موازنات شعرية في الشعر السعودي الحديث - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 850097 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386272 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 56 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-04-2021, 04:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي موازنات شعرية في الشعر السعودي الحديث

موازنات شعرية في الشعر السعودي الحديث
أحمد محمد فرحات



الموازنة الأولى: الحنين إلى الوطن (بين حافظ والقنديل)
وإليك قصيدةَ عبدالسلام هاشم حافظ بعنوان "الشوق يا وطني[1]":
دَارِي وَسِرُّ الهَوَى البَاقِي وَأَوْطَانِي يَا طَيْبَةَ النُّورِ يَا رُوحِي وَوِجْدَانِي
الشَّوْقُ يَا مَا أَمَرَّ الشَّوْقَ فِي كَبِدِي عَلَى مَدِينَتِنَا وَالمَسْكَنِ الحَانِي
عَامٌ وَأَكْثَرُ قَدْ وَلَّى وَزِدْتُ جَوًى فِي مِصْرَ مُغْتَرِبًا والشَّوْقُ أَضْنَانِي
أُنَقِّلُ الطَّرْفَ أَيْنَ الأَهْلُ؟ أَيْنَ هُمُ؟ أَهْلِي وَمَوْطِنُنَا الغَالِي وَوِجْدَانِي؟
أَيْنَ الصِّحَابُ الكِرَامُ الصِّيدُ تَنْظِمُنَا مَجَالِسُ الأُنْسِ فِي صَفْوٍ وَتَحْنَانِ؟
أَيْنَ المَشَاهِدُ مِنْ دَارِ الرَّسُولِ بِهَا مَعَاهِدُ الفَضْلِ وَالتَّقْوَى وَأَلْحَانِي؟
أَيْنَ العَبِيرُ يُغَذِّينِي إِذَا خَشَعَتْ جَوَارِحِي فِي مُنَاجَاتِي بِإِيمَانِي؟
فِي (المَسْجِدِ النَّبَوِيْ) عِنْدَ الرَّسُولِ أَرَى نُورَ الهُدَى مَاحِيًا هَمِّي وَأَشْجَانِي
زَوْجِي تَقُولُ وَفِي أَضْلاعِهَا لَهَبٌ مَتَى نَعُودُ لِجَوِّ العِزَّةِ الهَانِي
قُرْبَ النَّبِيِّ نُصَلِّي فِي مَسَاجِدِهِ وَالرُّوحُ تَصْفُو بِمَا قَدْ كَانَ أَسْقَانِي
أَقُولُ: بَلْ كُلُّنَا شَوْقٌ أَلَسْتُ أَرَى حَتَّى الصَّغِيرَيْنِ فِي آهَاتِ ظَمْآنِ
يُسَائِلانَا عَنِ الأُمِّ الَّتِي عَرَفَا فِيهَا الوِدَادَ وَعَنْ صَحْبٍٍ وَأَخْدَانِ
عَيْنَايَ ذَاهِلَتَانِ اليَوْمَ لا تَرَيَا هُنَا المَغَانِي أُغَنِّيهَا وَتَرْعَانِي
بَعُدْتُ عَنْ عَالَمِي المَحْبُوبِ فِي وَطَنِي وَالقَلْبُ يَأْسَى بِلَوْعَاتِي وَحِرْمَانِي
أَيْنَ المَرَائِي الَّتِي كُنَّا نُعَانِقُهَا وَتَحْتَوِينَا بِإِحْسَاسٍ وَأَجْفَانِ؟
هُنَاكَ مَسْقَطُ رَأْسِي حَيْثُ أُسْرَتُنَا مِنْ آلِ حَافِظِ مِنْ أَحْفَادِ عَدْنَانِ
لَنَا بِطَيْبَةَ أَمْجَادٌ يُعَزِّزُهَا جِهَادُنَا وَالبَقَاءُ الحَقُّ لِلْبَانِي
وَفِي المَدِينَةِ أَحْلامِي وَعَاطِفَتِي وَذِكْرَيَاتُ الصِّبَا وَالمَأْمَلُ الدَّانِي
بِمَشْهَدِ المُصْطَفَى خَيْرِ الجِوَارِ بِهِ يَا عِزَّهُ مِنْ جِوَارٍٍ فِيهِ تَلْقَانِي
بَيْنَ المَدِينَةِ وَالآثَارُ زَاهِرَةٌ بِهَا الحَيَاةُ وَفِيهَا الخَيْرُ كِفْلانِ
ضَمَّتْ فَضَائِلَ أَجْيَالٍ جَوَانِحُهَا وَالدَّهْرُ يُعْلِي تَوَارِيخًا بِبُرْهَانِ
سِرُّ الجَلالِ بِهَا وَاللَّهُ كَرَّمَهَا بِالدِّينِ وَالنُّورِِ مِنْ وَحْيٍ وَقُرْآنِ
أَوَّاهُ مِنْ شَوْقِيَ المَحْمُومِ يَشْغَلُنِي عَنْ كُلِّ أَمْرٍٍ سِوَى دَارِي وَأَوْطَانِي
رَبَّاهُ حَقِّقْ لَنَا عَوْدًا نَقَرُّ بِهِ لا شَيْءَ عَنْ وَطَنِي يَدْعُو لِسُلْوَانِي
فَفِي المَدِينَةِ غَايَاتِي وَمُنْقَلَبِي قَلْبِي بِهَا مُسْتَهَامٌ جِدُّ جَذْلانِ
وَعِشْقُ رُوحِي وَدُنْيَا الطُّهْرِ فِي وَطَنِي غَدًا نَعُودُ لِمَنْ بِالأَمْسِ أَنْشَانِي
نَبْقَى بِهِ العُمْرَ لا نَرْضَى بِهِ بَدَلاً حَتَّى نَرَى الحَقَّ يَطْوِينَا بِأَكْفَانِ
مَنْ لا يَرُومُ ظِلالَ الخُلْدِ تَشْمَلُهُ عِنْدَ الحَبِيبِِ بِأَلْطَافٍٍ وَإِحْسَانِ
يَا أَرْضَ طَيْبَةَ تِيهِي وَاصْعَدِي أَبَدًا الفِكْرُ فِي الوَصْلِ غَذَّانِي وَأَرْوَانِي
لأَنَّنَا سَوْفَ نَأْتِي أَنْتِ مَأْمَلُنَا يَا عِيدَنَا فِي اللِّقَاءِ القَادِمِ الدَّانِي


