صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الاكتفاء بسماع أذكار الصباح والمساء عند قولها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الفرق بين صلاة التراويح وصلاة القيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          قراءة القرآن بصوت مرتفع في المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الفرصة الأخيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          ترزقوا وتنصروا وتجبروا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          لا سمَرَ إلَّا لِمُصَلٍّ ، أوْ مُسافِرٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          على أبواب العشر الأواخر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          رمضان شهر الإقبال على مجالس العلم والعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          التغيير الشامل في رمضان .. هل هو ممكن؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          تاريخ غزوة بدر .. الميلاد الثاني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 20-09-2020, 06:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (11)
أسباب اشتعال الفتنة في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-

زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نلقي الضوء على بعض الأسباب التي ساعدت في اشتعال الفتنة ومقتل عثمان -رضي الله عنه-.

ومِن هذه الأسباب:

تآمر الحاقدين ودور عبد الله بن سبأ في إشعال الفتنة:

لقد دخل في الإسلام منافقون يجمعون الحقد والدهاء والمكر في أشخاصهم، ووجدوا مَن يستمع إليهم بآذان صاغية؛ هذا بالإضافة إلى مكر اليهود والنصارى وحقدهم على الإسلام، فاستغل أولئك الحاقدون مِن يهود ونصارى وفرس، وأصحاب الجرائم الذين أٌقيم عليهم الحدود الشرعية، مجموعاتٍ مِن الناس كان معظمهم مِن الأعراب، ممن لا يفقهون هذا الدين على حقيقته؛ فتكونت لهؤلاء جميعًا طائفة وُصفت مِن جميع مَن قابلهم بأنهم أصحاب شر؛ فقد وصفوا بالغوغاء مِن أهل الأمصار، ونُزَّاع القبائل، وأنهم حثالة الناس ومتفقون على الشر(1)، وسفهاء عديمو الفقه, وأراذل مِن أوباش القبائل(2)؛ فهم أهل جفاء وهمج، ورعاع مِن غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل، وأنهم آلة الشيطان!(3).


وكان "ابن سبأ" أول مَن أحدث القول برجعة علي -رضي الله عنه- إلى الدنيا بعد موته، وبرجعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأول مكان أظهر فيه ابن سبأ مقالته هذه "مصر"، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب برجوع محمدٍ، وقال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص:85)، فمحمد أحق بالرجوع مِن عيسى، فقُبل ذلك منه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها(4)، وهو أول مَن قال بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي، وأنه خليفته على أمته مِن بعده بالنص، وأول مَن أظهر البراءة مِن أعداء علي -رضي الله عنه-، وادعى ابن سبأ اليهودي أن عليًّا -رضي الله عنه- هو دابة الأرض، وأنه هو الذي خلق الخلق وبسط الرزق(5)، وقد برز دور عبد الله بن سبأ في السنوات الأخيرة مِن خلافة عثمان -رضي الله عنه- حيث بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي(6)، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادعاها واخترعها مِن قِبَل نفسه، وافتعلها مِن يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها وينشرها في المجتمع لغاية ينشدها؛ وهو الدس في المجتمع الإسلامي؛ بغية النيل مِن وحدته، وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشقاق بيْن أفراده.

فكانت هذه الأفكار مِن أهم العوامل التي أدت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وتفرُّق الأمة شيعًا وأحزابًا، وبعد أن استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان -رضي الله عنه-، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: مَن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووثب على وصيِّ رسول -صلى الله عليه وسلم-، وتناول أمر الأمة؟!

ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر(7).

إن المشاهير مِن المؤرخين والعلماء مِن سلف الأمة وخَلَفِهَا يتفقون على أن ابن سبأ ظهر بيْن المسلمين بعقائد وأفكار، وخطط سبئية؛ ليلفت المسلمين عن دينهم وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفُرْقة والخلاف، فاجتمع إليه مِن غوغاء الناس ما تكونت به بعد ذلك الطائفة السبئية المعروفة, التي كانت عاملاً مِن عوامل الفتنة في المجتمع المسلم(8).

وهنا تظهر خطورة النفاق وخطورة المنافقين في المجتمع؛ لذا كان النفاق أخطر مِن الكفر وعقوبته أشد؛ لأنه كفر بلباس الإسلام وضرره أعظم؛ ولذلك جعل الله المنافقين في أسفل النار كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) (النساء:145).

أهل النفاق دائمًا في خداع ومكر؛ ظاهرهم مع المؤمنين، وباطنهم مع الكافرين: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (النساء:143).

والمنافقون لفساد قلوبهم أشد الناس إعراضًا عن دين الله كما أخبر الله عنهم بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء:61).

وتصرفات المنافقين تدور مع مصالحهم؛ فإذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان، وإذا لقوا سادتهم وكبراءهم قالوا نحن معكم على ما أنتم عليه مِن الشرك والكفر، كما قال -سبحانه- عنهم: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة:14-15).

ومِن صفاتهم: العداوة والحسد للمؤمنين، كما قال -سبحانه-: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة:50).

ومِن صفاتهم: الفساد في الأرض بالكفر والنفاق والمعاصي، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:11-12).

ومِن صفاتهم: البهتان والكذب كما أخبر الله عنهم بقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (المائدة:56).

ومِن صفاتهم: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بالمال كما أخبر الله عنهم بقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة:67).

ومِن صفاتهم: الطمع والجشع: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58).

ومِن صفاتهم: ما بيَّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه).

وحيث إن خطر الكفار والمنافقين على الأمة الإسلامية عظيم؛ لذا أمر الله رسوله بجهادهم، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73). (وها هو القرآن الكريم يبيِّن لنا خطر المنافقين على المجتمع "حتى وإن كانوا قلة"؛ قال الله -تعالى-: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة:47).

أي لو خرج فيكم هؤلاء المنافقون (مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) أي: إلا فسادًا وشرًّا وضرًّا؛ لأنهم جبناء مخذولون، ولسعوا في الفتنة والشر بينكم، وفرقوا جماعتكم المجتمعين. (وَفِيكُمْ) أناس ضعفاء العقول (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي: مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم؛ ولذلك ثبَّطتُهم عن الخروج معكم.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان عدد المنافقين كبيرًا لهذا الحد؟!

هل كان عددهم كافيًا لنشر الشر والفساد والفتن بيْن المؤمنين؟

والجواب:

ليس الأمر بكثرة العدد أو قلته؛ فلقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، وخرج معه ثلاثون ألف مقاتل، وعدد المنافقين الذين تخلفوا عنه كانوا بضعة وثمانين رجلاً، فسبحان الله! هذا العدد القليل جدًّا بالنسبة لتعداد الجيش، كان سينشر الشر والفساد، ويوقع الفتن بيْن المؤمنين الخلص مع كثرة عددهم؛ ولذلك أنزل الله في صدر سورة البقرة أربع آيات في المؤمنين الخلص، وأنزل في الكفار الخلص آيتين، وأنزل بالفريق الثالث المنافقين بضع عشرة آية.

فاللهم احفظ البلاد والعباد مِن المنافقين وشرهم، يا أرحم الراحمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ابن سعد، الطبقات (ج3 ص71).

(2) شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب لابن العماد.

(3) تاريخ الرسل والملوك للطبري (ج5 ص327). (قلتُ: وقد تردد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصنعاني اليهودي ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان مِن اليهود ثم أسلم، ولم ينقب أحد عن نواياه فتنقل بيْن البلدان الإسلامية باعتباره أحد أفراد المسلمين. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "إن مبدأ الرفض إنما كان مِن الزنديق عبد الله بن سبأ", ويقول الذهبي: "عبد الله بن سبأ مِن غلاة الزنادقة، ضال مضل، ادعى الإلهية في علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته".

(4) سعدي بن مهدي الهاشمي، ابن سبأ حقيقة لا خيال، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، طبعة عام 1400هـ - 1981م، ص 151.

(5) سعديا بن مهدي الهاشمي: ابن سبأ حقيقة لا خيال، ص156.


(6) تاريخ دمشق لابن عساكر.

(7) تاريخ الرسل والملوك للطبري (ج5 ص 347).

(8) الصَّلاَّبي "تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ص338".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 29-09-2020, 05:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد




صفحات مِن ذاكرة التاريخ (12)
استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-


زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ثوار الأمصار يتحركون مِن مراكزهم لمهاجمة عثمان -رضي الله عنه-:

توجَّه معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- إلى عثمان -رضي الله عنه-، وعَرَض عليه أن يَذهب معه إلى بلاد الشام، وقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي إلى الشام، قبْل أن يتكالب عليك هؤلاء، ويحدث ما لا قِبَل لكَ به.


قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيءٍ، ولو كان فيه قطع خيط عنقي.

قال له معاوية: إذن أبعث لك جيشًا مِن أهل الشام يقيم في المدينة؛ ليدافع عنك وعن أهل المدينة.

قال عثمان: لا؛ حتى لا أٌضيِّق على جيران وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأرزاق بجند تساكنهم في المدينة.

واتفق أهل الفتنة على مهاجمة عثمان في المدينة، وحمله على التنازل عن الخلافة؛ وإلا يُقتل، وقرروا أن يأتوا مِن مراكزهم الثلاثة: "مصر - والكوفة - والبصرة" في موسم الحج، وأن يغادروا بلادهم مع الحجاج، وأن يكونوا في صورة الحجاج؛ فإذا وصلوا المدينة، تركوا الحجاج يذهبون إلى مكة لأداء مناسك الحج، واستغلوا فراغ المدينة مِن معظم أهلها الذين ذهبوا لأداء فريضة الحج، وقاموا بمحاصرة عثمان -رضي الله عنه- تمهيدًا لخلعه أو قتله(1)، وفي شوال سنة خمس وثلاثين كان أهل الفتنة على مشارف المدينة(2), بعد أن خرجوا مِن مصر في أربع طوائف، لكل طائفة أمير، ولهؤلاء الأمراء أمير ومعهم عبد الله بن سبأ، وكان عدد الطوائف الأربعة ألف رجل.

وخرجت فرقة أخرى مِن الكوفة في ألف رجل، في أربع طوائف أيضًا، وخرجت فرقة أخرى مِن البصرة في ألف رجل، في أربع طوائف أيضًا(3)، وكان أهل الفتنة مِن مصر يريدون علي بن أبي طالب خليفة، وكان أهل الفتنة مِن الكوفة يريدون الزبير بن العوام خليفة، وكان أهل الفتنة مِن البصرة يريدون طلحة بن عبيد الله(4)، وهذا العمل منهم كان بهدف الإيقاع بيْن الصحابة -رضوان الله عليهم-.

وبلغ خبر قدومهم عثمان -رضي الله عنه- قبْل وصولهم، وكان في قرية خارج المدينة، فلما سمعوا بوجوده فيها، اتجهوا إليه فاستقبلهم فيها، وكان أول مَن وصل فريق المصريين، فقالوا لعثمان: ادع بالمصحف فدعا به، فقالوا: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس بالسابعة، فقرأ حتى أتى هذه الآية: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (يونس:59)، فقالوا له: قف أرأيت ما حميت مِن الحمى؛ الله أذن لك أم على الله تفتري؟! فقال: نزلتْ في كذا وكذا؛ فأما الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليتُ زادت إبل الصدقة؛ فزدتُ في الحمى لما زاد مِن إبل الصدقة، فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول نزلتْ في كذا فما يزيدون.

وتم الصلح بينهم وبين عثمان -رضي الله عنه- على شروط تم الاتفاق عليها بينهم وبينه، وكتبوا بذلك كتابًا، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين، وقد حضر هذا الصلح علي بن أبى طالب -رضي الله عنه-(5).

وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعًا راضين تبيَّن لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلتْ، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق؛ لذا خططوا تخطيطًا آخر يشعل الفتنة ويحييها، وزوروا كتابًا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ففي أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبًا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم يُظهر أنه هارب منهم، فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان -رضي الله عنه- وعليه خاتمه إلى عامله، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها، ونفى عثمان -رضي الله عنه- أن يكون كتب هذا الكتاب(6)، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين مِن المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ ولا أمليتُ، ولا علمتُ، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم، فلم يصدقوه، وقد أقسم لهم عثمان بأنه ما كتب هذا الكتاب(7).

وقد زور المجرمون كتبًا أخرى على علي، وعائشة، وطلحة، والزبير -رضي الله عنهم-؛ فهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه مِن عثمان، وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحدٍ مِن إبل الصدقة إلى عامله بمصر -ابن أبي السرح-، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين - هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان -رضي الله عنه-(8).

ثم تمتْ عملية الحصار لعثمان -رضي الله عنه-، وبعد أن تم الحصار، وأحاط الخارجون على عثمان -رضي الله عنه- بالدار طلبوا منه خلع نفسه أو يقتلوه؛ فرفض عثمان -رضي الله عنه- خلع نفسه، وقال: لا أخلع سربالاً سربلنيه الله(9)، يشير إلى ما أوصاه به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما كان قلة مِن الصحابة -رضوان الله عليهم- يرون خلاف ما ذهب إليه, وأشار عليه بعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه، ومِن هؤلاء المغيرة بن الأخنس -رضي الله عنه-، لكنه رفض ذلك.

ودخل ابن عمر على عثمان -رضي الله عنهما- أثناء حصاره، فقال له عثمان -رضي الله عنه-: انظر إلى ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: إذا خلعتها: أمخلد أنت في الدنيا؟ فقال عثمان -رضي الله عنه-: لا. قال: فإن لم تخلعها: هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال عثمان -رضي الله عنه- لا. قال: فهل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال لا. قال: فلا أرى لك أن تخلع قميصًا قمَّصكه الله؛ فتكون سُنة كلما كرِه قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه!(10).

وبينما كان عثمان -رضي الله عنه- في داره، والقوم أمام الدار محاصروها دخل ذات يوم مدخل الدار، فسمع توعد المحاصرين له بالقتل، فخرج مِن المدخل، ودخل على مَن معه في الدار ولونه ممتقع -ممتقع الوجه: متغيرٌ لونُه مِن حزن أو فزع-، كما في حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف، فقال: إِنَّهُمْ لَيَتَوَاعَدُونَنِي بِالْقَتْلِ آنِفًا، قَالَ: قُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَلِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ)، "فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا فِي إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا أَحْبَبْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟" (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

ثم أشرف على المحاصرين وحاول تهدئة ثورتهم عن خروجهم على إمامهم.

وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ

(1) الصلابي، تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ص 370، نقلاً عن "الخلفاء الراشدون" للخالدي، ص159.

(2) محمد الخضر بك، إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، طبعة المكتبة التجارية الكبرى، ص183.

(3) علاء الدين مغلطاوي بن قلنج بن عبد الله البكجري الحنفي، المتوفَّى (762هـ)، مختصر تاريخ الخلفاء، الناشر دار الفجر، طبعة عام 2001م، ص 69.

(4) الطبري، تاريخ الرسل والملوك (5/357).

