#1
|
||||
|
||||
صداقة مؤجلة
صداقة مؤجلة عبير النحاس كنت متأكدة من أننا التقينا من قبل، فلم يكن ذلك الوجه الهادئ بالغريب عني، ولكن ذاكرتي لم تسعفني بالمكان أو الزمان الذي حصل فيه ذلك اللقاء. قدمت لضيفتي فنجان القهوة، وجالستها، بانتظار طفلتي التي تستعد لتلقي أول درس لدى مُدرستها الخصوصية الجديدة. منذ أيام كنت قد طلبت من إحدى قريباتي، أن تمدني برقم هاتف تلك المدرسة، التي طالما امتدحت غزارة علمها، وقدرتها على توصيل المعلومات للتلاميذ بسهولة، وبالفعل حصلت على رقم هاتفها، وتكلمت معها، واتفقنا على الزيارة، وعلى أن تتعهد ببعض الدروس لطفلتي، في مادة اللغة الإنكليزية، واستطعت أن أقدر لتلك المدرسة حُسن خلقها وتعاملها الراقي. كانت ابتسامتها موحية، واعتقدت أنها مثلى، تحاول أن تعصر ذهنها، وتستعيد الذكريات التي جمعتنا يوما، فقالت: "وجهك لم يتغير.. عندما سمعت اسمك توقعت أن تكوني أنت، وها أنا ذا أراك". ابتسمتُ، وعلامات النسيان ترسم ملامحها على قسماتي، فقالت وقد تنبهت للأمر: "لا ألومك، لقد تغيرت ملامحي كما يقولون، هل تذكرين رفيقة الكتب أو دودة الكتب في الثانوية؟ " تغيرت ملامحي، وارتسم الفرح على وجهي، فقد عادت الذاكرة إلى تلك الأيام الجميلة، وكنت هناك وكانت معي في مدرستنا. كانت صورتها وهي تجلس على الأرض، وتسند ظهرها إلى الحائط، في حديقة المدرسة الثانوية التي درسنا بها معا تتجلى أمامي، فقد كانت تلك الصبية ترافق الكتاب وحده، من دون جميع الفتيات، وعندما حاولت التقرب منها يوما، لم ألق منها تجاوبا قط بل إعراضا وصدا أتعبني. كانت زميلتي يومها فقيرة الحال، وكان بنطالها القصير، وأكمامها التي تكشف عن جزء من الساعدين، وذلك الحذاء الرث، والذي يبدو أكبر من مقاس قدميها، هو ما يخبرنا عن رقة حالها، وفقرها المدقع. بعد مدة، خمنت أن تلك الصبية لا تقبل رفقتنا لسبب بسيط، وهو عدم امتلاكها المال، الذي يجعلها تسايرنا بشراء بعض قطع البسكويت، أو الشوكولاتة، أو حتى قطع الخبز المنفوخ، الذي يمدنا به متجر المدرسة، مقابل القليل من المال، ولكنها لم تكشف لإحدانا إفلاسها الدائم، ولم تكن لتحتمل نظراتنا المشفقة، أو تكرمنا عليها، فيما لو صاحبتنا لأيام، ولم تفعل ما نقوم بفعله. لست أدري، لم كنت أشغل نفسي بأمرها في تلك الأيام، وما الذي جعلني أتتبعها دائما، وأفكر فيها، كنت أراها تصاحب الكتاب، وتحدق فيه، بينما تشغلنا نحن الأطعمة والمشروبات، والأحاديث التافهة، وكان الجميع يقدر لها تفوقها في الدراسة وتغلُّبها على الجميع، مع بعض الجفاء والحدة التي فسَّرتها بعض قليلات الفطنة، بأنه الغرور. وكنت أدرك أنها لم تكن مغرورة أبدا، ولكنها كانت تقدر ذاتها، ولا تقبل الإهانة، وتعلم كم يسهل على البعض إهانة الضعيف أو الفقير، دون أن تتحرك لهذا ضمائرهم. ويبدو أن رفضها يومها لصداقتي، لم تزرع في نفسي حقدا، رغم قسوة الموقف، بل زرعت الرحمة والشفقة، وبعضاً من الاستغراب والدهشة، وامتنعت عن أي محاولة أخرى، واكتفيت بنظرات تحاول فهم تلك الشخصية الغريبة. "دودة الكتب" كما كانت تقول لها الفتيات اللواتي يحسدنها، ويبدين غيرتهن من تفوقها المذهل، و"صديقة الكتاب" كانت تناديها بقية المجموعة، و"غريبة الأطوار" كنت أقول عنها في نفسي، تجلس أمامي الآن من جديد، وبيننا فنجان من القهوة وحديث يشبه أحاديث الأصدقاء، كانت ترتشف قهوتها، وتخبرني عن سؤالي، وما أدهشني من دراستها للأدب الإنكليزي، رغم تفوقها وتحصيلها لعلامات تؤهلها لدراسة الطب، وفي أي جامعة تتمناها. فقالت بابتسامة عذبة: "لقد منعني الفقر يومها من دراسة الطب، والسفر إلى العاصمة، وهذه الدراسة تتطلب التفرغ، وطريق الطب طويل، وقد عرفت واقتنعت بالفكرة، وأقبلت على دراسة الأدب الإنجليزي، والعمل في وقت واحد، ثم تزوجت بعد تخرجي، وتابعت دراستي، وعملت في التدريس، وتحسنت الأحوال، ولم أنس أهلي يوما، وها أنت تطلبين خدماتي". فقلت: بل وأطلب صداقتك مجدداً. ضحكت بعفوية، وتابعت حديثها اللطيف وحركات يديها، وكنت أنظر بإعجاب لملابسها البسيطة، ذات الألوان الحيادية، والتي تحكي قصة عزلتها مع ثقتها بنفسها، وابتعادها عن محاولات لفت الأنظار، وقد قبلت وقتها دعوتها لي لزيارتها، وتلك الصداقة التي جمعتنا، بعد سنوات طوال بنَت فيها زميلتي مكاناً يليق بها في هذا الزمان.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |