تأملات في آيات من القرآن الكريم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4422 - عددالزوار : 859888 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3954 - عددالزوار : 394240 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216282 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7843 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 67 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 94 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 71 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24-08-2020, 03:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم
أ. د. عباس توفيق



سورة الفاتحة




1- سُمِّيت كذلك؛ لافتتاح الكتاب الكريم بها.



2- وتُسمى السبعَ المثاني؛ لأنها سبع آيات، ومَثاني؛ أي: تُتلى وتُكرَّر في الصلاة، فتُقرأ في كل ركعة.



3- ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 1 - 7].




أ- افتتاحُ السورة بالبسملة إرشادٌ للمُسلمين في أن يَفتَتِحوا كلَّ أفعالهم وأقوالِهم بها، وقد ورَد في الحديث الشريف: "كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ بالحمد لله، فهو أقطع"؛ "تهذيب الأسماء واللغات" (3: 70)، وحكَم الإمام النوويُّ - رحمه الله - على الحديث بأنه حسَنٌ.




ب- في البسملة فوائدُ كثيرةٌ، منها: التبرُّك - عند مَن لم يرَ أنها آية كالمالكية مثلاً - بذكرِ اسم الله تعالى وطرد الشيطان؛ لأنه يَهرُب مِن اسمِ الله، كما أن فيها مخالفةً للمُشركين الذين كانوا يَفتتِحون أمورَهم وشؤونهم بذِكر الأصنام، وفي أحسن الأحوال كانوا يقولون: باسمكَ اللهمَّ.




ج- ﴿ اللَّه اسمٌ علم للذات العليَّة - تبارك وتعالى - ويقال: إنه الاسم الأعظم.




د- ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة : 1] وهما مِن أسمائه الحسنى - سبحانه وتعالى - ومُشتقان مِن الرحمة، والرحمنُ هو المنعِم بجلائل النِّعَم، والرحيم هو المُنعِم بدقائقها، وجَمعُهما في هذه الآية المباركة وغيرها للإشارة إلى أنه - سبحانه - يُغدِق على مخلوقاته نِعَمَه جليلَها ودقيقَها، وقيل: إنَّ ﴿ الرَّحْمَنِ رحمة شامِلة وسِعَت الخلق وعمَّت المؤمنَ والكافر، وأما ﴿ الرَّحِيمِ فرحمة خاصَّة بالمؤمنين، وقيل غير ذلك أيضًا، ولا يَجوز إطلاق الرحمنِ إلا على الله - سبحانه وتعالى - بينما يُمكن استعمال الرحيم للبشَر؛ فقد قال تعالى في وصف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وتبدأ السورة المبارَكة بالبسملة المُشتمِلة على صفات الرحمة؛ لأنَّ رحمة الله سابقة، وليأنَسِ الإنسان بربِّه الذي يُقبل عليه ولا يقنَط مِن عفوِه، وسواء كانت هذه البسملة آية أم تُقرأ تبرُّكًا، فقد تكرَّر ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ منها في بداية السورة، وفي هذا التَّكرار تركيز على رحمة الله -تعالى- الواسعة الشاملة، وعلى أن الموجودات تَتنقَّل بين هذه الرحمات المُكرَّرة؛ ولذلك فإنه - جلَّ شأنه - أهلٌ لذلك الحمد الشامل ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة : 2]، وجديرٌ به.




د- والحمد أعمُّ مِن الشكر؛ لأنه تعبير عن الامتنان لما أنعم الله - تعالى - به مِن غير مسألة كالحياة والقدرات الحسية، والملَكات الذهنية، وغيرها؛ ولهذا بدأت السورة الكريمة به، وأما الشكر، فهو تعبير عن الامتنان لعملٍ طلبتَ مِن غيركَ أن يُنجِزَه أو يُحقِّقه لك ففعَل.




ثم إن قوله: ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ قد يَلفِتُ نظرَ الإنسان إلى العالَم الذي يُحسُّه محيطًا به، و ﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ يلفته إلى العالم الذي يَغيب عنه، وأن الله -تعالى- ربُّ هذا وهذا ومالكُهما، ويُوقِع إدراكُ هذه العظمة الرهبةَ في النفس، ولكن اقتران العظمة بـ ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ يُعيد إلى النفس سكينتها؛ لتُمارس دورها الذي وُجِدت مِن أجله في الحياة، وهذا الدور ذو بُعدَين؛ أولهما هو الارتباط به سبحانه ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾، وثانيهما هو الاستعانة به في شؤون العبادة وعمارة الأرض وغيرهما، وقد تقدَّمت العبادة؛ لأن الإنسان خُلق مِن أجلِها، ولتكون النِّبراس الذي يَستضيء به في تنفيذ عملية العمارة، فيؤسِّسها على هَدْي العبادة وبحسب منهجِها، والله أعلم.




هـ- ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، والأصل فيها نَعبُدك ونَستعينُك، وقد تقدَّم المفعول به الذي هو الضمير المتَّصل الكافُ، فصار ضميرًا مُنفصِلاً: ﴿ إِيَّاكَ ﴾؛ وذلك لكي يُفيد التخصيص وإفراد الله - سبحانه وتعالى - بالعبادة والاستعانة، وعدم إشراك غيره معه فيهما، وقد لا يَقتضي تأخير المفعول به - أي: القول: نَعبُدك ونَستعينُك - معنى الإفراد والتخصيص؛ إذ يَجوز العطف على الضمير المتصل في هذه الحال، كما ورد في اللغة أيضًا العطفُ على ضمير النصبِ ولكن في غير مَوضِع التقديم كقولكَ مثلاً: ما ضربتُ إلا إياك وزيدًا، ولم أرَ العطفَ على ضمير النصبِ المتقدِّمِ، والقولُ: إياك وفلانًا نَعبُد، مثلاً، بناءٌ لا يَستسيغُه الوضع اللغوي، وتَنتفي معه فائدة التخصيص بالتقديم.




