في الأدب الإسلامي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         خذوا ما آتيناكم بقوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          لا تشغلنكم مصيبة عن دينكم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الله يصنع لدينه.. فلا تحزنوا ولا تبتئسوا ولا تتباءسوا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 68 - عددالزوار : 822 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 850185 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386318 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05-07-2020, 05:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,542
الدولة : Egypt
افتراضي في الأدب الإسلامي

في الأدب الإسلامي
عباس توفيق


لعبارة الأدب الإسلامي معنيان اثنان يتبادران إلى الذهن هما:
1-الأدب الذي بدأ ظهوره منذ البعثة النبوية الشريفة والذي استقام عوده في ظل الدولة والحضارة الإسلاميين بغض النظر عن كون هذا الأدب معبراً في محتواه عن آفاق العقيدة الإسلامية أو مشتملاً على بعض المعاني والقيم التي أفرزتها حركة الحياة الجديدة أو مدللاً على الالتزام بالأعراف المعنوية التي سادت في العصر الجاهلي وأقرّها الإسلام.
ومن شأن هذا المعنى أن يقيّد اصطلاح الأدب الإسلامي في قالبٍ زمني يتسع لحقَبٍ زمنية متعاقبة ومديدة، ولكن مغزاه آل إلى الانحسار بمرور بعض الوقت وصار يختص بالمرحلة الأولى من تاريخ الدولة الإسلامية التي تنتهي بانتهاء الخلافة الراشدة.
وشاعت في كتابات الكاتبين تسميات زمنية أخرى حلت محل الأدب الإسلامي على عصور سياسية لاحقة من قبيل الأدب الأموي والأدب العباسي وغيرهما.
وإن اعتماد الدلالة الزمنية لتمييز الأدب الإسلامي جعل كل إنتاج أدبي يرتقي إلى الحقبة التاريخية الإسلامية الأولى "أدباً إسلامياً" من غير التفات إلى عقيدة المنشئ أو درجتها من جهة، ومن غير عناية كافية بمدى انعكاس الرؤية الإسلامية في محتوى النص من جهة أخرى، وإن استقراء ما تم إنتاجه في العصور الإسلامية المختلفة سيبين أن قسطاً كبيراً منه ظل محتفظاً بالتقاليد المعنوية والتعبيرية التي أرساها الشعراء والأدباء السابقون، والجاهليون منهم خاصة، فلم يكن في مقدور تلك النتاجات التي توصف بالإسلامية تبعاً لزمن ظهورها أن تشي بالفهم الإسلامي للأدب إن لم تكن مسهمة في ترك انطباع غير دقيق عن الإسلام ومثله.
إن ما كتب في العصور الإسلامية المختلفة لا يصبح كله بالضرورة مادة لاستنباط الخصائص المميزة للأدب الإسلامي أو تحديد الركائز التي يقوم عليها، أو يستهدي بها، هذا الأدب في أزمنة أخرى.
ولعل قائلاً يقول: إن النتاجات الأدبية المتقاطعة مع القيم الإسلامية كالقصائد التي تتغنى بالخمرة الحقيقية، أو الغزلية المتهتكة المكشوفة، أو الهجائية التي لا تخدم هدفا إسلامياً، وغيرها، تبقى دائرة في فلك الأدب الإسلامي طالما أنها أنتجت في ظل الحضارة الإسلامية الخاضعة لسنن الحضارات الأخرى في عدم خلوّها من الخطأ والزيغ والانحراف.
وقد يُقبل مثل هذا الرأي ممن ينظر إلى الأدب الإسلامي من زاوية زمنية أو ممن يتعامل معه على أنه لعبة لغوية لا رسالة عقدية، ويسعى مثل هذا الناظر في هذه الحال إلى إيجاد تأويل أو تسويغ لأي نتاج أدبي يشذ عن روح الشخصية الإسلامية، وربما يكون غريباً أن يبدي أصحاب الرؤية الإسلامية رأيا كهذا([1])؛ لأن هؤلاء يدركون أكثر من سواهم خطورة الكلمة في الحياة العقائدية، ولئن كان رأيهم مبنياً على اعتبار هذا الضرب من التعبير مظهراً مرضياً يبغون تشخيصه وعلاجه لكان له وجه من القبول، ولكن الغرابة كامنة في وضع هذه النتاجات تحت عنوان "الأدب الإسلامي " بدعوى أنها نتاج مجتمع إسلامي يجمع أخلاطاً من الناس وأشتاتاً من الطبائع وألواناً من القول. وينجم عن مثل هذا الفهم، بلا أدنى ريب، إخلال بالقيم التي يسعى الإسلام إلى إشاعتها وترسيخها وذلك بتقديم نماذج في إطار "الأدب الإسلامي" يكون ما يستنبط منها متعاكساً مع الإسلام.
إن انتماء الإنسان إلى الإسلام يحتم عليه ألا يكون موارباً في القضية وألا يختار رأياً يرعى من خلاله أولئك الذين لم يستقر في قلوبهم الإيمان، كما يجب في الوقت عينه ألا تهوله كثرة النصوص التي لا تنسجم مع الفهم السليم للأدب الإسلامي والتي ينبغي أن توضع جانباً في دراسة التاريخ الحقيقي للأدب الإسلامي أو في السعي لإرساء معالم واضحة لنظرية أدبية إسلامية. ويبدو أن المعنى الثاني للأدب الإسلامي يحسم هذه الوجهة في الفهم والمعالجة.
ب- ويتمثل هذا المعنى الثاني بجعل عبارة الأدب الإسلامي مقتصراً على النماذج الإبداعية التي تمثلت الإسلام وتشبّعت بروحه وصدرت عنه فأصبحت بالتالي نماذج عقائدية تعكس الرؤيا الإسلامية للإنسان والكون والحياة ([2]) وما بينها من صلات وأواصر في حاضرها المحسوس وغائبها المعتقَد فيه الذي يستشرفه المسلم بقلب مؤمن مطمئن.
معيار الأدب الإسلامي:
ولكي يكون الأدب إسلامياً حقاً وبمعناه العقائدي فإن من الضرورة أن يتأسس ابتداءً على معرفة وقعِ الكلمة في ميزان الله - سبحانه وتعالى- رضاً وغضباً، وعلى إدراك دورها وأثرها في تكوين الشعور الإسلامي وبلورته عند جمهور المتلقين وإشاعته بينهم وصولاً إلى ما يترتب على هذا الشعور من خطوات البناء الإسلامي، وإن الأديب المسلم لا يغفل عن رسالته هذه في الحياة ولا عن دور الكلمة في تحقيقها، بل إنه يرى أن الكلمة في حد ذاتها تشكل مسؤولية خطيرة وكبيرة على حد سواء وعليه أن يحسب لها حساباً دقيقا، ويتأتى هذا الموقف من التنشئة الإسلامية التي ينشأ عليها والتي يحدد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة طبيعتها، فقد بين القرآن الكريم أن الإنسان مسؤول إزاء كل كلمة يلفظها وذلك في قوله - سبحانه وتعالى -: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)([3])، وفي قول النبي - عليه الصلاة والسلام -: (( إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله - تعالى-لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم))([4]) " أو في قوله - عليه الصلاة والسلام -: (( رحم الله امرءاً قال حقاً أو سكت))([5])".
