رويداً..صواحب يوسف - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الكبائر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 35 - عددالزوار : 2748 )           »          الصراع مع اليهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 38 )           »          الوقـف الإســلامي ودوره في الإصلاح والتغيير العهد الزنكي والأيوبي نموذجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          أفكار للتربية السليمة للطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          لزوم جماعة المسلمين يديم الأمن والاستقرار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          منهجُ السَّلَف الصالح منهجٌ مُستمرٌّ لا يتقيَّدُ بزمَانٍ ولا ينحصِرُ بمكانٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 38 - عددالزوار : 1203 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 16932 )           »          حوارات الآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 17 )           »          الخواطر (الظن الكاذب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الأسرة المسلمة > ملتقى الأخت المسلمة

ملتقى الأخت المسلمة كل ما يختص بالاخت المسلمة من امور الحياة والدين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-09-2020, 04:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,026
الدولة : Egypt
افتراضي رويداً..صواحب يوسف

رويداً..صواحب يوسف
محمود محمد الزاهد



إياك أعني أيتها المرأة المسلمة، وإليكن أسوق كلماتي أيتها الأخوات المؤمنات من أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا الفاضلات، وأخص منكن القائمات على ثغر البيوت، الحارسات لحمى الإسلام من الداخل، المؤتمنات على براعم الإسلام وشبيبته القادمين.
أختي المسلمة.. لقد وقفت لكِ في هذه السطور موقف المربي الناصح والطبيب الزاجر، فلا يصدنك قسوة عباراتي ولا غلظة قولي عن أن تستجيبي لنداء الهداية بعد أن حصحص الحق ولاح فجره، وتقهقر الباطل وبدا عوره وعُجَرُه، فما بالك أعرضت عن صفاء الإيمان ونور الاستقامة إلى هوينات الطريق ولعاعة الفانية ورضيت بالدنية بعد أن أبصرت منارات الدين.

ولعلي من فرط غفلتكِ أجدني مضطراً لأرسل قوارع الكلمات، ومطارق العبارات عسى أن تستفيقي من سباتك وتنهضي من رقدتك، ولكنكِ إذا اطلعت على حسن قصدي وشدة حرصي وشفقتي؛ لاستحسنت قولي وانتفعت بنصحي، فإني ما رمت بهذه الأسطر إلا صلاحك وفلاحك، وما أغلظت بها إلا من لظى همي وفرط إشفاقي لتقوم مقام الزجر لك ولصويحباتك وتنبيهكن قبل فوات الأوان.
فإني والله قد هالني ما آل به حال كثير من نسائنا؛ من تفريطهن شيئا فشيئا في تمسكهن بالدين، وحرصهن على العمل بتعاليم الوحيين كتابا وسنة، وانكفائهن على تحصيل مهمات الدنيا، والنيل من حظوظها، وما نتج عن ذلك من فساد في البيوت وخيبة أمل في النشء، ومما زاد البلية أني قد وجدت كثيرا منكن قد شمرت عن ساعد الجدل، ولفقت من نتف الأقوال والحجج ما صنعت منه شعارات ولافتات تزين بها باطلها، وتروج بها لطريقتها، وتخدع بها أهل الغفلة من أهلها وصويحباتها ومن في محيط أسرتها، فصارت داعية لطريقتها، متبوعة في فتنتها...
فهذا مما أثار همتي وأشعل نيران غيرتي وعزيمتي فنهضت للكشف عن فساد هذه المسالك وبيان سوء منقلب أهلها، وأنبه به الغافلات اللاتي انجررن وراء زخرف من القول غرورا دون وعي أو تحرٍ أو قليل تبصر، وألخص نصيحتي في الأسطر التالية في ذكر بعض مظاهر التفريط ونماذج من الانحرافات.

* المفرطة في حجابها
أَعْلَمُ أنك أنتِ المرأة المسلمة التي استبدلت التبرج بالحجاب ورضيت بالستر عن التكشف والعري، ولكنك أنتِ -وقد طال بك الأمد- لست كما كنت أول الطريق، فقد أدخلت على حجابك أشياء غريبة وزينة عجيبة يحار فيها البصر، تلك الزينة التي من شأنها أن تبرز مفاتنك وتجذب الأنظار إليك.
