وثن الملاحدة في القديم والحديث - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 26-01-2021, 04:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي وثن الملاحدة في القديم والحديث

وثن الملاحدة في القديم والحديث
ياسر بن عبده بن إبراهيم حليس


المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
من المسائل المهمة مسألة قديمة حديثة وهي القول بالصدفة في أسباب نشأة الكون، وأن هذا الكون قد نشأ بمحض الصدفة، وأن وجوده ليس وجوداً مقصوداً ولا مفتقراً إلى خالقٍ أوجده، ومعلوم بداهةً بطلان هذا القول، وسأبين من خلال هذا المختصر نشأة هذا القول ونقده نقدا مختصراً يبين بطلان هذا القول الفاسد، وقد سميته وثن الملحدين في القديم والحديث) فالقول بالصدفة وأن الطبيعة فاعلة أشبه ما يكون بوثنٍ تعلق به من تعلق من الملاحدة قديماً وحديثاً.

وقد جعلت هذا المختصر على عدة مطالب وهي كالتالي:
مدخل: الإلحاد القديم وعلاقته بالإلحاد المعاصر.
المطلب الأول: تاريخية القول بالصدفة.
المطلب الثاني: مناقشة القول بالصدفة.
كتبه: ياسر بن عبده إبراهيم حليس
المملكة العربية السعودية - تبوك
♦♦ ♦♦ ♦♦

مدخل:
الإلحاد القديم وعلاقته بالإلحاد المعاصر:
كان الإلحاد بمفهومه المعاصر في القديم يطلق على فئتين تقريباً، فئة جاء ذكرها في القرآن وهم الدهرية الذين كانوا يقولون ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [الجاثية: 24] فجعلوا الدهر هو المتصرف فيهم بالإحياء والإماتة، وأنكروا وجود الله سبحانه وتعالى يقول ابن كثير رحمه الله: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا (وما يهلكنا إلا الدهر) وقال الله تعالى: ﴿ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [الجاثية: 24] أي: يتوهمون ويتخيلون، ويقول التهانوي عنهم: (فرقة من الكفار ذهبوا الى قدم الدهر واستناد الحوادث الى الدهر... وذهبوا الى ترك العبادات رأسا لأنها لا تفيد، وإنّما الدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة على ما هو الواقع فيه. فما ثمّ إلّا أرحام تدفع وأرض تبلع وسماء تقلع وسحاب تقشع وهواء تقمع، ويسمّون بالملاحدة أيضا)[1] ولا شك أن قولهم هذا إنكار صريح لوجود الله، وزعمٌ منهم أن المتصرف فيهم هو الزمان وتقلب الليل والنهار.

وأما الفئة الثانية فهم الطبائعيون هم الذين نسبوا المخلوقات إلى الطبيعة، وقالوا إن الطبيعة هي التي توجد وتخلق يقول ابن الجوزي: (لما رأى إبليس قلة موافقته على جحد الصانع لكون العقول شاهدة بأنه لا بد للمصنوع من صانع حسن لأقوام أن هذه المخلوقات فعل الطبيعة، وقال: ما من شيء يخلق إلا من اجتماع الطبائع الأربع فيه فدل على أنها الفاعلة)[2] وقد تصدى لبعض شبههم في كتابه "تلبيس إبليس" وذكر شيئاً مما عندهم، وقد ذكر القحطاني الأندلسي في نونيته الشهيرة هؤلاء الفلاسفة الطبائعيين ورد عليهم قبل ألف عامٍ تقريباً في نونيته الشهيرة فأحسن فيها وأجاد رحمه الله رحمةً واسعة، وستأتي معنا لاحقاً.

يقول التهانوي - رحمه الله - عنهم: (فرقة يعبدون الطبائع الأربع أي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة لأنّها أصل الوجود، إذ العالم مركّب منها وتسمّى هذه الفرقة بالطبائعية)[3].

ويسمى هذا المذهب في الفلسفة العامة بالمذهب الطبيعي أي أنهم ينسبون كل شيء إلى الطبيعة، وأن الطبيعة هي الوجود كله، وأن لا وجود إلا للطبيعة، ومعنى ذلك أنهم يردون جميع الظواهر في الوجود إلى الطبيعة، وهم بهذا ينكرون الخالق الصانع المدبر[4]، فهم في حقيقة الأمر قد قاربوا الدهريين في نسبة الأشياء والوقائع والحوادث في الكون لغير الله عز وجل.

