القيم الأخلاقية في شعر مسكين الدارمي

[ابوالوليد المسلم]

القيم الأخلاقية في شعر مسكين الدارمي


د. أورنك زيب الأعظمي



مدخل:
كان العرب مولعين بالأمثال والأقوال الحكيمة، التي فعلًا هي نتائج لتجارِب بشرية طويلة، وقد اشتهر في هذا المجال عديدٌ من الشعراء والخطباء، من مثل زهير بن أبي سُلمى وعبيد بن الأبرص ولبيد بن أبي ربيعة وقس بن ساعدة وأكثم بن صيفي وعلي بن أبي طالب، وقد كان الملوك والأمراء يَدْعون أكثم بن صيفي للاستماع إليه، والتمتع بأقواله الحكيمة وأمثاله السائرة، وهي كلها - أو جلُّها - محتوية على الأخلاق الحسنة والمحامد المعروفة بين العرب.

ومِن بين هؤلاء الشعراء الحكماء شاعرنا الدَّارمي ربيعة بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن زيد، الذي علا كعبه في هذا المجال، حتى اعتبره مؤرخو الأدب "شاعرًا شريفًا"[1]، و"حُلْو العبارة"[2]، و"عمادًا في الشواهد"[3]، و"شاعرًا يخشاه الفرزدق"[4]، كما قالوا في شعره: "بعيد عن الحُوشيِّ"[5]، و"أحسن ما قيل في الغَيرة"[6]، و"استأثرت الحكمة بجملة صالحة من شعره"[7]، فكأن الدَّارمي يبلغ ما بلغه زهير من حكمة شعره، إلا أن الأول يمتاز عن الثاني رقة وليانًا؛ وذلك لكثرة ترحاله إلى حواضر الحضارة العربية.

وفيما يلي لمحة خاطفة عن سيرته وشعره، ودراسة وجيزة لما يوجد في شعره من القِيَم الأخلاقية:
وتنقسم هذه المقالة إلى ستة مباحث تالية:
المبحث الأول: موجز عن سيرة مسكين الدَّارمي وشعره.
والمبحث الثاني: القِيَم الأخلاقية التي ورثها عن آبائه.
والمبحث الثالث: القِيَم الأخلاقية التي اتصف بها الشاعر.
والمبحث الرابع: النصائح والمواعظ.
والمبحث الخامس: أضداد القِيَم الأخلاقية.
المبحث السادس: الملخَّص.

المبحث الأول: موجز عن سيرة مسكين الدَّارمي وشعره
كان مسكين الدَّارمي من أهل العراق، وأحد سادات بني دارم، وبنو دارم هذه من بني حنظلة بن تميم من العدنانية، التي برز فيها شعراء مجيدون، منهم: الفرزدق والبعيث والقُباع والأشهب وابن الغريرة وكثير بن عبدالله وذو الخرق ابن شريح، وآخرون غيرهم.

والمسكين - بكسر الميم وفتحها -: لقب تلقَّب به الدَّارمي ببيت قاله، كما يلي:
أنا مسكين لمَن أنكرني ♦♦♦ ولِمَنْ يعرفني جدٌّ نَطِق[8]

لم نعثر على مولد الشاعر، إلا أنه يرجح أنه ولد في العصر الراشدي، وتوفي سنة 89 للهجرة، المصادفة للسنة 708 من الميلاد، لم يُعقِبِ الدَّارمي إلا ولدًا يسمَّى: "عقبة" أو عتبة".
كانت له صلات وثيقة مع معاوية وابنه يزيدَ؛ فكان يفِدُ بين الفينة والفينة إلى دمشق مادحًا خلفاءها، ونجد في شعره مقطعات عنهما، إلا أن الكثير منها ذهب به الدهرُ.
وكذلك كانت له صلاتٌ ودية مع شعراء عصره، فلم يخُضْ في هجاء معاصريه من الشعراء إلا قليلًا نادرًا، ومع هذا فكان الشعراء يخافونه، فيروى أن الفرزدقَ كان يجتنب هَجْوَه.
كان شِعر الدَّارمي حُلْوَ العبارة متينها، مشرق الديباجة، بعيدًا عن الحُوشيِّ من الكلم، تكسوه رقة ولِيَان، وتوجد في شعره كافة أغراض الشعر المعروفة في عصره؛ ففيه الفخر والحماسة، وفيه الوصف والمنافرة، وفيه الهجاء والرثاء، ولكن الجزء الكبير منه قد استأثرت به الحكمةُ والأمثال.
وقد حفل أهل اللغة والمفسِّرون بشعره؛ فاعتمدوه حُجة في الفصاحة والشواهد اللغوية.
وهذه المقالة إطلالة خاطفة على القِيَم الأخلاقية التي ذكرها في شعره خلال حديثه عن العرب عامتهم وخاصتهم.