(5) محمد بن عبد الله بن عبد القادر غبان الصبحي، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/160).

(6) وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد أذِن له بالمجيء إلى المدينة، ويعلم أنه خرج مِن مصر، وكان المتسلط على الحكم في الفسطاط محمد بن أبي حذيفة رئيس البغاة وعميدهم في هذه الجهة، ومضمون الكِتاب المزور قد اضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه، انظر: محب الدين الخطيب، العواصم من القواصم ص 110.

(7) ابن كثير، البداية والنهاية (7/ 191). وانظر: محمد غبان، المرجع السابق، ص161.

(8) ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354هـ) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، صحّحه وعلق عليه الحافظ السيد عزيز بك، الناشر: الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الثالثة 1417هـ - 1995م، (2/515).


(9) محمد يحيى الأندلسي، التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص47.

(10) أبو القاسم التيمى: إسماعيل بن محمد بن الفضل بن على التيمي، توفي (535)، الخلفاء الأربعة أيامهم وسيرتهم، حققه: كرم حلمي فرحات أبو صيري، الناشر: مطبعة دار الكتب المصرية عام 1999، ص 171.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 20-10-2020, 09:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (13)
استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-

زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنستعرض في هذا المقال موقف الصحابة -رضي الله عنهم- مِن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- أثناء الحصار، بعد أن استعرضنا في المقال السابق تحركات المجرمين لمهاجمة عثمان -رضي الله عنه-.

موقف الصحابة -رضي الله عنهم- تجاه أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-:

لما رأى عثمان -رضي الله عنه- إصرار المتمردين على قتله حذرهم مِن ذلك، ومِن مغبته؛ فاطلع عليهم مِن كوة، وقال لهم: أيها الناس، لا تقتلوني واستعتبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلوا جميعا أبدًا، ولا تجاهدوًا عدوًّا أبدًا، لتختلفن حتى تصيروا هكذا، وشبَّك بيْن أصابعه.

وفي رواية أنه قال: أيها الناس، لا تقتلوني، فإني والٍ وأخ مسلم، فوالله إن أردتُ إلا الإصلاح ما استطعت، أصبتُ أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعًا أبدًا، ولا تغزوا جميعًا أبدًا، ولا يقسم فيئكم بينكم.

وأرسل عثمان -رضي الله عنه- إلى الصحابة -رضي الله عنهم- يشاورهم في أمر المحاصرين وتوعدهم إياه بالقتل، فجاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك مِن القوم، فإنك لم تحدث شيئًا يُستحل به دمك، فقال: جُزيت خيرًا، ما أحب أن يهراق دم بسببي(1).

وعن أبي حبيبة(2)، قال: بعثني الزبير بن العوام إلى عثمان وهو محاصَر فدخلتُ عليه في يوم صائف وهو على كرسي، وعنده الحسن بن علي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فقلتُ: بعثني إليك الزبير بن العوام، وهو يقرؤك السلام ويقول لك: إني على طاعتي لم أبدِّل ولم أنكث، فإن شئتَ دخلتُ الدار معك، وكنتُ رجلاً مِن القوم، وإن شئت أقمت، فإن بني عمرو بن عوف وعدوني أن يصبحوا على بابي، ثم يمضون على ما آمرهم به، فلما سمع يعني عثمان الرسالة قال: الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي، أقرئه السلام، ثم قل له: مكانك أحبّ إليَّ، وعسى الله أن يدفع بك عني، فلما قرأ الرسالة أبو هريرة قام فقال: ألا أخبركم ما سمعتُ أذناي مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: بلى، قال: أشهد لسمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تكون بعدي فتن وأمور"، فقلنا: فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: "إلى الأمين وحزبه"، وأشار إلى عثمان بن عفان، فقام الناس فقالوا: قد أمكنتنا البصائر، فأذن لنا في الجهاد؟ فقال: "أعزم على مَن كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل"(3).

ودخل عليه وهو محاصَر المغيرة بن شعبة، فقال: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالاً ثلاثة، اختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم، فإن معك عددًا وقوة، وأنتَ على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابًا سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول مَن خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني, فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يلحد رجل مِن قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم"، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية؛ فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة الرسول -صلى الله عليه وسلم-(4). وعزم الصحابة -رضي الله عنهم- على الدفاع عن عثمان، ودخل بعضهم الدار، ولكن عثمان -رضي الله عنه- عزم عليهم بشدةٍ، وشدد عليهم في الكف عن القتال دفاعًا عنه(5).

وقد حثَّ كعب بن مالك -رضي الله عنه- الأنصار على نصرة عثمان -رضي الله عنه- وقال لهم: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان ووقفوا ببابه، ودخل زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئتَ كنا أنصار الله مرتين(6)، فرفض القتال وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا(7).

وجاء الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وقال له: أخترط سيفي؟ قال: لا، أبرأ إلى الله إذن مِنْ دمك، ولكن ثم(8) سيفك، وارجع إلى أبيك، وجاء أبو هريرة -رضي الله عنه- ودخل الدار على عثمان وأراد الدفاع عنه، فقال له عثمان،: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعًا وإياي؟ قال: لا، قال، فإنك والله إن قتلتَ رجلاً واحدًا؛ فكأنما قُتِل الناس جميعًا، فرجع ولم يقاتِل(9).

ولما رأى بعض الصحابة إصرار عثمان -رضي الله عنه- على رفض قتال المحاصرين، وأن المحاصرين مصرون على قتله، لم يجدوا حيلة لحمايته سوى أن يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكة هربًا مِن المحاصرين، فقد روى أن عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، عرضوا عليه ذلك، وكان عرضهم متفرقًا، فقد عرض كل واحد منهم عليه ذلك على حدة، وعثمان -رضي الله عنه- يرفض كل هذه العروض(10).

موقف أمهات المؤمنين:

وكان موقف أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- مِن المواقف البالغة الخطر في هذه الأحداث، لما حوصر عثمان -رضي الله عنه- ومٌنع عنه الماء، سرَّح عثمان ابنًا لعمرو بن حزم الأنصاري مِن جيران عثمان إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئًا مِن الماء فافعلوا، وإلى طلحة وإلى الزبير وإلى عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان أولهم إنجادًا له علي وأم حبيبة وكانت أم حبيبة معنية بعثمان، كما قال ابن عساكر، وكان هذا طبيعيًّا منها؛ حيث النسب الأموي الواحد، جاءت أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل، قالوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت(11) بأم حبيبة فتلقاها الناس وقد مالت راحلتها، فتعلقوا بها، وأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها، ويبدو أنها -رضي الله عنها- أمرت ابن الجراح مولاها أن يلزم عثمان -رضي الله عنه-، فقد حدثت أحداث الدار، وكان ابن الجراح حاضرًا(12).

وما فعلته السيدة أم حبيبة -رضي الله عنها- فعلت مثله السيدة صفية -رضي الله عنها-؛ فلقد روي عن كنانة(13) قال: كنتُ أقود بصفية لتردَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر(14)، فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: ذروني لا يفضحني هذا، ثم وضعت خشبًا مِن منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الطعام والماء(15).

وخرجت عائشة -رضي الله عنها- مِن المدينة وهي ممتلئة غيظـًا على المتمردين، وجاءها مروان بن الحكم، فقال: أم المؤمنين، لو أقمتِ كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد مَن يمنعني، لا والله لا أُعَيَّر(16), ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء(17)، ورأت -رضي الله عنها- أن خروجها ربما كان مُعينًا في فض هذه الجموع، وتجهزت أمهات المؤمنين إلى الحج هربًا مِن الفتنة، وكانت هذه محاولة منهن لتخليص عثمان -رضي الله عنه- مِن أيدي هؤلاء المفتونين، الذين كان منهم محمد بن أبي بكر(18) أخو السيدة عائشة -رضي الله عنها-، الذي حاولت أن تستتبعه معها إلى الحج؛ فأبى، وهذا هو ما أكَّد عليه الإمام ابن العربي -رحمه الله- حيث قال: "تغيُّب أمهات المؤمنين مع عددٍ مِن الصحابة كان قطعًا للشغب بيْن الناس رجاء أن يرجع الناس إلى أمهاتهم، وأمهات المؤمنين؛ فيرعوا حرمة نبيهم"(19).

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ


(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (39/395).


(2) هو أبو حبيبة مولى الزبير بن العوام، روى عن الزبير، وسمع أبا هريرة وعثمان محصور.

(3) ابن حنبل: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى:241هـ)، فضائل الصحابة، المحقق: د.وصي الله محمد عباس، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الأولى: 1403-1983، عدد الأجزاء: (1/ 511، 512).

(4) البداية والنهاية لابن كثير (7/211)، والحديث أخرجه أحمد في مسنده، وصححه الألباني، وضعفه شعيب الأرنؤوط (7/229)، وقال بضعفه أيضًا أحمد شاكر.

(5) أحمد معمور العسيري، موجز التاريخ الإسلامي، طبعة 1417هـ، 1996م، ص126.


(6) ابن سعد، الطبقات (3/70).


(7) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/162).

(8) الثم هو: إصلاح الشيء وإحكامه، ويحتمل أن تكون مصحفة مِن شم، والشم هو: إعادة السيف إلى غمده، لسان العرب (12/ 79).

(9) حسين فؤاد طلبة مِن أخلاق الخلفاء الراشدين، الناشر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، عام 1977 ص75.

(10) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان (1/ 166).

(11) ند البعير ونحوه ندًّا، وندودًا: نفر وشرد. انظر لسان العرب لابن منظور (3/419).

(12) ابن شبة: عمر بن شبة (واسمه زيد) بن عبيدة بن ريطة النميري البصري، أبو زيد (المتوفى: 262هـ)، تاريخ المدينة، طبعة: 1399هـ، 1977م (4/ 1311).

(13) كنانة بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف العبشمي، انظر: البلاذري، أنساب الأشراف (9/380).

(14) الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحارث، انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء (4/ 34)، وتهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني( 10/ 11).

(15) الذهبي: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (المتوفى: 748هـ)، سير أعلام النبلاء، الناشر: دار الحديث - القاهرة، الطبعة: 1427هـ - 2006م (3/ 488).

(16) أُعَيَّر: مِن العار، وقد يبدي هذا التعبير أن الحالة التي وضع فيها الغوغاء السيدة أم حبيبة -رضي الله عنها- كانت شديدة الإيلام، انظر المعجم الوسيط (2/ 240).

(17) الطبري، تاريخ الرسل والملوك (5/ 401).

(18) وقد نزَّه الله -تعالى- أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون أحدٌ منهم مشاركًا في قتل عثمان -رضي الله عنه-، بل لم يكن أحدٌ مِن أبناء الصحابة مشاركًا، ولا معينًا لأولئك الخوارج المعتدين، وكل ما ورد في مشاركة أحدٍ مِن الصحابة -كعبد الرحمن بن عديس، وعمرو بن الحمِق- فمما لم يصح إسناده.

وقال النووي -رحمه الله-: "ولم يشارك في قتله أحدٌ مِن الصحابة" انتهى مِن "شرح مسلم"، وقال الأستاذ محمد بن عبد الله غبان الصبحي -حفظه الله-: "إنه لم يشترك في التحريض على عثمان -رضي الله عنه-؛ فضلاً عن قتله، أحدٌ مِن الصحابة -رضي الله عنهم-، وإن كل ما رُوي في ذلك ضعيف الإسناد" اهـ. وأما محمد بن أبي بكر: فليس هو مِن الصحابة أصلاً، ثم إنه لم يصح اشتراكه في قتل عثمان، ولا في التحريض عليه، وقد أثبت بعض العلماء روايات تبين تراجعه عن المشاركة في قتل عثمان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ليس له صحبة ولا سابقة ولا فضيلة، فهو ليس مِن الصحابة؛ لا مِن المهاجرين ولا الأنصار... وليس هو معدودًا مِن أعيان العلماء والصالحين الذين في طبقته" ثم قال: "وأما محمد بن أبي بكر؛ فليس له ذكر في الكتب المعتمدة في الحديث والفقه" (انتهى مِن منهاج السنة النبوية (4 / 375 - 377).

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "ويُروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت في حلقه! والصحيح: أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها! فتذمم مِن ذلك، وغطى وجهه ورجع، وحاجز دونه، فلم يُفِد، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وكان ذلك في الكتاب مسطورًا" (انتهى مِن البداية والنهاية 7/ 207).


وقال الأستاذ محمد بن عبد الله غبان الصبحي -حفظه الله-: "محمد بن أبي بكر لم يشترك في التحريض على قتل عثمان -رضي الله عنه-، ولا في قتله، وكل ما روي في اتهامه بذلك؛ باطل، لا صحة له".

(19) العواصم مِن القواصم لابن العربي (ص 156).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 09-12-2020, 07:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد




صفحات مِن ذاكرة التاريخ (14)
استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-








زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي هذا المقال نستكمل أحداث يوم الدار بعد أن استعرضنا في المقال السابق موقف الصحابة -رضي الله عنهم- تجاه أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- خلال الأحداث.

يوم الدار واستشهاد عثمان -رضي الله عنه-:

استدعى عثمان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-، وكلفه أن يحج بالناس هذا الموسم، فقال له ابن عباس: دعني أكن معك وبجانبك يا أمير المؤمنين في مواجهة هؤلاء، فوالله إن جهاد هؤلاء أحبُّ إليَّ مِن الحج، قال له: عزمتُ عليك أن تحج بالمسلمين، فلم يجد ابن عباس أمامه إلا أن يطيع أمير المؤمنين(1)، وكتب عثمان كتابًا مع ابن عباس ليقرأ على المسلمين في الحج، بيَّن فيه قصته مع الذين خرجوا عليه، وموقفه منهم، وطلباتهم منه، وفي آخر أيام الحصار وهو اليوم الذي قتل فيه، نام -رضي الله عنه- فأصبح يحدِّث الناس: ليقتلني القوم، ثم قال: رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا عثمان أفطر عندنا؛ فأصبح صائمًا، وقُتل مِن يومه(2).


وهاجم المتمردون الدار؛ فتصدى لهم الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، ومَن كان مِن أبناء الصحابة أقام معهم؛ فنشب القتال فناداهم عثمان: الله الله، أنتم في حل مِن نصرتي؛ فأبوا، ودخل غلمان عثمان لينصروه، فأمرهم ألا يفعلوا؛ بل إنه أعلن أنه َمن كف يده منهم فهو حر(3).