وهذه النسبة إلى الطبيعة في التصرف فكما أنها قديمة، فهي أيضاً حديثة ومطروحة في زماننا هذا وبقوة، وكثيراً ما تنسب بعض الكوارث التي تنزل بالناس من براكين وأعاصير وزلازل إلى الطبيعة؛ فتُعامل على أنها فاعلة وهي في الحقيقة مفعوله، فيقال: الطبيعة غضبت، الطبيعة فعلت وهكذا، وهذا لاشك أنه إلحاد وفيه نسبة الحوادث إلى غير الله عز وجل وهو نتيجة للمذهب الطبيعي الإلحادي الذي ينسب المتغيرات في الكون إلى الطبيعة والمادة والكون نفسه، ولست أقصد هنا من يجريها على لسانه دون فقه ونظر في معناها من أبناء المسلمين، وهذا لا شك بأنه خطأ ومن شرك الألفاظ، ولكن ليس بالضرورة أن قائله ينكر وجود الله.

وأما الإلحاد في العصور المتقدمة لم يكن حالة منتشرة سائدة بين الناس، ولكنه في العصور المتأخرة فهو من الكثرة بمكان، لا سيما في أوروبا التي جابهت طغيان الكنيسة، وكان مما افترضته (الكنيسة على أتباعها أن يؤمنوا بأن الأرض ليست كروية وأنها مركز الكون، والغريب أنهم جعلوا هذه الآراء عقيدة ودينا لأتباعهم، ولما جرب العلماء هذه الآراء وأخضعوها للبحث العلمي وجدوها خرافة لا أساس لها من الصحة، وجهلا لا حظ لها من العلم، فأعلن العلماء رفضهم لها وللكنيسة معا)[5] وبعد الانقلاب على الكنيسة باسم العلم قبل ثلاثة قرون تقريباً، تبنت اليهودية العالمية هذا الفكر الإلحادي لتقضي به على جميع الأديان؛ وتسيطر عليها، وقد كانوا يشجعون أيّ فكر أو حركة ضد الدين وأهله -أي دين كان- وينشرون الشعارات البراقة مثل: إقامة الحياة السعيدة، أو العيش السعيد للبشر في ظل أنظمتهم المزعومة، وتحقير أمرهم في أعين العامة، وخصوصًا علماء الدين؛ حيث ألصقوا بهم شتَّى التُّهم لتنفير الناس عنهم وعن مبادئهم، ثم تشجيع النظريات المعادية للدين أو لرجال الدين، أو الجانحة إلى التفلُّت من عقيدة الإيمان بالله تعالى، وإطلاق الألقاب الفخمة على كل شخص، أو فكر يظهر منه ذلك مهما كانت حقارة القائل أو الفكر[6].

فما لبثت هذه الأفكار حتى نشأت مذاهب فلسفية مادية هدامة تقول بإنكار وجود الله عز وجل فمكنت اليهود مما كانوا يصبون إليه من إبعاد الناس عن معتقداتهم، فخرجت مذاهب فكرية كالعلمانية والشيوعية والوجودية، فأما العلمانية فأحجمت عن الدين وجعلته فقط في الكنيسة دون شؤون الحياة الأخرى، ولم تخل من الإلحاد بل هي الممهدة له[7]، بل من رحمها خرجت الشيوعية والوجودية التي من أبرز سماتها إنكار وجود الله عز وجل.

وانتشرت كذلك الكثير من النظريات العلمية الإلحادية[8] التي لها دور في نشر الإلحاد حتى بين آحاد الناس، كنظرية دارون التي وظفها أهل الإلحاد لصالحهم، والقول بالصدفة أي: أن هذا الكون نشأ صدفة، أو القول بالانفجار العظيم أي: أن هذا الكون نتج عن ذرات اجتمعت فأحدثت انفجاراً عظيماً نشأ منه هذا الكون، وغير ذلك من النظريات الكونية التي تتكلم عن حدوث الكون، وأغلب هذه النظريات التي تتحدث عن الكون وكيفية نشوئه في معزل عن إثبات وجود الله سبحانه وتعالى.

ومعلومٌ أن التفكر في المخلوقات سببٌ لمعرفة الله عز وجل وأنه الخالق المدبر لهذا الكون، وهذا مقتضى الفطرة الربانية التي أودعها الله عز وجل قلوب الناس، فإذا انحرف الناس عن مقتضى هذه الفطرة، وهي معرفة الله عز وجل وأنه الرب الخالق المدبر، فضلاً عن إنكار وجوده!! كان هذا سبب عظيم لتعطيل التفكر في المخلوقات ونسبتها إلى غير خالقها، فيصبح من هذا حاله جلُّ تفكيره في هذا العالم المادي مع إنكاره للغيبيات، ومعلوم أن هذا الاعتقاد مصادم للفطرة التي خلق الله عز وجل الناس عليها، وأيضاً فيه مكابرة لإنكارِ أمرٍ معلوم بالضرورة، فينشغل بالمصنوع عن الصانع، وبالمخلوق عن الخالق، فيأتي بالأضحوكات من المقالات الغير معقولة، والنظريات والفرضيات التي تخالف أموراً بديهية فطرية، فيكون حظه من هذا النظر ما قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 7، 8] وأما عن حواسهم التي زعموا أنهم لم يروا بها الخالق عز وجلفأنكروا وجوده لأنه غير محسوس بزعمهم يقول الله عز وجل ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

يقول الشيخ بن عثيمين: (ومن الطرق التي توصل إلى معرفة الله عز وجل الأمور العقلية، فإن العقل يهتدي إلى معرفة الله إذا كان القلب سليما من الشبهات، فينظر إلى ما في الناس من نعمة فيستدل به على وجود المنعم، وعلى رحمة المنعم، لأنه لولا وجود المنعم ما وجدت النعم، ولولا رحمته ما وجدت النعم)[9] فهذا أمرٌ بدهي، ولكن إذا كان القلب قد سيطرت عليه الشبهات والأهواء لا يتحرج من إنكار أظهر البديهيات وهو وجود الله عز وجل، فلا ينفع حينها نظرٌ ولا تفكر ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40] وسيأتي مزيد من بيان هذا قريباً.

المطلب الأول: تاريخية القول بالصدفة:
في نظري أن جلَّ النظريات والمقالات الإلحادية المعاصرة هي امتدادٌ لما عليه بعض فلاسفة اليونان القدماء[10]، فمن مقالاتهم أن العالم لا يمكن أن يكون خلق من العدم المحض، وأن المادة الأولى التي خلق منها الكون هو الماء لإمكان تشكله، ثم جاء من يقول إن المادة التي تكَّون منها الكون هو الهواء؛ ثم جاء من يقول أن أصل الخلق مادةٌ لا شكل لها ولا نهاية ولا حدود، ثم جاء من يقول - الفيلسوف اكزنوفنس - إن خالق هذا الكون هو غير ما ذهب إليه الأقدمون، بل ذهب إلى أنه إله ليس مثل تركيب البشر، ولا يفكر كتفكيرنا، بل هو إله كله سمع، وكله بصر، وهو بكلامه هذا اقترب من إثبات وجود خالق حقيقي للكون، ثم تعددت الآراء بعد ذلك في المادة التي خلق منها الكون إلى أن جاء من يقول إن الكون مكون من ذرات أربع عناصر لا تخرج عنها وهي (التراب والماء والنار والهواء) وأن القوة التي تحرك هذه الذرات هي قوة الحب والنفور!! أقول: (وما هو الشيء الذي أحدث فيها الحب والنفور؟!) ثم جاء (ديموقريطس) الذي ينسب إليه المذهب الذري، وقال: إن الكون مكون من ذرات متشابهة متجانسة أزلية قديمة لا بد لها من فراغ وحركة، وأما سبب حركة هذه الذرات فيقول أنها: (ضرورة عمياء) أقول: كأنه يعني أنها جاءت بالمصادفة، أي أن هذه الذرات أثناء حركتها في هذا الفراغ عشوائياً نشأ هذا الكون بما فيه من مخلوقات فنسب نشوء هذه الذرات وحركتها إلى المصادفة (الضرورة العمياء) أي من قبل نفسها، وقال بأن المادة أزلية، وهذا لا شك أنه إلحاد!، ولكن هذه الإجابة لم تعجب من أتى بعده من الفلاسفة!!، فقال بعضهم: كيف لضرورة عمياء أن تنشأ هذا الكون العظيم المكون من جماد وحيوان ونبات وبهذا الاتقان وبهذا الجمال، فالضرورة العمياء لا تخلق إلا الفوضى، وهذا الكون لم يصدر إلا عن رشيد حكيم بصير[11] وهناك أقوال أخرى مختلطة عند هؤلاء الفلاسفة في تفسير حدوث الكون، وأصبح من هؤلاء الفلاسفة من يدعى بالفلاسفة الإلهيين، وهم الذين يثبتون أن لهذا الكون قوة فاعلة.

والمتأمل لهذه الأقوال يجد أن الأقوال المعاصرة والقديمة متقاربة، وسبب ذلك أنها تخرصات فكرية مكونة من مقدمات ونتائج قد يكون خطأها أكثر من صوابها لابتعادها عن الوحي، واعتمادها على المنطق اليوناني خصوصاً فيما يتعلق بالإلهيات وعلى فرضيات ذهنية ليس لها أساس في الواقع، فقول ديموقريطس المتقدم من أن نشوء الكون والمخلوقات ضرورة عمياء هو قول قريب ممن يقول بأن الكون نشأ صدفة عن طريق التقاء الذرات، أو أن الطبيعة هي الفاعلة، وبما أن الطبيعة فاعلة فهي إذن عمياء غير عاقلة ولا تعي ما تصنع[12].

