تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله - الصفحة 63 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حق الجار والضيف وفضل الصمت.محاضرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          حبل الله قبل كلّ سبب وفوقه .! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          اضربوا لي معكم بسهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          ونَزَعْنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخواناً على سُرُر متقابلين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          أنت وصديقاتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          التشجيع القوة الدافعة إلى الإمام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          شجاعة السلطان عبد الحميد الثاني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          نظرات في مشكلات الشباب ومحاولة الحل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          دولة الموحدين - ملوك دولة الموحدين عبد المؤمن وابنه يوسف وحفيده يعقوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          عقد مودة ورحمة بين زوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #621  
قديم 05-09-2020, 03:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (620)
تفسير السعدى
(سورةالنازعات)
من (1)الى (14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة النازعات
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } 31 { حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً } 32 { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } 33 { وَكَأْساً دِهَاقاً } 34 { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً } 35 { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً }36


لما ذكر حال المجرمين، ذكر مآل المتقين، فقال: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } أي: الذين اتقوا سخط ربهم، بالتمسك بطاعته، والانكفاف عما يكرهه فلهم مفاز ومنجى، وبُعْدٌ عن النار، وفي ذلك المفاز لهم { حَدَآئِقَ } وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية، في الثمار التي تتفجر بين خلالها الأنهار، وخص الأعناب لشرفه وكثرته في تلك الحدائق. ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس { وَكَوَاعِبَ }: وهي: النواهد اللاتي لم تتكسر ثديهن من شبابهن، وقوتهن ونضارتهن. " والأتراب ": اللاتي على سن واحد متقارب، ومن عادة الأتراب أن يكن متآلفات متعاشرات، وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة، في أعدل سن الشباب. { وَكَأْساً دِهَاقاً } أي: مملوءة من رحيق، لذة للشاربين، { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } أي: كلاماً لا فائدة فيه { وَلاَ كِذَّاباً } أي: إثما. كما قال تعالى:{ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [الواقعة: 25-26]. وإنما أعطاهم الله هذا الثواب الجزيل [من فضله وإحسانه] { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ } لهم { عَطَآءً حِسَاباً } أي: بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلها ثمناً لجنته ونعيمها.
{ رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } 37 { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } 38 { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً } 39 { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }40


أي: الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم { رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } الذي خلقها ودبرها { ٱلرَّحْمَـٰنِ } الذي رحمته وسعت كل شيء، فرباهم ورحمهم، ولطف بهم، حتى أدركوا ما أدركوا. ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة، وأن جميع الخلق كلهم ذلك اليوم ساكتون لا يتكلمون، و { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فلا يتكلم أحد إلا بهذين الشرطين: أن يأذن الله له في الكلام، وأن يكون ما تكلم به صواباً، لأن { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ } هو { ٱلْحَقُّ } الذي لا يروج فيه الباطل، ولا ينفع فيه الكذب، وفي ذلك اليوم { يَقُومُ ٱلرُّوحُ } وهو جبريل عليه السلام، الذي هو أشرف الملائكة، { وَٱلْمَلاَئِكَة ُ } [أيضاً يقوم الجميع] { صَفّاً } خاضعين لله { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ } إلا بما أذن لهم الله به. فلما رغَّب ورهَّب، وبشَّر وأنذر، قال: { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً } أي: عملاً، وقدم صدق يرجع إليه يوم القيامة. { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } لأنه قد أزف مقبلاً، وكل ما هو آت فهو قريب. { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي: هذا الذي يهمه ويفزع إليه، فلينظر في هذه الدنيا إليه، كما قال تعالى:{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } الآيات [الحشر: 18]. فإن وجد خيراً فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ولهذا كان الكفار يتمنون الموت من شدة الحسرة والندم.
سورة النازعات

{ وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } 1 { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } 2 { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } 3 { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } 4 { فَٱلْمُدَبِّرَا تِ أَمْراً } 5 { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ } 6 { تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } 7 { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } 8 { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } 9 { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ } 10 { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } 11 { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } 12 { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } 13 { فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ }14


هذه الإقسامات بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله، وإسراعهم في تنفيذ أمره، يحتمل أن المقسم عليه، الجزاء والبعث، بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك، ويحتمل أن المقسم عليه والمقسم به متحدان، وأنه أقسم على الملائكة، لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، ولأن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتولاه الملائكة عند الموت وقبله وبعده، فقال: { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً }: وهم الملائكة التي تنزع الأرواح بقوة، وتغرق في نزعها حتى تخرج الروح، فتجازى بعملها. { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً }: وهم الملائكة أيضاً، تجتذب الأرواح بقوة ونشاط، أو أن النزع يكون لأرواح المؤمنين، والنشط لأرواح الكفار. { وَٱلسَّابِحَاتِ } أي: المترددات في الهواء صعوداً ونزولاً { سَبْحاً } { فَٱلسَّابِقَاتِ } لغيرها { سَبْقاً } فتبادر لأمر الله، وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل الله حتى لا تسترقه. { فَٱلْمُدَبِّرَا تِ أَمْراً } الملائكة، الذين وكلهم الله أن يدبروا كثيراً من أمور العالم العلوي والسفلي، من الأمطار، والنبات، والأشجار، والرياح، والبحار، والأجنة، والحيوانات، والجنة، والنار [وغير ذلك] { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ } وهي قيام الساعة، { تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } أي: الرجفة الأخرى التي تردفها وتأتي تِلْوَها، { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } أي: موجفةٌ ومنزعجة من شدة ما ترى وتسمع. { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } أي: ذليلة حقيرة، قد ملك قلوبهم الخوف، وأذهل أفئدتهم الفزع، وغلب عليهم التأسف [واستولت عليهم] الحسرة. يقولون أي: الكفار في الدنيا، على وجه التكذيب: { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } أي: بالية فتاتاً. { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } أي: استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاماً نخرة، جهلاً [منهم] بقدرة الله، وتجرُّؤا عليه. قال الله في بيان سهولة هذا الأمر عليه: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } ينفخ فيها في الصور. فإذا الخلائق كلهم { بِٱلسَّاهِرَةِ } أي: على وجه الأرض، قيام ينظرون، فيجمعهم الله ويقضي بينهم بحكمه العدل ويجازيهم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #622  
قديم 13-09-2020, 04:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (621)
تفسير السعدى
(سورةالنازعات)
من (15)الى (46)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة النازعات

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } 15 { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } 6 { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } 17 { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ } 18 { وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ } 19 { فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } 20 { فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ } 21 { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ } 22 { فَحَشَرَ فَنَادَىٰ } 23 { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } 24 { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } 25 { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ }26


يقول [الله] تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } وهذا الاستفهام عن أمر عظيم متحقق وقوعه. أي: هل أتاك حديثه { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } وهو المحل الذي كلمه الله فيه، وامتن عليه بالرسالة، واختصه بالوحي والاجتباء فقال له: { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } أي: فانهه عن طغيانه وشركه وعصيانه، بقول لين، وخطاب لطيف، لعله{ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه: 44]. { فَقُلْ } له: { هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ } أي: هل لك في خصلة حميدة، ومحمدة جميلة، يتنافس فيها أولو الألباب، وهي أن تُزَكِّي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان، إلى الإيمان والعمل الصالح؟ { وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ } أي: أدلك عليه، وأُبيِّنُ لك مواقع رضاه، من مواقع سخطه. { فَتَخْشَىٰ } الله إذا علمت الصراط المستقيم، فامتنع فرعون مما دعاه إليه موسى. { فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } أي: جنس الآية الكبرى، فلا ينافي تعددها{ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } [الأعراف: 107-108]. { فَكَذَّبَ } بالحق { وَعَصَىٰ } الأمر، { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ } أي: يجتهد في مُبارزة الحق ومحاربته، { فَحَشَرَ } جنوده أي: جمعهم { فَنَادَىٰ * فَقَالَ } لهم: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } فأذعنوا له، وأقروا بباطله حين استخفهم، { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } أي: صارت عقوبته دليلاً وزاجراً، ومبينةً لعقوبة الدنيا والآخرة، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } فإن من يخشى الله، هو الذي ينتفع بالآيات والعبر، فإذا رأى عقوبة فرعون، عرف أن كل من تكبر وعصى، وبارز الملك الأعلى، عاقبه في الدنيا والآخرة، وأما من ترحلت خشية الله من قلبه، فلو جاءته كل آية لم يؤمن [بها].
{ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } 27 { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } 28 { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } 29 { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } 30 { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } 31 { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } 32 { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم ْ }33


يقول تعالى مبيناً دليلاً واضحاً لمنكري البعث ومستبعدي إعادة الله للأجساد: { ءَأَنتُمْ } أيها البشر { أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ } ذات الجرم العظيم، والخلق القوي، والارتفاع الباهر { بَنَاهَا } الله، { رَفَعَ سَمْكَهَا } أي: جرمها وصورتها، { فَسَوَّاهَا } بإحكام وإتقان يحير العقول، ويذهل الألباب، { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } أي: أظلمه، فعمت الظلمة [جميع] أرجاء السماء، فأظلم وجه الأرض، { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي: أظهر فيه النور العظيم، حين أتى بالشمس، فامتد الناس في مصالح دينهم ودنياهم. { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ } أي: بعد خلق السماء { دَحَاهَا } أي: أودع فيها منافعها. وفسر ذلك بقوله: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي: ثبتها في الأرض. فَدَحْيُ الأرض بعد خلق السماء، كما هو نص هذه الآيات [الكريمة]. وأما خلق نفس الأرض، فمتقدم على خلق السماء كما قال تعالى:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9] إلى أن قال:{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11]. فالذي خلق السماوات العظام وما فيها من الأنوار والأجرام، والأرض الكثيفة الغبراء، وما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم، لا بد أن يبعث الخلق المكلفين، فيجازيهم على أعمالهم، فمن أحسن فله الحسنى ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه، ولهذا ذكر بعد هذا القيام الجزاء، فقال: { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ... }.
{ فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ } 34 { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ } 35 { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } 36 { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ } 37 { وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } 38 { فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } 39 { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } 40 { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ }41


أي: إذا جاءت القيامة الكبرى، والشدة العظمى، التي يهون عندها كل شدة، فحينئذ يذهل الوالد عن ولده، والصاحب عن صاحبه [وكل محب عن حبيبه]. و { يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ } في الدنيا، من خير وشر، فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته، ويغمّه ويحزن لزيادة مثقال ذرة في سيئاته. ويعلم إذ ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدنيا، وينقطع كل سبب ووصلة كانت في الدنيا، سوى الأعمال. { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } أي: جعلت في البراز، ظاهرة لكل أحد، قد برزت لأهلها، واستعدت لأخذهم، منتظرة لأمر ربها. { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ } أي: جاوز الحد، بأن تجرأ على المعاصي الكبار، ولم يقتصر على ما حده الله. { وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } على الآخرة، فصار سعيه لها، ووقته مستغرقاً في حظوظها وشهواتها، ونسي الآخرة وترك العمل لها. { فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [له] أي: المقر والمسكن لمن هذه حاله، { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } أي: خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل، فأثَّر هذا الخوف في قلبه فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها عن طاعة الله، وصار هواه تبعاً لما جاء به الرسول، وجاهد الهوى والشهوة الصادّين عن الخير، { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ } [المشتملة على كل خير وسرور ونعيم] { هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } لمن هذا وصفه.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا } 42 { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَٰهَا } 43 { إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَٰهَآ } 44 { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا } 45 { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَٰهَا }46


أي: يسألك المتعنتون المكذبون بالبعث { عَنِ ٱلسَّاعَةِ } متى وقوعها و { أَيَّانَ مُرْسَٰهَا } فأجابهم الله بقوله: { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَٰهَا } أي: ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة وقت مجيئها؟ فليس تحت ذلك نتيجة، ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا دنيوية، بل المصلحة في خفائه عليهم، طوى علم ذلك عن جميع الخلق، واستأثر بعلمه فقال: { إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَٰهَآ } أي: إليه ينتهي علمها، كما قال في الآية الأخرى:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 187]. { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا } أي: إنما نذارتك [نفعها] لمن يخشى مجيء الساعة، ويخاف الوقوف بين يديه، فهم الذين لا يهمهم سوى الاستعداد لها والعمل لأجلها. وأما من لا يؤمن بها، فلا يبالي به ولا بتعنته، لأنه تعنت مبني على العناد والتكذيب، وإذا وصل إلى هذه الحال، كان الإجابة عنه عبثاً، ينزه الحكيم عنه [تمت] والحمد لله رب العالمين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #623  
قديم 13-09-2020, 04:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (622)
تفسير السعدى
(سورة عبس)
من (1)الى (42)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة عبس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