المبحث الثاني: القِيَم الأخلاقية التي ورثها عن آبائه
في حين بيانه للقيم الأخلاقية يروي لنا الشاعر من القِيَم الأخلاقية ما ورثها عن آبائه؛ فهو يفتخر بها ويعتزُّ، وتأتي في غضونها القِيَم الأخلاقية التي كانت شائعة في المجتمع العربي، أو التي كانت من ميزات العرب العرباء؛ فمِن أمثال هذه القِيَم العليا ما يلي:
1- الجُود: الجود والسخاء من خصائص العرب العرباء، فيقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى حين يمدح هرم بن سنان على سخائه:
فلو لم يكن في كفِّه غيرُ نفسِه♦♦♦ لجاد بها، فليتَّقِ اللهَ سائلُهْ[9]

ويقول سوداء اليربوعي يحكي قصة زوجته مي التي كانت تمنعه عن الجود والإنفاق:
ألا بكَّرَتْ ميٌّ عليَّ تلومُني
تقول: ألا أهلكتَ مَن أنت عائِلُهْ

ذَرِيني، فإن البُخلَ لا يُخْلِدُ الفتى
ولا يُهلِك المعروفُ مَن هو فاعِلُهْ[10]



ويقول مسكين وهو يشير إلى سخائه في حال العُسر وقلة المال:
ولستُ إذا ما سرَّني الدهر ضاحكًا
ولا خاشعًا ما عشتُ مِن حادث الدهر

ولا جاعلًا عِرضي لمالي وقايةً
ولكن أقي عِرضي فيُحرِزه وَفْري[11]



2- القِرى: من قِيَم العرب الأخلاقية القرى؛ فهم كانوا يَقْرون في كل فترة من الفترات، إلا أن القِرى في فترة الجدب والسنين كان يُعتَبَر أحسنَ القرى وأفضله، فيقول حاتم الطائي الذي يُضرَبُ به المَثَل في هذا الأمر:
إذا ما صنعتِ الزادَ فالتمِسي له
أكيلًا فإني لستُ آكلُه وحدي

أخًا طارقًا أو جارَ بيتٍ فإنني
أخاف مذمَّاتِ الأحاديث مِن بعدي[12]

وإنِّي لعبدُ الضيفِ ما دام ثاويًا
وما فيَّ إلا تلك مِن شيمةِ العبدِ[13]




يتبع

[ابوالوليد المسلم]

ويتبعهم شاعرُنا فيذبح لضيفه ناقته السريعة ولا يبالي، فيقول:
ذَرِيني أمَّ مسكينٍ ذَرِيني
فإن الحقَّ يُودِي بالبعيرِ

وناجيةً نحَرْتُ لشرْبِ صِدْقٍ
ولم أعبَأْ بتصريفِ الأمورِ

كأن جبينَها كَرْكِيُّ ماءٍ
قليلِ الرِّيش مقتولٍ كسيرِ

ولا واللهِ ربِّكِ ما أبالي
لِمَن كان العشيرُ مِن الجَزُورِ

إذا كان القُتارُ أحبَّ ريحًا
إلى الفتياتِ مِن ريحِ العبيرِ[14]



وليس هذا فحسب، بل إنه يعتبر الضيف عضوًا من أسرته، بل شقيقًا من أشقائه، فيعطيه نصف ما يمتلكه، بل ولا يلهيه جمالُ زوجته فيسهر معه حتى ينام، فيقول:
وإنيَ والأضيافَ في بردة معًا
إذا مات نصفُ الشمسِ والنصف ينزعُ

طعامي طعامُ الضيف والرَّحْلُ رَحْلُه
ولم يُلْهني عنه غزالٌ مقنَّعُ

أحدِّثُه إن الحديثَ مِن القِرى
وتعرفُ نفسي أنه سوف يَهْجعُ[15]



وبجانب هذا فهو يرى أن القِرى لا يكفي كرامة، بل لا بد له مِن إبداء وجه مهلَّل كالكريم، فهو يقول:
أُضاحكُ ضَيْفي قبل إنزال رَحْله
ويخصب عندي والمحلُّ جَديبُ