و- و ﴿ استعان ﴾ فعلٌ يَتعدى بحرفٍ؛ فيُقال: استعان به، أو يتعدى بنفسه؛ فيقال: استعانه، وهو في كلا الحالين دالٌّ على طلب العون والمساعَدة، ولكن الفارق بينهما يَكمُن في أن تعدِّيه بحرفٍ يَجعله طلبًا للعون المحدود، فنقول: أستعين بالمعجم في فهم الكلمة، وأستعين بالعصا في المشي، وأستعين بك في إنجاز هذه المسألة، وهكذا، ففي هذه الحالات تكون الاستعانة بشيءٍ معيَّن في قضية محددة، وأما في حال تعدِّيه بنفسه، فيكون طلبًا للعون على وجه العموم والشمول، وقد وردَتْ كلمة ﴿ نستعين ﴾ في هذه الآية الكريمة مُتعدية بنفسِها للدلالة على هذه الشمولية في الاستعانة وفي كل أمر، ولئن قال مثلاً: وبك نَستعين، لأفاد تقديم شبهِ الجملة ﴿ بك قصرَ الاستعانة على الله سبحانه، ولكنه قصْر في أمرٍ مخصوص ومعيَّن لا في الأمور كلها على وجه العموم والشمول والإطلاق.




ز- ووردَت ﴿ نَعْبُدُ ﴾ و ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ بصيغة جمع المُتكلِّمين لا المفرد: أَعبُد وأستعين؛ وذلك اعترافًا مِن العبد بقصوره عن الوقوف في باب ملك المُلوك - جلَّ وعلا - وطلبِه الاستعانة والهداية مُفرَدًا، وكأنه يقول: أنا عبدٌ ذليل لا يَليق بي أن أقف هذا الموقف في مُناجاتك بمُفردي، بل أنا أنضمُّ إلى سلك الموحِّدين وأَدعوك معهم، فتقبَّل منّي دعائي معهم، كما أنها تَنطوي على تنمية رُوح الانتماء الجماعي للمسلمين؛ فهم ليسوا فرديِّين، بل جماعيُّون؛ فهم في صلاتهم جماعة، وفي دعواتهم يُشركون الجماعة معهم، وفي شؤونهم العامة مُتعاوِنون ومُتضامِنون، وكما أنَّ هذه الرُّوح الجماعية حاضرةٌ في العبادة وفي عمارة الأرض، فكذلك فإنها حاضرة في طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، وقراءة القارئ مُنفرِدًا أو ضمنَ مجموع دعاء؛ لكي يكون هو ومَن معه، أو مَن يتخيلهم معه عندما يُصلي مُنفردًا مثلاً، على الصراط الذي هُدِيَ إليه الأبرار، والذي يأمَن سالكوه مِن عذاب ﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24-08-2020, 03:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم
أ. د. عباس توفيق


(سورة البقرة)


1- ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7].


تُشير الآية الكريمة إلى القلب والسمع والبصر باعتبارها الحواس أو الوسائل الأساسية في المَعرِفة لدى الإنسان، ولنا مع هذه الآية بضع وقفات:
أ- إن الله -تعالى- كنّى بالقلب عن العقل الذي هو مناط التكليف؛ لأن العقل - كما يُمكِن أن يُظنَّ - ليس هو دماغًا باعتباره كتلة ضابطة وحسب؛ بل هو مزيج مِن عمل هذه الكتلة ومن الشعور، فما يَعتري الإنسان يتولى الدماغ تحليله، ولكن القلب هو الذي يتحسَّس نتائج التحليل، وكأنه هو المَوضِع الفعلي للإدراك.


ب- إن السمع والبصر هما الوسائل الأساسية الأولى في استِحصال المعرفة؛ فهما اللذان يَستجمِعان الإشارات ويَبعثان بها إلى القلب، ويَقتضي هذا التنظيم أن يكون ترتيب القلب في التسلسل تاليًا، غير أن ذكره تقدَّمَ في هذه الآية المباركة؛ لأنه وإن كان الوعاء المُستقبِل لإشارات السمع والبصر، إلا أنه أعلى منهما مقامًا؛ فلولا عمله في تحليل تلك الإشارات وربط بعضها ببعض لما كان هناك استخلاصٌ لإدراكٍ واحدٍ أو كلِّي؛ فالقلب مِن الأسرار التي يختصُّ بها الإنسان، ويقوم السمع والبصر على خدمته، ويُصبِحان وسيلتَين لنقل المحسوسات إليه، ومِن ثَمَّ فإن مقامه أعلى ويَستحِق التقديم في هذا الموضع، على حين أن ذِكْره يَرد آخرًا في سورة الإسراء: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36]؛ لأن هذه الآية في سياق بيان المسؤولية، فتتدرَّج في بيان مقامات هذه الأعضاء ابتداءً من الأدنى وصعودًا إلى الأعلى، فلو كُفَّ السمع والبصر عن المَحارم لأمِن القلب عن كثير من الآثام.


ت- وردَت القلوب والأبصار في الآية الكريمة بصيغة الجمع، بينما ورَد السمع بهذه الصيغة التي تحتمل الجمع والإفراد معًا، وإذا ما أخذناه على أنه جمع فإن الصيغة تتَّفق في العناصر الثلاثة، ولكننا إذا نظرنا إليه على أنه مُفرد فسنكون إزاء التفاتة بلاغية، وهي أن المسموع واحد ولكن السامعين قد يختلفون في تأويل هذا المسموع أو إدراكه أو القدرة على ذلك التأويل والإدراك، ولأن المسموع واحد فإن المناسب هو حَملُ السمع على صيغة الإفراد، ولأن تأويله متعدِّد ومتنوِّع فإن المتناسب في هذه الحال هو حَملُ السمع على صيغة الجمع.


والحال كذلك بالنسبة إلى الأبصار، فالشيء المرئي واحد، ولكن رؤية الناس له متباينة بسبب اختلاف زاوية الرؤية أو اختلاف إدراك ما يُرى، وقد لا يُتَّفق على كنهٍ واحد لذلك الشيء المرئي وإن كان هناك تقاربٌ في وصفه؛ فما يراه أحدهم جميلاً أو قبيحًا - على سبيل المثال - قد لا يحظى بالوقع ذاته في نظر آخر، ولئن اتَّفق الناظران على عمومية الجمال أو القبح فقد يَختلفان في مداهما ودرجتهما، وهكذا. وكذلك الحال بالنسبة إلى السمع، فعندما يرى إنسانٌ ما أحدهم يتكلَّم، فإن أذنه تلتقِط ما تلتقطه آذان الآخرين من الكلام ذاته، ولكنه قد يختلف عنهم في استقبال إشارات أخرى، بعضها بصريٌّ كقراءة الوجه وحركات الجسد، وبعضها سمعي كنبرات الصوت، وهي جميعًا تمنَح المسموع ظلالاً إضافية، ويكون الفهم مبنيًّا على كل هذه المعطيات ومدى الالتفات إليها، ولعلَّ ذلك يكون واحدًا مِن أسباب اختلاف السامعين في إدراك مغزى الكلام الذي يَسمعونه، ولأنَّ الحال كذلك فإن الأبصار بصيغة الجمع، وكذلك السمع باعتباره جمعًا، تُناسِب المقام.


2- ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 - 33].


وعن معنى قوله تعالى: ﴿ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ وردَت روايات مختلفة، ومِن هذه الروايات أنها تدل على اسم كل ما في الوجود لم تُغادِر منه شيئًا، سواء كان كائنًا حيًّا أم لم يكن؛ "جامع البيان للطبري" (1: 310)، وسواء كان جليلاً أم حقيرًا؛ "الجامع لأحكام القرآن للقرطبي" (1: 296)، وأما ما ارتآه آخَرون، فمفاده أن الله -تعالى- علَّم آدم أسماء الملائكة وأسماء ذريته كلها، بينما اختار الربيع بن خُثيِّم أن التعليم كان بأسماء الملائكة خاصة؛ "الطبري" (1: 310)، ومردُّ الاختلاف إلى التركيب اللغوي واستعمال الضمير؛ فقد استحسن الطبري الرأي القائل: إن التعليم كان بأسماء ذرية آدم وأسماء الملائكة دون أسماء سائر أجناس الخلقِ؛ لأنَّ الله -تعالى- قال: ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾، ولم يقل عَرضَها أو عَرضَهنَّ؛ لأن العرب لا تَكاد تُكنِّي بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، وأما إذا أرادت أسماء البهائم وسائر الخَلقِ فإنها تُكنِّي عنها بالهاء والألف، أو بالهاء والنون، فتقول: عرَضهنَّ أو عرَضَها، وأنَّ هذا هو المُستفيض في كلامهم على الرغم مِن جواز استعمال الضمير ﴿ هم ﴾ للمجموع من الخلائق العاقلة وغير العاقلة، وقد استدلَّ الطبري على هذا الجواز بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [النور: 45].


ومالَ القُرطبي إلى الرأي الآخَر لما يقتضيه لفظ ﴿ كُلَّهَا ﴾ الدالة على الإحاطة والعموم، غير أنه لم يكتف بتوجيه اللفظة لُغويًّا بل عزَّزه بالحديث الذي رواه البخاري عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ قال: ((ويَجتمِع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيَدِه، وأسجدَ لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء))؛ صحيح البخاري حديث رقم: (4476)، وذكر أن ابن عباس قال: علَّمه أسماء كل شيء حتى الجَفنة والمِحلَب، وأورَد أن شيبان روى عن قتادة قال: "علَّم آدم مِن الأسماء أسماءَ خلقه ما لم يعلِّم الملائكة، وسمَّى كل شيء باسمه، وأنْحى منفعةَ كلِّ شيء إلى جنسه"، قال النحاس: "وهذا أحسن ما رُوي في هذا"، والمعنى: "علَّمه أسماء الأجناس وعرَّفه منافعها: هذا كذا وهو يصلح لكذا"؛ (القرطبي 1: 296).


ولم يغبْ هذا التعميم بطبيعة الحال، وخاصة ما ذُكر عن ابن عباس، عن الطبري، بيد أنه أرجع ذلك إلى أن الآية في حرف ابن مسعود: "ثم عرضهنَّ" وأنها في حرف أُبيٍّ: "ثم عرضها" وأن ابن عباس كان يقرأ قراءة أُبيٍّ (الطبري 1: 311)، ويَستنبِط رأيه منها.