وقال عثمان في وضوح وإصرار وحسم، وهو الخليفة الذي تجب طاعته: أعزم على كل مَن رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه(4)، ولا تبرير لذلك إلا بأن عثمان كان واثقًا مِن استشهاده بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بذلك؛ ولذلك أراد ألا تُراق بسببه الدماء، وتقوم بسببه فتنة بيْن المسلمين، وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج ثم تعجل في نفرٍ حجوا معه؛ فأدرك عثمان قبْل أن يُقتل، ودخل الدار يحمي عنه وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت؟! فأقدم المتمردون على حرق الباب والسقيفة؛ فثار أهل الدار وعثمان -رضي الله عنه- يصلي حتى منعوهم، وقاتل المغيرة بن الأخنس والحسن بن علي ومحمد بن طلحة وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم وأبو هريرة؛ فأبلوا أحسن البلاء، وعثمان يرسل إليهم في الانصراف دون قتال، ثم ينتقل إلى صلاته، فاستفتح قوله -تعالى-: (طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (طه:1-3)، وكان سريع القراءة، فما أزعجه ما سمع، ومضى في قراءته ما يخطئ وما يتعتع، حتى إذا أتى إلى نهايتها قبْل أن يصلوا إليه ثم دعا فجلس وقرأ: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137)(5).

وأصيب يومئذٍ أربعة مِن شبان قريش وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم, وقتل المغيرة بن الأخنس، ونيار بن عبد الله الأسلمي، وزياد الفهري، واستطاع عثمان أن يقنع المدافعين عنه، وألزمهم بالخروج مِن الدار، وخلى بينه وبيْن المحاصرين، فلم يبقَ في الدار إلا عثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع ولا حامٍ مِن الناس، وفتح -رضي الله عنه- باب الدار(6)، وبعد أن خرج مِن في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر -رضي الله عنه- المصحف بيْن يديه، وأخذ يقرأ منه وكان إذ ذاك صائمًا، فإذا برجل مِن المحاصرين لم تسمه الروايات يدخل عليه، فلما رآه عثمان -رضي الله عنه- فقال له: بيني وبينك كتاب الله, فخرج الرجل وتركه(7)، وما إن ولى حتى دخل آخر، وهو رجل مِن بني سدوس، يقال له: الموت الأسود، فخنقه ثم أهوى إليه بالسيف، فاتقاه عثمان -رضي الله عنه- بيده فقطعها، فقال عثمان، أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل(8)، وذلك أنه كان مِن كتبة الوحي، وهو أول مَن كتب المصحف مِن إملاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقتل -رضي الله عنه- والمصحف بيْن يديه، وعلى إثر قطع اليد انتضح الدم على المصحف الذي كان بيْن يديه يقرأ منه، وسقط على قوله -تعالى-: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137).

ولما أحاطوا به قالت امرأته نائلة بنت الفرافصة: إن تقتلوه أو تدعوه، فقد كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن(9)، وقد دافعت نائلة عن زوجها عثمان وانكبت عليه واتقت السيف بيدها, فتعمدها سودان بن حمران ونضح أصابعها فقطع أصابع يدها، وولت، فغمز أوراكها(10).

ولما رأى أحد غلمان عثمان الأمر، راعه قتل عثمان، وكان يُسمَّى (نجيح) فهجم نجيح على سودان بن حمران فقتله، ولما رأى قتيرة بن فلان السكوني نجيحًا قد قتل سودان، هجم على نجيح فقتله، وهجم غلام آخر لعثمان اسمه (صبيح) على قتيرة بن فلان فقتله؛ فصار في البيت أربعة قتلى شهيدان، ومجرمان، أما الشهيدان: فعثمان وغلامه نجيح، وأما المجرمان فسودان وقتيرة السكونيان.

ولما تم قتل عثمان -رضي الله عنه- نادى منادٍ القوم السبئيين قائلاً: إنه لم يحل لنا دم الرجل ويحرم علينا ماله؛ ألا إن ماله حلال لنا، فانهبوا ما في البيت، فعاث رعاع السبئيين في البيت فسادًا، ونهبوا كل ما في البيت، حتى نهبوا ما على النساء، وهجم أحد السبئيين ويُدعى كلثوم التجيبي على امرأة عثمان (نائلة) ونهب الملاءة التي عليها، ثم غمز وركها، وقال لها: ويح أمك مِن عجيزة ما أتمك(11)؛ فرآه غلام عثمان (صبيح) وسمعه وهو يتكلم في حق نائلة هذا الكلام الفاحش، فعلاه بالسيف فقتله، وهجم أحد السبئيين على الغلام فقتله، وبعد ما أتم السبئيون نهب دار عثمان، تنادوا وقالوا: أدركوا بيت المال، وإياكم أن يسبقكم أحدٌ إليه، وخذوا ما فيه، وسمع حراس بيت المال أصواتهم، ولم يكن فيه إلا غرارتان مِن طعام فقالوا: انجوا بأنفسكم، فإن القوم يريدون الدنيا، واقتحم السبئيون بيت المال وانتهبوا ما فيه(12).

حقق المجرمون السبئيون مرادهم، وقتلوا أمير المؤمنين، وتوقف كثير مِن أتباعهم مِن الرعاع والغوغاء بعد قتل عثمان ليفكروا, وما كانوا يظنون أن الأمر سينتهي بهم إلى قتله، وحزن الصالحون في المدينة لمقتل خليفتهم، وصاروا يسترجعون ويبكون، لكن ماذا يفعلون وجيوش السبئيين تحتل المدينة، وتعيث فيها فسادًا.

وقد علـَّق كبار الصحابة على مقتل عثمان؛ فقال الزبير بن العوم -رضي الله عنه-، لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون، فقال: دبروا ودبروا، ولكن كما قال الله -تعالى-: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) (سبأ:54).

وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، قيل له: إن القوم نادمون، فقرأ قوله -تعالى-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (الحشر:16-17)(13).

وقال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: رحم الله عثمان، ثم تلا قوله -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا . ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) (الكهف:103-106)، ثم قال سعد: اللهم اندمهم واخزهم واخذلهم، ثم خذهم(14).

واستجاب الله دعوة سعد وكان مستجاب الدعوة، فقد أٌخذ كل مَن شارك في قتل عثمان، مثل عبد الله بن سبأ، والغافقي والأشتر، وحكيم بن جبلة، وكنانة التجيبي، حيث قتلوا فيما بعد(15).

قٌتل عثمان -رضي الله عنه- في شهر ذي الحجة في السنة الخامسة بعد الثلاثين مِن الهجرة، توفي وسنه اثنتان وثمانون (82 سنة)، وهو قول الجمهور، وقام نفر مِن الصحابة في يوم قتله بغسله وكفنوه وحملوه على باب، ومنهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير ابن مطعم، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وجماعة مِن أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصلوا عليه صلاة الجنازة، وقد دفنوه ليلاً، وقد أكد ذلك ما رواه ابن سعد والذهبي؛ حيث ذكرا أنه دفن بيْن المغرب والعشاء -رضوان الله عليه-(16).

لقد كانت فتنة قتل عثمان سببًا في حدوث كثير مِن الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تلتها، فتغيرت قلوب الناس وظهر الكذب، وبدأ الخط البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته وشريعته، وكان مقتل عثمان مِن أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بيْن الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم(17)؛ فتفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذل الأخيار، وسعى في الفتنة مَن كان عاجزًا عنها، وعجز عن الخير والصلاح مَن كان يحب إقامته، ثم بقيت المدينة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب أحد قتلة عثمان -رضي الله عنه-.

ثم تمت مبايعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو أحق الناس بالخلافة حينئذٍ، وأفضل مَن بقي, لكن القلوب متفرقة ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة مِن كل ما يريدون مِن الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام كثيرون.

إن الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق مِن أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة، كما قال الله -عز وجل-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) (الكهف:59)، وإن المتتبع لأحوال أولئك الخارجين على عثمان -رضي الله عنه- المعتدين عليه يجد أن الله -تعالى- لم يفلتهم, بل أذلهم وأخزاهم وانتقم منهم؛ فلم ينجُ منهم أحد!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ

(1) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- للصلابي، ص 386.

(2) حصة بنت عبد الكريم الزيد، موقف الصحابة مِن أحداث العنف في عهد الخلفاء الراشدين، منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات، ص30.

(3) البداية والنهارية لابن كثير (7/ 190).

(4) العواصم مِن القواصم لابن العربي، ص137.

(5) تاريخ دمشق لابن عساكر، المحقق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام النشر: 1415هـ - 1995م، عدد الأجزاء: 80 (64/ 245).

(6) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/ 188).

(7) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 405).

(8) المصدر السابق (5/ 399).

(9) الطبقات لابن سعد (3/ 76).

(10) الطبري، المصدر نفسه (5/ 407).

(11) عَجِيزَةُ الْمَرْأَةِ: مُؤَخِّرَتُهَا.

(12) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي (المتوفى: 200هـ) الفتنة ووقعة الجمل، دار النفائس، ط 1993، ص73.

(13) التميمي، المصدر السابق، ص74.

(14) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 194).

(15) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/410)، وأخرج أحمد بإسنادٍ صحيح، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ أَرْطَاةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: "خَرَجْتُ مَعَ عَائِشَةَ سَنَةَ قُتِلَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ وَرَأَيْنَا الْمُصْحَفَ الَّذِي قُتِلَ وَهُوَ فِي حِجْرِهِ، فَكَانَتْ أَوَّلُ قَطْرَةٍ قَطَرَتْ مِنْ دَمِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137)، قَالَتْ عَمْرَةُ: فَمَا مَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَوِيًّا". فضائل الصحابة (1/ 501) بإسنادٍ صحيح.

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما علمتُ أحدًا أشرك في دم عثمان، ولا أعان عليه، إلا قـُـتِـل!"، وفي رواية أخرى: "لم يدع الله الفَسَـقة "قتلة عثمان" حتى قتلهم بكل أرض!"، انظر: تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة (4/ 1252).

(16) الطبقات لابن سعد (3/ 78).

(17) مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/ 303).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 09-12-2020, 08:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (15)
نظرة حول منهجية الحكم الصحيحة










زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد أن استعرضنا فترة حكم أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- وما تخللها مِن أحداث نقول: إنه لا بد للحاكم أن يحكم أمور الدولة بكل حزم، لأنه لا يَجترئ على فعل المُحرمات والتعدي على حقوق الناس ومُمتلكاتهم، ونَشر الفوضى وأعمال العنف، والتمادي في الإجرام؛ إلا مَن أمِن العقوبة، فمن أمن العقوبة أساء الأدب، واللين في موضع الشدة ضعف، والشدة في موضع اللين عنف.

وها هو عثمان -رضي الله عنه- يذكر كيف تلقى بعض الناس رفقه ولينه معهم ذلك بعد فترة مِن حكمه، فقد روى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان -رضي الله عنه- أن يكلِّم الناس على المنبر ويشاورهم في أمر توسعة المسجد، قال له مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، فقال: ويحك! إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور. قال مروان: فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ قال: اسكت، إن عمر اشتد عليهم فخافوه، حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنتُ لهم حتى أصبحت أخشاهم. قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيجترأ عليك(1).

وروى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أن أباه قال: "لقد عتبوا على عثمان أشياءً لو فعلها عمر ما عتبوا عليه".

وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان شاهد عيان لخلافة عثمان مِن أولها إلى آخرها، وهو يشهد لعثمان بأن كل ما عتبوا به عليه كان يحتمل أن يكون مِن عمر -وهو أبوه-، ولو كان ذلك مِن عمر لما عتب أو اعترض عليه أحد؛ فقوة عمر -رضي الله عنه- وحزمه وشدته المتزنة الممزوجة بالحكمة كان لها تأثير بالغ في أحواله مع الرعية؛ فكان عمر -رضي الله عنه- قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه, ولمن تحت يديه، و كان عثمان ألين طبعًا وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به عمر حتى يقول عثمان نفسه: "يرحم الله عمر، ومَن يطيق ما كان عمر يطيق" وقد أدرك عثمان ذلك أيضًا حين قال لأقوام سجنهم: "أتدرون ما جرأكم عليَّ؟! ما جرأكم عليَّ إلا حلمي!"، فهذا اللين وهذه الرأفة مِن مميزات عثمان -رضي الله عنه-، لكن بعض الناس لم يحسنوا أن يقابلوا ذلك بالإحسان والطاعة.

هذا ومع وجود اللين والرفق مع مَن استحق ذلك مِن الرعية، فلا بد مِن التوازن بيْن الشدة واللين، ولا تكون الشدة إلا في موضعها، وكذلك اللين يكون في موضعه، ونؤكِّد على أن الحلم واللين مع الرعية كان مِن حسنات عثمان -رضي الله عنه-، ولم يكن أبدًا مِن سيئاته كما يظن البعض، ولا يٌعد حلمه ورحمته مِن النقائص والمعايب، بل كان العيب في الذين لم يحسنوا أن يعيشوا في كنف الحلم واللين والرحمة، ولم يحسنوا أن يقابلوا الإحسان بالطاعة، بل كانوا على العكس مِن ذلك تمامًا!

ثم إننا نشير أن رقعة الدولة قد توسعتْ وازدادت في عصر عثمان -رضي الله عنه-، ودخل كثير مِن الناس الإسلام بثقافاتٍ وطباع مختلفة، وهذا أيضًا كان له أثر بالغ في المجتمع؛ لذا وجب على الحاكم أن يراعي تنوع ثقافات الناس واختلاف طباعها، لا سيما مَن تعود منهم على أسلوب المُلك وهو بلا شك يختلف عن أسلوب الخلافة، ثم إنه كان ينبغي على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- ألا يحدِّث الناس على المنبر في أمر توسعة المسجد وغيره، بل كان عليه أن يتخذ مجلس شورى مِن الثقات يستشيرهم ويكتفي بذلك، ثم لا بد أن نعلم أن فترة الخلافة هي بالطبع أفضل مما بعدها مِن فترات الملك.

ولا بد أيضًا مِن وجود سياسة الاستيعاب بحكمةٍ واعتدال دون إفراط أو غلو، ومَن تدبر منهج معاوية -رضي الله عنه- في الحكم علم ذلك جيدًا؛ فلقد استطاع معاوية -رضي الله عنه- أن يحكم الدولة الواسعة المترامية الأطراف بكل حزمٍ وحكمة، وقد سٌئل معاوية -رضي الله عنه-: "كيف حكمت الشام أربعين سنة ولم تحدث فتنة؟! فقال: "إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعتْ، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها"(2).

فقد امتاز معاوية -رضي الله عنه- بالعقلية الفذة, فإنه كان يتمتع بالقدرة الفائقة على الاستيعاب, فكان يستفيد مِن كل ما يمر به مِن الأحداث, ويعرف كيف يتوقاها, وكانت خبراته الواسعة وممارسته لأعباء الحكم على مدى أربعين سنة منذ ولاه عمر -رضي الله عنه- الشام, فكانت ولايته على الشام عشرين سنة أميرًا, وعشرين سنه خليفة للمسلمين, هذه الفترة الطويلة التي تقلب فيها بيْن المناصب العسكرية والولاية، أكسبته خبرة في سياسة البلاد, والاستفادة مِن كل الظروف والأوضاع التي تمر بها, حتى استطاع أن يسير بالدولة عشرين سنة دون أن ينازعه منازع؛ لذا أثنى كثير مِن الصحابة وأهل العلم على معاوية وسياسته في الحكم.