وما الخصبُ للأضياف أن يكثُرَ القِرى
ولكنما وجهُ الكريمِ خصيبُ[16]

يتبع

[ابوالوليد المسلم]

القيم الأخلاقية في شعر مسكين الدارمي


د. أورنك زيب الأعظمي



ويقول - وهذا أوضح من ذلك -:

إذا متُّ فانعَيْني لأضيافِ شقةٍ
رمى بهمُ داجٍ بهيمُ الغياطلِ

يشبُّ لهم ناري فيُعرَف ضوءُها
ويحتل بيتي بالفضاء المقابل

ولستُ بوقَّافٍ إذا الخيلُ أسرعَتْ
ولستُ بعبَّاسٍ إلى الضيف باسلِ

ولكنه يلقاه منِّي تحيَّةً
ويأتيه قبلَ العُذْرِ بَذْلي ونائلي

ويلقاهمُ وَجْهي طليقًا وعاجلًا
قِراي ومِن خير القِرى كلُّ عاجلِ[17]




3- الشجاعة: الشجاعة قِيمة خُلقية لم يخلُ أيُّ عربي عنها، فكانوا مفتخرين بهذه الصفة، حتى إنهم كانوا يُعْلون ذكر وقوة الخصوم لبيان أنهم أعلى منهم، وللإشارة إلى أنهم قد صرعوا مَن كان قويًّا لا ضعيفًا، فيقول مفتخرًا بشجاعة قبيلته:
وإنَّا أناسٌ يَملأ البيضَ هامُنا
ونحن حواريُّون حين نزاحِفُ

جماجمُنا يومَ اللقاءِ برأسِنا
إلى الموتِ نمشي ليس فيها تجانُفُ[18]



والبيت الأخير نموذج جميلٌ للشعر الحماسي، ولنقرأ فيما يلي بعضَ أبياته من قصيدة أخرى في هذا الأمر، فيقول الدَّارمي:
وكم مِن كريم بوَّأَتْه رماحُه
فتاةَ أناسٍ لا يسُوقُ لها مَهْرَا

وما أنكَحونا طائعينَ بناتِهم
ولكن نكَحْناها بأرماحِنا قَسْرَا

وكائِنْ ترى فينا مِن ابنِ سبيئةٍ
إذا لقِيَ الأبطالَ يطعُنُهم شَزْرَا[19]



إلا أن هذه القصيدةَ تدلُّ على أن الشاعر لا يحبُّ الحرب، ويخوض فيها حين لا يجد بدًّا منها، فيقول:
إذا لم تجِدْ بدًّا من الأمر فأْتِه ♦♦♦ رحيبَ الذِّراعِ لا تضيقَنْ به صَدْرَا[20]
والأمر هنا إشارة إلى الحرب.

4- الغَيْرة: مما أشار إليه الشاعر من العادات: الغَيرة؛ فإنه حثَّ الإنسان أن يكون غَيُورًا في كل أمر وشأن، ولا يصغر لأحد، فيقول مفتخرًا بنفسه:
أعِفُّ لدى عُسْري وأبدي تجمُّلًا
ولا خيرَ فيمن لا يعِفُّ لدى العُسْرِ

وإني لأستحيي إذا كنتُ مُعسِرًا
صديقي، وإخواني بأن يعلَموا فَقْري

وأقطَعُ إخواني وما حالُ عهدِهم

[ابوالوليد المسلم]

حياءً وإعراضًا، وما بيَ مِن كِبْرِ

فإن يكُ عارًا ما أتيتُ فربَّما
أتى المرءَ يومُ السُّوءِ مِن حيث لا يدري[21]


ويقول بأسلوب آخرَ مشيرًا إلى قيمة خُلقية أخرى له:
ولستُ بولَّاجِ البيوت لفاقةٍ
ولكن إذا استغنيتُ عنها ولجْتُها

أبيتُ عن الإدلاجِ في الحيِّ نائمًا
وأرض بإدلاجٍ وهمٍّ قطعْتُها[22]



5- المجد: المجدُ كلمةٌ جامعة لمعظم المحامد والمحاسن، فكان العربُ يفتخرون بهذا الجانب، وكانوا يُوصُون أولادهم بهذا، فيقول زهير بن أبي سلمى وهو يمدح هرم بن سنان:
إذا ابتدرَتْ قيسُ بنُ غيلانَ غايةً
مِن المجدِ مَن يسبِقْ إليها يُسَوَّدِ