ففي الآية الكريمة ﴿ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾ ضميران هما: ﴿ ها ﴾ وهو لغير العاقل، ويَعود على الأسماء، و﴿هم﴾، وهو للعاقل، ووقع التساؤل عن العَرْض هل كان لشخوص الأشياء أم لأسمائها؟ ويَبدو مِن إيراد ضمير العاقل أن العَرض كان للشخوص ذاتها، ولكن سؤالاً آخَر أُثيرَ وهو: هل كانت هذه الشخوص ملائكة وبشرًا فقط أم كانت معهما مخلوقات أخرى؟ وكما رأينا مِن قبل؛ فقد مال الطبري إلى أنها كانت أسماء الملائكة وأسماء ذرية آدم، ومالَ القُرطبي إلى أن العَرض كان لشخوص كل شيء، وكذلك كان رأي الزمخشري قبله إذ قال: "أراه الأجناس التي خلقَها، وعلَّمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلَّمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية"، "تفسير الكشاف" (1: 129 - 130) بترتيب وضبط محمد عبدالسلام شاهين، دار الكتب العلمية لبنان، 1995 ط 1، وقد ردَّ سبب استعمال الضمير المذكَّر إلى تغليب العقلاء في التعبير عن هذا المزيج المنوع من الأجناس.


وأحسب أن رأي الربيع بن خثيم بقصْر الأمر على الملائكة هو الأقرب للصواب، وأن ما عُرض على الملائكة هو الملائكة الآخرون، وأن ما طُلِب منهم الإجابة عنه هو بيان أسمائهم، وهذا ما سأعود إليه بعد قليل، وليس في قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((وعلّمكَ أسماء كلِّ شيء))، ما يُشير إلى كل صغيرة وكبيرة وبيانِ ماهيَّتها ومنافعها، كما رُوي عن قتادة واستحسنه النحاس، وإن هذا لا يعدو كونه تأويلاً لمنطوق الحديث وتفصيلاً له، والقول مثلاً: "كل الناس أقبلوا مِن هذا المكان" لا يعني أن الناس جميعًا أولَهم وآخرَهم، ومَن كان منهم في المشرق أو في المغرب، أقبلوا من هذا المكان، وإنما العبارة للإنباء عن شيوع الإقبال أو كثرة مَن أقبل، وكذلك ((وعلَّمكَ أسماء كل شيء)) فإنها للدلالة - والله أعلم - على سعة المعرفة، لا على التفصيلات التكوينيَّة لهذه المَعرِفة.


وإذا أخذنا بالقول:
إن الملائكة عجَزوا عن الجواب؛ لأنهم لم يكونوا يعهدون ما عُرض عليهم من مخلوقات وأدوات وأسماء ذرية آدم وغيرها، فعلى أي أساسٍ إذًا قبِلوا بما أنبأهم به آدم - عليه السلام؟ أي إذا كانوا لا يعرفون تلك المخلوقات ولا يعرفون أسماءها أو سُبُل الانتفاع بها، ولا يعرفون أسماء ذرية آدم، ولم تكن لهم وسيلة يتحقَّقون بها مِن صحة ما سيُخبِرهم به آدم - عليه السلام - فكيف إذًا سلَّموا أن الأسماء التي ذكرها آدم لهم صحيحة وألزموا أنفسهم الحُجة؟


ولا يبدو الرأي القائل بعرض كل شيء مُقنعًا؛ لأنه رأيٌ قائم على أن الملائكة كانوا يَجهلون أشياء كثيرة، وأنهم أقرُّوا لآدم بالعلم مِن غير أن يُمحِّصوا ما قدمه لهم، وكِلا الأمرين مبنيٌّ على انعدام المعرفة الحقيقية، وحُجَّة الله -تعالى- لا تقوم على الجهل، والذي أحسبه في هذا الصدد أن الله تعالى وهو ﴿ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ أتاح لملائكته معيارًا محدَّدًا يَحتكمون إليه في التثبُّت مما قُدِّر لهم أن يسمعوه في ذلك الاختبار، وهذا المعيار هو أسماؤهم الشخصية، ولعلَّ الملائكة كانوا يَعرفون أسماءهم الذاتية وأسماء عدد من أقرانهم، ولكنهم - والله أعلم - ما كانوا يعرفون اسم كل ملك، ولهذا فإن العملية اقتصرت عليهم وأن الله -تعالى- سألهم أن يكشفوا له عن معرفتهم بشخصيات بعضهم بعضًا بذكر الأسماء، وللدلالة على ذلك ورَد اسم الإشارة "هؤلاء" الذي هو للعاقل القريب فقال ﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ ﴾، ولئِن كان المسؤول عنه خليطًا منوَّعًا مِن الكائنات الحية وغير الحية والأشياء لقال: أنبئوني بأسماء هذه، مثلاً، ولأنَّ علم الملائكة كان محدودًا بما علَّمهم الله تعالى فقد ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾، فأظهروا أنهم ذوو علمٍ ولكنَّ عِلمهم لم يكن ليسع ما سُئلوا عنه، وعندئذ طلب الباري - عز وجل - من آدم، وهو واحدٌ أمام جموع الملائكة وهم كثير، أن يفعل فعرَّف كل ملك بنفسه، ﴿ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، إن الضمير "هم" يعود على الملائكة، فـ ﴿ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ ﴾؛ أي: يا آدم أنبئ الملائكة ﴿ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾؛ أي: بأسماء الملائكة، ومعنى هذا: أنبئ الملائكة المستمعين الماثلين أمامك بأسمائهم ممَّن يَعرفون وممن لا يَعرفون من الملائكة الآخرين، وأما ربط الضمير "هم" في ﴿ أَنْبِئْهُمْ ﴾ بالملائكة وفي ﴿ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾ بسائر المخلوقات والأشياء فإنه يتسبَّب في إرباك الفهم.


