخِزْي، وإذا غلبَتْ على القلب أورثَتْه الوساوس وعزلَتْه عن سلطانها، وانسدَّت عليه عينُه، وألقَتْه في الأَسْر الطويل.
أما النوع الثَّالث
وهو آفات القلب؛ كالحِقْد والحسَد، والكبرياء والعُجْب - فهو باطن الإثم، قال - تعالى -:
ï´؟ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ï´¾
[الأنعام: 120]
وجِمَاع دواء هذه الآفات رؤية عَجْز النَّفس، وقيامها بالله، ومشاهدة حِكْمة الله - تعالى - وتصرُّفِه في الخلق، فمِثْل هذا الاستحضار يَحُول بينه وبين الاعتراض على تقسيم الرِّزق والنِّعَم، ويحول بينه وبين رؤية النَّفس وقدرتها، ويؤول به الحال إلى التسليم بِمنَّة الله وعدله وحكمته.
وقد تكلَّم الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - كلامًا نفيسًا عن هذه الآفات في كتابه: "الطب الرُّوحاني"، فراجِعْه هناك؛ تجِدْ علاجاتٍ تفصيليةً لكلِّ آفة ومرض، وحَسْبُنا من الألْف شاهد مثالٌ واحد.


لكن ابن القيِّم - رحمه الله - يَلْمس مَكمن الداء، ويَصِفه وصفًا دقيقًا، ثم يقترح العلاج المناسب، فيقول: "واعلم أنَّ الخطرات والوساوس تؤدِّي متعلّقاتها إلى الفكر، فيأخذ الفِكْرُ فيؤدِّيها إلى التذكُّر، فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة إلى الجوارح والعمل، فتستحكم، فتصير عادة، فردُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوَّتِها وتمامِها، ومعلومٌ أنه لم يُعطَ الإنسان إماتة الخواطر، ولا القوَّة على قطعها وهي تَهْجم عليه هجوم النفس، إلاَّ أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومُساكنته له، على رفع أقبحها، وكراهته له، ونفرته منه، كما قال الصحابة: يا رسول الله، إنَّ أحدنا يجد في نفسه ما لأَنْ يحترق حتى يصير حممةً أحبُّ إليه من أن يتكلَّم به، فقال: ((أوَقدْ وجدتُموه؟)) قالوا: نعَم، قال: ((ذاك صريح الإيمان))
وفي لفظ: ((الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة)).
وفيه قولان:
أحدهما: أنَّ ردَّه وكراهته صريحُ الإيمان.
والثاني:
أنَّ وجوده وإلقاء الشيطان له في نفسه صريح الإيمان؛ فإنه إنَّما ألقاه في النَّفس؛ طلبًا لِمُعارضة الإيمان، وإزالته به، وقد خلق الله - سبحانه - النَّفس شبيهة بالرَّحى الدَّائرة التي لا تَسْكن، ولا بُدَّ لها من شيءٍ تَطْحنه، فإن وُضع فيها حيٌّ طحنَتْه، وإن وضع فيها تراب أو حصًى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنْزِلة الحَبِّ الذي يوضع في الرَّحى، ولا تبقى تلك الرحى معطَّلة قطُّ، بل لا بدَّ لها من شيءٍ يوضع فيها، فمن الناس من يَطْحن رَحاه حَبًّا يخرج دقيقًا، ينفع به نفسَه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصًى وتِبنًا ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبيَّن له حقيقة طحنه".
فهذه نماذج من قُطَّاع طريقك إلى الله، وسفَرِك في درب الآخرة، وسعيك في عتق رقبتك من النار، وبَذْل ثَمن الجنة، فاحذر مثل تلك الصَّوارف وأعِدَّ لها عُدَّتها، والله الموفِّق.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 280.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 274.65 كيلو بايت... تم توفير 6.15 كيلو بايت...بمعدل (2.19%)]