سبقتَ إليها كلَّ طلْقٍ مُبَرَّزٍ
سبوقٍ إلى الغايات غيرِ مُجَلَّدِ[23]



ويقول شاعرنا ويعدِّدُ ما ورثه آباؤه من أنواع المجد، وليس هذا فحسب، بل قد قام الشاعر باتباع آبائه وتقدَّمهم في هذا المجال:
ألا أيُّها الجاري سنيحًا وبارحًا
يعرِّضُ نفسًا لو أشاء قتلتُها

تعارضُ فخرَ الفاخرين بعُصبةٍ
ولو وُضعَتْ لي في إناءٍ أكلتُها

وإنَّ لنا رِبعيَّةَ المجدِ كلَّها
موارثُ آباءٍ كرامٍ ورثتُها

إذا فقرَتْ أيدي الرجالِ عن العلى
مددتُ يدي باعًا عليهم فنِلتُها

وداعٍ دعاني للعلى فأجبتُه
ودعوةِ داعٍ في الصَّديقِ خذَلتُها

ومكرمةٍ كانت رعايةَ والدي
فعلَّمنيها والدي ففعلتُها

[ابوالوليد المسلم]

فعلَّمنيها والدي ففعلتُها

وعوراء مِن قبلِ امرئٍ ذي قرابةٍ
تصامَمْتُ عنها بعدما قد سمعتُها

رجاة غدٍ أنْ يعطف الرَّحْمُ بيننا
ومَظلِمةٍ منه بجنبي عرَكْتُها

إذا ما أمورُ الناس رثَّتْ وضُيِّعَتْ
وجدتُ أموري كلَّها قد رميتُها

وإني سألقى اللهَ لم أرم حرَّةً
ولم تتمَنَّ يومَ سرٍّ فخُنتُها

ولا قاذفٌ نفسي ونفسي بريئةٌ
وكيف اعتذاري بعدما قد قذفتُها[24]

فبدا من هذا أن المجد يحتوي العلى والمكرمة والصفح وصلة الرحم والإبرام وعدم قذف الصالحات، وحفظ الأسرار، وهذه كلها محاسنُ ومحامد ورثها الشاعر عن آبائه.

المبحث الثالث: القِيَم الأخلاقية التي اتصف بها الشاعر
1- الحياء: الحياء قيمة خُلقية جليلة، ولهذا فقد اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم جزءًا من الإيمان[25] الذي يُدخلُ الجنة، كما اعتبره مانعًا لكل فعل بغيض، فقال: ((إذا لم تستحيِ فاصنَعْ ما شئتَ))[26]، وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان "أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرها"[27].

فيذكر الشاعر خصائصه، ومنها أنه لا يطَّلِع على عَوْرات الناس، ويجتنب النظر إلى جارته فيقول:
ما ضرَّ جاري إذ أجاوره
ألا يكون لبيته سترُ

أعمى إذا ما جارتي خرجَتْ
حتى يواريَ جارتي الخِدرُ

ويصمُّ عما كان بينهما
سمعي، وما بي غيره وقرُ[28]



وإلى هذا أشار عنترةُ العَبسي:
وأغضُّ طرفي حين أنظر جارتي ♦♦♦ حتى يواريَ جارتي مأواها[29]
إلا أن مسكينًا الدَّارمي قد أضاف إليه معنى آخر، وهو أنه بجانب الإعراض عن النظر إلى جارته لا يسمع لِما يقع بين الزوجين من الهمسات والأحاديث السرية.

إن الدَّارمي يعتبر الحياء مرادفًا للغَيرة، فيقول:
وإني لأستحيي إذا كنتُ معسرًا
صديقي وإخواني بأن يعلَموا فقري

وأقطَعُ إخواني وما حال عهدِهم
حياءً وإعراضًا وما بيَ مِن كِبْرِ[30]



ويقول مفتخرًا بصفة الحياء:
وإني امرؤٌ مني الحياءُ الذي ترى♦♦♦أعيشُ بأخلاق قليل خداعُها[31]
يتبع

[ابوالوليد المسلم]

القيم الأخلاقية في شعر مسكين الدارمي


د. أورنك زيب الأعظمي



2- مصاحبة الأخيار: العرب دائمًا كانوا يوصون أولادهم بالقِيَم الأخلاقية العليا، فيوصي، مثلًا، شاعر جاهلي ولدَه بما يلي:

أأسيد، إنْ مالًا ملَكْ
تَ فسِرْ به سيرًا جميلَا

أأسيد، إن أزمعتَ مِن
بلد إلى بلد رحيلَا

آخِ الكرامَ إن استطع
تَ إلى إخائهمُ سبيلَا

واشرَبْ بكأسهمُ وإن
شربوا به السم الثميلَا

إنَّ الكرام إذا تؤا
خيهم وجدتَ لهمْ قَبولَا

أهِنِ اللئامَ، ولا تكنْ
لإخائهم جمَلًا ذلولَا

أبنيَّ، إنَّ المال لا
يبكي إذا فَقَدَ البخيلَا

وابسُطْ يمينَك بالندى
وامددْ لها باعًا طويلَا

وابسُط يديك بما ملكْ
تَ، وشيِّد الحسَبَ الأصيلَا

وابذُلْ لضيفِك ذاتَ رح
لِك مكرمًا حتى يزولَا

وانزِلْ إلى الهيجا إذا
أبطالُها كرهوا النزولَا

وإذا دُعِيتَ إلى المُهمْ
مِ فكنْ لفادحه حَمولَا[32]


فانظر كيف أوصى ولده بأن يؤاخي الكرام ويتصف بالقِيَم الأخلاقية العالية المعروفة في المجتمع العربي.

[ابوالوليد المسلم]

ومسكين أيضًا يشير على الإنسان أن يصاحب الأخيار، فينصح له في غضون الحديث عن الفخر بنفسه:
أنا مسكين لمَن يعرفني
لوني السمرةُ ألوانُ العرَبْ

مَن رأى ظبيًا عليه لؤلؤٌ
واضحَ الخدين مقرونًا بضب

أكسبَتْه الوُرْق البِيض أبًا
ولقد كان وما يُدْعَى لأبْ

اصحبِ الأخيار وارغَبْ فيهم
رُبَّ مَن صُحبتُه مثلُ الجرَبْ[33]



وليس هذا فحسب، بل هو يدلُّ المخاطب على خير من يمكن أن يصاحبه، فيقول:
تعلَّم بأنَّ الأصدقاءَ ثلاثة
وما كلُّ مَن آخيتَه بصديقِ

وأصفاهم ودًّا أخو الطبع منهم
وأثبتهم في وَحدةٍ وفريقِ

فذلك موثوق به في أمورِه
وفي كل ما حالٍ أعزُّ وثيقِ

وأكذبُهم ودًّا أخو الكأس إنه
صديقُ صبوحٍ دائم وغبوقِ

وبينهما المضطرُّ يلتمس التي
جميعُهم فيها بكل طريقِ

فذاك تدانيه فتدنيه مرَّة
وتجفوه أخرى منك فعل رفيقِ

تكافيه في الحالات ما كان يرتجي
وتحذَرُ منه القربَ عند مضيقِ

وكلُّهمُ في طبعِه يحذَر التي
تضرُّ ويرجو النَّفعَ كل شروقِ[34]


وعلاوة على هذا، يمنع الشاعرُ المخاطبَ أن يتخذ الرجلَ الأحمق صديقًا، وسنذكر مضارَّ هذه الصداقة في باب النصائح.

[ابوالوليد المسلم]

3- حفظ الأسرار: من القِيَم الأخلاقية التي أشاد بها القرآن بالنسبة للنسوة: حفظ الغيب، والغيب هنا يعني السرَّ، فقال الله تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34].

والدَّارمي يفتخر بنفسه أنه جامع لأسرار الناس، ولا يمكن أن يبوح بها لأحد، والناس يأتونه لكي يذكروا له أسرارهم، وهو لا يحفظها فقط، بل لا يدعها تختلط ببعضها البعض فيقول:
أواخي رجالًا لستُ مطلعَ بعضِهم
على سرِّ بعضٍ غيرَ أني جماعُها

يظلُّون شتى في البلاد وسرُّهم
إلى صخرةٍ أعيا الرجالَ انصداعُها

لكل امرئٍ شِعبٌ مِن القلب فارغ
وموضعُ نجوَى لا يرام اطِّلاعُها[35]


فالبيتان الأخيران يدلان على أن الناسَ يحاولون أن يفوح لهم بأسرار البعض، إلا أنه لا يذكرها لهم، كما أن هذه الأسرارَ لا يختلط بعضها ببعض.