أمَّا الشاعر أحمد القنديل[2] فيقول في قصيدته "حنين[3]":
أَرِقْتُ وَكَمْ فِي اللَّيْلِ مِثْلِي وَهَاجَنِي إِلَيْكِ هَوًى تَحْيَا بِهِ رُوحُ شَاعِرِ
وَزَلْزَلَ إِحْسَاسِي وَأَشْعَلَ فِكْرَتِي مِنَ الشَّوْقِ مُمْتَدُّ الحَنِينِ مُسَامِرِي
بِلادِي بِلادِي لا عَدِمْتُكِ مَوْطِنًا حَبِيبًا إِلَى قَلْبِي وَنَفْسِي وَخَاطِرِي
وَلا عَاشَ مَنْ أَلْهَاهُ عَنْكِ احْتِقَابُهُ مُنَى العَيْشِ مَزْهُوَّ المُنَى بِالصَّغَائِرِ
وَلا اليَائِسُ العَاتِي إِذَا هَزَّهُ الجَوَى فَأَبْلَسَ مَيْئُوسَ الخُطَى وَالمَشَاعِرِ
وَلا الوَالِغُ الدَّامِي بِقَلْبِكِ بَاسِطًا إِلَى النَّاسِ قَلْبَ المُسْتَهَامِ المُدَاوِرِ
وَلا الشَّانِئُ اللاَّحِي بَنِيكِ وَبَيْنَهُمْ أَقَامَ عَلَى صَفْوِ الهَوَى وَالسَّرَائِرِ
وَلا الرَّافِدُ الهَانِي بِعَيْشِكِ مُنْكِرًا هَوَاكِ وُجُودًا أَوْ حُقُوقًا لِذَاكِرِ
• • •
ذَكَرْتُكِ وَالذِّكْرَى مِنَ الحُبِّ رُوحُهُ وَمِنْ خَلَجَاتِ النَّفْسِ وَحْيُ الضَّمَائِرِ
وَذِكْرُكِ فِي الأَحْيَاءِ هَمْسَةُ وَاجِدٍ وَتَرْدِيدُ إِيماءٍ وَقَوْلَةُ عَابِرِ
وَلَكِنَّهُ فِي مُهْجَتِي وَدَمِي هَوًى سَرَى كَحَيَاتِي فِيكِ مَسْرَى خَوَاطِرِي
• • •
ذَكَرْتُكِ والذِّكْرَى حَيَاةٌ لِوَامِقٍ غَرِيبٍ شَجِيِّ القَلْبِ بِاللَّيْلِ ثَائِرِ
ذَكَرْتُكِ فِي مِصْرَ العَظِيمَةِ بِالَّذِي بِهِ مِصْرُ قَدْ فَاقَتْ جَمِيعَ الحَوَاضِرِ
بِأَعْظَمِ مَا فِيهَا وَأَرْشَقِ مَا حَوَتْ وَأَفْتَنِ مَا يُصْبِي فُؤَادَ المُغَامِرِ
بِأَهْرَامِهَا العُلْيَا تُطَاوِلُ فِي الذُّرَى ذُرَى الدَّهْرِ زَخَّارًا بِهَوْلِ المَخَاطِرِ
بِآدَابِهَا فَتَّانَةً بِفُنُونِهَا مُحَبَّبَةً فِي كُلِّ نَادٍ وَسَامِرِ
بِأَعْلامِهَا السَّامِينَ فِي العِلْمِ وَالتُّقَى وَبَيْنَ فُنُونِ الفَنِّ مِنْ كُلِّ قَادِرِ
بِأَبْنَائِهَا بِالسَّالِبَاتِ قُلُوبَنَا بِكُلِّ ضُرُوبِ السِّحْرِ مِنْ كُلِّ سَاحِرِ
بِأَيَّامِهَا بِاللَّيْلِ فِيهَا مُحَرِّكًا هَوَى كُلِّ فَنَّانِ الصَّبَابَةِ شَاعِرِ
بِكُلِّ رَقِيقِ الحُسْنِ فِيهَا مُنَوَّعًا يَفِيضُ بِهِ الرُّوحُ الطَّلِيقُ البَوَادِرِ
• • •
ذَكَرْتُكِ وَالدُّنْيَا تَمُوجُ بِأَهْلِهَا حَيَاةً وَإِحْسَاسًا دَقِيقَ البَصَائِرِ
وَحَوْلِي شُكُولٌ تُنْضِحُ الحُسْنَ فِتْنَةً لِكُلِّ ذَكِيِّ القَلْبِ بِالحِسِّ زَاخِرِ
وَفِي القَلْبِ حِسٌّ تَعْرِفِينَ انْتِقَادَهُ بِرُوحِ شَجِيٍّ بِالهَوَى الحُرِّ عَامِرِ
وَفِي مِصْرَ مَا يُنْسِي وَلَكِنَّ ذَاكِرًا حِمَاكِ المُفَدَّى لا يُرَى غَيْرَ ذَاكِرِ
• • •
إِلَيْكِ بِلادِي فِكْرَةً وَعَقِيدَةً سَمَتْ بِهِمَا فَوْقَ الطِّلابِ مَشَاعِرِي
إِلَيْكِ إِلَى الثَّغْرِ المُطِلِّ عَلَى الدُّنَى مِنَ البَحْرِ مُنْدَاحَ السُّوَى لِلْمَعَابِرِ
إِلَى الشَّاطِئِ المَزْهُوِّ فِيهِ بِمَنْ بِهِ أَصِيلاً إِلَى الأَهْلِينَ فِي كُلِّ سَامِرِ
إِلَى مَكَّةٍ فِي قُدْسِهَا وَجَلالِهَا وَعِزَّتِهَا الكُبْرَى عَلَى كُلِّ كَابِرِ
إِلَى البَيْتِ مَحْفُوفِ الرِّحَابِ بِطَائِفٍ وَضِيءِ المُحَيَّا أَوْ مُصَلٍّ وَشَاكِرِ
إِلَى المُنْحَنَى أَجْبَالُهُ وَوِهَادُهُ وَرُوَّادُهُ مَا بَيْنَ ثَاوٍ وَسَائِرِ
إِلَى طَيْبَةٍ فِي عِزِّهَا وَعُلُوِّهَا وَخَضْرَائِهَا الخَضْرَاءِ مَجْلَى النَّوَاظِرِ
إِلَى المَسْجِدِ المَحْبُوبِ فِيهَا مُحَبَّبٌ إِلَى كُلِّ مَوْهُوبِ الهِدَايَةِ زَائِرِ
إِلَى السَّهْلِ مِنْ خَيْرَاتِهَا وَعَقِيقِهَا وَبَيْنَ مَجَالِيهَا الحِسَانِ النَّوَاضِرِ
إِلَى الطَّائِفِ التَّيَّاهِ تَبْسِمُ غِبْطَةً بِأَفْنَانِهَا فِيهِ ثُغُورُ الأَزَاهِرِ
إِلَى الوجه في آكَامِهِ وَرِمَالِهِ فَنَعْمَانَ فِي آمَادِهِ فَالمَشَاعِرِ
إِلَى سَهْلِكِ الهَانِي بِظِلِّ جِبَالِهِ إِلَى غَوْرِكِ الدَّاوِي بِصَوْتِ الكَوَاسِرِ
إِلَيْكِ إِلَى أَهْلِي وَأَهْلِكِ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ بِقَلْبِي كُلُّ بَادٍٍ وَحَاضِرِ
تَحِيَّةَ مَعْمُودٍٍ وَتَحْنَانَ وَامِقٍ وَتَسْلِيمَ مُشْتَاقٍ وَذِكْرَةَ ذَاكِرِ
إِلَى أَنْ تَلُوبَ النَّفْسُ فِيكِ مَلُولَةً بِمَا اهْتَاجَ مِنْهَا الآنَ وَجْدُ المُسَافِرِ

يشترك الشَّاعران في الموضوع (الغربة والحنين إلى الوطن)؛ فالشَّاعر المدني عبدالسلام هاشم حافظ كان قد ترك بلادَه، وذهب إلى مصر للاستِشْفاء والعلاج، وفيها أمضى عامًا كاملاً، لكنَّه حنَّ إلى وطنِه، واشتاق إلى ما فيه، ومَن فيه.

ثلاثون بيتًا هي مَجموع أبيات القصيدة من البحْر البسيط، وقافيةُ الأبيات هي النُّون المكْسورة التي تتواءَم مع حالة الحزْن والألَم اللَّذين يعتريان الشاعر، وفي القصيدة لوحظ أنَّ الشَّاعر مهَّد لها بمقدمة نثْرية تَشِي بمقدرته الفنِّيَّة على الإبداع الفني، وفيها يوضِّح أنَّ بعده عن موطنِه بسبب مرضه، وأنَّ مدَّة الغربة دامت عامًا كاملاً تحت الإشْراف الطبي، حتَّى أصبحتِ اللَّهفة على الوطن دونَها أي شوق واشتياق.

أمَّا الشَّاعر أحمد القنديل، فقد جاءتْ أبياتُه في تسعةٍ وثلاثين بيتًا من البحْر الطويل، وقافية الأبيات الرَّاء المكسورة، وهي تُوائم النَّبرة الخطابيَّة التي تجلَّت في القصيدة، وقد لوحظ أنَّ الشَّاعرين - حافظ والقنديل - ينحيان إلى النَّبرة الخطابيَّة لإبراز مشاعرِهِما وأحاسيسهما تجاه الوطن.

وإذا كان الشَّاعران قد اتَّفقا في الموضوع الرَّئيس، فإنَّهما قد اتَّفقا أيضًا في بعْض الأفْكار الجزئيَّة، بدءًا من العنوان عند كليْهِما (الشوق يا وطني) عند الشَّاعر المدني، و(حنين) عند الشاعر المكِّي، وفكرة التغنِّي بِمآثر الوطن، وجلال المكان وقدسيَّته، فحافظ ينتمي إلى المدينة المنوَّرة التي تحتلُّ في نفوس المسلمين مكانةً قدسيَّة غالية، والقنديل ينتمي إلى مكَّة المكرَّمة وما لها من مكانة كبرى في نفوس المسلمين أيضًا، إذًا فالشَّاعران يعبِّران بوضوح عن مشاعر المسلمين تجاه بقْعَتين من أطهر الأماكن، وأعزِّها رفعة.

بدأ الشَّاعر المدني قصيدتَه بانتِساب الذَّات إلى المكان، فهو جزءٌ منه، وسرٌّ من أسراره، وهو مكان تتجلَّى فيه مشاعر الطُّمأنينة والأمان، حيث يشعُّ النور من أرجائه، كما يشعُّ النور من قلْبِ الشَّاعر ووجدانِه، وهُنا نرى تجاوُبًا متوازيًا مع نفسيَّة الشَّاعر، فالنُّور المنبعِث من المكان يتوازى مع النُّور المنبعث من قلْبِ الشَّاعر، والشَّاعر في البيتَيْن الأوَّلَين يمزج مشاعِرَه الخاصَّة (داري - المسكن - الوطن - سر الهوى - روحي - وجداني - مدينتنا) بالمشاعر العامَّة (طيبة النور - دار الرسول - النبي - المسجد النبوي).

أمَّا بداية قصيدة الشَّاعر المكي، فإنَّها تبدأ بالمشاعر الذَّاتية التي تعبر عن الشَّوق والحنين إلى الوطن، الوطن الذي يقصده الشَّاعر هنا هو الممْلكة العربية السعودية بكلِّ ربوعها وأصْقاعها، وقد ورد ذكر الوطن بصيغة (بلادي)، وقد فصَّل القول في ذِكْر الأماكن ذات الارتِباط به كجدَّة - مسقط رأس الشَّاعر - ومكَّة في قدسها وجلالها، وبيت الله الحرام، وما يُحيط به من جبال ووهاد، وطَيْبة ومسجد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والعقيق، والطَّائف، ووجه وغير ذلك، بينما عبَّر الشَّاعر المدني عن وطنِه مجسَّدًا في المدينة المنوَّرة فقط، دون ذِكْر أسماء أُخْرى تتَّصل بالوطن السُّعودي ككُل.

ومن هنا نَلْحظ ترْكيز الشَّاعر المدني على المكان بوصْفِه مكانًا دينيًّا، بيْنما عند الشَّاعر المكِّي بوصفه وطنًا آهِلاً بالسُّكَّان، ومحلاًّ للإقامة والعيش، ولم يكُنْ ترْكيزُه منصبًّا على الجانب الديني في هذا الوطَن، بيْنما أفاض الشَّاعر المدني في وصف المكان وصفًا يكشف عن مكانتِه الدينية عنده وعند المسلمين، ففي المدينة يُوجد المسجد النبوي الشَّريف، وقد ضمَّت المدينة فضائل الأجيال، وبِها سر الجلال، والله كرمها بالوحي والقرآن، كما وصف المكان بأنَّه دنيا الطهر والنور.

ومن الموضوعات الجزئيَّة التي تناولها الشَّاعر المكي: مصر[4]، وأبناؤها الأبرار، وآدابها، وثقافتها، وأماكنها، وليلها، وبكل ما فيها من مظاهر تدْعو إلى الإعجاب والافتتان:


بِكُلِّ رَقِيقِ الحُسْنِ فِيهَا مُنَوَّعًا يَفِيضُ بِهِ الرُّوحُ الطَّلِيقُ البَوَادِرِ


وعلى الرَّغم من ذلك فإنَّها لم تُنْسِه وطنه، بل تزيده تعلُّقًا ومحبَّة بربوع الوطن، بينما جاء ذكر مصر عند الشَّاعر المدني سريعًا، وتلميحًا، وإن اتَّفق مع الشَّاعر المكي في أنَّ مصر وما فيها تَزيدُه حبًّا وعشقًا لموطنه، وأنَّه لا يرتضي بدلاً عن موطنه وإن كانت مصر[5].