ولم ترد هذه النصوص بشأن الأديب حصراً، ولكن الأديب المسلم يأخذ بها طوعاً في أدبه ومنهجاً في حياته، وتبعاً لهذا فإنه لا يصبح أسير نتاجه بل يكون قيّماً عليه ومتحكماً فيه ومصفيا إياه تصفية إيمانية محتمة، وتأتي سيطرته على كلامه من تقوية روح المراقبة في نفسه، ولئن لم ينزع المنشئ هذا المنزع فإنه لا يكون أديباً إسلامياً وإن كان يعد أديباً بدون أدنى ريب، ولعل هذا هو جوهر قوله - سبحانه وتعالى-: ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).([6]) وقد اعتاد الدارسون على استلهام هذه الآية في تحديد صنفين من الشعراء: صنفٍ تتقلبه الأهواء والأكاذيب والادعاءات ويفتقر المنتمون إليه إلى رادعٍ من إيمان يزجرهم عن الكذب ويرشدهم إلى الصواب، وصنفٍ يتّسم أفراده بالصدق والمبدئية والالتزام فيسخّرون أشعارهم، ونتاجاتهم الفنية عموماً، للدعوة إلى الإسلام ولإشاعة قيمه ومُثُله. غير أننا إذا تدبّرنا الآية الكريمة جيدا لخلصنا إلى أن إنتاج كلٍ من هذين الصنفين مخصوص بزمن، أما الصنف الأول المأسور بالكذب والادعاء فنتاجه جزء من الماضي سواء كُتِب في الماضي حقاً أم يُكتَب الآن أم سيُكتب لاحقاً. ويكرِّس الأديب المنضوي في هذا الصنف جهوده ليجعل نفسه جزءاً من الماضي بجعل رضى الناس في زمنه وإعجابهم به غايته الأساسية وهدفه الأول وبانصباب سعيه من ثم على إيجاد السبل التي تكفل له قبول أولئك الناس والتفات أعناقهم إليه؛ لأنه- بوجه عام وطالما كان بعيداً عن الانقياد للإسلام والائتمار به يبحث عن مجدٍ عاجلٍ سرعان ما يقترن، في حالة انقضاء اليوم الذي يَنتج فيه أو في حالة وفاته، بالقول: (كان) أدبه يمتاز بكذا وبكذا..! إن هؤلاء الأدباء يكتبون للحظة الآنفة فقط وإن بدا لهم أو أوهموا أنفسهم أنهم يستشرفون المستقبل الآتي وأنهم يمهّدون الطريق الموصلة إليه أمام معاصريهم والأجيال التي ستأتي بعدهم.ولهذا فإن كتاباتهم ترتهن بالأزمنة التي يَحْيَون فيها وما إن تدور العجلة ويهلّ زمن جديد حتى تبرز قيم جديدة لا يستجيب لها ما كُتب من أجل الماضي فيُركن على الرف ويُدرس على أنه نتاج زمنٍ مندثر وتكون قيمته بمقدار دلالته على زمنه ذاك.على حين أن نتاج الصنف الثاني نتاج مستقبلي، بمعنى أن الأديب المسلم الذي يذكر الله - تعالى -كثيراً ويراقبه في نفسه ولفظه سيُنتج نصاً يناسب تلك المراقبة، وأن هذا النص سيستجيب لشعور المسلم القادم من رحم الغيب وسيحتفظ بفاعليته وأثره ما بقي مسلم على وجه الأرض.
وفضلاً عن ذلك فإن المنشئ سيجد نصه في ميزان حسناته يوم القيامة: ذلك اليوم الذي يمثّل المستقبل الحقيقي الذي نتوجه إليه: ( يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا* وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا* وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ* فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا* وَيَصْلَى سَعِيرًا) ([7]) ولهذا فإن نتاج الأديب المسلم ينبع من قيم الإسلام الخالدة التي لا تختص بزمن معين، ولئن توافرت فيه شروط الاكتمال الفني فإنه سيكون نتاجاً مطلوباً ومتفاعلاً مع الإنسان المسلم مهما تعاقبت السنون. إن الأديب المسلم يدرك بوضوح تام طبيعة عمله ومغزى قوله وعاقبة لفظه، ولهذا فإنه يشعر بطمأنينة عقله وقلبه حتى وإن لم يجد التقدير اللازم المنتظر من أبناء جيله؛ لأنه ببساطة شديدة يجعل رضى الله - سبحانه -لا رضى الناس- غايته المثلى وهدفه الأساس فلا يغمه ثمة أعراض الناس ولا تكسره رماحهم.
إن الأمثلة الدالة على "أدب الماضي" و"أدب المستقبل" كثيرة، ويكفي أن يستعرض المرء ما يعرف من نتاج الأدباء ليتبين له صدق الاستدلال، ولأجل الإعانة على هذا الاستعراض يمكن لنا أن نستأنس بهجاء حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم - لكفار قريش، فقد كان الأوّلان يعيران قريشاً بالمثالب وينالان منهم حسب الوقائع والأيام، وكان ابن رواحة، - رضي الله عنه -، يعيرهم بالكفر "فكان في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وكعب وأهون القول عليهم قول ابن رواحه.. فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة" ([8]) مع أن شعر هؤلاء جميعاً في دفاعهم عن الإسلام يمثل شعراً إسلامياً دعوياً، وأنت ترى أن شعر عبد الله بن رواحة، - رضي الله عنه-، الذي كان فيما مضى لا يعني بالنسبة إلى قريش شيئاً قد صار فيما بعد، في المستقبل القريب، الشعر الموجع المؤلم محتفظا بحيويته إن لم يصبح أكثر حيوية وقوة في الزمن الجديد، وصار شعر حسان وكعب، - رضي الله عنهما-، جزءاً من الماضي، مع أنهما كانا ينافحان عن العقيدة الإسلامية استجابة لطلب النبي - عليه الصلاة والسلام -، وأنهما سيريان بإذن الله جهادهما الكلامي في ميزان حسناتهما، وما ذلك إلا لأن اختياراتهما من النبال والسهام الكلامية كانت مرهونة بأوقاتها ودائرة على ما هو آني وممكن الزوال، وكان من نتيجة ذلك أن انحسر تأثير شعرهما بتغير الزمن وتبدل الحال. لقد كان هذا حال شعرٍ دعويٍ إسلامي، فكيف- إذن- ستكون حال النتاجات الأدبية التي تغمس نفسها في الماضي والتي يرمي أصحابها منها إلى عرض دنيوي زائل؟
وقد يفهم من هذا الكلام أن محتوى الأدب الإسلامي سينحصر في الوعظ والإرشاد ما دمنا نريد له أن يكون وعاء لقيم الإسلام ومثله وأن يصير ذا رسالة دعوية. بل قد يفهم منه أن الأدب الإسلامي سيتصف بالمباشرة والتقريرية اللتين تسمان أية دعوة فكرية أو دينية. وعلى الرغم من أن صفة كهذه غدت سلبية في التثقيف الأدبي وتطلق على أعمال شتى من أجل إخراجها من دائرة الأدب والإبداع إلا أن علينا ألا نتعجل فننفي وجودها في الأدب الإسلامي بنية حسنة وهي الحرص على ابقاء هذا الأدب في دائرة الإبداع المقبول، وعدم التعجل مردود إلى أن الوعظ والمباشرة ليسا صفةً سلبية دائماً، وإن تهويل تأثيراتهما السلبية صادر عن أولئك الذين يفرغون الأدب، على وجه العموم، من رسالته في الحياة. وعلى هذا فإن التركيز على " سلبية" هذه الصفة يخدم رؤية للأدب ليس من الضرورة أن نتفق معها.
إن الأنواع التي يعالجها الأدباء، ومنهم الإسلاميون، تتوزع بين الشعر والقصة والمسرح وتفرعاتها. ولكل من هذه الأنواع منطقه الخاص به أو طبيعته التي يحتهما النوع نفسه، ولابد للأدب الإسلامي أن يراعي ذلك المنطق وتلك الطبيعة إذا ما أريد له أن يكون فاعلاً ومؤثراً وجديراً بالتقدير، ولابد أيضاً أن نستوحي ذلك المنطق وتلك الطبيعة من روح الإسلام نفسه لا أن نستوردهما من عقليات غير إسلامية ونخضع نتاجنا الإسلامي لهما، ولئن أخذنا من "الغير " ما نعتقد في نفعه لأدبنا الإسلامي فلا بد من أن يوضع ذلك " المأخوذ" في القالب الإسلامي ليصبح جزءاً طبيعياً من فكرنا وثقافتنا ورؤانا، فلا يراد من الشعر، مثلاً، أن يكون نثراً منظوماً، ولا تتحمل طبيعته الوعظ والإرشاد المباشرين، ولئن حصل أن صار كذلك فعلينا ألا نخشى من القول إنه نظم مفتقر إلى الفهم الفني السليم؛ ذلك أن المحتوى الإسلامي وحده لا يحقق نصاً فنيا إسلامياً. بينما نرى أن الوعظ قد يكون مستسراً في سياق القصة والمسرحية ومفهوماً من مجريات الحدث.
الموضوعات الشعرية برؤية إسلامية، المديح:
وبغية الإسهام في استجلاء منطق الأدب الإسلامي وطبيعته أرى أن نزن الشعر، القديم خاصة، الذي يكاد يشكل النوع الفني الوحيد في تراثنا الأدبي، بميزان الإسلام لنميز الإسلامي منه من غير الإسلامي، لقد أنتج الشعراء قصائدهم من خلال لوحات متعددة، كالمديح والهجاء والرثاء.. الخ، وبدوافع مختلفة، وأحسب أن هذا الدافع هو الذي يحقق الهدف المرجو بفرز القصائد بعضها من بعض وبيان دورانها في فلك الإسلام أو ابتعادها عنه. ولعل من الأجدى أن نستبدل الدافع ب" النية" التي جعلها النبي - عليه الصلاة والسلام - أساساً لتمييز الأعمال بقوله: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) ([9]).
ويشكل هذا المعيار فيصلاً حاسماً بين الأفعال والأقوال المختلفة التي تصدر عن الإنسان، وعلى الرغم من أن النية وازع قلبي وقد لا يطلع عليها غير الباري - عز وجل - إلا أننا نستطيع أن نتبينها أو نتبين أثرها في قولٍ ما من خلال الإحاطة أو الالتفات إلى ما يكتنف ذلك القول من ظروف وملابسات. ولعلنا نستهدي في هذا السياق بأن نضرب مثلاً قصيدة " البردة" لكعب بن زهير، فقد أنشدها الشاعر بعد أن أعلن إسلامه، وعدها الدارسون قصيدة مديح نبوية وشرحها كثيرون، ولا تبدو لي هذه القصيدة قصيدة مديح نبوية وإن اشتملت على معان وإرشادات نبيلة تليق بشخصية النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام-؛ لأن كعباً عندما نظمها، لا عندما انشدها، لم يكن قد أسلم بعد، ولربما كانت نظرته يومئذ إلى النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - تماثل نظرته إلى أي ملك في زمانه، ولهذا فإنه كان يبحث عن نوالٍ هو العفو ولم يرم إلى الحصول على المال الذي كان المداحون يترقبونه عادة من ممدوحيهم، ومرد ذلك إلى أن كعباً هجا النبي - عليه الصلاة والسلام - قبل ذلك وتآمر على قتله، وحين علم أن دمه قد أهدر وأن دنياه قد ضاقت عليه رأى أن الأمان الذي يريده لا يتحقق إلا بالإسلام. وقد تعامل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع كعب وقصيدته بحكمته المعروفة في إدارة المواقف والنفوس وقدم للشاعر بردته تطييباً لخاطره لا إقراراً بإسلامية قصيدته ومكافأة له عليها. وفضلا عن ذاك، ولكي يكون نصٌ ما إسلامياً، لابد أن يكون صاحبه متشبعاً بروح الإسلام، حتى تمتزج تلك الروح بعقله وقلبه ولفظه، وهو ما لم يتهيأ لكعب بسبب قلقه على حياته ومحدودية المدة الزمنية الفاصلة بين إسلامه وإنشاده القصيدة علاوة على عدم ارتشافه من نبع النبوة قبل ذلك كله. بينما نرى أن قصيدة أخرى تحمل الاسم نفسه وهي قصيدة " البردة" للبوصيري، ولقيت هي أيضاً ذيوعاً واسعاً وحظيت بشروحات كثيرة لاشتهارها بأنها في مديح النبي - عليه الصلاة والسلام -، يمكن أن تعد قصيدة إسلامية لأن النية الدافعة إلى نظمها تحتم لها هذه الصفة، وذلك أن البوصيري لم يكن معاصراً للنبي - عليه الصلاة والسلام - ولم يكن النوال العاجل أو أي دافع دنيوي آخر واقفاً وراء كتابته لقصيدته، والشيء الوحيد الملموس فيها هو نفثة الحب الصادقة لشخص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ورغبة الشاعر في أن يعمق في نفسه وفي نفوس الآخرين الإيمان بصاحب الرسالة - عليه الصلاة والسلام - والارتباط به برباط تعبدي متين ومميز في العقيدة الإسلامية وهو حب النبي الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم -.
والأمر كذلك بالنسبة إلى ما ورد في كتب الأدب عن قصيدة الفرزدق في مدح على بن الحسين - رضي الله عنهما - ([10]) أي باعتبارها قصيدة إسلامية على الرغم من أن الفرزدق كان يبتعد عن هذه الجادة في كثير من أغراضه الشعرية، وهذه القصيدة مشهورة ومنها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم
يغضي حياء ويُغضى من مهابته *** فما يكلم إلا حين يبتسم
وإن هذا الممدوح، وكما هو معلوم، هو ابن الحسين سبط النبي - عليه الصلاة والسلام - وأحد سيدي شباب أهل الجنة، والمديح الموجه إلى أهل بيت الرسالة، رضوان الله عليهم، يمثل مديحاً موجها إلى الرسالة المطهرة نفسها وصاحبها العظيم - عليه الصلاة والسلام -، من غير أن يكون مطمع دنيوي وراء هذا المديح ومن غير أن يصوَّر الممدوح على أنه جنس بشري مختلف عن الناس الآخرين. وعلى المنوال ذاته ما قاله أيمن بن خريم الأسدي في مديح بني هاشم ([11])
نهاركم مكابدة وصوم *** وليلكم صلاة واقتراء
وليتم بالقران وبالتزكي *** فأسرع فيكم ذاك البلاء
بكى نجد غداة غدٍ عليكم *** ومكة والمدينة والجواء
وحق لكل أرض فارقوها *** عليكم لا أبا لكم البكاء
أأجعلكم وأقواماً سواءً *** وبينكم وبينهم الهواء
وهم أرض لأرجلكم وأنتم *** لأرؤسهم وأعينهم سماء
وأما عندما يوجه الشاعر مديحه إلى خليفة أو أمير أو عظيم من العظماء فإنه يستهدف الحصول على مكسب دنيوي من مال أو منصب أو جاه، فالدنيا، وليس الإيمان، هي التي تحرك اللسان وتوجد القول.
ولكي يصل الشاعر إلى هدفه فإنه غالباً ما يتجاوز الحدود المعنوية المعقولة ويتفنن في استخراج معان مبالغ فيها لاستدرار أريحية الممدوح مما يتسبب في وقوعه في محاذير التعظيم المزيف من حيث أن ما يقوله إنما يقوله بلسانه وأن رصيده في قلبه أقل مما يتظاهر به من جهة بناءً على اعتقاده أن الممدوح قادر على أن يحقق له مبتغاه وفي تأثير ذلك التعظيم ووقعه في نفس الممدوح واعتقاده من ثم بأنه في الحقيقة على ذلك النحو الذي يظهره الشاعر فيه، من جهة أخرى، وفي كلتا الحالتين يغدو هذا الضرب من المديح هداماً لشخصيتي الشاعر والممدوح على حد سواء نفسياً وعقائدياً، ولهذا فقد ورد في الأدب المفرد للإمام البخاري عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( احثوا التراب في وجوه المداحين)) ([12])وينبغي ألا يفهم من هذا أن الأدب الإسلامي يرفض أن يضم إليه المديح الذي يعكس جانباً من الإحساس الإنساني، ولكن الفهم الإسلامي يقيّد هذا الغرض بحدود الإسلام وبضرورة ألا تكون كيفيته مسهمة في إذلال إنسان وتأليه إنسان، من ذلك قول الحسين بن مطير الأسدي في مدح المهدي ([13]):
لو يعبد الناس يا مهدي أفضلهم *** ما كان في الناس إلا أنت معبود
أضحت يمينك من جود مصورة *** لا بل يمينك منها صوّر الجود
لو أن من نوره مثقال خردلةٍ *** في السود طراً إذن لابيضت السود
وكقول مروان بن أبي حفصة في الهادي الخليفة العباسي: ([14])
وجدناك في كتب الأولي *** ن محيي النفوس وقتّالها
لقد جعل الله في راحتيك *** حياة النفوس وآجالها
وكقول ابن هانئ في مدح المعز لدين الله الفاطمي: ([15])
ما شئت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد *** وكأنما أنصارك الانصار
أنت الذي كانت تبشرنا به *** في كتْبها الأحبار والأخبار
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 05-07-2020, 05:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,542
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في الأدب الإسلامي

في الأدب الإسلامي
عباس توفيق



الفخر:
إن قيد الالتزام بحدود الإسلام في الكلام هو الذي يجب أن يعوَّل عليه في التعامل مع هذا الغرض أو ذاك. وكما أن للمديح المنفلت من الضوابط الشرعية تأثيراً سلبياً في بناء الإنسان فإن للفخر بشقيه الشخصي والجماعي تأثيره السلبي أيضاً، لأن الشاعر يعمد فيه إلى تضخيم الذات الفردية أو الجماعية أو كلتيهما معاً. ولا شك في أن الإسلام يحث على الاعتداد بالنفس والعمل على عزتها وحفظ كرامتها، ولا يتنافى الفخر مع هذه المعاني ألا بوصف النفس بأوصاف لا تتمتع بها أو بإعلاء شأن الذات على حساب الآخرين، فضلا عن أن الفخر بدلالاته التي ورثناها في أدبنا القديم يتقاطع مع مبدأ السواسية في الإسلام ومع حصر مرجعية التفاضل بين الناس بالتقوى. وعلى هذا فإن الفخر بالأحساب والأنساب تعبير عن ضرب من التفكير الملائم للمجتمع غير المتجانس في قيمه والمتحاربة طوائفه بعضها مع بعض حرباً معلنة أو خفية، فعلية أو كلامية.
وتضخيم الواقع والادعاء هو ديدن معظم الشعراء في مثل هذا الموقف ولعل التهويل هو ما يجب الاحتراس منه في الفخر، وفضلاً عن ذلك فإن من الضرورة أن يكون موضوع الفخر شيئاً فذاً أو نادر الحصول بين الناس ليكون فخراً حقيقياً وإلا فلا قيمة للافتخار بصفة ذائعة شائعة في الجميع، وإذا تأملنا الصفة التي يتباهى بها الشاعر، ولتكن الشجاعة مثلاً، فإننا سنرى أن فخره بها ينطوي- وربما بدون قصد ظاهر- على طعن خفي في الآخرين بأنهم جبناء أو على الإشارة إلى أنهم لا يبلغون مبلغه في الجرأة والإقدام، وكذلك الحال فيما يتعلق بالخصال الأخرى التي تكوّن مادة الفخر لدى الشاعر كالكرم والمروءة والنجدة.. الخ.
ولانطواء طريقة الشاعر في عرض سجاياه على المساس بالغير فإن الآخرين يسعون إلى تثبيت تلك السجايا لأنفسهم بطريقة شبيهة بالدفاع غير المباشر عن النفس أو يعمدون إلى تقويض تلك المعاني وإلحاق ما يضادها بالشاعر المفتخر بها كما هو الحال في النقائض، ومن ثم فإن الطعن خفيّه وظاهره يظل دائراً بين هؤلاء وهؤلاء، وتبذر العملية برمتها في نفوس الناس بذور الاستعلاء والتفرقة والتمزق والضغينة وغيرها مما هو مناقض تماماً لمنطلقات الإسلام ومراميه. ولعل هذه النتيجة هي السبب الكامن وراء جعل الفخر من أمور الجاهلية في الحديث الذي رواه أبو مالك الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (( إن في أمتي أربعاً من أمر الجاهلية ليسوا بتاركيهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت..)) ([16])‎ وإذ وضع النبي - عليه الصلاة والسلام - هذه الصفة الجاهلية في هذا الإطار فإنما لينبه أمته إلى عمقها في النفس وإلى أن تخلية القلب منها وتطهير الروح بتركها، أو تحجيمها في الأقل، يتطلّب جهاداً خاصاً. ولا يجوز فيما أحسب أن يفهم من قوله - عليه الصلاة والسلام - " ليسوا بتاركيهن "أنه يقر هذه الصفة أو لا يمانع في الإبقاء عليها.
إن أساس المفاضلة بين الناس قائم في الإسلام على التقوى لا على الادعاء، وإن المسلمين يتنافسون بها وبسواها من سبل الخير للوصول إلى الدرجات العلا في مدارج الإيمان، وإذا افتخر أيٌّ منهم بما خصَّه الله به فإنه يهتك بذلك سر الله - سبحانه - الذي أودعه فيه ويسير في طريق الرياء ورؤية فعل الذات، ولقد أشار النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - إلى أن من بين السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: (( رجلاً لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) ([17]). فتنكّب الإنسان عن الجادة التي رسمها الباري - عز وجل - له أو بينها نبيه الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - سيقوده ولا شك إلى أن يخطئ الطريق الممثلة للإسلام سلوكياً وإلى ابتعاد نتاجه المبني على هذه الحالة عن أن يكون إسلامياً. علاوة على أن الإعلان الاحتفالي عن فضيلة أو سجية معينة يسهم في تنمية روح الكِبْر في النفس والقلب مما له خطورته في حياة المسلم الدنيوية والأخروية على حد سواء، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الصدد إلى أنه " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر "([18])، وألْفتَ الباري - عز وجل - انتباه عباده إلى أن ما يتطبعون به من خصال كريمة ينبغي أن تكون خالصة لوجهه الكريم، فأنزل فيما يتعلق بالإنفاق، وهو من موضوعات الافتخار بالكرم عند الشعراء، قوله - سبحانه-: ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ* وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ([19]).
كما أن إظهار المرء لما يتصف به تباهياً يصبّ في محذور آخر حذّرنا الله - سبحانه وتعالى - منه وهو تزكية النفس إذ قال جل جلاله: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى). ([20]) ويتمثل الإنسان المسلم أوامر ربه - سبحانه وتعالى - ونبيه الكريم - عليه الصلاة والسلام - تمثيلاً يتناسب مع درجة إيمانه، ويحيا الإنسان الأكمل إيمانا في حالة اتهام دائم للنفس، وينتابه الوجل مهما فعل خشية أن يُردّ عليه عملُه، وقد روت السيدة عائشة - رضي الله عنها - أنها سألت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن قوله - سبحانه -: ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهُم الذين يشربون الخمر ويزنون؟ قال: (( لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يُقبَل منهم)) (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)([21]).
فالمسلم الذي يُقلقُه هذا الوجل من رد العمل لا يجعل ذلك العمل مزكىً أو موضوعاً للمباهاة بل يرى أن كتمانه وليس إذاعته ناهيك عن الافتخار به أدعى إلى كماله وأقرب إلى تنقيته من شوائب الرياء وحب السمعة. ولنا أن نستأنس في هذا الصدد بما أُثِر عن بعض الصالحين من أعمال الخير والبر التي كانوا يجتهدون في إخفائها، من ذلك ما روي عن أبي حمزة الثمالي أنه قال: " كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب - عز وجل -، وعن عمرو بن ثابت قال: لما مات على بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره فقالوا: ما هذا؟ فقالوا كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء المدينة. وعن ابن عائشة قال: قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين "([22]) - رضي الله عنهما -.
وكما أن هذا السلوك إسلامي فكذلك ينبغي أن يكون القول والفعل فكلاهما " فعلٌ " مؤثرٌ في بنيان المجتمع الإسلامي ايجاباً وسلباً، وكلاهما " فعلٌ " واقعٌ في ميزان الإنسان خيراً أو شراً.
الهجاء:
وأما الهجاء فأثره شديد، ذلك أنه يقوم أساساً على تقويض كيان المهجو الشخصي والجماعي بمثالب ومعايب حقيقية أو مختلقة يعرضها الشاعر عرضاً جارحاً وساخراً. و لا تكون المعايب ودلالاتها مستنبطة، كما هي الحال مع بعض الموضوعات الشعرية الأخرى، بل تكون سافرة ومباشرة. ومن الطبيعي ألا يقف المهجو من السهام التي توجَّه اليه موقف المُعرِض الذي لا يعنيه من الأمر شيء وأن يعمد إلى رد السهام ونقض معانيها وإلحاق النقائص بالشاعر الخصم. وقد تتوقف المنابزة عند هذا الحد، وقد ينبرى الشاعر ليرد على الرد، كما في النقائض، وهكذا. من ذلك مثلاً قول الجماز ابن أخت سلم الخاسر في عبد الصمد بن المعذل: ([23])
ابن المعذل من هُوْ *** ومن أبوه المعذّل
سألتُ وهبان عنه *** فقال: بَيضٌ محوّل
فرد عليه ابن المعذل بقوله:
نَسَبُ الجمّازِ مقص *** ورٌ إليه منتهاهُ
يتراءى نسَبُ النا *** س فما يَخفى سواهُ
يتحاجى في أبي الجم *** ماز مَن هو كاتباهُ
ليس يدري من أبو الجم *** ما ز إلا مَن يراهُ
أو كقول بشار بن برد في حماد عجرد([24]):
أُدعُ غيري إلى عبادة إثني *** نِ فإني بواحدٍ مشغولُ
فردّ حماد عجرد بأنْ أشاع البيت محرّفاً بحيث ينقلب الطعن فيصيب بشاراً وذلك بزعم أنه قال:
أدعُ غيري إلى عبادة إثني *** ن فإني عن واحدٍ مشغولُ
ومن أمثلة الإطالة بسبب القول والرد والرد على الرد الأبيات التي نظمها الفرزدق وهو في المدينة، ومنها:
هما دلّياني من ثمانين قامةً *** كما انقضَّ بازٌ أقتمُ الريش كاسرُهْ
فلما استوت رجلاي في الارض قالتا *** أحيّ فيرجى أم قتيل نحاذرُهْ
فقلت ارفعا الأمراس لا يشعروا بنا *** وأفلتُّ في أعجاز ليلٍ أبادرُهْ
أحاذرُ بوابَينِ قد وكِّلا بنا *** وأسْودَ من ساجٍ تصرّ مسامرُهْ
وقد قال جرير تعليقاً على هذه الأبيات:
لقد ولدَتْ أم الفرزدق فاجراً *** فجاءت بوزوازٍ قصيرِ القوادمِ
يوصّل حبليه إذا جُنّ ليله *** ليرقى إلى جاراته بالسلالمِ
تدلّيتَ تزني من ثمانين قامةً *** وقصَّرتَ عن باع العُلا والمكارمِ
هو الرِّجس يا أهل المدينة فاحذروا *** مُداخل رجسٍ بالخبيثاتِ عالمِ
لقد كان إخراجُ الفرزدقِ عنكمُ *** طَهوراً لِمَا بين المصلّى وواقمِ
وقد نقض الفرزدق هذه القصيدة بقوله:
وإنّ حراماً أن أسُبَّ مقاعساً *** بآبائيَ الشمِّ الكرام الخضارمِ
ولكن نَصفا لو سببتُ وسبّني *** بنوعبد شمس من مناف وهاشم
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** وأعْند أن أهجو كليباً بدارم
"وغضب أهل المدينة لذلك وشكوه إلى مروان بن الحكم وهو يومئذٍ والي المدينة وطلبوا اليه أن يحدّه، فأمر بنفيه فغضب الفرزدق وهدد بالهجاء فخاف مروان واسترضاه بالجائزة"([25]).
وغالباً ما يلجأ الشاعر إلى إيلام مهجوّه بالطعن خاصة في حسبه ونسبه أو بالتقليل من شأنه وهدم جاهه دون وجه حق، ولعله يرغب في الطعن من أجل الطعن والتشفي، كقول ابن مفرغ الحميري في زياد ابن ابيه: ([26])
ألا أبلغْ معاوية بن حرب *** مغلغلةً عن الرجل اليماني
أتغضبُ أن يُقال أبوك عفٌّ *** وترضى أن يقال أبوك زانِ
وأشهدُ أن إلّك من زيادٍ *** كإلّ الفيلِ من ولد الأتانِ
وأشهدُ أنها حملتْ زياداً *** وصخرٌ من سميةَ غيرُ دانِ
وكقول أحد الشعراء في العالم النحوي المشهور محمد بن يزيد المبرد: ([27])
سألنا عن ثمالة كلَّ حيٍّ *** فقال القائلون ومن ثمالةْ؟
فقلت محمدُ بنُ يزيدَ منهم *** فقالوا: زدتَنا بهمُ جهالةْ!
ولئن وضع الشاعر نفسه موضع مهجوّه، أو أحبّ للآخرين ما يحب لنفسه كما يعلمنا الإسلام لما انغمس في الخوض في أعراض الآخرين وأحسابهم دون رادعٍ أو وازع. ولهذا فقد ورد عن كريمة المزنية أنها قالت: " سمعت أبا هريرة وهو في بيت أم الدرداء يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ثلاثة من الكفر بالله: شق الجيب، والنياحة، والطعن في النسب)) ([28]).
ويتجاوز أوار الضغينة الشاعرين المتهاجيين إلى من يحيط بهما ويذكي بينهم الصراع والنزاع بغية مآرب آنية وعاجلة، وعلى هذا وبدلاً من أن يكون الانتماء إلى الإسلام جامعاً بين هذين الفريقين من الناس يتولّى الهجاء تفريقهم وتمزيقهم وخلخلة صفوفهم علاوة على الأذى النفسي الذي يلحقُه بأفرادهم، ومن هنا كان سعي البعض إلى أن يجنب نفسه مغبة الإساءة التي يلحقها شاعرٌ ما به بأن يسترضيه بعطاء أو تقدير أو يحقق له مطلباً من غير أن يكون له حق فيه وغير ذلك من الوسائل التي تقرب من أن تكون رشوة تلجم اللسان. وقد لجأت الكيانات السياسية التي تعاقبت على الدولة الإسلامية إلى استغلال أثر الهجاء في تأجيج الصراعات القبلية والفردية لتتيسر لها السيطرة على الوضع العام، فأصبح هذا " الموضوع الشعري" أداة سياسية تديرها السلطات المختلفة، ولم يعد تبعاً لذلك بعيداً عن السمت الإسلامي وحسب بل أصبح بعيداً عن أداء دور اجتماعي إيجابي أيضاً. وصار طبيعياً لتلك الكيانات السياسية التي تلت عصر الخلافة الراشدة أن تترك محاسبة المتهاجين أو الهجائين على ما يقولون طالما رأت أن أقوالهم تصب في خدمة أهدافها ومخططاتها.
ويعكس الهجاء بُعْد قائله عن السماحة التي تميز الشخصية الإسلامية الصحيحة ونضوب قلبه من المحبة وروح الإخاء فضلاً عن دلالته على أن انفعالات الشاعر ليست إلا ثورة لنفسه لا لربه. ومن الغريب حقاً أن يسمح المجتمع المسلم للشاعر الهجاء أن يقول ما يقول من غير أن يأخذ على يديه أو أن يكون الشاعر "مسلماً " ثم يفيض قلبه بالحقد والضغينة والافتراء. ويكمن وجه الغرابة في أن الشاعر يكون بهجائه منفصلاً انفصالاً تاماً عن المثل الدينية التي نراها منبثة في القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة ومع ذلك يمكن أن يعده " بعضهم " شاعراً إسلامياً. لقد أثنى الباري - عز وجل - على عباده بقوله - سبحانه -: ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)([29])، وبقوله: ( وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ([30])، فالمسامحة ترفع الإنسان إلى درجة الإحسان، ولهذا فإن النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - حث الناس على عدم الغضب حيث قال: (( ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) ([31]) وعند ما استنصحه - عليه السلام - أحدُهم أجابه بقوله: (( لا تغضب))([32]). والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم الصفوة من بني البشر الذين لقوا من أقوامهم أذىً كان من شأنه أن يثير موجدتهم، كانوا يتوجهون إلى الله - سبحانه وتعالى- بأن يغفر لأممهم ويردّون الإساءة بالإحسان، وقد أورد القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قوله: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)([33])، ومن ذات المشكاة صدر قول نبينا - عليه الصلاة والسلام - وهو يحكي نبياً من الأنبياء - عليهم السلام -: (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ([34]). ولم يكن دعاء الأنبياء - عليهم السلام -، على أعداء الله ثأراً لأنفسهم بل كان أمراً لم يجدوا منه بداً للرد على كيد الكافرين الذين أصبحوا عقبة في طريق نشر الدعوة ولم يكن إسلامهم مرجواً ولم يؤمَّل زوالهم إلا بتدخل رباني لتحقيق سنة الله في خلقه وفي نصر عباده المؤمنين وإقامة شريعته على الأرض.
ولم يُعنَ الشعراء بالتأسي بهذه التربية أو التخلق بهذه الصفات بل إنهم كانوا على النقيض منها تماماً فصاروا بتماديهم في هذا الغرض وما شاكله أسارى أنفسهم وسهلي الانقياد إلى حد ما لأهواء أنفسٍ أخرى تتمثل في السلطات المتعاقبة سواء كانت سلطاتٍ قابضةً على أعنّة الحكم أم كانت سلطاتٍ غيرَ حاكمة رآها شعراء معينون أجدر من الحاكمين بالحكم وأحق به، ولعل تلك السلطات كانت تُوْقِع الشعراءَ بعضهم في بعض وتهلل لما تراه يجري بينهم، ولربما، أيضاً، كان إسناد السلطة المباشر وغير المباشر لهذا الضرب من الموضوعات الشعرية سبباً يقف وراء المقولة التي ذاعت في الكتب النقدية القديمة ورددتها الألسنة وهي أن: " أشعر الشعراء أربعة: زهير إذا رغب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طرب وعنترة إذا غضب" ([35]). ومع أن الشعراء المذكورين في هذه المقولة جاهليون إلا أن مطلقي المقولة ومردديها كانوا مسلمين، وإن دلالتها في فهم الشعرية هي ما يهمنا هنا، ومن الواضح أنها تجعل الغضب في الغرض الذي نحن بصدده الآن والذي لا يكون لله بأي حال لاقترانه بعنترة الباعث الأساسي على شعر متميز ومتفوق، وإذا تأملنا المقولة جيداً لرأينا أنها تربط " الشعرية " في منطلقاتها بما يجافي المنهج الإلهي في تربية الإنسان، ولعل النقاد المسلمين الأوائل لم يدركوا هذا المعنى، وكرروا المقولة بغير أن يقصدوا ذلك، ومع ما فيها من عمومية فإنها تجعل المفاضلة بين الشعراء مبنية على أسس هدامة لشخصية الإنسان " الشاعر" ما دامت متمحورة حول شخصيات إنسانية أخرى تحكم علاقاتهما أي علاقات شخصية الشاعر بالشخصية الأخرى- الرغبة أو الرهبة وما ينجم عنهما من حرص النفس وارتعاش القلب بدلاً من روابط الإيمان والإخاء والمساواة.
لقد أصبحت هذه المقولة ومثيلاتها من قبيل قول الأصمعي المشهور: " الشعر نكد بابه الشر ‎فإذا دخل في الخير ضعف، هذا حسان بن ثابت فحل من فحول الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره "([36]) وغيرها كفيلة بزرع معنى للشعرية في النفوس يتمثل في فصل هذا النشاط عن الدين وفي إضفاء الإعجاب على الناقد أو تقدير جهده النقدي لتعامله مع الشعر بعيداً عن الدين وقيمه. ومن الغريب حقاً أن يُعلى من شأن الداعين إلى عزل الدين عن الحياة مع أن الدين في واقعه وحقيقة أمره يرسم السياسة المجملة والتفصيلية للحياة بجميع أنشطتها بما فيها الأدب وأن يهوَّن من شأن من يربط بينهما في الوقت الذي يكون التقدير العالي من نصيب الذين يربطون الأدب بالمعتقدات الوضعية والذين يجعلون نتاجاتهم وعاءً لتلك المعتقدات.
إن الموضوعات الشعرية التي أشرتُ إليها سابقاً عيّنةٌ لما ينحرف بمنطلقاته المضمونية وأهدافه ونتائجه عن الخط الإسلامي السليم، وانحراف الشعر في عمومه عن القصد الإسلامي وما يترتب عليه من هدم البنية الاجتماعية المتماسكة هو الذي دفع النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى القول: (( لأن يمتلئ جوفُ أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً )) ([37]). كما أن هذا لا يعني، في الوقت عينه، أن تلك الموضوعات تتجنب هذا الخط كلية أو أننا لا نجد فيها ما يخدم الإسلام ومثله، وأعتقد أن تمييزها من هذه الناحية ينبغي أن يخضع لمن يوجَّه إليه الكلام، كما ألمحتُ إلى ذلك منذ البداية، فالهجاء، مثلاً، الذي يوجِّهه الشاعر العقائدي المسلم إلى أعداء دينه يكون في صميم الجهاد بالكلمة لأن نتائجه السلبية ستنعكس على العدو بانكسارهم معنوياً ولأنه يشفي صدور المؤمنين فتعلو عزيمتهم وتقوى شوكتهم. بينما يؤدي الهجاء الموجَّه من مسلم إلى مسلم إلى ضعضعة وحدة المجتمع ويسهم في إضعافه وتصير نتائجه ثمة مجانبة لما ترمي إليه العقيدة الإسلامية. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأغراض الأخرى، وإن معيار إسلاميتها من عدمها ينبغي أن يقوم على المنطلقات والنتائج التي ستلقي في النفس ترسيخ العقيدة أو إضعافها.
وإذ اقتصرت على هذه العينة فإني لم أعن أن الموضوعات الأخرى التي سكتُّ عنها تتماشى مع خط الإسلام، وهي موضوعات تتراوح قرباً من هذا الخط وبعداً عنه من خلال قصائد تتفق مع المنهج الإسلامي وأخرى تباينه، ونظرة في دواوين الشعراء وكتب الأدب القديمة تكفي لإيقافنا على هذه الحقيقة، ولعل أقرب الموضوعات إلى دائرة الإسلام يتمثل بالنصوص التي تتحدث عن هواجس الإنسان وعواطفه وآماله أو عن خلاصة تجاربه في الحياة من فهم إسلامي واضح وصائب عن الكون والحياة.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 05-07-2020, 05:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,542
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في الأدب الإسلامي