أعرفْ أنك ستردين بجواب جاهز وكلمات سريعة منمقة، تدور حول الحجاب في الإسلام وأنْ ليس ثَمَّ صفة واحدة ولا زي موحد، وعليه فلا نحجر على النساء حريتهن في اختيار الجميل من الثياب وأن ترتدي الفاخر منها والبهي في مظهره من الأشكال والألوان التي تساعد على الابتهاج وتطرح عنها الكآبة والملل..
وهذا جواب منك سريع تهاجمين به كل منكر عليك، ولكنك نسيت أول ما نسيت أن الحجاب الذي أمرت به قد جاء مُعَبَّرا عنه بالأمر بعدم إبداء الزينة (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو.. ) قاطعاً في ذلك الطرق على كل ما استحدث من طرق التزين، ولم يقتصر الأمر على هذا فحسب؛ بل قطع الطرق أيضا على وسائل جذب الأنظار ولفت الانتباه للمرأة؛ فمنعها من التعطر خارج بيتها، وأذن لها بإرخاء جلبابها حرزا لها من الانكشاف حين تخطو بقدميها، وحبب إليها القرار في البيوت، ونهاها عن الخلوة بالرجال والخضوع بالقول خشية أن يطمع الذي في قلبه مرض، كما صانها عن التزين والتكشف إلا أمام ذوي المحارم لها.
فأين ذلك من هذه الصور العجيبة التي طرأت على حجابك من هذا الثوب المطرز وتلك العباءة المزركشة وهذه الأعاجيب التي فوق رأسك وتلك الأكمام الواسعة حول يديك والتي يبدو منها سوارك وشيئا من كفيك وساعديك، أما جسدك فهو مع ذلك الحجاب لم يستتر كلية إذ أن عباءتك ذات الأكمام الملتفة حول ذراعيك لا تخفي تفاصيل بدنك -وإن زعمت ذلك- حيث أنك لا ترخين على بدنك شيئا من خمار رأسك بحيث يستر ولا يفصل ما خفي منك، والله - عز وجل - يقول: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
كثير منكن أصبحت لا تجد غضاضة في لبس الحلي في حال كونها خارج بيتها وأمام غير محارمها، والبعض لا يبالين بانكشاف ظهور أقدامهن، وأخريات لا يتوقين الكشف عن أعينهن وهي مملوءة بالأصباغ والزينة التي تستميل الناظرين، بعد أن وضعن سترة صغيرة للوجه الذي يبدو طرفا منه كلما تلفتت يمنة ويسرة، فإن كان هذا نقابا فهو أليق بمن سترت وجهها أن تكون أشد سترا لجسدها فلا تلبس الضيق من الثياب الذي يحدد خصرها وما ارتفع من أنحاء جسدها، ولا تلبس الخفيف الذي يشف ولا ترتدي الملفت للأنظار.
لقد تعجبت حقيقة من هذه العباءة اللامعة والمرصعة بالمباهج والبريق، فهي لا علاقة لها بالستر والحجاب، فما كل تلك الفصوص الملونة والتطاريز المزركشة البادية للناظرين، وربما أدخلت عليها بعض التغييرات؛ فهاكم عباءة لها فتحتان جانبيتان يبدو منها بنطال المرأة الذي ترتديه تحتها، وتلك أخرى من قماش رقيق يفصل ولا يستر، كل هذه الصور في حقيقتها هي للزينة أقرب منها للحجاب الذي مقصوده إخفاء الزينة، فهي تفتن أكثر مما تستر، وتفسح المجال للشيطان ليستخدمك في الإغواء.
عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: (( المَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ))[1]
ومما يناسب مقام النصيحة أن أنقل لك ما سطره الإمام الذهبي في كتابه الكبائر:
" وَمن الْأَفْعَال الَّتِي تلعن عَلَيْهَا الْمَرْأَة إِظْهَار الزِّينَة وَالذَّهَب واللؤلؤ من تَحت النقاب وتطيبها بالمسك والعنبر وَالطّيب إِذا خرجت، ولبسها الصباغات والأزر وَالْحَرِير والأقبية الْقصار مَعَ تَطْوِيل الثَّوْب وتوسعة الأكمام وتطويلها إِلَى غير ذَلِك إِذا خرجت، وكل ذَلِك من التبرج الَّذِي يمقت الله عَلَيْهِ ويمقت فَاعله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهَذِه الْأَفْعَال الَّتِي قد غلبت على أَكثر النِّسَاء قَالَ عَنْهُن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: (اطَّلَعت على النَّار فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا النِّسَاء)، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: (مَا تركت بعدِي فتْنَة هِيَ أضر على الرِّجَال من النِّسَاء)، فنسأل الله أَن يَقِينا فتنتهن وَأَن يصلحهن وإيانا بمنه وَكَرمه"
وأخيراً بعدما آلمني كل ما أصاب حجابك وعكر صفاءه ونقاءه، فقد أردت أن أهمس في أذنيك همسا لعله يلقى منك قبولا، ذلك أن الله خلق المرأة بهذه الطبيعة التي تناسب دورها ووظيفتها في الحياة، وجعل لها شهوة ورغبة كما أن للرجل ذلك، وشهوة المرأة تكون في إحساسها باهتمام الرجال بها والتفاتهم إليها وانجذابهم لحسنها وجمالها ومظهرها، وقد جاء الإسلام بمراعاة هذه الطبيعة في المرأة غير أنه قصر ذلك على بيتها وزوجها ورضي لها العفة والطهارة والنقاء وحفظ للأسرة كيانها وللمجتمع بريقه الصافي، والآن بعد هذا البيان أسألك ولا أريد منك جواباً: هل أنت ممن تتصنع في لباسها استجابة لشهوتها في الإغراء والإغواء!؟ أم أنت ممن اتبعت خطوات الشيطان وتزيينه وصارت ترى الحق باطلا والباطل حقا، أم تكوني وأربأ بك عن كل هذا- ممن لم تقف عند حدود الله في اقتصار المرأة على إظهار مفاتنها وإبداء زينتها في بيتها وأمام زوجها!؟ وإن لم يكن ذلك كذلك فلم ولمن تتزينين خارج بيتك وتتفننين في إظهار جمالك ورشاقتك وحيويتك!؟ أريد منك مصارحة نفسك والوقوف على الدوافع التي بداخلك، وأن تتغلبي على الحيل التي تمارسيها لإخلاء ساحتك والرد على منتقديك، وأن تتوقفي عن عرض آرائك الجريئة في صورة ثقافة جديدة عن الحجاب والستر ما أنزل الله بها من سلطان، فليس كل ما يروج على أهل الدنيا يروج عند الله، والله -عز وجل- هو أعلم بك منك ولا تنفع عنده الحيل ولا تخدعه أفانين البشر وألاعيبهم.

* المفرطة في حجاب بناتها
وأنت أيتها المرأة المحجبة، يا ذات اللباس السابغ والثوب الفضفاض، ما الذي أصابك وذهب برشدك!، وهذه ابنتك الشابة قد ترعرعت أمام ناظريك وصارت فتاة يافعة ثم هي تسير بجوارك دونما حجاب يستر، ألا تستحيين من الله وأنت التي أذنت لها بذلك، ألا تخشين عليها الافتتان بالدنيا فتهوي بها وبك إلى النار.