وقد وفِّق حافظ في جذْب الانتِباه، وتحريك المشاعر وإثارتها، عندما عرض مشاعر زوجته في غربته، واستعجالها له في سرعة العوْدة، فهي تقول له - وفي أضلاعها لهب - متى تعود؟ ويردُّ الشاعر قائلاً: بل كلنا شوق! ثم عرضه لسؤال الأطْفال عن أمه (جَدَّتهم)؛ حيث عرفوا فيها الودَّ والحبَّ، ومثل هذه الأمور الخاصَّة زادت من صدق الشَّاعر، وألهبت مشاعره، وأضفت على القصيدة مسحة الصِّدق الواقعي فضلاً عن الصدق الفني.

وقد أجاد الشَّاعران في تصوير عاطفة الحبِّ والشَّوق للوَطَن، ومن حيثُ اللغةُ والأسلوب فإنَّ لغة الشَّاعرَين تَجنح إلى السُّهولة واليُسْر، وإن كان القنديل أكْثَرَ ارْتِباطًا باللغة القديمة، والتمسُّك بأصالة الألفاظ القديمة على حساب الألْفاظ السَّهلة عند "حافظ "، ومن ذلك: (احتِقابه - الوالغ الدامي - الشانئ اللاحي - شُكول - آكام - وامق)، بينما عند "حافظ" تَمتاز بالسهولة والرقَّة والتدفُّق، وكأنَّها لغة العامَّة مع تركيز المعنى، ومع ذلك فأسلوب الشَّاعرين واضح، وألفاظُهما سلسة، ابتعدا فيها عن الوحشيَّة والغرابة.

أكثرَ حافظ من الأسلوب الإنشائي الاستِفْهامي؛ حيث ورد الاستِفْهام في القصيدة ثمان مرَّات، معظَمُها جاء متتابعًا في الأبيات من الرَّابع إلى السَّابع، وكلها استفهام لإظهار مشاعِرِ الشَّوق والحنين إلى الوطن، وتُفيد التمنِّي في العودة إلى الوطن، بينما خلا أسلوبُ القنديل من الاستِفْهام، واستعاض عنه بالأسلوب الخبري لبيان شدَّة شوقه وتَحنانه.

جاءت معظم صور القنديل الفنِّيَّة متأثرةً بالبيئة الصحراوية مثل: وصفه للسهول والجبال والوهاد الداوية بصوت الكواسِر، ويتجلَّى ذلك في قوله:

إِلَى المُنْحَنَى أَجْبَالُهُ وَوِهَادُهُ وَرُوَّادُهُ مَا بَيْنَ ثَاوٍ وَسَائِرِ

فالصورة الغالِبة على البيت تمتاح من البيئة الصحراوية أكثر من غيرها، بينما جاءت معظم صور حافظ تقترب من الصور الحياتيَّة المعهودة لدى الناس، كتصويره للمسْكن بالحاني الشَّفيق على أبنائه، وتصويره للمدينة المنوَّرة بأنَّها عامرة بالزوَّار، بها الحياة الحقَّة وفيها الخير خيران، والآثار الإسلاميَّة على جانِبَي المسجد النبوي تشِي بِجلال المكان وقدسيَّته، وهي جميعًا صور حيَّة نابضة بالحركة، على عكْس صور القنديل التي تنمُّ عن الجمود والثبات.

ومِمَّا يميز أسلوب القنديل: اعتماده على التكرار، حيث كرَّر بلادي مرَّتين في البيت الثالث، وهو تكرار له وجاهتُه؛ لأنَّه كان بمثابة الطَّلقة السَّريعة التي أوضح فيها سبب أرَقِه وألمه، وانشغال فكره، كاشفًا بواسطتِه عن انكِشاف اللَّبس والغموض الذي أشاعَه في البيتَيْن الأوَّلين، كما كرَّر حرفَ النَّفي (لا) خمس مرَّات في الأبيات من الرَّابع إلى الثامن، والفعل (ذكرْتُك) في بداية البيت التَّاسع، والثَّاني عشر، والثَّالث عشر، والحادي والعشرين من القصيدة، وكذلك تكرار حرف (الباء) ثَماني مرَّات بصورة متتالية من البيت الثَّالث عشر إلى العشرين، لبيان فضل مصر وأبنائها وعلمائها، وترابها، و...، وكذلك أيضا تكرار حرف الجر (إلى) ثلاث مرَّات، مضافًا إلى كاف الخطاب إحدى عشْرةَ مرَّةً، مضافًا إلى أسماء الأماكن الموجودة بالمملكة؛ لبيان شوقه إليها.

ومن الملاحظ أنَّ القنديل اعتمد على الأسماء دون الأفعال[6]، فقد جاء استخدامه للأسماء بشكل لافت، وهذا يدلُّ على جُمود الصورة وثباتِها، بينما جاء استِخْدام حافظ للأفْعال بشكل أكثر منه عند القنديل، حيث ورد استخدام الفعل ما يقرُب من خَمسين فعلاً، يجيءُ في مقدمتها استخدام الأفعال المضارعة التي تدلُّ على التجدُّد والحدوث والاستِمْرار؛ لاستحضار الصورة، وتقريبها في خيال المتلقِّي.

ومع هذا فقد أجاد الشَّاعران في رسْم صورة صادقة عن شوْقِه وحنينه إلى الوطن، ولم يكن امتِطاء كلٍّ منَ الشَّاعرَين لبحْرٍ موسيقي مغاير عن الآخَر عائقًا عن إبْراز عاطفتِه تِجاه الوطن، فالبحر البسيط والطويل كلاهما استطاعا أن ينْقلا مشاعرَ صادقةً، وأحاسيسَ نابضة، كذلك لعبتِ القافية عندَهُما دورًا أساسيًّا في تصوير هذه المشاعر، وإن كانت عند الشَّاعر المدني أكْثَرَ توفيقًا ومواءمةً لتصوير جانبٍ من جوانب الألم الذي ينتابُ الشَّاعر عند اغترابه.

الموازنة الثَّانية: حول "الشكوى والملل واليأس" بين شاعرِنا والشَّاعر حسين سرحان[7]
فيقول عبدالسلام هاشم حافظ في قصيدة "قطرة دم[8]":

أَيَأْتِيَ يَوْمٌ بِعُمْرِي تُحَقَّقُ فِيهِ أَمَانِي الحَيَاهْ؟
وَيَبْسِمُ لِي قَدَرِي بِالرِّضَا عَنْ شِفَاهٍ وَلا كَالشِّفَاهْ
وَيغْمُرُ فَجْرُ الجَمَالِ مَدَايَ وَيَأْتِي عَلَى مُنْتَهَاهْ؟
وَيَحْظَى سَجِينُ الضُّلُوعِ بِبَعْضِ الرُّؤَى وَالسَّنَا مِنْ مُنَاهْ؟
قَضَيْتُ الشَّبَابَ بِغَيرِ شَبَابٍ أُحِسُّ بِرُوحِي نَدَاهْ
وَعِشْتُ حَلِيفَ الهُمُومِ بِقَلْبٍ شَرِيدٍ يَقِيءُ صِِبَاهْ
وَحِرْمَانُهُ الظِّلَّ وَالطَّلَّ يَجْعَلُهُ يَسْتَطِيبُ شَقَاهْ
فَأَصْبَحْتُ لا أَحْسَبُ الدَّهْرَ يُرْجَى لِطَرْدِ الضَّنَى عَنْ سمَاهْ
مَضَتْ خَمْسَةٌ بَعْدَ عِشْرِينَ عَامًا وَقَلْبِي يُعَانِي أَسَاهْ
وَفِي النَّفْسِ مَا فِي جَوَانِحِهَا مِنْ لَهِيبٍ يُذِيبُ الحَصَاهْ
وَيَطْغَى عَلَى الأَمَلِ العَذْبِ حَتَّى أَرَى الكَوْنَ دَامِي الجِبَاهْ
وَيُسْفِرُ وَجْهُ الطَّبِيعَةِ عَنْ مَنْظَرٍ سَاخِرٍ لا يَرَاهْ
سِوَايَ، وَمَنْ كَانَ مِثْلِي بِأَحْلامِهِ ضَارِبًا فِي مَتَاهْ
تَظُنُّ السَّوَادُ بِأَنِّي سَعِيدُ الجُدُودِ رَضِيُّ الإِلَهْ
رَضِيُّ الإِلَهِ نَعَمْ، فَالإِلَهُ بِرُوحِي وَفِكْرِي أَرَاهْ
وَأَمَّا السَّعَادَةُ، فَالهَوْلُ دُونَ لِقَاهَا وَإِلاَّ لِقَاهْ
تُغَلْغِلُ فِي مُهْجَتِي لَوْعَتِي، وَالمَنَايَا تَزِفُّ الأَسَاهْ
أَعِيشُ غَرِيبًا عَنِ النَّاسِ أَهْوَتْ عَلَيْهِ الدُّجَى فِي ضُحَاهْ
أُجَامِلُ فِي بَسْمَتِي وَابْتِهَاجِي، وَظُلْمِي طَوِيلٌ مَدَاهْ
وَحَوْلِيَ أَشْبَاحُ شُؤْمٍ وَمِعْوَلُ دَهْرٍ يَفُلُّ الصَّفَاهْ
فَحَتَّى مَتَى أَجْرَعُ الكَأْسَ سُمًّا، وَلا مِنْ شَرَابٍ سِوَاهْ؟
وَهَلْ يَأْتِيَ اليَوْمُ، يَوْمٌ أَرَى فِيهِ سِرَّ جَمَالِ الحَيَاهْ؟
أَمِ العُمْرُ يَبْقَى بِمَعْصَرَةِ الزَّمَنِ الوَغْدِِ فِي مُصْطَلاهْ؟
تَحَيَّرْتُ، وَالحِسُّ تُشْغِلُهُ قَطْرةٌ طَفِرَتْ فِي الصَّلاهْ

أما الشاعر حسين سرحان فيقول في قصيدة "ملل ويأس وأفكار سوداء"[9]:

خُلِقْتُ مَلُولاً لَوْ رُزِقْتُ سَعَادَةً وَدَامَتْ لَسَاءَتْ لِي مَرَاحًا وَمُغْتَدَى
وَلَوْ مُدَّ مِنْ حَبْلِ الحَيَاةِ قَصِيرُهُ لأَشْفَقْتُ مِنْهُ أَوْ فَزِعْتُ إِلَى الرَّدَى
وَلَوْ جَاءَ هَذَا المَوْتُ قَبْلَ أَوَانِهِ لأَلْفَى إِلَى ُروحِي السَّبِيلَ مُعَبَّدَا
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحَيَاةِ جَمِيعَهَا فَلا أَبْتَغِي جَدًّا وَلا أَشْتَهِي ودا
وَجَرَّبْتُ أَخْلاقَ الوَرَى فِي شَبِيبَتِي فَمَا سَاءَنِي بُخْلٌ وَلا سَرَّنِي نَدَى
وَأَجْدَبَ قَلْبِي مِنْ غَرَامٍ مُخَامِرٍ وَضَاقَ شُعُورِي وَهْوَ مُنْفَسِحُ المَدَى
فَلا الشَّمْسُ فِي إِشْرَاقِهَا تَبْعَثُ الهَوَى وَلا الطَّرْفُ إِذْ يَرْنُو وَلا الطَّيْرُ إِنْ شَدَا
لَئِنْ كُنْتُ فَرْدًا إِنَّ فِيَّ لَعُصْبةً عِدًى أَوْ هُمُو أَقْسَى عَلَيَّ مِنَ العِدَا
نَقِيضَانِ مِنْ قلبٍ وَنَفْسٍ تَبَرَّمَتْ بِهِ فَعَتَا عَنْ أَمْرِهَا وَتَمَرَّدَا
وَلَوْ كَانَ لِي عَقْلٌ نَصِيحٌ مُسَالِمٌ لأَصْمَاهُمَا حَتَّى يَبِينَ لَهُ الهُدَى
• • •
يَرَى النَّاسُ مِنِّي بَيْنَهُمْ طَيْفَ عَابِرٍ يَرُوحُ وَيَغْدُو مِثْلَ مَنْ رَاحَ أَوْ غَدَا
تَحَيَّفَهُ دَهْرٌ شَدِيدٌ شِمَاسُهُ وَأَبْدَى لَهُ وَجْهًا مِنَ المَقْتِ أَرْبَدَا
وَلَوْلا بَقَايَا مِنْ صَلِيبِ إِرَادَةٍ لأَعْوَزَنِي صَبْرِي وَعِفْتُ التَّجَلُّدَا
لَقَدْ طَالَمَا أَقْدَمْتُ فِي غَيْرِ طَائِلٍ أَيَجْمُلُ بَعْدَ الآنَ أَنْ أَتَرَدَّدَا
ضَحِكْتُ مِنَ الأَيَّامِ ضِحْكَةَ مُرْهَقٍ تَكَبَّدَ مِنْ آلامِهَا مَا تَكَبَّدَا
وَمَا كَانَ ضِحْكِي عَنْ حُبُورٍ وَإِنَّمَا لأَجْمَعَ مِنْ شَمْلِ المُنَى مَا تَبَدَّدَا
سُرِرْتُ بِأَشْتَاتِ المُنَى إِذْ تَأَلَّفَتْ وَلَكِنَّهَا مِنْ شِقْوَتِي ذَهَبَتْ سُدَى
تَقَلَّبْتُ مِنْهَا وَسْطَ رَوْضٍ مُنَمْنَمٍ فَأَضْحَى كَصَحْرَاءَ مِنَ الأَرْضِ أَجْرَدَا
وَكَمْ مَنْزِلٍ يَمَّمْتُهُ مَا أَغَاثَنِي بِمُرْتَشَفٍ أَشْفِي بِهِ غُلَّةََ الصَّدَى
• • •
لَقَدْ خَلُقَتْ نَفْسِي وَرَثَّتْ شَمَائِلِي وَذَا الدَّهْرُ مَا يَزْدَادُ إِلاَّ تَجَدُّدَا
وَمَا الكِبَرُ العَاتِي عَرَانِي وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ طَبْعِي أَوْ تَحَوَّلَ جَلْمَدَا
وَكُنْتُ كَطَيْرٍ عَاشَ فِي غَيْرِ سِرْبِهِ فَأَمْضَى أُوَيْقَاتَ الزَّمَانِ مُغَرِّدَا
يُخَفِّفُ عَنْهُ الشَّدْوُ أَثْقَالَ هَمِّهِ وَيَطْرُدُ عَنْهُ بَثَّهُ وَالتَّوَجُّدَا
وَعِنْدِي لأبْنَاءِ الزَّمَانِ حَقَائِقٌ يَظَلُّ لَهَا وَجْهُ الغَزَالَةِ أَسْوَدَا
سَأُضْمِرُهَا حِينًا وَلَوْ قَدْ أَذَعْتُهَا لَمَا عَدِمَتْ بَيْنَ الأَنَامِ مُفَنِّدَا
يُكَذِّبُهَا عَبْدٌ لِيَكْسِبَ زُلْفَةً وَيُنْكِرُهَا حُرٌّ لِيُصْبِحَ سَيِّدَا
• • •
وَقَوْمٌ يَوَدُّونِي وَلِكنْ إِذَا رَأَوْا بُرُوْزِي عَلَيْهِمْ أَصْبَحُوا لِيَ حُسَّدَا
وَمَا حَسَدٌ يُدْنِي مِنَ المَرْءِ نَائِيًا وَلَوْ رَاشَ مِنْهُ سَهْمَ غِلٍّ مُسَدَّدَا
يُضِيفُ بِهِ هَمًّا إِلَى هَمِّ نَفْسِهِ وَيُضْرِمُ فِيهِ الجَاحِمَ المُتَوَقِّدَا
وَمَا أَنَا مِمَّنْ يُضْمِرُ الغِلَّ لامْرِئٍ وَلَوْ أَنَّهُ أَبْدَى العَدَاءَ المُجَرَّدَا
سَيَنْدُبُنِي صَحْبِي وَكُلُّ مَنِ الْتَوَى بِحَبْلِ وِدَادِي إِنْ وَهَى أَوْ تَأَيَّدَا
كَمَا لَوْ قَضَوْا قَبْلِي جَمِيعًا نَدَبْتُهُمْ وَأَذْرَفْتُ جَمَّ الدَّمْعِ أَسْوَانَ مُفْرَدَا
وَإِنِّي لَمَفْطُورٌ عَلَى ذَاكَ لا أَنِي وَأَمْسِي وَيَوْمِي فِيهِ قَدْ أَشْبَهَا الغَدَا
وَمَا كَانَ مِنِّي غَيْرُهُ فَمَظَاهِرٌ تَعَوَّدْتُهَا يَا صَاحِ فِيمَنْ تَعَوَّدَا
خَلائِقُ نَفْسِي فِي اتِّضَاعٍٍ وَرِفْعَةٍ فَلِلَّهِ مَا أَشْقَاكِ نَفْسًا وَأَسْعَدَا


كان سرحان أسبق إلى النَّشر من حافظ، فقد نشر قصيدته في صحيفة "صوت الحجاز" بتاريخ 27/11/1355هـ، أمَّا "حافظ" فنشرها سنة 1403هـ الموافق 1983م ضمن ديوان "وحي وقلب وألحان"، ولكنَّه ذكر أنَّ القصيدة كُتِبَت سنة 1373هـ، مِمَّا يعني سبق حسين سرحان على "حافظ" في نشر قصيدته.

البداية من العنوان: عنوان حافظ أقرب إلى الشِّعر منه إلى النثر، قصير، موجز، مركَّز، يحتوي على الإثارة والتَّشويق المطلوبين في العنوان؛ لأنَّه قد يعني أنَّ الشاعر ربَّما يتحدَّث عن قضيَّة كبرى تمسُّ وجدان الأمَّة، كالقضيَّة الفلسطينيَّة، أو غيرها من القضايا ذات الصِّلة، بينما باستِقْراء القصيدة يتبيَّن لنا أنَّه يتكلَّم عن دمعة حارَّة اندلعت من عينيه حزنًا على نفسه، وبكاء على نفسيَّته، ومن هنا فالعنوان معبِّر عن القصيدة أيَّما تعبير، أمَّا عند سرحان فالعنوان أقرب إلى النَّثر منه إلى الشعر "ملل ويأس وأفكار سوداء" وكان يكفيه الجزء الأوَّل فقط "ملل ويأس" أو الجزء الثاني فقط (أفكار سوداء)، أمَّا أن يَجمع بينهما في عنوان واحد، فهذا مُخلٌّ بِمبدأ التَّركيز.

الموضوع عند حافظ إبْراز مشاعر الأسى والحزن الذي غشَّى أفقه، واليأس من الحياة إلى الحدِّ الذي جعله يُظْهِر الابتسام والابتهاج مجاملة للناس، ومحاولة استعجال النهاية:فَحَتَّى مَتَى أَجْرَعُ الكَأْسَ سُمًّا، وَلا مِنْ شَرَابٍ سِوَاهْ؟

وهو نفس الموضوع عند سرحان، وربَّما اشترك الشَّاعران في بعض الأفكار الجزئية، كفكرة نظرة الناس إليهما على أنهما سعداء، وهي في الحقيقة سعادة وهمية، يغلب عليها التظاهر بالسعادة والمجاملة، وقد تناول سرحان بعضًا من صفاته الخُلُقية؛ كحبه الخير للناس، وعدم الحقد والحسد على أحد، وأنه قد جُبل على مثل هذه الصفات، وربَّما سببت له هذه الصفات شقاء وألمًا.