وسبب نزول هذه الآيات الكريمات، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى الله عليه ويتعلم منه. وجاءه رجل من الأغنياء، وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الخلق، فمال صلى الله عليه وسلم [وأصغى] إلى الغني، وصد عن الأعمى الفقير، رجاءً لهداية ذلك الغني، وطمعاً في تزكيته، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف، فقال: { عَبَسَ } [أي:] في وجهه { وَتَوَلَّىٰ } في بدنه، لأجل مجيء الأعمى له، ثم ذكر الفائدة في الإقبال عليه، فقال: { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ } أي: الأعمى { يَزَّكَّىٰ }؟ أي: يتطهر عن الأخلاق الرذيلة، ويتصف بالأخلاق الجميلة؟ { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } أي: يتذكر ما ينفعه، فيعمل بتلك الذكرى. وهذه فائدة كبيرة، هي المقصودة من بعثة الرسل، ووعظ الوعاظ، وتذكير المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقراً لذلك منك، هو الأليق الواجب، وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني الذي لا يسأل ولا يستفتي لعدم رغبته في الخير، مع تركك من هو أهم منه، فإنه لا ينبغي لك، فإنه ليس عليك أن لا يزكى، فلو لم يَتزَكَّ، فلست بمحاسب على ما عمله من الشر. فدلّ هذا على القاعدة المشهورة، أنه: " لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة " ، وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم، المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره.
لَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُ مْ (32)
يقول تعالى: { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } أي: حقاً إن هذه الموعظة تذكرة من الله، يذكر بها عباده، ويبين لهم في كتابه ما يحتاجون إليه، ويبين الرشد من الغي، فإذا تبين ذلك { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } أي: عمل به، كقوله تعالى:{ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29]. ثم ذكر محل هذه التذكرة وعظمها ورفع قدرها، فقال: { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ } القدر والرتبة { مُّطَهَّرَةٍ } [من الآفاق و] عن أن تنالها أيدي الشياطين أو يسترقوها، بل هي { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } وهم الملائكة [الذين هم] السفراء بين الله وبين عباده، { كِرَامٍ } أي: كثيري الخير والبركة، { بَرَرَةٍ } قلوبهم وأعمالهم. وذلك كله حفظ من الله لكتابه، أن جعل السفراء فيه إلى الرسل الملائكة الكرام الأقوياء الأتقياء، ولم يجعل للشياطين عليه سبيلاً، وهذا مما يوجب الإيمان به وتلقِّيه بالقبول، ولكن مع هذا أبى الإنسان إلا كفوراً، ولهذا قال تعالى: { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } لنعمة الله، وما أشد معاندته للحق بعدما تبين، وهو ما هو؟ هو من أضعف الأشياء، خلقه الله من ماء مهين، ثم قدر خلقه، وسواه بشراً سوياً، وأتقن قواه الظاهرة والباطنة. { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } أي: يسر له الأسباب الدينية والدنيوية، وهداه السبيل، [وبينه] وامتحنه بالأمر والنهي، { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي: أكرمه بالدفن، ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه الأرض، { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } أي: بعثه بعد موته للجزاء، فالله هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التصاريف، لم يشاركه فيه مشارك، وهو - مع هذا - لا يقوم بما أمره الله، ولم يقض ما فرضه عليه، بل لا يزال مقصراً تحت الطلب. ثم أرشده تعالى إلى النظر والتفكر في طعامه، وكيف وصل إليه بعدما تكررت عليه طبقات عديدة، ويسره له فقال: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } أي: أنزلنا المطر على الأرض بكثرة، { ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ } للنبات { شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا } أصنافاً مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة، والأقوات الشهية { حَبّاً } وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها، { وَعِنَباً وَقَضْباً } وهو القتّ، { وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً } وخصّ هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها. { وَحَدَآئِقَ غُلْباً } أي: بساتين فيها الأشجار الكثيرة الملتفة، { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } الفاكهة: ما يتفكه فيه الإنسان، من تين وعنب وخوخ ورمان، وغير ذلك. والأبّ: ما تأكله البهائم والأنعام، ولهذا قال: { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم ْ } التي خلقها الله وسخرها لكم، فمن نظر في هذه النعم أوجب له ذلك شكر ربه، وبذل الجهد في الإنابة إليه، والإقبال على طاعته، والتصديق بأخباره.
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
أي: إذا جاءت صيحة القيامة، التي تصخ لهولها الأسماع، وتنزعج لها الأفئدة يومئذ، مما يرى الناس من الأهوال وشدة الحاجة لسالف الأعمال، { يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ } من أعز الناس إليه، وأشفقهم لديه، { مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ } أي: زوجته { وَبَنِيهِ } وذلك لأنه { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي: قد شغلته نفسه، واهتم لفكاكها، ولم يكن له التفات إلى غيرها، فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين: سعداء وأشقياء، فأما السعداء، فوجوههم [يومئذ] { مُّسْفِرَةٌ } أي: قد ظهر فيها السرور والبهجة، من ما عرفوا من نجاتهم، وفوزهم بالنعيم، { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ } الأشقياء { يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا } أي: تغشاها { قَتَرَةٌ } فهي سوداء مظلمة مدلهمة، قد أيست من كل خير، وعرفت شقاءها وهلاكها. { أُوْلَـٰئِكَ } الذين بهذا الوصف { هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } أي: الذين كفروا بنعمة الله، وكذبوا بآيات الله، وتجرؤوا على محارمه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #624  
قديم 13-09-2020, 04:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (623)
تفسير السعدى
(سورة تكوير)
من (1)الى (29)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة تكوير

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)


أي: إذا حصلت هذه الأمور الهائلة، تميز الخلق، وعلم كل أحد ما قدمه لآخرته، وما أحضره فيها من خير وشر، وذلك إذا كان يوم القيامة تكور الشمس أي: تجمع وتلف، ويخسف القمر، ويلقيان في النار، { وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ } أي: تغيرت، وتساقطت من أفلاكها، { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ } أي: صارت كثيباً مهيلاً، ثم صارت كالعهن المنفوش، ثم تغيرت وصارت هباءً منبثاً، وسيرت عن أماكنها، { وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ } أي: عطل الناس حينئذ نفائس أموالهم التي كانوا يهتمون لها ويراعونها في جميع الأوقات، فجاءهم ما يذهلهم عنها، فنبه بالعشار، وهي النوق التي تتبعها أولادها، وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم، على ما هو في معناها من كل نفيس. { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } أي: جمعت ليوم القيامة، ليقتص الله من بعضها لبعض، ويرى العباد كمال عدله، حتى إنه ليقتص من القرناء للجمّاء ثم يقول لها: كوني تراباً. { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ } أي: أوقدت فصارت -على عظمها- ناراً تتوقد. { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي: قرن كل صاحب عمل مع نظيره، فجمع الأبرار مع الأبرار، والفجار مع الفجار، وزوج المؤمنون بالحور العين، والكافرون بالشياطين، وهذا كقوله تعالى:{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } [الزمر: 71]{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } [الزمر: 73]{ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22]. { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } وهو الذي كانت الجاهلية الجهلاء تفعله من دفن البنات وهن أحياء من غير سبب، إلا خشية الفقر، فتسأل: { بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب، ففي هذا توبيخ وتقريع لقاتليها. { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ } المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر { نُشِرَتْ } وفرقت على أهلها، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره. { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ } أي: أزيلت، كما قال تعالى:{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ } [الفرقان: 25]{ يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء: 104]{ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67]. { وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } أي: أوقد عليها فاستعرت، والتهبت التهاباً لم يكن لها قبل ذلك، { وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } أي: قُرِّبت للمتقين، { عَلِمَتْ نَفْسٌ } أي: كل نفس، لإتيانها في سياق الشرط. { مَّآ أَحْضَرَتْ } أي: ما حضر لديها من الأعمال [التي قدمتها] كما قال تعالى:{ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف: 49]. وهذه الأوصاف التي وصف الله بها يوم القيامة، من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم، ولهذا قال بعض السلف: من أراد أن ينظر ليوم القيامة كأنه رأيُ عين، فليتدبر سورة { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ }.
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
أقسم تعالى { بِٱلْخُنَّسِ } وهي الكواكب التي تخنس أي: تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة المشرق، وهي النجوم السبعة السيارة: " الشمس " ، و " القمر " ، و " الزهرة " ، و " المشترى " ، و " المريخ " ، و " زحل " ، و " عطارد " ، فهذه السبعة لها سيران: سير إلى جهة المغرب مع باقي الكواكب والأفلاك، وسير معاكس لهذا من جهة المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها. فأقسم الله بها في حال خنوسها أي: تأخرها، وفي حال جريانها، وفي حال كنوسها أي: استتارها بالنهار، ويحتمل أن المراد بها جميع النجوم الكواكب السيارة وغيرها. { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } أي: أدبر وقيل: أقبل، { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } أي: بانت علائم الصبح، وانشق النور شيئاً فشيئاً حتى يستكمل وتطلع الشمس، وهذه آيات عظام، أقسم الله بها على علو سند القرآن وجلالته، وحفظه من كل شيطان رجيم، فقال: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهو جبريل عليه السلام، نزل به من الله تعالى، كما قال تعالى:{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [الشعراء: 192-194]. ووصفه الله بالكريم لكرم أخلاقه، وكثره خصاله الحميدة، فإنه أفضل الملائكة، وأعظمهم رتبة عند ربه، { ذِي قُوَّةٍ } على ما أمره الله به. ومن قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم. { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ } أي: جبريل مقرب عند الله، له منزلة رفيعة، وخصيصة من الله اختصه بها، { مَكِينٍ } أي: له مكانة ومنزلة فوق منازل الملائكة كلهم. { مُّطَاعٍ ثَمَّ } أي: جبريل مطاع في الملأ الأعلى، لديه من الملائكة المقربين جنودٌ، نافذ فيهم أمره، مطاع رأيه، { أَمِينٍ } أي: ذو أمانة وقيام بما أمر به، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى ما حُدَّ له، وهذا [كله] يدل على شرف القرآن عند الله تعالى، فإنه بعث به هذا الملك الكريم، الموصوف بتلك الصفات الكاملة. والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات، وأشرف الرسائل. ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن، ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن، ودعا إليه الناس، فقال: { وَمَا صَاحِبُكُمْ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { بِمَجْنُونٍ } كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته، المتقولون عليه من الأقوال، التي يريدون أن يُطفِؤوا بها ما جاء به ما شاؤوا وقدروا عليه، بل هو أكمل الناس عقلاً، وأجزلهم رأياً، وأصدقهم لهجة. { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } أي: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالأفق البيِّن، الذي هو أعلى ما يلوح للبصر. { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي: وما هو على ما أوحاه الله إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو يكتم بعضه، بل هو صلى الله عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الأرض، الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين، فلم يشح بشيء منه، عن غنِيٍّ ولا فقير، ولا رئيس ولا مرؤوس، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حضريٍّ ولا بدويٍّ، ولذلك بعثه الله في أمة أمية، جاهلة جهلاء، فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى كانوا علماء ربانيين، وأحباراً متفرسين، إليهم الغاية في العلوم، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والفهوم، وهم الأساتذة، وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم.
{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } لما ذكر جلالة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين، اللذين وصل إلى الناس على أيديهما، وأثنى الله عليهما بما أثنى، دفع عنه كل آفة ونقص مما يقدح في صدقه، فقال: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } أي: في غاية البعد عن الله وعن قربه، { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } أي: كيف يخطر هذا ببالكم، وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحق الذي هو في أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب، الذي هو أنزل ما يكون [وأرذل] وأسفل الباطل؟ هل هذا إلا من انقلاب الحقائق. { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } يتذكرون به ربهم، وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من النقائص والرذائل [والأمثال]، ويتذكرون به الأوامر والنواهي وحكمها، ويتذكرون به الأحكام القدرية والشرعية والجزائية، وبالجملة، يتذكرون به مصالح الدارين، وينالون بالعمل به السعادتين. { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } بعدما تبين الرشد من الغي، والهدى من الضلال. { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } أي: فمشيئته نافذة، لا يمكن أن تعارض أو تمانع. وفي هذه الآية وأمثالها، ردٌّ على فرقتي القدرية النفاة، والقدرية المجبرة كما تقدم مثلها [والله أعلم والحمد لله].
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #625  
قديم 13-09-2020, 04:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (624)
تفسير السعدى
(سورة الانفطار)
من (1)الى (19)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الانفطار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)