وإن زعمت أنك تحاولين إقناعها بالحجاب وهي تأبى عليك، فتلك طامة أخرى، أليست هذه ثمرة تربيتك وترجمة فلسفتك أيتها الخبيرة الماهرة، ألم تزرعي فيها حب المتعة الدنيوية والحرص على الملذات، وما تلكم الكلمات التي كنت تدندنين بها على مسامعها وهي ما تزال في الصغر "استمتعي بشبابك، لا تعقدي نفسك الآن، أنت لا تزالين صغيرة،.. " لقد ظلت هذه العبارات ترن في أذنيها تكريسا وتمكينا لحب الدنيا في قلبها، وتزيينا للتبرج والرغبة في إبداء الزينة، وتصويراً للحجاب على أنه كبت وعائق يعوض عن الاستمتاع بالحياة، فإن أبت اليوم الاستجابة لارتداء الحجاب الوافر وعارضت ذلك فاعلمي أنك أنتِ المسئول الأول عن كل هذا، ولن ينجيك من هذه التبعة تلك المحاولات الضعيفة القاصرة في أمرها بالحجاب وحثها عليه، حيث أن خداعا للنفس أن يأمر المرء بشيء ثم يبذل كل الأسباب التي تحول ضد هذا الشيء.
وإن قلت أنها لا ترتدي حجاباً كاملاً، لكن يكفيها أنها تغطي شعرها وتخفي سيقانها بهذا البنطال أو ذلك الفستان الطويل، فأقول لك ولم لا تفعلي مثلها!! وتتركي أنت حجابك الذي عرفتيه يوم لم تكن الدنيا تربعت في قلبك واستقرت، فإن هالَكِ هذا الأمر فلمَ ترضين لابنتك ما تَرينَ شناعته في حقك!!
وإن قلت: إن أباها أعمق مني نظراً وهو يراها ويعجبه منظرها هكذا، وربما سيلزمها بما هو أكثر من ذلك عند دخولها الجامعة أو على مشارف الزواج، فيسعني الانتظار قليلا ولا أستعجل الأمور وأعطي البنت فرصة للاستمتاع كما تفعل الأخريات من بنات سنها ما دامت في النهاية سيؤول أمرها إلى الحجاب، فالجواب على كل هذا هو قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6]
أتخشين على جسدك لفح النار ولا تخشينه على بنيتك، ثم إن مصيبة زوجك أنه أسلم عقله لك ولم ينهض إيمان قلبه على أن يثور على هناتك يوم كنت تكررين على مسامعه المرة تلو المرة "البنت ما زالت صغيرة، معاملة البنات ليس كمعاملة الأبناء فلا تقسو عليها، دعها لي فأنا أدرى بها.. " هكذا ظلت كلماتك تقوم بعملية التمرير للانحراف داخل البيت شيئا فشيئا حتى تقبل ما لم يكن يقبله من قبل، بل ربما لم يكن يتصوره، وهذا بالطبع لا يخلي مسئوليته لكنه يفسر دورك أنت في الإغواء.
وربما أرجع بالذاكرة معك قليلاً إلى الوراء في مقتبل حياتك وبداية هدايتك، يوم اشتعلت جذوة الإيمان في قلبك وأنارت لك طريق الحق، يومها كنتِ أحرص على الخير منك الآن، وكان حجابك السابغ هو قرة عينك وعيون المؤمنين أيضاً معك، وكان حجم الدنيا قليل هزيل في قلبك، حينها كنت تقفين قوية شامخة أمام معترضيك لا يوهن قلبك سخريتهم ولا يفت في عضدك مخالفتهم، قد جرت الحجة على لسانك تجادلين بالحق وتدفعين الشبهات وتدلين على الخير، حتى والديك حينما اعترضا على هندامك ولم يرقهم ما طرأ على سلوكك فإذا بك قد فاجأتيهم القول: هذا أرضى لربي.
ألا ترين أنك أنت الآن لست كما أنت بالأمس، وإني لألحظ ضعفا دب في دينك ووهنا استحكم على نفسك، ولكنك تغلفينه بشيء من الرأي المصاحب لهوى استقر وتربع في حياتك الجديدة.
إني لأجدك -وأتمنى ألا تكوني كذلك- تلبين رغبة في داخلك وتسعين لتحقيقها في ابنتك، فتوفرين لها فرصة لم تسنح لك في شبابك ومقتبل عمرك، وربما كانت سانحة لكن دينك وقتها كان يمنعك، ستقول بعضكن: كنت معقدة للأمور وكان لدي أخطاء في الفهم والآن وجدت الدين أسهل مما كنت أفعل والأمور أقل تعقيداً.
