المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النحو وأصوله
التسجيل التعليمـــات التقويم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 31-10-2022, 09:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

المصدر المؤول


بحث في التركيب والدلالة (1)

د. طه محمد الجندي

حمدًا لله كما يَليق بكمالِه، وصلاةً وسلامًا على محمَّد وآله.

وبعدُ:

فرأيي أنَّ أيَّة دراسة جادَّة ينبغي أن تعتمدَ في تفسيرها للمتغيرات اللغوية على ظواهرَ لغويَّة محضة؛ ولذا يجب على الباحِث أن ينطلقَ مِن المعطيات اللُّغوية التي تُقدِّمها له مفردات اللغة؛ لاقتناعه بأنَّ لكلِّ عنصرٍ لُغويٍّ معنًى دَلاليًّا خاصًّا به، وعليه أن يُجهدَ نفسَه لإبراز هذا المعنى، وربْطه بشكله التعبيري الخاصِّ به.وإذا لاحَظ الباحثُ أنَّ اللغة قد اصطنعتْ - للتعبير عن الباب الواحِد - صِيغًا متعدِّدة، فإنَّ عليه أن يَقتنع بأنَّ لكلِّ صيغة من تلك الصِّيغ معنًى يُراد منها، وهدفًا دَلاليًّا مقصودًا فيها، وسرًّا وراءها، ومطلبًا تسعَى إليه، هذا المعنى وذاك السرُّ مرتبطٌ بشكلِ الصيغة نفسها دون سواها، مع الإقرار سلفًا بوجودِ نوع مِن القربى بيْن الصِّيَغ المشترَكة في أداء المعنى الواحد.إنَّ الإقرارَ بوجود هذه القُربى بيْن الصيغ المشتركة لاحظَه النحاةُ العرب القُدامى، وهو الاتجاه نفسُه الذي تُنادِي به النظرية التوليديَّة والتحويليَّة Transformational Generative Theory مِن أنَّ الإحساسَ بوجود صِلة بين هذه الجملة وتلك هو حدسٌ يجب تقعيدُه، وقد قادَهم ذلك - كما نعلم - إلى الحاجةِ إلى مفهومِ التحويل الذي يقرُّ بإمكان تحويل جملة - أو أكثر - مِن جملةٍ أخرى، وهو ما يُسمِّيه النحاةُ العرب بالعدولِ عن الأصل، وهذا المصطلح بخاصَّة كانتْ له مكانةٌ ملحوظة عندَهم، وهو بلا شكٍّ يتوافق مع القواعد التحويليَّة في النظرية التوليديَّة والتحويليَّة؛ إذ تنظر تلك النظرية إلى اللُّغة على أنَّها مكوَّنة مِن نوعين مِن الجُمل:
النوع الأول:


ما يُسمَّى بالجملة النَّواة، وهذه تَعمل على إيجادِها مجموعةٌ مِن القواعد التوليديَّة.


النوع الثاني
:


الجُمل المحوَّلة التي تَعمل على إيجادِها قواعدُ المكوِّن التحويلي التي تعمَل على شكلِ الجُملة النواة؛ إمَّا بالزيادة عليها، أو بحذْفِ بعضِ عناصرها، أو بتغيير ترتيبها، ولا يتمُّ ذلك كلُّه إلا لهدفٍ دلاليٍّ يكون مِن وراء هذا التحويل.
وفي هذا الصَّدَد لا يَنبغي أن نتناسى ما أقرَّه نحويُّونا القُدامى مِن أنَّ خروج التركيب عن معهودِ لفظه مصاحبٌ لخروج المعنى عن معهودِ حاله، ومِن هذا المنطَلق شرعتُ أعمل في هذا البحث: "المصدر المؤول: بحث في الوصف التركيبي والأسرار الدَّلالية"

.
ويأخذ عملي في هذا البحث منحيين:

الأول
:


عرْض للحروف المصدريَّة، ووصْف تراكيبها؛ وذلك لاقتناعي المطلَق بأنَّ أكبر خِدمة يؤديها الدارسون للغة هي أن يُحلِّلوها إلى أقسامها؛ حتى تتَّضحَ مكوناتُها، فيَسهُل فَهمُها واستعمالُها.


الثاني:


كيفيةُ التحويل إلى المصادِر المؤوَّلة، وبيان العِلَّة أو الغاية مِن وراء التعبير بهذا النوعِ مِن المصادر، دون المصادِر الصريحة التي تتَّصف ببساطتِها لدَلالتها على جانب الحدَث وحْدَه، وفي هذا الصَّدد حاولتُ إبرازَ الجوانب الدلاليَّة، دون الاقتصار على وصفِ تراكيبها وصفًا آليًّا جامدًا، بل حاولتُ - إلى جانبِ وصْف الظاهِر - سَبْرَ الباطِن؛ لكشْفِ العَلاقة بيْن التراكيب في ظاهرِها، والجوانب الدلاليَّة القابِعة مِن وراء هذا الظاهِر؛ لاقتناعي التامِّ بأنَّ عزْل المعنى عنِ النحو إساءةٌ له بالِغة؛ إذ يُصبح في تلك الحالة جسمًا بلا رُوح.
وقدِ اهتديتُ في بحثي هذا برافدين:أحدهما قديم، وهو منهجُ الإمام عبدالقاهر في نظريته للنَّظْم التي أفاضَ فيها في ربطِ المعاني النحْويَّة بمدلولات التراكيب اللُّغوية، والفروق بينهما "ذلك أنَّنا لا نعلم شيئًا يَبتغيه الناظمُ بنظْمه، غير أنْ ينظرَ في وجوه كلِّ باب وفُروقه"

[1]
.


والرافد الثاني:
رافدٌ حديث تمثَّل فيما أفدتُه مِن قراءات لي متواضعة فيما كُتِب عن النظريةِ التوليديَّة والتحويليَّة التي جَعلتْ مِن صميم أهدافها "القُدْرة على تقديمِ التفسير الكافي لكلِّ البِنى التركيبيَّة المنتجة فعلاً، وَفقًا للنِّظامِ القواعديِّ للُّغة"
[2]
.
كما قرَّرت أنَّ مِن أخصِّ وظائف الدِّراسة اللِّسانيَّة، رصْد التلازُم القائم بين المبنَى والمعنى، وفي هذا الصَّدد ميَّزتْ هذه النظرية بيْن مستويين لوصفِ البِنَى التركيبيَّة لأيَّة لُغة طبيعيَّة: "أحدهما مستوى البِنية السطحيَّة الظاهِرة التي تتمثَّل في التتابُع الكلامي الملفوظ أثناءَ الأداء الفِعلي المُنجز، والآخَر: مستوى البِنية العميقة، وهي البِنية الذِّهنيَّة المجرَّدة التي أوجَدتْ ذلك التتابعَ الكلاميَّ الملحوظَ في البنية السطحيَّة"

[3]
، وقد حاولتُ في هذا البحث المزجَ بين مُعطيات تلك النظريَّة، وعطاء عُلمائِنا القُدامى، فما زلتُ أرى أنَّ أيَّ عمل جادٍّ لا يَستقيم له أمرٌ، إلاَّ إذا انبَنى على هذين الرافدين.
الوصف التركيبي للمصادر المؤوَّلة في العربية:

وعرْضُنا للوصف التركيبي لهذا النَّوعِ مِن المصادر، متَّسقٌ مع ما نراه مِن أنَّ وظيفة الدِّراسةِ اللُّغويَّة هي رصْد السِّمات المميِّزة لكلِّ عنصر لُغوي على حِدَة، وتحديد أنماط ورودِه في بيئته اللُّغوية، ولا شكَّ أنَّ نظرةً عَجْلَى لهذا النوع من المصادر تُرينا أنَّها مركَّبة من عنصرين رئيسيين:

الأول:

العنصر المصدري:
والعناصر المصدريَّة كما وردتْ في مطوَّلات كتُب النحو هي: (أن) المصدريَّة و(أنّ) المشدَّدة، و(ما)، و(لو)، و(كي)، واللام.

الثاني: مدخول هذا العنصر المصدري:

وطبقًا للعنصر الثاني يُمكننا تفريعُ الحروف المصدريَّة إلى صِنفين:

أ- وهو الغالِبُ في معظمِ هذه الحروفِ مُحدَّد بكونِ مدخولها المعجمي فِعلاً.ب- وتختصُّ بكون مدخولها المعجمي اسمًا، وهذا النوع خاصٌّ بالعنصر المصدري (أن) المفتوحة الهمزة؛ ثقيلةً كانت، أو خفيفةً، و(ما) في بعضِ استعمالاتها القليلة، كتلك التي أشار إليها ابنُ يَعيشَ في قوله: "يُعجبني ما أنت صانِع؛ أي: صنيعُك"

[4].
وإذا ربطْنا تلك السِّمةَ المميزة لهذين العنصرين بعلامة (+) حيث تُشير علامة الإيجاب إلى قَبول العنصر لهذه السِّمة، وعلامة السَّلْب إلى عدَم قبولِه إيَّاها، نجدها كالتالي:= (أنّ) تتَّسم بسِمة (+ اسم).= (ما) تتَّسم بسِمة (+ اسم)، عِلمًا بأنَّ العنصر (أن) يتَّسم بسِمة خِلافيَّة له، هي سِمة (+ مؤثر)؛ إذ إنَّها تؤثِّر في الاسم بعدَها بتحويل حركته إلى العلامة الخاصَّة بالنَّصْبِ، بخلاف (ما) فليستْ له تلك السِّمة في الاسم.أمَّا باقي العناصر المصدريَّة المُتبقية، فكلُّها تتَّسم بسِمة (- اسم)، وهي سِمة تُثبِت نَقيضَها لهذه العناصر؛ إذ تتَّسم بسِمة (+ فعل)، ومِن ثَمَّ فإن (أنْ) المصدرية تتَّسم بسِمة (+ فعل)، ومثلها في ذلك (كي)، واللام، و(لو)، وإذا حاولْنا تفريعَ تلك الحروف المصدرية طبقًا لهذه السِّمة، تبيَّن لنا أنَّ هذه الحروفَ لا تَرِد بالضرورة ظاهرةً قبل الفِعل متَّصلة به، فمنها ما يكون كذلك، ومنها ما يأتي مضمرًا، وهذا الأخير يُمكن تفريعُه مِن حيثُ حُكمُ الإضمار إلى تفريعين: ما يَجِب إضمارُه، وما يجوز إضمارُه

[5]
.
وليس إظهارُ الحرف وإضمارُه هو السِّمة الخلافية الوحيدة التي تَختلف تبعًا لها هذه الحروفُ المصدريَّة، وإنَّما هناك سِمة خلافيَّة أُخرى ترجِع أساسًا إلى تأثير هذه الحروف في الأفْعال التي تتَّصل بها تأثيرًا يترتَّب عليه تحوُّلٌ في العلامات الإعرابيَّة في أواخِر الأفعال، بوصْفها علامة وظيفة منسوبة إلى عُنصر لُغوي ما، ومِن هذه الناحية يُمكِننا تفريعُ تلك الحروف إلى حروفٍ مؤثِّرة في الفِعل بعدَها، وإلى أُخرى غير مؤثِّر فيه.وبربْط هذه السِّمات المميِّزة للعناصِر المصدريَّة المتَّصلة بالفِعل بعلامة (+) نجِدها تتجمَّع في الآتي:= (أنْ) سَمْتها (+ ظاهر)، (+ مؤثِّر) وقد ترِد دون أن تنصبَ الفعل "إمَّا للحمْل على (أنْ) المخفَّفة، أو على (ما) المصدرية"

[6].
= (كي) سمتها (+ ظاهر)، (+ مؤثر).= اللام سَمتها (+ ظاهِر)، (+ مؤثِّر) عندَ مَن يرى أنَّ الفِعل منصوب بـ(أنْ) مضمرة.= (لو) سَمتها (+ ظاهِر)، (- مؤثِّر).= (ما) سَمتها (+ ظاهر)، (- مؤثِّر).كان هذا عَرضًا مجملاً لتلك العناصِر المصدريَّة، وأبدأ بعَرْضها مفصَّلة مُؤثِرًا في ترتيبها المنهجَ الأبجدي، بدلاً مِن ترتيبها حسبَ شيوعها في اللُّغة؛ إذ يحتِّم هذا المنهجُ قيامَ الباحِث باستقراء تامٍّ لظواهرِ المادَّة اللُّغويَّة موضوعِ الإحصاء، وقدْ مَنعني مساحة البَحْث ومحدوديته مِن ذلك والخوف مِن انصراف الوقْت والجهد في الإحْصاء عن الغايةِ التي هدفْتُ إليها مِن البحث، كما لَم أُرِدْ أن أُرتِّبها حسبَ اتِّفاق النُّحاة أو اختلافهم حولَ كونِها حروفًا مصدريَّة؛ لأنِّي رأيتُ أن أَنُصَّ على ذلك عندَ الحديثِ على كلِّ عنصر على حِدَة:

العنصر الأول: (أن) المصدرية:
حديثُنا عن هذا العُنصر يتوزَّع بيْن تحديد السِّمات الدَّلاليَّة المميزة للأفعالِ التي تَسبِقه وهي التي تكون معَه علاقة إسناديَّة يكون فيها الحرْف المصدري مع مَدخولِه شاغلاً لوظيفةِ الفاعِل المحقِّق لهذه الأفعال، أو وظيفة المفعول لها، كما يتناول تلك الأفعالَ التي يتَّصل بها، وتُؤوَّل معه بالمصْدَر.وللحقِّ، فإنَّ مَن يُعرِّج صوبَ الضوابط الجوهريَّة التي وضعَها النُّحاةُ القُدامى لهذا الحرْف المصدري، يتبيَّن أنهم لَم يَألوا جُهدًا في رصْد التراكيب اللُّغويةِ التي يُستعمل فيها، يَستوي في ذلك ما رَصَدوه في وصفِ السِّمات الخاصَّة بالأفعال التي يدخُل عليها، أم تلك التي تَسبِقه؛ أمَّا عنِ السِّمات الخاصَّة بالعُنصر الذي يَدخُل عليه هذا الحرْف المصْدَري، فقدِ اتَّفقوا على أنَّه صالِح للدُّخول على نمطٍ متجانسٍ مِن الكلمات، اصطلح على تسميتِه بالفِعْل، ماضيًا كان، أو مضارعًا، أو أمرًا، غير أنَّهم قيَّدوه في أشكالِه الثلاثة بقيْد التصرُّف، دون ما عَداه مِن السِّمات الأخرى، ويعود ذلك إلى سببٍ بسيط، هو أنَّ هذا النمطَ مِن الأفعال هو القادِر على أنْ يُشكِّل مع الحرفِ المصدري الرُّكنَ الأَسْمى المسمَّى بالمصدر؛ لأنَّه "لا مصدرَ لغير المتصرِّف"

[7]
.
أمَّا العُنصر الذي يدخُل على الأفْعال الجامِدة، فهو عنصرٌ آخَر، مُحوَّل عن (أنّ) المشدَّدة، وهي التي تُضفي على مدخولها معنى دَلاليًّا زائدًا هو التوكيد، وهو ما وُضعتْ أساسًا له، والاسمُ بعدَها عبارة عن ضمير الشأن محذوفًا، والفِعل بعدها يُشكِّل عنصرًا خبريًّا عن هذا المحذوف، وعليه في (أنْ) في مِثل قوله تعالى: ï´؟ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ï´¾ [النجم: 39]، ليستْ ما يَجري الحديث عنها هُنا، فهذه يتَّسم الفِعل الداخِلة عليه بسِمة (+ متصرِّف).ودخول هذا العُنصر المصدري على الفِعل المضارِع هو موضِعٌ أجمَع عليه نُحاتُنا القُدامى، كما أجْمعوا أيضًا على دخولِها على الماضي إلاَّ ابن طاهِر في حِكاية ابن هِشام في المغني

[8]
، مع الإقرارِ بأنَّها مع المضارِع تؤثِّر فيه النَّصب، بخلافِ الماضي الذي لا يَقبل التأثُّرَ لبنائه، أمَّا اتِّصالها بالأمْر فالأرْجَح جوازُ اتِّصالها به مع الإقرار بإمكانيَّة إفادتِها معنًى دَلاليًّا آخَر هو التفسير، وإنْ كانوا قدْ مالوا إلى القول بأنَّها إذا وقعتْ بعدَ فِعل فيه معنى القول دون حروفِه أنْ تكون مُفسِّرة لا ناصِبة، غير أنَّنا وجَدْنا نصًّا للزمخشري نسَب فيه رأيًا لسيبويه، يُجيز جعْلها مصدريَّة مُعلِّلاً ذلك بقوله: "لأنَّ الغَرْض وصلُها بما تكون معه في معنَى المصْدَر، والأمْر والنهي دالاَّنِ على المصدر دلالةَ غيرهما مِن الأفعال"

[9]
.
وقد خالَف الرضيُّ هذا الرأي زاعمًا بأنَّه ينبغي أن يُفيد المصدرُ المؤوَّل مِن (أن) والفِعل ما أفادَه الفِعل تمامًا؛ "والمصدر المؤوَّل به (أن) مع الأمْر ليس فيه طلبُ القيام، بخلافِ قولك: أنْ قُم، ويتبيَّن بذلك أنَّ صِلة (أن) لا تكون أمرًا ولا نهيًا خلافًا لما ذَهَب إليه سيبويه"

[10]
، وفي هذا الصَّدد نُسجِّل مخالفتنا لابنِ هِشام فيما نسبَه لأبي حيَّان مِن أنَّه المخالف لجمهور النُّحاة في وصْل (أن) المصدرية بالأمر، ونقل في ذلك عنه دَليلَين: "أحدهما: أنَّهما - يقصد (أن) والأمْر - إذا قُدِّرَا بالمصدر فات معنى الأمر، والثاني: أنَّهما لَم يقعَا فاعلاً، ولا مفعولاً، لا يصحُّ أعجبني أنْ قُم، ولا كَرِهت أنْ قم"

[11]
.
ومردُّ عدَم موافقتنا لابنِ هِشام مرجعُه إلى ما جاءَ في "البحر المحيط"، فمَن يتتبَّع ما جاءَ فيه، سوف يتبيَّن أنَّ المسألة عنه جائزة، لا مُمتنعة، وفي هذا الصَّدد نَكتفي بنقْل نصٍّ واحد عنه يؤكِّد صحَّة ما ذهبْنا إليه، يذكُر في معرِض تفسيرِه لقوله تعالى: ï´؟ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ï´¾ [يونس: 2]، أنَّ (أنْ) تفسيريَّة، أو مصدريَّة مخفَّفة مِن الثقيلة، ثم يقول: "ويجوز أن تكونَ المصدريَّة الثنائية الوضْع، لا المخفَّفة مِن الثقيلة؛ لأنَّها توصل بالماضي والمضارع والأمْر، فوصلتْ هنا بالأمْر، ويَنسبِك منها معه مصدرٌ، تقديرُه بإنذار الناس، وهذا الوجه أوْلى من التفسيريَّة؛ لأنَّ الكوفيين لا يُثبتون لـ(أن) أن تكون تفسيريَّة

