أسفار العشق المقيم.. أدب إسلامي بنكهة سودانية - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الأمُّ الرحيمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-01-2021, 03:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,858
الدولة : Egypt
افتراضي أسفار العشق المقيم.. أدب إسلامي بنكهة سودانية

أسفار العشق المقيم.. أدب إسلامي بنكهة سودانية


شمس الدين درمش





في قراءة الشعر العربي قلَّما تجد شعراً يحمل طابع البيئة الشعرية الخاصة بالشاعر. فما نقرؤه لشاعر في المغرب لا يختلف عما نقرؤه لشاعر في المشرق، ومع أن هذا الأمر ظاهرة إيجابية تدلُّ على الوحدة اللغوية والثقافية للأمة العربية، فإني كنت أرغب في العثور على شعر يحمل التمايز في إطار الوحدة، والتخالف في إطار التآلف.


وقد تحقَّقت هذه الرغبة لديَّ في ديوان (أسفار العشق المقيم) للشاعر السوداني سليمان عبد التواب الزين. فقرأته مراراً أتملَّى فيه نكهة السودان من خلال تعبيراتٍ تحمل رموزاً دينية واجتماعية ووطنية في ذلك الجزء الحبيب من العالم العربي الإسلامي الموغِل في قلب القارَّة السمراء.


وجاء اختيار العنوان بكلماته الثلاث (أسفار العشق المقيم) موفَّقًا ذا دلالة على المضمون العام للديوان كلِّه، فهو من العناوين القليلة الشاملة في عالم الدواوين التي دأبت على إطلاق عنوان قصيدة ما على الديوان كله.

والعنوان شاعريٌّ، مؤسَّس على بديع تضاد المطابقة، يعطي يقظةً للشعور بالعشق المنجذب لطرفي (الأسفار) و(المقيم)!

بين أسفار الشافعي وأسفار الشاعر:

مهَّد الشاعر لديوانه بالسَّفَر إلى الماضي ليأخذ منه مشروعيةً لديوانه شكلاً ومضموناً، فجعل من قصيدة الشافعي رضي الله عنه مدخلاً، وهي التي يقول فيها:
سافر تَجِدْ عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُه وانْصَب فإنَّ لذيذَ العَيشِ في النَّصَبِ
إنِّي رأيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُه إن ساحَ طابَ، وإن لم يَجرِ لم يَطِبِ
والأُسدُ لولا فِراقُ الأرضِ ما افتَرَسَت والسهمُ لولا فِراقُ القَوسِ لم يُصِبِ
والشمسُ لو وَقَفَت في الفُلكِ دائمةً لملَّها الناسُ من عُجْمٍ ومن عَرَبِ
والتِّبرُ كالتُّربِ مُلقًى في أماكِنِه والعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ منَ الحَطَبِ[1]


وقد تجاوز الشاعرُ البيت الأولَ في ديوان الشافعي وهو:

ما في المقامِ لذي عَقلٍ وذي أَدَبِ مِن راحَةٍ فَدَعِ الأوطانَ واغتَرِبِ


كما ترك البيت الأخير وهو:

فإنْ تَغَرَّبَ هذا عَزَّ مَطلَبُهُ وإنْ تَغَرَّبَ ذاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ


فالشافعي يدعو إلى الحركة والعمل وترك السكون والكسل، لذلك وظَّف كلماته لإثبات صحَّة فكرته، فالماء والأسد والسهم والشمس والتبر والعود كلُّها يظهر فضلُها بالحركة ومفارقة الموطن، ولما كان الكسولُ مشدوداً إلى مَوطنه بالأُلفة، ولا يرغب في مفارقَتِه فإن الشافعيَّ يقول له: (سافِر تَجِد عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُه)، لكن شاعرَنا يختلف مع هذا المعنى تماماً، فإن العِوَض عمن يفارقه يعني موتَ مشروعه بكلِّ أبعاده.

الشافعيُّ يدعو إلى المفارقة الجسميَّة والشعورية، والشاعرُ سليمان عبد التوَّاب يعبِّر عن المفارقة الجسمية المتواصلة شعورياً (أسفار العشق المقيم)، فهو مسافر في خطوط دائرية مرتبطة بمركز الدائرة، مشدودة إليها. ومعنى العشق المقيم عند الشافعي في قصيدة أخرى منسوبة إليه، وهو عشق للعلم لا يفارقه، يقول فيها:

سَهَري لتَنقيحِ العُلومِ ألَذُّ لي مِن وَصلِ غانيةٍ وطِيبِ عِناقِ
وصَريرُ أقلامي على صَفحاتِها أَحلى مِنَ الدَّوكاءِ والعُشَّاقِ
وألَذُّ مِن نَقرِ الفَتاةِ لدُفِّها نَقْري لأُلقي الرَّملَ عَن أَوراقي
وتَمايُلي طَرَباً لحَلِّ عَويصَةٍ في الدَّرسِ أَشْهى مِن مُدامَةِ ساقِ
وأَبيتُ سَهرانَ الدُّجى وتَبيتُه نَوماً وتَبْغي بعدَ ذاكَ لَحاقي؟![2]


وبذلك تتحَّقق المقاربة بين الشافعي والشاعر سليمان عبد التواب الزين، والذي كان عليه أن يُثبت القصيدة الثانية للشافعي إلى جانب الأولى.


إلى مَن يسافر الشاعر سليمان عبد التواب؟

أضاء لنا الشاعر بمقدمته النثرية جزءاً مهماً من تكوين الديوان عندما صرح بوجهات أسفاره فقال:
- إلى التي أتاحت لنا الأفقَ الآخر من الالتزام، فعبرت بنا من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن ضمور (الأنا) إلى باحة الوطن الفسيح.
- إلى التي جسَّدت الرمز والمعنى (عازة) السودان، وعازتي.
- إلى شقيقة الروح.. صديقة الدرب.. زوجتي.
- إلى كل الذين شاركوا في تفاصيل ملامحي، وتشكيل حياتي، واستنهاض مشاعري..
فهذه الأسفار إذن كانت إلى العقيدة، والوطن، وثورة الإنقاذ، وإلى الزوجة والأهل والأصدقاء. ولذلك كان الشاعر مسافراً بعشقه المقيم، لا يبحث عن عوض، ولو أعطي لم يقبل.

السفر إلى الوطن:

يقول ابن الرومي:
ولي وَطَنٌ آلَيتُ ألَّا أَبيعَهُ وأَلَّا أَرى غَيري لهُ الدَّهرَ مالِكاً


هكذا رأى ابن الرومي الوطنَ سلعةً قابلة للبيع والتنازل والتملُّك بينه وبين غيره، وبرغم إعجاب النقَّاد بالقصيدة، فإن هذا المطلعَ على أقل تقدير مطلعٌ غيُر موفَّق، لما فيه من تصوُّر غيرِ صحيح للوطن حتى جعله يُقسِم ألا يبيعَه، والقَسَم يأتي في موضع الشكِّ في القول لدفع التُّهمة المحتملة‍.
فكيف يرى شاعرُنا سليمان عبد التواب الوطن؟

في جنوب الوطن جُرح نازفٌ، يزور الشاعر مدينة (جُوبا)، فيقول:

إني رأيتُك في جُوبَا
فَوقَ التِّلالِ الخُضْرِ
أَنسامَ الرُّبا
الغابَةُ العَذراءُ يَغلِبُها الحَياءْ
مَطَرٌ يُبَلِّلُ شَعرَها
عِطرٌ يُطَوِّقُ خَصرَها
شَمسٌ لِتَمنَحَها النَّضارَةَ والبَهاءْ
فالشاعر يصوِّر الوطن بروح الحياة والحياء (الغابة العذراء يغلبها الحياء) في زمن تتسابق فيه العَذارى إلى خلع أثواب الحياء، والحياء شعبةٌ من الإيمان، فماذا أراد الشاعر أن يقول عن هذا الجزء من الوطن (جُوبا) الذي يُكفكف صغارُه دموعَهم من الجوع والخوف والحزن ؟

يدخل الشاعر بنا إلى عُمق غابات (جُوبا) لنرى معه الصورةَ من الداخل كما رأيناها من الخارج، يقول:

إني رأيتُك في جُوبا
عَبَقًا منَ الغاباتِ
يَرفُلُ في الفَضاءْ
شَمساً تَزوَّجَتِ الضِّياءْ
وأَنجَبَتْ في التَّوِّ
خَطَّ الاستِواءْ
جاؤُوكِ من كلِّ الدِّياناتِ القَديمَة
بالطُّقُوسْ
وسَقَوكِ من خَمرٍمُعَتَّقَةِ الكُؤُوسْ
وفَقَدتِ رُشْدَكِ
حينَ دَقُّوا الطَّبلَ
واهْتَزَّ الحُبُورْ
وتَمايَلَ الأَبَنُوسْ
ساعَةً للرَّقْص
وأُخْرى للكُجُورْ
فالشاعر صوَّر (جُوبا) من الخارج وطناً يلبَس ثوب الحياء الذي هو شعبة من الإيمان، وإذا كان الحياء يزين الإنسان أياً كان، فإنه من أخصِّ صفات المرأة، وهو بالمرأة المسلمة أخلق، وبذلك أضفى الشاعر على هذا الجزء المتنازَع عليه من الوطن ثوباً إيمانياً خالصاً إذا عرفنا أن النساء غير المسلمات في الجنوب لا يأبهن بهذا الموضوع بحُكم تعاليم الديانات غير الإسلامية المنتشرة فيها، والتي أشار إليها الشاعر (الديانات القديمة، وسقوك من خمر، وفقدت رشدك..).

وينتقل الشاعر إلى وصف مأساة الحرب في الجنوب التي لا تفرِّق بين (ملوال) و(دينق) و (أحمد) فيقول واصفاً تمايل (الأبنوس) في غابات (جُوبا):

لتُغنِّي بِالحِكاياتِ الحَزينَةْ
بشَجِيِّ الصَّوتِ يَغلِبُه البُكاءْ:
ماتَ (مَلْوالُ)
وقد كانَ صَبيّاً
كوُرودِ الغابةِ العَذْراءْ
قد تغَشَّتنا رُؤاكِ
بالخِياراتِ العَصِيَّة
يا ابنَ (دِينق)
ماتَ (مَلْوالُ) و(أحمدُ) والبَقيَّة
هِيَ في طَريقِ المَذبَح
المَمْهورِ بالدَّمِ والقَضيَّة
فالشاعرُ هنا لا يفرِّق بين انتماء وانتماء في المعاناة الإنسانية، لأن الإسلام جاء للإنسان، لذلك يقدِّم للجميع حلاًّ واحداً هو الشرب من كأس الأنبياء الذين حملوا رسالةَ السماء إلى الأرض:
ماذا عَلَينا
لو تَجَرَّعْنا بِكأسِ الأَنبياءْ
حِكمَةَ التَّوحِيدِ
مُرَّ الصَّبرِ
أَخبارَ السَّماءْ
لنُغَنِّي للخِياراتِ الذكيَّةْ
حَبَّةُ القَمحِ سِلاحاً
فَوقَ وَجهِ البُندُقِيَّةْ
وبذلك تتحقَّق وَحدَة الوطن في إطار (حكمة التوحيد):
قد تَبارَت
في التَّباريحِ المآقي
وتَنادَت..
نحنُ رُوحانِ حَلَلنا بَدَنا
ويوظِّف الشاعرُ الثقافة الشعبية السودانية بتضمينه شطرَ بيت كان السودانيون يتغنَّونَ بقصيده للتعبير عن وَحدتهم، ويتلقَّاه أبناؤهم في المدارس صِغاراً وتكملته: (منقو) قُل لا عاشَ مَن يَفصِلُنا...