ومن حيث اللغةُ والأسلوب، فقد جاءت لغة حسين سرحان قويَّة، جزلة، خالية من حوشيِّ الكلام، تَميل إلى لُغَةِ البداوة في متانتها "تَحَيَّفَهُ دَهْرٌ شَدِيدٌ شِمَاسُهُ"، وترى أثَرَ البداوة واضحًا في ألْفاظِه وبعض صُوَرِه:

تَقَلَّبْتُ مِنْهَا وَسْطَ رَوْضٍ مُنَمْنَمٍ فَأَضْحَى كَصَحْرَاءَ مِنَ الأَرْضِ أَجْرَدَا

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-04-2021, 04:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: موازنات شعرية في الشعر السعودي الحديث

كما جاءت لغتُه واضحة، لا رمز، ولا إيحاء، فهي إذًا لغة مباشرة، تقرأ له شِعْره وكأنَّك تسمعه، فنبرته خطابيَّة، ذات رنين أخَّاذ وحادّ، لغته أقْرب إلى لغة المحدثين منها إلى لغة الأقْدمين، لا أثَرَ للحداثة في قصيدته إلا اختيار العنوان، وتركيز القصيدة على مضمون واحد، بيْنما لغة عبدالسلام هاشم حافظ تَجنح إلى اليسر والسهولة بشكل واضح، ويغلب عليها - من خلال ألفاظها - الجنوح إلى اليأْس والتَّشاؤم والحزن، وتتميَّز بالبساطة والاعتِماد على الأفعال، ولا سيما المضارعة منها.

ومن الملاحظ أنَّ قصيدة سرحان تكاد تخلو من الأساليب الإنشائيَّة، بل آثرت الأسلوب الخبري، وبالتَّالي لم ينوِّع في أساليبه، فجاءت قصيدتُه على نمط واحد، وتخلَّلت الأبيات الحكمة، على عادة الشعراء القدامى؛ كقوله:

وَلَوْ كَانَ لِي عَقْلٌ نَصِيحٌ مُسَالِمٌ لأَصْمَاهُمَا حَتَّى يَبِينَ لَهُ الهُدَى


أمَّا عبدالسلام هاشم حافظ، فقد نوَّع بين الأساليبِ الخبريَّة والإنشائيَّة، وقد بدأ قصيدته باستفهام، امتدَّ على مسافة أربعة أبيات، وختمها باستِفْهام آخر، امتدَّ ثلاثة أبيات، وكلها تبرز مشاعر الأسى والحزن، والأمل في تغيير الحال، والتمني.

وكلاهما لاذَ إلى الطبيعة، ولكن طبيعة سرحان أقْرب إلى الطبيعة الصحراوية، وما فيها من لهفة الظمآن إلى الارتِواء، وتشبيه نفسِه بالطَّير الذي عاش في غيْر سربه، أمَّا الطبيعة عند حافظ، فهي طبيعة نابعة من نفسيَّة حزينة، وشباب مهْدور، فطبيعته ذات وجْه ساخر لا يراه سواه، وأشْباح الشُّؤم، ومَعاوِل الدَّهر تفتُّ قواه، وتهوِي به إلى حفرة سحيقة لا يعرف الإنسان مداها.

كلاهما التزم وحْدة الوزن والقافية، ونجح حافظ في اخْتيار قافية الهاء المقيَّدة (الساكنة) للتَّعبير عن نفسيَّة حزينة، تتَّفق وطبيعة القافية ذات النَّغمة الحزينة، وما عساه أن ينتج من تولُّد حرف الهاء المسبوقة بِحرف الألِف المُطْلقة من صوت شجي حزين، ولا ننفي بذلك إجادة سرْحان في استخدامه لقافية الدال المردوفة بالألف المقصورة، وما عساه أن تنتجه من نغمة حزينة مشابِهة لما استخدمه حافظ، بيْد أنَّ استخدام حافظ كان أكثرَ توفيقًا، وغير خفي أنَّ استِخدام البحر المتقارب عند حافظ أضْفى على القصيدة سرعةً وحركة بصورة أكثر من بحر الطويل عند سرحان، ومع ذلك فقد نجحا معًا في نقْل مشاعر الحزن واليأس عند كليهما.

ويلاحظ أنَّ استِخْدام سرحان للوزْن من خلال بَحر الطويل كان استِخْدامًا نَمطيًّا، فجاء على الصُّورة التامَّة دون زيادة ولا نقْصان، وقد جاءت عَروضُه مقبوضة (مفاعلن) مع الضَّرب الثاني المقبوض (مفاعلن).

أمَّا حافظ فقدِ استَخْدم البحْر المتقارب مدوَّرًا في جَميع أبيات القصيدة، ولم يستخْدِمْه كما استخدمه القدماء، كأن تتكرَّر تفعيلتُه المؤسسة له أرْبع مرَّات في كلِّ شطر، وإنَّما استخْدمه سبْع تفعيلات متَّصلة، لا هو ستٌّ، ولا ثمان، كما جاءت التَّفعيلة الأخيرة من البيْت (مقصورة) فعولْ، وهنا نلحظ تبرم حافظ على العروض الخليلي، ومحاولة انتِهاج شكل عروضي ملائم.

والسُّؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل نجح؟ الحقيقة لم نشعُر بأي نشازٍ موسيقيٍّ عند قراءة القصيدة، بل جاءت الموسيقى متناغمة تَمامًا مع الحالة النفسيَّة الحزينة للشَّاعر، وقد نجح في ذلك نجاحًا واضحًا، ولم يقف الشَّكل الموسيقي عائقًا عن الأداء الفني المميز؛ بل كان مكمِّلاً ومتمِّمًا لهذا الأداء.

الموازنة الثالثة: حول "التهنئة بالمولود" بين عبدالسلام هاشم حافظ، وأحمد سالم باعطب
يقول شاعرنا:

ميلاد جهاد[10]
فِي شَهْرِ مِيلادٍ لإِبْنِي الأَوَّلِ بَعْدِي بِشَهْرٍ قَدْ أَتَى إِبْنِي جِهَادْ
جَهِدَتْ بِهِ نَفْسِي وَأَشْعَلَ خَاطِرِي فِي حَمْلِهِ وَمَجِيئِهِ عَارِي الوِسَادْ
وَعَلَى يَدَيْنِ لِغَيْرِنَا لَقِيَ الرِّضَا فَكَأَنَّنِي فِي أُمْسِيَاتٍ لِلبُعَادْ
هَذِي جِنَايَةُ أُمِّهِ وَجُنُونُهَا لَكِنَّهُ قَدَرٌ تَصَرَّفَ بَلْ أَرَادْ

• • •
يَا ابْنِي رَعَاكَ اللَّهُ فِي ظِلٍّ رَحِيمْ فِي حِضْنِ مَحْرُومَيْنِ مِنْ خَلْفٍ يدُومْ
يلْقَاكَ خَالِدُ كَابْنِهِ وَمَرَامُهُ يَفْدِيكَ بِالقَلْبِ الكَبِيرِ وَبِالحَلُومْ
بلْ زَوْجُهُ تَحْنُو عَلَيْكَ كَإِبْنِهَا تَسْقِيكَ عَطْفَ الأُمِّ بِالصَّدْرِ الكَرِيمْ
فَهُمَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَرْوِيهِمَا مِنْ كَأْسِنَا الأَبَوِيَّةِ العُلْيا الرَّؤُومْ
• • •
يَا ابْنِي بِلَوْعَةِ وَالِدٍ أَشْتَاقُ لَكْ وَيَحِنُّ قَلْبِي الشَّاعِرِيُّ وَيَحْضُنُكْ
وَتَخَيُّلِي لَكَ بَيْنَنَا لا يَنْثَنِي عنَّا وَيَهْتِفُ أنْ تَجِيءَ لِمَوْضِعِكْ
لَكِنَّنَا نَلْقَاكَ طَيْفًا عَابِرًا وَتَزُورُ ضَيْفًا جَافِيًا عَنْ مَضْجَعِكْ
وَسَيَكْبَرُ الطِّفْلُ الحَبِيبُ لِغَايَةٍ أَرْجُو تُبَلِّغُهَا، تَرَى مُسْتَقْبَلَكْ
• • •
فَاصْبِرْ جِهَادُ فَهَذِهِ أَقْدَارُنَا وَمَشِيئَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا خَيْرُنَا
سَتَعِيشُ عُمْرَكَ نَاعِمًا وَمُجَاهِدًا حَتَّى تُحَقِّقَ مَا يُرِيدُ شِعَارُنَا
وَأَرَاكَ فِي الغَدِ مِثْلَ إِخْوَتِكَ الأُولَى تَبْنُونَ مَا تَبْقَى بِهِ آثَارُنَا
زَهْرَاءُ، عَبْدُالنَّاصِرِ، وَالطَّاهِرُ وَجِهَادُ كُلُّكُمُ هُنَا أَزْهَارُنَا
وَهُنَا تُوَحِّدُ شَمْلَنَا أَقْدَارُنَا


أمَّا الشَّاعر أحمد سالم باعطب فيقول في قصيدة "تهنئة بمولود"[11]:

خَبَتِ الجَذْوَةُ الَّتِي فِي فُؤَادِي مِنْ ضَنَى غُرْبَتِي وَطُولِ ابْتِعَادِي
أَنْتَ أَطْفَأْتَهَا بِفَيْضِ حَنَانٍ حِينَ أَقْبَلْتَ حَامِلاً لِي مُرَادِي
لَكَ قَلْبِي وَقَلْبُ أمِّكَ مَثْوًى يَا رُؤَى حُلْمِهَا وَرَمْزَ جِهَادِي
دَاعَبَتْنِي المُنَى وَأَنْتَ جَنِينٌ وَبَلَغْتُ المُنَى وَوَجْهُكَ بَادِي
• • •
جِئْتَ تُهْدِي لَنَا السَّعَادَةَ دَوْمًا تَغْمُرُ البَيْتَ بِالرِّضَا وَالوِدَادِ
مَا رَأَيْتُ الحَيَاةَ تَعْذُبُ إِلاَّ بِكَ يَا مُنْيَتِي وَحُلْمِي وَزَادِي
أَنْتَ أَنْسَيْتَنِي بِحُلْوِ التَّلاقِي أَلَمَ البُعْدِ وَالنَّوَى عَنْ بِلادِي
لَسْتُ أَنْسَى هَوَاكَ مَا دُمْتُ حَيًّا خَالِدٌ أَنْتَ فِي الحَشَا وَالفُؤَادِ
• • •
سَعِدَ الأَهْلُ وَالأَقَارِبُ جَمْعًا وَرَعَتْكَ القُلُوبُ قبْلَ الأَيَادِي
نَعْشَقُ السُّهْدَ كَيْ نَرَاكَ سَعِيدًا بَاسِمًا لاهِيًا تُنَاغِي تُنَادِي
بِكَ يَا بَهْجَةَ الحَيَاةِ عَرَفْنَا سِرَّ حُبِّ البَنِينَ بَيْنَ العِبَادِ
لِتَعِشْ بَاسِمًا بِعُمْرٍ مَدِيدٍ تَتَوَخَّى الهُدَى وَنَهْجَ الرَّشَادِ


"ميلاد جهاد"، "تهنئة بمولود" عنوانان تقليديَّان، لا رمزَ ولا إيحاء، وهما يضعانِنَا مُباشرة أمام التَّجرِبَة بكُلِّ مقوِّماتها الفنية، ويُمهِّدان لهذه التجربة، وفي البيت الأوَّل للشاعر عبدالسلام هاشم حافظ يَشْعُر الشاعرُ أنه بيت غامض؛ لذا أشار في الهامش أنَّه يعني ولادة ابنه هذا، في نفس الشهر الذي وُلِدَ فيه ابنه الأوَّل، وبعد شهر من ذكرى يوم ميلاده نفسِه، أمَّا في بيت باعطب الأوَّل، فإنه يُشير إلى أنَّ ميلاد ابنِه قد أطفأ النَّار المضرمة في فؤاده، وأنَّه قد استراح بعد طول عناء حين أقبل ابنه.

والشاعران يشتركان في إظهار مشاعر الفرح والسَّعادة بقدوم المولود؛ ولكنَّ الشاعر عبدالسلام هاشم حافظ يَزيد سِمةً مأساويَّة لميلاد ابنه الذي وُلِد وهو مُغترب، وقام الشيخ خالد حلابة وزوجه برعاية المولود في ظِلِّ غيابه، وكانا قد حُرما نعمةَ الإنْجاب، وفي سبيل إبراز عاطفة الأب أخذ الشاعر يظهر حنينَه وشوقَه إلى ابنه الذي وُلد ولَمْ يَرَ أباه، ويُمنِّي نفسه أمنيات سارَّة بقُرب عودته، ولَمِّ الشمل، وأنَّ جهادًا سيكبر مثل إخوانه، وسيكون له شأنٌ في المستقبل، ومثل هذه الأفكار الجزئيَّة لا نراها عند باعطب الذي أخذ يشرح فرحته وسعادته بقُدُوم مولوده، وأنَّه جاء يغمر البيت سعادة ورضًا، وقد يشترك الشاعران في أن مولودهما جاء إلى الحياة ليُنْسِيَ كُلاًّ منهما أَلَمَه وغُربته.

أسلوب باعطب - مثل حافظ - مُباشر، وواضح، لا غموضَ ولا إثارةَ في استخدام اللُّغة، والألفاظ عند كليهما تَجنح إلى السُّهولة والوضوح، وإنْ تَميَّزت قليلاً عند عبدالسلام هاشم في إضْفاء لمسة الحزن على القصيدة، بينما عند باعطب تشيع ألفاظ السَّعادة والفرح.

تَميَّز أسلوبُ باعطب بالانتقال من ضمير المخاطب إلى المُتكلِّم والعكس: "حِينَ أَقْبَلْتَ حَامِلاً لِي مُرَادِي"، "جِئْتَ تُهْدِي لَنَا السَّعَادَةَ"، "مَا رَأَيْتُ الحَيَاةَ تَعْذُبُ إِلاَّ ... بِكَ"، "أَنْتَ أَنْسَيْتَنِي"، "بِكَ يَا بَهْجَةَ الحَيَاةِ عَرَفْنَا ... سِرَّ حُبِّ البَنِينَ".

جمعَ حافظ بين الخبر والإنشاء في أبياته، وإنْ تركز على الأسلوب الخبري، إلاَّ أنَّنا نجدُ الأسلوبَ الإنشائي في موضعين: "الأمر، النِّداء"، وفيهما يُبرِز الشاعرُ إحساسَ الأبوَّة نحو ابنه في قوله: "يا ابني"، وقوله: "فاصبر جهاد"، كما جمع باعطب بين نفس الأسلوبين "يا بهجة الحياة"، "لِتَعِشْ باسِمًا".

قسَّم باعطب قصيدته أربعة مقاطع، كل مقطع أربعة أبيات، مع الحفاظ على القافية والوزن في كُلِّ مقطع، بينما قسَّم حافظ قصيدته خمسة مقاطع، كل مقطع أربعة أبيات، عدا المقطع الأخير، زاد عليه الشَّاعر شطر بيت مستخدمًا نفسَ القافية للمقطع الأخير نفسه، وكل مقطع ينتمي إلى قافية مُغايرة، وجميع قوافيه مُقيدة - ساكنة - مع الحفاظ على الوزن في جميع المقاطع، وهو البحر الكامل، بينما في قصيدة باعطب استَخْدم البحر الخفيف، وقد استطاع الشاعران نَقْلَ عاطفتهما بواسطة البحرين الموسيقِيَّين.

جاءت صور باعطب جزئيَّة تقليدية، كقوله: "داعبتني المنى"، "الحياة تعذب"، "حلو التلاقي"، "رعتك القلوب"، "نعشق السهد"، بينما استطاع حافظ رَسْمَ صورة كلية تَمتزج فيها الأحزان والأفراح، واختلاف المشاعر، عند قدوم المولود.

الموازنة الرابعة: الاغتراب النفسي بين حافظ والقرشي
يقول الشاعر حسن عبدالله القرشي:

إلى أين؟[12]
إِلَى أَيْنَ؟ إِنِّي مَلِلْتُ المَسِيرْ
قِفَارٌ وَشَوْكٌ ضَلَلْتُ العُبُورْ
وَهَذِي السُّهُوبُ وَتِلْكَ الصُّخُورْ
كَأَنِّيَ حَوْلَ حَيَاتِي أَدُورْ
• • •
إِلَى أَيْنَ؟ هَذِي دُرُوبُ الحَيَاهْ
أَضَعْتُ بِهَا العُمْرَ وَاحَسْرَتَاهْ!
سَرَابٌ يُخَايِلُنِي كَالمِيَاهْ
فَإِنْ جِئْتُهُ صِحْتُ: وَاضِلَّتَاهْ!
• • •
إِلَى أَيْنَ؟ أَجْهَدَ رُوحِي الرَّحِيلْ
أَمَا مِنْ مَحَطٍّ لِجِسْمِي العَلِيلْ؟
أَمَا مِنْ رُجُوعٍ؟ أَمَا مِنْ قُفُولْ؟
وَحَتَّامَ أَهْتِفُ أَيْنَ الدَّلِيلْ؟
• • •
إِلَى أَيْنَ؟ مَا ثَمَّ لِي مِنْ مَقِيلْ
وَمَا مِنْ رَفِيقٍ وَمَا مِنْ خَلِيلْ
يُشَارِكُنِي السَّيْرَ بَيْنَ الطُّلُولْ
سِوَى أَمَلٍ مُهْطِعٍ لِلأُفُولْ
• • •
إِلَى أَيْنَ؟ إِنِّي ذَرَعْتُ الفَضَاءْ
فَلَمْ أَلْقَ غَيْرَ الأَسَى وَالشَّقَاءْ
طِمَاحِيَ عَادَ وَنًى وَانْطِوَاءْ
وَيَأْسِيَ قَدْ غَلَّ مِنِّي الرَّجَاءْ
• • •
إِلَى أَيْنَ؟ هَذِي أَفَاعِي الخَرِيفْ
وَهَذَا فَحِيحُ الظَّلامِ المُخِيفْ
يُسَرْبِلُنِي صَاعِقًا كَالحُتُوفْ
أَمَا ثَمَّ رُوحٌ لِقَلْبِي الشَّفِيفْ؟
• • •
إِلَى أَيْنَ أَحْسَسْتُ صَمْتَ اللُّحُودْ
وَأَدْرَكْتُ أَنِّي طَرِيدُ الوُجُودْ
أَثَمَّةَ فِي الكَوْنِ مِثْلِي غَرِيبْ
وَأَعْزَلُ قَدْ أثْقَلَتْهُ القُيُودْ؟
• • •
إِلَى أَيْنَ؟ أَدْرَكْتُ مَعْنَى السَّأَمْ
وَسِرَّ العَذَابِ وَنَفْحَ العَدَمْ
فَأَيْقَنْتُ أَنِّي حَلِيفُ الأَلَمْ
وَأَنِّيَ رُوحٌ غَرِيبُ النَّغَمْ
• • •
إِلَى أَيْنَ؟ إِنِّي مَلِلْتُ المَسِيرْ
قِفَارٌ وَشَوْكٌ ضَلَلْتُ العُبُورْ
وَهَذِي السُّهُوبُ وتِلكَ الصُّخُورْ
كَأَنِّيَ حَوْلَ حيَاتِي أَدُورْ