أي: إذا انشقت السماء وانفطرت، وانتثرت نجومها، وزال جمالها، وفجرت البحار فصارت بحراً واحداً، وبعثرت القبور بأن أخرجت ما فيها من الأموات، وحشروا للموقف بين يدي الله للجزاء على الأعمال. فحينئذ ينكشف الغطاء، ويزول ما كان خفياً، وتعلم كل نفس ما معها من الأرباح والخسران، هنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة، وميزانه قد خف، والمظالم قد تداعت إليه، والسيئات قد حضرت لديه، وأيقن بالشقاء الأبدي والعذاب السرمدي. و [هنالك] يفوز المتقون، المقدمون لصالح الأعمال بالفوز العظيم، والنعيم المقيم، والسلامة من عذاب الجحيم.
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
يقول تعالى معاتباً للإنسان المقصر في حق ربه، المتجرئ على مساخطه: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } أتهاوناً منك في حقوقه؟ أم احتقاراً منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟ أليس هو { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } في أحسن تقويم؟ { فَعَدَلَكَ } وركبك تركيباً قويماً معتدلاً، في أحسن الأشكال، وأجمل الهيئات، فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم، أو تجحد إحسان المحسن؟ إن هذا إلا من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك، فاحمد الله أن لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار، أو نحوهما من الحيوانات فلهذا قال تعالى: { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ }. [وقوله:] { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ } أي: مع هذا الوعظ والتذكير، لا تزالون مستمرين على التكذيب بالجزاء. وأنتم لا بد أن تحاسبوا على ما عملتم، وقد أقام الله عليكم ملائكة كراماً يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمون أفعالكم، ودخل في هذا أفعال القلوب، وأفعال الجوارح، فاللائق بكم أن تكرموهم وتجلوهم وتحترموهم.
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
المراد بالأبرار، القائمون بحقوق الله وحقوق عباده، الملازمون للبر، في أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن، في دار الدنيا [وفي دار] البرزخ و [في] دار القرار. { وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ } الذين قصروا في حقوق الله وحقوق عباده، الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم { لَفِي جَحِيمٍ } أي: عذاب أليم، في دار الدنيا و [دار] البرزخ وفي دار القرار { يَصْلَوْنَهَا } ويعذبون [بها] أشد العذاب { يَوْمَ ٱلدِّينِ } أي: يوم الجزاء على الأعمال. { وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } أي: بل هم ملازمون لها، لا يخرجون منها. { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ } ففي هذا تهويل لذلك اليوم الشديد الذي يحير الأذهان. { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } ولو كانت لها قريبة [أو حبيبة] مصافية، فكل مشتغل بنفسه لا يطلب الفكاك لغيرها. { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } فهو الذي يفصل بين العباد، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه [والله أعلم].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #626  
قديم 13-09-2020, 04:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (625)
تفسير السعدى
(سورة المطففين)
من (1)الى (36)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المطففين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

{ وَيْلٌ } كلمة عذاب، ووعيد { لِّلْمُطَفِّفِي نَ } وفسر الله المطففين بقوله { ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ } أي: أخذوا منهم وفاء عما ثبت لهم قبلهم يستوفونه كاملاً من غير نقص. { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } أي: إذا أعطوا الناس حقهم، الذي للناس عليهم بكيل أو وزن، { يُخْسِرُونَ } أي: ينقصونهم ذلك، إما بمكيال وميزان ناقصين، أو بعدم ملء المكيال والميزان، أو نحو ذلك، فهذا سرقة [لأموال] الناس، وعدم إنصاف [لهم] منهم. وإذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس بالمكيال والميزان، فالذي يأخذ أموالهم قهراً أو سرقةً، أولى بهذا الوعيد من المطففين. ودلّت الآية الكريمة، على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له، يجب عليه أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في [عموم هذا] الحجج والمقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد [منهما] يحرص على ماله من الحجج، فيجب عليه أيضاً أن يبيّن ما لخصمه من الحجج [التي لا يعلمها]، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه، وتواضعه من كبره، وعقله من سفهه، نسأل الله التوفيق لكل خير. ثم توعد تعالى المطففين، وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه، فقال: { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم باليوم الآخر، وإلا فلو آمنوا به، وعرفوا أنهم يقومون بين يدي الله، يحاسبهم على القليل والكثير، لأقلعوا عن ذلك وتابوا منه.
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين َ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)


يقول تعالى: { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ } [وهذا شامل لكل فاجر] من أنواع الكفرة والمنافقين، والفاسقين { لَفِي سِجِّينٍ } ثم فسّر ذلك بقوله: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أي: كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة، والسجّين: المحل الضيق الضنك، و " سجين " ضد " عليين " الذي هو محل كتاب الأبرار، كما سيأتي. وقد قيل: إن " سجين " هو أسفل الأرض السابعة، مأوى الفجار ومستقرهم في معادهم. { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } ثم بين المكذبين بأنهم { ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } أي: يوم الجزاء، يوم يدين الله فيه الناس بأعمالهم. { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ } على محارم الله، متعد من الحلال إلى الحرام. { أَثِيمٍ } أي كثير الإثم، فهذا الذي يحمله عدوانه على التكذيب، ويحمله [عدوانه على التكذيب ويوجب له] كبره رد الحق، ولهذا { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا } الدالة على الحق، و[على] صدق ما جاءت به رسله، كذبها وعاندها، و { قَالَ }: هذه { أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: من ترهات المتقدمين، وأخبار الأمم الغابرين، ليس من عند الله تكبُّراً وعناداً. وأما من أنصف، وكان مقصوده الحق المبين، فإنه لا يكذب بيوم الدين، لأن الله قد أقام عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، ما يجعله حق اليقين، وصار لقلوبهم مثل الشمس للأبصار، بخلاف من ران على قلبه كسبه، وغطته معاصيه، فإنه محجوب عن الحق، ولهذا جوزي على ذلك، بأن حجب عن الله، كما حجب قلبه في الدنيا عن آيات الله، { ثُمَّ إِنَّهُمْ } مع هذه العقوبة البليغة { لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ } ثم يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } فذكر لهم ثلاثة أنواع من العذاب: عذاب الجحيم، وعذاب التوبيخ، واللوم. وعذاب الحجاب من رب العالمين، المتضمن لسخطه وغضبه عليهم، وهو أعظم عليهم من عذاب النار، ودل مفهوم الآية، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة، ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات، ويبتهجون بخطابه، ويفرحون بقربه، كما ذكر الله ذلك في عدة آيات من القرآن، وتواتر فيه النقل عن رسول الله. وفي هذه الآيات، التحذير من الذنوب، فإنها ترين على القلب وتغطيه شيئاً فشيئاً، حتى ينطمس نوره، وتموت بصيرته، فتنقلب عليه الحقائق، فيرى الباطل حقاً، والحق باطلاً، وهذا من بعض عقوبات الذنوب.
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
لما ذكر أن كتاب الفجار في أسفل الأمكنة وأضيقها، ذكر أن كتاب الأبرار في أعلاها وأوسعها، وأفسحها وأن كتابهم المرقوم { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } من الملائكة الكرام، وأرواح الأنبياء، والصديقين والشهداء، ويُنوِّه الله بذكرهم في الملأ الأعلى، و { عِلِّيُّونَ } اسم لأعلى الجنة، فلما ذكر كتابهم، ذكر أنهم في نعيم، وهو اسم جامع لنعيم القلب والروح والبدن، { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ } أي: [على] السرر المزينة بالفرش الحسان. { يَنظُرُونَ } إلى ما أعد الله لهم من النعيم، وينظرون إلى وجه ربهم الكريم، { تَعْرِفُ } أيها الناظر إليهم { فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } أي: بهاء النعيم ونضارته ورونقه، فإن توالي اللذة والسرور يكسب الوجه نوراً وحسناً وبهجةً. { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } وهو من أطيب ما يكون من الأشربة وألذها، { مَّخْتُومٍ } ذلك الشراب { خِتَامُهُ مِسْكٌ } يحتمل أن المراد مختوم عن أن يداخله شيء ينقص لذته، أو يفسد طعمه، وذلك الختام الذي ختم به مسك. ويحتمل أن المراد أنه [الذي] يكون في آخر الإناء، الذي يشربون منه الرحيق حثالة، وهي المسك الأذفر، فهذا الكدر منه، الذي جرت العادة في الدنيا أنه يراق، يكون في الجنة بهذه المثابة، { وَفِي ذَلِكَ } النعيم المقيم، الذي لا يعلم مقداره وحسنه إلا الله، { فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُو نَ } أي: يتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال. ومزاج هذا الشراب من تسنيم، وهي عينٌ { يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } صِرْفاً، وهي أعلى أشربة الجنة على الإطلاق، فلذلك كانت خالصة للمقربين، الذين هم أعلى الخلق منزلة، وممزوجة لأصحاب اليمين أي: مخلوطة بالرحيق وغيره من الأشربة اللذيذة.
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وجزاء المؤمنين و [ذكر] ما بينهما من التفاوت العظيم، أخبر أن المجرمين كانوا في الدنيا يسخرون بالمؤمنين، ويستهزؤون بهم، ويضحكون منهم، ويتغامزون بهم عند مرورهم عليهم، احتقاراً لهم وازدراءً، ومع هذا تراهم مطمئنين، لا يخطر الخوف على بالهم، { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ } صباحاً أو مساءً { ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } أي: مسرورين مغتبطين، وهذا من أعظم ما يكون من الاغترار، أنهم جمعوا بين غاية الإساءة والأمن في الدنيا، حتى كأنهم قد جاءهم كتاب من الله وعهد، أنهم من أهل السعادة، وقد حكموا لأنفسهم أنهم أهل الهدى، وأن المؤمنين ضالون، افتراءً على الله، وتجرؤوا على القول عليه بلا علم. قال تعالى: { وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } أي: وما أرسلوا وكلاء على المؤمنين ملزمين بحفظ أعمالهم، حتى يحرصوا على رميهم بالضلال، وما هذا منهم إلا تعنت وعناد وتلاعب، ليس له مستند ولا برهان، ولهذا كان جزاؤهم في الآخرة من جنس عملهم، قال تعالى: { فَٱلْيَوْمَ } أي: يوم القيامة، { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } حين يرونهم في غمرات العذاب يتقلبون، وقد ذهب عنهم ما كانوا يفترون، والمؤمنون في غاية الراحة والطمأنينة { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ } وهي السرر المزينة، { يَنظُرُونَ } إلى ما أعد الله لهم من النعيم، وينظرون إلى وجه ربهم الكريم. { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي: هل جوزوا من جنس عملهم؟ فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلال، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة، ورأوهم في العذاب والنكال، الذي هو عقوبة الغي والضلال. نعم، ثوبوا ما كانوا يفعلون، عدلاً من الله وحكمةً، والله عليم حكيم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #627  
قديم 13-09-2020, 04:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (626)
تفسير السعدى
(سورة الانشقاق)
من (1)الى (25)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الانشقاق



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)


يقول تعالى مبيناً لما يكون في يوم القيامة من تغير الأجرام العظام: { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } أي: انفطرت وتمايز بعضها من بعض، وانتثرت نجومها، وخسف بشمسها وقمرها. { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } أي: استمعت لأمره، وألقت سمعها، وأصاخت لخطابه، وحق لها ذلك، فإنها مسخرة مدبرة تحت مسخر ملك عظيم، لا يعصى أمره، ولا يخالف حكمه. { وَإِذَا ٱلأَرْضُ مُدَّتْ } أي: رجفت وارتجت، ونسفت عليها جبالها، ودكّ ما عليها من بناء ومعلم، فسويت، ومدها الله تعالى مد الأديم، حتى صارت واسعةً جداً، تسع أهل الموقف على كثرتهم، فتصير قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } من الأموات والكنوز. { وَتَخَلَّتْ } منهم، فإنه ينفخ في الصور، فتخرج الأموات من الأجداث إلى وجه الأرض، وتخرج الأرض كنوزها، حتى تكون كالأسطوان العظيم، يشاهده الخلق، ويتحسرون على ما هم فيه يتنافسون، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } أي: إنك ساع إلى الله، وعامل بأوامره ونواهيه، ومتقرب إليه إما بالخير وإما بالشر، ثم تلاقي الله يوم القيامة، فلا تعدم منه جزاء بالفضل إن كنت سعيداً، أو بالعدل إن كنت شقياً. ولهذا ذكر تفصيل الجزاء، فقال: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } وهم أهل السعادة. { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } وهو العرض اليسير على الله، فيقرره الله بذنوبه، حتى إذا ظن العبد أنه قد هلك، قال الله [تعالى] له: " إني قد سترتها عليك في الدنيا، فأنا أسترها لك اليوم ". { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ } في الجنة { مَسْرُوراً } لأنه نجا من العذاب وفاز بالثواب، { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } أي: بشماله من خلفه. { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً } من الخزي والفضيحة، وما يجد في كتابه من الأعمال التي قدمها ولم يتب منها، { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } أي: تحيط به السعير من كل جانب، ويقلب على عذابها، وذلك لأنه في الدنيا { كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } لا يخطر البعث على باله، وقد أساء، ولم يظن أنه راجع إلى ربه وموقوف بين يديه. { بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } فلا يحسن أن يتركه سدى، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب.
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)


أقسم في هذا الموضع بآيات الليل، فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور الشمس، الذي هو مفتتح الليل، { وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } أي: احتوى عليه من حيوانات وغيرها، { وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ } أي: امتلأ نوراً بإبداره، وذلك أحسن ما يكون وأكثر منافع، والمقسم عليه قوله: { لَتَرْكَبُنَّ } [أي:] أيها الناس { طَبَقاً عَن طَبقٍ } أي: أطواراً متعددةً وأحوالاً متباينةً، من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة، إلى نفخ الروح، ثم يكون وليداً وطفلاً، ثم مميزاً، ثم يجري عليه قلم التكليف، والأمر والنهي، ثم يموت بعد ذلك، ثم يبعث ويجازى بأعماله، فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد، دالة على أن الله وحده هو المعبود، الموحد، المدبر لعباده بحكمته ورحمته، وأن العبد فقير عاجز، تحت تدبير العزيز الرحيم، ومع هذا، فكثير من الناس لا يؤمنون { وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ } أي: لا يخضعون للقرآن، ولا ينقادون لأوامره ونواهيه، { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } أي: يعاندون الحق بعدما تبين، فلا يستغرب عدم إيمانهم وعدم انقيادهم للقرآن، فإن المكذب بالحق عناداً، لا حيلة فيه، { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } أي: بما يعملونه وينوونه سراً، فالله يعلم سرهم وجهرهم، وسيجازيهم بأعمالهم، ولهذا قال { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وسميت البشارة بشارة، لأنها تؤثر في البشرة سروراً أو غماً. فهذه حال أكثر الناس، التكذيب بالقرآن، وعدم الإيمان [به]. ومن الناس فريق هداهم الله، فآمنوا بالله، وقبلوا ما جاءتهم به الرسل، فآمنوا وعملوا الصالحات. فهؤلاء لهم أجر غير ممنون أي: غير مقطوع، بل هو أجرٌ دائم مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #628  
قديم 13-09-2020, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (627)
تفسير السعدى
(سورة البروج)
من (1)الى (22)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة البروج

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِين َ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)



{ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } أي: [ذات] المنازل المشتملة على منازل الشمس والقمر، والكواكب المنتظمة في سيرها، على أكمل ترتيب ونظام دال على كمال قدرة الله تعالى ورحمته، وسعة علمه وحكمته. { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } وهو يوم القيامة، الذي وعد الله الخلق أن يجمعهم فيه، ويضم فيه أولهم وآخرهم، وقاصيهم ودانيهم، الذي لا يمكن أن يتغير، ولا يخلف الله الميعاد. { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } وشمل هذا كل من اتصف بهذا الوصف أي: مُبْصِر ومُبْصَر، وحاضر ومحضور، وراءٍ ومَرْئِي. والمقسم عليه، ما تضمنه هذا القسم من آيات الله الباهرة، وحكمه الظاهرة، ورحمته الواسعة، وقيل: إن المقسم عليه قوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } وهذا دعاء عليهم بالهلاك. و " الأخدود ": الحفر التي تحفر في الأرض. وكان أصحاب الأخدود هؤلاء قوماً كافرين، ولديهم قوم مؤمنون، فراودوهم للدخول في دينهم، فامتنع المؤمنون من ذلك، فشق الكافرون أخدوداً [في الأرض]، وقذفوا فيها النار، وقعدوا حولها، وفتنوا المؤمنين، وعرضوهم عليها، فمن استجاب لهم أطلقوه، ومن استمر على الإيمان قذفوه في النار، وهذا في غاية المحاربة لله ولحزبه المؤمنين، ولهذا لعنهم الله وأهلكهم وتوعدهم فقال: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } ثم فسر الأخدود بقوله: { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِين َ شُهُودٌ } وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب، لأنهم جمعوا بين الكفر بآيات الله ومعاندتها، ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب، الذي تنفطر منه القلوب، وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها، والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إلا خصلة يمدحون عليها، وبها سعادتهم، وهي أنهم كانوا يؤمنون بالله العزيز الحميد أي: الذي له العزة التي قهر بها كل شيء، وهو حميد في أقواله وأوصافه وأفعاله. { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } خلقاً وعبيداً، يتصرف فيهم تصرف المالك بملكه، { وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } علماً وسمعاً وبصراً، أفلا خاف هؤلاء المتمردون على الله، أن يبطش بهم العزيز المقتدر، أو ما علموا أنهم جميعهم مماليك لله، ليس لأحد على أحد سلطة، من دون إذن المالك؟ أو خفي عليهم أن الله محيط بأعمالهم، مجازٍ لهم على فعالهم؟ كلا إن الكافر في غرور، والظالم في جهل وعمى عن سواء السبيل. ثم وعدهم وأوعدهم، وعرض عليهم التوبة، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } أي: العذاب الشديد المحرق. قال الحسن رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرم والجود، هم قتلوا أولياءه وأهل طاعته، وهو يدعوهم إلى التوبة. ولما ذكر عقوبة الظالمين، ذكر ثواب المؤمنين، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بقلوبهم { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } بجوارحهم { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } الذي حصل به الفوز برضا الله ودار كرامته.
{ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } أي: إن عقوبته لأهل الجرائم والذنوب العظام [لقوية] شديدة، وهو بالمرصاد للظالمين، كما قال الله تعالى:{ وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102]. { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } أي: هو المنفرد بإبداء الخلق وإعادته، فلا مشارك له في ذلك، { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ } الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب، ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب. { ٱلْوَدُودُ } الذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال، والمعاني والأفعال، فمحبته في قلوب خواص خلقه، التابعة لذلك، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب، ولهذا كانت محبته أصل العبودية، وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها، وإن لم يكن غيرها تبعاً لها، كانت عذاباً على أهلها، وهو تعالى الودود، الوادُّ لأحبابه، كما قال تعالى:{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54] والمودة هي المحبة الصافية، وفي هذا سر لطيف، حيث قرن الودود بالغفور، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا، غفر لهم ذنوبهم وأحبهم، فلا يقال: بل تغفر ذنوبهم، ولا يرجع إليهم الود، كما قاله بعض الغالطين. بل الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب، من رجل له راحلة، عليها طعامه وشرابه وما يصلحه، فأضلها في أرض فلاة مهلكة، فأيس منها، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت، فبينما هو على تلك الحال، إذا راحلته على رأسه، فأخذ بخطامها، فالله أعظم فرحاً بتوبة العبد من هذا براحلته، وهذا أعظم فرح يقدر. فلله الحمد والثناء، وصفو الوداد، ما أعظم بره، وأكثر خيره، وأغزر إحسانه، وأوسع امتنانه!!. { ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } أي: صاحب العرش العظيم، الذي من عظمته، أنه وسع السماوات والأرض والكرسي، فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة، بالنسبة لسائر الأرض، وخص الله العرش بالذكر، لعظمته، ولأنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى، وهذا على قراءة الجر، يكون " المجيد " نعتاً للعرش، وأما على قراءة الرفع، فإنَّ المجيد نعتٌ لله، والمجد سعة الأوصاف وعظمتها. { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أي: مهما أراد شيئاً فعله، إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، وليس أحد فعالاً لما يريد إلا الله. فإن المخلوقات، ولو أرادت شيئاً، فإنه لا بدّ لإرادتها من معاون وممانع، والله لا معاون لإرادته، ولا ممانع له مما أراد. ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به رسله، فقال: { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } وكيف كذبوا المرسلين، فجعلهم الله من المهلكين. { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ } أي: لا يزالون مستمرين على التكذيب والعناد، لا تنفع فيهم الآيات، ولا تُجدي لديهم العظات، { وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } أي: قد أحاط بهم علماً وقدرة، كقوله:{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَاد ِ } [الفجر: 14] ففيه الوعيد الشديد للكافرين، من عقوبة من هم في قبضته، وتحت تدبيره. { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الخير والعلم، { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } من التغيير والزيادة والنقص، ومحفوظ من الشياطين، وهو: اللوح المحفوظ الذي قد أثبت الله فيه كل شيء. وهذا يدل على جلالة القرآن وجزالته، ورفعة قدره عند الله تعالى، والله أعلم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #629  
قديم 13-09-2020, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (628)
تفسير السعدى
(سورة الطارق)
من (1)الى (17)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الطارق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)