وليس هذا فقط، بل الدَّارمي لا يطوف في الناس ليطلع على عَوْراتهم، ويخاف الله أن يلقاه فيسأله عن هذه السيئات، يقول:
ومكرمة كانت رعايةَ والدي
فعلَّمنيها والدي ففعلتُها

وعوراء مِن قبل امرئٍ ذي قرابة
تصاممتُ عنها بعدما قد سمعتُها

وإني سألقى اللهَ لم أرم حرَّةً
ولم تتمنَّ يومَ سرٍّ فخنتُها[36]



4- الصِّدق: القِيَمة الخلقية الأولى التي نجد ذكرها في شعر مسكين الدَّارمي هي الصدق، وقد جاء في الأثر: "الصدق يُنجي، والكذب يُهلك"[37]؛ فالشاعرُ يحُثُّ الإنسان على أن يصدقَ في القول، ويمنعه أن يكذب في الحديث فيقول:
واصدُقِ الناسَ إذا حدَّثتَهم ♦♦♦ ودعِ الكذبَ لمن شاء كذَبْ[38]

ويعتبر الصدق أفضلَ من الفخر والنسب فيقول:
الصدقُ أفضلُ شيءٍ أنت فاعِلُه ♦♦♦ لا شيءَ كالصدقِ لا فخرٌ ولا نسَبُ[39]

وعلى هذا فيعتبره ضدًّا للكرامة فيقول:
إنَّ الكريمَ إذا ما كان ذا كذِبٍ ♦♦♦ شأن التكرُّم منه ذلك الكذِب[40]

وعلى هذا فيعتبر الصدق أفضلَ شيء للجمع والقنية فيقول:
ثلاثة أملاكٍ ربُّوا في حجورنا ♦♦♦ فهل قائلٌ حقًّا كما هو كاذبُ

♦♦♦♦
أصدقُ القومِ إذا لاقيتَهم ♦♦♦ تخلُصُ الفضةُ منهم والذهبْ[41]

5- الحِلْم: العرب كتبوا أبياتًا عديدة عن الحِلم وصفته وفضيلته، حتى قالوا: إن الحِلْمَ لازم للسيادة، فلديهم مثل سائر: "احلُمْ تسُدْ"، ويقول مرار بن سعيد:
إذا شئتَ يومًا أن تسُودَ عشيرةً ♦♦♦ فبالحِلْمِ سُدْ لا بالتسرُّعِ والشَّتْمِ[42]

وقال زهير بن أبي سلمى بعدما ذكر العديد من القِيَم الأخلاقية العليا:
وإن سفاهَ الشيخِ لا حِلمَ بعده ♦♦♦ وإن الفتى بعد السفاهةِ يحلُمُ[43]
يتبع

[ابوالوليد المسلم]

القيم الأخلاقية في شعر مسكين الدارمي


د. أورنك زيب الأعظمي







وإن سفاهَ الشيخِ لا حِلمَ بعده ♦♦♦ وإن الفتى بعد السفاهةِ يحلُمُ[43]



فكأن الحِلمَ جامع القِيَم الأخلاقية المذكورة أعلاه في قصيدة زهير المعلقة.








ولكن الدَّارمي أشار إلى نكتة مهمَّة، وهي: أن الحِلْم يجمع هذه القِيَم الأخلاقية، إلا أنه لا يمتحن سوى عن طريق الغضب، فكأن الغضب مقياس عادل لاختباره، هل المرء حليم أو غيره؟ فقال:



ليستِ الأحلامُ في حال الرضا ♦♦♦ إنما الأحلامُ في حال الغضَبْ[44]







ونفس الشيء ذكره شاعر متأخر فقال:



مَن يدَّعِ الحِلْم أغضِبْه لتعرِفَه ♦♦♦ لا يُعرَف الحِلمُ إلا ساعةَ الغضبِ[45]











المبحث الرابع: النصائح والمواعظ



ولقد دلَّ مسكين الدَّارمي على القِيَم الأخلاقية عن طريق النصائح؛ فتارة أمر الإنسان أن يختار شيئًا، وأخرى منعه أن يتخذ آخر، وهذا باب كبير، فنشير إلى بعض القِيَم منها، فيقول الشاعر وهو ينصح المخاطب أن يعتني بأخيه وابن عمه فإن الرحم لا محالة تفيد وتعين:





أخاك أخاك إنَّ مَن لا أخا له

كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح




وإنَّ ابنَ عمِّ المرء، فاعلَمْ، جناحُه

وهل ينهض البازِي بغيرِ جَناح[46]












وكذا ينصح المرء ألا يمدح أحدًا إلا بعد أن يقوم بامتحانه فيقول:





ولا تحمَدِ المرءَ قبل البلاءِ

ولا يسبِقِ السيلَ منك المطَرْ




وإني لأعرِفُ سيما الرجالِ

كما يعرِفُ القائفون الأثَرْ




ولو شِئتُ أبديت نَمْيَهُمُ

وأدخلتُ تحت الثيابِ الإبَرْ[47]












ويمنع عن اتخاذ الرجل الأحمق صديقًا:





اتقِ الأحمَقَ أن تصحَبَه

إنما الأحمق كالثوبِ الخَلَقْ




كلما رقَّعت منه جانبًا

حرَّكتْه الريح وَهْنًا فانخرَقْ




أو كصدع في زجاجٍ فاحشٍ

هل ترى صدعَ زجاجٍ متفقْ




وإذا جالسْتَه في مجلس

أفسد المجلسَ منه بالخرَقْ




وإذا نهنهته كي يرعوي

زاد جهلًا وتمادى في الحمَقْ




وإذا الفاحش لاقى فاحشًا

فهناكمْ وافَق الشنُّ الطَّبقْ[48]

[ابوالوليد المسلم]

المبحث الخامس: أضداد القِيَم الأخلاقية



كما دلَّ مسكين الدَّارمي على القِيَم الأخلاقية فكذلك أشار إلى ما يضاد هذه القِيَم من العادات والتقاليد، ومن هذه الأضداد: الكذب والخداع والخيانة، وغيرها، فيقول، مثلًا، عن الخداع:





وإني امرؤٌ مني الحياءُ الذي ترى

أعيش بأخلاقٍ قليل خداعُها




أواخي رجالًا لستُ أُطلِع بعضَهم

على سرِّ بعضٍ غيرَ أني جِماعُها




يظلون شتَّى في البلاد وسرُّهم

إلى صخرةٍ أعيا الرجالَ انصداعُها




لكل امرئٍ شِعبٌ مِن القلب فارغٌ

وموضعُ نَجْوَى لا يُرامُ اطِّلاعُها[49]












ويقول عن الكذب:



إنَّ الكريمَ إذا ما كان ذا كذِبٍ ♦♦♦ شأن التكرم منه ذلك الكذب[50]







ويحذِّر عن خيانة الأشرار:



ولا تأمَنِ الخلَّان إلا أقلَّهم ♦♦♦ عليك إذا كانت صداقتُهم مَكرَا[51]







ويُشير إلى الفحش:





إنما الفُحْش ومَن يعتاده

كغرابِ السوءِ ما شاء نعَقْ




أو حمارِ السوءِ إن أشبعتَه

رمَح الناس وإن جاع نهَقْ




وغلامِ السوء إن جوَّعتَه

سرق الجارَ وإن يشبع فسَقْ




أو كغيرَى رفَّعت مِن ذيلها

ثم أرخته ضراطًا فانمزَقْ[52]












المبحث السادس: الملخَّص



بدا مما كتبنا أعلاه أن مسكينًا الدَّارمي من شعراء العرب الحكماء؛ كأمثال زهير بن أبي سلمى وعبيد بن الأبرص وأبي الطيب المتنبي، وأن شعره مليء بالقِيَم الأخلاقية؛ كالجود والقِرى، والشجاعة والمجد، وكالحياء وصحبة الأخيار، وكالصدق والحِلم وحفظ الأسرار، وأن كلامه نموذج جميل لأخلاق المجتمع العربي العالية، وأنه بنفسه عمل على ما أشار به على الآخرين من الأخلاق العالية الحسنة، وأنه بجانب الدلالة على القِيَم الأخلاقية العليا منع الآخرين عن العادات والتقاليد السيئة التي لم يكن يقبلها المجتمع العربي آنذاك، وعلى هذا فهو صادق في أقواله التالية:





وإن لنا ربعيَّةَ المجد كلَّها

موارثُ آباءٍ كرامٍ ورثتُها




ومكرمة كانت رعايةَ والدي

فعلَّمَنيها والدي ففعلتُها[53]












فهذه القِيَم الأخلاقية ميزات العرب التي ورثها آباؤه فورَّثوه إياها، وهو يوصي بها الجيل القادم، وهذه سلسلة ذهبية تتحلَّى بها البشرية جمعاء، ولنُنْهِ هذه المقالة بقوله التالي:



وإني امرؤٌ مني الحياءُ الذي ترى ♦♦♦ أعيشُ بأخلاقٍ قليلٍ خداعُها[54]











المصادر والمراجع



1- القرآن الكريم.



