تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله - الصفحة 26 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         كيفية التعامل مع الأعداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 35 - عددالزوار : 1164 )           »          التربية على الإيجابية ودورها في نهضة الأمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          زخرفة المساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 70 - عددالزوار : 16840 )           »          لماذا نحن هنا؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          يغيب الصالحون وتبقى آثارهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الهواتف الذكية تحترف سرقة الأوقات الممتعة في حياة الزوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          استشراف المستقبل من المنظور الشرعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 26 )           »          من شبهات اليهود وأباطيلهم «أن تحويل القبلة أنهى مكانـة المسـجد الأقصى عند المسلمين»!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #251  
قديم 09-12-2019, 04:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (251)
تفسير السعدى
سورة الرعد
من الأية(15) الى الأية(21)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الرعد



" ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال " (15)
أي: جميع ما احتوت عليه السماوات والأرض كلها, خاضعة لربها, تسجد له " طَوْعًا وَكَرْهًا " .
فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع, اختيارا, كالمؤمنين.
والكره, لمن يستكبر عن عبادة ربه, وحاله وفطرته, تكذبه في ذلك.
" وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ " أي: وتسجد له ظلال المخلوقات, أول النهار وآخره, وسجود كل شيء,, بحسب حاله كما قال تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم "

" قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار " (16)
فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها, كان هو الإله حقا, المعبود المحمود حقا, وإلاهية غيره باطلة.
ولهذا ذكر بطلانها وبرهن عليه بقوله: " قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ " إلى " الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ " .
أي: قل لهؤلاء المشركين به, أوثانا وأندادا, يحبونها كما يحبون الله, ويبذلون لها أنواع التقربات والعبادات: أفتاهت عقولكم, حتى اتخذتم من دونه أولياء, تتولونهم بالعبادة, وليسوا بأهل لذلك؟ فإنهم " لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا " , وتتركون ولاية من هو كامل الأسماء والصفات, المالك للأحياء والأموات, الذي بيده الخلق والتدبير, والنفع والضر؟ فما تستوي عبادة الله وحده, وعبادة المشركين به.
" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ " ؟ فإن كان عندهم شك واشتباه, وجعلوا له شركاء, زعموا أنهم خلقوا كخلقه, وفعلوا كفعله, فأزل عنهم هذا الاشتباه واللبس, بالبرهان الدال على تفرد الإله بالوحدانية.
فقل لهم: " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ " فإنه من المحال أن يخلق شيء من الأشياء نفسه.
ومن المحال أيضا, أن يوجد من دون خالق.
فتعين أن لها إلها خالقا, لا شريك له في خلقه, لأنه الواحد القهار.
فإنه لا توجد الوحدة والقهر, إلا لله وحده.
فالمخلوقات وكل مخلوق, فوقه مخلوق يقهره ثم فوق ذلك القاهر, قاهر أعلى منه, حتى ينتهي القهر للواحد القهار.
فالقهر والتوحيد, متلازمان, متعينان لله وحده.
فتبين بالدليل العقلي القاهر, أن ما يدعى من دون الله, ليس له شيء من خلق المخلوقات, وبذلك كانت عبادته باطلة.

" أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " (17)
شبه تعالى الهدى, الذي أنزل على رسوله لحياة القلوب والأرواح, بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح.
وشبه ما في الهدى من النفع العام الكثير, الذي يضطر إليه العباد, بما في المطر من النفع العام الضروري.
وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها, بالأودية التي تسيل فيها السيول.
فواد كبير, يسع ماء كثيرا, كقلب كبير, يسع علما كثيرا.
وواد صغير, يأخذ ماء قليلا,, كقلب صغير, يسع علما قليلا, وهكذا.
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات, عند وصول الحق إليها, بالزبد الذي يعلو الماء, ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها, وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له, حتى تذهب وتضمحل, ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي, والحلية الخالصة.
كذلك الشبهات والشهوات, لا يزال القلب يكرهها, ويجاهدها بالبراهين الصادقة, والإرادات الجازمة, حتى تذهب وتضمحل, ويبقى القلب خالصا صافيا, ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق, وإيثاره, والرغبة فيه.
فالباطل يذهب ويمحقه الحق " إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " .
وقال هنا: " كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ " ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال.

" للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد " (18)
لما بين تعالى, الحق من الباطل, ذكر أن الناس على قسمين: مستجيب لربه, فذكر ثوابه, وغير مستجيب, فذكر عقابه فقال: " لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ " أي: انقادت قلوبهم للعلم والإيمان, وجوارحهم للأمر والنهي, وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم.
فلهم " الْحُسْنَى " أي: الحالة الحسنة, والثواب الحسن.
فلهم من الصفات أجلها, ومن المناقب أفضلها.
ومن الثواب العاجل والآجل, ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
" وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ " بعد ما ضرب لهم الأمثال, وبين لهم الحق, لهم الحالة غير الحسنة.
و " لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا " من ذهب وفضة وغيرها.
" وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ " من عذاب يوم القيامة, ما تقبل منهم, وأنى لهم ذلك؟!!.
" أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ " , وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه, من عمل سيئ, وما ضيعوه من حقوق عباده قد كتب ذلك, وسطر عليهم, وقالوا: " يا ويلتنا مال هذا الكتاب, لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " .
وبعد هذا الحساب السيئ, " وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ " الجامعة لكل عذاب, من الجوع الشديد, والعطش الوجيع, والنار الحامية, والزقوم, والزمهرير, والضريع, وجميع ما ذكره الله من أصناف العذاب.
" وَبِئْسَ الْمِهَادُ " أي: المقر, والمسكن, مسكنهم.

" أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب " (19)
يقول تعالى: مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم: " أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ " ففهم ذلك, وعمل به.
" كَمَنْ هُوَ أَعْمَى " لا يعلم الحق, ولا يعمل به, فبينهما من الفرق, كما بين السماء والأرض.
فحقيق بالعبد, أن يتذكر ويتفكر, أي الفريقين, أحسن حالا, وخير مآلا, فيؤثر طريقها, ويسلك خلف فريقها.
ولكن ما كل أحد, يتذكر ما ينفعه ويضره.
" إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ " أي: أولو العقول الرزينة, والآراء الكاملة, الذين هم, لب العالم, وصفوة بني آدم.
فإن سألت عن وصفهم, فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله:

" الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق "(20)
" الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ " الذي عهده إليهم, والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة, فالوفاء بها, توفيتها حقها, من التنمية لها, والنصح فيها.
وتمام الوفاء بها, أنهم " وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ " أي: العهد الذي عاهدوا الله عليه.
فدخل في ذلك, جميع المواثيق والعهود, والأيمان والنذور, التي يعقدها العباد.
فلا يكون العبد من أولي الألباب, الذين لهم الثواب العظيم, إلا بأدائها كاملة, وعدم نقضها وبخسها.

" والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " (21)
" وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ " وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله, من الإيمان به, وبرسوله, ومحبته, ومحبة رسوله, والانقياد لعبادته وحده لا شريك له, ولطاعة رسوله.
ويصلون آباءهم وأمهاتهم, ببرهم بالقول والفعل, وعدم عقوقهم.
ويصلون الأقارب والأرحام, بالإحسان إليهم, قولا وفعلا.
ويصلون ما بينهم وبين الأزواج, والأصحاب, والمماليك, بأداء حقهم, كاملا موفرا, من الحقوق الدينية والدنيوية.
والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به, أن يوصل خشية الله, وخوف يوم الحساب, ولهذا قال: " وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ " أي: يخافونه, فيمنعهم خوفهم منه, ومن القدوم عليه يوم الحساب, أن يتجرأوا على معاصي الله, أو يقصروا في شيء مما أمر الله به, خوفا من العقاب, ورجاء للثواب.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #252  
قديم 09-12-2019, 04:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (252)
تفسير السعدى
سورة الرعد
من الأية(22) الى الأية(30)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الرعد



" والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار " (22)
" وَالَّذِينَ صَبَرُوا " علىالمأمورات بامتثالها, وعن المنهيات بالانكفاف عنها, والبعد منها, وعلى أقدار الله المؤلمة, بعدم تسخطها.
ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر " ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ " لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة, فإن هذا هو الصبر النافع, الذي يحبس به العبد نفسه, طلبا لمرضاة ربه, ورجاء للقرب منه.
والحظوة بثوابه, هو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان.
وأما الصبر المشترك, الذي غايته التجلد, ومنتهاه, الفخر, فهذا يصدر من البر والفاجر, والمؤمن والكافر, فليس هو الممدوح, على الحقيقة.
" وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ " بأركانها, وشروطها, ومكملاتها, ظاهرا وباطنا.
" وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً " دخل في ذلك, النفقات الواجبة, كالزكوات, والكفارات, والنفقات المستحبة, وأنهم ينفقون, حيث دعت الحاجة إلى النفقة, سرا وعلانية.
" وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ " أي: من أساء إليهم, بقول أو فعل, لم يقابلوه بفعله, بل قابلوه بالإحسان إليه.
فيعطون من حرمهم, ويعفون عمن ظلمهم, ويصلون من قطعهم, ويحسنون إلى من أساء إليهم.
وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان, فما ظنك بغير المسيء؟! " أُولَئِكَ " الذين وصفت صفاتهم الجليلة, ومناقبهم الجميلة " لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ " .
فسرها بقوله: " جَنَّاتِ عَدْنٍ " أي: إقامة, لا يزولون منها, ولا يبغون عنها حولا, لأنهم يرون فوقها, غاية لما اشتملت عليه من النعيم, والسرور, الذي تنتهي إليه المطالب والغايات.
ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم, أنهم " يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ " من الذكور والإناث وكذلك النظراء والأشباه, والأصحاب, والأحباب, فإنهم من قبيل أزواجهم وذرياتهم.
" وَالْمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ " يهنئونهم بالسلامة, وكرامة الله لهم ويقولون: " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " أي: حلت عليكم السلامة والتحية من الله, حصلت لكم.
وذلك متضمن لزوال كل مكروه, ومستلزم لحصول كل محبوب.
" بِمَا صَبَرْتُمْ " أي: بسبب صبركم, وهو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية, والجنان الغالية.
" فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ " فحقيق بمن نصح نفسه, وكان لها عنده قيمة, أن يجاهدها, لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب.
ولعلها تحظى بهذه الدار, التي هي منية النفوس, وسرور لأرواح, الجامعة لجميع اللذات والأفراح.
فلمثلها, فليعمل العاملون, وفيها, فليتنافس المتنافسون.

" والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار " (25)
لما ذكر حال أهل الجنة, ذكر أن أهل النار, بعكس ما وصفهم به فقال عنهم: " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ " أي: من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله, وغلظ عليهم, فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم, بل قابلوه بالإعراض والنقص.
" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ " فلم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح, ولا وصلوا الأرحام ولا أدوا الحقوق, بل أفسدوا في الأرض, بالكفر والمعاصي, والصد عن سبيل الله, وابتغائها عوجا.
" أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ " أي البعد والذم, من الله وملائكته, وعباده المؤمنين.
" وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ " وهي: الجحيم, بما فيها من العذاب الأليم.

" الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " (26)
أي: هو وحده, يوسع الرزق ويبسطه على من يشاء, ويقدره ويضيقه على من يشاء.
" وَفَرِحُوا " أي: الكفار " بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا " فرحا, أوجب لهم أن يطمئنوا بها, ويغفلوا عن الآخرة, وذلك لنقصان عقولهم.
" وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ " أي: شيء حقير, يتمتع به قليلا, ويفارق أهله وأصحابه, ويعقبهم ويلا طويلا.

" ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب "(27)
يخبر تعالى, أن الذين كفروا بآيات الله, يتعنتون على رسول الله, ويقترحون ويقولون: " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ " وبزعمهم أنها لو جاءت لآمنوا, فأجابهم الله بقوله: " قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ " أي: طلب رضوانه.
فليست الهداية والضلال بأيديهم, حتى يجعلوا ذلك متوقفا على الآيات.
ومع ذلك, فهم كاذبون, فلو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى, وحشرنا عليهم كل شيء قبلا, ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله, ولكن أكثرهم يجلهون.
ولا يلزم أن يأتي الرسول, بالآية, التي يعينونها, ويقترحونها, بل إذا جاءهم بآية, وتبين ما جاء به من الحق, كفى ذلك, وحصل المقصود, وكان أنفع لهم من طلبهم الآيات التي يعينونها.
فإنها لو جاءتهم طبق ما اقترحوا, فلم يؤمنوا بها, لعاجلهم العذاب.

" الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب "(28)
ثم ذكر تعالى علامة المؤمنين فقال: " الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ " أي: يزول قلقها واضطرابها, وتحضرها أفراحها ولذاتها.
" أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ " أي: حقيق بها, وحري أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره, فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أحلى, من محبة خالقها, والأنس به ومعرفته.
وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له, يكون ذكرها له.
هذا على القول بأن ذكر الله, هو ذكر العبد لربه, من تسبيح, وتهليل, وتكبير وغير ذلك.
وقيل: إن المراد بذكر الله, كتابه, الذي أنزله, ذكرى للمؤمنين.
فعلى هذا, معنى طمأنينة القلب بذكر الله: أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه, تطمئن لها, فإنها تدل على الحق المبين, المؤيد بالأدلة والبراهين, وبذلك تطمئن القلوب, فإنها لا تطمئن القلوب, إلا باليقين والعلم, وذلك في كتاب الله, مضمون على أتم الوجوه وأكملها.
وأما ما سواه من الكتب, التي لا ترجع إليه, فلا تطمئن بها, بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة, وتضاد الأحكام.

" الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب " (29)
" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " وهذا إنما يعرفه من خبر كتاب الله, وتدبره, وتدبر غيره من أنواع العلوم, فإنه يجد بينها وبينه فرقا عظيما.
ثم قال تعالى: " الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " أي: آمنوا بقلوبهم بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وصدقوا هذا الإيمان, بالأعمال الصالحة, أعمال القلوب, كمحبة الله, وخشيته.
ورجائه, وأعمال الجوارح, كالصلاة ونحوها.
" طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ " أي: لهم حالة طيبة, ومرجع حسن.
وذلك بما ينالون, من رضوان الله وكرامته, في الدنيا والآخرة, وأن لهم كمال الراحة, وتمام الطمأنينة.
ومن جملة ذلك, شجرة طوبى, التي في الجنة, التي يسير الراكب في ظلها, مائة عام ما يقطعها, كما وردت بها الأحاديث الصحيحة.

" كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب " (30)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ " إلى قومك تدعو إلى الهدى.
" فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ " أرسلنا فيهم رسلنا.
فلست ببدع من الرسل, حتى يستنكروا رسالتك.
ولست تقول من تلقاء نفسك.
بل تتلو عليهم آيات الله, التي أوحاها الله إليك, التي تطهر القلوب, وتزكي النفوس.
والحال أن قومك, يكفرون بالرحمن, فلم يقابلوا رحمته وإحسانه - التي أعظمها أن أرسلناك إليهم رسولا, وأنزلنا عليك كتابا - بالقبول والشكر, بل قابلوها بالإنكار والرد.
فلا يعتبرون بمن خلا من قبلهم, من القرون المكذبة, كيف أخذهم الله بذنوبهم.
" قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " وهذا متضمن التوحيدين, توحيد الألوهية, وتوحيد الربوبية.
فهو ربي, الذي رباني بنعمه, منذ أوجدني, وهو إلهي الذي " عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ " في جميع أموري " وَإِلَيْهِ أُنِيبُ " أي: أرجع في جميع عباداتي, وفي حاجاتي.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #253  
قديم 09-12-2019, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (253)
تفسير السعدى
سورة الرعد
من الأية(31) الى الأية(43)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الرعد



" ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد " (31)
يقول تعالى - مبينا فضل القرآن الكريم على سائر الكتب المنزلة -: " وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا " من الكتب الإلهية " سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ " عن أماكنها " أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ " جنانا وأنهارا " أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى " لكان هذا القرآن.
" بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا " فيأتي بالآيات, التي تقتضيها حكمته.
فما بال المكذبين, يقترحون من الآيات - ما يقترحون؟ فهل لهم ولغيرهم من الأمر شيء؟.
" أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا " فليعلموا أنه قادر على هدايتهم جميعا, ولكن لا يشاء ذلك, بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
" وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا " على كفرهم, لا يعتبرون, ولا يتعظون.
والله تعالى يوالي عليهم القوارع, التي تصيبهم في ديارهم, أو تحل قريبا منها, وهم مصرون على كفرهم " حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ " الذي وعدهم به, لنزول العذاب المتصل, الذي لا يمكن رفعه.
" إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ " وهذا تهديد وتخويف لهم من نزول, ما وعدهم الله به على كفرهم, وعنادهم, وظلمهم.

" ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب "(32)
يقول تعالى لرسوله - مثبتا له, ومسليا - " وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ " فلست أول رسول, كذب وأوذي " فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا " برسلهم, أي: أمهلتهم مدة, حتى ظنوا أنهم غير معذبين.
" ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ " بأنواع العذاب " فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ " كان عقابا شديدا, وعذابا أليما.
فلا يغتر هؤلاء الذين كذبوك, واستهزأوا بك, بإمهالنا فلهم أسوة فيمن قبلهم من الأمم, فليحذروا أن يفعل بهم كما فعل بأولئك.

" أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد " (33)
يقول تعالى: " أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ " بالجزاء العاجل والآجل, بالعدل والقسط, وهو: الله تبارك وتعالى, كمن ليس كذلك؟ ولهذا قال: " وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ " وهو الله الأحد, الفرد, الصمد, الذي لا شريك له, ولا ند ولا نظير.
" قُلْ " لهم, إن كانوا صادقين: " سَمُّوهُمْ " لنعلم حالهم.
" أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ " فإنه إذا كان عالم الغيب والشهادة, وهو لا يعلم له شريكا, علم بذلك, بطلان دعوى الشريك له وأنكم بمنزلة الذي يعلم الله أن له شريكا, وهو لا يعلمه, وهذا أبطل ما يكون, ولهذا قال: " أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ " أي: غاية ما يمكن من دعوى الشريك له تعالى, أنه بظاهر أقوالكم.
وأما في الحقيقة, فلا إله إلا الله, وليس أحد من الخلق, يستحق شيئا من العبادة.
" بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ " الذي مكروه, وهو كفرهم, وشركهم, وتكذيبهم لآيات الله.
" وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ " أي: عن الطريق المستقيمة, الموصلة إلى الله, وإلى دار كرامته.
" وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ " لأنه ليس لأحد من الأمر شيء.

" لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق " (34)
" لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ " من عذاب الدنيا, لشدته ودوامه.
" وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ " يقيهم من عذابه, فعذابه إذا وجهه إليهم, لا مانع منه.

" مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار "(35)
يقول تعالى: " مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ " الذين تركوا ما نهاهم الله عنه, ولم يقصروا فيما أمرهم به, أي صفتها وحقيقتها " تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " أنهار العسل, وأنهار الخمر, وأنهار اللبن, وأنهار الماء التي تجري في غير أخدود.
فتسقى تلك البساتين, والأشجار, فتحمل جميع أنواع الثمار.
" أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا " دائم أيضا.
" تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا " أي: مآلهم وعاقبتهم, التي إليها يصيرون.
" وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ " فكم بين الفريقين من الفرق المبين؟!!

" والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب " (36)
يقول تعالى: " وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ " أي: مننا عليهم به وبمعرفته.
" يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ " فيؤمنون به, ويصدقونه, ويفرحون بموافقة الكتب بعضها لبعض, وتصديق بعضها بعضا, وهذه حال من آمن, من أهل الكتاب.
" وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ " أي: ومن طوائف الكفار المنحرفين عن الحق, من ينكر بعض هذا القرآن, ولا يصدقه.
" فمن اهتدى فلنفسه, ومن ضل فإنما يضل عليها " إنما أنت يا محمد منذر, تدعوا إلى الله.
" قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ " أي: بإخلاص الدين لله وحده.
" إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ " أي: مرجعي الذي أرجع به إليه, فيجازيني بما قمت به من الدعوة, إلى دينه, والقيام بما أمرت به.

" وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق " (37)
أي: ولقد أنزلنا هذا القرآن والكتاب, حكما عربيا, أي: محكما متقنا, بأوضح الألسنة, وأفصح اللغات, لئلا يقع فيه شك واشتباه, وليوجب أن يتبع وحده, ولا يداهن فيه, ولا يتبع ما يضاده ويناقضه, من أهواء الذين لا يعلمون.
ولهذا توعد رسوله - مع أنه معصوم - ليمتن عليه بعصمته, وليكون لأمته أسوة في الأحكام, فقال: " وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ " البين الذي ينهاك عن اتباع أهوائهم.
" مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ " يتولاك فيحصل لك الأمر المحبوب.
" وَلَا وَاقٍ " يقيك من الأمر المكروه.

" ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب " (38)
أي: لست أول رسول أرسل إلى الناس, حتى يستغربوا رسالتك.
" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً " فلا يعيبك أعداؤك, بأن يكون لك أزواج وذرية, كما كان لإخوانك المرسلين.
فلأي شيء يقدحون فيك بذلك؟ وهم يعلمون أن الرسل قبلك كذلك إلا لأجل أغراضهم الفاسدة وأهوائهم.
وإن طلبوا منك آية اقترحوها, فليس لك من الأمر شيء.
" وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ " والله لا يأذن فيها, إلا في وقتها الذي قدره وقضاه.
" لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ " لا يتقدم عليه, ولا يتأخر عنه.
فليس استعجالهم بالآيات أو العذاب, موجبا, لأن يقدم الله ما كتب أنه يؤخر, مع أنه تعالى فعال لما يريد.

" يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " (39)
" يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ " من الأقدار " وَيُثَبِّتَ " ما يشاء منها, وهذا المحو والتغيير, في غير ما سبق به علمه, وكتبه قلمه, فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير, لأن ذلك محال على الله, أن يقع في علمه نقص, أو خلل, ولهذا قال: " وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ " أي: اللوح المحفوظ, الذي ترجع إليه سائر الأشياء, فهو أصلها, وهي فروع وشعب.
فالتغيير والتبديل, يقع في الفروع والشعب, كأعمال اليوم والليلة, التي تكتبها الملائكة, ويجعل الله لثبوتها أسبابا, ولمحوها أسبابا, لا تتعدى تلك الأسباب, ما رسم في اللوح المحفوظ.
كما جعل الله البر, والصلة, والإحسان, من أسباب طول العمر, وسعة الرزق.
وكما جعل المعاصي, سببا لمحق بركة الرزق والعمر.
وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب, سببا للسلامة.
وجعل التعرض لذلك, سببا للعطب.
فهو الذي يدبر الأمور, بحسب قدرته وإرادته.
وما يدبره منها, لا يخالف ما قد علمه وكتبه, في اللوح المحفوظ.

" وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب "(40)
يقول تعالى, لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعجل عليهم, بإصابة ما يوعدون من العذاب.
فهم, إن استمروا على طغيانهم وكفرهم, فلا بد أن يصيبهم ما وعدوا به.
" وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ " إياه في الدنيا, فتقر بذلك عينك.
بل هي مبنية على القسط والعدل والحمد فلا يتعقبها أحد, ولا سبيل إلى القدح فيها.
" أَوْ نَتَوَفَّيَنَّك َ " قبل إصابتهم, فليس ذلك شغلا لك " فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ " والتبيين للخلق.
" وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ " فنحاسب الخلق على ما قاموا به, بما عليهم, أو ضيعوه, ونثيبهم أو نعاقبهم.

" أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب " (41)
ثم قال - متوعدا للمكذبين - " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا " : قيل بإهلاك المكذبين, واستئصال الظالمين.
وقيل: بفتح بلدان المشركين, ونقصهم في أموالهم وأبدانهم, وقيل غير ذلك من الأقوال.
والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك, أن أراضي هؤلاء المكذبين جعل الله, يفتحها ويجتاحها, ويحل القوارع بأطرافها, تنبيها لهم قبل أن يجتاحهم النقص, ويوقع الله بهم من القوارع, ما لا يرده أحد.
ولهذا قال: " وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ " ويدخل في هذا, حكمه الشرعي, والقدري والجزائي.
فهذه الأحكام, التي يحكم الله فيها, توجد في غاية الحكمة والإتقان, لا خلل فيها ولا نقص.
بل هي مبنية على القسط والعدل والحمد, فلا يتعقبها أحد ولا سبيل إلى القدح فيها.
بخلاف حكم غيره, فإنه قد يوافق الصواب, وقد لا يوافقه.
" وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " أي: فلا يستعجلوا بالعذاب, فإن كل ما هو آت, فهو قريب.

" وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " (42)
يقول تعالى: " وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ " برسلهم, وبالحق الذي جاءت به الرسل, فلم يغن عنهم مكرهم, ولم يصنعوا شيئا, فإنهم يحاربون الله ويبارزونه.
" فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا " أي: لا يقدر أحد أن يمكر مكرا إلا بإذنه, وتحت قضائه وقدره.
فإذا كانوا يمكرون بدينه, فإن مكرهم, سيعود عليهم بالخيبة والندم.
فإن الله " يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ " أي: هومها وإراداتها وأعمالها الظاهرة والباطنة.
والمكر, لا بد أن يكون من كسبها, فلا يخفى على الله مكرهم.
فيمتنع أن يمكروا مكرا يضر الحق وأهله, ويفيدهم شيئا.
" وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ " أي: ألهم أو لرسله؟ ومن المعلوم أن العاقبة للمتقين, لا للكفر وأهله.

" ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " (43)
" وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا " أي: يكذبونك, ويكذبون ما أرسلت به.
" قُلْ " لهم - إن طلبوا على ذلك شهيدا: " كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " وشهادته بقوله وفعله وإقراره.
أما قوله, فيما أوحاه الله إلى أصدق خلقه, مما يثبت به رسالته.
وأما فعله, فلأن الله تعالى أيد رسوله, ونصره نصرا خارجا عن قدرته وقدرة أصحابه وأتباعه, وهذا شهادة منه له بالفعل والتأييد.
وأما إقراره, فإنه أخبر الرسول عنه, أنه رسول, وأنه أمر الناس باتباعه.
فمن اتبعه, فله رضوان الله وكرامته.
ومن لم يتبعه, فله النار والسخط, وحل له ماله ودمه, والله يقره على ذلك, فلو تقول عليه بعض الأقاويل, لعاجله بالعقوبة.
" وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ " وهذا شامل لكل علماء أهل الكتابين.
فإنهم يشهد منهم للرسول, من آمن, واتبع الحق, فصرح بتلك الشهادة التي عليه.
ومن كتم ذلك, فإخبار الله عنه, أن عنده شهادة, أبلغ من خبره.
ولو لم يكن عنده شهادة, لرد استشهاده بالبرهان.
فسكوته يدل على أن عنده شهادة مكتومة.
وإنما أمر الله باستشهاد أهل الكتاب, لأنهم أهل هذا الشأن.
وكل أمر, إنما يستشهد فيه أهله, ومن هم أعلم به من غيرهم.
بخلاف من هو أجنبي عنه, كالأميين, من مشركي العرب وغيرهم, فلا فائدة في استشهادهم, لعدم خبرتهم ومعرفتهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #254  
قديم 09-12-2019, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (254)
تفسير السعدى
سورة إبراهيم
من الأية(1) الى الأية(9)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة إبراهيم

" الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد " (1)


يخبر تعالى, أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, لنفع الخلق, ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة, وأنواع المعاصي, إلى نور العلم والإيمان, والأخلاق الحسنة.
وقوله " بِإِذْنِ رَبِّهِمْ " أي: لا يحصل منهم المراد المحبوب لله, إلا بإرادة من الله ومعونة.
ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم.
ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب, فقال: " إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " أي: الموصل إليه وإلى دار كرامته, المشتمل على العلم بالحق والعمل به.
وفي ذكر " العزيز الحميد " بعد ذكر الصراط الموصل إليه, إشارة إلى أن من سلكه, فهو عزيز بعزة الله, قوي, ولو لم يكن له أنصار إلا الله, محمود في أموره, حسن العاقبة.

" الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد "(2)


وليدل ذلك على أن صراط الله, من أكبر الأدلة على ما لله, من صفات الكمال, ونعوت الجلال.
وأن الذي نصبه لعباده, عزيز السلطان, حميد, في أقواله, وأفعاله, وأحكامه.
وأنه مألوه معبود بالعبادات, التي هي منازل الصراط المستقيم.
وأنه كما أن له ملك السماوات والأرض, خلقا ورزقا, وتدبيرا, فله الحكم على عباده بأحكامه الدينية, لأنهم ملكه, ولا يليق به أن يتركهم سدى.
فلما بين الدليل والبرهان, توعد من لم ينقد لذلك فقال: " وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ " لا يقدر قدره, ولا يوصف أمره

" الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد " (3)


ثم وصفهم بأنهم " الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ " فرضوا بها, واطمأنوا, وغفلوا عن الدار الآخرة.
" وَيَصُدُّونَ " الناس " عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ " التي نصبها لعباده, وبينها في كتبه, وعلى ألسنة رسله, فهؤلاء قد نابذوا مولاهم بالمعاداة والمحاربة.
" وَيَبْغُونَهَا " أي: سبيل الله " عِوَجًا " أي: يحرصون على تهجينها وتقبيحها, للتنفير منها, ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
" أُولَئِكَ " الذين ذكر وصفهم " فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ " لأنهم ضلوا, وأضلوا وشاقوا الله ورسوله, وحاربوهم.
فأي ضلال أبعد من هذا؟!!.
وأما أهل الإيمان, فعكس هؤلاء, يؤمنون بالله وآياته, ويستحبون الآخرة على الدنيا, ويدعون إلى سبيل الله ويحسنونها, مهما أمكنهم, ويبغون استقامتها.

" وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم " (4)


وهذا من لطفه بعباده, أنه ما أرسل رسولا, إلا بلسان قومه, ليبين لهم ما يحتاجون إليه, ويتمكنون من تعلم ما أتى به.
بخلاف ما لو أتى على غير لسانهم, فإنهم يحتاجون إلى تلك اللغة, التي يتكلم بها, ثم يفهمون عنه.
فإذا بين الرسول ما أمروا به, ونهوا عنه, وقامت عليهم حجة الله, فيضل الله من يشاء, ممن لم ينقد للهدى, ويهدي من يشاء, ممن اختصه برحمته.
وهو العزيز الحكيم, الذي - من عزته - أنه انفرد بالهداية والإضلال, وتقليب القلوب إلى ما شاء.
ومن حكمته, أنه لا يضع هدايته ولا إضلاله, إلا بالمحل اللائق به.
ويستدل بهذه الآية الكريمة, على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلامه وكلام رسوله, أمور مطلوبة, محبوبة لله, لأنه لا يتم معرفة ما أنزل على رسوله إلا بها.
إلا إذا كان الناس في حالة, لا يحتاجون إليها, وذلك إذا تمرنوا على العربية, ونشأ عليها صغيرهم, وصارت طبيعة لهم, فحينئذ قد اكتفوا المؤنة وصلحوا لأن يتلقوا عن الله وعن رسوله, ابتداء, كما تلقى الصحابة " 4.

" ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " (5)


يخبر تعالى: أنه أرسل موسى بآياته العظيمة, الدالة على صدق ما جاء به وصحته, وأمره بما أمر الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم, بل وبما أمر به جميع الرسل قومهم.
" أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ " أي: ظلمات الجهل والكفر وفروعه, إلى نور العلم والإيمان وتوابعه.
" وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ " أي: بنعمه عليهم, وإحسانه إليهم وبأيامه في الأمم المكذبين, ووقائعه بالكافرين, ليشكروا نعمه, وليحذروا عقابه.
" إِنَّ فِي ذَلِكَ " أي: في أيام الله على العباد " لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ " أي: صبار في الضراء والعسر والضيق, شكور على السراء والنعمة.

" وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " (6)


فإنه يستدل بأيامه, على كمال قدرته, وعميم إحسانه, وتمام عدله وحكمته.
ولهذا امتثل موسى عليه السلام أمر ربه, فذكرهم نعم الله فقال: " اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ " أي: بقلوبكم وألسنتكم.
" إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ " أي: يولونكم " سُوءَ الْعَذَابِ " أي أشده, وفسر ذلك بقوله: " وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ " أي: يبقونهن فلا يقتلونهن.
" وَفِي ذَلِكُمْ " الإنجاء " بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ " أي: نعمة عظيمة.
أو في ذلكم العذاب, الذي ابتليتم به من فرعون وملأه ابتلاء من الله عظيم لكم, لينظر هل تعتبرون أم لا؟

" وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " (7)


وقال لهم - حاثا على شكر نعم الله -: " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ " أي أعلم ووعد.
" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ " من نعمي " وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ " ومن ذلك, أن يزيل عنهم النعمة, التي أنعم بها عليهم.
والشكر هو اعتراف القلب بنعم الله, والثناء على الله بها, وصرفها في مرضاة الله تعالى, وكفر النعمة, ضد ذلك.

" وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " (8)


" وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا " فلن تضروا الله شيئا.
" فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ " فالطاعات لا تزيد في ملكه, والمعاصي, لا تنقص.
وهو كامل الغنى, حميد في ذاته, وأسمائه وصفاته, وأفعاله.
ليس له من الصفات, إلا كل صفة حمد وكمال.
ولا من الأسماء إلا كل اسم حسن.
ولا من الأفعال, إلا كل فعل جميل

" ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب " (9)


يقول تعالى - مخوفا عباده, ما أحله بالأمم المكذبة, حين جاءتهم الرسل, فكذبوهم, فعاقبهم بالعقاب العاجل, الذي رآه الناس وسمعوه فقال: " أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ " .
وقد ذكر الله قصصهم في كتابه, وبسطها.
" وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ " من كثرتهم, وكون أخبارهم اندرست.
فهؤلاء كلهم " جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ " أي: بالأدلة الدالة على صدق ما جاءوا به.
فلم يرسل الله رسولا, إلا أتاه من الآيات, ما يؤمن على مثله الشر.
فحين أتتهم رسلهم بالبينات لم ينقادوا لها, بل استكبروا عنها.
" فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ " أي: لم يؤمنوا بما جاءوا به, ولم يتفوهوا بشيء مما يدل على الإيمان كقوله " يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ " .
" وَقَالُوا " صريحا لرسلهم: " إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ " أي: موقع في الريبة, وقد كذبوا في ذلك وظلموا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #255  
قديم 09-12-2019, 04:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (255)
تفسير السعدى
سورة إبراهيم
من الأية(10) الى الأية(18)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة إبراهيم




" قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين " (10)



ولهذا " قَالَتِ " لهم " رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ " أي: فإنه أظهر الأشياء وأجلاها.
فمن شك في الله " فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " الذي وجود الأشياء مستند إلى وجوده, لم يكن عنده ثقة بشيء من المعلومات, حتى الأمور المحسوسة.
ولهذا خاطبتهم الرسل, خطاب من لا يشك فيه ولا يصلح الريب فيه.
" يَدْعُوكُمْ " إلى منافعكم ومصالحكم " لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " أي: ليثيبكم على الاستجابة لدعوته, بالثواب العاجل والآجل, فلم يدعكم لينتفع بعبادتكم, بل النفع عائد إليكم.
فردوا على رسلهم, رد السفهاء الجاهلين " وَقَالُوا " لهم: " إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا " أي: فكيف تفضلوننا بالنبوة والرسالة.
" تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا " فكيف نترك رأي الآباء وسيرتهم, لرأيكم؟ وكيف نطيعكم وأنتم بشر مثلنا؟ " فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ " أي: بحجة وبينة ظاهرة.
ومرادهم بينة يقترحونها هم, وإلا فقد تقدم أن رسلهم جاءتهم بالبينات.


" قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " (11)



" قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ " مجيبين لاقتراحهم واعتراضهم: " إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " أي: صحيح وحقيقة, إنا بشر مثلكم,.
" وَلَكِنْ " ليس في ذلك, ما يدفع ما جئنا به من الحق, فإن " اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ " فإذا من الله علينا بوحيه ورسالته, فذلك فضله وإحسانه, وليس لأحد أن يحجر على الله فضله ويمنعه من تفضله.
فانظروا ما جئناكم به, فإن كان حقا, فاقبلوه, وإن كان غير ذلك, فردوه ولا تجعلوا حالنا, حجة لكم على رد ما جئناكم به.
وقولكم: " فائتونا بسلطان مبين " فإن هذا ليس بأيدينا, وليس لنا من الأمر شيء.
" وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ " فهو الذي إن شاء جاءكم به وإن شاء, لم يأتكم به, وهو لا يفعل إلا ما هو متقضي حكمته ورحمته.
" وَعَلَى اللَّهِ " لا على غيره " فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ " فيعتمدون عليه في جلب مصالحهم, ودفع مضارهم, لعلمهم بتمام كفايته, وكمال قدرته, وعميم إحسانه.
ويثقون به, في تيسير ذلك, وبحسب ما معهم من الإيمان يكون توكلهم.


" وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون " (12)



فعلم بهذا, وجوب التوكل, وأنه من لوازم الإيمان, ومن العبادات الكبار, التي يحبها الله ويرضاها, لتوقف سائر العبادات عليه.
" وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا " أي: أي شيء يمنعنا من التوكل على الله, والحال, أننا على الحق والهدى.
ومن كان على الحق والهدى, فإن هداه, يوجب له تمام التوكل.
وكذلك ما يعلم من أن الله متكفل بمعونة المهتدي وكفايته, يدعو إلى ذلك.
بخلاف من لم يكن على الحق والهدى, فإنه ليس ضامنا على الله, فإن حاله مناقضة لحال المتوكل.
وفي هذا كالإشارة من الرسل, عليهم الصلاة والسلام لقومهم, بآية عظيمة.
وهو أن قومهم - في الغالب - أن لهم القهر والغلبة عليهم.
فتحدثهم رسلهم, بأنهم متوكلون على الله, في دفع كيدهم ومكرهم, وجازمون بكفايته إياهم.
وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على إتلافهم, وإطفاء ما معهم من الحق.
فيكون هذا, كقول نوح لقومه: " يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله, فعلى الله توكلت, فأجمعوا أمركم وشركاءكم, ثم لا يكن أمركم عليكم غمة, ثم اقضوا إلي ولا تنظرون " الآيات.
وقول هود عليه السلام " إني أشهد الله واشهدوا, أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون " .
" وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا " أي: ولنستمرن على دعوتكم, ووعظكم, وتذكيركم, ولا نبالي بما يأتينا منكم, من الأذى, فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الأذى, احتسابا للأجر, ونصحا لكم, لعل الله أن يهديكم مع كثرة التذكير.
" وَعَلَى اللَّهِ " وحده لا على غيره " فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو نَ " فإن التوكل عليه, مفتاح لكل خير.
واعلم أن الرسل, عليهم الصلاة والسلام, توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب, وهو التوكل على الله, في إقامة دينه ونصره, وهداية عبيده, وإزالة الضلال عنهم, وهذا أكمل ما يكون من التوكل.



" وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين " (13)



لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك, وعدم مللهم, ذكر منتهى ما وصلت بهم الحال, مع قومهم فقال: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ " متوعدين لهم - " لَنُخْرِجَنَّكُ مْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا " وهذا أبلغ ما يكون من الرد, وليس بعد هذا فيهم, مطمع.
لأنه ما كفاهم أن أعرضوا عن الهدى, بل توعدوهم بالإخراج من ديارهم ونسبوها إلى أنفسهم, وزعموا أن الرسل, لا حق لهم فيها.
وهذا من أعظم الظلم, فإن الله أخرج عباده إلى الأرض, وأمرهم بعبادته, وسخر لهم الأرض وما عليها, يستعينون بها على عبادته.
فمن استعان بذلك على عبادة الله, حل له ذلك, وخرج من التبعة.
ومن استعان بذلك على الكفر وأنواع المعاصي, لم يكن ذلك خالصا له, ولم يحل له.
فعلم أن أعداء الرسل في الحقيقة, ليس لهم شيء من الأرض, التي توعدوا الرسل بإخراجهم منها.
وإن رجعنا إلى مجرد العادة, فإن الرسل من جملة أهل بلادهم, وأفراد منهم.
فلأي شيء يمنعونهم حقا لهم, صريحا واضحا؟!! هل هذا إلا من عدم الدين والمروءة بالكلية؟ ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل إلى هذه الحال, ما بقي حينئذ, إلا أن يمضي الله أمره, وينصر أولياءه.
" فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ " بأنواع العقوبات.



" ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " (14)



" وَلَنُسْكِنَنَّ كُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ " أي: العاقبة الحسنة التي جعلها الله للرسل ومن تبعهم, جزاء " لِمَنْ خَافَ مَقَامِي " عليه في الدنيا, وراقب الله مراقبة من يعلم أنه يراه.
" وَخَافَ وَعِيدِ " أي: ما توعدت به من عصاني, فأوجب له ذلك, الانكفاف عما يكرهه الله, والمبادرة إلى ما يحبه الله.



" واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " (15)
" وَاسْتَفْتَحُوا " أي: الكفار, أي: هم الذين طلبوا, واستعجلوا فتح الله وفرقانه, بين أوليائه وأعدائه, فجاءهم ما استفتحوا به, وإلا فالله عليم حليم, لا يعاجل من عصاه بالعقوبة.
" وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ " أي: خسر في الدنيا والآخرة, من تجبر على الله وعلى الحق, وعلى عباد الله, واستكبر في الأرض, وعاند الرسل, وشاقهم.



" من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد " (16)



" مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ " أي: جهنم لهذا الجبار العنيد بالمرصاد, فلا بد له من ورودها, فيذاق حينئذ العذاب الشديد.
" وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ " في لونه, وطعمه, ورائحته الخبيثة, وهو في غاية الحرارة.


" يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ " (17)



" يَتَجَرَّعُهُ " من العطش الشديد " وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ " فإنه إذا قرب إلى وجهه, شواه, وإذا وصل إلى بطنه, قطع ما أتى عليه من الأمعاء.
" وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ " أي: يأتيه العذاب الشديد من كل نوع من أنواع العذاب, وكل نوع منه, من شدته يبلغ إلى الموت ولكن الله قضى أن لا يموتوا كما قال تعالى: , لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور * " وهم يصطرخون فيها " .
" وَمِنْ وَرَائِهِ " أي: الجبار العنيد " عَذَابٍ غَلِيظٍ " أي: قوي شديد, لا يعلم وصفه وشدته, إلا الله تعالى.


" مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد " (18)
يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها: إما أن المراد بها, الأعمال التي عملوها لله, بأنها في ذهابها وبطلانها واضمحلالها كاضمحلال الرماد, الذي هو أدق الأشياء وأخفها, إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف شديد الهبوب, فإنه لا يبقى منه شيئا, ولا يقدر منه على شيء يذهب ويضمحل.
فكذلك أعمال الكفار " لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ " ولا على مثقال ذرة منه, لأنه مبني على الكفر والتكذيب.
" ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ " حيث بطل سعيهم, واضمحل عملهم.
وإما أن المراد بذلك, أعمال الكفار التي عملوها, ليكيدوا بها الحق.
فإنهم يسعون ويكدحون في ذلك, ومكرهم عائد عليهم, ولن يضروا الله ورسله وجنده وما معهم, من الحق شيئا.
" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ "
ينبه تعالى عباده بأن " اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ " أي: ليعبده الخلق ويعرفوه, ويأمرهم وينهاهم, وليستدلوا بهما, وما فيهما, على ما له, من صفات الكمال.
وليعلموا أن الذي خلق السماوات والأرض - على عظمهما وسعتهما - قادر على أن يعيدهم خلقا جديدا, ليجازيهم بإحسانهم وإساءتهم, وأن قدرته ومشيئته, لا تقصر عن ذلك, ولهذا قال: " إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ " .
يحتمل أن المعنى: إن يشأ يذهبكم ويأت بقوم غيركم, يكونون أطوع لله منكم.
ويحتمل أن المراد: إن يشأ يفنيكم, ثم يعيدكم بالبعث خلقا جديدا.
ويدل على هذا الاحتمال, ما ذكره بعده, من أحوال يوم القيامة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #256  
قديم 13-12-2019, 03:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (256)
تفسير السعدى
سورة إبراهيم
من الأية(19) الى الأية(30)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة إبراهيم


" وما ذلك على الله بعزيز " (20)
" وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ " أي: بممتنع بل هو سهل عليه جدا.
" ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " .

" وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " (21)
" وَبَرَزُوا " أي: الخلائق " لِلَّهِ جَمِيعًا " حين ينفخ في الصور, فيخرجون من الأجداث إلى ربهم, فيقفون في أرض مستوية, قاع صفصف, لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ويبرزون له, لا يخفى عليه منهم خافية.
فإذا برزوا, صاروا يتحاجون, وكل يدفع عن نفسه, ويدافع ما يقدر عليه ولكن أني لهم ذلك؟ " فَقَالَ الضُّعَفَاءُ " أي: التابعون والمقلدون " لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا " وهم: المتبوعون, الذين هم قادة في الضلال: " إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا " أي: في الدنيا, أمرتمونا بالضلال, وزينتموه لنا, فأغويتمونا.
" فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ " أي: ولو مثقال ذرة.
" قَالُوا " أي: المتبوعون والرؤساء " أغويناكم كما غوينا " و " لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ " فلا يغني أحد أحدا.
" سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا " من العذاب " أَمْ صَبَرْنَا " عليه.
" مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ " أي: لا ملجأ نلجأ إليه, ولا مهرب لنا من عذاب الله.

" وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم " (22)
أي: " وَقَالَ الشَّيْطَانُ " الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم, مخاطبا لأهل النار, ومتبرئا منهم " لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ " ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: " إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ " على ألسنة رسله, فلم تطيعوه, فلو أطعتموه, لأدركتم الفوز العظيم.
" وَوَعَدْتُكُمْ " الخير " فَأَخْلَفْتُكُم ْ " أي: لم يحصل, ولن يحصل لكم ما منيتكم به, من الأماني الباطلة.
" وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ " أي: من حجة على تأييد قولي.
" إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي " أي: هذه نهاية ما عندي, أني دعوتكم إلى مرادى, وزينته لكم, فاستجبتم لي, اتباعا لأهوائكم وشهواتكم.
فإذا كانت الحال بهذه الصورة " فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ " فأنتم السبب, وعليكم المدار في موجب العقاب.
" مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ " أي: بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها " وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ " كل له قسط من العذاب.
" إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ ي مِنْ قَبْلُ " أي: تبرأت من جعلكم لي شريكا مع الله, فلست شريكا لله, ولا تجب طاعتي.
" إِنَّ الظَّالِمِينَ " لأنفسهم بطاعة الشيطان " لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " خالدين فيه أبدا.
وهذا من لطف الله بعباده, أن حذرهم من طاعة الشيطان وأخبر بمداخله, التي يدخل منها على الإنسان ومقاصده فيه, وأنه يقصد أن يدخله النيران.
وهنا بين لنا أنه إذا دخل النار هو وجنده, أنه يتبرأ منهم هذه البراءة, ويكفر بشركهم " ولا ينبئك مثل خبير " .
واعلم أن الله ذكر في هذه الآية, أن الشيطان ليس له سلطان.
وقال في آية أخرى " إنما سلطانه على الذين يتولونه, والذين هم به مشركون " .
فالسلطان الذي نفاه عنه, هو سلطان الحجة والدليل.
فليس له حجة أصلا, على ما يدعو إليه.
وإنما نهاية ذلك, أن يقيم من الشبه والتزيينات, ما به يتجرأون على المعاصي.
وأما السلطان, الذي أثبته, فهو التسلط بالإغراء على المعاصي لأوليائه يؤزهم إلى المعاصي أزا, وهم الذين سلطوه على أنفسهم, بموالاته, والالتحاق بحزبه.
ولهذا ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

" وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام " (23)
ولما ذكر عقاب الظالمين, ذكر ثواب الطائعين فقال: " وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " أي: الذين قاموا بالدين, قولا, وعملا, واعتقادا.
" جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " فيها من اللذات والشهوات, ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
" خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ " أي: لا بحولهم وقوتهم, بل بحول الله وقوته.
" تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ " أي: يحيي بعضهم بعضا بالسلام, والتحية, والكلام الطيب

" ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء " (24)
يقول تعالى: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً " وهي شهادة أن لا إله إلا الله, وفروعها.
" كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ " وهي النخلة " أَصْلُهَا ثَابِتٌ " في الأرض " وَفَرْعُهَا " منتشر " فِي السَّمَاءِ " وهي كثيرة النفع دائما.
" تُؤْتِي أُكُلَهَا " أي ثمرتها " كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا " .
فكذلك شجرة الإيمان, أصلها ثابت في قلب المؤمن, علما, واعتقادا.
وفرعها من الكلم الطيب, والعمل الصالح, والأخلاق المرضية, والآداب الحسنة, في السماء دائما, يصعد إلى الله منه, من الأعمال والأقوال, التي تخرجها شجرة الإيمان, ما ينتفع به المؤمن, وينتفع غيره.
" وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " ما أمرهم به ونهاهم عنه.
فإن في ضرب الأمثال, تقريبا للمعاني المعقولة, من الأمثال المحسوسة, ويتبين المعنى الذي أراده الله, غاية البيان, ويتضح, غاية الوضوح, وهذا من رحمته, وحسن تعليمه.
فلله أتم الحمد وأكمله وأعمه.
فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها, في قلب المؤمن.
" وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ "
ثم ذكر ضدها وهي: كلمة الكفر, وفرعها فقال: " وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ " المأكل والمطعم, وهي: شجرة الحنظل ونحوها.
" اجْتُثَّتْ " هذه الشجرة " مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ " أي: ثبوت فلا عروق تمسكها, ولا ثمرة صالحة, تنتجها, بل إن وجد فيها ثمرة, فهي ثمرة خبيثة.
كذلك كلمة الكفر والمعاصي, ليس لها ثبوت نافع في القلب, ولا تثمر إلا كل قول خبيث, وعمل خبيث, يؤذي صاحبه, ولا يصعد إلى الله منه عمل صالح, ولا ينفع نفسه ولا ينتفع به غيره.

" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " (27)
يخبر تعالى: أنه يثبت عباده المؤمنين أي: الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام, الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها.
فيثبتهم الله في الحياة الدنيا, عند ورود الشبهات, بالهداية إلى اليقين.
وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة, على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها.
وفي الآخرة عند الموت, بالثبات على الدين الإسلامي, والخاتمة الحسنة.
وفي القبر عند سؤال الملكين, للجواب الصحيح, إذا قيل للميت " من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ " هداهم للجواب الصحيح, بأن يقول المؤمن: " الله ربي, والإسلام ديني, ومحمد نبيي " .
" وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ " عن الصواب في الدنيا والآخرة, وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم.
وفي هذه الآية, دلالة على فتنة القبر, وعذابه, ونعيمه, كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم, في الفتنة وصفتها, ونعيم القبر وعذابه.

" ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " (28)
يقول تعالى - مبينا حال المكذبين لرسوله, من كفار قريش, وما آل إليه أمرهم: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا " ونعمة الله هي: إرسال محمد صلى الله عليه وسلم, إليهم يدعوهم إلى إدراك الخيرات في الدنيا والآخرة, وإلى النجاة من شرور الدنيا والآخرة.
فبدلوا هذه النعمة, بردها, والكفر بها والصد عنها, بأنفسهم.
وصدهم غيرهم حتى " وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ " وهي: النار, حيث تسببوا لإضلالهم, فصاروا وبالا على قومهم, من حيث يظن نفعهم.
ومن ذلك أنهم, زينوا لهم الخروج يوم " بدر " ليحاربوا الله ورسوله.
فجرى عليهم ما جرى, وقتل كثير من كبرائهم وصناديدهم, في تلك الوقعة.

" جهنم يصلونها وبئس القرار " (29)
" جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا " أي: يحيط بهم حرها, من جميع جوانبهم " وَبِئْسَ الْقَرَارُ "
" وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار " (30)
" وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا " أي: نظراء وشركاء " لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ " أي: ليضلوا العباد عن سبيل الله, بسبب ما جعلوا الله من الأنداد, ودعوهم إلى عبادتها.
" قُلْ " لهم متوعدا: " تَمَتَّعُوا " بكفرهم وضلالكم قليلا, فليس ذلك بنافعكم.
" فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ " أي: مآلكم ومأواكم فيها, وبئس المصير.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #257  
قديم 13-12-2019, 03:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (257)
تفسير السعدى
سورة إبراهيم
من الأية(31) الى الأية(40)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة إبراهيم

" قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال " (31)



أي: " قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا " آمرا لهم بما فيه غاية صلاحهم, وأن ينتهزوا الفرصة, قبل أن لا يمكنهم ذلك: " يُقِيمُوا الصَّلَاةَ " ظاهرا وباطنا " وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ " أي: من النعم التي أنعمنا بها عليهم, قليلا أو كثيرا " سِرًّا وَعَلَانِيَةً " .
وهذا يشمل النفقة الواجبة, كالزكاة, ونفقة من تجب عليه نفقته, والمستحبة, كالصدقات ونحوها.
" مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ " أي: لا ينفع فيه شيء, ولا سبيل إلى استدراك ما فات, لا بمعاوضة بيع وشراء, ولا بهبة خليل وصديق.
فكل امرئ له شأن يغنيه.
فليقدم العبد لنفسه, ولينظر ما قدمه لغد, وليتفقد أعماله, ويحاسب نفسه, قبل الحساب الأكبر.



" الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار " (32)



يخبر تعالى: أنه وحده " الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " على اتساعهما وعظمهما.
" وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً " وهو: المطر الذي ينزله الله من السحاب.
" فَأَخْرَجَ بِهِ " أي: بذلك الماء " مِنَ الثَّمَرَاتِ " المختلفة الأنواع.
" رِزْقًا لَكُمْ " ورزقا لأنعامكم " وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ " أي: السفن والمراكب.
" لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ " فهو الذي يسر لكم صنعتها, وأقدركم عليها, وحفظها على تيار الماء, لتحملكم, وتحمل تجاراتكم وأمتعتكم, إلى بلد تقصدونه.
" وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ " لتسقي حروثكم وأشجاركم, وتشربوا منها


" وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار " (33)



" وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ " لا يفتران, ولا ينيان, يسعيان لمصالحكم, من حساب أزمنتكم ومصالح أبدانكم, وحيواناتكم, وزروعكم, وثماركم.
" وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ " لتسكنوا فيه " وَالنَّهَارِ " مبصرا, لتبتغوا من فضله.


" وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار " (34)



" وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ " أي: أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم وحاجتكم, مما تسألونه إياه.
بلسان الحال, أو بلسان المقال, من أنعام, وآلات, وصناعات وغير ذلك.
" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا " فضلا عن قيامكم بشكرها " إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ " أي: هذه طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرئ على المعاصي, مقصر في حقوق ربه, كفار لنعم الله, لا يشكرها ولا يعترف بها, إلا من هداه الله, فشكر نعمه, وعرف حق ربه, وقام به.
ففي هذه الآيات, من أصناف نعم الله على العباد, شيء عظيم, مجمل, ومفصل, يدعو الله به العباد إلى القيام بشكره وذكره, ويحثهم على ذلك, ويرغبهم في سؤاله ودعائه, آناء الليل والنهار, كما أن نعمته, تتكرر عليهم, في جميع الأوقات.


" وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " (35)



أي: واذكر إبراهيم, عليه الصلاة والسلام, في هذه الحالة الجميلة.
" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ " أي: الحرم " آمَنَّا " .
فاستجاب الله دعاءه شرعا وقدرا, فحرمه الله في الشرع, ويسر من أسباب حرمته, قدرا, ما هو معلوم.
حتى إنه لم يرده ظالم بسوء, إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم.
ولما دعا له بالأمن, دعا له ولبنيه بالأمن فقال: " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ " .
أي: اجعلني وإياهم, جانبا بعيدا عن عبادها, والإلمام بها.
ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه, بكثرة من افتتن وابتلى بعبادتها, فقال:


" رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " (36)



" رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ " أي: ضلوا بسببها.
" فَمَنْ تَبِعَنِي " على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين " فَإِنَّهُ مِنِّي " لتمام الموافقة ومن أحب قوما واتبعهم, التحق بهم.
" وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وهذا من شفقة الخليل, عليه الصلاة والسلام, حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله, والله تبارك وتعالى, أرحم منه بعباده, لا يعذب إلا من تمرد عليه.


" ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " (37)



" رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ " وذلك أنه أتى ب " هاجر " أم إسماعيل وبابنها إسماعيل, عليه الصلاة والسلام, وهو في الرضاع, من الشام, حتى وضعهما في مكة, وهي - إذ ذاك - ليس فيها سكن, ولا داع, ولا مجيب.
فلما وضعهما, دعا ربه بهذا الدعاء, فقال - متضرعا متوكلا على ربه: " رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي " أي: لا كل ذريتي, لأن إسحاق في الشام, وباقي بنيه كذلك, وإنما أسكن في مكة, إسماعيل وذريته.
وقوله: " بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ " أي: لأن أرض مكة لم يكن فيها ماء.
" رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ " أي: اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة, لأن إقامة الصلاة من أخص, وأفضل العبادات الدينية, فمن أقامها, كان مقيما لدينه.
" فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ " أي: تحبهم, وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه.
فأجاب الله دعاءه, فأخرج من ذرية إسماعيل, محمدا صلى الله عليه وسلم, حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي, وإلى ملة أبيهم إبراهيم, فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة.
وافترض الله حج هذا البيت, الذي أسكن به ذرية إبراهيم, وجعل فيه سرا عجيبا, جاذبا للقلوب, فهي تحجه, ولا تقضي منه وطرا على الدوام.
بل كلما أكثر العبد التردد إليه, ازداد شوقه, وعظم ولعه وتوقه.
وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة.
" وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ " فأجاب الله دعاءه.
فصار يجبي إليه, ثمرات كل شيء.
فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت, والثمار فيها متوفرة, والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب.


" ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء " (38)



" رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ " أي: أنت أعلم بنا منا.
فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا, أن تيسر لنا من الأمور التي نعلمها, والتي لا نعلمها, ما هو مقتضى علمك ورحمتك.
" وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ " ومن ذلك, هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إلا الخير, وكثرة الشكر لله رب العالمين.


" الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء " (39)



" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ " فذلك من أكبر النعم.
وكونه على الكبر, في حال الإياس من الأولاد, نعمة أخرى.
وكونهم أنبياء صالحين, أجل وأفضل.
" إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ " أي: لقريب الإجابة, ممن دعاه, وقد دعوته, ولم يخيب رجائي.


" رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء " (40)



ثم دعا لنفسه ولذريته فقال: " رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ " .
فاستجاب الله له في ذلك كله, إلا أن دعاءه لأبيه, إنما كان عن موعدة وعده إياه, فلما تبين له أنه عدو لله, تبرأ منه.
ثم قال تعالى: " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا " إلى " وَأَفْئِدَتُهُم ْ هَوَاءٌ " .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #258  
قديم 13-12-2019, 03:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (258)
تفسير السعدى
سورة إبراهيم
من الأية(41) الى الأية(52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة إبراهيم



" ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار " (42)
هذا وعيد شديد للظالمين, وتسلية للمظلومين.
يقول تعالى: " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ " حيث أمهلهم وأدر عليهم الأرزاق, وتركهم يتقلبون في البلاد, آمنين مطمئنين.
فليس في هذا, ما يدل على حسن حالهم, فإن الله يملي للظالم ويمهله, ليزداد إثما, حتى إذا أخذه, لم يفلته " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " .
والظلم - ههنا - يشمل الظلم فيما بين العبد وربه, وظلمه لعباد الله.
" إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ " أي: لا تطرف من شدة ما ترى, من الأهوال وما أزعجها من القلاقل.


" مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء " (43)

" مُهْطِعِينَ " أي: مسرعين إلى إجابة الداعي حين يدعوهم إلى الحضور بين يدي الله الحساب, لا امتناع لهم ولا محيص, ولا ملجأ.
" مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ " أي: رافعيها قد غلت أيديهم إلى الأذقان, فارتفعت لذلك, رءوسهم.
" لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُم ْ هَوَاءٌ " أي: أفئدتهم فارغة من قلوبهم, قد صعدت إلى الحناجر, لكنها مملوءة من كل هم وغم, وحزن وقلق.


" وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال " (44)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ " أي: صف لهم تلك الحال, وحذرهم من الأعمال الموجبة للعذاب, الذي حين يأتي في شدائده وقلاقله.
" فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا " بالكفر والتكذيب, وأنواع المعاصي, نادمين على ما فعلوا, سائلين للرجعة في غير وقتها.
" رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ " أي: ردنا إلى الدنيا, فإنا قد أبصرنا.
" نُجِبْ دَعْوَتَكَ " والله يدعو إلى دار السلام " وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ " وهذا كله, لأمل التخلص من العذاب الأليم, وإلا فهم كذبة في هذا الوعد " فلو ردوا, لعادوا لما نهوا عنه " .
ولهذا يوبخون ويقال لهم: " أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ " عن الدنيا, وانتقال إلى الآخرة, فها, قد تبين لكم حنثكم.
في إقسامكم, وكذبكم فيما تدعون.
وليس عملكم قاصرا في الدنيا من أجل الآيات البينات.
بل " وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ " من أنواع العقوبات؟ وكيف أحل الله بهم العقوبات, حين كذبوا بالآيات البينات, وضربنا لكم الأمثال الواضحة التي لا تدع أدنى شك في القلب إلا أزالته.
فلم تنفع فيكم تلك الآيات, بل أعرضتم, ودمتم على باطلكم, حتى صار ما صار: ووصلتم إلى هذا اليوم الذي لا ينفع فيه اعتذار, من اعتذر بباطل.


" وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " (46)
" وَقَدْ مَكَرُوا " أي: المكذبون للرسل " مَكْرُهُمْ " الذي وصلت إليه إرادتهم, وقدروا عليه.
" وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ " أي: هو محيط به علما وقدرة, وقد عاد مكرهم عليهم " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " " وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ " أي: ولقد كان مكر الكفار المكذبين للرسل, بالحق, وبمن جاء به - من عظمه - لتزول الجبال الراسيات بسببه, عن أماكنها.
أي: " مكروا مكرا كبارا " لا يقادر قدره ولكن الله رد كيدهم في نحورهم.
ويدخل في هذا, كل من مكر من المخالفين للرسل, لينصر باطلا, أو يبطل حقا.
والقصد أن مكرهم, لم يغن عنهم شيئا, ولم يضروا الله شيئا, وإنما ضروا أنفسهم.


" فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام " (47)
يقول تعالى: " فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ " بنجاتهم, ونجاة أتباعهم وسعادتهم, وإهلاك أعدائهم وخذلانهم في الدنيا, وعقابهم في الآخرة.
فهذا لا بد من وقوعه, لأنه وعد به الصادق قولا, على ألسنة أصدق خلقه, وهم: الرسل, وهذا أعلى ما يكون من الأخبار.
خصوصا, وهو مطابق للحكمة الإلهية, والسنن الربانية, وللعقول الصحيحة.
و " إِنَّ اللَّهَ " لا يعجزه شيء, فإنه " عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ " .


" يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار " (48)
أي: إذا أراد أن ينتقم من أحد, فإنه لا يفوته ولا يعجزه, وذلك في يوم القيامة.
" يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ " تبدل غير السماوات.
وهذا التبديل, تبديل صفات, لا تبديل ذات, فإن الأرض يوم القيامة تسوي وتمد كمد الأديم, ويلقى ما على ظهرها من جبل ومعلم, فتصير قاعا صفصفا, لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.
وتكون السماء, كالمهل, من شدة أهوال ذلك اليوم, ثم يطويها الله تعالى بيمينه.
" وَبَرَزُوا " أي: الخلائق من قبورهم إلى يوم بعثهم, ونشورهم في محل لا يخفى منهم على الله شيء.
" لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " أي: المنفرد بعظمته وأسمائه وصفاته, وأفعاله العظيمة, وقهره لكل العوالم فكلها تحت تصرفه وتدبيره, فلا يتحرك منها متحرك, ولا يسكن ساكن إلا بإذنه.


" وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد "(49)

" وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ " أي: الذين وصفهم الإجرام, وكثرة الذنوب.
" يَوْمَئِذٍ " في ذلك اليوم " مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ " أي: يسلسل كل أهل عمل من المجرمين, بسلاسل من نار, فيقادون إلى العذاب, في أذل صورة وأشنعها, وأبشعها.


" سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار " (50)
" سَرَابِيلُهُمْ " أي: ثيابهم " مِنْ قَطِرَانٍ " وذلك لشدة اشتعال النار فيهم وحرارتها, ونتن ريحها.
" وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ " التي هي أشرف ما في أبدانهم " النَّارَ " أي: تحيط بها, وتصلاها من كل جانب, وغير الوجوه من باب أولى وأحرى.
وليس هذا ظلما من الله, وإنما هو جزاء لما قدموا وكسبوا, ولهذا قال تعالى: " لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ " من خير وشر, بالعدل والقسط, " إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " كقوله تعالى: " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ " .
ويحتمل أن معناه: سريع المحاسبة, فيحاسب الخلق في ساعة واحدة كما يرزقهم ويدبرهم بأنواع التدابير, في لحظة واحدة, لا يشغله شأن عن شأن, وليس ذلك بعسير عليه.


" هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب " (52)
فلما بين البيان المبين في هذا القرآن, قال في مدحه: " هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ " أي: يتبلغون به, ويتزودون إلى الوصول إلى أعلى المقامات وأفضل الكرامات, لما اشتمل عليه من الأصول والفروع, وجميع العلوم التي يحتاجها العباد.
" وَلِيُنْذَرُوا بِهِ " لما فيه من الترهيب من أعمال الشر, وما أعد الله لأهلها من العقاب.
" وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ " حيث صرف فيه من الأدلة والبراهين, على ألوهيته ووحدانيته, ما صار ذلك حق اليقين.
" وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ " أي: العقول الكاملة, ما ينفعهم, فيفعلونه وما يضرهم, فيتركونه, وبذلك صاروا أولي الألباب والبصائر.
إذ بالقرآن, ازدادت معارفهم وآراؤهم, وتنورت أفكارهم, لما أخذوه غضا طريا, فإنه لا يدعو إلا إلى أعلى الأخلاق والأعمال وأفضلها.
ولا يستدل على ذلك إلا بأقوى الأدلة وأبينها.
وهذه القاعدة إذا تدرب بها العبد الذكي, لم يزل في صعود ورقي على الدوام في كل خصلة حميدة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #259  
قديم 13-12-2019, 03:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (259)
تفسير السعدى
سورة الحجر
من الأية(1) الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الحجر



" الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " (1)



يقول تعالى - معظما لكتابه, مادحا له: " تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ " أي: الآيات الدالة على أحسن المعاني, وأفضل المطالب.
" وَقُرْآنٍ مُبِينٍ " للحقائق, بأحسن لفظ وأوضحه, وأدله على المقصود.
وهذا مما يوجب على الخلق, الانقياد إليه, والتسليم لحكمه وتلقيه بالقبول, والفرح والسرور.


" ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " (2)



فأما من قابل هذه النعمة العظيمة بردها, والكفر بها, فإنه من المكذبين الضالين, الذين سيأتي عليهم وقت, يتمنون أنهم مسلمون, أي: منقادون لأحكامه, وذلك حين ينكشف الغطاء, وتظهر أوائل الآخرة, ومقدمات الموت فإنهم في أحوال الآخرة كلها, يتمنون أنهم مسلمون, وقد فات وقت الإمكان.
ولكنهم في هذه الدنيا مغترون.


" ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون " (3)
" ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا " بلذاتهم " وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ " أي: يؤملون البقاء في الدنيا, فيلهيهم عن الآخرة.
" فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ " أن ما هم عليه باطل, وأن أعمالهم ذهبت خسرانا عليهم, ولا يغتروا بإمهال الله تعالى, فإن هذه, سنته في الأمم.


" وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم " (4)

" وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ " كانت مستحقة للعذاب " إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ " مقدر لإهلاكها.

" ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون " (5)

" مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ " وإلا, فالذنوب لا بد من وقوع أثرها, وإن تأخر.

" وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " (6)
أي: وقال المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم, استهزاء وسخرية: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر " على زعمك " إنك لمجنون " إذ تظن أنا سنتبعك, ونترك ما وجدنا عليه آباءنا, لمجرد قولك: " لو ما تأتينا بالملائكة " يشهدون لك بصحة ما جئت به " إن كنت من الصادقين " فلما لم تأت بالملائكة, فلست بصادق.
وهذا من أعظم الظلم والجهل.
أما الظلم, فظاهر, فإن هذا تجرؤ على الله وتعنت بتعيين الآيات, التي لم يخترها, وحصل المقصود والبرهان بدونها, من الآيات الكثيرة, الدالة على صحة ما جاء به.
وأما الجهل, فإنهم جهلوا مصلحتهم من مضرتهم.
فليس في إنزال الملائكة, خير لهم, بل لا ينزل الله الملائكة إلا بالحق الذي لا إمهال على من لم يتبعه وينقد له.
" وما كانوا إذا " أي: حين تنزل الملائكة, إن لم يؤمنوا, ولن يؤمنوا " منظرين " أي: بمهملين.
فصار طلبهم لإنزال الملائكة, تعجيلا لأنفسهم بالهلاك والدمار.
فإن الإيمان ليس في أيديهم, وإنما هو بيد الله.
" ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله, ولكن أكثرهم يجهلون " ويكفيهم من الآيات, إن كانوا صادقين, هذا القرآن العظيم ولهذا قال هنا:


" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "(9)
" إنا نحن نزلنا الذكر " أي: القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء, من المسائل والدلائل الواضحة, وفيه يتذكر من أراد التذكر.
" وإنا له لحافظون " أي: في حال إنزاله, وبعد إنزاله.
ففي حال إنزاله حافظون له, من استراق كل شيطان رجيم.
وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله, واستودعه في قلوب أمته, وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها, والزيادة والنقص, ومعانيه, من التبديل.
فلا يحرف محرف معنى من معانيه, إلا وقيض الله له من بين الحق المبين.
وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين.
ومن حفظه: أن الله يحفظ أهله من أعدائهم, ولا يسلط عدوا يجتاحهم.


" ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين " (10)
يقول تعالى لنبيه إذ كذبه المشركون: لم يزل هذا دأب الأمم الخالية والقرون الماضية: " ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين " .
أي, فرقهم وجماعتهم, رسلا.


" وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون "(11)
" وما يأتيهم من رسول " يدعوهم إلى الحق والهدى " إلا كانوا به يستهزئون " .
" كذلك نسلكه " أي: ندخل التكذيب " في قلوب المجرمين " أي: الذين وصفهم الظلم والبهت, عاقبناهم لما تشابهت قلوبهم بالكفر والتكذيب, وتشابهت معاملتهم لأنبيائهم, ورسلهم بالاستهزاء والسخرية وعدم الإيمان, ولهذا قال: " لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين " أي: عادة الله فيهم, بإهلاك من لم يؤمن بآيات الله.


" ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون " (14)

أي: ولو جاءتهم كل آية عظيمة, لم يؤمنوا وكابروا.
" ولو فتحنا عليهم بابا من السماء " فصاروا يعرجون فيه, ويشاهدونه, عيانا بأنفسهم, لقالوا - من ظلمهم وعنادهم, منكرين لهذه الآية: - " إنما سكرت أبصارنا " أي: أصابها سكر وغشاوة, حتى رأينا ما لم نر " بل نحن قوم مسحورون " أي: ليس هذا بحقيقة, بل هذا سحر.
وقوم وصلت بهم الحال إلى هذا الإنكار, فإنهم لا مطمع فيهم ولا رجاء.
ثم ذكر الآيات الدالات على ما جاءت به الرسل من الحق فقال: " ولقد جعلنا في السماء بروجا " إلى " برازقين " .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #260  
قديم 13-12-2019, 03:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,992
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (260)
تفسير السعدى
سورة الحجر
من الأية(15) الى الأية(26)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الحجر




" ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين " (16)
يقول تعالى - مبينا كمال اقتداره ورحمته بخلقه: " ولقد جعلنا في السماء بروجا " أي: نجوما كالأبراج, والأعلام العظام يهتدى بها في ظلمات البر والبحر.
" وزيناها للناظرين " , فإنه لولا النجوم, لما كان للسماء هذا المنظر البهي, والهيئة العجيبة.
وهذا مما يدعو الناظرين إلى التأمل فيها, والنظر في معانيها, والاستدلال بها, على باريها.

" وحفظناها من كل شيطان رجيم " (17)
" وحفظناها من كل شيطان رجيم " إذا استرق السمع, أتبعته الشهب الثواقب, فبقيت السماء, ظاهرها, مجملا بالنوم النيرات, وباطنها, محروسا ممنوعا, من الآفات.
" إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " (18)
" إلا من استرق السمع " أي: في بعض الأوقات, قد يسترق بعض الشياطين السمع, بخفية واختلاس.
" فأتبعه شهاب مبين " أي: بين منير, يقتله, أو يخبله.
فربما أدركه الشهاب, قبل أن يوصلها الشيطان إلى وليه, فينقطع خبر السماء عن الأرض.
وربما ألقاها إلى وليه, قبل أن يدركه الشهاب, فيضهما ويكذب معها مائة كذبة.
ويستدل بتلك الكلمة التي, سمعت من السماء.

" والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون " (19)
" والأرض مددناها " أي وسعناها سعة, يتمكن الآدميون والحيوانات كلها, من الامتداد بأرجائها, والتناول من أرزاقها, والسكون في نواحيها.
" وألقينا فيها رواسي " أي: جبالا عظاما, تحفظ الأرض بإذن الله, أن تميد, وتثبها أن تزول.
" وأنبتنا فيها من كل شيء موزون " أي: نافع متقوم, يضطر إليه العباد والبلاد, ما بين نخيل, وأعناب, وأصناف الأشجار, وأنواع النبات, والمعادن.

" وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين " (20)
" وجعلنا لكم فيها معايش " من الحرث, ومن الماشية, ومن أنواع المكاسب والحرف.
" ومن لستم له برازقين " أي: أنعمنا عليكم بعبيد وإماء, وأنعام, لنفعكم, ومصالحكم, وليس عليكم رزقها, بل خولكم الله إياها, وتكفل بأرزاقها.

" وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم "(21)
أي: جميع الأرزاق وأصناف الأقدار, لا يملكها أحد إلا الله.
فخزائنها بيده, يعطي من يشاء, ويمنع من يشاء, بحسب حكمته ورحمته الواسعة.
" وَمَا نُنَزِّلُهُ " أي: المقدر من كل شيء, من مطر وغيره.
" إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ " فلا يزيد على ما قدره الله, ولا ينقص منه.

" وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين " (22)
أي: وسخرنا الرياح, رياح الرحمة, تلقح السحاب, كما يلقح الذكر الأنثى.
فينشأ عن ذلك, الماء, بإذن الله, فيسقيه الله العباد, ومواشيهم, وأرضهم, ويبقى في الأرض مدخرا لحاجاتهم وضروراتهم, ما هو مقتضى قدرته ورحمته.
" وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ " أي: لا قدرة لكم على خزنه وادخاره.
ولكن الله يخزنه لكم, ويسلكه ينابيع في الأرض, رحمة بكم, وإحسانا إليكم.

" وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون " (23)
أي: هو وحده, لا شريك له, الذي يحيي الخلق من العدم, بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ويميتهم لآجالهم, التي قدرها " وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ " كقوله: " إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ " .
وليس ذلك بعزيز, ولا ممتنع على الله, فإنه تعالى يعلم المستقدمين من الخلق والمستأخرين منهم, ويعلم ما تنقص الأرض منهم, وما تفرق من أجزائهم.
وهو الذي, قدرته لا يعجزها معجز, فيعيد عباده خلقا جديدا, ويحشرهم إليه.
" إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ " يضع الأشياء مواضعها, وينزلها منازلها, ويجازي كل عامل بعمله, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر.

" ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون "(26)

يذكر تعالى نعمته وإحسانه على أبينا آدم عليه السلام, وما جرى من عدوه إبليس, وفي ضمن ذلك, التحذير لنا من شره وفتنته, فقال تعالى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ " أي آدم عليه السلام " مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ " أي: من طين قد يبس, بعد ما خمر حتى صار له صلصلة وصوت, كصوت الفخار.
والحمأ المسنون, الطين المتغير لونه وريحه, من طول مكثه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 281.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 275.72 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (2.15%)]