واعجباً أو يسمى القوة في الدين تعقيداً، والعزة بالحق سوء فهم!! وماذا أفادتك بصيرتك أيها المستبصرة بالهوى!؟ أفادتك التقصير في تربية أولادك وحجاب ابنتك والعناية الإيمانية ببيتك، إن نظرة نقد ومراجعة صادقة تكفى لفساد طريقتك وقبح مآل آرائك وأفعالك، فزاوية انحرافك قد اتسعت ومنحنى نجاتك قد هبط، وكادت سفينة أسرتك أن تغرق في لجج الدنيا ومعترك الهوى، إلا أن تفيقي الآن وتنفضي عنك دثار الغفلة وتزيلي أحجبة القسوة الجاثمة على قلبك وأستار الغشاوة التي على ناظريك، لتبصري الحياة الأخروية وتحلقي إليها غير مكترثة بلعاعة الدنيا وزخرفها.

* المفرطة في تربية أبنائها
لقد أفزع الغرب تلك الأرقام والإحصائيات التي تعني اضطراد التوسع الديمغرافي للإسلام في الشرق والغرب، فهي تثبت أن المسلمين قادرون على زيادة أعدادهم بدرجة تفوق غيرهم أضعاف المرات، مما يجعل التوقعات تميل نحو تحولات سياسية واجتماعية ودينية في تراكيب الشعوب والأمم، لذا فهو يراهن اليوم على ذلك النشء الصاعد ومدى قدرتنا على إخراج أجيال من الشباب تجدد محاولات إحياء الأمة من جديد، ويتآمر بكل ما أوتي من قوة لإيقاف عجلة التربية والتثقيف وإفراغ الروح الإسلامية من القوالب الشبابية الناشئة.
بهذه الطريقة يفكر أعداؤنا في الغرب والشرق ويتآمرون، فأين أنتِ من كل هذا؟
هل أنت فعلا تربين قادة وتخرجين نماذج صالحة تنتفع بها الأمة، أم أن أحلامك تضاءلت في بعض المواقع الدنيوية التي ترينها أفضل ما تكون لولدك، إن الإسلام أحرص ما يكون على هذا النشء وإخراجه في أحسن صور التمسك بالوحيين، وأنت بالرغم من ذلك تبددين الجهد وتفرقين الطاقة ببعثرة ذخر الأمة من أبناءها هكذا دون توجيه أو تخطيط.
وإني لأرى بيوت المسلمين قد أفرغت من الأهداف الجادة والتربية الحقيقية، وراحت الأم ترسم صورة جديدة لمستقبل ابنها المرتقب وبنتها التي شارفت البلوغ، ومن ثم أخذت تحث الخطى لاكتمال هذه الصورة في أرض الواقع، تُرى ما الصورة التي ارتسمتها لابنها الصاعد؟ أن يكون داعية فذا مثلا أو بحاثة متقن أو رائدا في موقع تنتفع به الأمة، أو يكون جنديا من جنود الحق الذين يذودون عن الحياض ويحرسون البلاد، والمفاجأة أن تنتفي كل هذه الصور وتظهر صور أخرى تسيطر على فكر ومشاعر الأم، إنها تخال ابنها الشاب في صورة طبيب لامع أو إعلامي مشهور أو لاعب كرة متألق، وتحلم به وهي تعد له منزلا فاخرا وتختار له عروسا من أسرة ثرية، وتستقل معه سيارته الفارهة، وهكذا توقفت أحلام الأم عند هذا الحد الدنيوي البحت، وفقدت كل معاني التحليق لآفاق الدعوة والبذل والنصرة، بينما تغذي الأمهات الجادات أبناءها بنصيبهم من هدي الكتاب والسنة وتدعمهم بسير الصالحين والمتقين، وتعدهم ليوم التضحية والبذل، وتصبر وتصابر من أجل تحقيق رسالتها ونصرة قضية الإسلام لتكون كلمة الله هي العليا، كل ذلك غير مكترثة بوضعها المادي ومرتبتها الاجتماعية وحظها الدنيوي؛ فكل ذلك مقدر في الأزل ولن يستطيع الإنسان الزيادة على هذا المقدور ولا النقصان منه بحال.