[12]
، وقد أيَّد أن تكون (أنْ) الداخلة على الأمْر مفسِّرة ومصدريَّة في آنٍ واحد السهيليُّ، وتَبِعه ابنُ القيم في ذلك قائلين بأنها "إذا كانتْ تفسيرًا، فإنَّما تفسِّر الكلام، والكلام مصدر، فهي إذًا في تأويل المصدر، إلا أنَّك أوقعتَ بعدها الفِعل بلفظ الأمْر والنهي، وذلك مزيدُ فائدة، ومزيدُ الفائدة لا يخرُج الفعل عن كونه فعلاً؛ ولذلك لا تَخرج (أن) عن كونها مصدريَّة، كما لا يُخرِجها عن ذلك صيغةُ المُضيِّ والاستقبال بعدَها"

[13].
وإذا كانوا قدْ قاسوا الشيءَ على نظيرِه، فقد قاسوه على ضدِّه؛ ولذا يمكن الحُكم بمصدرية (أن) المفسِّرة بتلك التي تدخُل على المضارع المقترن بـ(لا) الناهية، والنهي ضدُّ الأمْر، وذلك في قوله تعالى: ï´؟ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ï´¾ [الأنعام: 151]؛
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 31-10-2022, 09:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

حيث فسَّر الزجَّاج بِنيتَها العميقة بقوله: "أتْلُ عليكم تحريمَ الشِّرْك"[14].وقدْ آثرتُ نقْل هذه النصوصِ هنا، لأُثبتَ مِن طرف أنَّ علماءَنا القُدامى كانوا يَبنون آراءَهم في المسألة النَّحْوية وفقًا للمعطيات اللُّغويَّة الممثِّلة للظاهِرة التي يقومون ببحثِها، كما كانوا يُقيمون منهجَهم على أساس أنَّ اختيارَ العناصر اللُّغويَّة لما جاوَرها لا يَرِد مصادفةً أو اعتباطًا، بل إنَّ كلَّ عنصر منها يأتي في مواقعَ محدَّدةٍ بالنسبة إلى العناصِر الأخرى ضِمنَ السِّياق الذي تَرِد فيه، فهذا الخلافُ بينهم كان مبنيًّا على ورودِ العنصر اللُّغويِّ الذي يلي (أن) المصدريَّة، فالمُنكِرون لجعْله فعلَ أمْر استندوا إلى أنَّ فِعل الأمر لا يُساعِد على التأويل بالمصدر؛ حتى لا يتحوَّل الكلامُ إلى معنًى خبريٍّ مُحتمل للصِّدق والكذب، وهو ما يُنافي معنى الأمْر.والمؤيِّدون لذلك مالوا إلى أنَّه يمكن الإتيانُ بالمصدر مِن الأمْر، وأنَّ التعبير بالأمر إنَّما كان لهدفٍ دَلالي عبَّروا عنه بمزيدِ الفائدة، ومزيد الفائدة لا يَخرُج (أن) عن كونها مصدريَّة.نخلص إذًا إلى أنَّ العنصر اللُّغوي الذي يَلي (أن) المصدرية هو الفِعل المتَّسم بسِمة التصرُّف، ماضيًا كان، أو مضارعًا، أو أمرًا، غير أنَّنا لا نجِد في أقوالهم ضابطًا دلاليًّا لهذه الأفعال، ويبدو أنَّ ذلك راجعٌ إلى صلاحيتها للدخولِ على أفعال متباينة الدَّلالة، متعدِّدة المعاني.ولتوضيحِ ذلك أكثرَ علينا أن نتَّجه صوبَ الضوابط الجوهريَّة التي وضعَها النحاةُ لفئةِ الأفعال التي تَسبق (أن) المصدرية، والتي تُشكِّل معها هي ومدخولها علاقةً إسناديَّة يكون فيها المصدرُ المؤوَّل منهما في موقِع الفاعل المحقِّق للحدَث المفاد مِن العنصر الفِعلي السابق، وفي هذا الصَّدد يُقابلنا هذا الزَّخَمُ المتراكِم مِن أقوالهم، والتي تَفي في مجموعِها بعض التقييدات الدلاليَّة المحددة لنمطِ هذا النَّوع من الأفعال، ففي مجال التفريق بيْن (أنْ) و(أنّ)، ينصُّون على أنَّه لَمَّا كانت (أنّ) للتأكيد والتحقُّق "مجراها في ذلك مجرَى المكسورة، فيَجِب لذلك أن يكونَ الفعل الذي تُبنى عليه مطابقًا لها في المعنى، وأن يكونَ مِن أفعال العِلم واليقين، ونحوهما ممَّا معناه الثُّبوتُ والاستقرار؛ ليطابق مَعْنَيَي العامل والمعمول، ولا يَتناقضا...، ولا يقَع قبلها شيءٌ مِن أفعال الطمَع والإشفاق، نحو اشْتَهيت، وأرَدتُ، وأخاف؛ لأنَّ هذه الأفعال يجوز أن يوجد ما بعدَها، وألاَّ يوجد، فلذلك لا يقع بعدَها إلاَّ (أن) الخفيفة الناصِبة للأفعال؛ لأنَّه لا تأكيد فيها"[15].

ومفاد هذا القول أنَّه لَمَّا كانتْ (أن) لا تُستعمل إلاَّ في سِياق الطَّمَع والرَّجاء في حصول الحدَث الملحَق بها، أو عدَم حصوله، فإنَّ هذا مما يَتنافى مع أفعالِ العِلم أو التحقيق أو اليقين، التي تدلُّ على ثبوتِ الحدَث وتُحقِّقه في الواقِع اللُّغوي، ومِن ثَمَّ يكون العنصرُ اللُّغوي الذي يناسِب هذه الأفعالَ هو (أنّ) المشدَّدة التي تُضفي على هذه الأفعالِ زيادةً دلاليَّة، وهي توكيدُ العِلم واليقين وتحقيقه؛ "فالعلمُ مِن مواضِع التقدير والتحقيق، والطَّمَع والرَّجاء مِن مواضع الشكِّ وغير الثبات، و(أنّ) المشدَّدة تُفيد التوكيد، والمخفَّفة لا تُفيده، وإذا كان الأمرُ كذلك، وجَبَ أن تُقرنَ المشدَّدة بما كان تقريرًا، والمخفَّفة بما كان شكًّا.. ولو قيل: علمتُ أنْ يخرجَ زيد، وأرجو أنَّ زيدًا يخرجُ، لكان قلبًا للعادة، مِن حيثُ يقرن ما هو عَلَم التوكيد بما لا تَقريرَ فيه، وما هو عارٍ مِن التوكيدِ بما هو تقرير"[16].

وتُظهِر هذه الأقوالُ - وغيرُها كثير - أنَّ النحاة لَم يُهمِلوا تمامًا أنْ يَذكروا بعضَ السِّمات الدلاليَّة التي تتراءَى لهم في دَرسِهم لظاهرةٍ ما، تلك السِّمات التي يعدُّها بعضُهم من مُستحدَثات المدارسِ اللِّسانيَّة الحديثة، وبخاصَّة المدرسة التوليديَّة والتحويليَّة، حين فكَّر أتباعُ هذه المدرسة في إدراجِ مفهومِ السِّمة بوصفه معادلاً لقاعدةِ التفريع؛ وذلك لما رَأَوْه مِن قوَّة قواعدِهم على توليدِ جُمل غير مقبولة دَلاليًّا، فقواعد التكوين عندَهم ذاتُ قُدْرة كبيرة على التوليد، حتى إنَّ نموذجًا مثل: فعل + اسم + اسم يمكن أن يُولِّد جملاً غير ملائِمة للمعنَى؛ فعن طريقِه يمكن توليدُ تركيب مثل: أكَل المنـزلُ الطعام، وقد سبَق أنْ أشرتُ - في بحثٍ لي عن صِيَغ الأمْر في العربية - إلى أنَّ نموذجًا مِثل هذا أفْضَى بتشومكي ورِفاقه إلى اقتراحِ نوعٍ آخَرَ مِن القوانين، سَمَّوْه بـ(قواعد التفريع)، وهي القواعدُ التي تُقدِّم لنا العناصر المعجميَّة مصحوبةً بسِماتها السياقيَّة، والذاتيَّة، وقدْ أُوكِلَتْ هذه المهمَّة للبِنية العميقة في الطَّور الثاني مِن النظرية، بدلاً مِن ترْكها في الطورِ الأوَّل إلى التفسير الدَّلالي لرفضِ مِثل هذه الجُمل، ففي الطورِ الثاني أدخلتِ النظريةُ مفهومَ السِّمة بوصفِه معادلاً لقاعدةِ التفريع، ففي مجالِ تحديد الاسمِ مَثلاً لجؤوا إلى السِّمات التالية[17]

: [+ عام]، [+ متحرِّك]، [+ إنسان]، [+ محسوس]، [+ معدود]، [+ معرَّف] [+ مذكَّر] [+ مفرد]، وبالرجوع إلى نموذج: أكَل المنـزلُ الطعامَ، نجِد أنَّ كلمة المنـزل تحتوي على سِمة (- حيوان)، (- متحرِّك)، (- حيّ)، في حين أنَّ الفِعل (أكَل) يَتطلَّب فاعلاً يحتوي على سِمة (+ حيوان)، (+ متحرِّك)، (+ حيّ)، وبالتالي لا يأخذ اسمًا فاعلاً تَنعدِم فيه هذه الصفاتُ، أمَّا في مجالِ تحديد الفِعل، فقد أُولِعوا بتفريعِه تفريعاتٍ متعددةً[18]،

فالفعلُ يدلُّ على واقعةٍ تكون؛ إمَّا عملاً action، أو حدَثًا Process، أو وَضعًا position، أو حالة State، ومِن ثَمَّ بالإمكان اللجوءُ إلى السِّمات التالية: [+ عمل]، [+ حدَث]، [+ حالة]، [+ وضع]، [+ شخْصي]، [+ متعد]، فمثل الأفعال: كتَب - ذاكَر - ضَرَب - قَتَل - جَلَس - قامَ، تتَّسم بسِمة (+ عمل)، فإذا صدَر بعضُها عن شخصٍ وسَمْت بسِمة أخرى هي (+ شخصي)، وهناك نوعٌ مِن الأفعال لا يصدُر عن شخص، مثل الأفعال: يَجِب - يَجوز - يُمكِن - يَحِل - يَحرُم، فهذه تُوسَم بسِمة (- شخْصي)، أمَّا الأفعال: كَرِه - أَبْغَض - سرَّ - ودَّ - خاف، فإنَّها تُوسَم بسِمة (+ حالة)، وهي أفعال تدلُّ في ذاتِها على حالةٍ يمكن أن يتَّصف بها الإنسان، أو غيرُه؛ سواء كانتْ ثابتةً أو زائلةً، وحتى هذا النوع قَسَّموه تبعًا لنوع الحالة؛ لذا يُمكن أن تَنضوي تحتَها التقسيماتُ التالية[19]:


/ حالة / - > بيولوجيَّة، مِثل: عطِش - ظَمِئ - جاع - شَبِع.
/ حالة /- > فسيولوجيَّة، مِثل: عَوِر - حَوِل - طال - قَصُر./ حالة /- > سيكولوجيَّة، مِثل: فَرِح - حَزِن - غَضِب./ حالة / - > فيزيائية مثل: احمرَّ./ حالة / -> طارئة، مِثل: وَسِخ - دَنِس.وباختبارِ هذه المُعطيات اللِّسانيَّة على فِئة الأفعال التي يأتِي فاعلُها مصدرًا مؤولاً مِن (أنْ) والفِعل نتبيَّن أنَّ تِلك الأفعال لا تتَّسم مثلاً بسِمة (+ عمل)؛ إذ لا نقول: يَكتبني أن تُذاكِر في مقابل: يسرُّني أن تُذاكِر، فالجملتان مركَّبتان تركيبًا يتَّسق وقواعدَ اللغة، غير أنَّ الجملةَ الثانية مقبولة دَلاليًّا وقاعديًّا، بخلافِ الأولى فهي جملةٌ مرفوضة، وغير أصوليَّة، وما ذلك إلاَّ لأنَّ الفِعل يكتُب "لا يُنتقَى عادةً فاعلاً مُحوَّلاً عنِ اسم حدَث في سياقِه المألوف، في حين أنَّ الفعل (سرّ) يعدُّ ذلك مِن أخصِّ خصائصه[20].

وما ذلك إلاَّ لأنَّ المصدرَ المؤوَّل في حقيقتِه اسمُ حدَث، والحدَث معنى، والمعاني لا تكون مِن أفعالِ الحرَكة، بل مِن أفعال الحالة.وللحقِّ فإنَّ ثَمَّة باحثًا جادًّا قام بحصْر الضوابط الدلاليَّة للأفعال التي يقَع الفاعلُ المُحقِّق لها مصدرًا مؤوَّلاً مِن (أن) والفعل، وانتهى إلى ما يلي:

1-
تَنتمي هذه الأفعالُ إلى فِئة الأفعال غيرِ الشخصيَّة، وهي تلك التي لا تَصدُر عن شخصٍ؛ مِثل الأفعال: يَجِب - يجوز - يَنبغي - يَحِل – يحرُم، وذكَر أنَّ هذا النوعَ لا يتَّسم بسِمة (+ متعدي)؛ "لأنَّها لا تُقيم علاقةً إسناديَّةً خارجةً عن ذات الشيء، أو الشخْص الذي هي مِن أجله"[21].

ومِن نماذج هذا النوع مِن الأفعال قوله تعالى:ï´؟ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ï´¾ [البقرة: 229].ï´؟ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ï´¾ [يس: 40]. يَجدُر أن تقولَ الصِّدق، ويَجِب أن تتواضَع - ويُمكِن أنْ أُصادِقك.

2- تَنتهي هذه الأفعالُ إلى حقْلِ الأفعال الدالَّة على حالةٍ نفسيَّة انفعاليَّة، كالحُزن والفَرَح، والسُّرور والإعْجاب، والإسعادِ والإغضاب، والرِّضا والإساءة، ومِن نماذجها:قولُ اللهِ تعالى عن يعقوبَ - عليه السلام -: ï´؟ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ï´¾ [يوسف: 13].وقول الشاعر:أَسَرَّكَ أَنْ تَلْقَى بَعِيرَكَ عَافِيًا
وَتُؤْتَى بِبُرْنِيِّ العِرَاقِ المُحَطَّمِ[22]


وقول الآخَر:لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتِنِي بِمَسَاءَةٍ
لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ[23]


فالأفعال: يَحزَن - سرَّ - ساءَ، التي أقامتْ علاقةً تركيبيةً بينها وبيْن المصدر المؤوَّل مِن (أن والفعل)، هي مِن تلك الأفعال ذات الأبْعاد الدلاليَّة المتَّسِمة بسِمة (+ حالة انفعاليَّة).ويَنطبِق هذا المفهومُ على (عسى) الذي يكونُ مع (أن + الفعل) رُكنًا إسناديًّا يكون فيه المصدرُ المؤوَّل متبوِّئًا لموقِع الفاعل المحقِّق لما فيه (عسى) مِن معنى الطَّمَع، وهو مِن المعاني التي تتَّسم بسِمة (+ حالة)، ولعلَّ إكسابَها معنى الطمَع هو ما جَعَلَها صالحةً للدخول على (أن) فيما يذكُره ابنُ الأنباري[24]، وإذا كان الفِعل (عسى) لا يَقبلُ أن يُقيم علاقةً إسناديَّة مع فاعِله إلاَّ إذا كان مَصدرًا مؤوَّلاً من (أن) والفِعل، فإنَّ باقي الأفعال تَقبل الثنائيَّة بطرَفيها؛ فقد يكون فاعلُها صريحًا وقد يكون مُؤوَّلاً، وهنا يكونُ البحثُ والتقصِّي عن الدواعي الدلاليَّة التي كانتْ وراءَ الجنوح إلى المصدرِ المؤوَّل، والعُدول عنِ الصريح، وهو ما سوف نَعرِض له في حينِه مِن هذا البحث.ونأتي الآن إلى الأفعالِ التي يحتلُّ فيها المصدرُ المؤوَّل مِن (أن والفعل) موقعَ المفعول، وبتأمُّلنا لبعضِ التراكيب القرآنيَّة الممثِّلة لتلك الفِئة من الأفعالِ مِن مِثل قوله تعالى:ï´؟ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ï´¾ [الإسراء: 59].ï´؟ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ï´¾ [آل عمران: 188].ï´؟ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ ï´¾ [البقرة: 105].ï´؟ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ ï´¾ [البقرة: 108]. ï´؟ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ï´¾ [المدثر: 37].نتبيَّن أنَّ تلك الأفعالَ ليستْ مِن النمطِ الذي يتَّسم بسِمة (+حركة)، ويُمكِننا أن نُسمِّيها إلى جانبِ سِمة (+ حالة) التي تتَّسم بها أفعالٌ مثل يَوَدّ - يحبُّ، بسمة أخرى وَسَمها بها الرضيُّ، وهي سِمة (+ ترقب)، ومَثَّل لذلك بالأفعال (حَسِبت، وطَمِعت، ورَجَوت، وأرَدت)[25].

ومِن اللافتِ للنَّظرِ أنَّ تلك السماتِ الدلاليَّة التي قدَّمناها للأفعالِ التي تختار المصدرَ المؤوَّل مِن (أن والفعل) فاعلاً لها، أو مفعولاً، سوف تَصدُق بصفةٍ عامَّة على كلِّ التراكيبِ ذات المصادِر المؤوَّلة؛ سواء كان الرُّكن التركيبي فيها (أن مع الفعل)، أو (ما مع الفعل)، أو (لو مَع الفعل).
وما ذلك إلاَّ لأنَّها أفعال معبِّرة عن موقِفٍ أو حالة، والحالةُ لا تكون حركةً أو عملاً، ومِن ثَم يُناسبها أن يكونَ الفاعل المحقِّق لها حَدَثًا، أو معنًى، أو تقَع على حدَثٍ أو معنًى.أمَّا عن الضابطِ الدلاليِّ للمصدرِ المؤوَّل إذا شغَل وظائفَ أخرى - كأن يقَع مبتدأً، أو مجرورًا بحرفٍ أو إضافة - فالحقُّ أنَّ النُّحاةَ لَم يشغلوا أنفسَهم بذلك، ويَبدو مِن حذف الألف أنَّ ذلك راجعٌ إلى أنَّ المصدرَ المؤوَّل نفسَه لا يتقيَّد بقيدٍ مِن تلك الضوابطِ الدلاليَّة، فقد يكون الفعلُ المتصل بـ(أن) فعلَ حالة، أو مُتَّسمًا بسِمة (+ عمل)، أو موقِف...، وهَلُمَّ جرًّا، وإنْ كان قد ورَد عن بعضِهم بعضُ التقييدات التركيبيَّة، كتلك التي ساقَها ابنُ القيِّم مِن أنَّه إذا وقَع المصدرُ المؤوَّل مِن (أن والفعل) مبتدأً، لا يكون خبرُه ظرفًا، ولا جارًّا ومجرورًا، مُعلِّلاً ذلك بأنَّ المجرور لا يتعلَّق بالمعنى الذي يدلُّ عليه (أنْ)، ولا الذي مِن أجْلِه صِيغ الفِعل، واشتقَّ مِن المصدرِ، وإنَّما يتعلَّق المجرورُ بالمصدرِ مُجرَّدًا مِن هذا المعنى - كما تقدَّم - فلا يكون خبرًا عنْ (أن) المتقدِّمة، وإنْ كانتْ في تأويل اسمٍ[26].