أمَّا قصيدة "شبابي المهدور"[13] لعبدالسلام هاشم حافظ:

شَبَابِي المَهْدُور
حَيِيتُ وَكَانَتْ حَيَاتِي خَيَالاً غَرِيبَ المَرَائِي رَهِيبَ الجِوَاءْ
وَمَنْ عَاشَ مِثْلِي قَضَى نَحْبَهُ وَأَلْقَى مُنَى العُمْرِ تَغْدُو هَبَاءْ
فَمَنْ لِي بِقَلْبٍ يُحِسُّ أَسَايَ وَيَأْسُو جِرَاحِي بِكَفِّ الرَّجَاءْ
وَمَنْ ذَا يُرَجَّى لِحَطْْمِ القُيُودِ وَبَعْثِي مِنَ الأَسْرِ أَسْرِ العَنَاءْ
وَعِلاَّتِ جِسْمٍ فَقِيدِ الرُّوَاءْ؟
بِدَمْعِي تُسَطِّرُ حَظِّي الغُيُوبْ وَيَحْلُو لَهَا أَنْ تَرَانِي أَلُوبْ
أُفَتِّشُ عَنْ سِرِّ هَذِي الحَيَاهْ وَيَعْتَصِرُ الهَمُّ رُوحِي الكَئِيبْ
وَأَمْشِي عَلَى قِطْعَةٍ مِنْ دِمَائِي مِنَ الكِبْدِ أُلْقِي بهِ فِي الدُّرُوبْ
لُهَاثِي المُمِيتُ بِظِلِّ الدُّجَى وَآهَاتِيَ الجُونُ عِنْدَ الغُرُوبْ
وَحِيدًا أُكَفْكِفُ دَمْعَ الشَّقَاءْ
وَأَبْسِمُ للنَّاسِ والقَلْبُ يَبْكِي وَتُرْهِقُهُ عَاصِفَاتُ الأَلَمْ
أَعِيشُ سَجِينَ الأَسَى وَالهَوَانِ جَرِيحَ الجَوَانِحِ بَادِي السَّقَمْ
وَأَصْرُخُ بِالحَظِّ: يَا ظَالِمِي أَلا أَيْنَ صَفْوِي ودُنْيَا النَّغَمْ؟
تُحَطِّمُنِي فِي الشَّبَابِ النَّضِيرِ وَتَتْرُكُنِي بَيْنَ أَيْدِي النِّقَمْ
تُلَوِّعُنِي حَيْرَتِي فِي البَقَاءْ
أَتَسْلُبُنِي صِحَّتِي فِي الرَّبِيعِ؟ وَيَسْخَرُ بِي فِي الحَيَاةِ الشِّتَاءْ؟
هَدَرْتَ شَبَابِي وَأَذْوَيْتَ عُمْرِي مَعَ الفَجْرِ، وَالعُودُ رَطْبُ اللِّحَاءْ
فَعِشْتُ بِقَلْبٍ طَرِيدِ الأَمَانِي وَيَنْتَهِبُ النَّاسُ حُلْمِي المُضَاءْ
أُنَادِي وَلا مِنْ صَدًى للنِّدَاءْ
فَوَالَهَفِي لِلوُجُودِ المُنِيرِ وَوَالَهْفَ نَفْسِي لِحِسِّ الشَّبَابْ
تَرَدَّى شَبَابِي نَضِيرًا بَرِيئًا وَمَاتَتْ عَلَى رَاحَتَيْهِ الرِّغَابْ
تَرَدَّى وَلِيدًا وَلَمْ أَسْتَعِدْهُ فَظَلَّتْ حَيَاتِي ضَنًى وَاكْتِئَابْ
وَفِي الجِسْمِ يَسْرِي السَّقَامُ العَتِيُّ وَيَعْثُرُ خَطْوِي بِدَرْبٍ يَبَابْ
فَأُبْصِرُ دُنْيَايَ أَضْحَتْ هَبَاءْ
لِمَاذَا أَعِيشُ؟ لِمَاذَا أَعِيشُ؟ بِآلامِيَ العَاصِفَاتِ المُرِيعَهْ
بِآلامِيَ القَاتِلاتِ الَّتِي تُعَانِقُ جِسْمِي وَتَلْوِي ضُلُوعَهْ
تُهَدِّدُنِي بِاعْتِنَاقِ الرَّدَى وَتَهْرُبُ بِالأُمْنِيَاتِ البَدِيعَهْ
أَيُقْضَى عَلَيَّ بِأَلاَّ أَمُوتَ وَأَحْيَا تُعَذِّبُ نَفْسِي الوَدِيعَهْ
وَيُجْهِشُ حِسِّي بِمُرِّ البُكَاءْ
حَيَاتِي أَجَلْ عَانَقَتْ لَيْلَ عُمْرِي وَلِيدًا وَشَبَّا، فَأَيْنَ حَيَاتِي؟
وَهَلْ يَنْقَضِي العُمْرُ شُؤْمًا مُرِيبًا وَلا يَسْمَعُ النَّاسُ حَتَّى شَكَاتِي؟
أَتَحْلُو الحَيَاةُ بِغَيْرِ الشَّبَابِ وَصِحَّةِ جِسْمٍ تُذِيعُ نَجَاتِي؟
لَئِنْ طَالَ هَذَا العَذَابُ المَرِيرُ فَأَيْنَ النِّهَايَةُ؟ أَيْنَ مَمَاتِي؟
وَإِلاَّ فَأَيْنَ الهَنَا وَالرَّجَاءْ؟

"إِلَى أَيْنَ؟"، "شبابي المهدور"، عنوانان لقصيدتين للشاعرين حسن عبدالله القرشي، وعبدالسلام هاشم حافظ، العنوان الأول يميل إلى العموم، والآخر إلى الذاتيَّة، وكلاهما مُعبِّر، وموحٍ، ومركَّز، ومُوجَز، ويَنمُّ عن مضمون القصيدة، تَلمسُ الصِّدق في كليهما؛ لأنَّ كلاًّ منهما يَشي بنبرة الحزن المختزنة في أعماقهما.

وقد تكرَّر العنوان الأوَّل عند القرشي ثَمانِيَ مرَّات، وتحديدًا في بداية كل مقطع من مقاطع القصيدة، وعلى الرَّغم من تَكراره إلاَّ أن الشاعر استطاع أن يُحمِّله مضامين مُختلفة، ففي المقطع الأول يتبعه بجملة اسميَّة مؤكدة بالحرف "إنَّ" المضاف إلى ضمير المتكلم، فضلاً عن تاء الفاعل في الفعل "مللت"، وهذا كله تحويل من العموم إلى الذاتيَّة؛ لبيان شِدَّة السأم والضجر لديه، وتَجيء الجملة الاسمية المختزلة "قفارٌ وشوكٌ" المشتملة على حرف المدِّ الألف في الأولى، والواو في الثانية؛ لتُضاعف من عملية الملل عند الشاعر، ويُلاحَظ منذ البداية اعتماد القرشي على أسلوب الحذف في العبارة المركزية: "إلى أين؟"، وكذلك في الجملة الاسمية "قفار"؛ حيث حذف المبتدأ، وأبقى على الخبر؛ ليضعنا مباشرة أمام أسلوبه المميز المعتمد على التكثيف والتركيز، وعدم الحشو الذي لا يناسب لغة الشعر، والمحذوف من قوله: "إلى أين؟" يَجعلنا نشعر بتيه آخر، وتأويلات مُتعددة لهذا المحذوف، وأظن أن الشاعر حذفه لتذهب في تفسيره النفس كل مذهب.

وإذا حاولنا أنْ نقارن بين نسق البيت الثاني، والذي يليه، سنرى أسلوبين مغايرين؛ لكنهما مقصودان، فالبيت الثاني فيه إبرازٌ للخبر، وحذف للمبتدأ، وفي البيت الثالث، نجد العكس: إبرازًا للمبتدأ والخبر معًا، وجملة أخرى معطوفة على الأولى؛ لإبراز شِدَّة تيه الشاعر في هذه القفار والأشواك والسُّهوب والصخور، وأنه ذهب هنا فوجد قفارًا، وذهب هناك فوجد صخورًا، ويظلُّ على حالته من هذا المسير المضني الذي لا أوْبة منْه إلا خائب الرَّجاء، وقد جاء التشبيه في البيْت الأخير من المقْطع الأوَّل ليبرزَ هذا المعنى، ويُجسِّمَه في صورةٍ ساخِرة، فحياته كلها قفار وشوك، وهو يدور حول حياته، فيا له من بائس!
ومن خلال المقطع الأوَّل للقرشي يُمكن أن نقرأ القصيدة، وقد كشفنا عنها النِّقاب، وجرَّدناها من إضافة أيِّ معنى جديد، ويبقى في النَّفس شيء هو أنَّنا نَوَدُّ أن نُكْمِل مع الشاعر القصيدة، وهذا يُحسب لأسلوب الشَّاعر الذي تَمتَّع بالإثارة والتدفُّق الموسيقي المحبَّب للنفس.

ونفس الموضوع عند عبدالسلام هاشم حافظ، الذي جعل عنوانَ قصيدته ذاتيًّا خالصًا: "شبابي المهدور"، واستنادًا إلى تاريخ كتابةِ القصيدة 1371هـ يُمكننا أنْ نعرفَ أنَّه كتبها وهو في الخامسة والعشرين من عمره تقريبًا؛ ولكن المرض والغربة النفسيَّة كانا دافعًا لهذا اليأس والأَلَم وتفشِّي روح الحزن في القصيدة، والعنوان يُحيل بصورة أو بأخرى إلى مُجمل النَّص كليًّا وجزئيًّا، وهو البكاء على الشَّباب الضَّائع، ونلحظ عدم التركيز على السبب بقدر ما ركز على الأثر الناتج عنه.