في الأدب الإسلامي
عباس توفيق

الالتزام الديني في الفن:
لقد عانى عدد من الأدباء القدماء من ألم انشطار النفس بين دوافع قلبية دينية ورغبات دنيوية مسرفة، ولهذا فإن ما أنتجوه كان يتوزع بين هذا الميل أو ذاك، ولاحظ الأقدمون، أو قسم منهم، تفاوتاً في الرصيد الانفعالي بين القصائد الصادرة عن إحساس ديني والقصائد الصادرة عن حاجة دنيوية. وقد أدركوا سبب التفاوت ولكنهم آثروا تجاوزه ورغبوا في تجنب الحرج الذي يمكن أن يقعوا فيه إذا ما خاضوا في درجة القيم الأخلاقية أو الاعتبارات العقائدية التي تسمح للشاعر أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه. ويبدو أن أولئك الأقدمين وجدوا في فصل الأدب عن الدين مخرجاً مناسباً من هذا الحرج وذلك التفاوت الذي لم تكن الإمكانية الفنية سبباً فيه، وإذ فصلوا الدين عن الأدب فإنهم قد وضعوا وبصورة ضمنية قاعدة لدراسة الشعر الصادر عن الحس الديني أو عن الدوافع الأخرى تتمثل ب" وحدة" المؤلف، وأما المعاصرون الذين آزروا هذا الفصل فإنهم لم يصدروا عن الرغبة في تجاوز المساس بشخصيات الشعراء العقائدية بل صدروا عن دوافع أخرى كان من بينها اعتقادهم أن الدين يقتل الإبداع الفني ويجعله مجالاً للوعظ والإرشاد لا غير، وأنهما أي الشعر والدين بسبب ذلك لا يلتقيان.
إن اعتبار الفن والدين نشاطين مختلفين يعكس عدم فهم لمعنى الدين في حياة الإنسان أو سعياً لإفراغ الدين من دلالته الأساسية والوظيفة الجوهرية التي ينيطها بالإنسان والتي تتمثل بالخلافة على الأرض وعمارتها إيمانياً ومادياً، ومهما تشعبت هذه الوظيفة وتنوعت مجالاتها فهي عبادة وممارسة دينية طالما كان تنفيذها نابعاً من قلبٍ شاعر أنه ينفّذ أمر ربه أو أنه يريد بما يفعل وجه الله - سبحانه وتعالى -. وقد أوضح القرآن الكريم بجلاء تام الغاية من خلق الإنسان بقوله جل جلاله: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ([38]).
فالعبادة هي الغاية، ولا بد أن تكون جميع الأنشطة التي يمارسها الإنسان دائرة في فلكها ومؤدية إلى تحقيقها وإبقائها متوهجة في الحياة وحية في النفس، ومفهوم العبادة، كما هو معلوم، واسع في الإسلام وغير مقتصر على أداء الفرائض والأركان، ويشمل كل حركة وقول ونشاط يصدر عن الإنسان من أجل ربه - سبحانه وتعالى-، بل أنه ينصرف إلى أدق الخصوصيات الإنسانية، وما دمنا بصدد الحديث عن الفن فلا ريب في أنه عبادة إن توفرت فيه شروط الأداء الإسلامي كالنية الإسلامية الخيرية الدافعة إلى الإنتاج الفني واستشراف الغاية الإسلامية منه والنظر إلى أن يقع موقع الرضى من الباري - عز وجل - أولاً لا أن يقع موقع الرضى من الناس وموقع السخط من الباري - عز وجل -، وغيرها، وليس هذا مفهوماً نظرياً مجرداً بل هو واقع طبّقه المسلمون على امتداد التاريخ، ولئن كانت العبادة في رأيهم مقتصرة على الشعائر المعروفة لما كان لديهم جهاد بالكلمة أو بناء أو تأليف ولما كان في مقدورهم أن ينتجوا ما أنتجوه في العلوم الطبية والكيميائية والرياضية إلى جانب العلوم الفقهية والشرعية بأبوابها المختلفة، ولما كانت هناك، بعبارة موجزة، حياة زاخرة مفعمة بالحركة.
إن التزام الإنسان بمنهج الله - سبحانه وتعالى - يقود إلى أن يفتح هذا الإنسان عينيه على أسرار الكون وأن يرى فيه بعينه وقلبه وإحساسه ما لا يراه الآخرون، وإن هذا الالتزام يضعه موضع الاتساق التام والانسجام الكامل مع حركة الكون ويشعره أنه جزء منظم من الحركة المنتظمة داخل الوجود وأنه، من ثم، ذرة مسبحة مع ذرات الكون الفسيح، فهو ليس كائناً عاقلاً إزاء جمادات بل هو عبد لله إزاء عبيد لله ويبني تعامله مع الدواب والشجر والجبال والحجر على أساس أنه وهؤلاء جميعاً عابدون لله، ويكفل هذا الإحساس تعاطفاً من نوع خاص بين الإنسان وما يحيط به محققاً له الطمأنينة في القلب والرضى في النفس والمصالحة مع الوجود، وهو إذ يرى عظمة الباري - عز وجل - ويتأملها في تفصيلات الوجود يكون في حالة ِذكْر وهي حالة استشعار العبادة بكل ما يفعله الإنسان ويقوله، وحينئذ يرى نفسه في مسايرة منتظمة مع الناموس الكوني العام، فهو وهذا الكون بكل ما فيه خاضعان لقانون واحد يسيران وفقاً له ولا يمكن أن تكون حركته معاكسة لذلك القانون. ويشكل هذا الاطمئنان أساساً مهماً للإبداع الفني الإسلامي، أي أن الفن الإسلامي ينبع من الاطمئنان واستقرار الوجدان اللذين لا يفارقان المسلم وهو يؤدي واجبه الشرعي - بالمفهوم الواسع لهذا الواجب بغض النظر عن نتائج ما يؤديه. على حين أن " الآخر" يتعامل مع ما يحيط به من زاوية مغايرة وخاضعة لمصالح وتوقعات محكومة بحسابات ذاتية من جهة، وقائمة على شعور بالسخط على هذا ال" ما حول " وعدم الرضى بل وحتى العداء أحياناً من جهة أخرى. ومن ثم فإن هذا الصنف من الناس يحيا حالة دائمة من التوتر والقلق والاضطراب ومن التمزق الروحي والانكسار النفسي. وإذ تؤول حسابات هذا الصنف إلى الفشل فإنه ينفجر حقداً وغضباً ويتحول إلى وحش كاسر ولا يطال ضرره ما يحيط به وحسب بل يطاله هو أيضاً ([39])
الاطمئنان منبع الفن:
إن الفرق بين المسلم الملتزم بمنهج ربه ومن يحلّ نفسه من ذلك الالتزام مسلماً كان من حيث الظاهر والانتماء أم لم يكن كامنٌ في أن المسلم لا يرى أمامه شيئاً أسمه " أسوأ احتمال "؛ ذلك أن الاحتمالات التي يواجهها تكون خيرة كلها، وقد دلّنا النبي - عليه الصلاة والسلام - على هذه الخيرية بقوله: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"([40]). ولئن أصابه ما يكره فإنه يعلم أن في ذلك خيراً آجلاً له في الأقل، كما أنه يدرك في الوقت ذاته أن معياره هو غير دقيق في تمييز ما هو خير وما هو شر في نتائجه وعلى هذا فإنه يستقبلهما بشعور واحد، وقد وجّهنا القرآن الكريم إلى عدم الأخذ بظواهر الأشياء ومن خلال مشاعرنا القريبة منها، وذلك في قوله - سبحانه وتعالى -: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) ([41]). ومن هنا فإن المسلم لا يخرجه الخير " الظاهر " عن طوره ولا يضجره الشر " الظاهر"، فكلاهما من رسل ربه إليه وهو يرحب بهما ترحيبه بأمر ربه ويأنس بهما أنسه بخالقه - سبحانه وتعالى-، ولهذا فإن أخطر تجربة، وهي تجربة الحياة والموت في الجهاد بالنفس، يقدم عليها الإنسان المسلم برباطة جأش وثبات جنان لا تختلج فيه اختلاجة سلبية لأن العاقبة عنده متساوية: النصر أو الشهادة، إن لم تكن الشهادة أقرب إلى مناه وإن لم يكن هو أحرص عليها مما عداها. وأما الآخرون فهم بين نصر أو اندحار، نجاح أو فشل، وحدودهما هي ما يدركونه بأعينهم أو يلمسونه بأيديهم من سماتها القريبة الظاهرة، فيطغيهم النصر ويحرق أفئدتهم الانكسار، وفي الحالتين يكون انفعالهم معاكساً للناموس الإلهي فيؤذون أنفسهم والآخرين برؤية الذات والتيه والغطرسة في حال النجاح وبالمعاناة الداخلية في حالة الفشل. وإذا كان النتاج الأدبي ثمرة لهذه الحالة المضطربة غير السوية فإن تغذيته لنفوس متلقّيه ستكون تغذية مرَضيّة غير صالحة وذات نتائج غير سليمة.
ولا يعني اطمئنان الفنان، بطبيعة الحال، جموده العاطفي إزاء الموضوعات التي يعالجها، بل بالأحرى إنه يعيش التجربة بكل ما فيها من دفق حيوي ويؤطرها بإطارها الإسلامي أو يشحنها بالإرشادات الإسلامية التي تكون في محصلتها تجربة فنية متميزة وذات هدف معلوم. إن اطمئنان الفنان هو الذي يجعل سمعه قادراً على التقاط تسبيح الكون وهو الذي يفتح له آفاق التعامل والمعالجة الخلاقة المبنية على التعاطف والحب والوحدة واكتشاف الأسرار الكونية والطبائع البشرية في ضوء نور رباني ساطع، ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) ([42]). وإن طمأنينة الفنان ستقوده إلى الرؤية المتبصرة وتعينه على تجاوز النزق والانفلات الآني والندم في مستقبل الأيام على ما تلفّظ به، وبهذه الطمأنينة يصبح متلائماً ومنسجماً مع المجالات الإبداعية الأخرى من حيث محفزاتها ومثيراتها، ولقد أشار عدد من أصحاب المناهج الأدبية والنقدية إلى أن التوتر والتمزق وما إليهما مما يعانيه الفنان في حياته الداخلية تشكل المنتج الحقيقي والأساس الفعلي لعملية الإبداع الفني ([43])، بل إن هذا المعتقد شاع وانتشر حتى أصبح الفن في أذهان الأغلبية الساحقة من المتعاملين معه نتاج حالة الثورة والرفض والتمرد والتوتر والتمزق والانسحاق إلى أخر الأوصاف التي تمثل في حقيقتها حالة داخلية مرضية يرددها "أهل الفن " عن الأرضية التي تنطلق منها الإنتاجات الفنية وتأخذ منها نسغها، ورأى البعض من الكتاب الإسلاميين أن الفن نتاجٌ لتوتّر داخلي ناجم عن الحالة التي يعيشها الفنان بسبب ما يراه من عدم الانسجام بين الإنسان والعالم ([44]) من غير أن يعمل إسباغه لهذا الطابع على إعادة اللحمة بين الفن والدين أو أن يجعل من الفن أحد أنشطة العبادة.