2- أبو الفرج، الأصبهاني: الأغاني، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الخامسة، 1401ھ.



3- أحمد زكي، صفوت: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، المكتبة العربية، بيروت، اسم المطبع وسنة الطبع لم يذكرا.



4- التبريزي، العلامة: شرح القصائد العشر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1985م.



5- التبريزي، العلامة: شرح ديوان الحماسة، دار القلم، بيروت، لم يذكر اسم المطبع وسنة الطبع.



6- ديوان حاتم الطائي (تحقيق: عادل سليمان جمال)، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الثانية.



7- ديوان دريد بن الصمة (جمع وتحقيق: محمد خير البقاعي)، دار قتيبة، دمشق، 1401ھ.



8- ديوان زهير بن أبي سلمى (ترتيب وشرح: كرم البستاني)، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1399هـ/1979م.



9- ديوان عنترة (تحقيق: محمد سعيد مولوي)، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403ھ.



10- ديوان لبيد بن ربيعة (رواية الطوسي)، فينا، 1297ھـ.



11- ديوان مسكين الدَّارمي (جمعه وحققه: عبدالله الجبوري وخليل إبراهيم العطية)، بغداد، 1970م.



12- السكري: شرح أشعار الهُذَليين (تحقيق: عبدالستار مزاج)، دار العروبة، القاهرة، 1384ھ.



13- الشريف المرتضى، أمالي المرتضى (تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم)، القاهرة، 1954م.



14- صحيح البخاري.



15- صحيح مسلم.



16- عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1984م.



17- محمد بن عبدالوهاب: مسائل الجاهلية، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1396ھ.



18- محمد طلعت حرب: تاريخ دول العرب والإسلام، مكتبة الإصلاح، الطبعة الأولى، 1989م.



19- محمد فؤاد عبدالباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1992م.



20- الموقع: منتديات نهر الحب.



21- ناصر الدين، الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، دار الجيل، بيروت، الطبعة السابعة، 1988م.







[1] الأغاني: 18 /68.




[2] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 16.




[3] المصدر نفسه.




[4] المصدر نفسه.




[5] المصدر نفسه.




[6] أمالي المرتضى، 1 /475.




[7] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 16 - 17.




[8] المصدر نفسه، ص 56.




[9] ديوان زهير بن أبي سلمى، ص 72.




[10] حماسة أبي تمام، 2/342.




[11] ديوان زهير بن أبي سلمى، ص 41.




[12] ديوان حاتم الطائي، ص 62.




[13] حماسة أبي تمام، 2 /342.




[14] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 35 - 36.




[15] المصدر نفسه، ص 51 - 52.




[16] المصدر نفسه، ص 24.




[17] المصدر نفسه، ص 58 - 59.




[18] المصدر نفسه، ص 54.




[19] المصدر نفسه، ص 46.




[20] المصدر نفسه، ص 47.




[21] المصدر نفسه، ص 41 - 42.




[22] المصدر نفسه، ص 26.




[23] ديوان زهير بن أبي سلمى، ص 23.




[24] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 25 - 26.




[25] صحيح مسلم: 35.




[26] صحيح البخاري: 6120.




[27] المصدر نفسه: 6119.




[28] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 45.




[29] تاريخ دول العرب والإسلام، 1/46.




[30] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 41 - 42.




[31] المصدر نفسه، ص 52.




[32] الأغاني، 3/95.




[33] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 22.




[34] المصدر نفسه، ص 55.




[35] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 52.




[36] المصدر نفسه، ص 25 - 26.




[37] جامع الأحاديث: 12049.




[38] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 22.




[39] المصدر نفسه.




[40] المصدر نفسه.




[41] المصدر نفسه، ص 25.




[42] شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، 1 /343.




[43] ديوان زهير بن أبي سلمى، ص 89.




[44] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 22.




[45] منتديات نهر الحب، بتاريخ 30 /5 /2014م.




[46] ديوان مسكين الدَّارمي، ص 29.




[47] المصدر نفسه، ص 38.




[48] المصدر نفسه، ص 55 - 56.




[49] المصدر نفسه، ص 52.




[50] المصدر نفسه، ص 22.




[51] المصدر نفسه، ص 47.




[52] المصدر نفسه، ص 56.




[53] المصدر نفسه، ص 26 - 27.




[54] المصدر نفسه، ص 52.