وتختلف صياغة كلِّ شاعر على حِدَة، فعلى حين كان التَّكرار عند القرشي سمة مميزة، نرى التَّضادَّ والمقابلة عند حافظ سمة بارزة؛ ففي مُعظم الأبيات يقوم التَّضاد بدور رئيس في تشكيل البنية اللُّغوية للنص، في البيت الأوَّل يبدأ الشاعر بقوله: "حييت"، والدلالة المستخلصة من هذا الفعل هي الحياة، بِما تثيره في النَّفس من دوال الحركة والنَّماء، وفي المقابل الموت الذي تجسده ظلُّ الحياة، وغربة المرائي، ورهبة الجِواء، وهكذا يُمكن استنطاق البيت الأول من النص.

وإذا تتبَّعنا هذه الظاهرة في باقي الأبيات، فلن نعدمَ أثرها، في البيت الثاني، مثلاً تنطوي بنية البيت على فعلين: "عاش، قضى"، وهما فعلانِ عكسيَّان، يُمثلان الحياةَ والموت، وما عساه أن يندرجَ تحتهما من دوال، وتستمرُّ هذه الظَّاهرة في باقي الأبيات جميعًا، ففي المقطع الثاني نرى تعبيرًا واضحًا بأنَّ الحياة في مُقابل الممات، فالحياةُ لم يعطِها الشاعر إشاراتٍ كافية؛ استنادًا على الموقف نفسه، بيْنما يُعطي المماتَ كثيرًا من الإشارات والدَّوال المعبرة؛ كالدموع، الغيوب، الهم، الكئيب، دمائي، الدُّجى، الآهات الجون، الغروب، كفْكفة الدمع، دمع الشقاء، أمَّا الحياة فقد اكتفى الشاعر بدوال الأفعال، لا سِيَّما ما دلَّت على الحاضر منها، مثل: تراني، يحلو، أفتش، أمشي، ألقي، أكفكف.

وتتجلى هذه الظَّاهرة بوضوح في المقطع الرابع؛ حيث منح الشاعرُ قصيدتَه لونًا طبيعيًّا، مستمدًّا من الطبيعة وعناصرها، ففي مقابل الربيع يأتي الشتاء، وفي مقابل الفجر، تأتي النهاية وإهدار الحياة، وانشغال الشاعر بالظَّمأ في حين سيلان النبع أمامه، كلُّ هذه المظاهر التي استمدَّها الشاعر من مفردات الطَّبيعة - تتماسُّ بصورة أو بأخرى مع عالَمِه النَّفسي الحزين، فأضفتْ على القصيدة صدقًا فنيًّا، فضلاً عن صِدْقها الواقعي.

وثَمَّة وسيلةٌ فنية أخرى استفاد منها الشاعر عبدالسلام هاشم حافظ، هي أسلوب الاستفهام، حيثُ تردَّد هذا الأسلوبُ عشْرَ مرَّات في القصيدة، وليس لتردُّده بهذا الشَّكل إلاَّ معنى واحد، يكمُن في كونه وسيلة فنيَّة استعان بها الشاعر لمنْح خطابه بُعدًا مُؤثِّرًا في وجْدان المتلقِّي، وهذا البُعدُ ناشئٌ عن القيمة الفنِّيَّة المتولِّدة عن غرض الاستِفْهام النَّابض، بكونِه موجودًا بالفعل بعد أنْ سيطرت عليه فكرة الموت.

ويَستَمِرُّ صراع الإنسان بين الحياة والموْت من البيت الأوَّل حتى البيت الأخير، ونلمس في هذا الصِّراع ميلَ الشاعر إلى الحياة، ورفضَه لفكرة الموت التي طالما عَبَّر عنها، بل تمنَّاها، واستعْجلها في بعض الأحيان، ومع ذلك فقد آثر الحياة، ويظهر هذا في نهاية القصيدة، فهو عندما يقول:

لَئِنْ طَالَ هَذَا العَذَابُ المَرِيرُ فَأَيْنَ النِّهَايَةُ؟ أَيْنَ مَمَاتِي؟
وَإِلاَّ فَأَيْنَ الهَنَا وَالرَّجَاءْ؟

فقد ختم قصيدته بما يدُلُّ على تمنِّيه لحياة الهناء والرجاء، أمَّا فكرة الموت التي طغت على معظم أبيات القصيدة، فهي بمثابة الحلِّ الثاني له.

وبعد، فإنَّ القصيدتين تبتعِدان تمامًا عن الموضوع الأنثوي، وغياب المرأة في القصيدتين يُمثل عاملاً مشتركًا بينهما، كما أنَّ القصيدتين تشترِكان معًا في استِحْضار عناصر الطبيعة، فإذا كان حافظ قد آثر الرَّبيع والخريف، كعُنْصرين من عناصر الطَّبيعة، فإنَّ القُرشي آثر الخريف واللَّيل والصحراء وما فيها من صخور، وسهوب ... والطبيعة عند القرشي تكاد تتشابه عند حافظ؛ لأنَّها أيضًا طبيعة حزينة تغلِّفها أفاعي الخريف، وفحيح الظلام، والشوك، والقفار.

قسَّم كِلا الشاعرين قصيدتَه عِدَّة مقاطع، كلُّ مقطع له قافية، وكل قافية منهما مقيدة (ساكنة)، عند القرشي اختار قافية الراء، الهاء، اللام، الهمزة، الفاء، الدال، الميم.

أمَّا عند حافظ فقد اختار قافية الهمزة، الباء، الميم، الهمزة، الباء، العين المردوفة بالهاء، التاء المشْبَعة بالياء، وكلُّها قوافٍ أدَّت المعنى بشكل رائع، يتناغم مع مُعْطيات المضْمون، وقد اشتركا معًا في اختِيار الوزْن، فالقرشي وحافظ ارْتَضيا البحر المتقارب إيقاعًا يتفاعل مع بقيَّة العناصر الأُخْرى في تناغُم وانسجام مع لُغة مهموسة.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] الأعمال الشعرية الكاملة ج1 ص: 592.
[2] ولد أحمد القنديل بجدة، سنة 1329هـ، تلقَّى تعليمه في مدرسة الفلاح بجدة، ثم عمل أستاذًا بها، سافر إلى مصر عدَّة مرَّات، ثم أقام إقامة كاملة فيها، كتب عن مِصْر ومشاهداته فيها كتابا أطلق عليه "كما رأيتها"، رافق صديقه حمزة شحاتة في معظم رحلاته إلى مصر، ومن مؤلفاته: "ديوان نار" سنة 1967م، "الأبراج" 1951م، "شمعتي تكفي" الطبعة الثانية سنة 1973م، "أصداء" سنة 1951م، "الراعي والمطر"، "اللوحات"، "أوراقي الصفراء"، "قاطع الطريق" (قصة شعرية)، "الأصداف"، "نقر العصافير"، "قريتي الخضراء"، "مكَّتي قبلتي"، "الزهراء" ملحمة إسلامية، "الرمال الذهبية"، "أغاريد"، "مشاعر ومشاعر"، وله مؤلَّفات شعبية عديدة منها: حكايتي، المركاز، ديوان مزاهر ودفوف، التك واليك، جدة عروس البحر، أنا التلفاز، قناديل، توفي سنة 1399هـ.
انظر: أحمد قنديل حياته وشعره، فاطمة سالم عبدالجبار، ص: 53 وما بعدها "بتصرف" عبدالسلام الساسي، الموسوعة الأدبية، ص 245، محمد علي مغربي، أعلام الحجاز، ص: 19.
[3] عبدالسلام طاهر الساسي: شعراء الحجاز في العصر الحديث، مطبوعات نادي الطائف الأدبي، الطبعة الثانية، 1402هـ ص 105 وما بعدها.
[4] الأبيات من 13: 24.
[5] البيت رقم 27 من القصيدة.
[6] جدول إحصائي يبين استخدام كل من الشاعرين للأفعال:
حافظ
القنديل
الأفعال
الأفعال
الماضي
المضارع
الأمر
الماضي
المضارع
الأمر
14
31
3
20
10
-



[7] ولد حسين سِرْحَان بمكَّة المكرمة سنة 1914هـ، التحق بمدرسة الفلاح، وخرج منها قبل أن يتمَّ دراسته، عمل بالصَّحافة السعودية، كما عمل في كثير من الوظائف الحكوميَّة حتى وصل إلى سكرتير بإدارة الماليَّة العامَّة بوزارة المالية، له ديوانان مطبوعان "أجنحة بلا ريش"، صدر سنة 1389هـ، وديوان "الطائر الغريب" سنة 1397هـ، وأكثر شعره مخطوط.
(شعر حسين سرحان دراسة نقدية، أحمد عبدالله صالح، ص: 15 وما بعدها، عبدالسلام طاهر الساسي: شعراء الحجاز في العصر الحديث، مطبوعات نادي الطائف الأدبي، ط2، 1402هـ ص: 34) وانظر كذلك: مجلة " الفيصل " العدد 40 شوال 1400هـ، ص: 152.
[8] ديوان "وحي وقلب وألحان" ص: 109.
[9] صحيفة "صوت الحجاز" بتاريخ 27/11/1355هـ، ص: 3 ، وكذلك كتاب: شعر حسين سرحان دراسة نقدية، أحمد عبدالله صالح، ص: 384.
[10] "أنوار ذهبية"، (ص: 133).
[11] "الروض الملتهب"، أحمد سالم باعطب، النادي الأدبي بالرياض، (1400هـ - 1980م)، كتاب الشهر رقم 17، (ص: 242).
[12] "ديوان حسن عبدالله القرشي"، دار العودة، بيروت، المجلد الأول، الطبعة الثالثة، والقصيدة من ديوان "الأمس الضائع"، (ص: 503)".
[13] ديوان "وحي وقلب وألحان"، (ص: 125).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 113.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 110.79 كيلو بايت... تم توفير 2.39 كيلو بايت...بمعدل (2.11%)]