يقول الشيخ الخضري: "أما معاوية نفسه, فلم يكن أحد أوفر منه يدًا في السياسة, صانع رؤوس العرب, وكانت غايته في الحلم لا تدرك, وعصابته فيه لا تنزع، ومرقاته(3) فيه تزل عنها الأقدام(4), ومِن المعلوم أن السياسة الناجحة تتوقف على القدرة على ضبط النفس عند الغضب, واحتواء الشدائد حتى تنجلي, واستخدام الأساليب المتنوعة حسب الأحداث والمتغيرات، ولمعاوية في ذلك نصيب، وكانت تلك سياسته مع العامة والخاصة, قال عمر بن الخطاب: "تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية".

ويقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: "ما رأيتُ أحدًا أسود مِن معاوية قال: قلت: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسود منه!". وفي رواية: "ما رأيتُ أحدًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسود مِن معاوية. قيل: ولا أبا بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه, وهو أسود منهم"(5).

ويقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ رجلاً كان أخلق بالملك مِن معاوية"(6).

وقال ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-: "وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين".

ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: "واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك, كان ملكه ملكًا ورحمة(7)، وقال: فلم يكن مِن ملوك المسلمين خيرًا منهم في زمان معاوية إذا نُسبت أيامه إلى أيام مَن بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل". وذكر ابن تيمية -رحمه الله- قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز -رحمه الله- فقال: "فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه, قال لا والله في عدله"(8).

وهكذا يجب أن يكون الحكام في كل موطن، وفي كل وقت، يتعاملون مع الواقع بما يتناسب معه، إذن لا بد مِن وجود قدرٍ مِن الحزم والقوة، وقدرٍ مِن اللين والحلم، وقدرٍ مِن الاستيعاب بحكمة.

أما استعمال صفتي اللين والحلم مع الجميع بمختلف التوجهات؛ فهذا ربما يقابله البعض بالإجرام والتمادي في الظلم، وهذا حتمًا سيؤثر بالسلب على أمن العباد والبلاد، والله تعالى أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى للسمهودي (2/83).

(2) العقد الفريد لابن عبد ربه (1/25).


(3) مِرْقاة: جمع مَرَاقٍ: وهو موضع الرُّقِيّ والصُّعود أو أداته كالدَّرجة مِن درجات السُّلَّم.

(4) الصلابي: تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ص175 نقلاً عن الدولة الأموية للخضري، ص 377.

(5) البداية والنهاية لابن كثير (11/ 430). وأسود أي: أحكم، والأسْوَدُ مِن الناس: أكثرهُم سيادة، انظر معجم المعاني. ورواه أبو بكر بن الخلال في السُّنة.

(6) ابن كثير، المصدر السابق (11/ 439).

(7) ابن تيمية، الفتاوى (4/ 478).

(8) ابن تيمية، منهاج السُّنة (6/ 232)، (3/ 185).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 09-12-2020, 08:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (16)
موقعة الجمل "الأسباب والنتائج"






زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا يَنطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- بوقوع الفتن، بل وحدد موطنها، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ، يَقُولُ: (أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) (متفق عليه).
وقد حدث ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمِن العراق ظهر الخوارج، والشيعة، والروافض، والباطنية، وغيرهم، ومِن جهة الفرس خرجت القاديانية، والبهائية، وغيرها مِن الفرق!
وكذا مِن جهة المشرق "مسيلمة الكذاب" و"الدجال".
ومنذ أن مات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، والفتن لم تتوقف، وقد أخبر بذلك أيضًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبدأت الفتن تشتعل بموت أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
وها نحن نبيِّن الآن ما حدث بيْن الصحب الكرام بعد موت عثمان -رضي الله عنه-؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى ما حدث؟ وما هي النتائج التي ترتبت على هذه الأحداث؟
أولاً: بيعة علي -رضي الله عنه- وتوليه أمر الخلافة:
بقيت المدينة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب، أحد قتلة عثمان -رضي الله عنه-، والناس يلتمسون مَن يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه؛ فعن محمد ابن الحنفية قال: كنتُ مع علي بن أبي طالب وعثمان محصر، قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة. قال: فقام علي -رحمه الله-، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفًا عليه فقال: خلَّ لا أم لك، قال: فأتى على الدار، وقد قٌتل الرجل -رحمه الله-، فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه، فقالوا: إن هذا قد قُتل، ولا بد للناس مِن خليفة ولا نعلم أحدًا أحق بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزيرًا خير مني لكم أميرًا. فقالوا: لا والله لا نعلم أحدًا أحق بها منك.
قال: فإن أبيتم عليَّ فإن بيعتي لا تكون سرًّا، ولكن أخرج إلى المسجد؛ فبايعه الناس.
وفي رواية أخرى عن سالم بن أبي الجعد عن محمد ابن الحنفية: فأتاه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل ولا بد للناس مِن إمام، ولا نجد أحدًا أحق بها منك؛ أقدم مشاهد، ولا أقرب مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال علي: لا تفعلوا فإني لكم وزيرًا خير مني أميرًا، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد فإنه ينبغي لبيعتي ألا تكون خفيًا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين. فقال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: لقد كرهتُ أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس، وكان فيهم طلحة والزبير -رضي الله عنهما-، فأتوا عليًّا فقالوا: يا أبا حسن، هلم نبايعك، وتمت البيعة منهما، وهكذا تمتْ بيعة علي -رضي الله عنه- بالخلافة بطريقة الاختيار بعد خروج البغاة على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-.
ثانيًا: اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- حول مسألة القِصاص مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه-:
بعد أن تمت البيعة لعلي -رضي الله عنه-، ذهب طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وطلبا منه أن يقيم القصاص على قتلة عثمان -رضي الله عنه-؛ فاعتذر أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-.

ومِن هنا بدأ الخلاف: فلقد رأى علي -رضي الله عنه- بفهمه وفقهه واجتهاده ومراعاته للمصالح والمفاسد أن يٌؤجِّل إقامة القصاص على قتلة عثمان؛ لا سيما وأن مثل هذه الأمور يصعب فيها أولاً تحديد الجناة، وهذا يحتاج إلى تحقيقٍ واسع للتعرف على الجناة؛ لا سيما مع صعوبة التثبت في أوقات الفتن والفوضى، ثم إن ذلك يحتاج إلى قوة واستقرار في الدولة للقدرة على إقامة القصاص لو ثبتت شروطه.
وهنا رفض طلحة والزبير -رضي الله عنهما- هذا الاجتهاد، وقررا الخروج إلى مكة حيث مقام أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بعد أن أدت فريضة الحج، ثم استأذن طلحة والزبير عليًّا في العمرة؛ فأذن لهما، فلحقا بمكة، ثم أرسلت نائلة زوج عثمان -رضي الله عنه- قميصه الذي قُتِل فيه إلى معاوية بن أبي سفيان في بلاد الشام، ووضعت فيه أصابعها التي قٌطعت وهي تدافع عن زوجها أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-.
ونود أن نؤكِّد على: أن الخلاف الذي نشأ بيْن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- مِن جهةٍ، وبيْن طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- مِن جهةٍ أخرى، ثم بعد ذلك بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما- لم يكن سببه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وإمامته وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين؛ فقد كان هذا محل إجماع بينهم.
قال ابن حزم -رحمه الله-: "ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة، ولكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه- على البيعة، ورأى نفسه أحق بمطلب دم عثمان".
وهكذا اعتذر علي -رضي الله عنه- عن أخذ الثأر، وقال: "إن قتلة عثمان لهم مدد وأعوان"، وقد تعصب لهم كثيرٌ مِن الناس وبلغ عددهم ما يقرب مِن عشرة آلاف، وهم متفرقون في المدينة والكوفة ومصر.
ولما سمعت السيدة عائشة -رضي الله عنها- بموت عثمان في طريق عودتها مِن مكة إلى المدينة، رجعت إلى مكة ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الحجر فتستَّرت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: أيها الناس إن الغوغاء مِن أهل الأمصار، وأهل المياه، خلجوا -تحركوا واضطربوا-، وبادروا بالعدوان؛ نبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام، والله لأصبع عثمان خير مِن طباق الأرض أمثالهم، فنجاة -أي اطلبوا النجاة باجتماعكم عليهم- مِن اجتماعكم عليهم حتى يَنْكل بهم غيرهم، ويشرَّد مَن بعدهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا نخلُص منه كما يخلص الذهب مِن خبثه أو الثوب مِن درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء.
وجاء في رواية: أن عائشة -رضي الله عنها- حين انصرفت راجعة إلى مكة أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي -أمير مكة-، فقال لها: ما ردّك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردي أن عثمان قُتل مظلومًا، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر؛ فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام.
وقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة ثناء عائشة -رضي الله عنها- على عثمان -رضي الله عنه-، ولعنها لمَن قتله في رواياتٍ متعددة.
ثم قدِم طلحة والزبير -رضي الله عنهما- إلى مكة ولقيا عائشة -رضي الله عنها-، وكان وصولهما إلى مكة بعد أربعة أشهر مِن مقتل عثمان -رضي الله عنه- تقريبًا، أي في ربيع الآخر مِن عام 36هـ، ثم بدأ التفاوض في مكة مع عائشة -رضي الله عنها- للخروج، وقد كانت هناك ضغوط نفسية كبيرة على الذين وجدوا أنفسهم لم يفعلوا شيئًا لإيقاف عملية قتل الخليفة المظلوم، فقد اتهموا أنفسهم بأنهم خذلوا الخليفة، وأنه لا تكفير لذنبهم هذا -حسب قولهم- إلا الخروج للمطالبة بدمه، علمًا بأن عثمان -رضي الله عنه- هو الذي نهى كل مَن أراد أن يدافع عنه في حياته تضحية في سبيل الله!
فعائشة -رضي الله عنها- تقول: إن عثمان -رضي الله عنه- قُتل مظلومًا، والله لأطالبن بدمه. وطلحة -رضي الله عنه- يقول: إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يُسفك دمي في طلب دمه! والزبير -رضي الله عنه- يقول: نُنهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلا يَبْطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدًا؛ إذا لم يُفطم الناس عن أمثالها لم يبقَ إمام إلا قتله هذا الضرب.
وبعد أن دار حوار بينهم حول الجهة التي يتوجهون إليها، قال بعضهم: نتوجه إلى المدينة، ومِن هؤلاء عائشة -رضي الله عنها-، وظهر رأي آخر يطلب التوجُّه إلى الشام ليتجمعوا معًا ضد قتلة عثمان، وهناك مَن رأى الذهاب إلى الكوفة، وبعد نظرٍ طويل استقروا على البصرة؛ لأن المدينة فيها كثرة ولا يقدرون على مواجهتهم لقلتهم؛ ولأن الشام صار مضمونًا لوجود معاوية، ومِن ثَمَّ يكون دخولهم البصرة أولى؛ لأنها أقل البلدان قوة وسلطة، ويستطيعون مِن خلالها تحقيق خطتهم.
وكانت خطتهم ومهمتهم واضحة سواء قبْل خروجهم أو أثناء طريقهم أو عند وصولهم إلى البصرة، وهي: المطالبة بدم عثمان، والإصلاح، وإعلام الناس بما فعل الغوغاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأن هذا المطلب هو لإقامة حدٍّ مِن حدود الله, وأنه إذا لم يؤخذ على أيدي قتلة عثمان -رضي الله عنه-؛ فسيكون كل إمام معرضًا للقتل مِن أمثال هؤلاء.
وسمي يوم خروجهم مِن مكة نحو البصرة بـ"يوم النحيب"، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام، أو باكيًا له مِن ذلك اليوم! فلما خرجتْ إلى البصرة، وبلغ ذلك عثمان بن حنيف، وهو والي البصرة مِن قِبَل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرسل إلى عائشة -رضي الله عنها- عند قدومها البصرة يسألها عن سبب قدومها، فقالت: "إن الغوغاء مِن أهل الأمصار، ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا مِن قتل إمام المسلمين بلا تِرَة ولا عذر؛ فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجنود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين، غير نافعين ولا متقين، ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون؛ فخرجتُ في المسلمين أُعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأتْ: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء:114)، فنهض في الإصلاح ممن أمر الله -عز وجل- وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصغير والكبير، والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروفٍ نأمركم به ونحضكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره".
وقد كادت عائشة -رضي الله عنها- أن تعود وترجع أثناء سيرها في الطريق إلى البصرة، فعن قيس ابن حازم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأزواجه: (أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ؟) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وبالفعل مرت عائشة -رضي الله عنها- في الطريق على بعض مياه بني عامر ليلاً؛ فنبحت عليها الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ فقالوا: ماء الحوأب، فوقفت وقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لنا: (أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ؟)، فقال لها الزبير: أترجعين؟ عسى الله -عز وجل- أن يُصلح بك بيْن الناس.
ولما أرسل عليٌّ القعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- لعائشة -رضي الله عنها- ومَن كان معها يسألها عن سبب قدومها، دخل عليها القعقاع فسلم عليها، وقال: أي أُمه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني، إصلاح بيْن الناس.
هذا وقد كانت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارًا مِن الفتنة، فلما بلغ الناس بمكة أن عثمان -رضي الله عنه- قد قُتل أقمن بمكة، وكن قد خرجن منها فرجعن إليها، وجعلن ينتظرن ما يصنع الناس ويتحسسن الأخبار، فلما بويع علي خرج عددٌ مِن الصحابة مِن المدينة كارهين المقام بها بسبب الغوغاء مِن أهل الأمصار، فاجتمع بمكة منهم خلق كثير مِن الصحابة وأمهات المؤمنين.
وبقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة -رضي الله عنها- على السير إلى المدينة؛ فلما اتفق رأي عائشة -رضي الله عنها- ومَن معها مِن الصحابة على السير إلى البصرة، رجعن عن ذلك، وقلن: لا نسير إلى غير المدينة، وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين -رضي الله عنها- قد وافقت عائشة -رضي الله عنها- على المسير إلى البصرة، فمنعها أخوها عبد الله مِن ذلك، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة، وسار الناس بصحبة عائشة -رضي الله عنها- في ألف فارس، وقيل تسعمائة فارس مِن أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فساروا في ثلاثة آلاف رجل.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
المراجع:
- فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، محمد غبان.
- تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، محمد سهيل طقوش.
- تاريخ الرسل والملوك للإمام الطبري.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للصلابي.
- تضارب روايات الفتنة الكبرى، خالد كبير علال.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 22-01-2021, 01:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (17)
موقعة الجمل "الأسباب والنتائج"









زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد استعرضنا في المقال السابق كيف تمتْ بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ثم مطالبة بعض الصحابة وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهم-، بإقامة القصاص على قتلة عثمان -رضي الله عنه-، وقد اعتذر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأبدى وجهة نظره في إرجاء إقامة القصاص، ثم تحرك جمع غفير مِن مكة إلى البصرة بصحبة أم المؤمنين عائشة وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهم-.

وعندما وصل طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- ومَن معهم إلى البصرة، أرسلوا إلى أعيان وأشراف القبائل يستعينون بهم على قتلة عثمان، وكان كثير مِن المسلمين في البصرة وغيرها يرغبون في القود مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه-؛ إلا أن بعض هؤلاء يرون أن هذا مِن اختصاص الخليفة وحده، وأن الخروج في هذا الأمر بدون أمره وطاعته معصية، ولكن خروج هؤلاء الصحابة المشهود لهم بالجنة، وأعضاء الشورى ومعهم أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفقه النساء مطلقًا؛ جعل الكثير مِن البصريين على اختلاف قبائلهم ينضمون إليهم.

وأرسل الزبير إلى الأحنف بن قيس السعدي التميمي يستنصره على الطلب بدم عثمان، والأحنف مِن رؤساء تميم وكلمته مسموعة، يقول الأحنف واصفًا هول الموقف: فأتاني أفظع أمر أتاني قط فقلتُ: إن خذلاني هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لشديد إلا أنه اختار الاعتزال، فاعتزل معه ستة آلاف ممن أطاعه مِن قومه، وعصاه في هذا الأمر كثير منهم، ودخلوا في طاعة طلحة والزبير وأم المؤمنين -رضي الله عنهم-، ويذكر الزهري أن عامة أهل البصرة تبعوهم, وهكذا انضم إلى طلحة والزبير وعائشة ومَن معهم أنصار جدد لقضيتهم التي خرجوا مِن أجلها، وقد حاول ابن حنيف تهدئه الأمور والإصلاح قدر المستطاع.

عليٌّ -رضي الله عنه- يغادر المدينة متوجهًا إلى الكوفة:

همّ علي بالنهوض إلى الشام ليزور أهلها وينظر ما هو رأي معاوية -رضي الله عنه- وما هو صانع، فقد كان يرى أن المدينة لم تعدُ تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة، فلما علم أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- بهذا قال: يا أمير المؤمنين، أقم بهذه البلاد؛ لأنها الدرع الحصينة، ومهاجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبها قبره ومنبره ومادة الإسلام، فإن استقامت لك العرب كنتَ كمن كان، وإن تشغب عليك قوم رميتهم بأعدائهم، وإن ألجئت حينئذٍ إلى السير سرت وقد أعذرت، فأخذ الخليفة بما أشار به أبو أيوب وعزم المقامة بالمدينة وبعث العمال على الأمصار.

وقد بعث معاوية كتابًا مع رجل، فدخل به على علي، فقال له على: ما وراءك؟ قال: جئتك مِن عند قوم لا يريدون إلا القود، كلهم موتور -رَجُلٌ مَوْتُورٌ: أي مَنْ قُتِلَ لَهُ قَرِيبٌ وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِ، ورَجُلٌ مَوْتُورٌ: عصبي مشدود-، تركتُ ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك مِن دم عثمان.

ثم خرج رسول معاوية مِن بيْن يدي علي؛ فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلتْ إلا بعد جهدٍ، وبعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنهما-، عزم الخليفة علي الذهاب إلى أهل الشام؛ فكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حُنيف بذلك، وخطب الناس فحثّهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج مِن المدينة، واستخلف عليها قُثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه مَن عصاه وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس، ولكن نظرًا لبعض المستجدات السياسية على الساحة وما يحدث في البصرة قرر أمير المؤمنين مغادرة المدينة وأن يتوجه إلى الكوفة، فاستنفر أهل المدينة ودعاهم إلى نصرته، وكان كثير مِن أهل المدينة يرون أن الفتنة ما زالت مستمرة، فلا بد مِن التروي حتى تنجلي الأمور أكثر، وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع، فإن هذا الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر.

وروى الطبري أن عليًّا -رضي الله عنه- خرج في تعبئته التي كان تعبَّى بها إلى الشام وخرج معه مَن نشط مِن الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمائة رجل، والأدلة على تثاقل كثير مِن أهل المدينة عن إجابة أمير المؤمنين للخروج كثيرة، كما أن رجالاً مِن أهل بدر لزموا بيوتهم بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم، وحاول عبد الله بن سلام صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يثني عزم أمير المؤمنين علي عن الخروج، فأتاه وقد استعد للمسير، وأظهر له خوفه عليه ونهاه أن يقدم على العراق قائلاً: أخشى أن يصيبك ذباب السيف، كما أخبره بأنه لو ترك منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلن يراه أبدًا، وفي الربذة قام إليه ابنه الحسن -رضي الله عنهما- وهو يبكي لا يخفي حزنه وتأثره على ما أصاب المسلمين مِن تفرق واختلاف، وقال الحسن لوالده: قد أمرتك فعصيتني، فتُقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية! وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان -رضي الله عنه- أن تخرج مِن المدينة فيُقتل ولستَ بها، ثم أمرتك يوم قُتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله. قال: أي بني، أما قولك: لو خرجت مِن المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهنًا على أهل الإسلام، والله ما زلت مقهورًا مذ وُليت، منقوصًا لا أصل إلى شيء مما ينبغي، وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني، أو مَن تريدني؟ أتريدني أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، ويقال: دباب دباب -دعاء الضبع للضبع-, ليست ههنا حتى يحل عرقوباها ثم نُخرج، وإذا لم أنظر فيما لزمني مِن هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ فكف عنك أي بني

ولَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ الْخُرُوجَ مِنَ الرَّبَذَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ قَامَ إِلَيْهِ ابْنٌ لِرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَقَالَ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ بِنَا؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي نُرِيدُ وَنَنْوِي فَالإِصْلاحَ، إِنْ قَبِلُوا مِنَّا وأجابونا إليه، قال: فان لم يجيبوا إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ بِعُذْرِهِمْ وَنُعْطِيهِمُ الْحَقَّ وَنَصْبِرُ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ مَا تَرَكُونَا، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُونَا؟ قَالَ: امْتَنَعْنَا مِنْهُمْ، قَالَ: فَنَعَمْ إِذًا".

وأرسل علي -رضي الله عنه- مِن الربذة يستنفر أهل الكوفة ويدعوهم إلى نصرته؛ إذ إن أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- والي الكوفة مِن قِبَل علي، ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال في الفتنة وأسمعهم ما سمعه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن التحذير مِن الاشتراك في الفتنة فأرسل علي بعد ذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته لتأثير أبي موسى عليهم، ثم تحرك عليٌّ بجيشه إلى ذي قار ثم بعث للكوفة في هذه المرة عبد الله بن عباس فأبطأوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن بن علي، وعزل أبا موسى الأشعري واستعمل قرظة بن كعب بدلاً منه.

وكان للقعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- دور عظيم في إقناع أهل الكوفة، فقد قام فيهم وقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق، وأحب أن ترشدوا، ولأقولن لكم قولاً هو الحق، والقول الذي هو القول؛ إنه لا بد مِن إمارة تنظم الناس وتنزع الظالم، وتعز المظلوم، وهذا عليٌّ يلي ما ولى، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا في هذا الأمر بمرأى ومسمع.

وكان للحسن بن علي -رضي الله عنهما- أثر واضح؛ فقد قام خطيبًا في الناس وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر مَن ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة وخير مِن العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، ولبى كثير مِن أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بيْن سبعة إلى ستة آلاف رجل، ثم انضم إليهم مِن أهل البصرة ألفان مِن عبد القيس، ثم توافدت عليه القبائل إلى أن بلغ جيشه عند حدوث المعركة اثنى عشر ألف رجل تقريبًا، وعندما التقى أهل الكوفة بأمير المؤمنين هلي بذي قار قال لهم: يا أهل الكوفة، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأعنتم حوزتكم، واغتنم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا مِن أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك ما نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق، وبايناهم حتى يبدءونا بظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد -إن شاء الله-، ولا قوة إلا بالله.

وقبْل أن يتحرك علي -رضي الله عنه- بجيشه نحو البصرة أقام في ذي قار أيامًا، وكان غرضه -رضي الله عنه-، هو القضاء على هذه الفرقة والفتنة بالوسائل السلمية، وتجنيب المسلمين شر القتال والصدام المسلح بكل ما أُوتي مِن قوة وجهد، وكذلك الحال بالنسبة لطلحة والزبير.

محاولات الصلح بيْن الفريقين:

وقد شارك في محاولات الصلح عدد مِن الصحابة وكبار التابعين ممن اعتزلوا الأمر، منهم: عمران بن حصين -رضي الله عنه-، فقد أرسل في الناس يخذل الفريقين جميعًا، وكعب بن سور أحد كبار التابعين، فقد بذل كل جهد، وقام بدور يعجز عنه كثير مِن الرجال، فقد استمر في محاولة الصلح إلى أن وقع القتال، وقُتل وهو بيْن الصفين يدعو هؤلاء ويدعو هؤلاء إلى تحكيم كتاب الله وكف السلاح، والقعقاع بن عمرو التميمي -رضي الله عنه- حيث أرسله أمير المؤمنين عليٌّ -رضي الله عنه- في مهمة الصلح إلى طلحة والزبير، وقال: القَ هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الاختلاف والفرقة. وذهب القعقاع إلى البصرة، فبدأ بعائشة -رضي الله عنها- وقال لها: ما أقدمك يا أماه إلى البصرة؟ قالت له: يا بني مِن أجل الإصلاح بيْن الناس. فطلب القعقاع منها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا، ويكلمهما في حضرتها وعلى مسمع منها، ولما حضرا سألهما عن سبب حضورهما، فقالا كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: مِن أجل الإصلاح بين الناس. فقال لهما: أخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عَرفناه لنصلحنَّ معكم، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا له: قتلة عثمان -رضي الله عنه- لا بد أن يُقتلوا، فإن تُركوا دون قصاص كان هذا تركًا للقرآن، وتعطيلاً لأحكامه، وإن اقُتصَّ منهم كان هذا إحياءً للقرآن. قال القعقاع: لقد كان في البصرة ستُّمائة مِن قتلة عثمان وأنتم قتلتموهم إلا رجلاً واحدًا، وهو حٌرقٌوص بن زهير السعدي، فلما هرب منكم احتمى بقومه مِن بني سعد، ولما أردتم أخذه منهم وقَتْله منعكم قومه مِن ذلك، وغضب له ستة آلاف رجل اعتزلوكم، ووقفوا أمامكم وقفة رجل واحد، فإن تركتم حرقوصًا ولم تقتلوه، كنتم تاركين لما تقولون وتنادون به وتطالبون عليًا به، وإن قاتلتم بني سعد مِن أجل حرقوص، وغلبوكم وهزموكم وأديلوا عليكم، فقد وقعتم في المحذور، وقوَّيتموهم، وأصابكم ما تكرهون، وأنتم بمطالبتكم بحرقوص أغضبتم ربيعة ومضر مِن هذه البلاد، حيث اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لبني سعد، وهذا ما حصل مع علي، ووجود قتلة عثمان في جيشه؛ يعني أن الذي تريدونه مِن قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان -رضي الله عنه- مِن حرقوص بن زهير؛ لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان -رضي الله عنه- إلى أن يتمكن منهم، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة.

وهنا تأثرت أمُّ المؤمنين ومَن معها بمنطق القعقاع وحجته المقبولة؛ فقالت له: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ قال: "أقول: هذا أمر دواؤه التسكين، ولا بد مِن التأني في الاقتصاص مِن قتلة عثمان، فإذا انتهت الخلافات، واجتمعت كلمة الأمة على أمير المؤمنين تفرغ لقتلة عثمان، وإن أنتم بايعتم عليًّا واتفقتم معه، كان هذا علامة خير، وتباشير رحمة، وقدرة على الأخذ بثأر عثمان، وإن أنتم أبيتم ذلك، وأصررتم على المكابرة والقتال كان هذا علامة شر، وذهابًا لهذا الملك، فآثروا العافية تُرزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تُعرَّضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حجته مِن هذه الأمة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإنّ ما نزل بها أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا قتل النفر الرجل، ولا قتل القبيلة القبيلة".

وبعد هذه الكلمات العذبة والتي أخلص فيها القعقاع وافقوا على دعوته إلى الصلح، وقالوا له: قد أحسنتْ وأصبت المقالة، فارجع، فإن قدم علي، وهو على مثل رأيك، صلح هذا الأمر -إن شاء الله-.

وعاد القعقاع إلى علي -رضي الله عنهما- في ذي قار وقد نجح في مهمته، وأخبر عليًّا بما جرى معه، فأُعجب علي بذلك، وأوشك القوم على الصلح؛ كرهه مَن كرهه، ورضيه مَن رضيه، ثم أرسل علي -رضي الله عنه- رسولين إلى عائشة والزبير ومَن معهما يستوثق مما جاء به القعقاع بن عمرو، فجاءا عليًّا بأنه على ما فارقنا عليه القعقاع فأقدم، فارتحل علي حتى نزل بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم، مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح, وكان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- لما نوى الرحيل قد أعلن قراره الخطير: ألا وإني راحل غدًا فارتحلوا يقصد إلى البصرة، ألا ولا يرتحلن غدًا أحد أعان على عثمان بشيء في شيء مِن أمور الناس، وهكذا اتفق الطرفان على الصلح، وظهرت حقيقة نواياهم، ولكن قدر الله أسبق!

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

- فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، محمد غبان.

- تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، محمد سهيل طقوش.

- تاريخ الرسل والملوك للإمام الطبري.

- البداية والنهاية لابن كثير.

- أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للصلابي.
- تضارب روايات الفتنة الكبرى، خالد كبير علال.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 22-01-2021, 01:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (18)
موقعة الجمل "الأسباب والنتائج"







زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق ما اتفق عليه الطرفان مِن أمر الصلح، وذكرنا الدور العظيم الذي قام به القعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- في إقناع أهل الكوفة.
دور السبئية في نشوب الحرب:
كان في عسكر علي -رضي الله عنه- مِن أولئك الطغاة الذين قتلوا عثمان -رضي الله عنه- مَن لم يُعرف بعينه، ومَن تنتصر له قبيلته، ومَن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومَن في قلبه نفاق لم يتمكن مِن إظهاره, وحرص أتباع ابن سبأ على إشعال الفتنة وتأجيج نيرانها حتى يفلتوا مِن القصاص.
فلما نزل الناس منازلهم واطمأنوا؛ خرج علي وخرج طلحة والزبير -رضي الله عنهم- فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه فلم يجدوا أمرًا هو أمثل مِن الصلح وترك الحرب حين رأوا أن الأمر أخذ في الانقشاع، فافترقوا على ذلك، ورجع عليٌّ إلى عسكره، ورجع طلحة والزبير إلى عسكرهما، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه؛ ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان -رضي الله عنه-؛ فبات الناس على نية الصلح والعافية وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، لا يذكرون ولا ينوون إلا الصّلح.
وبات الذين أثاروا الفتنة بشرِّ ليلة باتوها قط؛ إذ أشرفوا على الهلاك، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السرِّ، واستسروا بذلك خشية أن يُفتضح أمرهم، وقال قائلهم: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم؛ وذلك حين طلب مِن الناس أن يرتحلوا في الغد ولا يرتحل معه أحد أعان على عثمان بشيء، ورأي الناس فينا والله واحد، وإن يصطلحوا مع علي؛ فعلى دمائنا، وتكلم عبد الله بن سبأ فقال: يا قوم إن عزّكم في خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غدًا فانشبوا القتال؛ فاجتمعوا على هذا الرأي بإنشاب الحرب في السّر.
وقبيل الفجر انقسم أهل الفتنة بالفعل إلى فريقين، ونفذوا ما تم الاتفاق عليه، فنهضوا مِن قبْل طلوع الفجر وهم قريب مِن ألفي رجل؛ فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف، وقتلوا مجموعة كبيرة مِن الفريقين، وصاحوا وصرخوا أن كلاً مِن الفريقين: البصرة والكوفة قد هجم على الآخر(1)، وفزع الناس مِن نومهم إلى سيوفهم، وليس لديهم شك أن الفريق الآخر قد غدر بهم، ونقض ما اتفق عليه مِن وجوب الصلح؛ فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناس مِن منامهم إلى السلاح، فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلاً، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ مِن أصحاب علي -رضي الله عنه-؛ فبلغ الأمر عليًّا فقال: ما للناس؟ فقالوا: بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وقامت الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان(2)، ولم يكن هناك أي فرصة للتثبت مِن الأمر في ظلام الليل, وفي الجانب الآخر ينادي طلحة وهو على دابته وقد غشيه الناس فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه ولا ينصتون، فما زاد أن قال: أف أف! فراش نار، وذباب طمع!
ومِن خلال هذا العرض يتبين أثر ابن سبأ وأعوانه في المعركة، ويتضح بما لا يدع مجالاً للشك حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على الإصلاح وجمع الكلمة، وهذا هو الحق الذي تثبته النصوص وتطمئن إليه النفوس، ونحن قد ذكرنا سابقًا خطورة النفاق والمنافقين على المجتمع المسلم.
نشوب القتال بيْن الطرفين:
زاد السبئيون في الجيشين مِن جهودهم في إنشاب القتال، وإغراء كل فريق بخصمه وتهييجه على قتاله، ونشبت المعركة عنيفة قاسية، وكانت المعركة يوم الجمعة في السادس عشر مِن جمادى الآخرة، سنة ست وثلاثين في منطقة "الزابوقة" قرب البصرة، وحزن عليٌّ -رضي الله عنه- لِما جرى، ونادى مناديه: كفوا عن القتال أيها الناس، ولم يسمع نداءه أحدٌ؛ فالكل كان مشغولاً بقتال خصمه(3).
وكانت معركة الجمل على جولتين: الجولة الأولى كان قائدا جيش البصرة فيها طلحة والزبير، واستمرت مِن الفجر حتى قبيل الظهيرة, ونادى علي -رضي الله عنه- في جيشه، كما نادى طلحة والزبير -رضي الله عنهما- في جيشهما: لا تقتلوا مدبرًا، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تلحقوا خارجًا مِن المعركة تاركًا لها(4)، وقد كان الزبير -رضي الله عنه- أوصى ابنه عبد الله بقضاء دينه فقال: إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل مظلومًا، وإن أكبر همي دَيْنِي!(5).
وأثناء ذلك جاء رجل إلى الزبير -رضي الله عنه- وعرض عليه أن يقتل عليًّا -رضي الله عنه-، وذلك بأن يندس مع جيشه، ثم يفتك به، فأنكر عليه بشدة، وقال: لا؛ لا يفتك مؤمن بمؤمن، أو إن الإيمان قيَّد الفتك(6)، وهذا يدل على عدم عزمه على القتل، وقد تقابل أمير المؤمنين عليٌّ والزبير -رضي الله عنهما-، فكلمه عليٌّ و ذكَّره بحديث سمعه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له -أي الزبير-: (يَا زُبَيْرُ, أَمَا وَاللهِ لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ)(7)، وهنا قرر الزبير -رضي الله عنه- أن ينصرف، ويغادر أرض المعركة.
وبعض الروايات ترجع السبب في انصراف الزبير -رضي الله عنه- قبيل المعركة لما علم بوجود عمار بن ياسر -رضي الله عنه- في الصف الآخر، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ)(8), وبعضها يرجع السبب في انصرافه إلى شكه في صحة موقفه مِن هذه الفتنة(9)، وفي رواية ترجع السبب في انصرافه إلى أن ابن عباس -رضي الله عنهما- ذكره بالقرابة القوية مِن علي -رضي الله عنه-؛ إذ قال له: أين صفية بنت عبد المطلب حيث تقاتل بسيفك علي بن أبي طالب بن عبد المطلب؟! فخرج الزبير مِن المعركة؛ فلقيه ابن جٌرمٌوز فقتله -كما سيأتي تفصيله بإذن الله-.
فالزبير -رضي الله عنه- كان على وعي لهدفه "وهو الإصلاح"، ولكنه لما رأى حلول السلاح مكان الإصلاح رجع ولم يقاتل، وعلى إثر هذا الحديث انصرف الزبير وترك الساحة(10).
وأما طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- القائد الثاني لجيش البصرة؛ فقد أصيب في بداية المعركة إذ جاءه سهم غرب لا يعرف مَن رماه، فأصابه إصابة مباشرة، ونزف دمه بغزاره فقالوا له: يا أبا محمد، إنك لجريح؛ فاذهب وادخل البيوت لتعالَج فيها، فقال طلحة لغلامه: احملني، وابحث لي عن مكان مناسب، فأدخل البصرة، ووضع في دار فيها ليعالج، ولكن جرحه ما زال ينزف حتى توفي في البيت، ثم دفن في البصرة -رضي الله عنه-(11), وأما الرواية التي تشير إلى تحريض الزبير وطلحة -رضي الله عنهما- على القتال، وأن الزبير -رضي الله عنه- لما رأى الهزيمة على أهل البصرة ترك المعركة ومضى؛ فهذه الرواية لا تصح(12)، وهذا يخالف الروايات الصحيحة التي تنص على أن أصحاب الجمل ما خرجوا إلا للإصلاح؛ فكيف يستقيم هذا الفعل مِن الزبير -رضي الله عنه- مع الهدف الذي خرج مِن مكة إلى البصرة مِن أجله؛ ألا وهو الإصلاح بيْن الناس؟! وبالفعل فإن موقف الزبير -رضي الله عنه- كان السعي في الإصلاح حتى آخر لحظة، وكذلك طلحة؛ فقد جاءا مِن أجل الإصلاح وليس مِن أجل إراقة الدماء! وهكذا خرج الزبير -رضي الله عنه- مِن ميدان المعركة، ومات طلحة -رضي الله عنه-، وأما عن مقتل طلحة -رضي الله عنه-؛ فقد كان عند بدء القتال كما صرَّح بذلك الأحنف بن قيس(13).
وبسقوط القتلى والجرحى مِن الجانبين تكون قد انتهت الجولة الأولى مِن معركة الجمل، وكانت الغلبة فيها لجيش علي -رضي الله عنه-، وكان علي -رضي الله عنه- يراقب سير المعركة، ويرى القتلى والجرحى في الجانبين؛ فيتألم ويحزن، وأقبل علي على ابنه الحسن، وضمّه إلى صدره، وصار يبكي ويقول له: يا بُني، ليت أباك مات قبْل هذا اليوم بعشرين عامًا. فقال الحسن: يا أبتِ، لقد كنتُ نهيتك عن هذا، فقال علي: ما كنتُ أظن أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، وما طعمُ الحياة بعد هذا؟ وأيُّ خير يُرجى بعد هذا؟!(14).
وصل الخبر إلى أم المؤمنين -رضي الله عنها- بما حدث مِن القتال، فخرجتْ على جملها تحيط بها القبائل الأزدية، ومعها كعب الذي دفعتْ إليه مصحفًا يدعو الناس إلى وقف الحرب؛ تقدمت أم المؤمنين -رضي الله عنها- وكلها أمل أن يسمع الناس كلامها لمكانتها في قلوب الناس؛ فتحجز بينهم وتطفئ هذه الفتنة التي بدأت تشتعل, وحمل كعب بن سور المصحف، وتقدم أمام جيش البصرة، ونادى جيش علي قائلاً: يا قوم، أنا كعب بن سور، قاضي البصرة، أدعوكم إلى كتاب الله، والعمل بما فيه، والصلح على أساسه. وخشي السبئيون في مقدمة جيش علي أن تنجح محاولة كعب فرشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد، فمات والمصحف في يده(15)، وأصابت سهام السبئيين ونبالهم جمل عائشة -رضي الله عنها- وهودجها، فصارت تنادي، وتقول: يا بني، الله، الله، اذكروا الله ويوم الحساب، وكفوا عن القتال. والسبئيون لا يستجيبون لها! وهم مستمرون في ضرب جيش البصرة!
وكان علي -رضي الله عنه- مِن الخلف يأمر بالكف عن القتال، وعدم الهجوم على البصريين، لكن السبئيين في مقدمة جيشه لا يستجيبون له، ويأبون إلا إقدامًا وهجومًا وقتالاً، ولما رأت عائشة -رضي الله عنها- عدم استجابتهم لدعوتها، ومقتل كعب بن سور أمامها، قالت: أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. وصارت عائشة تدعو على قتلة عثمان وتلعنهم، وضج أهل البصرة بالدعاء على قتلة عثمان وأشياعهم، ولعنهم، وسمع علي الدعاء عاليًا في جيش البصرة فقال: ما هذا؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان، والناس يدعون معها. قال علي: ادعوا معي على قتلة عثمان وأشياعهم والعنوهم. وضجّ جيش علي بلعن قتل عثمان والدعاء عليهم(16), وقال علي: اللهم العن قتلة عثمان في السهل والجبل(17).
ثم اشتدت الحرب واشتعلت، وتشابك القوم وتشاجروا بالرماح، ثم استلوا السيوف فتضاربوا بها, ودنا الناس بعضهم مِن بعض(18), ووجَّه السبئيون جهودهم لعقر الجمل، وقتل عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-؛ فسارع جيش البصرة لحماية عائشة -رضي الله عنها- وجملها، وقاتلوا أمام الجمل، وكان لا يأخذ أحد بخطام الجمل إلا قُتِل، حيث كانت المعركة أمام الجمل في غاية الشدة والقوة، حتى أصبح الهودج كأنه قٌنفٌذ(19) مما رمي فيه مِن النبل(20), وقتل حول الجمل كثير مِن المسلمين مِن الأزد، وبني ضبة، وأبناء وفتيان قريش بعد أن أظهروا شجاعة منقطعة النظير(21), وقد أصيبت عائشة -رضي الله عنها- بحيرة شديدة وحرج؛ فهي لا تريد القتال، ولكنه وقع رغمًا عنها،، وصارت تنادي بالكف، فلا مجيب، وكان كل مَن أخذ بخطام الجمل قُتل؛ فجاء محمد بن طلحة "السجاد"(22)، وأخذ بخطامه وقال لأمه -أم المؤمنين-: يا أماه ما تأمرين؟ فقالت: كن كخيري ابني آدم، أي كف يدك، فأغمد سيفه بعد أن سله، فُقتل -رحمه الله-(23), وأما عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- فقد قاتل قتالاً شديدًا، ورمى بنفسه بيْن السيوف، فقد استخرج مِن بيْن القتلى وبه بضع وأربعون ضربة وطعنة، كان أشدها وآخرها ضربة الأشتر؛ إذ مِن حنقه على ابن الزبير لم يرضَ أن يضربه وهو جالس على فرسه، بل وقف في الركابين فضربه على رأسه ظانًا أنه قتله(24)، واستحر القتل أيضًا في بني عدى وبني ضبة والأزد، وقد أبدى بنو ضبة حماسة وشجاعة وفداء لأم المؤمنين -رضي الله عنها-، وكان علي -رضي الله عنه- يردد: اللهم ليس هذا أردتُ، اللهم ليس هذا أردتُ!(25).
ثم فكر علي -رضي الله عنه- كيف يقف هذا القتال؟ وأيقن أن في بقاء الجمل استمرارًا للحرب، وهلاكًا للناس، وأن أصحاب الجمل لن ينهزموا أو يكفوا عن الحرب ما بقيت أم المؤمنين -رضي الله عنها- في الميدان، كما أن في بقائها خطرًا على حياتها؛ فالهودج الذي هي فيه أصبح كالقنفذ مِن السهام, فأمر علي نفرًا مِن جنده، منهم محمد بن أبي بكر "أخو أم المؤمنين" وعبد الله بن بديل أن يعرقبا(26) الجمل، ويخرجا عائشة -رضي الله عنها- مِن هودجها إلى الساحة، فعقروا الجمل, واحتمل أخوها محمد وعبد الله بن بديل الهودج حتى وضعاه أمام علي، فأمر به علي، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل, وهنا بدأت الأمور تهدأ، وأخرجت أم المؤمنين مِن الميدان(27)، ولو لم يتخذ هذا الإجراء لاستمرت الحرب إلى أن يَفنى جيش البصرة أصحاب الجمل، أو ينهزم جيش علي -رضي الله عنه-.
وعندما بدأت الهزيمة نادى علي أو مناديه في جيشه: أن لا يتبعوا مدبرًا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يغنموا إلا ما حمل إلى الميدان أو المعسكر مِن عتاد أو سلاح فقط، وليس لهم ما وراء ذلك مِن شيء، ونهاهم أن يدخلوا الدور؛ ليس هذا فحسب، بل قال لمن حاربه مِن أهل البصرة: مَن وُجد له شيئًا مِن متاع عند أحدٍ مِن أصحابه؛ فله أن يسترده!
وهكذا في أوقات الفتن تطيش العقول ولا يسمع أحدٌ أحدًا، وهكذا ظهر جليًّا أن القتال الذي وقع بيْن الصحب الكرام -رضي الله عنهم- وقع رغمًا عنهم.
ونستكمل ما حدث بعد انتهاء المعركة في المقال القادم -بإذن الله تعالى-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد سهيل طقوش، تاريخ الخلفاء الراشدين، الفتوحات والإنجازات السياسية، ص440.
(2) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي، الفتنة ووقعة الجمل، ص156.
(3) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 540.
(4) نفس المصدر ج5 ص544.
(5) رواه ابن أبي شيبة، أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235هـ)، المصنف في الأحاديث والآثار، المحقق: كمال يوسف الحوت، الناشر: مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة: الأولى: 1409، عدد الأجزاء: 7 ج7 ص541.
(6) أخرجه أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: دار الحديث - القاهرة، الطبعة: الأولى، 1416 هـ - 1995م، عدد الأجزاء: 8 ج3 ص19، ومعنى الحديث أن الإيمان يمنع مِن الفتك الذي هو القتل بعد الأمان غدرًا كما يمنع القيد مِن التصرف، انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود، "باب في العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم".
(7) أخرجه الحاكم وغيره، وقد اختلف العلماء في صحته، وقال الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة: "صحيح بمجموع طرقه"، وانظر: أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 هـ) المطَالبُ العَاليَةُ بِزَوَائِدِ المسَانيد الثّمَانِيَةِ، الناشر: دار العاصمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى: 1998م، عدد الأجزاء: 19 ج18 ص135.
(8) أخرجه البخاري، الجامع المسند الصحيح، حديث رقم 447.

(9) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 506، وانظر الصلابي: أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ص 572.
(10) محمد محمد حسن شٌراب، المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي، دار القلم: دمشق، الطبعة الأولى، 1415هـ، عدد الأجزاء 3 ج2 ص 324.
(11) البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص 253.
(12) الطبري، المصدر السابق ج5 ص540.
(13) تاريخ خليفة بن خياط، أبو عمرو خليفة بن خياط بن خليفة الشيباني العصفري البصري (المتوفى:240هـ)، المحقق: د.أكرم ضياء العمري، الناشر: دار القلم مؤسسة الرسالة - دمشق، بيروت، الطبعة: الثانية، 1397هـ ص 185.
(14) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص 521.
(15) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص253.
(16) المصدر السابق ج7 ص 253.
(17) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة،ج7 ص538.
(18) الطبقات لابن سعد، ج5 ص2.
(19) معنى تَقَنْفَذُ: تقبَّض. و(القُنْفُذ): دويْبَّة مِن الثَّدييات ذات شوك حادّ، يلتفُّ فيصير كالكرة، وبذلك يقي نفسه مِن خطر الاعتداء عليه. انظر المعجم الوسيط، ج2 ص760.
(20) تاريخ خليفة بن خياط ص 190.
(21) البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص 254.
(22) هو محمد بن طلحة بن عبيد الله الملقب بالسجاد لعبادته، والده هو طلحة بن عبيد الله أحد المبشرين بالجنة. وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقُتِلَ شَابّاً يَوْمَ الجَمَلِ, لَمْ يَزَلْ بِهِ أَبُوْهُ حَتَّى سَارَ مَعَهُ. وَأُمُّهُ: هِيَ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي، ج5 ص215.
(23) التاريخ الأوسط للبخاري، هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256هـ)، المحقق: محمود إبراهيم زايد، الناشر: دار الوعي , مكتبة دار التراث - حلب , القاهرة، الطبعة الأولى 1397 هـ - 1977م، عدد الأجزاء: 2 ج1 ص185.

(24) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة، ج7 ص 528، بسندٍ صححه ابن حجر في الفتح (13/ 57، 58).
(25) المصدر السابق،ج7 ص541.
(26) أي يضربا قوائم الجمل بالسيف.
(27) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 540.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 01-03-2021, 01:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (19)
موقعة الجمل "الأسباب والنتائج"


زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق دور السبئية في نشوب الحرب بيْن الطرفين بعد ما اتفقا على الصلح، وذكرنا بعض الأحداث التي وقعتْ في موقعة الجمل، وكيف تعامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مع جيش البصرة بعد انتهاء المعركة.

ونستكمل اليوم ما حدث بعد انتهاء المعركة.

نداء أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بعد الحرب:

وبعد أن هدأت الأمور وانتهت الحرب، وأُخرجتْ أم المؤمنين عائشة مِن الميدان، نادى منادي علي: أن لا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا مدبرًا، ولا يدخلوا دارًا، ومَن ألقى السلاح فهو آمن، ومَن أغلق بابه فهو آمن، وليس لجيشه مِن غنيمة، ونادى منادي أمير المؤمنين فيمن حاربه مِن أهل البصرة مَن وجد شيئًا مِن متاعه عند أحدٍ مِن جنده؛ فله أن يأخذه.

وقد ظن بعض الناس في جيش علي أن عليًّا -رضي الله عنه- سيقسم بينهم السبي، فتكلموا به ونشروه بيْن الناس، ولكن سرعان ما فاجأهم علي -رضي الله عنه-، حين أعلن في ندائه: وليس لكم أم ولد، والمواريث على فرائض الله، وأي امرأة قُتل زوجها؛ فلتعتد أربعة أشهر وعشرًا. فقالوا مستنكرين متأولين: يا أمير المؤمنين تحل لنا دماؤهم، ولا تحل لنا نساؤهم؟ فقال علي -رضي الله عنه-: كذلك السيرة في أهل القبلة، ثم قال: فهاتوا سهامكم وأقرعوها على عائشة -رضي الله عنها- فهي رأس الأمر وقائدهم، ففي سهم مَن تكون السيدة عائشة؟! فبهتهم بهذا القول، فتركوه، وانصرفوا. وقالوا: نستغفر الله، وتبيَّن لهم أن قولهم وظنهم خطأ فاحش، ولكن ليرضيهم قسم عليهم -رضي الله عنه- مِن بيت المال خمسمائة خمسمائة(1).

وبعد انتهاء المعركة خرج علي -رضي الله عنه- يتفقد القتلى مع نفر مِن أصحابه، فأبصر محمد بن طلحة "السجاد" فقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كان شابًا صالحًا، ومر علي -رضي الله عنه- على طلحة -رضي الله عنه- بعد ما قٌتل، فجعل علي يَمسح التراب عن وجهه ويبكي ويقول: "عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلاً في التراب تحت نجوم السماء!"، ثم قال: "إلى الله أشكو عجري وبجري"(2).

وبعد خروج الزبير بن العوام -رضي الله عنه- مِن المعركة تبعه عمرو بن جرموز فهجم عليه فقتله ثم احتز رأسه وذهب إلى عليٍّ، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن للدخول على علي، فقال عليُّ -رضي الله عنه-: "بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ"، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ)(3).

ولما رأى علي -رضي الله عنه- سيف الزبير -رضي الله عنه- قال: إن هذا السيف طالما فرَّج الكرب عن وجه رسول الله, وفي رواية: منع أمير المؤمنين علي ابن جرموز مِن الدخول عليه، وقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار(4)، ثم صلى علي -رضي الله عنه- على قتلى الفريقين، ثم قعد علي كئيبًا حزينًا ودعا للقتلى بالمغفرة، وترحم عليهم وأثنى على عددٍ منهم بالخير والصلاح, وعاد إلى منزله فإذا امرأته وابنتاه يبكين على عثمان وقرابته، والزبير وطلحة وغيرهم مِن أقاربهم القرشيين. فقال لهن: إني لأرجو أن نكون مِن الذين قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) (الحجر:47)، وهكذا مرَّت الأحداث الجسام، إنها حقـًّا فتنة عظيمة مرَّت على الأمة، وواجهت القبائل المختلفة بعضها بعضًا في رحى معركة ضارية، مضر البصرة واجهت مضر الكوفة، وربيعة البصرة واجهت ربيعة الكوفة، ويمن البصرة واجهت يمن الكوفة، ووجدت القبائل نفسها في أتون معركة تدفع ثمنها مِن أرواح أبنائها(5).

مبايعة أهل البصرة:

كان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- حريصًا على وحدة الصف، واحترام الجميع، ومعاملتهم المعاملة الكريمة، وكان لهذه المعاملة أثر بالغ في مبايعة أهل البصرة لأمير المؤمنين علي، وكان أمير المؤمنين قد وضع الأسرى في مساء يوم الجمل في موضع خاص، فلما صلى الغداة طلب موسى بن طلحة بن عبيد الله، فقربه ورحب به وأجلسه بجواره وسأله عن أحواله وأحوال إخوته، ثم قال له: إنا لم نقبض أرضكم هذه ونحن نريد أن نأخذها، إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس، ودفع له غلتها، وكذلك فعل مع أخيه عمران بن طلحة فبايعاه، فلما رأى الأسارى ذلك دخلوا على علي -رضي الله عنه- يبايعونه، فبايعهم وبايع الآخرين على راياتهم قبيلة قبيلة(6).

كما سأل عن مروان بن الحكم وقال: يعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد مِن شباب قريش، وقد أرسل مروان إلى الحسن والحسين وابن عباس -رضي الله عنهم- ليكلموا عليًّا فقال علي: هو آمن فليتوجه حيث شاء، وقد أثنى مروان -رضي الله عنه- على أفعال أمير المؤمنين علي فقال لابنه الحسن: ما رأيتُ أكرم غلبة مِن أبيك، ما كان إلا أن ولَّينا يوم الجمل حتى نادى مناديه: ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح(7)، وبذلك تمتْ بيعة أهل البصرة لأمير المؤمنين علي، وولى عليهم ابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-(8)، وقد جاء عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي إلى أمير المؤمنين فبايعه فقال له علي: أين المريض؟ -يعني أباه- فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص. فقال: امشِ أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكرة فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع وقال: رجل مِن أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع مِن زياد(9).

وجاء أمير المؤمنين إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فاستأذن وسلَّم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على مَن قُتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع علي، فلما دخل علي قالت له صفية امرأة عبد الله، أم طلحة: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها علي شيئًا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضًا فسكت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فقال: ويحك إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟!(10).

أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- يرد عائشة -رضي الله عنها- إلى مأمنها:

جهز أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- عائشة -رضي الله عنها- بكل شيء ينبغي لها مِن مركبٍ وزاد ومتاع، وأخرج معها مَن نجا ممن خرج معها إلا مَن أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة مِن نساء أهل البصرة المعروفات لمرافقتها في السفر، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وخرجتْ مِن الدار في الهودج، فودعت الناس ودعت لهم وقالت: "يا بني، لا يغتب بعضكم بعضًا، إنه والله ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في القديم إلا ما يكون بيْن المرأة وأحمائها، وإنه لمن الأخيار"، فقال علي -رضي الله عنه-: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة. وخرجتْ يوم السبت لغرة رجب سنة ست وثلاثين، وشيعها علي أميالاً، وسرح بنيه معها يومًا(11).

وبتلك المعاملة الكريمة مِن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- نراه قد اتبع ما أوصاه به نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- عندما قال له: (إِنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَائِشَةَ أَمْرٌ)، قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: فَأَنَا أَشْقَاهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (لَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْدُدْهَا إِلَى مَأْمَنِهَا)(12).

هذا وقد ظهر موقف أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- ممن ينال مِن عائشة -رضي الله عنها-؛ فلقد جاء إليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين، إن على الباب رجلين ينالان مِن عائشة، فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما مِن ثيابهما, وقد قام القعقاع بذلك(13)، وقد ندمت عائشة -رضي الله عنها- على خروجها، وكانت إذا قرأت قوله -تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (الأحزاب:33)، تبكي حتى تبل خمارها، وكانت كلما تذكرت الجمل قالت: "وددتُ أني كنتُ جلستُ كما جلس صواحبي"(14).

تاريخ معركة الجمل:

كانت هذه الموقعة في شهر جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين مِن الهجرة، وقد اختلف المؤرخون في اليوم الذي وقعتْ فيه.

عدد القتلى: أسفرت هذه الحرب الشديدة عن عددٍ مِن القتلى اختلفت وتباينت في تقديره الروايات, ذكر الطبري في تاريخه عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم مِن أصحاب علي، ونصفهم مِن أصحاب عائشة، مِن الأزد ألفان، ومِن سائر اليمن خمسمائة، ومِن مضر الفان، وخمسمائة مِن قيس، وخمسمائة مِن تميم، وألف مِن بني ضبة، وخمسمائة مِن بكر بن وائل. وقيل: قتل مِن أهل البصرة في المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل مِن أهل البصرة في المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل مِن أهل البصرة، ومِن أهل الكوفة خمسة آلاف. قالا: وقتل مِن بني عدي يومئذٍ سبعون شيخًا، كلهم قد قرأ القرآن، سوى الشباب ومَن لم يقرأ القرآن(15).

وقال قتادة: إن قتلى يوم الجمل عشرون ألفًا. وأما اليعقوبي فقد جاوز هؤلاء جميعًا؛ إذ وضع عدد القتلى اثنين وثلاثين ألفًا(16)، هذا وقد أورد خليفة بن خياط بيانًا بأسماء مَن حُفظ مِن قتلى يوم الجمل فكانوا قريبًا مِن المائة(17), فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين وليس مائة، فإن هذا يعنى أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين. وهذا هو الرقم الذي ترجَّح لدى خالد بن محمد الغيث في رسالته "استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري - دراسة نقدية"(18).

وعلى أي الأحوال فالذين قُتلوا يوم الجمل عدد ليس بقليل، فزوال الدنيا عند الله -تعالى- أهون مِن سفك دم مسلم واحد.

وهكذا نتعلم مِن التاريخ أنه في وقت الفتن تطيش العقول، ولا يسمع أحدٌ أحدًا، وإذا تأملنا أحداث موقعة الجمل، نرى أنه كان مِن الصعوبة بمكان أن يسيطر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على الأحداث، وذلك لوجود عددٍ مِن السبئية في الصف ممن يهيجون المشاعر وينشرون الفتن، وإذا تعالت الأصوات وكثر الصراخ بيْن الناس وكثرت الشائعات في المجتمع، أدى كل ذلك إلى ضعف صوت العقل، فلا يسمعه إلا القليل مِن الناس ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لابد مِن مراعاة الواقع والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، ولا بد مِن تحمل الضرر الخاص لرفع الضرر العام، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها، ولا بد مِن تفعيل قاعدة فقه المآلات؛ فلقد قلَّ بيْن الناس مَن ينظر بعين العقل إلى عواقب الأمور.

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج7 ص 550.

(2) أي همومي وأحزاني وغُمُومِي، انظر ابن منظور، لسان العرب ج4 ص40.

(3) رواه أحمد والحاكم، وحسنه ابن حجر.

(4) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 261).

(5) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 541، والمصنف لابن أبي شيبة (7/540).

(6) الطبقات لابن سعد ج3 ص 224.

(7) الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي للماوردي، وهو شرح مختصر المزني.

(8) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي، الفتنة ووقعة الجمل، ص 181.

(9) البداية والنهاية ج7 ص 357.

(10) البداية والنهاية ج7 ص 356.

(11) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان.

(12) مسند أحمد (6/ 393)، إسناده حسن، وانظر فتح الباري لابن حجر ج13 ص 55.

(13) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص 358.

(14) سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 177)، وانظر فتح الباري لابن حجر ج13 ص 55.

(15) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 542.


(16) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج7 ص 546.

(17) تاريخ خليفة بن خياط ص 191.

(18) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، للصلابي، ص 579.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 19-03-2021, 01:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



صفحات مِن ذاكرة التاريخ (20)
موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج"

زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد أحداث الجمل بايع أهل البصرة جميعًا عليًّا -رضي الله عنه-، سواء مَن كانوا معه أو مَن كانوا عليه، وتمكَّن -رضي الله عنه- مِن الأمور، ثم ترك البصرة وتوجَّه إلى الكوفة التي كان أغلب جيشه منها، ومكث -رضي الله عنه- في الكوفة ليسيطر على الأمور، ودانت له البصرة والكوفة.