ولا أتَّفِق مع هذا القولِ؛
إذ إنَّه يمكن الإخبارُ بالجارِّ والمجرور عن المصدرِ المؤوَّل مِن (أن والفعل) شريطةَ تقدُّم الخبر؛ إذ تقول مثلاً: مِن دلائل التفوق أنْ نجحْت في الاختبار، أو أنْ تَنجح، ومِن ذلك قولُه تعالى: ï´؟ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ï´¾ [الروم: 20]، غير أنَّنا نتَّفق معه فيما ذَكَره أنَّه لا يُخبر عنِ المصدر المؤوَّل بشيءٍ ممَّا هو مِن صِفة المصدَر، وإنْ كان يجوزُ ذلك في الصَّريح؛ تقول: القيام سِريعٌ، ولا نقول: أنْ تقوم سريعٌ "لا يكون مِثل هذا خبرًا عن المصدَر"[27]، وسوف نَعرِف السرَّ الدَّلالي لذلك.

[1] الإمام عبدالقاهر الجرجاني؛ "دلائل الإعجاز في علم المعاني" ص (80)؛ تصحيح الشيخ محمد عبده، والشنقيطي، جدة، مكتبة العلم، 1411هـ - 1990م.
[2] أحمد حساني؛ "السِّمات التفريعيَّة للفعل في البنية التركيبيَّة، مقاربة لسانية" ص (3) الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1993م.
[3] السابق ص (3 - 4).
[4] مُوفَّق الدِّين يعيش بن علي بن يعيش؛ شرح المفصَّل (8/ 77)، بيروت، عالم الكتب، دون تاريخ.
[5] لن أتَعرَّض في بحثي هذا لمواطنِ إضمار (إن) بقِسميها، فعندي لها تفسيرٌ آخَر، سوف أُخصِّص له بحثاً مستقلاًّ -إنْ شاءَ الله تعالى.
[6] رضي الدِّين محمد بن الحسن الإستراباذي؛ "شرح الكافية" (2/ 233)، بيروت، دار الكتب العلمية، دون تاريخ.
[7] الرَّضي؛ شرح الكافية، (2/ 223).
[8] الإمام أبو محمَّد عبدالله جمال الدين بن هشام الأنصاري المصري؛ "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" (1/ 28)؛ تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، دون تاريخ.
[9] الإمام محمود بن عمر الزمخشري؛ "الكشاف عن حقائق غوامض التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" (3/ 374)؛ ترتيب وضبْط مصطفى حسين أحمد، بيروت، دار الكتاب العربي، ط (3)، 1407هـ - 1987م.
[10] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 386).
[11] ابن هشام؛ "مغنى اللبيب"، (1/ 29).
[12] أَثير الدين أبو حيَّان النحوي؛ "تفسير البحر المحيط" (5/ 122)، دار الفِكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط (2)، 1403هـ - 1983م.
[13] أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله السُّهيليّ، "نتائج الفكر في النحو" (ص: 129) تحقيق الدكتور/ محمد إبراهيم البنا، السعودية، دار الرياض للنشر والتوزيع ط2 1404هـ 1984م، وانظر: الإمام شمس الدين محمد بن قيِّم الجوزية، "بدائع الفوائد" (1/103) تحقيق بشير محمد عون، الرياض مكتبة المؤيد 1415هـ 1994م.
[14] أبو إسحاق إبراهيم بن السَّري الزجَّاج؛ "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 304)؛ تحقيق الدكتور عبدالجليل عبده شلبي، القاهرة دار الحديث، ط (1)، 1414هـ - 1994م.

[15] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 77).
[16] الإمام عبدالقاهر الجرجاني؛ كتاب المقتصد في شرح الإيضاح، (1/ 482 - 483)؛ تحقيق الدكتور كاظم بحر المرجان، العراق منشورات وزارة الثقافة والإعلام 1982م.
[17] ميشال زكريا؛ "مباحث في النظرية الألسنية وتعليم اللغة"، ص (114)، المؤسَّسة الجامعيَّة للدراسات والنشر والتوزيع، ط (3)، 1405هـ - 1985م.
[18] د. أحمد المتوكل؛ "من البنية الحملية إلى البنية المكونية"، ص (17) الدار البيضاء، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط (1)، 1407هـ - 1987م.
[19] أحمد حساني؛ "السمات التفريعيَّة للفعل"، ص (70 - 174).
[20] السابق، ص (41 - 42).
[21] السابق، (168 - 169).
[22] أبو زيد الأنصاري؛ "النوادر في اللغة"، ص (144)، بيروت دار الكتاب العربي، ط 1387 هـ - 1967م.
[23] أبو علي القالي؛ "الأماني"، (1/ 30).
[24] الإمام أبو البركات عبدالرحمن بن محمَّد بن أبي سعيد الأنباري، "أسرار العربية" (126)، تحقيق محمد بهجة البيطار. دمشق مطبوعات المجمع العلمي. دون تاريخ.
[25]الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 234).
[26] ابن قيم الجوزية؛ "بدائع الفوائد"، (1/ 103).
[27] ابن القيم الجوزية؛ "بدائع الفوائد"، (1/ 103).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 31-10-2022, 09:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

المصدر المؤول


بحث في التركيب والدلالة (2)

د. طه محمد الجندي





العنصر الثاني: (أنّ) المُشددة:

ومِن يتأمَّل البِنية التركيبيَّة التي يردُ فيها هذا العنصرُ المصدريُّ يتبدَّى له صلاحيةُ هذا العُنصر للدخولِ على كلِّ تركيبٍ لُغوي، رُكناه المبتدأُ والخبرُ، شريطة أنْ يكونَ المبتدأ اسمًا صريحًا، ويكون ذلك عندَما يحتاج الموقفُ إلى إضفاءِ معنًى دلاليٍّ على هذا التركيبِ الإسناديِّ، هو توكيدُه، وتقوية معْناه، فيجنح المتكلِّم إلى هذا العُنصر المصدريِّ الذي يُحيل التركيبَ كلَّه إلى رُكن إفراديٍّ شاغِل لوظيفةٍ إعرابيَّة خاصَّة بالمفرَدِ، غير أنَّ الفردَ هنا ذو سِمات دلاليَّة وتركيبيَّة خاصَّة؛ لذا كان مِن الحتْم النظرُ في التراكيبِ التي يكون فيها للتعرُّف على تلك السِّمات؛ حتى يُمكنَ وضْعُ الضوابط الخاصَّة به في المواقِع التركيبيَّة المتباينة، وقدْ حاول نحويُّونا في جهدٍ مشكور وضْعَ الضوابطِ الخاصَّة بالتراكيب التي يَشغلُها هذا العنصرُ المصدريُّ في الوظائفِ النحويَّة المتعدِّدة؛ فقد نصُّوا مثلاً على أنَّه إذا كان المبتدأُ مصدرًا مؤولاً مِن (أنّ ومعموليها)، وجَب أن يكونَ العنصرُ الخبريُّ له شِبهَ جملةٍ مُقدَّمًا عليه تقول: عندي أنَّك فاضل، ومِن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾ [فصلت: 39]، وهذا قيدٌ تركيبيٌّ يَضبط ورودَه في تلك الوظيفة، كما نصُّوا على أنَّه إذا شغَل وظيفةَ الخبر تحتَّم أنْ يكونَ المبتدأ مِن أسماء المعاني، في مقابلِ أسماء الأعيان، أو الجُثَث، وحُجَّتهم في ذلك أنَّ هذا العنصرَ بتأويلِ المصدر، والمصدر معنًى، ولا يُخبر عن أسماء الأعيان بالمعاني، كما منَعوا وقوعَ (أنّ ومعموليها) صِفة لاسم عيْن مُعلِّلين ذلك بنفس التعليل السابِق مِن أنَّ فتْح الهمزة "يؤدِّي إلى وصف أسماء الأعيان بالمصادِر"[1]، وأيضًا نصُّوا على امتناعِ وقوعِ (أنّ ومعموليهما) في موقِع الحال؛ لأنَّ المصدرَ المؤوَّل منها مِن معموليها معرفة، وشرْط الحال التنكير، هكذا نصَّ الأزهريُّ في شرحه على التوضيح[2]، أمَّا الرضيُّ فقد نصَّ على أنَّ المصدرَ الذي يَتبوَّأ مقعدَ الحال هو الصريح، لا المؤوَّل به[3].


كما يذكُر ابنُ يعيش أنَّه "لا يَحسُن وقوع (أنّ) المشدَّدة بعد (لعلّ)، إذا كانتْ طمعًا أو إشفاقًا، وهذا أمرٌ مشكوك في وقوعِه، و(أنّ) المشدَّدة للتحقيق واليقين، فلا تقَع إلا بعدَ العلم واليقين"[4]، ورُوِي عنِ الأخفش إجازتُه لذلك "على التشبيه بـ(ليت)، إذْ كان الترجِّي والتمني يتقاربان"[5].


وقدْ مضَى بنا طرَفٌ مِن أقوالهم صوَّر لنا الضوابطَ الدلاليَّة للأفعال التي تقَع (أن ومعمولاها) في وظيفةِ المفعول لها عندَما نصُّوا على وجوبِ أن تكونَ مِن الأفعال الدالَّة على اليقين والعِلم ونحوهما، "ممَّا معناه الثبوتُ والاستقرار؛ ليتطابَق مَعْنَيَا العامِل والمعمول، ولا يَتناقضَا"[6]؛ ولذا وجدْنا سيبويه - والرِّواية للرضيِّ - يُضعِّف أنْ يسبق (أنّ) أفعال؛ مِثل: أرْجو، وأطمع، وأخشى، مُعلِّلاً ذلك بأنَّ الفِعل الذي يدخُل على (أنّ) المفتوحة - مشدَّدةً كانتْ أو مُخففةً - يجب أن يُشاكِلها في التحقيق[7].


ولعلَّه مِن أجْل ذلك نصَّ النحاةُ على أنَّه "لا يَحسُن وقوع (أنّ) المشدَّدة بعد (لعل) إذا كانتْ طمعًا وإشفاقًا، وذلك أمرٌ مشكوك في وقوعِه، وأنّ المشدَّدة للتحقيقِ، واليقين...، وقدْ أجازَ الأخفشُ ذلك على التشبيه بـ(ليت)؛ إذْ كان الترجِّي والتمنِّي يتقاربان"[8]، كما سوَّغ الزمخشريُّ دخولَ فِعل الحسبان على (أنّ) التي للتحقيق بقوله: "حسبانهم لقوَّته في صدورهم منـزَّلٌ منـزلةَ العِلم"[9]، ولَم يَخرج على هذا العُرْف السائدِ بينهم إلا الرضيُّ - فيما أعلم - إذ أجاز أن تَقَع (أنّ) معمولةً لأفعالِ التحقيق، أو لأفعالِ الشكِّ أو التمني، ممثلاً لذلك بقوله: شَككتُ في أنَّك مسلم، وردَّ التعليل الذي ساقه عن جار الله مِن "أنَّ الفعل الذي يدخُل على (أن المفتوحة) مشدَّدةً كانت أو مخفَّفةً، يجب أن يُشاكلِها في التحقيق بقوله: "وفيه نظَر لقوله:
وَدَّتْ وَمَا تُغْنِي الوَدَادَةُ أَنَّنِي
بِمَا فِي ضَمِيرِ الحَاجِبِيَّةِ عَالِمُ


وفي نهْج البلاغَة: وددتُ أنَّ أخي فُلانًا كان حاضرًا، وكذا في تعليلِ المصنِّف للمَنْع مِن ذلك بقوله: لو قلت أتمنَّي لكان كالمتضادِّ، قال: "لأنَّ التمنِّي يدلُّ على توقُّف القيام، و(أن) تدلُّ على ثبوتِ خبرِه وتحقُّقه"، ولَم يسلِّم الرضيُّ بهذا التعليل؛ لأنَّه رأى في المعنى الدلالي لـ(أنّ) رأيًا مختلفًا عنهم، فهو لا يُسلِّم بأن (أنّ) تدلُّ على ثبوتِ الخبر وتحقُّقه، بل على أنَّ خبرها مبالَغ فيه مؤكَّد، ومِن ثَمَّ يصحُّ أن يُثبت هذا المؤكَّد، نحو قولك: تحقَّق أنَّك قائم، وأنْ يُنفَى، نحو قولك: لَم يثبتْ أنَّ زيدًا قائمٌ، "كما ذكَرْنا أنَّه لو كانَ بيْن معنى التمنِّي، ومعنى (أن) تَنافٍ أو كالتنافي، لَم يجز ليتَ أنَّك قائم"[10].


ونَحنُ بدورنا لا نُسلِّم برأي الرضيِّ هذا؛ لِما فيه مِن الخَلْط والاضطراب، ويتمثَّل هذا الخلْط فيما يلِي:
1- ما ساقَه مِن جواز وقوعِها بعد فِعل الشكِّ لا يُسلَّم له؛ لأنَّها لَم تكُنْ فيه شاغِلة لوظيفية المفعول، وإنَّما كانتْ مجرورةً بحرف الجر، وليس هناك ضابطٌ دَلالي، أو سِمة تفريعيَّة تمنع وقوعَ المصدر المؤوَّل من (أنْ) المصدريَّة، أو (أنّ) المشدَّدة بعد حرْف جرٍّ، وإذًا الجِهة منفكَّة.


2- في ردِّه على المصنِّف - وهو ابنُ الحاجِب - قدْ خلَط بين فِعلين سماتهما الدلاليَّة متباينة، فالمصنِّف منَع وقوع (أن) بعدَ فِعل التمنِّي، لا فِعل الودادة الذي احتجَّ به عليه، وهما - فيما أرى - مختلفانِ دلاليًّا، ففعْل التمنِّي يدلُّ على توقُّف المعنى - على حدِّ قولِ ابنِ الحاجب - أو تعذُّره - على حدِّ فهمي - وفِعل الودادة خاطرٌ يترقَّب وقوعَ معموله، أو يُرجَى حدوثُه، وقد يَتحقَّق؛ ولذا وقَع على المصدر المؤوَّل مِن (أن) ومعموليها في البيت، وفي المثل الذي ورَد في "نهج البلاغة".


3- ما ذَكره مِن تفسيرٍ دلالي لـ(أنّ) مِن أنها تدلُّ على أنَّ خبرَها، مُبالَغ فيه مؤكَّد، ومِن ثَمَّ فقدْ يُثبت هذا المؤكَّد، وقد يُنفى، أردُّ عليه بمِثل ما ردَّ به الإمام عبدُالقاهر مِن أنَّ فِعل العِلم والتحقيق حتى في سِياق النفي، لا يكونُ معه إلاَّ المشدَّدة، مع أنَّ النفي لا يُثبِت العِلم ولا يُحقِّقه في الواقِع اللُّغوي، مُعلِّلاً ذلك بقوله: "لأنَّ كونه غيرَ ثابتٍ لمن تحدَّث عنه، لا يُخرِجه عن حقيقتِه"[11].


وأخيرًا فإنَّ المثال الذي ساقَه شاهدًا على وقوع (أن) بعدَ التمني، ليس دليلاً له؛ لأنَّها - فيه - لَم تقعْ بعدَ فِعل التمني الذي منَعَه ابنُ الحاجب، بل بعدَ الحرْف (ليت)، ووقوعها بعدَ (ليت) جائِز، بدليل ما سُقناه عنِ الأخفش مِن إجازة وقوعها بعدَ (لعل) تشبيهًا لها بـ(ليت).


ثم إنَّ ممَّا يؤيِّد ما أقرَّه النحاة - ونحن معهم - مِن قيْد دلالي للأفعال العامِلة في المصدر المؤوَّل مِن (أن ومعموليها)، تَراجُعَ الرضيُّ نفسه عندَ حديثه عن (أن) المخفَّفة، مع أنَّ حُكمَ المخفَّفة في التأكيد والتحقيق حُكمُ الثقيلة - فيما يَذكُر ابنُ يعيش "لأنَّ الحذفَ إنما كان لضربٍ مِن التخفيف"[12]، فقد قصر الرضيُّ الضابطَ الدلاليَّ نفْسَه الذي ذكَره النحاةُ للمشدَّدة، قائلاً بأنها إذا خُفِّفت "تقاصرتْ خُطاها، فلا تقَع مجرورةَ الموضع كالمشدَّدة، ولا تقول عجبتُ مِن أن ستخرج، ولا تقع إلا بعدَ فِعل التحقيقِ كالعَلم، وما يؤدِّي معناه؛ كالتبيين والتيقُّن، والانكشاف والظهور، والنَّظر الفِكري، والإيحاء والنِّداء، ونحو ذلك، أو بعدَ فِعل الظنِّ بتأويل أنْ يكون ظنًّا متآخيًا للعلم"[13]، فهذا النصُّ يبرز في وضوحٍ السمةَ السياقيَّة للأفعال التي يَشغَل المصدرُ المؤوَّل من (أن) المخفَّفة من الثقيلة موقعَ المفعول فيها، وهي السِّمة السياقيَّة لـ(أنّ) المشدَّدة أيضًا، ولا فرْقَ بيْن الاثنين إلا في التخفيف.


وأخيرًا: ماذا عن الضوابطِ التركيبيَّة لهذا العنصر المصدريِّ في صورته المخفَّفة؛ حيث صارَ شبيهًا بالعنصر الثنائيِّ الوضْع (أن)، وبخاصَّة إذا وقَع بعدَ أفعال سِماتها الدلالية لا تُفيد تحقيقًا؟ كأفعال الشكِّ والظنِّ والمحسبة؛ مِثل الأفعال: ظننت، حسبتُ، خِلت، شَككت؛ إذ مِن المعلوم أنَّ تلك الأفعالَ لا تَثبت على حالة دلاليَّة واحدة، فقد تَجنح صوبَ التحقيق حينًا، فتُصبح متآخيةً لأفعال التحقيق، وصوبَ الظنِّ أحيانًا، فتتآخَى مع أفعال الرَّجاء والخوف؛ ذلك أنَّ معنى الظنِّ - كما يذكُر ابنُ يعيش - أنْ يتعارض دليلانِ ويترجَّح أحدُهما دون الآخَر، وقدْ يَقوَى المرجّح، فيستعمل بمعنى العِلم واليقين، وقد يَضعُف، فيُضحي ما بعدها مشكوكًا في وجودِه، وحينها يحتمل ألاَّ يكون كأفعالِ الخوفِ وأنْ يكون مِثلها.