أسفار من خارج السودان:

كتب الشاعر سبعَ قصائد من قصائد ديوانه الأربعَ عشرةَ في أمريكا، وكتب قصيدة في القاهرة، وكتب سائر قصائده في السودان -حسب إشاراته في نهايات القصائد- مما يساعدنا في الدخول في جوِّ الديوان والعوامل المحيطة بأسفاره، وأبعادها.

والاغتراب يُعطي إحساساً أكثر لصوقاً بالوطن، سواء في ذلك غُربة الرُّوح، وغربة البدَن، غير أن بيئةَ الغربة لها أثرٌ إضافي في المشاعر، فغربة المسلم في بلاد غير إسلامية قد يكون أشدَّ إيلاماً، وغُربة الإنسان في بيئة لا يعرف لغةَ أهلها كذلك، إذ يجتمع عليه غربةُ البدن وغُربة الروح فيكون قريباً مما عبَّر عنه المتنبي يوماً وهو في شِعْب بوان من بلاد فارس:

مَغاني الشِّعْبِ طِيباً في المغاني بمَنزلَةِ الرَّبيعِ منَ الزَّمانِ
ولكِنَّ الفَتى العَربيَّ فِيها غَريبُ الوَجهِ واليَدِ واللِّسانِ
مَلاعبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها سُلَيمانٌ لسارَ بتَرجُمانِ


فالشاعر في غُربته البعيدة بدَناً وروحاً يستسلم لأسفار الخواطر، راكباً أجنحةَ العشق المقيم الذي لا يُفارقه، فيرتحل إلى أحبابه، باعثاً الطُّمأنينةَ في نفسه ونفوسنا ونفوس من حولَه على مستقبل الوطن الذي ما زال يؤرِّقه أنى ذهب، فيقول في قصيدة (أسفار الخاطر) وهو في أمريكا:
يا مُستَغرِقُ.. يا مَجْنونْ
كَفاكَ شُروداً في المظنونْ
قد كنتُ لتَوِّي في الخُرطُومْ
الأَهلُ تعَشَّوا بالمَقْسُومْ
شَرِبُوا ماءَ النيلِ الصَّافي
وحَمِدوا...
مِلءَ النَّفْسِ قَناعَهْ
فالشاعر هنا يتحدَّث بأسلوبٍ عفويٍّ أقرب إلى اللغة العادية، يحاول طرد َالهواجس والمخاوف التي تُطارد الإنسان السودانيَّ في غُربته الداخلية والخارجية معاً حول مستقبل الوطن.

وينقل صورةَ أُسرة من الخرطوم هي أسرتُه التي تمثِّل كلَّ أسرة سودانية في بساطتها وإيمانها ورضاها بما قَسَمَ الله سبحانه لها.

والشاعر يوازنُ بين ما في الوطن وما في خارجه، فيعترف بالمفارقة.. ففي أمريكا رزقٌ أكثر، ولكنَّ فيها سوءَ خلق أكثر أيضاً، فما الحل ؟
الحلُّ عند عبد التواب والد الشاعر الذي يمثِّل الإنسان السوداني المؤمن المليء بالقناعة والرِّضا، يقول الشاعر:
أَلفَيتُ الوالِدَ عبدَ التوَّابْ
قَد صَلَّى العَتْمَةَ ثمَّ إليهِ أَنابْ
طَرَحَ (السِّبحَة) في (التَّقْروبَة)
رفَعَ يدَيهِ وطَلَبَ التَّوبَهْ
يا ربُّ ببابِكَ أَطرُقْ
لا أبوابَ الناسْ
و(التقروبةُ) سَجَّادة الصلاة عند السودانيين، و(السِّبحة) من لوازم الإنسان المرتبط بالصلاة والأذكار في المجتمع السوداني، وصورةُ السبحة الملقاة فوق التقروبة بعد أداء صلاة العتمة (العشاء) فيه دلالةُ الاستعداد لصلاة الليل وصلاة الفجر، فمستلزمات العبادة جاهزة، وكأن المصليَ لم ينفكَّ من صلاته.
وإذا أضفنا إلى ذلك وقوفَ عبد التواب بباب الله طارقاً، لا بأبواب الناس، عرفنا كيف يرسُم الشاعر طريقَ الخلاص للإنسان السوداني من أزماته.

وينقلُنا الشاعر إلى صفحة المرأة السودانية من خلال حديثه عن والدته التي يُسمِّيها باسمها (زَنُّوبَة) ليُعطينا شعوراً بالواقعية اللصيقة بالمجتمع السوداني، فالاسمُ كما هو واضحٌ محرَّف في نُطقه من (زينب) فيقول:

(زَنُّوبَةُ) بنتُ الشَّيخِ حَكيمْ
ياقوتَةٌ بتاجِ العِزِّ تُقيمْ
أَشواقي إليكِ بلا تَحجِيمْ
يا حَبلَ الصَّبرِ نهايتَهُ
يا نَبعَ الحبِّ وطِيبتَهُ
يا زَرعَ القُوتِ وطِينَتَهُ
ونحسُّ بارتفاع حرارة أشواق الشاعر في نداءاته لأمِّه بأنها نهايةٌ للصبر، ويَنبوعٌ للحب، وطينةٌ للقُوت. وهذه الثلاث هي الذَّخيرة التي يحتاج إليها الشعبُ السودانيُّ في مسيرته للخُروج من أزمته: الصبر، والحب، والقوت.

الشوقُ الذي يعيشه الشاعر (بلا تحجيم) يدفعُه إلى عالم اللاشعور ليحقِّق فيه التواصلَ المباشر مع الأسرة الكريمة، فينقلنا إلى عالم الحلُم، قائلاً:

بالأَمسِ رَأيتُكِ عندَ النَّومِ غِطاءْ
جَليدُ البَردِ يُحاصِرُني
وذِئابُ الغابِ تُقاتِلُني
ووَحْشَةُ دَربي تُقْلِقُني
نادَيتِ بإِصْبَعِكِ الحُكَماءْ
أَسقُوهُ رَحيقَ الوَطَنِ شِفاءْ
رائِحَةَ الطِّينِ
وعَبَقَ النَّد
وفَوحَ الحِنَّاءْ
أَحسَستُ سَكينةَ مَن وَصَلوا بعدَ الإِعْياءْ
وجَلَستُ بمجلِسِكُم
" يَس " الذِّكرْ
آياتُ الفِكرْ
خُطُواتُ العِطرْ
تُرقي المِسكينَ وتَحفَظُهُ
ببِلادِ العُهْر
ونجد في كلمات الرؤيا ارتفاعَ وتيرة الشعرية مع ارتفاع حرارة الشَّوق في التعبير عن حال الشاعر في غُربته البعيدة في بلاد (العُهر)، فهل كانت رؤياه حُلماً حقيقياً كما فسَّر (يوسف) عليه السلام رُؤيا الملك، أم أنها أضغاثُ أحلام كما قال (الملأ) من حاشيةِ الملك ؟

وعندما نقرأ وصفَهُ الأمَّ (زَنُّوبَة) بنت حَكيم التي تُنادي (بإصبعها الحكماء) فيكون رُقية المريض قراءة سورة " يس " في المجلس، و التكملة (والقرآن الحكيم)، فنكتشف من ذلك دلالات الكلمات في رُؤيا الشاعر، فزَنُّوبَة الأمُّ هي الوطن، والحكماء هم العلماء، والشاعر هو الإنسان السوداني، وشفاؤه من مرضه وحصنُه الحصين أن يدخلَ في الذكر والفكر من بوابة (القرآن الحكيم).