ثم جاء من الفلاسفة المحدثين المتأخرين (ديفيد هيوم) من يقول: (إننا لا نعلم عن العلة شيئاً إلا أنها الحادثة السابقة التي نشاهدها قبل حدوث معلولها، وإذن فلا بد من مشاهدة الحادثتين معاً السابقة واللاحقة على السواء، إننا نستدل من وجود الساعة على وجود صانعها، لأننا رأينا الساعة والصانع كليهما، وإذن فوجود الكون لا يقوم دليلاً على وجود صانعه، إلا إذا رأينا الصانع والمصنوع جميعاً)[13] وهذا إنكار صريح منه للخالق عز وجل وحجته المنطقية في ذلك أنه رأى المصنوع وهو الكون، ولم ير الصانع فهذا يقتضي بزعمه عدم وجوده.

وأيضاً المذهب الوضعي الذي جاء به (أوجست كونت) والذي مفاده أن كل معرفة لا تدرك بالحس أو لا تأتي عن طريق الحس فهي غير يقينية، ولو كانت من الحقائق المطلقة كالدين أو ما وراء الطبيعة[14] فهذا المذهب الوضعي كان له أثر كبير في موجة الإلحاد التي اجتاحت أوروبا ووصل إلى بعض الشباب المسلمين.

ومنهم من يقول بأن الله قد مات أو في طريقه إلى الموت! وملحدٌ آخر يقول بأن الله يحتضر في الشعوب المتخلفة! وعلة ذلك النظرة العلمية المادية السائدة في أوروبا[15]، أقول: ناقل الكفر ليس بكافر؛ ولكن هذا حال كثير من الملحدين.

فبين القديم والحديث تجتمع أسباب للإلحاد والتي من أهمها إعجاب الإنسان بنفسه وعقله واعتقاده بأنه قادر على معرفة الكثير من الأسرار في هذا الكون حتى تجرأ على إنكار وجود الله الذي وجوده ضرورة عقلية وفطرية قال تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ [غافر: 36، 37] فهو يريد أن يبلغ أبواب السماء ليكشف كذب موسى عليه السلام من أن هناك رباً أرسله إليهم[16].

ومن هذه الأسباب التطور العلمي المادي والتجريبي الذي حصل في الأزمان المتأخرة، وبعد الثورة في أوروبا على طغيان الكنيسة التي كانت تجبر الناس على ما تقرر في كتبهم المحرفة، والتي كانت تعارض العلم والواقع الذي كانوا يرونه بأعينهم، ثم ما لبثوا حتى خلف خلفٌ طردوا هذا الأمر على جميع الأديان، فجعلوا أن الدين يعارض العلم، ولم يستثنوا أي دين حتى الدين الإسلامي على أيدي المستشرقين، وبعض المنتسبين إلى الإسلام حيث جعلوه بمنزلة النصرانية المحرفة ظلماً وبهتاناً، وأصبح رواد هذه المدارس المادية والوضعية لا يؤمنون إلا بما هو مادي محسوس، فأهملوا الماورائيات (الغيبيات) فكان من جملة ذلك إنكار وجود الله، ثم زاد انتشاره عندما فرض بالقوة على بعض البلدان الماركسية الشيوعية فأصبح مذهباً تعتنقها دولاً بكبرها كروسيا والصين مثلاً، وأصبح من أبناء المسلمين من يعتنق هذه المذاهب كالشيوعية والعلمانية على ما فيها من سوءات.

وسأناقش إحدى شبههم الواهية التي تعلق بها الملاحدة الذين ينكرون وجود الله عز وجل وهو أمرٌ قديمٌ وحديث في نفس الوقت كما تقدم، وهو قولهم بأن الطبيعة هي الخالقة، فالذي أوجد الأرض والسماوات، والجماد والحيوانات، والإنسان وغيره من المخلوقات هي الطبيعة وحدها، وعند سؤالهم كيف تكونت البحار ونزلت الأمطار وحدثت الزلازل والبراكين والأعاصير فالجواب عندهم دائماً هو الطبيعة، أي أن جميع قوانين الكون أوجدتها الطبيعة ولا خالق لهذه الأشياء، وإذا قيل لهم كيف أُوجدت الطبيعة قالوا عن طريق الصدفة!! ومعلومٌ أن القول بالصدفة يعنون به أن هذا الكون ليس له خالق، بل الأمور وجدت هكذا اتفاقاً من غير تدبير، وهذا يتعارض ويتناقض مع الآيات القرآنية التي تحث على التفكر في المخلوقات والمصنوعات التي يُعرف الله عز وجل بها، وذلك بوجودها وإتقانها الذي يدل على وجود خالقها وإرادته وقدرته وحكمته، وهذا ما سأتناوله في الرد على هؤلاء الملاحدة في المطلب القادم، وأبين أن التفكر السليم قد يكون السبب في علاجهم من هذه الآفة الخطيرة والشبهة السيئة.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 126.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 125.18 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (1.39%)]