وعليه، فالعُنصر المصدريُّ المعمول لهذه الأفْعال يحتمل الوجهين معًا، فقدْ يكون (أن) المخفَّفة، أو الثنائية الوضْع، وللحقِّ فإنَّ النُّحاة قدْ وضَعوا ضوابطَ فاصلةً بيْن العنصرين معلومةً ومتداولةً بينهم، ولولا محدوديةُ البحث لعرضتُ لها، كما أنِّي شعرتُ أنَّ عرْضي لها سيكون مِن باب التَّكْرار المعيب.


يبقى أنْ أُشيرَ إلى أنَّ المصدر المؤوَّل مِن (أنّ ومعموليها) إذا تبوَّأ مقعدَ الفاعل، فإنَّ فِعله يَشترك مع فِعل المصدَر المؤوَّل من (أنْ) الثنائية في سِماتها الدلاليَّة التي تتَّسم بسمة (+ حالة انفعالية)؛ مِثل الأفعال: أعجب - أسعد - أغْضب - أرْضى - سرّ، كما أنَّ سِمةً أخرى لها هي سِمة (- شخصي)؛ مِثل الأفعال: بلغ - أتى - وصل؛ إذ يَجنحُ هذا النوعُ مِن الأفعال عندما يكون فاعِلُها مصدرًا مؤوَّلاً مِن (أنّ ومعموليها)، إلى هذه السِّمة الجديدة.


[1] الشيخ خالد الأزهري؛ "شرح التصريح على التوضيح"، (1/ 216)، القاهرة دار إحياء الكتب العربية، د. ت.

[2] السابق، (216).

[3] الرَّضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 349).

[4] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 86).

[5] السابق، (8/ 86).

[6] السابق، (8/ 77).


[7] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 232).

[8] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 86).

[9] الزمخشري؛ "الكشاف"، (1/ 663).

[10] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 232).

[11] عبدالقاهر الجرجاني؛ "كتاب المقتصد في شرح الإيضاح"، (2/ 487).

[12] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 77).

[13] الرضي؛ "شرح الكافية"، (3/ 232 - 233).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 31-10-2022, 09:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

المصدر المؤول


بحث في التركيب والدلالة (3)

د. طه محمد الجندي





العنصر الثالث: (كي):
إنَّ أدْنى تأمُّل للتراكيبِ التي يرِد فيها هذا العنصرُ المصدريُّ، يَهدي إلى أنَّه موضوعٌ في اللغة؛ ليكونَ حرفًا من أحرفِ العِلة، وهو في هذا يُحاكي حرفَ اللام الذي وُضِع لهذا المعنى أيضًا، كما أنَّ مَن يتأمَّل التراكيب يتبدَّى له أنَّ هذا العنصر التعليلي قدِ اقتصر على الالتحاق بنمطٍ محدَّد مِن الأفعال، وهو ما اصطلح على تسميته بالفِعل المضارِع الذي يتميَّز بسمة (+ متصرف)، مع ملاحظة أنَّ هذا العنصر يؤثِّر في الفِعل بعدَه تأثيرًا وظيفيًّا، يترتَّب عليه تحوُّلٌ في علامات الإعراب يَنتهي به إلى العلامةِ الخاصَّة بالنصْب، وهو في هذا يُشبه العنصرَ المصدريَّ (أن) الثنائيَّ الوضْع الذي سبَق التنويهُ عنه، فكلاهما يؤثِّر في الفعلِ بعده بتحويله إلى العلامة الإعرابية الخاصَّة بالنصْب، وثَمَّ وجهٌ آخرُ للشَّبه بينهما أشارَ إليه النحاةُ القُدامى، يتمثَّل في تخليصِ زمن الفِعل بعدَه؛ للدلالةِ على الزمن المستقبل، وهذا تحوُّلٌ دلاليّ، ولاشتراكهما معًا في هاتين الخاصِّتين، حُمِلتْ (كي) على (أن)، كما أشار إلى ذلك ابنُ الأنباري[1]، وابنُ هشام الذي ذهَب إلى أنها تكون بمنـزلة (أن) المصدريَّة معنًى وعملاً[2].


فإذا عرَّجْنا صوبَ الضوابط النحويَّة لهذا العنصر التعليلي، تبيَّن لنا أنَّ ثَمَّة أقوالاً متباينة مِن النحاة، تَنصَبُّ كلها في مَعينٍ واحد، هو البحثُ عن العامِل الذي كانتِ اليد الطُّولى في نصبِ الفعل بعدَها، حكَى هذا الخلافَ الرضيُّ[3].

ويُمكننا إيجازه فيما يلي:
1- مذهبُ الخليل والأخفش أنَّ (كي) في جميعِ استعمالاتها حرْف جرٍّ، وانتصاب الفِعل بعدَها بإضمار (أن) وقدْ تظهر، وهذا الرأي مبنيٌّ على مذهب الخليل بأنَّه لا ناصبَ للفعل سِوى (أن).


2- مذهب الكوفيِّين أنَّها في جميعِ استعمالاتها ناصبةٌ للفِعل، وإذا ظهَرتْ (أن) بعدَها، فهي؛ إمَّا زائدة، أو بدَلٌ منها.


3- مذهَب البصريِّين، وهؤلاء كانوا أكثرَ إدراكًا وضبطًا لاستعمالاتِها مِن غيرهم، فقد رأوا أنها تُستعمل على ثلاثةِ أضرب:
أحدها: أن تكونَ ناصبةً للفِعل بنفسِها، وتعدُّ في تلك الحالةِ عنصرًا مصدريًّا يؤوَّل مع مدخولِه بمصدرٍ، ولا تُفيد التعليلَ في تلك الحالة، والضابِط التركيبي لها هو تقدُّم حرفِ اللام عليها في مِثل قولنا: جِئتك لكي تُعطيَني حقِّي، وقوله: ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ﴾ [الحديد: 23]، وقد احتجُّوا على عدمِ إفادتها التعليلَ بأنَّها لو كانتْ حرفَ تعليلٍ، ما دخَل عليها حرفُ تعليلٍ آخَر[4].


الثاني: أن تكون جارَّةً لا غيرُ، وتفيد التعليلَ في تلك الحالة، والضابط التركيبي لها هو اقترانُها بـ(أن) الناصبة، وهنا يكون المصدرُ المؤوَّل من (أن) ومدخولها مجرورًا بـ(كي) وشاهدُها:
فَقَالَتْ: أَكُلَّ النَّاسِ أَصْبَحْتَ مَانِحًا
لِسَانَكَ كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ وَتَخْدَعَا




الثالث: احتمالها للوجْهين معًا، فتكون ناصبةً، أو جارَّة، ولها ضابطان هما:
أ- أن تأتي مفردةً، ودون أن تُسبَق بلام جرٍّ، أو أن تلحقَها (أن) الناصبة، كما في قوله تعالى: ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر: 7]، فيحتمل أن تكونَ ناصبةً للفعل بنفسِها، وحالتئذٍ تُقدَّر لامُ الجرِّ قبْلها، ويكون المصدرُ المؤوَّل منها ومِن مدخولها مجرورًا باللام، ويُحتمل أن تكونَ جارَّةً وتُضمر (أن) بعدَها ناصبة للفِعل مؤوَّلة معه بمصدرٍ مجرور بـ(كي).


ب- أن تتوسَّط بيْن لام الجرِّ وأن المصدرية، وشاهدُها في ذلك قولُ الشاعر:
أَرَدْتَ لِكَيْمَا أَنْ تَطِيرَ بِقِرْبَتِي
فَتَتْرُكَهَا شَنًّا بِبَيْدَاءَ بَلْقَعِ




فمَن جعَل (أن) هي الناصِبة، كانتْ (كي) عندَه بدلاً مِن اللام الجارَّة، والحرْف قد يُبدَل مِن مِثله إذا كان موافقًا له في المعنى، ومَن جعَل (كي) هي الناصِبة، كانتْ (أن) بدلاً منها؛ لأنَّ "كي بعدَ اللام بمعنى (أن)"[5].


ولا نُريد أن نَعرِض مِن أقوالهم لأكثرَ مِن ذلك؛ لأنَّ مطلوبَنا على كلِّ حال المصدر المؤوَّل، وهو متوفِّر في التركيب؛ سواء كان العنصرُ المصدري (كي)، أو (أن)، غير أنَّه إذا كنَّا في بحْثِنا هذا قدِ ارتَضينا المنهجَ الذي يُفسِّر تراكيب اللُّغةِ بالمعطيات اللغويَّة لمفرداتها، نكون حتمًا مخالِفين لِمَن زَعَم أنَّ (كي) الناصِبة بنفسها لا تُفيد تعليلاً، بل إنَّ صلاحيتَها تَقتصِر فقط على التأويل مع الفِعل بعدَها بالمصدر، مِثلها في ذلك مِثل (أن) الناصبة، مُحتجِّين بأنَّها لو كانتْ للتعليل، ما دخلتْ على حرف تعليلٍ آخَر.


وفي البَدء نحكُم على هذا التدليل بأنَّه خلَلٌ في المنهجِ؛ ذلك أنَّهم أجازوا منذ قليل إبدالَ الحرف مِن مِثله إذا وافقه معنًى، فلِمَ منعوا ذلك عن (كي)؟ هل لأنَّ عملها حينئذٍ يختلف عن عمَل اللام؟ قد يكون ذلك واردًا، ولكن القَيد الضابط الذي ساقوه لذلك هو المعنى، لا العمل.


وعمومًا فإنِّي أرَى أنَّ وضع (كي) بعد اللام، لا يُحاكي وضْع (أن) بعدَها تمامًا، فهل يستوي قولنا: صلَّيت لأنْ أنالَ رِضا الله، مع قولنا: صلَّيْت لكي أنال رِضا الله في القِيمة الدلاليَّة لكلٍّ منهما؟ الحقُّ أنَّ التَّركيبين مختلِفان، وأنَّ اقتران اللام بـ(أن) يختلف عنِ اقترانها بـ(كي)، فالأوَّل أفاد معنى العِلة دون توكيدها، وأمَّا الثاني فقدْ جاءَ بالعلَّة مؤكَّدة بحرفين وُضِعَا للدَّلالة عليها، ورَأيي هذا مُتَّفِق مع الكوفيِّين الذين نصُّوا على أنَّ مجيءَ (كي) بعد اللام إنما هو توكيدٌ لها.


ومِن هذا العرْض للوصف التركيبي لـ(كي)، يتبيَّن أنَّني لَم أتطرَّق - كما لَم يفعل النحاةُ ذلك أيضًا - إلى أي ضابطٍ دَلالي للأفعال التي تتَّصل بـ(كي)، ويبدو أنَّ ذلك كان مَقصودًا منهم، كما أنَّه مقصودٌ مني على كلِّ حالٍ، ويعود ذلك إلى أنَّ كلَّ فِعل صالح في ذاته لأنْ يكونَ عِلَّةً، أو غرضًا، يَستوي في ذلك الأفعال التي تتَّسم بسِمة (+ حالة)، أو (+ عمل)، أو (+ شخصي)، وهَلُمَّ جرًّا، والأمر كذلك بالنسبة إلى الفِعل المعلَّل قبلها.


[1] ابن الأنباري؛ "أسرار العربيَّة"، ص (328).

[2] ابن هشام؛ "مغني اللبيب"، (1/ 182).

[3] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 239).


[4] راجع أبا علي النحوي؛ "المسائل المُشكلة المعروفة بالبغداديات"، ص (195 - 196)؛ تحقيق صلاح الدين عبدالله السنكاوي، بغداد، مطبعة العاني 1983م، وانظر: الإمام شهاب الدين أبو العباس بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي؛ "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون"، (3/ 235)؛ تحقيق الشيخ/ علي محمد معوض وآخرين، بيروت دار الكتب العلمية، ط 1414هـ - 1994م.

[5] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 240).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 31-10-2022, 09:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

المصدر المؤول

د. طه محمد الجندي



بحث في التركيب والدلالة (4)



العنصر الرابع: (اللام):
والضابط التركيبيُّ لوقوعِ اللام حرفًا مصدريًّا - عندَ مَن يرى ذلك - هو اتصالُها بمعمولِ فِعلَي الإرادة والأمر ومشتقَّاتهما، على أنْ يكون مدخولها فعلاً مضارعًا منصوبًا بها، ويُحتم ذلك بالطبع أن يتَّصل الفِعل باللام، فلا يُفصل عنه بـ(أن)، أو (كي) المصدريتين، ومِن نماذج ذلك قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ [النساء: 26]، ﴿ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، ﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 71].


وللحقِّ فقدْ سبَق أن عرَضتُ لهذا العنصر في دِراستي للماجستير، وكانتْ متعلِّقة بكتاب اللامات للهَروي ودِراسته في ضوءِ لامات القرآن الكريم، وكان ممَّا عرَضتُه مِن آراء النحاة آنئذٍ يتلخَّص في رأيين:
الأول: ذهَب أصحابُه إلى أنَّها للتعليل، وأنَّ مفعولَ فِعلَي الإرادة والأمر محذوف، ومِن هؤلاء الأخفش - في أحد قولَيْه - والزجَّاجي وابن خالويه، والزجَّاج وأبو حيَّان، وقد ذَكَر هذا الأخيرُ صراحةً أنه لا يجوز أن يكون متعلّقُ الإرادة والأمر الفِعل بعدَ اللام؛ "لأنَّه يؤدِّي إلى تعدِّي الفعل لمفعوله المتأخِّر عنه بواسطةِ اللام، وإلى إضمارِ (أن) بعدَ لام ليستْ لام الجحود، ولا لام (كي)، وكلاهما لا يجوز عندَ البصريِّين"[1].


الثاني: ذَهَب أصحابُه إلى أنَّ هذه اللام في موضِع (أن)، وقصر عليها هذا المعنى بعدَ الفِعلين (أراد) و(أمر) ومشتقَّاتهما، وممَّن ذهَب إليه الفرَّاء، وتَبِعه الهرويُّ، ونسَب الزجَّاج هذا الرأي للكوفيِّين عامَّتهم.


ويَستشهد الفراءُ لصحَّة رأيه بأنَّ اللام إنَّما صلَحتْ في موضع (أن) في أرَدت وأمَرت؛ لأنَّهما يطلبان في المستقبل، ولا يَصلُحان مع الماضي، ألاَ ترى أنَّك تقول "أمرتُك أنْ تقوم، ولا يصلُح أمرتُك أنْ قُمت، فلمَّا رأوا (أن) في غير هذَينِ الموضعَينِ تكون للماضي والمستقبل، استوثَقوا لمعنى الاستقبال بـ(كي)، وباللام التي في معنى (كي)"[2]، وقد أثبتَ للام هذا المعنى أيضًا بعدَ الأفعال المشبَّهة لـ(أرَدت، وأمرت) مُستشهِدًا بقول الشاعر:
أُحَاوِلُ إِعْنَاتِي بِمَا قَالَ أَمْ رَجَا
لِيَضْحَكَ مِنِّي أَوْ لِيَضْحَكَ صَاحِبُهْ


يقول: "والكلامُ رَجا أنْ يَضحَك منِّي"[3]، وأمَّا الزمخشريُّ، فقدْ تأرْجَح في المسألة؛ فمرةً أثبتَ أنَّ اللام للتعليل[4]، وأخرى يُثبت أنَّها بمعنى (أن)[5]، وثالثةً يذكُر أنها للتعليل، ولا يبعد فيها الوجهُ الثاني؛ إذ أجاب مَن سأله إنْ كان قوله تعالى: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ﴾ [البقرة: 185]، معطوفًا على اليُسر في قوله: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، فقال: لا يبعد ذلك"[6]، وحتى الزجَّاج الذي أنْكر هذا الرأي مِن الكوفيِّين، نَجِده يُثبت أنَّها بمعنى (أن) في موضعٍ آخَر مِن كتابه[7].


تِلك هي أبرزُ الآراء التي ذَكَرها أصحابها حولَ هذا العُنصر اللُّغوي، وإذا أخَذنا بقول الفرَّاءِ ومَن تَبِعه، فإنَّ اللام تكون حرفًا مصدريًّا بعد فِعلَي الإرادة والأمر، وتكون بمعنى (أن) وتقوم مقامَها في تقييد الفِعل بعدَها بالاستقبال وتأويله بالمصدر، غير أنَّ السِّمة المميِّزة لها عن (أن) تنصب على إرادةِ التوكيد لمدخولها، بخِلاف (أن) التي لا تُؤدِّي هذا المعنى، وقدْ أشار إلى ذلك الزمخشريُّ عندما نصَّ على أنَّ اللام جاءتْ مؤكِّدة لإرادةِ التبيين[8].


وقدْ سبَق أن أيَّدتُ هذا الرأي مُدلِّلاً على صحَّته بدليلين، أسوقهما هنا بنصِّهما:
1- العطفُ على اللام، ومعمولها بـ(أن) ومعمولها، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [الأنعام: 71 - 72]، فالفِعل أُمِرنا قد وقَع على الاثنين، وأنَّ مراده الاثنان: الإسلام وإقامة الصلاة معًا، ودخول اللام في "لنُسلِم" يجعلها أكثرَ تأكيدًا مِن مدخول (أن) وهو إقامة الصلاة، وقد قال الزمخشريُّ "فإنْ قلت: علامَ عطف قوله: وأنْ أقيموا، قلت: هو على موضِع (لنُسلم)، وكأنَّه قيل: وأُمِرْنا أن نُسلِم وأن أقيموا"[9].


2- عَطفها مع مدخولِها على المفعولِ الصريح في قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ [البقرة: 185]، والمعنى المراد مِن الآية - والله أعلم - "يُريد الله بكم اليسرَ وإكمالَ العِدَّة"[10].


[1] أبو حيان النحوي؛ "تفسير البحر المحيط"، (3/ 225).

[2] أبو زكريا يحيى بن زياد الفرَّاء؛ "معاني القرآن"، (1/ 261 - 262)؛ تحقيق أحمد يوسف نجاتي، ومحمد علي النجار، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر 1955م.

[3] السابق (1/ 262)، وانظر: د. أحمد عَلَم الدين الجندي؛ "مِن تُراث لغوي مفقود"، مكة المكرمة، مطبوعات جامعة أم القرى 1410هـ.