وفي مقطعٍ ثالث يواصل الشاعرُ السفرَ بشوقه المقيم إلى أخيه الأصغر (الزين) الذي يمثِّل الشبابَ السوداني، ولكن السفرَ يأتي هذه المرة على سطور رسالة تصله من أخيه (الزين)، فيقرأ في السطر الأول:

أطراك
لا يَنقُصُنا سِوى رُؤياك
وفي السطر الثاني يبثُّ الطمأنينةَ في نفس الشاعر القلقَة بخبر دعاءِ والدَيه له كلَّ صباح:
بُشْراكْ
عَفوُ الأَبَوَينِ يُدَثِّرُك
في كُلِّ صَباحٍ يَغْشاكْ
ويختزل الشاعرُ قراءة السطر الثالث مُجمِلاً أخبارَ البيت والحيِّ الذي يَدعون له بلعلَّ وعَسى.

أما السطرُ الرابع ففيه:

جاءَ الفَرَجُ لأَهْلِ الحلَّةِ والبابُورْ
ما عادَ اللَّيلُ للطَّابونَةِ والطَّابُورْ
الآنَ...
الخُبزُ يُوزَّعُ بالدُّكَّانْ
والقَمحُ نِتاجُ العَرَقِ السُّوداني
في الطَّعْمِ تَجِدهُ كَما السُّكَّرْ
في اللَّونِ تَجِدهُ – نَعَم – أَسمَرْ
وشَذاهُ كما فَوحِ العَنْبَرْ
المُعْدِمُ والمَيْسُورُ كَما الميزانْ
العَدلُ بدايةُ مَولِدِنا
تَبّاً لليأَسِ وللأَحْزانْ
وهذا الذي يقرؤه الشاعر في السطر الرابع من رسالة أخيه (الزين) ينقلُنا إلى معاناة الإنسان السوداني في الوطن وفي الغربة، إنه همٌّ واحد، همُّ السلام والطعام، وهنا يأتي الفَرَج بإنتاج القَمح الأسمر بالعَرَق السوداني، ويؤكِّد الشاعر كلمةَ (أسمر) كنايةً عن الاستِغناء عن القمح الأمريكي (الأبيض) الذي يشكِّل عاملَ ضغط وتهديد دائمٍ للسودان.

ويؤكِّد هذا المعنى بقوله في السطر الخامس من الرسالة:

أَخبرَنا السَّاعي بالأَنْباءْ
أن (دُعاةَ الحَرب)
بَقايا داحِسَ والغَبْراءْ
قَد مَنَعوا عنَّا
قَمحَ الإِغْواءْ
حَسَناً فَعَلُوا
فالقَمحُ هُنا مَخبُوءٌ في العَزْم البِكْر
واللهُ يَجودُ بِرَيعِ الخِصْبِ والأَمطارْ
فالشاعر يضع يدَه على الحلِّ الحقيقي (فالقمح هنا مخبوء في العزم البكر).
وبذلك يتحقق مطلب السلام في الاكتفاء وإقامة العدل (المعدم والميسور كما الميزان).

وتحتشد في القصيدة الكلماتُ ذات الصِّبغة السودانية مثل: (أطراك، ويدثرك، ويغشاك، والحلة والبابور - مطحنة الذُّرَة والحبوب، والطابونة - والطابور- الوقوف صفوفاً للحُصول على الخبز صباحاً، وتظهر المعاني الإسلامية غيرُ المتكلَّفة في التركيز على دعاء الوالدَين بعفوهما، ودعاء أهل الحيِّ بلعل وعسى المفيدتَين للرَّجاء، والاعتراف بنعمة الله سبحانه الذي (يجود بالرَّيع والأمطار) إذ يمنعُ دعاةَ الحرب (قمح الإغواء).