إن آدم الذي نُفِخت فيه الروح توًّا ولم يَسبِق له أن رأى الملائكة قبل تلك الساعة، ولم يُتوقَّع منه أن يعرف أسماءهم أخبرَ كلَّ ملَكٍ باسمه، وقد كان في هذا مدعاة لكي يتيقَّن كل ملَك مِن أنَّ الأسماء التي طرقت سمعه لأول مرة والتي كان يَجهلها قبلئذٍ صحيحة وحقيقية بعد أن تبيَّن له أن اسمه الشخصي وأسماء "معارفه" مِن الملائكة الآخرين قد ذُكرت بشكل صحيح، وبهذا القياس - وهو مِن وسائل العلم - أقرَّ الملائكةُ لآدم بالفضل، وألزموا أنفسهم الحُجة، فقال سبحانه: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، ولأنهم أبرارٌ فقد استخلصوا من هذه الواقعة ما زادَهم طاعةً فاستجابوا لأمر الله -تعالى- لهم بالسجود لآدم - عليه السلام - بينما صَرفَ إبليسُ نفسَه عن هداية هذا العِلم فأبى السجود تكبُّرًا وعُلوًّا.


3- ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 49].

وقرئت: يذبِّحون بالتشديد، وهي قراءة الجمهور، وبالتخفيف: "يذْبَحون" وهي قراءة ابن محيصن، والقراءة الأولى أولى وأرجح؛ "تفسير القرطبي (1: 393)، وذبَّحه كذبَحَه، ولكنه بالتشديد يدل على الكثرة، وبالتخفيف يصلح أن يكون للقليل والكثير، ومعنى التكثير أبلغ؛ "لسان العرب"، (مادة: ذبح)، كما أن في التشديد ظلاًّ للقسوة لا يعكسها التخفيف.

وقال: ﴿ نِسَاءَكُمْ ﴾ ولم يقل: بناتكم؛ لأن البنات داخلة في النساء أو باعتبار ما يكون إذ يؤول أمر البنات إلى أن يَصرْنَ نساءً، وهذا من علاقات المجاز المرسل في البلاغة، ولأن مِن شأن ذكر النساء استنهاضَ حمية الرجال وتذكيرًا لأولئك القوم بجميل فضل الله عليهم؛ إذ نجَّاهم مما كان من شأنه أن يمسَّ كرامتهم.

4- ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87].

فقد عطَف الفعل المضارع ﴿ تَقْتُلُونَ ﴾ على الفعل الماضي ﴿ كَذَّبْتُمْ ﴾، وهذا قد يكون لإرادة الحال الماضية، ولكن فظاعة الأمر تَستوجِب استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، أو أن المراد هو أن فريقًا تَقتلونهم فيما بعد؛ لأن المخاطبين - وهم اليهود - كانوا يَحومون حول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يبتغون قتله؛ "الكشاف للزمخشري" (1: 163)، ولئن قال مثلاً: وفريقًا قتلتم - بصيغة الماضي - فإن ذلك كان يبرِّئ اليهود من محاولاتهم المتكرِّرة المعروفة في التاريخ لاغتيال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم.

5- ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91].


فقد دلَّ بقوله: ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ على أن الفعل قد مضى، ولكن: ﴿ لِمَ تَقْتُلُونَ ﴾ دال على المستقبل. ورأى بعض البصريين من علماء العربية أن المعنى هو فلمَ قتلتم، وأورَدوا شواهد على استعمال الفعل المضارع للدلالة على حدثٍ ماضٍ؛ كقول الشاعر، وهو مِن شواهد سيبويه:
ولقد أمرُّ على اللئيم يَسبُّني
فمضيتُ عنه وقلتُ: لا يَعنيني


يريد: ولقد مررتُ بدلالة الفعل الماضي القادم: فمضيتُ، أو أنَّ "فعل، ويفعل" قد يشتركان في معنى واحد؛ كقول الطرماح:
وإني لآتيكم تشكُّرَ ما مضى
مِن الأمر واستيجاب ما كان في غَدِ


أي: ما يكون في غد، وكقول الحطيئة:
شَهِد الحُطَيئة يوم يلقى ربَّه
أنَّ الوليد أحقُّ بالعُذرِ


أي: يشهد الحُطيئة "تفسير الطبري" (1: 590).
غير أن بعض نَحوييِّ الكوفة قاسوا الجمع بين الماضي والمضارع ببعض الصيغ المضارعة المستعملة في الكلام وفي الشعر ودلالاتها على الماضي، كقولك: لمَ تفعل كذا وكذا، فهذا على تقدير أنه قد حصل. ومثله: "إذا نظرتَ في سيرة عمر لم تجده يُسيء"، والمعنى: لم تجده أساء، فلما كان أمر عُمر لا يُشَكُّ في مضيِّه لم يقع في الوهم أنه مستقبَل، فلذلك صلحت ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ مع قوله: ﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ؛ "تفسير الطبري" (1: 591).


كما أن ﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَخطاب لمن عاصر التنزيل مِن اليهود، ولم يكونوا هم مَن قتل الأنبياء، بل إن مَن اقترف الجناية هم سابقوهم، وإنما جاز توجيه الخطاب إلى المُعاصِرين منهم بالصيغة المُنبِئة عن أنهم هم الذين قَتلوا؛ لأنهم كانوا يتولون أسلافهم ويرضون فعلهم فصاروا بمنزلتهم ونُسب القتل إليهم؛ "تفسير القرطبي" (2: 34).


6- ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111].


فقد قال: ﴿ كَانَ ﴾ بصيغة المفرد، ثم قال: ﴿ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ بصيغة الجمع، ومردُّ ذلك إلى أن ﴿ كَانَ ﴾ جُعل واحدًا بالالتفات إلى لفظ ﴿ مَنْ ﴾ وأن ﴿ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ ورَدا جمعَين ليتناسبا مع معنى ﴿ مَنْ ﴾ الذي هو جمعٌ؛ "تفسير القرطبي" (2: 81 - 82)، "الكشاف للزمخشري" (1: 176).

7- ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ [البقرة: 144].

وتدلُّ "قد" عند النحويين على التحقيق إن تَبِعها فعلٌ ماضٍ، وعلى التقليل والاحتمال إن جاء بعدها فعل مضارع، غير أن هذا لا يستقيم مع استعمالات القرآن الكريم، فليس المراد بالآية: ربما نرى، بل المراد هو: نرى على وجه التأكيد، ومِن ثمَّ فإن ورود "قد" في القرآن الكريم هو للتحقيق بصرف النظر عن الفعل الذي يليه، وعلاوة على ذلك فقد يأتي الفعل المضارع بعد قد ومعناه ماضٍٍ، كما رأينا في شاهد سيبويه في الفقرة 5: ولقد أمرُّ؛ أي: مررت، وعلى هذا فالمعنى هو: قد رأينا، وقد حافظ الزمخشري على الدلالة النحوية لـ"قد" بحسب الفعل الذي يتبعه، أي إعطاء معنى الاحتمال للنصِّ إذا تلاها فعلٌ مُضارع، ولكنه أوَّل الآية بكثرة الرؤية فقال: "قد نرى ربما نرى، ومعناه كثرة الرؤية"، ويرى أن هذه الصيغة واحدة " مِن المواضِع التي تبالغ العرب فيها بالتعبير عن المعنى بضد عبارته"؛ "تفسير الكشاف" (1: 200).

8- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168].


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].


"وهاتان الآياتان مُتماثلتان في التوجيه إلى تناول الحلال الطيب والتنكب عن المحرَّم، وعن تحريم المحلل، و"مِنْ" تبعيضيَّة، وهي في الآية الأولى تنبِّه إلى أن ليس كل ما في الأرض بمأكول"؛ "الكشاف (1: 211)، وفي الثانية تدعو إلى الانتقاء أو الاكتفاء.


والخطاب في الآية الأولى للناس عامة، وقد رُوي أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مُدلح فيما حرَّموه على أنفسهم من الأنعام؛ "تفسير القرطبي" (2: 213)، ولأن أولئك حرَّموا ما أحلَّ الله -تعالى- كان مِن المناسِب التعقيب على فعلهم بـ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾؛ لأن الفعل الذي قاموا به مِن إملاءات الشيطان الذي يُريد حرمان الإنسان مما أباحه المولى له، فالآية الأولى تدعو إلى الأكل مما في الأرض من الحلال، بينما تتَّجه الآية الثانية للمؤمنين وتدعوهم إلى أن يأكلوا مِن طيبات ما رزَقهم الله تعالى، وقد ورَدت "مِنْ" التبعيضيَّة مع الطيبات؛ أي: إن الله -تعالى- لم يقلْ لهم: كُلوا طيبات ما رَزقناكم، ومردُّ هذا - والله أعلم - إلى أن المؤمنين هم صفوة الناس فلا بدَّ لهم أن يَختاروا مِن الحلال صفوته، ثم أن يؤدُّوا شكر ذلك، ولربما تَنطوي الآية على التوجيه بتقليل الطعام أو بعدم تسهيل كلِّ ما هو مُتاح، ولعلَّ ما نُسِب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يَتماشى مع هذا الفهم حين قال ما معناه: "كنا نتجنَّب ما لا بأس فيه مخافة أن نقع فيما فيه بأس".


9- ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 249].


وفي هذه الآية يُحذِّر طالوت جنوده من الابتلاء بالنهر، وحدَّد العاصين بالذين سيَشربون منه، ولكي يكون التأكيد واضحًا وصارمًا؛ فقد قال ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾، واختار لفظ الطَّعمِ؛ لأنه بمعنى الذوق، وهو أدنى حالات الاقتراب مِن الماء، فنفْيُ الطعمِ يستلزم نفْيَ الشربِ، ولكن نفي الشرب لا يمنع من الطعم، ولهذا فقد كان الأمر حاسمًا والاختبار شاقًّا، ثم إنه خفَّف عن جنده بأن أباح لهم أن يَغترفوا منه غرفة واحدة، ولا شك في أن هذا الاغتراف يَنطوي على الذوق، فقد تدرَّج مع جنده مِن المنع الباتِّ، وحتى مِن الذوق إلى الاغتراف بغرفة واحدة باليد كنايةً، ربما عن أخذ أقل ما يمكن، ولا شك أن في هذه الصرامة بناءً للجند على الانضباط وتحمُّل المشاقِّ التي تُصاحب الحروب، والحروب لا ينفَع معها التراخي والتهاون والاستِسلام للضعفِ.


وقد ذكر القرطبي أن هذا الجزء مِن الآية دلَّ على أن الماء طعام "وإذا كان طعامًا كان قوتًا لبقائه واقتيات الأبدان به، فوجب أن يَجري فيه الربا"؛ "تفسير القرطبي" (3: 249).


10- ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].


ومدار الآية على الرِّبا ولكنه ذكَر أن مُستحلِّيه يُشبِّهون البيع به، وكان مِن المُنتظَر أن يَقولوا: إنَّما الربا مثل البَيع، فكما أن البيع حلال فكذلك الرِّبا؛ أي إن البيع صار مُشبهًا بينما كان المُنتظَر أن يكون مُشبهًا به، وقد يكون هذا تشبيهًا مقلوبًا بحسب علم البلاغة؛ بدعوى أن البَيع هو عين الرِّبا، وما دام البيع مقبولاً فإن الربا تبعٌ له في القَبول، وللإمام أحمد بن منير الإسكندري تَخريجٌ يَكاد يُشابه هذا حين قال: "إنه متى كان المطلوب التسوية بين المُحلِّين في ثبوت الحكم، فللقائل أن يسوِّي بينهما طردًا فيقول: الربا مثل البيع، وغرضه من ذلك أن يقول: والبيع حلال فالربا حلال، وله أن يسوِّي بينهما في العكس فيقول: البيع مثل الربا، فلو كان الربا حرامًا كان البيع حرامًا، والأول على طريقة قياس الطرد، والثاني على طريقة قياس العكس ومآلهما إلى مقصد واحد"؛ هامش رقم: 1 في "تفسير الكشاف" (1: 316).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 24-08-2020, 03:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم
أ. د. عباس توفيق



سورة آل عمران


1- ï´؟ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ï´¾ [آل عمران: 3، 4].


وقد ورد في هذه الآيةِ الكريمة فعلانِ، هما: ï´؟ نَزَّلَ ï´¾ و ï´؟ أَنْزَلَ ï´¾، واقترنت الصيغةُ الأولى "نَزَّلَ" بالقرآنِ الكريم، وتعني التنزيل مرة بعد مرة، وهذا هو المناسب للقرآنِ الذي نزَل منجَّمًا، وعلى فترات شتى، وأما التوراةُ والإنجيل، فقد نزلا دفعة واحدة، فصار "أنزل" متوافقًا معهما؛ (تفسير القرطبي 4/ 9، الكشاف 1/ 331).


وأما الفرقان الذي هو من أسماء القرآن - كما هو معلوم - فقد ورد "َأَنْزَلَ" المناسبُ لِما نزل دفعةً واحدة، وسبب ذلك أن المرادَ بالفرقان هو دلالتُهُ الوصفية المفرِّقة بين الحقِّ والباطل، وقد فُصِل بينهما بمجردِ نزول القرآن الكريم، لا باكتمالِ نزوله، ولم يكن ذلك التفريقُ متدرجًا أو منجَّمًا، وكذلك الحال فإن الآياتِ المحكَماتِ والمتشابهات تقترنُ هي الأخرى بـ: "أَنْزَلَ"؛ إذ لا تدرُّجَ فيها.


وقال ابنُ منظورٍ: "وتنزَّله وأنزله ونزَّله بمعنًى، قال سيبويه: وكان أبو عمرٍو يفرِّقُ بين "نزّلت، وأنزلت" ولم يذكُرْ وجهَ الفَرْق، قال أبو الحسنِ: لا فرق عندي بين "نزّلت، وأنزلت" إلا بصيغةِ التكثيرِ في "نزّلت"، في قراءة ابن مسعود: وأنزل الملائكةَ تنزيلاً، أنزل: كنزَّل"؛ (لسان العرب، مادة: نزل).


ومنه قوله - تعالى -: ï´؟ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ï´¾ [الإسراء: 106]، وأما قوله - تعالى -: ï´؟ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ï´¾ [القدر: 1]، فهو للإشارة إلى إنزال القرآنِ جملةً واحدة إلى السماءِ الدنيا، ومن ثم نزوله بعد ذلك منجَّمًا، وبحسَب المناسبات، ولربما حُمل "أَنْزَلْنَاهُ" على هذا أينما ورد في القرآنِ الكريم، أو على التأويل الذي كان لـ: ï´؟ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ï´¾ [آل عمران: 4].


2- ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ï´¾ [آل عمران: 10].


فالآيةُ بصدد أن الكافرَ لا ينفعُه مالٌ ولا بنون، وعلى افتراض أنه يرغبُ في الافتداءِ من العذاب، فإنه يتدرَّج في بذل النفيس تبعًا لحساباته هو، فيعرِض أولاً ما يمكنُه التضحية به، فإن لم ينفعْ، قدَّم الأغلى الذي يزداد حرصُه عليه، والمرء يفتدي أولاده بماله؛ لأن الأولادَ أهمُّ في نظره؛ ولهذا فإن الآيةَ الكريمة تبيِّن حالةَ الكافر يوم القيامة، فهو يدَّخرُ ولدَه، ويبذُلُ مالَه أولاً ليفتديَ به من العذاب، وإذ يراه غيرَ مُغْنٍ، فإنه يدفَعُ ولَدَه الذي هو أعزُّ من المال؛ ولهذا ورَدَ الترتيبُ على هذا النحو "أَمْوَالُهُمْ" أولاً، ثم "أَوْلَادُهُمْ": ï´؟ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ï´¾.


وينسجم هذا العرضُ وبطريقة عكسيةٍ مع الترتيب الذي ذكره القرآنُ الكريم لشهوات الإنسان، مبتدئًا بالأقوى، وتدرَّج نزولاً، فقال - سبحانه -: ï´؟ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ï´¾ [آل عمران: 14]، ويعكس هذا الترتيبُ وجهةَ نظر الإنسان إذا جاز التعبير؛ فهذه المحبوباتُ مرتَّبة بحسَب أولويتها لديه، وليس الترتيبُ على هذا النحوِ عند الله تعالى، فهو - سبحانه - بدأ بالأدنى، وتدرَّج صعودًا في وعدِه للصالحين من عباده؛ فقد وعَدَهم الجنةَ، التي هي أصلُ النعيم الحسي كله، بتفاصيلَ مجهولةٍ، مع ما فيها من ذكرٍ لـ: ï´؟ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ï´¾ [آل عمران: 195] و ï´؟ أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ï´¾؛ لكي يتخيلَ المستمعُ كلَّ ما يمكن أن يخطرَ بباله بشأنها، ونيلُ الجنة لا يكونُ بغير رضا اللهِ تعالى، ومن ثم فإن ترتيبَه - سبحانه - يبدأ بالرضا الذي لم يُصرحْ به، وإنما ذُكرتْ آثارُه مجمَلاً، وبعد ذلك ذكر الرضوان صراحةً ليكونَ النعيمُ بين رِضوانين؛ فتزدادَ بهجتُه، ويزدادَ السرورُ به؛ فقال - سبحانه -: ï´؟ قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ï´¾ [آل عمران: 15]؛ فالجنةُ هي الأُولى في الترتيب، ونعيمُها هو الثاني، وهما مِن ثمارِ الرِّضا، ثم الرِّضوان الذي هو الثالث في الترتيب، وهو الأعلى والأهمُّ.