[4] الزمخشري؛ "الكشاف"، (2/ 37).

[5] السابق، (1/ 501).

[6] الزمخشري؛ "الكشاف"، (1/ 228).

[7] الزجَّاج؛ "معاني القرآن وإعرابه"، (2/ 285).

[8] الزمخشري؛ "الكشاف"، (1/ 501).

[9] الزمخشري؛ "الكشاف"، (2/ 38).

[10] د. طه محمد الجندي؛ "كتاب اللامات"؛ للهروي؛ تحقيق ودراسة في ضوء لامات القرآن الكريم، ص (271)، رسالة ماجستير بدار العلوم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 31-10-2022, 09:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

المصدر المؤول

د. طه محمد الجندي




بحث في التركيب والدلالة (5)







العنصر الخامس: (الذي):



الضابط النَّحْوي لهذا العنصر اللُّغويِّ: أنَّه اسمٌ موصولٌ يقَع على كلِّ مذكَّر مِن العقلاء وغيرهم، كذا ذكَر ابنُ يعيش[1]، غير أنَّ هذا الضابط النحويَّ كان تَنقصه النظرة الشاملة للتراكيب؛ إذ ندَّتْ عنه بعضُ التراكيب التي لَم تَصدُق على هذا الضابِط الموضوع مِن قِبل النُّحاة، فقد وجَدْناه في بعضِ التراكيبِ واقعًا على غيرِ المفرد، ولَم يَقتصرْ ذلك على لُغة الشِّعر المقيَّدة بضوابط الوزن والقافية، بل وجَدْنا ذلك واقعًا في التراكيبِ القرآنيَّة، ومِن أمثلة ذلك شاهد سيبويه في الكتاب:







وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ

هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ مَالِكِ[2]










وقوله تعالى: ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾ [التوبة: 69].







وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 33].








وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ....* أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ [الأحقاف: 17 - 18].







فمِن البيِّن في هذا التركيبِ أنَّ الضميرَ العائد على (الذي) كان مَجموعًا في البيت، وفي آيةِ التوبة، كما أُشير إليه بالاسمِ الموضوع للجَمْع أيضًا (أولئك) في الآيتين الأخيرتَين، ولا شكَّ أنَّ ذلك مناقضٌ للضابطِ النحْوي لهذا العُنصر اللُّغويِّ، وبالطبعِ لَم يَقفِ النحاةُ مَكتوفي الأيدي، بل لَجَؤوا إلى التأويل مطيَّتهم في مِثل هذا المواقِف، وكان مِن جرَّاء ذلك كمٌّ متراكِم مِن الأقوال المتناثِرة[3] حولَ الدلالة اللُّغويَّة لهذا العنصر، وكان مِن جملة ما ذَكَروه في هذا الصَّدَد، رأيٌ أجازَ جعْلها حرفًا مصدريًّا، يؤوَّل مع مدخوله بمصدرٍ، ذكَر هذا العُكبريُّ في "التبيان" مفسِّرًا البِنية التحتية لقولِه تعالى: ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾ [التوبة: 69]، قائلاً: أي كخوضِهم[4]، ووصفه بأنَّه نادِر، كما ذَكَر هذا الرأيَ أيضًا السيوطيُّ في حديثه عن تقارُض اللفظين؛ أي: إعطاء كلِّ واحد منهما حُكمَ صاحبه، فبيَّن "أن (الذي) و(أن) المصدريَّة يتقارَضان، فتقع الذي مصدرية"، وذكَر أنَّ هذا الرأي قال به يونسُ والفرَّاءُ والفارسيُّ، وارتضاه ابن خروف، وابنُ مالك[5].







وما قدَّمته مِن نصوصٍ يجعلني أميلُ إلى القول بموصولية (الذي)، لا بحرفيَّته وجعْله مصدريًّا، بل هو اسمٌ موصول عام، له لفظٌ ومعنًى؛ لذا يمكن أن يعودَ الضميرُ عليه مفردًا إذا رُوعي فيه جانبُ اللفظ، كما يُمكن أن يُراعَى معناه، فيعود الضميرُ إليه مجموعًا، وهو في كِلا الاستعمالين اسمٌ موصول، لا حرْف مصدريٌّ، والرأي القائِل بحرفيته رأيٌ قاصِر، لَم يكُنْ وليدَ نظرةٍ عامَّة للتراكيب اللُّغويَّة.










[1] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (1/ 139).



[2] سيبويه؛ أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر؛ الكتاب (1/ 187)؛ تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977م.



[3] انظر عرْضًا مُفصلاً لهذه الآراء في رِسالتي للدكتوراه، ظاهِرة المطابقة النحوية في ضوءِ الاستعمال القرآني، ص (42 - 48) مخطوط بدار العلوم.



[4] أبو البقاء، عبدالله بن الحسين العُكبري؛ "التبيان في إعراب القرآن" (2/ 651)؛ تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة، عيسى البابي الحلبي وشركاه.



[5] جلال الدين السيوطي؛ "الأشباه والنظائر" (1/ 139 - 140)، القاهرة، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع، ط (3) 1404هـ - 1984م.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 31-10-2022, 09:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

المصدر المؤول

د. طه محمد الجندي




بحث في التركيب والدلالة (6)






العنصر السادس: (لو):



أقرَّ فريقٌ غير قليلٍ مِن نُحاتنا القدامى صلاحيةَ هذا اللفظِ ليكونَ عنصرًا مصدريًّا، غير أنَّهم حدَّدوا تلك الصلاحية له في تراكيبَ محدَّدة، وكان الحقُّ معهم؛ لأنَّ الفريق الثاني - الذي لَم يُقرَّ لها بتلك الصلاحية - أَوَّلوا تلك التراكيب تأويلاتٍ متكلفةً، لا تتَّفق مع منطقِ اللُّغة، ولا رُوحها.








والضابط النحويُّ لوقوع (لو) حرفًا مصدريًّا بيَّنه الرضي[1] عندما نصَّ على أنها تكون كذلك إذا وقعتْ بعدَ فِعل يُفهَم منه معنى التمنِّي، وقدْ كان ابن هشام أكثرَ تحديدًا من الرضيِّ عندما ذكَر أنَّها تكون مصدريةً إذا وقعتْ بعدَ الفعلين (ودّ - يودّ)؛ نحو قوله تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ ﴾ [القلم: 9]، و﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ﴾ [البقرة: 96][2]، بل وجَدْنا مَن هو أكثر تحديدًا لها مِن ابن هشام، ذلك الذي نظَر إلى الدَّلالاتِ المتعدِّدة لهذا الفعل (ودَّ)، فهو إمَّا أنْ يكون بمعنى (تمنَّى)، أو (أحبَّ)، فقصَر استعمالَ (لو) المصدرية بعدَ المُفهمة للتمنِّي، يُوضِّح هذا الرأي ما جاءَ في "الدُّر" مَرويًّا عن أبي مسلم الأصبهانيِّ في قوله: "إذا كانت (ودَّ) بمعنى (تمنَّى)، فيُستعمل معها (لو) و(أن)، وربَّما جمَع بينهما، فيُقال: وَدِدتُ لو أن فعَلت، وحكَى عنِ الراغب قوله: "إذا كان بمعنى أحبَّ، لا يجوز إدخالُ (لو) فيه أبدًا"[3]، وفي هذا الصَّدَد لا يَنبغي أن يُشكِل علينا دخولُ (أن) على (لو) في حديث أبي مسلمٍ السابق؛ لأنَّنا سُقْنا عنهم آنفًا إجازتَهم إبدالَ الحرْف مِن مِثله، إذا كان موافقًا له في المعنَى.








وقد ساقَ لنا هذا الفريقُ مِن المُثبتين لها هذا المعنى مِن الأدلَّةِ والبراهين؛ مما يؤكِّد صحَّةَ مذهبِهم، فهذا العُكبريُّ في "التبيان" يذكر لنا دَليلينِ للتفريقِ بين (لو) التي تقَع مصدريةً، والتي تكون للشَّرْط، أحد هذين الدليلينِ دَلالي، والآخَر تركيبي، يقول: "لو يُعمَّر، (لو) هنا بمعنى (أن) الناصبة للفِعل، ولكن لا تَنصب، وليستْ التي يَمتنع بها الشيءُ لامتناعِ غيرِه، ويدلُّك على ذلك شيئان:



أحدهما: أنَّ هذه يلزمها المستقبل، والأخرى معناها في الماضي.




والثاني: أن يودّ يتعدَّى إلى مفعول واحدٍ، وليس ممَّا يُعلَّق عن العمل، فمِن هنا لَزِم أن يكون (لو) بمعنى (أن)"[4].








وإذًا، فالرأي مع جوازِ وقوعها مصدرية في هذه التراكيب؛ وذلك لاتِّفاقها مع غيرِها من العناصر المصدريَّة الأخرى، في أن الفِعل الذي يعمل فيها وفي مدخولها فِعلٌ قلْبي مِن تلك الأفعال التي تتَّسم بسمة (+ حالة)، ولعلَّ ذلك يعودُ إلى أنها تُستخدم بمعنى التمنِّي الذي هو شيءٌ يَهجس في القلْب، يُقدِّره المتمنِّي على ما يذكُر ابنُ يعيش[5].








ثم إنَّ في الأخْذ بهذا القولِ سلامةً مِن التكلُّف الذي تأوَّله المانعون؛ إذ تأوَّلوا مفعولاً للفِعل (ودّ - يودّ) محذوفًا، كما تأوَّلوا جوابًا لـ(لو) محذوفًا أيضًا، وتقديرهما في قوله تعالى: ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ﴾ [البقرة: 96]، يودُّ أحدُهم طولَ التعمير لو يُعمَّر ألف سنةٍ لسرَّه ذلك[6]، وبيِّنٌ مدَى التكلُّفِ في هذا التأويل، حتى إنَّ كثيرًا من نحويينا القُدامى وصَفوه بذلك، منهم ابنُ هشام الذي عقَّب على حذفِ مفعول الفِعل، وجواب (لو) بقوله: "ولا خفاءَ بما في ذلك مِن التكلُّف".








وقد وجدتُ هذا الرأي نفسَه مِن الشِّهابِ والصبَّان والخُضري[7].








وإذا كنَّا قد خلُصْنا إلى جواز وقوع (لو) مصدرية بعدَ ما يُفيد معنى التمنِّي من الأفعال: ودّ - يودّ، فإنَّنا لا نوافِق ابنَ هشام فيما ذهَب إليه مِن جواز وقوعها مصدريةً بعدَ أفعال لا تتَّسم بهذه السِّمة، مُمثلاً لها بقول قتيلة:





مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرَبَّمَا

مَنَّ الفَتَى وَهُوَ المَغِيظُ المُحْنَقُ










وقول الأعشى:





وَرُبَّمَا فَاتَ قَوْمًا جُلُّ أَمْرِهِمُ

مِنَ التَّأنِّي، وَكَانَ الحَزْمُ لَوْ عَجِلُوا












وقول امرئ القيس:





تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا عَلَيْهَا وَمَعْشَرًا

عَلَيَّ حَراصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي












ويُمكن تفسيرُها في تلك الأبيات بأنَّها حرْف تَمنٍّ، وهو مِن المعاني التي أوْرَدها ابنُ هشام لها، مُمثِّلاً لذلك بقوله تعالى: ﴿ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ﴾ [الشعراء: 102]؛ أي: فليتَ لنا كرةً، وقد ساقَ ابنُ هشام[8] عن ابن الضائع بأنَّ (لو) التي للتمنِّي قسمٌ قائمٌ برأسِه لا تحتاج إلى جوابٍ.











[1] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 387).






[2] وانظر ابن هشام؛ "مغني اللبيب"، (3/ 265).






[3] السمين الحلبي؛ "الدر المصون"، (2/ 131).







[4] العكبري؛ "التبيان في إعراب القرآن"، (1/ 96).






[5] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (9/ 11).






[6] راجع: الشيخ خالد الأزهري؛ "شرح التصريح" (2/ 255)، والسمين الحلبي؛ "الدر المصون" (1/ 309).






[7] راجع: الشهاب؛ "حاشيته على تفسير البيضاوي" (8/ 228)، بيروت دار صادر، دون تاريخ، والصبَّان؛ "حاشيته على شرح الأشموني" (4/ 35)، القاهرة دار إحياء الكتب العربية، دون تاريخ، والخضري؛ "حاشية الخضري" (2/ 127)، دار إحياء الكتب العربية، دون تاريخ.






[8] ابن هشام؛ "مغني اللبيب"، (1/ 266 - 267).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 31-10-2022, 09:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

المصدر المؤول

د. طه محمد الجندي




بحث في التركيب والدلالة (7)



العنصر السابع: (ما):
إنَّ نظرةً متأملة للتراكيب التي يرد فيها هذا العُنصر اللُّغويِّ، تُرينا أنَّه صالِح في لفظه؛ لأنْ يَحمل دَلالاتٍ متنوِّعةً؛ نتيجة لتنوُّع المعاني التي يَحتملها في التراكيبِ الواحِد؛ ولذا وجَدْنا الكثيرَ مِن نُحاتنا يقرُّون بصلاحيةِ هذا اللَّفْظ ليكونَ موصولاً، أو نكرةً موصوفة، أو حرفًا مَصدريًّا، كل هذا في التركيب الواحِد.


وقدْ وجدْنا على الجانبِ الآخَر مَن يُثبت لها معنى الموصوليَّة، ويَنفي عنها معنى المصدريَّة، محتجًّا لصحَّة دعواه بالطبيعة الدَّلاليَّة لها في التراكيب، فهذا الأخفشُ - فيما يَنقُله عنه ابنُ يعيش[1] - (يرى أن (ما) لا تكون إلاَّ اسمًا، فإنْ كانت معرفةً، فهي بمنـزلةِ الذي عندَه، والفِعل في صِلتها، وإن كانتْ نكرةً، فهي في تقديرِ شيءٍ، فالفِعل بعدَها صفة، وفي كلاَ الحالين لا بدَّ مِن عائدٍ يعود عندَه إليها، ومِن هذا المنطلق يُجيز أعجَبني ما صنعتَ، بتقدير (صنعته)، ولا يُجيزُ أعجبني ما قمت؛ لأنَّ الفِعل غير متعدٍّ، فلا يصحُّ تقديرُ ضمير فيه، ولا يجوزُ عنده أيضًا: أعجَبني ما ضربتُ زيدًا؛ لأنَّ الفعل قد استوفَى مفعوله، فلا يصحُّ تقديرُ ضمير مفعول آخَر فيه، وقد أيَّد الأخفشَ في دعواه هذه السهيليُّ، فألفَيناه يُنكر الإقرارَ بكونها مصدريةً، ولا تكون عندَه إلاَّ موصولةً، غير أنَّ الأخفشَ انطَلق في دعواه من مقدِّمات تركيبيَّة، تعود إلى وجوبِ عود ضمير إليها، أما السهيليُّ، فقدِ انطلق مِن مقدِّمات دلاليَّة ذاهبًا إلى أنَّها لا يجوز أن توجد إلا موصولةً؛ لأنَّه لا يعقل معناها إلا بالصِّلة، ولا يجوز أن توجدَ إلاَّ واقعة على جنس تتنوَّع منه أنواع؛ لأنَّها لا تَخلو مِن الإبهام أبدًا؛ ولذا كان في لفظها ألف آخِرة؛ لما في الألف مِن المدِّ والاتِّساع في هواء الفمِ مشاكَلةً لاتِّساع معناها في الأجناس[2].


ثم ردَّ على مَن زعَم مِن النحويِّين أن (ما) هي التي تكون مع الفِعل بمنـزلة (أن) معَ الفِعل بتأويل المصدر، فقال: "وليس كما ظنُّوه، ألاَ ترى أنَّك لا تقول: يُعجبني ما تجلِس كما تقول: يعجبني أن تجلِس، وأن تخرُج وأن تقعُد، ولا تقول في هذا كله (ما)، وعلَّل صحَّة مذهبه بما ذكَره من كون (ما) اسمًا مُبهمًا، لا تقَع إلاَّ على جنسٍ تختلفُ أنواعه، ومِن ثَمَّ فلا تقول: "يعجبني ما جلست/ وما انطلَق زيدٌ، فهذا غثٌّ مِن الكلام؛ لخروج (ما) فيه عنِ الإبهام، ووقوعها على ما لا يتنوَّع مِن المعاني[3].


وقدْ دفَعَه هذا الرأيُ إلى تفسيرِ التراكيب التي يُوحِي ظاهرُها بخصوصية الفِعل، لا عمومِه، فحاول ردَّه فيها إلى العموم، ففي قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا ﴾ [البقرة: 61]، يذكر أنَّ المعصيةَ تختلف أنواعها، ويقول: "فهو كقولك: لأعاقبنَّك بما ضربتَ زيدًا، وبما شتمْتَ عمرًا، أوقَعتهما على الذنب، والذنب مختلفُ الأنواع، ودلَّ ذِكر المعاقبة والمجازاة على ذلك، فكأنَّك قلتَ: لأَجزينَّك بالذنب الذي هو ضرْب زيد، أو شتْم عمرو، فـ(ما) على بابها غير خارِجة عن إبهامها"[4].


ولكي يفرَّ مِن جعْلها مصدريَّةً إذا اقتَرنَت بحرْف الجرِّ، ذهب إلى أنَّها كافَّة لهذا الحرْف مهيَّئة له للدخول على الفعل، ففي قولهم: "اجلس كما جلَس زيد، وصَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي، فقد ظنَّ أكثرُ الناس أنها بمعنى المصدر هنا، وقدْ تبيَّن فسادُ هذا المذهب؛ لأنَّ الفعل هذا خاصٌّ غير عام، ولكنَّها كافَّةٌ للخافضِ، مهيِّئة لكافِ التشبيه أن يقَعَ بعدَها الفِعل"[5].


وأودُّ قبل الردِّ على صاحبي هذا الرأي أنْ أعرِض للمُثبتين لـ(ما) معنى المصدريَّة، وهم جمهور النُّحاة وعلى رأسهم سيبويه - كما يَحكي صاحبُ الشرح المفصَّل[6] - فعنده يستوي قولنا: أعجَبني ما صنعتُ، بقولنا: أعجَبني أن قُمت، ولا تحتاج في مِثل هذا المثال إلى ضميرٍ يعود إليها؛ لأنَّها في تلك الحالة حرْف، والضمير لا يعودُ إلى حرْف في أرجحِ الأقوال، ويؤيِّد ابنُ يعيش هذا المذهب مستدلاًّ بقوله تعالى: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]، فيبيِّن أنَّها لو كانت: "اسمًا، لَلَزِمَ أنْ يكونَ في الجملة بعدها ضمير، ولا ضمير فيه، ولا يصحُّ تقدير ضمير؛ لأنَّ الفعل قدِ استوفى مفعوله"[7]، ثم يَعرِض للمواطن التي يكون العائدُ فيها ضمير نصْب متصلاً محذوفًا، فعنده أن (ما) في مِثل هذه التراكيب يُمكِن جعْلها موصولةً على تقدير حذْف العائد، ويُمكن جعْلها مصدريةً على اعتقاد عدَم وجود عائد، "فأنت تقول: أعجبني ما صنعتُ، وسرَّني ما لبستُ، ويكون ثَمَّ عائد على معنى صنعتُه ولبستُه، ولا يعود الضميرُ إلاَّ على اسمٍ، قيل: متى اعتقَدت عوْد الضمير إلى (ما) كانتِ اسمًا لا محالة، ومتى لَم تعتقدْ ذلك، فهي حرْف"[8].


إنَّ المرْتَكز الذي عوَّل عليه ابنُ يعيش - ونحن معه - في صحَّة دَعْواه، هو دليلٌ تركيبيٌّ مَحض، يتمثَّل في وجودِ ضميرٍ عائد على (ما) أو عدم وجودِه، فإنْ وُجِد الضميرُ العائد، فهي اسمٌ لا محالة، وإلاَّ فهي حرْف مصدريٌّ؛ ولذا ذَهب إلى القول بمصدريَّتها في قوله تعالى: ﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ [التوبة: 118]؛ لأنَّه ليس في صِلتها عائد، والفِعل لازم، ولا يتعدَّى، ولا يصحُّ إلحاق الضمير به[9]، كما أنَّها موصولةٌ في قولِه تعالى: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ [البقرة: 102]؛ وذلك لعودِ الضَّمير في (به) عليها[10].


ويجوز فيها الوجهانِ في قوله تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34].


يقول الزَّجَّاجُ في تأويلها: "تأويله - والله أعلم - بالشيءِ الذي يَحْفظ أمرَ الله، ودِين الله، ويَحتمل أن يكونَ على معنى بحِفظِ الله"[11].


فالزَّجَّاج قدْ أجاز فيها الوجهين؛ لاحتمالهما في تفسير البِنية التحتيَّة لها، فإنْ كانت موصولةً، فالبنية التحتيَّة لها هي بالشيءِ الذي يَحفَظ أمر الله، وإنْ كانت مصدريةً، فالبِنيةُ التحتية لها على معنى بحِفْظ الله.


أمَّا ردُّنا على الأخفش والسُّهيلي، فيعتمد على ضوابطَ دلاليَّة، وأخرى تركيبيَّة، أمَّا التفسير الدلالي، فقد ذَكَره ابنُ هشام عندَ تناوله لقوله تعالى: ﴿ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص: 25]، فيذكر أنَّ (ما) في الآية لا تكون بمعنى الذي - كما ذَكَر السُّهيليُّ؛ "لأن الذي سقاه لهم الغنم، إنما الأجْر على السقي الذي هو فعله، لا على الغنم، فإن ذهَبت تُقدِّر أجْر السَّقي الذي سَقيته لنا، فذلك تَكلُّف لا مُحوج إليه"[12]، ويعني ذلك القولُ بواضحِ العبارة أنَّ القول بجعْل (ما) موصولةً يُفضي؛ إمَّا إلى معنًى يُخالف المرادَ مِن الآية؛ إذ يذهب الأجرُ إلى الغَنَم، لا إلى السَّقي الذي هو فعَلَه، وإمَّا إلى تكلُّفٍ بعيدٍ لا حاجةَ في الآية إليه، ما دام يُمكن حمْلُها إلى المعنى القريب المُفاد مِن تفسير (ما) ومدخولها بالمَصْدر، والمعنى: ليَجزيَك أجْرَ السقي.


أمَّا الضابط التركيبي الذي يُمكن الردُّ به على السُّهيلي، فيتمثَّل في هذا القول مِن ابنِ القيِّم حين ذكَر أنَّه لا يُشترط في كونها مصدريَّةً ما ذُكِر من الإبهام، بل تقَع على المصدر الذي لا تَختلف أنواعُه، بل هو نوعٌ واحدٌ؛ "ولو أنَّك قلت في الموضع الذي منَعَه، هذا بما جلسْت وهذا بما نطقْت، كان حسنًا غير غثٍّ، ولا مستكْرَه، وهو المصدرُ بعينه، فلم يكُنِ الكلام غثًّا بخصوص المصدر، وإنَّما هو بخصوصِ التركيب"[13].


وهذا الردُّ يعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على طبيعةِ العنصر اللُّغوي الذي يَسبِق (ما)، فإذا كان هذا العنصرُ حرفَ جرٍّ، جاز وقوع (ما) المصدريَّة على الفِعل الذي تَختلف أنواعه، وعلى ما كان نوعًا واحدًا، أمَّا إذا كان هذا العنصرُ فعلاً يشكِّل مع (ما) ومدخولها علاقةً إسناديَّة يكون فيها المصدرُ المؤوَّل منها فاعلاً، فإنَّ الأمر مختلف؛ إذ يَتطلَّب ذلك نمطًا مِن الأفعال له سماتٌ خاصَّة به تميِّزه عن غيرِه مِن الأفعال الأخرى، واستدلَّ على أنَّ الغثاثة التي استشَعرها السهيليُّ لَم تكُن بخصوصِ تفسير (ما) بالمصدريَّة، بدليل أنَّنا لو أبدلنا (الذي) بـ(ما) في المواطِنِ التي استكرَهها، لاستشْعَرْنا الغثاثةَ نفسها: "وأنتَ لو قلتَ: يُعجِبني الذي يجلس، لكان غثًّا في المقال"[14].


ومِن ثَمَّ يُمكننا أن نَستنتجَ ضابطًا تركيبيًّا يقيِّد تواتر ورود (ما) مصدريَّة؛ سواء دخلتْ على فِعل متعدِّد الأنواع، أو كان دالاًّ على حدَثٍ واحد معيَّن، وهو أن يَسبقها عنصرٌ من العناصر الجارَّة، وتكون هي والفعل بعدَها عبارة عن حالةٍ مُسبّبة لِما قبلها، كما في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].


﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ [البقرة: 185].


﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [البقرة: 225]، ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 151].


ففي الآياتِ دخلَت (ما) على فِعل متنوِّع الدَّلالة مِثل كسْب القلوب، وعلى ما هو أُحادي الدَّلالة مِثل المعصية والإشراك بالله؛ يقول صاحب "الدر" في معرِض تناوله لقوله تعالى ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ ... ﴾: و(ما) يجوز فيها ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها أنَّها مصدرية؛ لتقابل المصدر وهو اللغو؛ أي: لا يُؤخَذوا باللغو، ولكنْ بالكسب[15]، كما رجَّح كونَها مصدريَّةً في الآية الثانية مفسِّرًا البنية التحتيَّة لها بقوله: "أي: على هدايته إيَّإكم"[16]، والأمْر نفسه كان مِن صاحب الكشَّاف[17].


أمَّا عندما تقَع (ما) في تركيب لُغوي، تؤوَّل فيه مع مدخولها بمصدر محقِّق للحدَث السابق عليها؛ أي: تشكِّل علاقةً إسناديَّةً تكون فيها في موقِع الفاعل، فإنَّ ثَمَّةَ ضوابطَ محدَّدةً ينبغي توفُّرها في كِلا الفعلين؛ السابق عليها: وهو الذي تُشكَّل معه العلاقة الإسناديَّة، والتالي لها الذي تُتأوَّل معه بالمصدر.


وعن هذا الذي تُتأوَّل معه بالمصدر، يجِب أن يكونَ مِن حقل الأفعال الدالَّة على عموم المصدر، لا خصوصه؛ أي: يكون مِن الأفعال المختلفة الأنواع - على حدِّ قول السُّهيليِّ - ذلك لأنَّ (ما) اسمٌ مُبهَم، فلا يصحُّ وقوعه إلاَّ على جِنس تختلف أنواعه"، فإنْ كان المصدر مختلفَ الأنواع، جاز أن تقَعَ عليه، ويُعبَّر بها عنه كقولك: يُعجبني ما صنعتَ، وما فعلتَ، وكذلك تقول: ما حكَمتَ؛ لأنَّ الحكم مختلفٌ أنواعه، وكذلك الصُّنع والفِعل والعمل، فإن قلت: يُعجبني ما جلَست، وما انطلق زيدٌ، كان غثًّا مِن الكلام؛ لخروج (ما) عنِ الإبهام، ووقوعها على ما لا يتنوَّع مِن المعاني[18].


ولتوضيح ذلك نقِف أمامَ المثالين اللَّذين ساقَهما:
يُعجِبني ما صنعتَ.
يُعجِبني ما جلستَ.


إذ يُلاحَظ لأوَّل وهلةٍ أنَّ الجملتين متوافقتان في البِنية السطحيَّة، وذلك من حيثُ عددُ العناصر المكوّنة لكلٍّ منهما، وترتيبها، بَيْد أنَّ الجملة الأولى جملة أُصوليَّة مقبولة معنًى ومبنًى، بينما الجملةُ الثانية جملةٌ غير أصوليَّة، وغير نحويَّة، ومردُّ ذلك إلى أنَّ الفعل الذي ركِّبت معه (ما)، وتأوَّل معها بالمصدرِ فِعل ذو سِمة دَلالية يختلف عن الفِعل في الجملة الأولى، مِن حيثُ صلاحيةُ الأوَّل للدَّلالة على معانٍ متنوِّعة تُناسب الإبهامَ الذي وُضِعت له (ما)، بخلافِ الفِعل في التركيب الثاني الذي هو مِن زُمرة الأفعال ذات الدَّلالة الخاصَّة الأُحاديَّة الجانب، لا المتنوِّعة المعاني، ومِن ثَمَّ يُمكننا أن نستنبطَ القاعدةَ التالية:
تقع (ما) المصدرية مع مدخولها في موقِع الفاعل إذا كان الفِعلُ الذي تتأوَّل معه بالمصدرِ مِن الأفعال ذات الدَّلالةِ المتنوِّعة التي تُضفي على التركيب نوعًا من الإبهام الذي يَتناسب مع الأصْل اللُّغوي لـ(ما) المصدريَّة.


فإذا اقتربْنا مِن زُمرة الأفعال التي تسبِق (ما) المصدريَّة المتبوِّئة لموقع الفاعل لتلك الأفعال، تَبدَّى لنا أنَّ تلك الأفعالَ لا توجد بصورةٍ عشوائيَّة، بل يَخضع وجودُها في هذا الموقع إلى ضوابطَ دَلاليَّة تميِّز نوعًا معينًا من الأفعال دون غيره؛ إذ يَتبيَّن أنَّ المجال الذي يميِّز هذا النوع مِن الأفعال، هو انتماؤها إلى حقلِ الأفعال الدالَّة على حالةٍ نفسيَّة انفعاليَّة كتلك التي تدلُّ على الغضب والحزن، والفرَح والإعجاب، والرِّضا والإساءة، وغيرها، وهي في ذلك تَشترك مع باقي العناصر المصدريَّة مِن أنَّ فِعلها يتميَّز بسِمة (+ حالة)، أمَّا الأفعال الدالَّة على سِمة (+ عمل)، فلا مجال لها هنا، ولتوضيحِ ذلك نحاول الاقترابَ مِن هذين المثالين:
يُغضبني ما فعَلَ الشُّرَطيُّ بالبَريء.
يَضرِبني ما فَعَل الشُّرَطيُّ بالبَريء.


فمع أنَّ ثمة توافُقًا بيْن الجملتين في البِنية السطحيَّة لهما، فإنَّنا نحكم لأوَّل وهلةٍ بأصوليَّة الجملة الأولى، وقَبولها مِن المستمع العربي، وعدَمِ أُصولية الجملة الثانية، ورَفْضِها من قِبل المستمع العربي؛ وما ذلك إلاَّ لأنَّ الفِعل في الجملة الثانية من زُمرة الأفعال التي تتَّسم بسِمة (+ عمل)، وهي مِن الأفعال التي لا تتَّفق دلاليًّا مع العناصر المصدريَّة التي تكون في موقِع الفاعل.


بقِي أن نُشير إلى ضابطٍ يتحتَّم توفُّره في كلِّ الأفعال التي تدخُل عليها (ما) وتتأوَّل معها بالمصدر، وهذا الضابط قد أوْجَبه نُحاتُنا القدامى، وقد سبَق أنْ أشرْنا إليه، وهو وجوبُ اتِّصالها بفِعل متصرِّف؛ "إذ الذي لا يتصرَّف لا مصدرَ له، حتى يُؤَّول الفِعلُ مع الحرْف به"[19]، ويغلبُ أنْ يكونَ ماضي اللفظ مثبتًا، ويقلُّ أن يكونَ مضارعًا، ونصَّ الرَّضيُّ على أنَّه لا يكون أمرًا باتِّفاق[20]، أمَّا اتِّصالها بالأسماء، فهو أمرٌ من الندرة بمكان، وقد مثَّل لذلك ابنُ يعيش بقوله: "يُعجبني ما أنت صانِع؛ أي: صنيعك"[21].


وأخيرًا فثَمَّة أمرٌ دَلالي يتعلَّق بـ(ما)، ذلك هو إمكانية تفسيرِ البِنية التحتيَّة لها مع مدخولها بمصدرٍ مضاف إلى الظَّرْف، وأطلَقوا عليها (ما) المصدريَّة الظرفيَّة، وسمَّاها ابنُ هشام بالمصدريَّة الزمنيَّة مُعلِّلاً ذلك بقوله: "ليشملَ نحو: ﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ﴾ [البقرة: 20]" فإنَّ الزمان المقدَّر هنا مخفوض، والمخفوض لا يُسمَّى ظرفًا[22]، والضابطُ التركيبي لها في هذا الاستعمالِ هو اتِّصالُها بالفِعل (دام) غالبًا في صورته الماضية، ومِن أمثلتها في الاستعمال القرآني: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾ [آل عمران: 75].


﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31].


﴿ لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ﴾ [المائدة: 24].


فالبِنيةُ التحتيَّة لها في هذه التراكيب وأمثالها، هي تفسيرُها بمصدرٍ مضاف إلى ظرْف، وهو مدَّة دوام، ثم حُذِف الظرف، وخلَفته (ما) وصِلتُها، هكذا ذكَر ابن هشام مُدلِّلاً على ذلك بالمصدرِ الصريح في قولك: جئتُك صلاةَ العصر، وأتيتُك قدومَ الحاج[23]، وواضحٌ أنَّ المصدر في التركيبيَينِ قد ناب عن الظرْف بعدَ حذْفه، والبِينة التحتيَّة لهما هي أتيتُك وقتَ صلاة العصر، ووقتَ قُدوم الحاجِّ.


وقدْ تقَع تاليةً لِفعل غير "دام" بشرْط أن تكونَ صِلتُها جملةً فِعليةً ماضيةً، وقدْ مثَّل لذلك الرضيُّ بقوله: "لا أفْعله ما ذرَّ شارق؛ أي: مُدَّة ما ذرّ؛ أي: مدة ذروره"[24]، ومِن أمثلة دخولها على غير دام قوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وقوله تعالى: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾ [هود: 88]، فالبِينةُ التحتيَّة لـ(ما) ومدخولها في الآيتَين هي تفسيرُه بمصدرٍ مضاف إلى الظرْف، والتقدير: مُدَّة استطاعتكم، ومدَّة استطاعتي، ثم دخَلَها تحويلٌ بحذْف الظرْف، وتغيير بِنية المصدر إلى الفِعل.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 31-10-2022, 09:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة



وواضحٌ مِن نصِّ ابن هشام السابِق أن (ما) المتصلة بـ(كل) في قولهم (كلَّما)، هي مِن هذا النَّوع؛ أي: هي (ما) المصدريَّة الزمانيَّة، تفسير بِنيتها التحتيَّة بمصدر مضاف إلى الظرْف، ففي قوله تعالى: ﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ﴾ [البقرة: 20] تفسَّر بـ"كل وقتِ إضاءة"، هكذا فسَّرها العُكبريُّ في قوله: "ما مَصدريَّة، والزَّمان محذوف؛ أي: كل وقتِ إضاءة"[25].


هذا كلُّ ما لديَّ مِن حديثٍ عن الوصفِ التركيبي للعناصِر المصدريَّة المؤوَّلة، وسوف أحاول فيما يَلي أنْ أُلقي الضوءَ على التفسير الدَّلالي لها، مبينًا سببَ التحويل إليها، والعُدول عن المصادرِ الصريحة التي كانتْ بِناها التحتيَّة تفسَّر بها، وذلك - بلا شك - يُؤكِّد وجودَ صِلة بينها، تلك الصِّلة هي التي جعلتْ علماءنا القُدامى يفسِّرون المصدر المؤوَّل بالصَّريح، والصريح بالمؤوَّل في إشارةٍ صريحة منهم إلى وجودِ نوْع مِن القرْبى بيْن التعبيرين؛ لذا كان مِن الحتم طرْح هذا التَّساؤل.


أيُّ النوعين أصلٌ للآخَر؟ وأيهما فرع؟ وبعبارةٍ أخرى: أيُّ النوعين يمثِّل البِنيَّة، النواة؟ وأيهما يمثِّل البِنية المحوَّلة؟
والإجابة على هذا التساؤل تَرتبط بمنهجي في هذا البَحْث، وقد سبَق أن نوَّهت بأنَّني اهتَديت فيه برافدين اثنين: أحدهما: منهج الإمام عبدالقاهر في وجوهِ الباب الواحِد ذاهبًا - رحمه الله - إلى أنَّه ما دامتِ اللُّغة قدِ اصطنعت صِيَغًا مُتعدِّدة في البابِ الواحِد، فلا بدَّ أن يكونَ هناك معنًى يُراد مِن هذه الصِّيغة، لا يَتوفَّر في تلك، هذا المعنى مُرتبط بشكلِ الصِّيغة، وما علينا إلاَّ الكشْف عن هذا المعنى، وربْطه بشكْله التعبيري الخاص به، فالهدفُ مِن الدِّراسات اللُّغويَّة هو المعنى "وربْطه بشكلِه التعبيري الخاص به"[26].


أمَّا الرافد الثاني، فقد كان نموذج النحو التحويليّ Transformational Grammar في تركيزِه على الصِّلات المتشابهة بيْن أشكال التعبير المتماثِلة، فإذا كنَّا نُلاحظ أنَّ ثَمَّة قرابة بيْن قولنا: أن تُذاكِر خيرٌ مِن أن تُهمل، وقولنا: المذاكرة خيرٌ مِن الإهمال، فإنَّ تفسير العلاقة بينهما هو دورُ نموذج النَّحو التحويلي، وهذا بخلافِ نموذج النحو الوصْفي Descriptive Grammar؛ إذ أقْصى ما يَستطيعُ هذا الأخير فعلَه هو تحليلُ كلِّ جُملة على حِدَة، دون أن يُشير ولو إشارةً عابرةً إلى أيَّة علاقة تَربط بينهما؛ ولذا فمِثل هذا النموذج قد يرَى أنَّ كِلتا الجملتين أصلٌ قائمٌ بذاته، والحق أنَّه "ليس مِن العلم أن يقِف الدرسُ الوصفيُّ المحض عندَ حدِّ وصْف الظاهِرة، كما هي دون أن يجِدَ تفسيرًا لها، ومِن هذا التفسيرِ البحثُ عن الأصْل"[27].