السفر إلى رَيَّان والسلوة:

في قصيدة (زهرة القَرَنفُل) ندخلُ مع الشاعر في دائرةٍ أضيق في (أسفار العِشق المقيم) فنسمع أنيناً من الشوق العارم وسط ضَجيج الغُربة الصاخب، إذ يتوجَّه الشاعرُ إلى ابنته (ريان) الصغيرة فيقول:
(رَيَّانُ) يا بَعْضِي أَنا
(رَيَّانُ) يا ضَوءَ السَّنا
(رَيَّانُ) يا زَهرَةَ القَرَنفُل
فَوحُه يَشْفي النُّفوسْ
الآنَ جِئتُكِ تائِقاً
هل مِن رَحيقِكِ مِن كُؤوسْ ؟

ويُدخل الشاعرُ في السياق نصفَه الآخر، فيخاطب زوجتَه متوسلاً إليها أن تقنع (ريان) أن هذه المعاناة من أجلها:

يا سَلْوَتي قُولي لها
باللهِ ربِّي ورَبِّها
إنَّ الفِراقَ لأَجْلِها
إنَّ العذابَ لأَجْلِها
إنِّي أُجَمِّرُ حُبَّها
في نارِ فُرقَتِها هُنا
وكلمات (العذاب، وأجمِّر حبَّها، ونار فرقتنا) تعبِّر عن معاناة حقيقية يعيشُها الشاعر بصورته الحقيقيَّة في الاغتراب عن (سلوته) و(ابنته), وبصورته الرمزية التي لا تُفارق دلالات ألفاظه الشعرية في التعبير عن الوطن السوداني، الذي يظهر في نهاية القصيدة في بُعْدٍ إيماني واضح بقوله:
الله تَعلَمُ ما بِنَفْسي مِن تَبارِيحَ سِخانْ
يا ربِّ إنِّي أَصْطَفيكَ بدَعوَتي
ولكَ الزَّمانْ
فَأْمُر زمانَ الهمِّ أن يَمضي
وعَجِّلْ فَرحَةَ الأيَّامْ

الدوران في تيه السين:

الهمُّ السوداني يسكن قلبَ الشاعر لا يفارقه، ويملأ عليه تفكيره، وفي شاعرية شَفيفة يرسُم لنا صوراً جميلة، فيقول في قصيدة (أفكر فيك):
أُفكِّرُ فيكِ بعَقلٍ شَفيفٍ
تَكوني مُناخاً لكُلِّ الظُّروفِ
فأنتِ السَّحابُ لِذاكَ الخريفِ.

ويُعيد هذا المطلعَ في مقطع آخرَ قائلاً:

أُفكِّرُ فيكِ بعَقلٍ نَبيلٍ
يَراكِ الضِّياءَ لذاكَ الأَصِيلِ
تَسامَى.. تَسامَى بِخَطوٍ رَقيقِ
فكانَ وِشاحاً بِلَونِ العَقيقِ

ويقول في مقطع ثالث:

أُفكِّرُ فيكِ بعَقلٍ مُعذَّبْ
تَشاقَى زَماناً بوَجْدٍ مُؤَدَّبْ
تَدَفَّقَ حُبّاً بتِلكَ الدِّيارْ
يُغالبُ يَأساً بَناهُ الحِصارْ
ويأتي هذا الحصار من الداخل قبل الخارج، والذي يتمثَّل في:
فذلِكَ نهرٌ بجِسمٍ كَسِيحْ
حُطامُ حُقولٍ بحَجْمٍ فَسِيحْ
بَقايا جُهودٍ بجِسمٍ جَريحْ
تُحيطُ القُصورَ بِذاكَ الخَرابْ
ضَبابٌ كَثيفٌ ووَهمُ السَّرابْ

وأشدُّ من ذلك كلِّه حالةُ الشعب التي أَعيَت من يُداويها:

وذلكَ شَعبٌ قَصيرُ النَّظَرْ
كطِفلٍ يَرومُ شُعاعَ القَمَرْ
فَيأتي الشُّعاعُ بذَيلِ المَطَرْ
فيَهرُبُ خَوفاً يَرومُ الحَذَرْ

ويصل بنا الشاعر إلى الدوران في التيه فيقول:

أقولُ وعَقلي شَقِيٌّ مُعذَّبْ
أُمِرنا جَميعاً بسَعيٍ مُؤَكَّدْ
تَرُدُّ الشِّفاهُ بصَوتٍ مُوَحَّدْ:
سَنَفعَلْ
سَنَسعَى
سَنَعمَلْ
وتَمضِي السُّنونْ
وسينُ سنَفعَلُ فَوقَ الشِّفاهْ !
وأمام هذا التيه يغضبُ الشاعر فيقول :
أُفكِّرُ فيكِ نَشيداً يَثورْ
يُحرِّكُ شَعباً طَوَتهُ الدُّهورْ
فيَغْدو مُهاباً قَويّاً جَسورْ

وعلى أمل أن يستيقظَ الشعب من تيهِ (السِّين) يعود الشاعرُ إلى نفسه ليجدَها بعيداً بعيداً فيقول:

أُفكِّرُ فيكِ بعَقلٍ مُهاجِرْ
يُقيمُ بجِسمٍ ووَجْدٍ مُسافِرْ
أُحلِّقُ حُبّاً بأرضِ بِلادي
وأَسعَى خُشوعاً بأرضِ ووادِ
تَعَلَّقَ نَجماً بَعيداً فُؤادي
وصِرتُ مَداراً لعِشقي وذَاتي
أُفكِّرُ فيكِ لأنكِ أنتِ
بلادي وهَمِّي وكلَّ صِفاتي

التجوالُ مع الشاعر سليمان عبد التواب الزين في (أسفار العشق المقيم) سيطولُ بنا إذا لم نستأذنه بالتوقف خشيةَ الإطالة على القرَّاء وإملالهم.

فهذا الديوان يشكِّل وَحدة في رحلة السفر في عالم العشق المقيم في أعماق الشاعر إلى عقيدته، ووطنه، وأهله الذين يرى فيهم مواطنيه، وهو إذ يرسُم مسيرة شعبه المتعثِّرة فإنه يرى طريقَ الخلاص واضحاً في الرجوع إلى الله سبحانه بما أنزل من (القرآن الحكيم).

وفي كلِّ ذلك نجد في الديوان صياغات شعريةً بفنيَّة عالية، غلب عليها شعرُ التفعيلة، ولم يَخلُ من الشعر الموزون المقفَّى الذي رسم من خلاله لوحات شعريةً جميلة أيضاً كقوله في قصيدة (تقدير اللقاء قدر):

فَلَكَمْ تأَجَّجَتِ الصَّبابَةُ قُربَكُم ولَكَمْ يُحَرِّقُني الحَنينُ وذا السَّفَرْ
ولأَنتِ خَفقُ القَلبِ أوَّلَ مرَّةٍ ولأَنتِ دَفقُ القَلبِ ما بَقِيَ العُمُرْ
ومَحَبَّتي فيكِ التِقاءُ عَقيدَةٍ قُرآنُها يا خَيرَ ما عَرَفَ البَشَرْ
وقَسيمَتي سُبُلُ الحياةِ كأنَّها في نِصفِها بَدرُ التَّمامِ أو القَمَرْ
فالفَضلُ مَوصولٌ على إِيثارِها والطَّلُّ مِن فَيضِ الكرامِ مَطَرْ


وبهذا أؤكِّد أن هذا الديوانَ أدبٌ إسلامي جميل بنكهةٍ سودانية خاصة، مع أنه الديوانُ الأول للشاعر.
ــــــــــــــــــــــ
[1] ديوان الشافعي، جمع وتعليق محمد عفيف الزعبي، ص 26-27، دار المطبوعات الحديثة، جُدَّة، ط 4، 1405هـ / 1985م.
[2] ديوان الشافعي، السابق، ص 62-63. وهذه القصيدة لا تثبُت للإمام الشافعي، وقد أُثبِتت في مُلحق ديوان الشافعي جمع وتحقيق ودراسة د. مجاهد مصطفى بهجت، الصادر عن دار القلم بدمشق، ط1، 1420هـ = 1999م، في قسم ما انفردَ بنسبته إلى الشافعي صاحبُ (الجوهر النفيس في أشعار الإمام محمد بن إدريس)، وهو محمد مصطفى، مطبعة النيل بمصر سنة 1903م.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 89.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 87.70 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.11%)]