العلمانية الأدبية والمناهج النقدية:
ولقد كان من نتيجة مساعي فصل الفن عن الدين أن أصبحت المناهج النقدية المختلفة على ما بينها من اختلافات معرفية جوهرية معنية بالنص الأدبي وجاعلة إياه قيمة مطلقة وهدفاً أساسياً. فالمنهج التاريخي، على سبيل المثال، يوجه عنايته إلى الظروف الشخصية والبيئية المحيطة بالمنشئ على اعتبار أن هذه الظروف هي الوسائل التي يتوصل بها الناقد الدارس إلى فهم دقيق وإدراك صائب للنص ويستضيء بها لمعرفة ما في الإنتاج الفني من عمق وغنى وتنوع، بينما يسعى المنهج البنيوي إلى الهدف ذاته من خلال النص وخصوصية تركيبه اللغوي. وقد اتسع نطاق التعامل مع النص على أنه بنية لغوية خلال العقود الأخيرة في أدبنا العربي، وتشعبت الاتجاهات التي تناولت تلك البنية وتنوعت بشأنها الرؤى، ولكنها تلتقي جميعاً في نقطة مركزية واحدة هي أن النص الأدبي ذو كينونة خاصة محكومة بقوانينها الذاتية وضوابطها النابعة منها، وأن ما يلاحظ فيه ينبغي الا يوزن بالمعايير أو القيم الخارجة عنه وعن طبيعته، فلئن كان النص مشتملاً على " الكذب" مثلاً فلا بد أن تُفسّر الكذبة أو تُعامل على أنها قوةٌ في التخيّل واستشرافٌ للمجهول ولا بد من اعتبارها من موجبات الملكة الإبداعية المميزة، وأن وضعها في إطار مغاير سيبعد المقاربة النقدية عن أهدافها ومنطلقاتها الرامية إلى الكشف عن الطبيعة الفنية التكوينية المتفردة للنص الأدبي، تلك الطبيعة التي تنفصم صلتها أو علاقتها بما هو خارج النص.
ويؤول مثل هذه الرؤية إلى ما يقرره نقاد معينون من أن للنص وجوداً مستقلاً لا عن المنشئ وحسب بل عن النصوص الأخرى للمنشئ عينه وأن له منطقاً خاصاً به قد لا يلتقي بمنطق نص فني آخر ([45]). وعلى الرغم من أن هذه الرؤية مغلّفة بدعوى الإخلاص للفن إلا أن تدبرها سيوصل حتماً إلى إدراك مغزاها البعيد وهي أن في الوجود " مخلوقات" إلهية و"مخلوقات" بشرية، وينبغي أن يدرس كل من هذه "المخلوقات " من خلال قوانينها الذاتية وصفاتها الخاصة بها بدلاً من دراستها من خلال علاقتها ب" موجِدها". فكما أن الخلق الصادر عن الله - سبحانه وتعالى - ينفصل عنه ويكتسب وجوده الخاص به فكذلك هو النص الفني وكذلك يجب التعامل معه. فالنص كيان صادر عن المنشئ ومستقل عنه ولا بد أن تخضع دراسته لفكرة عزل " الموجود " عن " الموجِد "؛ وعلى هذا فأياً ما كانت عقيدة المنشئ ومنطلقاته ومراميه الفكرية فإن ذلك كله لا شأن له بالنص من حيث أنه نص فني يُدرَس بمعايير مجردة خاصة بالفن، وأن النص " لعبة " لغوية بالدرجة الأولى وليس "رسالة " هادفة، ومن ثم فإن قيمته وتميزه يكمنان في درجة إتقانه لقوانين اللعبة اللغوية.
وإذ تخلى الإنشاء الفني عن دوره في تشكيل الرؤى الفكرية العامة وتوجيهها فإنه قلّص مساحة انتشاره ومريديه وصار محط اهتمام مجموعة محددة من الناس منشغلة بدعوى المهارة واللعب اللغويين. ومن جهة أخرى فقد دفعت استقلالية النصوص عن منشئيها واستقلالها بعضها عن بعض بالنقاد والدارسين إلى العمل على إيجاد رابط يجمع شتات النصوص فكانت قوانين اللعبة اللغوية " الشكل " جامعة فيما بينها. وعلى الرغم من المساعي التي رمت إلى أن تفلسف تلك القوانين وأن تعطي الشكل دلالات معمقة لكي يتجاوز الذهن الثنائية المألوفة " الشكل والمضمون " إلا أن تلك الجهود لم تثمر عموماً في إشاعة " الوعي الشكلي " المعمق المطلوب فبقيت النظرة إلى الشكل ساذجة لدى الغالبية العظمى من المعنيين بالأدب وغارقة في تعبيرات إنشائية وغامضة بحيث لا يستخلص القارئ منها شيئاً قيماً أو ملموساً، وبقيت ثنائية الشكل والمضمون ماثلة باعتبار الشكل مقابلاً للمضمون على الرغم من المحاولات الهادفة إلى جعلهما "متماهيين" بعضهما في بعض. وطالما انقضى زمن المضمون وجاء زمن الشكل الذي انصرفت إليه عناية المنشئ فقد أصبحت المرامي متحررة من كل قيد والدلالات منفتحة على كل خاطر ومتلبّسة بكل صيغة.
ولقد أسهم هذا الفهم بكليته في إشاعة " العلمانية الأدبية " في المجتمع الإسلامي، ومن البساطة بمكان إدراك علمانية هذه الرؤية، فالإنتاجات الفنية تدرس وفقاً لقوانينها الخاصة بها والمنبثقة منها وطبقاً لتشكيلها الذي لا يشاركها فيه تشكيل آخر، إن الذي يحكم الإنتاج هو الإنتاج نفسه منعزلاً عما سواه. وبعد أن يستقر هذا المعنى في العقول والنفوس بوصفه أساساً ثقافياً مقبولاً فإنه يمهد للنظر إلى الإنسان المخلوق الإلهي وشريك النص، المخلوق البشري، في الحياة من خلال قوانينه الخاصة به لا من خلال نواميس الكون وقوانين خالقه. كما أنه يمهد وبطريقة مماثلة للنظر إلى الكتب المقدسة على أنها " نصوص " مجردة الصلة بمنزّلها! "كانت مهمة علماء اللاهوت المسيحي الجديد أكبر من التوثيق الحرفي للنصوص وأكبر من الدفاع عن معلومات قديمة عن الكون …الكتاب المقدس في نظرهم يخضع هنا لما يخضع له كل نص من أساليب الفحص الفيلولوجي والتاريخي. وليس للكتاب المقدس، فيما يقولون، مشكلات تأويلية خاصة به وإنما يتبع فيه من التأويل وشروطه ما يتبع في فحص أي نص آخر قانوني أو تاريخي أو أدبي" ([46]).
فأنت ترى أن الكتاب المقدس صار كأي كتاب آخر في القانون أو التاريخ أو الأدب، أي أنه فقد قدسيته في نظر هؤلاء أو يجب، في الأقل، أن تنحى قدسيته ليصبح بالإمكان فهمه وتأويله من خلال ذاتية قارئه وبالتركيز "على الجانب الوجودي من الفهم في تعلقه باللغة من حيث هي واقعة لا مفهوم مجرد…التأويل في دوائر اللاهوت المسيحي وثيق الصلة بما نجده في دوائر الأدب، كلاهما لا يعنيه نثر النص لتعويض ما قد ينقصه، بل يعنيه التركيز على الكلمة ذاتها بحيث تكون باب الفهم ووسيطه. اللاهوت المسيحي الجديد مثل فلسفة اللغة الجديدة تركز على الفهم من خلال اللغة وداخلها فاللغة هنا ليست مجرد أداة. لقد أصبح اللاهوت المسيحي نظرية في اللغة وفاعليتها"([47])، ومن الواضح أن هذا المفهوم متجه إلى تهميش الدين في حياة الإنسان بتحطيم قدسية ما يراه مقدساً، ومع أن مصطفى ناصف كان يعرض أراء هايدجر وكولنجود وغيرهما من الفلاسفة والمفكرين الغربيين فإن الأدباء العرب المنبهرين بكل ما هو غربي والمتطلعين إلى ما يقوله مفكرو الغرب تطلع التلميذ المبتدئ إلى أستاذ ضليع قد ساروا على هذه الخطى فظهر فيهم من لم يتورع عن الدعوة تصريحاً أو تلميحاً إلى إزاحة الدين عن حياة الإنسان وعن مهمته في قيادة تلك الحياة وإناطة هذا الدور بالشعر ([48])! وإلى رفع" الوصاية الدينية" عن النقاد وإتاحة الحرية لهم لدراسة الكتب المقدسة، ومنها القرآن الكريم، باعتباره كتباً أدبية لا غير!!
لقد كان الإسهام في إشاعة هذه العلمانية مقصوداً ومخططاً له بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي لاستنزاف قوته وطاقته الداخلية العظمى، وكان المبشرون بهذا المفهوم على قسمين: قسم يدرك بوضوح ما يترتب على هذه الرؤية من نتائج فكرية وعقائدية سلبية وهدامة بالمعيار الإسلامي، وإنهم أوغلوا في عملهم من أجل تعميق الفجوة بين انتماء الإنسان الديني والقناعات الأدبية البراقة أو التي تم التطبيل لها على أنها الذروة نضجاً وعصرية. وقد أوضح بعض هؤلاء موقفه السلبي من الدين توضيحاً جلياً في كتاباته أو لقاءاته العلنية وظل البعض الآخر يهمس به في مجالسه الخاصة. وأما القسم الآخر، وربما كان أفراده هم الغالبية العظمى، فقد أشاع العلمانية الأدبية بصورة غير مقصودة، بمعنى أنهم كانوا يسايرون التيار السائد في الساحة الأدبية دون أن يحاولوا فهم حقيقة ما يجري وما يخطط له، أو أنهم كانوا يريدون أن يثبتوا حضورهم نقاداً للأدب ودارسين له ورأوا أن تحقيق هذا الحضور لا يتم إلا بهذه المسايرة فصاروا - وكما قلتُ في البداية- مهووسين بالمجد العاجل المزيف، بالمجد المبني على اللافهم أو التعامي، والملجم بلجام من نار.