ومِن ثَمَّ، فسوف نستبعد احتمالَ كِلا التعبيرين أصلاً قائمًا برأسه، لما قدَّمناه مِن أنَّه يجب تقعيد الحدْس الذي يرَى وجودَ صِلة بيْن جُملتين، أو أكثر، ويَقودُنا ذلك بالضرورةِ إلى الحاجةِ إلى مفهوم التحويل، أو ما يُسمِّيه النحويُّون العرَبُ العدولَ عن الأصْل، وهذا المصطلح بخاصَّة أُولِع به النحويُّون إيْلاعًا شديدًا، وهو بلا شكٍّ يَتوافق مع القواعد التحويليَّة في النظرية التوليديَّة والتحويليَّة. Generative Transformational Theory


ولنَعُدْ إلى التساؤل مرةً ثانية: أيُّ التعبيرين أصلٌ للآخر؟ وأيهما محوَّل عن الأصل؟
وفي هذا الصَّدد أودُّ أن أُحدِّد فَهمي لمعنى الأصالة والفرعيَّة؛ إذ قد يَتبادر إلى الذِّهن أنَّني أعني أنَّ أحدهما تولَّد مِن الآخر تَولُّدَ الفرْع مِن أصله، ولا أجاوز وجهَ الحقيقة إذا قلت: إنَّ هذا المعنى لَم يَخطرْ لي على بالٍ، وما أُريده في هذا الصددِ ما عناه ابنُ القيِّم في قوله: "إنَّما هو باعتبارِ أنَّ أحدهما يتضمَّن الآخَر وزيادة، وقول سيبويه: إنَّ الفِعل أمثلةٌ أُخِذت من لفظِ أحداثِ الأسماء، هو بهذا الاعتبار لا أنَّ العرَب تكلَّموا بالأسماء أولاً، ثم اشتقُّوا منها الأفعال، فإنَّ التخاطُب بالأفعال ضروريٌّ كالتخاطُب بالأسماء، لا فرْقَ بينهما"[28].


وإذًا فالضابطُ الجوهريُّ لمفهوم الأصالة والفرعيَّة، هو ما يكون في الأصْل مِن معنى أوليٍّ بسيط، فيأتي الفرْعُ ليحمل ما في الأصْل مِن رصيد دَلاليٍّ، مضيفًا إليه شيئًا آخَر هو الغرضُ مِن الصوغ، أو لنَقُلْ: هو الغرضُ مِن التحويل إليه؛ ولذا فنحن نتَّفق مع السيوطيِّ في تعريفه للأصْل بأنَّه "الحروف الموضوعيَّة على المعنى وضعًا أوَّليًّا"[29]، ولا شكَّ أنَّه في حالتِنا هذه المصدرُ الصريح الذي هو موضوع - على حدِّ قول الرضيِّ[30] - ليدلَّ على ساذَج الحدَث، ويعني ذلك القولُ أنَّ كلَّ ما يحمله المصدرُ مِن رصيد دَلالي هو الدَّلالة على الحدَث المجرَّد، وقدْ ذكَر الرضيُّ أنَّ المراد من الحدث هو "معنًى قائمٌ بغيره؛ سواء صدَر عنه كالضرب، والمشْي، أو لَم يَصدر كالطول، والقِصر"[31].


أمَّا الفرْع المحوَّل عنِ الأصْل، فهو اللفظُ المأخوذ مِن هذا الأصْل، حاملاً معناه الدَّلالي مع زِيادة هي الغرَض مِن هذا التحويل، أو هو - كما يقول السيوطيُّ -: "لفظٌ يوجدُ فيه تلك الحروف، مع نوْع تغيير ينضمُّ إليه معنى زائِد عنِ الأصْل، والمثال على ذلك الضرْب مثلاً، فإنَّه اسم موضوع للحرَكة المعلومة المسمَّاة ضربًا، ولا يدلُّ لفظ الضرْب على أكثرَ مِن ذلك، فأمَّا ضرَب ويَضرِب، وضارب ومضروب، ففيها حروف الأصل، وهي الضادُّ والراء والباء، وزيادات لفظيَّة لزِم من مجموعهما الدَّلالة على معنى الضرْب، ومعنًى آخر"[32]، وإذًا فالمصدر الصريحُ الدالُّ على ساذَج الحدَث، أو مجرَّد الحدَث، هو الأصْل الذي تحوَّل منه المصدرُ المؤوَّل الذي هو في الأصْل جملةٌ تحوَّلت بتصدُّر أحدِ الأحرف المصدريَّة لها إلى التأويل بالمفرَد، والمراد بالتأويل هنا هو "تفسير مآل الشيءِ، وبيان عاقِبته التي يَصير إليها[33]، ونحن في ذلك متِّفقون مع المدرسةِ البصريَّة التي ترى أنَّ أصل المشتقَّات المصدر، ولهم أدلَّتُهم المذكورة في ذلك[34]، فهم يرَوْن أنَّ كلَّ فرْع يؤخَذ مِن الأصْل ويُصاغ منه، يَنبغي أنْ يكونَ فيه ما في الأصْل، مع زيادة هي الغرَض مِن الصوغ، والاشتقاق، وهكذا حال الفِعل فيه معنى المصدَر مع زيادةِ أحدِ الأزْمِنة التي هي الغرَض مِن وضْع الفِعل؛ لأنَّه كان يحصُل في نحو قولك: لزيد ضرْب مقصود نِسبة الضرب إلى زيد، ولكنَّهم طلَبوا بيان زمان الفِعل على وجهٍ أخْصرَ، فوضعوا الفِعل الدالَّ بجوهر حروفه على المصدر، وبوزنه على الزَّمان[35]، أمَّا لو كان المصدر مُشتقًّا من الفِعل، لدلَّ على ما في الفِعل من الحدَث والزَّمان، ومعنًى ثالِث، فلمَّا لَم يكُن المصدر كذلك، دلَّ على أنَّه ليس مشتقًّا من الفِعل[36]، ولا شكَّ أنَّ تلك النظرةَ منهم تتَّفق مع نظرتِنا للتراكيب التحويليَّة؛ لأنَّها من وجهةِ نظرنا تحمل معنًى دَلاليًّا إضافيًّا، جاءَ نتيجةً لخروج اللفظ عن معهودِ حاله.


وإذا كنَّا قدِ انتهينا إلى أنَّ المصدرَ الصريحَ هو الأصل الذي يتحوَّل عنه المصدر المؤوَّل؛ لِمَا يحمله مِن دَلالة أوَّليَّة على معنى الحدَث المجرَّد، أو ساذج الحدَث في قول الرضيِّ، فإنَّنا نتوقَّع أن يؤثر حتمًا بالتعبير في التراكيب التي يكون فيها التركيزُ منصبًّا على جانب الحدَث وحْدَه، تلك التراكيب التي يتوقَّف كلُّ ما فيها لبيان هذا المعنى، معنى الحدَث المجرَّد، يذكُر الرضيُّ: "أنَّ الناظر نظَر في المصدر إلى ماهية الحدَث، لا إلى ما قام به، فلم يطلبْ إذًا في نظرِه لا فاعلاً، ولا مفعولاً"[37]، وجاء في "بدائع الفوائد": "إذا قلت: يُعجبني صُنعُك، فالإعجاب هنا واقعٌ على نفْس الحدَث بقطْع النظَر عن زَمانه، ومكانه، وإذا قلت: يُعجِبني ما صنعتَ، فالإعجابُ واقعٌ على صُنعٍ ماضٍ، وكذلك ما تَصنع واقع على مستقبل"[38]، وللتأكُّد مِن صِدق ذلك، قمتُ باختبار عيِّنة عشوائيَّة مِن بعض التراكيب القرآنيَّة، جاءَ التعبير فيها بالمصدر صريحًا، مِن ذلك قوله تعالى:
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187].
﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ ﴾ [البقرة: 226].
﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 251].
﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [النساء: 155].
﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 82].


فمَن يتأمَّل تلك التراكيبَ ليرى السرَّ الدَّلالي مِن وراء التعبيرِ بالمصدر الصَّريح، يتبدَّى له أنَّ جانبَ الحدَث وحْدَه، وهو المعوَّل عليه فيها، ففي الآية الأولى أفاد التعبيرُ بالمصدر الصريح "الرفث" إبرازَ جانب الحدَث، إلى جانبِ ذلك أفاد عِلَّةً أخرى هي عدمُ الزجِّ بالفاعل في مقام يكون فيه التلميحُ خيرًا من التصريح، لو جاءَ التعبير بالمصدر المؤوَّل، فيكون أن تَرفثوا، والفعل هنا مبدوءٌ بتاء الخطاب التي هي أذهبُ في قوَّة الخطاب، فيدلُّ على التصريح المباشِر بفعل الرَّفث منسوبًا إلى المخاطبين في مقامٍ يكون فيه الزجُّ بالفاعل محلَّ استهجان، والتعبيرُ بالمصدر صريحًا نافٍ لذلك كلِّه.


والأمْر نفْسه في الآية الثانية؛ إذ إنَّ تربُّص المدَّة المقرَّرة هو المطلوب؛ ولذا انصبَّ التركيزُ على الحدَث مجرَّدًا، ولو عبَّر بالمؤول، لقال: إنْ يتربَّصوا بإعادة الضمير على المؤولين أو أن يتربَّصن بإعادةِ الضمير على النِّساء، وساعتئذٍ تنحلُّ الدَّلالة على الحدَث المجرَّد إلى الدَّلالةِ على الحدَث مع فاعلِه؛ سواء كان بواو الجماعة، أو بنونِ النِّسوة، وفي ذلك تقييدٌ لدَلالة التربُّص.


أمَّا التعبيرُ بالمصدر صريحًا، فيَجعل الأمْر على إطلاقِه، وأنَّ تربُّص تلك المدَّة يَنبغي أن يكونَ مِن الرِّجال وزوجاتهم على حدٍّ سواء، وفوق ذلك كلِّه فإنَّ التعبيرَ بالمصدر صريحًا قدْ أضْفَى على التركيب نوعًا مِن الإلزام، ولو عبَّر المصدرُ مؤوَّلاً، لكان الأمرُ على الإباحة، والأمر نفْسُه يُمكن أن نقوله في الآية الثالثة؛ إذ إنَّ دفْعَ اللهِ الناسَ إنما هو على إطلاقِه؛ أي: شاملاً الأزمنة كلَّها ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً، وتلك سُنَّة الله في خلْقه، ولو عبَّر بالمؤول، لكان نصًّا في الدلالة على زمنٍ بعينه، حسبَ نوع الفِعل المذكور، وهو خلافُ المراد مِن الآية التي جعَلتِ الدَّفْعَ على إطلاقه، دون التقيُّد بزمنٍ ما.


أمَّا في الآية الرابِعة، فيحتمل - والله أعلم - أن يكون المرادُ - مِن وراء التعبير بالمصدر صريحًا - هو إبراز جانبِ الحدَث (الكفر) مصحوبًا بعارضٍ مِن عوارضه، مِن مِثل شدَّتِهم وقسوتِهم في إيذاءِ الرَّسول وأصحابه، وعنادِهم وتكبُّرهم، وإذًا يكون كُفرُهم بتلك الكيفيَّة هو السببَ في طبْع الله على قلوبِهم، ولو عبَّر بالمؤول، لكان نفْسُ الحدَث هو المرادَ، دون احتمالِ تلك العوارض فيه، ويمكن أن نَذكُر العلَّةَ نفْسَها في آية النَّحل الأخيرة؛ إذ يكون المرادُ بالبلاغِ البلاغَ الذي تقوم به أنت، بما فيه مِن عدم كتْمان أمْرٍ مِن أوامر الله عنه، وتبليغك ما أنْزله إليك دون زيادةٍ على ذلك أو نقْص منه، وبما يُصاحِب ذلك كله مِن حِرْص على هِدايتهم، ثم تفويض أمْرك لله عندَ العَجز عن هدايتهم، فإنَّك لا تَهدي مَن أحببتَ، يؤيِّد ذلك وصفُ المصدر بقوله: المبين، ولو عبَّر بالمؤول هنا، لأدَّى إلى أنَّ المراد الحدَث نفسه، دون احتمالِ هذه العوارض فيه، وأيضًا امتناع وصْفه.


وخُلاصة مَقالتي في هذا الصَّدد:
أنَّ اللُّغة تُؤثِر التعبير بالمصدر صَريحًا عندَ إرادة التكثيف على جانبِ الحدَث مجردًا، مع احتمال عارِضٍ مِن عوارضِه، دون أن يُرادَ زمنه، أو فاعِله أو حتى توكيده، أو تمنِّيه كما سوف نرَى عندَ الحديث عن أغراضِ التحويل إلى المصدر المؤوَّل، وسوف نرَى أنَّها متنوِّعة نتيجةً لتنوع الحروف المصدريَّة، مع الأخْذ في الحُسبان أنَّ العنصرَ المصدريَّ الواحد قد يُفيد أكثرَ مِن وجهٍ دَلالي في التركيب الواحِد، مع أنَّنا سوف نعرِض لوجهٍ دَلالي واحد؛ وذلك نظرًا لضِيق مساحةِ البحْث ومحدوديته.


[1] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 142).

[2] السهيلي، "نتائج الفكر" (180).

[3] السابق، (186).

[4] السهيلي؛ "نتائج الفكر"، (186 - 187).

[5] السهيلي؛ "نتائج الفكر"، (186 - 187).

[6] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 142).

[7] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 142).

[8] السابق، (8/ 142 - 143).

[9] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 142 - 143).

[10] انظر: العكبري؛ "التبيان في إعراب القرآن"، (1/ 100).

[11] الزجاج؛ "معاني القرآن وإعرابه"، (2/ 47).

[12] ابن هشام؛ "مغني اللبيب"، (1/ 304).

[13] ابن قيِّم الجوزية؛ "بدائع الفوائد"، (1/ 157 - 158).

[14] السابق، (1/ 159).

[15] السمين الحلبي؛ الدر المصون، (2/ 550).

[16] السابق، (1/ 470).

[17] الزمخشري؛ الكشاف، (1/ 402)، (2/ 149 - 260 - 269).

[18] السهيلي؛ "نتائج الفكر"، (186).

[19] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 386).

[20] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 386).

[21] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 143).

[22] ابن هشام؛ "مغني اللبيب"، (1/ 305).

[23] ابن هشام؛ "مغني اللبيب"، (1/ 304).

[24] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 386).

[25] العكبري؛ "التبيان في إعراب القرآن"، (1/ 37).

[26] د. تمام حسان؛ "اللغة العربية معناها ومبناها" ص (9)، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، ط (2) 1979م.

[27] د. عبده الراجحي؛ "النحو العربي والدرس الحديث"، بحث في المنهج ص (144)، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1979م.

[28] ابن قيم الجوزية؛ "بدائع الفوائد"، (1/ 25 - 26).

[29] السيوطي؛ "الأشباه والنظائر"، (1/ 56).

[30] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 193).

[31] السابق، (2/ 191).

[32] السيوطي؛ "الأشباه والنظائر"، (1/ 56).

[33] علي النجدي ناصف؛ "مِن قضايا اللُّغة والنحو" ص (82)، القاهرة مكتبة نهضة مصر 1376هـ - 1957م.

[34] انظر: ابن الأنباري؛ "الإنصاف في مسائلِ الخلاف"، مسألة (28)، (1/ 235 - 245)؛ تحقيق محمَّد محيي الدِّين عبدالحميد، بيروت، دار الفِكر، دون تاريخ، انظر: د. محمود سليمان ياقوت؛ "قضايا التقدير النَّحْوي بيْن القدماء والمحدَثين"، ص (226 - 227) القاهرة، دار المعارف 1985م.

[35] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 192).

[36] أبو البركات الأنباري؛ "أسرار العربية"، ص (171 - 172).

[37] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 194).

[38] ابن قيِّم الجوزية؛ "بدائع الفوائد"، (2/ 156).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 31-10-2022, 09:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة

المصدر المؤول

د. طه محمد الجندي






بحث في التركيب والدلالة (8)














الأسرار الدَّلالية للتراكيب المحولة: كيفية التحويل:



تَقتضي الأمانة العلميَّة في البَدء، أن أنسِبَ الفضل لأهله، وأُرجِعَ الخير لذَويه، وفي هذا الصَّدد ينبغي أن أُقِرَّ بأن فكرة هذا البحث تعود إلى ما قرَأته للإمام السهيلي في كتابه "نتائج الفكر"، من إبراز الجوانب الدَّلالية للمصدر المؤول من "أن" المصدريَّة مع الفعل، التي كانت سببَ العدول عن المصدر الصريح، مع أنه أخصرُ - على حدِّ قول السهيلي[1].







وكانت تلك القراءة هي الشرارة التي دَفَعتني للمُضي في البحث؛ إذ إنها صادَفت اقتناعًا سابقًا في نفسي، بضرورة ربْط المعاني النحْويَّة بمَدلولات التراكيب المختلفة، وهذا - فيما أرى - أساسُ نظرية النَّظم التي نادى بها الإمام عبدالقاهر الجرجاني، إلى جانب فكرة العدول عن الأصْل التي عوَّل عليها النُّحاة في تفسيرهم لكثيرٍ من التراكيب اللغويَّة، فإذا أُضيف إلى ذلك فكرة التحويل في النظريَّة التوليديَّة والتحويليَّة التي ركَّزت على الصِّلات المُتشابهة بين أشكال التعبير المُتماثلة، فيكون ثمَّة دافعٌ قوي للمُضي في هذا البحث، وقد ذكَر السهيلي ثلاثة أسباب تراءَت له للتحويل إلى المصدر المؤول من (أن) والفعل، فإذا أضَفتَ إليها ما تراءَى لي من خلال تأمُّلي للنصوص، وما اسْتَنْتَجته من أقوال نُحاتنا القُدامى، تبدَّت لنا تلك الأسباب في الآتي:



السبب الأول:



أنَّ التعبير بالمصدر صريحًا يدلُّ على الحدث مُجرَّدًا، "وليس في صيغته ما يدلُّ على مُضيٍّ ولا استقبالٍ، فجاؤوا بلفظ الفعل المُشتق منه مع (أن)؛ ليَجتمع لهم الإخبار عن الحدث مع الدَّلالة على الزمان، ويَعني ذلك القول بواضح العبارة أنَّ التحويل من المصدر الصريح إلى المصدر المؤول، إنما كان ليُفيد - إلى جانب الحدَث - الدَّلالةَ على الزمان؛ إذ إن المصدر المؤول من (أن) والفعل، يتركَّب إلى جانب الحرف المصدري من فعلٍ، والفعل يَحمل في بنيته الدَّلالة على الزمان، ومن خلال الفعل نتبيَّن الدَّلالة على زمنه، وقد سبَق أن أشَرنا إلى أنَّ (أن) المصدريَّة تدخل على أنواع الفعل الثلاثة، فإن كان الفعل ماضيًا، دلَّ على أنَّ حدَثه قد أُنْجِز فيما مضَى، وإن كان مضارعًا أو أمْرًا، مَحَّضتْه للدَّلالة على المستقبل، ولنتأمَّل دخولها على المضارع في خبر (عسى) في قوله تعالى: ﴿ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ﴾ [المائدة: 52]".