أما مصر فقد كان على إمرتها أثناء خلافة عثمان -رضي الله عنه- عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد خرج بجيشه مِن مصر متوجهًا لنجدة عثمان -رضي الله عنه-، ولكنه لما علم بمقتله توجَّه إلى الشام، فأرسل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قيس بن سعد أحد رجالاته إلى مصر للسيطرة على الأمور، فذهب ومعه مجموعة مِن الرجال وسيطر عليها، وصعد المنبر وأعلن أنه يبايع عليًّا -رضي الله عنه-؛ فبايعه أهل مصر.

وقد كان النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قد خرج إلى الشام ومعه قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها إلى معاوية في بلاد الشام(1)؛ فلما رأى معاوية القميص بكى ووضع القميص على المنبر(2)، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه، وآلى الرجال مِن أهل الشام ألا يأتوا النساء، ولا يمسهم الماء للغسل إلا مِن احتلام، ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، أو تفنى أرواحهم فمكثوا حول القميص سنة(3)، وكان معاوية -رضي الله عنه- يرى أنه ولي دم عثمان، وأنه لا بدّ مِن إقامة القصاص على هؤلاء القتلة، وأنه لا يجوز له بحالٍ أن يقصّر في هذا الأمر، وكان معاوية -رضي الله عنه-، واليًا على الشام في عهد عمر وعثمان -رضي الله عنهما-.

ولما تولى الخلافة عليٌّ أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر، فاعتذر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-؛ فأرسل عليٌّ سهل بن حنيف -رضي الله عنه- بدلاً منه؛ إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام "وادي القرى" حتى عاد مِن حيث جاء؛ إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهري، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحيهلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع(4)؛ لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتص علي -رضي الله عنه- مِن قتلة عثمان ثم يدخلون البيعة, وقالوا: لا نبايع مَن يأوي القتلة(5).

لقد كان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدَّم على البيعة، وليس لرغبة معاوية في ولاية الشام، أو طلبه ما ليس له بحق؛ إذ كان يدرك إدراكًا تامًا أن هذا الأمر في بقية الستة مِن أهل الشورى، وأن عليًّا أفضل منه وأولى بالأمر منه, وقد انعقدت البيعة له بإجماع الصحابة بالمدينة، وكان اجتهاد معاوية يخالف الصواب.

وقد بعث علي -رضي الله عنه- كتبًا كثيرة إلى معاوية -رضي الله عنه- فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارًا إلى الشهر الثالث مِن مقتل عثمان في صفر ثم بعث معاوية كتابًا مع رجل، فدخل به على علي فقال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك مِن عند قومٍ لا يريدون إلا القود -القاتل بالقتيل-، كلهم موتور-رَجُلٌ مَوْتُورٌ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَرِيبٌ وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِ، ورَجُلٌ مَوْتُورٌ: عصبي مشدود-، تركتُ ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك مِن دم عثمان.

وبعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي، عزم الخليفة على قتال أهل الشام؛ فكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حُنيف بذلك، وخطب الناس فحثّهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج مِن المدينة واستخلف عليها قُثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمَن أطاعه مَن عصاه وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي، فقال: يا أبه دَعْ هذا فإنّ فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال(6)، وجهز جيشًا ضخمًا اختلفت الروايات في تقديره(7)؛ فهناك مَن قال: مائة وخمسون ألفًا أو يزيدون، وهناك مَن قال: مائة وعشرون ألفًا، وقدر عند البعض بتسعين ألفًا، وفي رواية أخرى قدر بخمسين ألفًا، لكنه توجه في النهاية إلى الكوفة، وليس إلى الشام؛ نظرًا لما ذكرنا مِن خروج عائشة وطلحة والزبير -رضي الله عنهم- إلى البصرة، وقد بعث علي -رضي الله عنه- إلى جرير بن عبد الله، وكان على همذان مِن زمان عثمان، وإلى الأشعت بن قيس وهو على نيابة أذربيجان مِن أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على مَن هُنالك ثم يُقبلان إليه؛ ففعلا ذلك.

فلما أراد علي أن يبعث إلى معاوية -رضي الله عنها- يدعوه إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنّ بيني وبينه وُدًا، فآخذ لك البيعة منه، فبعثه وكتب معه كتابًا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب وطلب معاوية عمرو بن العاص ورءوس أهل الشام فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يَقتل قتلة عثمان، أو أن يسلِّم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم، فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقرر علي -رضي الله عنه- أن يقاتل بمَن أطاعه مَن عصاه، وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس(8).

خروج أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- إلى بلاد الشام:

خرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مِن الكوفة، وعسكر في منطقة النخيلة(9) خارج الكوفة؛ فتوافدت عليه القبائل مِن شتى إقليم العراق وأرسل علي -رضي الله عنه- مقدمة جيشه نحو الشام، وتقدمت هذه المقدمة، حتى تجاوزت نهر الفرات، ووصلت إلى منطقة تُسمّى "صفين"(10)، وتتبع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- المقدمة بجيشه، وكانت قد أتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي إلى الرقة(11), وعبر منها الفرات غربًا، ونزل على صفين(12).

خروج معاوية -رضي الله عنه- إلى صفين:

كان معاوية -رضي الله عنه- جادًا في مطاردة قتلة عثمان، وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان، -رضي الله عنه-، والقتال, وقد قام عمرو بن العاص، -رضي الله عنه-، بتجهيز الجيش وعقد الألوية، وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره(13)، فقدر بمائة ألف وعشرين ألفًا, وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر مِن ذلك بكثير.

ولا شك أن هناك بعض الناس حول معاوية يشعلون الموقف ولهم رغبات متعددة، وكذلك في جيش علي أيضًا، ثم وصل جيش علي -رضي الله عنه- إلى صفين، حيث عسكر معاوية، وفوجئ جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى علي -رضي الله عنه- يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعث بن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بيْن الفريقين انتصر فيها الأشعث واستولى على الماء(14)؛ إلا أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال في أصله مفادها أن الأشعث بن قيس جاء إلى معاوية، فقال: الله، الله يا معاوية في أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، هبوا أنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟! إن الله يقول: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات:9)، قال معاوية: فما تريد؟ قالوا: خلوا بيننا وبيْن الماء. فقال لأبي الأعور: خلَّ بيْن إخواننا وبين الماء(15)، وهذه الرواية هي الأوثق والأرجح.

وأريد أن أذكر بعض الروايات التي تؤكد على أن معاوية -رضي الله عنه- لم يقاتل مِن أجل خلافة أو رئاسة كما زعم البعض(16)، وإنما مِن أجل دم عثمان -رضي الله عنه-، ويتضح موقفه وهو يحاور بعض رجاله مما توضحه الرواية التالية: "جاء أبو مسلم الخولاني وناس معه إلى معاوية، فقالوا له: أنت تنازع عليًّا أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله، إني لأعلم أن عليًّا أفضل مني، وإنه لأحقُّ بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له فليدفع إليَّ قتلة عثمان وأسلِّمُ له، فأتوا عليًّا فكلموه بذلك فلم يدفعهم إليه"(17). وكان معاوية يؤكد على هذا المعنى: "ما قاتلتُ عليًّا إلا في أمر عثمان"(18).

وقد رأى معاوية أنه ولي دم عثمان -رضي الله عنه-؛ لأنه صار رأس بني أمية مكانه، والأحاديث النبوية تدل على أن عثمان يُقتل مظلومًا، بل تذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصاه بأن لا يخلع نفسه مِن الخلافة، ووصف الثائرين عليه بالمنافقين(19).

وقد قال الجويني -رحمه الله-: "وَمُعَاوِيَة وَإِن قَاتل عليًّا فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُنكر إِمَامَته وَلَا يدعيها لنَفسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يطْلب قتلة عُثْمَان -رضي الله عنه- ظَانّا أَنه مُصِيب"(20).

وقال ابن حزم -رحمه الله-: "وَلم يُنكر مُعَاوِيَة قطّ فضل عَليّ واستحقاقه الْخلَافَة، لَكِن اجْتِهَاده أداه إِلَى أَن رأى تَقْدِيم أَخذ الْقود مِن قتلة عُثْمَان -رضي الله عنه- على الْبيعَة، وَرَأى نَفسه أَحَق بِطَلَب دم عُثْمَان(21)".

وخرج أبو الدرداء وأبو أمامة -رضي الله عنهما- فدخلا على معاوية -رضي الله عنه- فقالا له: يا معاوية على ما تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومِن أبيك إسلامًا، وأقرب منك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحق بهذا الأمر منك. فقال: أقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له فليقدنا مِن قتلة عثمان، ثم أنا أول مَن بايعه مِن أهل الشام، فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان، فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان فمَن شاء فليرمنا. قال: فرجع أبو الدرداء وأبو أمامة فلم يشهدا لهم حربًا(22).

ومِن اعتقاد أهل السُّنة والجماعة أن ما جرى بيْن معاوية وعلي -رضي الله عنهما- مِن الحروب فَلم يكن لمنازعة مُعَاوِيَة لعَلي فِي الْخلَافَة للْإِجْمَاع على حقيتها لعَلي كَمَا مر، فَلم تهج الْفِتْنَة بِسَبَبِهَا، وَإِنَّمَا هَاجَتْ بِسَبَب أَن مُعَاوِيَة وَمَن مَعَه طلبُوا مِن عَليّ تَسْلِيم قتلة عُثْمَان إِلَيْهِم لكَون مُعَاوِيَة ابْن عَمه فَامْتنعَ عَليّ ظنا مِنْهُ أَن تسليمهم إِلَيْهِم على الْفَوْر مَعَ كَثْرَة عَشَائِرهمْ واختلاطهم بعسكر عَليّ يُؤَدِّي إِلَى اضْطِرَاب وتزلزل فِي أَمر الْخلَافَة الَّتِي بهَا انتظام كلمة أهل الْإِسْلَام سِيمَا وَهِي فِي ابتدائها لم يستحكم الْأَمر فِيهَا؛ فَرَأي عَليّ -رضي الله عنه- أَن تَأْخِير تسليمهم أصوب إِلَى أَن يرسخ قدمه فِي الْخلَافَة ويتحقق التَّمَكُّن مِن الْأُمُور فِيهَا(23).

وقد قام معاوية -رضي الله عنه- خطيبًا فقال: أيها الناس! قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني ولي عثمان وابن عمه، قال الله الله -تعالى- في كتابه: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) (الإسراء:33)، وقد علمتم أنه قـُتل مظلومًا، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني الله أرواحهم قبْل ذلك(24).

وهنا نؤكد على ما أكده الدليل النبوي، وكذا علماء الأمة، أن الحق كان مع أمير المؤمنين على -رضي الله عنه- وأن معاوية -رضي الله عنه- اجتهد وتأول فأخطأ، فعَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ, وَرُكْبَتِي تَمَسُّ رُكْبَتَهُ, فَقَالَ رَجُلٌ: كَفَرَ أَهْلُ الشَّامِ, فَقَالَ عَمَّارٌ: "لَا تَقُولُوا ذَلِكَ، نَبِيُّنَا وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ, وَقِبْلَتُنَا وَقِبْلَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مَفْتُونُونَ جَارُوا عَنِ الْحَقِّ، فَحَقَّ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَيْه" (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، ج8 ص 277).

"وهكذا إذا وجدت الدماء؛ ظهرت بدعة المبتدع، وظهر الفكر المنحرف، وظهرت العقائد الفاسدة؛ فهذا الرجل كفر أهل الشام دون بينة أو دليل، وهذا ما يحدث اليوم مِن التساهل والتسرع في تكفير الناس بلا برهان ولا دليل؛ لذا وجب على أهل السُّنة أن يقفوا أمام هذه البدع لا سيما في أوقات الفتن وإذا سالت الدماء، وأن يبينوا الحق للناس.

وعمار هذا الذي قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري في ذكر بِنَاءِ المَسْجِدِ، قَالَ: "كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وقال: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الفِتَنِ" (رواه البخاري).

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "ولكن كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق مِن أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم"(25)، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يوم صفين يتبعون عمارًا؛ لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة(26).

وهذا يدل على صحة إمامة علي -رضي الله عنه- ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داعٍ إلى الجنة، وأن الداعي إلى مقاتلته داع إلى النار، وإن كان متأولاً أو باغيًا بلا تأويل(27).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 539).

(2) المصدر السابق،ج7 ص 540.

(3) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 621.

(4) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 129).

(5) العواصم مِن القواصم ص (162).

(6) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 240، 241).

(7) هناك مَن قال: مائة وخمسون ألفًا أو يزيدون، البداية والنهاية (7/ 260)، مائة وعشرون ألفًا: المعرفة والتاريخ (3/ 13) بسندٍ منقطع، وقدر بتسعين ألفًا: تاريخ خليفة بن خياط ص (193)، وفي رواية أخرى: بخمسين ألفًا.

(8) البداية والنهاية لابن كثير (7/280).

(9) موقع قرب الكوفة مِن جهة الشام، معجم البلدان (5/ 278).

(10) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 603)، وصفين مكان على شاطئ الفرات في آخر حدود العراق، وأول حدود الشام، سار إليها علي بجيوشه في أواخر ذي القعدة سنة 36هـ، وبدأ القتال في ذي الحجة سنة 36 بمناوشاتٍ ومبارزات، ثم تهادنوا في المحرم سنة 37هـ، واستؤنف القتال بعده.

(11) الرقة: مدينة مشهورة -في سوريا اليوم- على نهر الفرات الشرقي، معجم البلدان (3/ 153).

(12) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 604).

(13) فقدر بمائة ألف وعشرين ألفًا, وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر مِن ذلك بكثير، انظر تاريخ خليفة بن خياط، وتاريخ الطبري.

(14) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 605).

(15) سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 41).

(16) عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين لأكرم بن ضياء العمري، الناشر: مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009م، ص 460.

(17) تاريخ دمشق لابن عساكر.

(18) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج11 ص290.

(19) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ، فَلَا تَخْلَعْهُ)، يَقُولُ: ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ النُّعْمَانُ: فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا مَنَعَكِ أَنْ تُعْلِمِي النَّاسَ بِهَذَا؟ قَالَتْ: أُنْسِيتُهُ. (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

(20) لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السُّنة والجماعة للجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (المتوفى 478هـ) المحقق: فوقية حسين محمود، الناشر: عالم الكتب - لبنان، الطبعة الثانية 1407هـ - 1987م، ص130.

(21) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، الناشر مكتبة الخانجي - القاهرة عدد الأجزاء 5 ج4 ص 124.

(22) البداية والنهاية لابن كثير (7-288).

(23) الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة لابن حجر الهيتمي.

(24) البداية والنهاية لابن كثير (7-290).


(25) البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص 300

(26) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، ج2 ص 38.

(27) الفتاوى لابن تيمية، ج4 ص 437.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 233.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 227.51 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]