يقول [الله] تعالى: { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ }. ثم فسر الطارق بقوله: { ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } أي: المضيء، الذي يثقب نوره، فيخرق السماوات [فينفذ حتى يرى في الأرض]، والصحيح أنه اسم جنس يشمل سائر النجوم الثواقب. وقد قيل: إنه " زحل " الذي يخرق السماوات السبع وينفذ فيها فيرى منها. وسمي طارقاً، لأنه يطرق ليلاً، والمقسم عليه قوله: { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } يحفظ عليها أعمالها الصالحة والسيئة، وستجازى بعملها المحفوظ عليها، { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } أي: فليتدبر خلقته ومبدأه، فإنه مخلوق { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } وهو: المني الذي { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } يحتمل أنه من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي ثدياها. ويحتمل أن المراد المني الدافق، وهو مني الرجل، وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه وترائبه، ولعل هذا أولى، فإنه إنما وصف الله به الماء الدافق، والذي يحس [به] ويشاهد دفقه، هو مني الرجل، وكذلك لفظ الترائب فإنها تستعمل في الرجل، فإن الترائب للرجل، بمنزلة الثديين للأنثى، فلو أريدت الأنثى، لقال: " من بين الصلب والثديين " ، ونحو ذلك، والله أعلم. فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق، يخرج من هذا الموضع الصعب، قادر على رجعه في الآخرة، وإعادته للبعث، والنشور [والجزاء]، وقد قيل: إن معناه، أن الله على رجع الماء المدفوق في الصلب لقادر، وهذا - وإن كان المعنى صحيحاً - فليس هو المراد من الآية، ولهذا قال بعده: { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } أي: تختبر سرائر الصدور، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه قال تعالى:{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106] ففي الدنيا، تنكتم كثير من الأمور، ولا تظهر عياناً للناس، وأما في القيامة، فيظهر برُّ الأبرار، وفجور الفجار، وتصير الأمور علانية، { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ } يدفع بها عن نفسه، { وَلاَ نَاصِرٍ } خارجي ينتصر به، فهذا القَسَمُ على حالة العاملين وقت عملهم وعند جزائهم. ثم أقسم قسماً ثانياً على صحة القرآن، فقال: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ * وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } أي: ترجع السماء بالمطر كل عام، وتنصدع الأرض للنبات، فيعيش بذلك الآدميون والبهائم، وترجع السماء أيضاً بالأقدار والشؤون الإلهية كل وقت، وتنصدع الأرض عن الأموات، { إِنَّهُ } أي: القرآن { لَقَوْلٌ فَصْلٌ } أي: حق وصدق بَيّنٌ واضح. { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } أي: جد ليس بالهزل، وهو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالات، وتنفصل به الخصومات. { إِنَّهُمْ } أي: المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم، وللقرآن { يَكِيدُونَ كَيْداً } ليدفعوا بكيدهم الحق، ويؤيدوا الباطل، { وَأَكِيدُ كَيْداً } لإظهار الحق، ولو كره الكافرون، ولدفع ما جاؤوا به من الباطل، ويعلم بهذا من الغالب، فإن الآدمي أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده، { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } أي: قليلاً، فسيعلمون عاقبة أمرهم، حين ينزل بهم العقاب.
سورة الأعلى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَ ا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)


يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته، والخضوع لجلاله، والاستكانة لعظمته، وأن يكون تسبيحاً، يليق بعظمة الله تعالى، بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها الحسن العظيم، وتذكر أفعاله التي منها أنه خلق المخلوقات فسواها، أي: أتقنها وأحسن خلقها، { وَٱلَّذِي قَدَّرَ } تقديراً، تتبعه جميع المقدرات { فَهَدَىٰ } إلى ذلك جميع المخلوقات. وهذه الهداية العامة، التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته، وتذكر فيها نعمه الدنيوية، ولهذا قال فيها: { وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ } أي: أنزل من السماء ماءً فأنبت به أنواع النبات والعشب الكثير، فرتع فيها الناس والبهائم وكل حيوان، ثم بعد أن استكمل ما قدر له من الشباب، ألوى نباته، وصَوَّح عشبه، { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ } أي: أسود أي: جعله هشيماً رميماً، ويذكر فيها نعمه الدينية، ولهذا امتن الله بأصلها ومنشئها، وهو القرآن، فقال: { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } أي: سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبك، فلا تنسى منه شيئاً، وهذه بشارة كبيرة من الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن الله سيعلمه علماً لا ينساه، { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة، { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده أي: فلذلك يُشرع ما أراد، ويحكم بما يريد، { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ } وهذه أيضاً بشارة كبيرة، أن الله ييسر رسوله صلى الله عليه وسلم لليسرى في جميع أموره، ويجعل شرعه ودينه يسراً. { فَذَكِّرْ } بشرع الله وآياته { إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } أي: ما دامت الذكرى مقبولة، والموعظة مسموعة، سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه. ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى، بأن كان التذكير يزيد في الشر، أو ينقص من الخير، لم تكن الذكرى مأموراً بها، بل منهياً عنها، فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين: منتفعون وغير منتفعين. فأما المنتفعون، فقد ذكرهم بقوله: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } الله تعالى، فإن خشية الله تعالى، وعلمه بأن سيجازيه على أعماله، توجب للعبد الانكفاف عن المعاصي والسعي في الخيرات. وأما غير المنتفعين، فذكرهم بقوله: { وَيَتَجَنَّبُهَ ا ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } وهي النار الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } أي: يعذب عذاباً أليماً، من غير راحة ولا استراحة، حتى إنهم يتمنون الموت فلا يحصل لهم، كما قال تعالى:{ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } [فاطر: 36]. { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } أي: قد فاز وربح من طهر نفسه ونقَّاها من الشرك والظلم ومساوئ الأخلاق، { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } أي: اتصف بذكر الله، وانصبغ به قلبه، فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله، خصوصاً الصلاة، التي هي ميزان الإيمان، فهذا معنى الآية الكريمة، وأما من فسر قوله { تَزَكَّىٰ } بمعني أخرج زكاة الفطر، وذكر اسم ربه فصلى، أنه صلاة العيد، فإنه وإن كان داخلاً في اللفظ وبعض جزئياته، فليس هو المعنى وحده.

{ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } أي: تقدمونها على الآخرة، وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على الآخرة، [ { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } ] وللآخرة خير من الدنيا في كل وصف مطلوب، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء وصفاء، والدنيا دار فناء، فالمؤمن العاقل لا يختار الأردأ على الأجود، ولا يبيع لذة ساعة، بترحة الأبد، فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة، { إِنَّ هَـٰذَا } المذكور لكم في هذه السورة المباركة، من الأوامر الحسنة، والأخبار المستحسنة { لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } اللذين هما أشرف المرسلين، سوى النبي محمد صلى الله وسلم عليه وسلم. فهذه أوامر في كل شريعة، لكونها عائدة إلى مصالح الدارين، وهي مصالح في كل زمان ومكان.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #630  
قديم 13-09-2020, 04:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (629)
تفسير السعدى
(سورة الغاشية)
من (1)الى (26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة الغاشية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الأهوال الطامَّة، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها، فيجازون بأعمالهم، ويتميزون [إلى] فريقين: فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير. فأخبر عن وصف كلا الفريقين، فقال في [وصف] أهل النار: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } أي: يوم القيامة { خَاشِعَةٌ } من الذل والفضيحة والخزي. { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } أي: تاعبة في العذاب، تُجرُّ على وجوهها، وتغشى وجوههم النار. ويحتمل أن المراد [بقوله:] { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } في الدنيا لكونهم في الدنيا أهل عبادات وعمل، ولكنه لما عدم شرطه وهو الإيمان، صار يوم القيامة هباءً منثوراً، وهذا الاحتمال وإن كان صحيحاً من حيث المعنى، فلا يدل عليه سياق الكلام، بل الصواب المقطوع به هو الاحتمال الأول، لأنه قيده بالظرف، وهو يوم القيامة، ولأن المقصود هنا بيان وصف أهل النار عموماً، وذلك الاحتمال جزء قليل من أهل النار بالنسبة إلى أهلها ولأن الكلام في بيان حال الناس عند غشيان الغاشية، فليس فيه تعرض لأحوالهم في الدنيا. وقوله: { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً } أي: شديداً حرها، تحيط بهم من كل مكان، { تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أي: حارة شديدة الحرارة{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ } [الكهف: 29] فهذا شرابهم. وأما طعامهم فـ { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } وذلك أن المقصود من الطعام أحد أمرين: إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه، وإما أن يسمن بدنه من الهزال، وهذا الطعام ليس فيه شيء من هذين الأمرين، بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة، نسأل الله العافية. وأما أهل الخير، فوجوههم يوم القيامة { نَّاعِمَةٌ } أي: قد جرت عليهم نضرة النعيم، فنضرت أبدانهم، واستنارت وجوههم، وسروا غاية السرور، { لِّسَعْيِهَا } الذي قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة، والإحسان إلى عباد الله، { رَاضِيَةٌ } إذ وجدت ثوابه مدخراً مضاعفاً، فحمدت عقباه، وحصل لها كل ما تتمناه، وذلك أنها { فِي جَنَّةٍ } جامعة لأنواع النعيم كلها، { عَالِيَةٍ } في محلها ومنازلها، فمحلها في أعلى عليين، ومنازلها مساكن عالية، لها غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد الله لهم من الكرامة.{ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [الحاقة: 23] أي: كثيرة الفواكه اللذيذة، المثمرة بالثمار الحسنة، السهلة التناول، بحيث ينالونها على أي حال كانوا، لا يحتاجون أن يصعدوا شجرة، أو يستعصي عليهم منها ثمرة. { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا } أي: الجنة { لاَغِيَةً } أي: كلمة لغو وباطل، فضلاً عن الكلام المحرم، بل كلامهم كلام حسن [نافع] مشتمل على ذكر الله تعالى، وذكر نعمه المتواترة عليهم، و[على] الآداب المستحسنة بين المتعاشرين، الذي يسر القلوب، ويشرح الصدور. { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } وهذا اسم جنس أي: فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها كيف شاؤوا، وأنَّى أرادوا. { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } و " السرر " جمع " سرير " ، وهي المجالس المرتفعة في ذاتها، وبما عليها من الفرش اللينة الوطيئة. { وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ } أي: أوانٍ ممتلئة من أنواع الأشربة اللذيذة، قد وضعت بين أيديهم، وأعدت لهم، وصارت تحت طلبهم واختيارهم، يطوف بها عليهم الولدان المخلدون. { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } أي: وسائد من الحرير والاستبرق وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله، قد صفت للجلوس والاتكاء عليها، وقد أريحوا عن أن يضعوها، و يَصُفُّوها بأنفسهم. { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } والزرابي [هي:] البسط الحسان، مبثوثة أي: مملوءة بها مجالسهم من كل جانب.
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

يقول تعالى حثّاً للذين لا يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولغيرهم من الناس، أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على توحيده: { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } أي: [ألا] ينظرون إلى خلقها البديع، وكيف سخرها الله للعباد، وذللها لمنافعهم الكثيرة التي يضطرون إليها. { وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } بهيئة باهرة، حصل بها استقرار الأرض وثباتها عن الاضطراب، وأودع فيها من المنافع [الجليلة] ما أودع. { وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } أي: مدت مداً واسعاً، وسهلت غاية التسهيل، ليستقر الخلائق على ظهرها، ويتمكنوا من حرثها وغراسها، والبنيان فيها، وسلوك الطرق الموصلة إلى أنواع المقاصد فيها. واعلم أن تسطيحها لا ينافي أنها كرة مستديرة، قد أحاطت الأفلاك فيها من جميع جوانبها، كما دلّ على ذلك النقل والعقل والحس والمشاهدة، كما هو مذكور معروف عند أكثر الناس، خصوصاً في هذه الأزمنة، التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد، فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير جداً، الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر. وأما جسم الأرض الذي هو في غاية الكبر والسعة، فيكون كروياً مسطحاً، ولا يتنافى الأمران، كما يعرف ذلك أرباب الخبرة. { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } أي: ذكِّر الناس وعِظهم، وأنذرهم وبشرهم، فإنك مبعوث لدعوة الخلق إلى الله وتذكيرهم، ولم تبعث مسيطراً عليهم، مسلّطاً موكلاً بأعمالهم، فإذا قمت بما عليك، فلا عليك بعد ذلك لوم، كقوله تعالى:{ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق: 45]. وقوله: { إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ } أي: لكن من تولى عن الطاعة وكفر بالله { فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلأَكْبَرَ } أي: الشديد الدائم، { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } أي: رجوع الخليقة وجمعهم في يوم القيامة. { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } فنحاسبهم على ما عملوا من خير وشر.
سورة الفجر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)


الظاهر أن المقسم به هو المقسم عليه، وذلك جائز مستعمل، إذا كان أمراً ظاهراً مُهِّماً، وهو كذلك في هذا الموضع. فأقسم تعالى بالفجر، الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار، لما في إدبار الليل وإقبال النهار، من الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى، وأنه وحده المدبر لجميع الأمور، الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها، ولهذا أقسم بعده بالليالي العشر، وهي على الصحيح: ليالي عشر رمضان، أو [عشر] ذي الحجة، فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها. وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها، صيام آخر رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام. وفي أيام عشر ذي الحجة، الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رُئِيَ الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تَنَزَّل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة، مستحقة لأن يقسم الله بها. { وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ } أي: وقت سريانه وإرخائه ظلامه على العباد، فيسكنون ويستريحون ويطمئنون، رحمةً منه تعالى وحكمة. { هَلْ فِي ذَلِكَ } المذكور { قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } أي: [لذي] عقل؟ نعم، بعض ذلك يكفي، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 307.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 301.63 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.97%)]