فمن الواضح أنَّ هذا التركيب القرآني مكوَّن من الفعل (عسى) + اسمه (الله) + خبره (أن يأتي بالفتح)، وبأدنى تأمُّلٍ للخبر، نتبيَّن أنه مكوَّن من رُكنٍ إسنادي مُكوَّن من الأداة (أن) + مسند (يأتي) + مسند إليه هو الضمير المستتر (هو)، يُمكن تمثيله بالمشجر التالي:









هذا الرُّكن الإسنادي يُفسَّر في بِنيته التحتيَّة بالمفرد هكذا: عسى الله إتيانه بالفتح، وقد تَمَّ تحويلٌ إجباري من هذه البِنية الإفراديَّة إلى البِنيَة الإسناديَّة، وذلك بالطبع راجعٌ إلى النظام القاعدي في العربيَّة، الذي يَجعل خبرَ هذا الفعل وإخوته رُكنًا إسناديًّا مُكوَّنًا من فعلٍ مضارعٍ مع فاعله، أمَّا لماذا تَمَّ هذا التحويل الإجباري، فيُوضِّحه قول ابن الأنباري: "لَمَّا كانت "عسى" موضوعةً لمقاربة الاستقبال، و"أن" تُخلص الفعل للاستقبال، ألْزَموا الفعل الذي وُضِع لمقاربة الاستقبال (أن)، التي هي علَمُ الاستقبال"[2].







إنَّ السرَّ الدَّلالي من وراء التعبير بـ(أن) في الآية، هو تخليص الفعل للدَّلالة على المستقبل؛ حتى يكون بينها وبين (عسى) - التي وُضِعت لمقاربة المستقبل - اتِّفاقٌ في الهدف الدَّلالي؛ مما يدلُّ على أنَّ اختيار العناصر اللغويَّة لِما يُجاورها، لا يَرِد اعتباطًا أو عشوائيًّا، بل إن كلَّ عنصرٍ له هدفٌ دَلالي لا يقوم إلاَّ به، ودليل ذلك يُوضِّحه عبدالقاهر عندما عقَد موازنة بين: عسى زيد أن يَخرُج، وقارَب زيدٌ الخروجَ، فيقول: "يوضِّح ذلك أنَّك إذا قلتَ: قارب زيدٌ الخروجَ، لَم يكن في اللفظ دليلٌ على أنَّك تُريد خروجًا فيما يُستقبل، ألا ترى أنَّك لو قلتَ: قارَب زيدٌ أمس الخروجَ، كان جائزًا، فلو قلتَ على هذا: عسى زيدٌ الخروج، لَم تتَّضِح الدَّلالة على أنَّك تُقرِّب المستقبل"[3].







لكن كيف تَمَّ التحويل في مثال عبدالقاهر من المعنى التحتي إلى الملفوظ السطحي؟ لنوضِّح أولاً الأصل التحتي، وهو مركَّب من فعل (عسى) + اسم (زيد) + خبر (الخروج)، بالمشجر التالي:













وقد حدثت عدة عمليَّات تحويليَّة إجباريَّة، حتى انتهى إلى بِنْيَته السطحيَّة، هي:



1- إدخال مورفيم (أن) المصدريَّة؛ للدَّلالة على حدوث الفعل في المستقبل.







2- تحويل مورفولوجي بتغيير بِنْيَة المصدر إلى بِنية (يفعل)؛ حتى يتَّسِق مع النظام القاعدي للفعل (عسى) في اللسان العربي، الذي يَمنع الإخبار باسم الحدث الأُحادي الدَّلالة عن أفعال المقاربة، ومنها بالطبع (عسى).







فصار التركيب: عسى زيد أن يخرجَ، يُمكن تمثيله بالمشجر التالي:









وقد تَمَّ التحويل - كما ذكَرنا - ليتمَّ الاتِّفاق بين الفعل (عسى) الموضوع لمقاربة الاستقبال، و(أن) المصدريَّة التي هي علَمُ الاستقبال.







والأمر كذلك إذا شغَل المصدر المؤول وظيفةَ الفاعل في حال استعمال الفعل (عسى) تامًّا، يُشير إلى هذا قول الإمام عبدالقاهر: "اعلَم أنَّك إذا قلتَ: عسى أن يَخرج زيد، كان بمنـزله قولك: قَرُبَ أن يَخرج زيدٌ، لِما ذكَرنا من أنهم قصَدوا ألاَّ يتجرَّد اللفظ من علَمِ الاستقبال، ولَم يُحتَجْ هنا إلى خبرٍ، كما احْتِيجَ إلى ذلك في قولك: عسى زيد أن يخرجَ؛ وذلك أنَّ الغرض تقريبُ الخروج، لا تقريب زيدٍ"[4].







وإذًا؛ فالمعنى التحتي لقولنا: عسى أن يخرجَ زيدٌ، هو عسى خروج زيدٍ، يُمكن تمثيله بالمشجر التالي:













ثم تَمَّ التحويل تحويلاً إجباريًّا بنفس القاعدتين التحويليَّتين السابقتين، بإدخال العنصر المصدري (أن)؛ لئلاَّ يتجرَّد اللفظ من علَمِ الاستقبال، ثم بتحويل بِنْيَة المصدر إلى بِنْيَة (يفعل)؛ حتى يتَّسِق مع النظام القاعدي لفعل (عسى) في اللسان العربي.







ثم إنَّ السياق قد يُوجِب تحوُّلاً دَلاليًّا للفعل (عسى)، فتَجنح صوبَ الدَّلالة المُعجميَّة للفعل (كاد)، في إفراط تقريب الشيء من الحال؛ مما يَجعلها تَنِدُّ عن الدَّلالة في المستقبل إلى الدَّلالة الحاليَّة، فيأتي التركيب معها خاليًا من (أن) لهذا التحوُّل الدَّلالي الذي تَبوَّأته.







وقد نصَّ على ذلك النُّحاة؛ يذكر ذلك الأنباري، فيُبيِّن أن (كاد) من أفعال المقاربة، كما أن (عسى) كذلك: "ولهذا الشَّبه بينهما، جاز أن تُحمل عليها في حذف (أن) من خبرها"[5].







وإنَّما حُذِفت (أن) من خبر (كاد)؛ لأن (كاد) أبلغُ في تقريب الشيء من الحال، وعسى أذهبُ في الاستقبال، ألا ترى أنَّك لو قلت: كاد زيدٌ يذهب بعد عام، لَم يَجُز؛ لأن (كاد) تُوجِب أن يكون الفعل شديدَ القرب من الحال، ولو قلتَ: عسى الله أن يُدخلني الجنة، لكان جائزًا، وإن لَم يكن شديدَ القرب من الحال، فلمَّا كانت (كاد) أبلغَ في تقريب الشيء من الحال، حُذِف معها (أن) التي هي علَمُ الاستقبال[6].







وواضحٌ من النصِّ أنَّ الدَّلالة المُعجميَّة للفعل (كاد)؛ من حيث كونها قُصِد بها التقريبُ من الحال جدًّا، أبَتْ أن تقعَ (أن) في خبرها؛ حتى لا تتناقَضَ تلك الدَّلالة مع (أن) التي هي علمُ الاستقبال، وناسَب ذلك الفعل (عسى)، غير أنه لَمَّا انتقَلت الدَّلالة في (عسى) من المستقبل إلى التقريب من الحال أشدَّ تقريبٍ، لَم يَرِد في خبرها (أن)، ومثَّلوا بذلك بقول الشاعر:



عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتُ فِيهِ = يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ







ولا يَقتصر هذا المعنى الدَّلالي لـ(أن) المصدريَّة على الفعل (عسى) وحْده، بل إنَّ لها تلك الخاصية في كلِّ تركيبٍ اقتَرنت فيه بفعْلٍ من بِنْيَة (يفعل) المضارعة ونحوها؛ ولذا نَوَدُّ أن نسوقَ مثالاً آخرَ؛ حتى نتأكَّد من هذا المعنى الدَّلالي لـ(أن)، والمثال من القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23].







فقد ذكَر المفسِّرون أنَّ قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا ﴾ في محلِّ رفْع عطفًا على مرفوع (حُرِّمَتْ)، وفسَّروا بِنْيته التحتيَّة بقولهم: وحُرِّم عليكم الجمْع[7]، غير أنه لو جاء بالمصدر صريحًا، لأفضى ذلك إلى أنَّ الجمع بين الأختين مضافٌ إلى باقي المحرَّمات السالف ذِكرُها فيما مضى من الزمان، والأمر بخلاف ذلك؛ إذ إن الجمع بين الأختين لَم يكن مُحرَّمًا عندهم تحريمَ الأُمِّ والبنت، بدليل أنَّ بعض الصحابة كان جامعًا لأُختين قبل نـزول الآية، وفرَّق بينهما بعد نزولها.







وإذًا؛ فالسرُّ الدَّلالي من مَجيء المصدر مُؤَوَّلاً هنا، هو الدلالة على المستقبل، وأنَّ الحكم بذلك يكون فيما يُستقبَل، وهذا - فيما أرى - هو السرُّ الدلالي للتعبير بالمصدر المؤول.







وإذا كانت (أن) هنا دلَّت على الاستقبال تنصيصًا، فإنها قد تدلُّ عليه ضمنًا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28].







فالمعنى في الآية - فيما أرى - أنه قال ذلك ومُستمرٌّ عليه، ولعلَّ معنى الاستمرار هذا هو المقصود؛ إذ إنه يَشمل الزمن عمومًا؛ ماضيًا، وحاضرًا، ومستقبلاً، ومِن ثَمَّ تكون دَلالتها على الاستقبال ضمنًا، وقد تَمَّ التحويل بالقاعدتين أنفسهما اللتين سبَق ذِكرُهما، وهما:



قاعدة الزيادة للعنصر المصدري (أن)؛ للدَّلالة على الاستقبال.







قاعدة التحويل المورفولوجي بتغيير بِنْية المصدر (الجمْع) الأُحادي الدَّلالة، إلى بِنْية (يفعل) الدالة على الحدث والزمن معًا.







لكن ماذا عن اقتران (أن) ببنية (فعَل) الماضوية:



لا شكَّ أن الدَّلالة ستتحوَّل من بِنْية المصدر في التفسير التحتي للتركيب، وهي - كما نعلم - أُحادية الجانب، إلى معنًى ثنائي الدَّلالة، اكتسَب تلك الثنائيَّة من الفعل الماضي، الذي يدل ببِنْيته على الحدث والزمن معًا، والزمان هنا ماضٍ، وقد نصَّ على ذلك النُّحاة، ذاكرين أنَّ دَلالة (أن) مع مدخولها على الزمن، لا تَعدو اثنتين؛ إمَّا المستقبل في حال دخولها على بنية (يفعل) ونحوها، وإمَّا الماضي في حال دخولها على بِنْية (فعَل)، وأمَّا الحال، فقد تَكفَّل به عنصر مصدري آخر هو (ما)؛ شريطة أن تدخلَ على فعْلٍ من بِنْية (يفعل) المضارعة[8]، ولنتأمَّل التركيب القرآني التالي:



﴿ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾ [يوسف: 100].







والبِنْية العميقة للمصدر المؤول ﴿ مِنْ بَعْدِ أَنْ نـَزَغَ الشَّيْطَانُ ﴾، هي: (من بعد نزغِ الشيطان)، والنَّـزغ مصدر أُحادي الدَّلالة، لا يَشمل إلاَّ جانب الحدَث؛ ولأن التعبير القرآني آثَر الإتيان بالحدث مُقترنًا بزمنه الذي هو الماضي، فقد تَمَّ التحويل من المعنى العميق الأُحادي الدَّلالة إلى هذا الركن المُؤول؛ ليُفيد إلى جانب الحدَث زمنَه، ولأن زمان الحدَث قد أُنْجِز فعلاً؛ لذا جاء بمدخول الحرف المصدري (أن) فعلاً ماضيًا لهذا السبب، ولعله صار واضحًا أنَّ التحويل قد تَمَّ باتِّباع قاعدتين من قواعد التحويل، هما: قاعدة التحويل بالزيادة؛ حيث زِيدَ العنصر المصدري (أن)، وقاعدة التحويل المورفولوجي؛ بتحويل بِنْية المصدر إلى بِنْية الفعل الماضي للدَّلالة على الحدَث وزمنه.







وما دُمنا في سياق الحديث عن أنَّ بيان الزمن غرضٌ من أغراض التحويل، فإنه يَحسُن بنا في هذا الصَّدد، أن نُعرِّج صوبَ الحرف المصدري الذي تكفَّل مع مدخوله ببيان عنصر الزمن الحاضر، وهو (ما) المصدريَّة، نصَّ على ذلك نُحاتنا، ذاكرين أنَّ (ما) حال دخولها على الفعل المضارع، لا تُفيد إلاَّ الزمن الحاضر؛ يقول في حاشية شرح التصريح: "والغرَض أنه إذا كان الزمان حالاً، لا يكون (أن) حالة مع الفعل محلَّ المصدر، بل (ما)".







ولَم تأت (أن) هنا لما سبَق أن قُلناه عنها بأنها علمُ الاستقبال، "وهي إذا كان الزمان حاضرًا غير مُمكنة لمُنافاتها له، بخلاف (ما)، فإنها لا تُنافيه[9]، ولنتأمَّل التركيب التالي:



﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 61].



﴿ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [البقرة: 77].







وباقترابنا من التركيب المُحوَّل في الآيتين، نجده مُكوَّنًا من عمليَّة إسناديَّة مُحوَّلة من بِنْيَةٍ إفراديَّة عميقة، ويُمكن التمثيل لكلتا البنيتين في الآية الثانية بالمشجرين التاليين:



وهذا الملفوظ السطحي للعنصر المصدري المُؤوَّل، مُحوَّل من بِنْيَة إفراديَّة في المعنى العميق هي إسرارهم، يُمكن التمثيل لها بالمشجر التالي:



وبذا نتبيَّن أنَّ العمليَّة الإسناديَّة في المصدر المؤوَّل، لا تَعدو أن تكون صورةً من صور تحويل المفعول به من بِنْيَة إفراديَّة في المشجر الثاني، إلى بِنْية مركَّبة في المشجر الأوَّل الذي يُشير إلى البِنْية السطحية، ولَمَّا كانت البِنْية الإفرادية في المشجر الثاني الذي يُشير إلى المعنى العميق، أُحادِيَّة الدَّلالة، لا تدلُّ إلا على الحدث مجرَّدًا، وليس فيها ما يدلُّ على زمنه، تحوَّل التركيب إلى فعلٍ؛ ليدلَّ ببِنْيته على الحدَث وزمنه، ولأنَّ المعنى المراد من الآية الدلالة على الزمن الحاضر، كان الفعل المحوَّل من بنْية (يفعل) المضارعة، وكان الحرف المصدري (ما) الذي لا يُنافي دَلالة الحاضر، بخلاف (أن) التي تَصرف الفعل المضارع للاستقبال، وقد تَمَّ التحويل بقاعدتين من قواعد التحويل، هما:



الأولى: قاعدة الزيادة؛ حيث زِيدَ الحرف المصدري (ما) الذي يَصلح للدُّلالة على الحاضر.







الثانية: قاعدة مورفولوجيَّة: بتحويل بِنْية المصدر إلى بِنية الفعل المضارع؛ لتَناسُب الدَّلالة الزمنيَّة مع الحرف المصدري.







وقد سبَق أن أشَرتُ إلى أنَّ دلالة (ما) على الحاضر، مشروطة بكون مدخولها فعْلاً من بِنْية (يفعل) المضارعة، فإن كان مدخولها فعْلاً من بنية (فعل) الماضويَّة، فلا شكَّ أنَّ الدَّلالة المُفادة فيها ستكون بنية مركَّبة من عنصر الحدَث مُقترنًا بزمنٍ أُنْجِز ومضى، وقد نصَّ على ذلك نُحاتنا القُدامى، ذاكرين أنَّ اختلاف أبنِيَة الفعل بعد ما اشْتُقَّ من المصدر، لَم تكن إلاَّ لاختلاف أحوال أبْنِية الحدَث من مُضيٍّ واستقبال[10].







ولنتأمَّل التركيب التالي: "ما أحسن ما فعلتَ"، فالتركيب المحوَّل في المثال مكوَّنٌ من عملية إسناديَّة محوَّلة بدورها من معنًى إفرادي عميق، هو: ما أحسن فعْلك، يُمكن التمثيل له بالمشجر التالي:



وقد تَمَّ التحويل إلى هذا الركن الإسنادي؛ لِما ذكَرنا من أنَّ المتكلم أراد التعجُّب من حدَثٍ أُنْجِز فعْله، ومضى بدلاً من المصدر الدالِّ على الحدَث وحْده، ولسنا في حاجة إلى التذكير بكيفيَّة التحويل التي جرَت على هذا الملفوظ التركيبي؛ إذ تَمَّ بالقاعدتين نفسيهما التي سبَق ذِكرُهما.







[1] السهيلي؛ نتائج الفكر، ص (126)، وانظر: ابن قيِّم الجوزيَّة؛ "بدائع الفوائد"، (1 / 101 - 102).




[2] أبو البركات الأنباري؛ أسرار العربية، ص (127).




[3] الجرجاني؛ كتاب المُقتصد في شرح الإيضاح، (1/ 356 - 357).




[4] السابق، (1/ 357).




[5] الأنباري؛ أسرار العربية، (128).




[6] السابق، (129).




[7] الزجاج؛ معاني القرآن وإعرابه، (2/ 35)، انظر: الزمخشري؛ الكشاف، (1/ 496).




[8] راجع: الشيخ خالد الأزهري؛ شرح التصريح (2/ 62).




[9] حاشية شرح التصريح، (2/ 62).




[10] السهيلي؛ نتائج الفكر، (434).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 242.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 236.20 كيلو بايت... تم توفير 5.90 كيلو بايت...بمعدل (2.44%)]