فالتربية الإسلامية منهجاً متكاملاً شاملاً يراعي جوانب النفس الإنسانية كلها، ويوظف الطاقات للقيام بالدور التربوي المطلوب، فهي تشمل التربية النفسية السلوكية والتربية العقلية والتربية الإيمانية، ولكي يقوم الآباء بدورهم التربوي الجاد لا بد لهم من استعداد وتعليم وتدريب من جهة، وإرادة وعزيمة وإصرار من جهة أخرى، وشتان شتان بين من يربي ولده وهو يسير وفق منهج تربوي وخطوات جادة نحو إخراج جيل مسلم واعي، وبين من يتخبط هنا وهناك لا يدري أهدافه ولا يعرف مراحله ولا يصحح قصده.
قال - تعالى -: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)

* المسرفة في حق نفسها
إليكِ أيتها الشاردة التي ازينت الدنيا في ناظريك فصارت هي المعيار الذي به يقاس الناس وبموازينها يُوزَنُون، وعلى أعرافها الغاشمة تجرى المعاملات وتمنح الصفقات وعليها مدار الأخذ والعطاء والمحبة والبغضاء، وبمعاييرها يُقَيَّمُ الناس وتعقد الأنكحة ويوثق الرجال ويُوَسَّمُ الشرفاء.
فما أجمل أن أذكرك في هذا المقام بما روي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: (( مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا)) متفق عليه.
فالأمور إذا ليست على ما يبدو من ظاهرها، فرب معظم في أعين الناس موزون بالمثاقيل العظام لا يزن عند الله أدنى مثقال.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)) متفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين: " وفي هذا الحديث التحذير من كون الإنسان لا يهتم إلا بنفسه أي بتنعيم جسده، والذي ينبغي للعاقل أن يهتم بتنعيم قلبه، ونعيم قلب الإنسان بالفطرة وهي التزام دين الله - عز وجل -، وإذا نعم القلب نعم البدن ولا عكس". شرح رياض الصالحين
ولا تنس أن العبرة بالشرف والنعيم الذي يحظى به العبد في دار البقاء لا الدار الفانية، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ اللَّهَ - عز وجل- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ)) أخرجه أبو داود وأحمد وحسنه الألباني والأرناؤوط

* اللاهثة لاستيفاء حظها من الدنيا:
(إرادة الحياة الدنيا والسعي لتحصيل متاعها)
إن الله - عز وجل- هو الذي قال في معرض الذم: (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152]
وَقَوْلُهُ - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا، وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا، وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 16]
فإرادة الحياة الدنيا مذمومة من كل وجه إلا من ابتغى فيما آتاه الله الدار الآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا، ومن مضار هذه الإرادة:

- أنها تزاحم وتنازع إرادة وجه الله والدار الآخرة
قال - تعالى -: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف: 28]
- أنها تخدع صاحبها افتتانا بما عليه أهل الدنيا من الزينة والجاه والرتبة الدنيوية وتزين له أمرهم وحالهم وتحسن في عينيه مذهبهم وطريقتهم ومعايشهم التي هي في حقيقتها تدنيهم من النار وتبعدهم عن طريق الله، وفي نفس الوقت تقلل له شأن المؤمنين وتقبح في عينه ضعفهم أو فقرهم أو قلة حيلتهم إزاء الظالمين أصحاب الجاه المتكبرين.
قال عز وجل: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79]
وتلكم قصة المرأة التي أنطق الله رضيعها حينما اغترت بما ظهر على رجل من أهل زمانها من الجاه والنعمة حتى تمنت أن يكون ولدها مثل هذا الراكب: (( وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ ". قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا، قَالَ: " وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ فَقُلْتُ: اللهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا)) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة واللفظ لمسلم
- أنها تغطي عين صاحبها وتقوم مقام الحُجُب على قلبه فلا يبصر نور الهدى ولا تنفذ إليه حجج الحق وبيناته.
قال - تعالى -: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)
فاعتبري أختاه بهذه الكلمات أن تنحي في حياتك منحى الذي استحبوا الحياة الدنيا وأهملوا حياة الآخرة والاستعداد لها.

* النادمة الحزينة
وأنت أيتها النادمة الحزينة، التي تتذكرين بين الفينة والأخرى يوم كذا وكذا، يوم لم تدركي في هذا الوقت أو ذاك حظك ومتعتك كاملة، وأنك قد فاتك يومها كذا وكذا، وأنك لو استقبلت من أمرك ما استدبرت ما فرَّطتي في حقك من هذا المتاع الحلال أو هذا الحظ الدنيوي.
أما وقد دار ذلك بخلدك فنقول لك ارْبِعِي على نفسك فعلى أي شيء تندمين!! وعلى أي لعاعة تتحسرين، فإن العبد إذا فاز بالجنات يوم القيامة ما ضره شيء فاته من الدنيا، وإن باء بالخسران يوم الدين ما ذكر أنه تلذذ يوما في الدنيا حتى يهون عليه خسرانه، بل كان ندمه وحسرته يومها هو أعظم الندم وأدومه، وإن اللذة والألم أمران مقدران لا يقدر أحد على استجلاب الأول ولا دفع الثاني عن نفسه أو عن غيره ((ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك))، فإنه لا يقدر أحد كائنا من كان على إمساك أو منع نفع قدَّر الله نزوله في حق فلان (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) فعلام تبكين إذاً!!
على شيء لو اجتمع أهل الأرض على أن يأتوا به إليك لما استطاعوا إلا بشيء قد كتبه الله لكِ!
فالمؤمن في هذه الدنيا ليتسلى عن نقصانها وفوات لذاتها بالحرص على إدراك الطاعات والمكاسب الدينية، فإنها تهون عليه أمره وتجبر خاطره في دار لا قرار فيها ولا استقرار، وإنما الإقامة الكاملة تكون في الدار الآخرة، والندم أولى ما يكون لفوات أسباب الفوز الأخروي ولعدم إدراك أنواع الطاعات والقُرَب التي هي أسباب السعادة واللذة الحقيقية.

وفي هذا الأمر قيل: «الدُّنْيَا دُوَلٌ، مَا كَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ، وَمَنِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِمَّا فَاتَ اسْتَرَاحَ بَدَنُهُ، وَمَنْ رَضِيَ بِمَا رَزَقَهُ اللهُ قَرَّتْ عَيْنُهُ»[2]
وقيل في وصف هؤلاء: " لَمْ يَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا يَفْرَحُونَ إِلَّا بِمَا أُيِّدُوا بِهِ مِنَ الْعُقْبَى، كَانَتْ أَفْرَاحُهُمْ بِمَعْبُودِهِمْ وَمَلِيكِهِمْ، وَأَحْزَانُهُمْ عَلَى فَوْتِ الِاغْتِنَامِ مِنْ أَوْقَاتِهِمْ وَأَوْرَادِهِمْ، هُمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَلَمْ يَأْسُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ، وَلَمْ يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمْ" [3]
وسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ الْبِيكَنْدِيُّ عَنِ الرِّضَا قَالَ: " مَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلَى مَا فَاتَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَأَسَّفْ عَلَيْهَا"[4]
وهذه الحسرة التي يجدها الإنسان في قلبه عقب فواته الشعور بالفرحة والإحساس بالسعادة والاستمتاع بحدث مرَّ به، بحيث تظل هذه الحسرة كالذكرى في قلبه، فإن هذا كله من تلبيس الشيطان ودخوله على العبد من باب خفي فلا يتركه إلا والدنيا قد أفسدت قلبه وأشرفت على إهلاكه.
يقول ابن القيم: " فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئا، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خاليا عن ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابا له ولا بد، فيصير معذبا بنفس ما كان منعما به من جهتين من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه، مع شدة تعلق روحه به، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به" إغاثة اللهفان.