([1]) أحمد محمد علي: الادب الاسلامي ضرورة ص 122.

([2]) سيد قطب : في التاريخ فكرة ومنها ج ص 28، محمد قطب: منهج الفن الاسلامي ص 6، د. أحمد محمد علي : الأدب الاسلامي ضرورة ص 63.

([3]) سورة ق آية (18).

([4]) رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ينظر النووي: رياض الصالحين ص428.

([5]) رواه الهندي في كنز العمال 3/352، وفي 3/353 روى "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت". ط1،1970، مكتبة التراث الاسلامي ، حلب.

([6]) سورة الشعراء الآية (224-227).

([7]) سورة الانشقاق، الآية 6-12.

([8]) جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية 1/149.

([9]) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومتفق عليه ، ينظر النووي: رياض الصالحين ص29.

([10]) تراجع القصيدة في شرح ديوان الفرزدق ( لايليا حاوي) 2/353-356.

([11])الاصفهاني: الاغاني 20/423،ط1، دار احياء التراث العربي،1994.

([12]) البخاري : الادب المفرد 103-104 ، المطبعة النموذجية 1979م.

([13]) الاصفهاني: الاغاني 16/23 ط دار الكتب.

([14]) نفسه.

([15]) جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية 1/547.

([16]) الحاكم النيسابوري : المستدرك على الصحيحين 1/539 ، وقد علق عليه بقوله :" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين" .

([17]) من حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، ينظر النووي: رياض الصالحين ص223.

([18]) رواه مسلم عن ابن مسعود ، ينظر النووي : رياض الصالحين 447.

([19]) سورة البقرة الآية 261-265.

([20]) سورة النجم آية 32.

([21]) رواه الترمذي ، ينظر الشيخ منصور علي ناصيف : التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول 4/183-184 ، 1975، دار الفكر بيروت ،1975م.

([22]) ابن الجوزي : صفة الصفوة 2/56.

([23])الاصفهاني:الاغاني13/236-237.

([24]) شوقي ضيف:العصر العباسي الأول ص 169، وقد ذكر انه نقل النص من الاغاني 14/325 وما بعدها.

([25]) جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية 1: 255-256.

([26]) أبن قتيبة : الشعر والشعراء 1/363؛ و " الإل" : القرابة .

([27]) ابو هلال العسكري: ديوان المعاني 1/178.

([28]) الحاكم النيسابوري : المستدرك على الصحيحين 1/540

([29]) آل عمران آية 134.

([30]) الشورى آية 37.

([31]) ينظر الشيخ منصور على ناصيف : التاج الجامع للأصول 5/47، وينظر 5/48.

([32]) رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، ينظر النووي : رياض الصالحين ص217.

([33]) إبراهيم آية 36.

([34]) رواه البخاري ومسلم من حديث أبن مسعود رضي الله عنه ، ينظر النووي: رياض الصالحين 219.

([35])جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية 1/90-91.

([36])ابن قتيبة : الشعر والشعراء 1/305

([37])رواه البيهقي في السنن الكبرى 10/244 وقال : رواه البخاري عن عبيد الله بن موسى .

([38]) الذاريات آية 56.

([39]) إن هذا الاضطراب والقلق عامان في كل هذا الصنف ، ولا أريد أن أختصره في شخص واحد ، ولكن يمكن لنا مع ذلك أن نستأنس في هذا الشأن بالحطيئة الذي كان يخيف الناس بهجائه ويتعمد ارهابهم ليجني أموالهم ، وقد هجا كثيرين حتى إنه هجا أمه وأباه ونفسه ، فمن هجائه لأمه قوله :
تنحَّي فاقعدي مني بعيداً *** أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء مني *** ولكن لا إخالك تعقلينا
أغربالاً إذا استودعت سراً *** وكانوناً على المتحدثينا
جزاك الله شراً من عجوز *** ولقّاك العقوق من البنينا
حياتك ما علمت حياة سوءٍ *** وموتك قد يسر الصالحينا
ومن هجائه لأبيه قوله:
لحاك الله ثم لحاك حقاً *** أباً ولحاك من عمّ وخال
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي *** وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حيّاك ربي *** وأبواب السفاهة والضلال
وقال في هجاء نفسه :
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما *** بسوءٍ فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً شوّه الله خلقه *** فقُبِّح من وجه وقُبِّح حامله
ينظر : ابن قتيبة : الشعر والشعراء 1/323-324.

([40]) وراه مسلم من حديث أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه ، ينظر النووي: رياض الصالحين ص42.

([41]) البقرة آية 216.

([42])النور آية 40.

([43]) التفاتا إلى تعليقات مصطفى ناصف على هذه القضية في : نظرية التأويل ص 190، 191.

([44]) د. عماد الدين خليل : في النقد الاسلامي المعاصر ص26،27.

([45]) مصطفى ناصيف : نظرية التأويل ص18.

([46])مصطفى ناصف: نظرية التأويل ص36.

([47])مصطفى ناصف : نظرية التأويل ص37

([48])يقول أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي : إنني نبيّ وشكاك/ أعجن خميرة السقوط، أترك الماضي في سقوطه واختار نفسي/ أفلطح العصر وأصفّحه، أناديه أيها العملاق المسخ، أيها المسخ العملاق وأضحك وأبكي / إنني حجة ضد العصر. الآثار الكاملة 1/356 ؛ وينظر المصدر نفسه 1/46؛ 1/ 413 ولاحظ أن العنوان الذي اختاره لقصيدته ذو دلالة خاصة في هذا السياق وهو "الإله المميت: الخيانة"! 1/289 وغيرها . وعلق الدكتور أحمد بسام ساعي على أن هذا الاتجاه في شعر أدونيس المستمد من مصادر دينية بقوله : " وإذن فصوفيته دعوة عقلانية إباحية لا دينية، على الرغم من أنه يستمدها من مصادر قد تتسم بالطابع الديني، وهي صوفية تلغي الإله، وتجعل من الفرد إلهاً حين يتحد مع الكون فلا خالق ولا مخلوق" ينظر حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه ص511. ويعلق الدكتور ساعي في موضع آخر ص 338 على موقف الشعراء من الرموز الدينية بقوله:"فموقف الشاعر السوري الحديث –على الأغلب- هو موقف معادٍ للتراث، كثير ما نجده منصرفاً إلى تحطيمه في قصائده بشتى السبل. وهذا التحطيم يؤدي إلى استعمال الرموز التراثية العربية استعمالاً سلبياً يحطم من خلاله ما يمكن أن تحمله تلك الرموز من معانٍ مثالية … وكان تحطيمه موجهاً بشكل خاص إلى رموز الدين الإسلامي والشخصيات الإسلامية أو العربية البارزة … ورأى الشاعر الحديث في هذه الرموز صوراً للتأخر الفكري والسياسي والحضاري وللتقاليد البالية وللعقلية العربية القديمة التي يثور الشاعر عليها، إنه يسقط كل ما يشكو العرب منه في العصر الحديث من تأخر وانحطاط على تلك الشخصيات". وهذا في حقيقة الحال موقف معظم الشعراء العرب لا السوريين فقط.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 124.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 121.18 كيلو بايت... تم توفير 2.85 كيلو بايت...بمعدل (2.30%)]