عن المستورد بن شداد، قال: إني لفي ركب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ مر بسخلة منبوذة، فقال: (( أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها فقالوا: من هوانها ألقوها، قال: والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله - عز وجل - من هذه على أهلها)) أخرجه أحمد وابن ماجه وإسناده صحيح
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)) أخرجه الترمذي وصححه الألباني

* همسة في أذن الرجل:
إليك أيها الرجل هذه الهمسة والتي يمكن أن تسميها همسة عتاب، فأين أنت من بيتك ومن أسرتك، وأين رعايتك وعنايتك بهذه اللبنة في صرح الإسلام، أو كل ذلك يدور ببيتك وأنت غافل متغافل، أو لم تدر أنك محذَّر وموصَى ومسئول.
أما التحذير فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
وأما الوصية فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)) متفق عليه
وأما السؤال فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،... وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ...)) الحديث. رواه البخاري ومسلم.
إليك أيها المفرط في حق رعيته، المضيع لأحبابه بسوء الرعاية وضعف التوجيه، فوالله ما نال الشيطان من بيتك وما اغتنم غنيمة في عقر دارك إلا بسبب سوء الحراسة وترك الرباط ومخالفة الأمر والنهي، وطول الغفلة والركون إلى العدو.
فمن ترك للنساء مواقع قيادة البيوت وسلمهن مقاليد إدارة السفينة دون توجيه وإرشاد، ولا معونة وتأييد ولا مراجعة وتصحيح وتسديد؛ فلا يكترث يوماً إذا ما حاصرته أمواج الغرق أو اصطدم في صخرة الغرور بالحياة الدنيا، وتربعها على سدة مفاتيح قلبه، فلا يلومن حينئذ إلا نفسه ولا يسخطن إلا على غفلته وسلبيته.
فيا من صحا والأعداء قد تسلقوا أسوار حصنه وفتحوا أبواب الهوى تنهمر كالجراد صوب معسكره، وقد هدموا قلاع خشوعه وإنابته وقطعوا خيام رضائه وقناعته، ورفعوا رايتهم على أكناف بيته بعد أن نكسوا راية "والعاقبة للتقوى"، وهتكوا أوصال ستره فانكشفت عورات ذنوبه ومعايبه، ولم يكفهم أن أفسدوا داره حتى أسروا أحبابه وأولاده فجعلوهم جندا لهم وألحقوهم بمعسكرهم.
وهذه المرأة المسكينة التي هي زوجتك كثيرا ما تفقدتك، بينما أنت بجوارها تتفقد طعامها وملبسها وحلو كلامها لكنك ما تفقدت يوما دينها ولا رقة قلبها في الإذعان للحق واتباعه حتى وإن خالف هواها، إن هذه المرأة كان من الممكن أن تستقيم على سبيل الهداية وأن ترد إلى الحق بلطيف قول ونداء صدق لو أنك عالجتها أولا بأول دون أن تتركها تشرد بعيداً عن مرضاة الله.
فإنك الآن أحد رجلين؛ إما أن تكون قائم على صلاح نفسك مفرط فيمن هم في رقبتك ورعيتك مؤاخذ بهم إلا أن يتغمدك الله برحمته، أو تكون الأمَرّ، وهو أن تكون جررت معهم إلى غياهب النسيان وطال بك معهم الأمد، فنسأل العافية والسلامة.
ولكن الطريق ما زال مفتوحا وبيتك بانتظارك، ففتش وقس ثم تلطف في المعالجة وانج بنفسك وأهلك قبل أن تعصف بكم الأهوال وحينها لا يفلح الندم ولا ينفع العتب.
وأخيراً: فالله نسأل أن يصلح بيوت المسلمين ويهدي براعم الإسلام وسدد خطاهم للبر والهداية والصلاح.

[1] أخرجه الترمذي وقال «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ» وصححه الألباني
[2] ورد هذا القول مرفوعا بإسناد ضعيف جدا لا يصح، ولكن المعنى صحيح ذكرناه استئناسا، انظر كتاب المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي
[3] انظر حلية الأولياء وطبقات الأصفياء في ذكر أهل الصفة
[4] شعب الإيمان للبيهقي
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 77.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 76.10 كيلو بايت... تم توفير 1.78 كيلو بايت...بمعدل (2.28%)]