3- ï´؟ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ï´¾ [آل عمران: 13].


أ- لم يقل: كانت لكم آية، لأن "آَيَة" مؤنَّثٌ مجازيٌّ، فيجوزُ في فعله التذكيرُ والتأنيثُ، وقال الفراء: إن تذكيرَ الفعل مردودٌ إلى أن "كَانَ" واسمَها الذي هو "آَيَةٌ" لم يَرِدا متعاقبينِ، بل حصل بينهما فصلٌ بالصفةِ التي هي "لَكُمْ"؛ (تفسير القرطبي 4/ 28 - 29).


ب- يمكنُ أن يعودَ الضميرُ "هم" في "يَرَوْنَهُمْ" إلى الكافرين، وفي "مِثْلَيْهِمْ" إلى المسلمين؛ ليكون المعنى أن المسلمين رأَوْا أنَّ عددَ الكافرين هو ضِعفُ عددِهم هم؛ أي: إن المسلمين الذين كان عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلاً، رأَوا أنَّ عدد الكافرين هو في حدود ستمائة وثلاثين، وقد يكون العكس، فيكون المعنى أن الكافرين رأوا المسلمين ضِعْفَ عددهم الحقيقي؛ أي: ستمائة وثلاثين مقاتلاً تقريبًا، أو أنهم وقد كان عددهم قرابةَ ألفٍ رأوا المسلمين ضِعْفَ عددهم هم؛ أي: إنهم رأوا المسلمين ألفين، وهذا المعنى هو المنسجم مع المدد الإلهي ومع: ï´؟ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ï´¾، فهذا النصرُ كان بإلقاء الخوف في قلوب الكافرين؛ بشعورهم بعدم توازن العدد في مقاتليهم لمقاتلي المسلمين، وقد ذكَر القرآنُ الكريم الواقعة مرة أخرى في سورة الأنفال فقال - سبحانه -: ï´؟ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ï´¾ [الأنفال: 44]، ويتلاءم تقليلُ الكافرين في أعين المسلمين مع التأويل الأول للآية؛ أي: واحد إلى اثنين، وليس واحد إلى ثلاثة، وأما ï´؟ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ï´¾، فقد وفَّق الزمخشريُّ بينه وبين تأويل التكثيرِ بقوله: "فإن قلتَ: فهذا مناقض... قلتُ: قُلِّلوا أولاً في أعينِهم حتى اجترؤوا عليهم، فلما لاقَوْهم كثُروا في أعينِهم حتى غُلبوا، فكان التقليلُ والتكثيرُ في حالَيْنِ مختلفينِ"؛ (تفسير الكشاف 1/ 336).


ج- ï´؟ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ï´¾، وقرأ الجمهور "فِئَةٌ" بالرفع؛ أي: إحداهما فئةٌ، فتكون خبرًا، أو تكون مبتدأً محذوفَ الخبر، على تقدير: منهما فئةٌ، وقرأ الحسنُ ومجاهد "فئةٍ، وأخرى كافرةٍ" بالخفضِ على البدلِ؛ (تفسير القرطبي 4/ 29).


وأما الطبريُّ، فإنه أقرَّ بجواز القراءة على الخفض، وكذلك على النَّصب على أنها حالٌ، إلا أنه لم يستجِزِ القراءةَ بغير الرفع؛ لأن الحجةَ من القراء اختاروا الرفع؛ (تفسير الطبري 3/ 264).


4- ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ï´¾ [آل عمران: 21، 22].


قوله - سبحانه -: ï´؟ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ï´¾؛ أي: كانوا يقتلونهم، وكانوا يقتُلون الآمِرِين بالمعروف، الناهين عن المنكر، "فإن قال قائلٌ: الذين وُعِظوا بهذا لم يقتلوا نبيًّا، فالجواب أنهم رضُوا فعلَ مَن قتل، فكانوا بمنزلته، وأيضًا فإنهم قاتلوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابَه، وهمُّوا بقتلِهم"؛ (تفسير القرطبي 4/ 50).


ومع أن هذه الآيةَ مخصوصةٌ بحالة متعلقة ببني إسرائيل، إلا أنَّ مِن شأنها أن تصبحَ ذاتَ دلالةٍ عامة؛ فالذين قتَلوا الأنبياء اقترفوا فعلاتهم لعلهم يُسكِتون صوت الحق، وإن مَن يحارب مناهجَ الأنبياء بملاحقة الآمِرِين بالقسط، إنما يسعَوْن إلى قتلِ أرواح الأنبياء، ولا يختلفون عن السابقين الذين قتلوا "أشخاص" الأنبياء.


والآمِرُون بالقسطِ موجودون في كل زمان ومكان، وما يتعرَّضون إليه من أذى لا ينقطع باختلاف الأزمنة؛ ولهذا فقد كان من المناسبِ الإتيانُ بالفعل المضارع "يكفرون، ويقتلون، ويأمرون" الدالِّ على التجدُّد والحدوث، ولم يقترنْ أيٌّ من هذه الأفعال في هذه الآية بأيةِ قرينةٍ صارفةٍ للمعنى إلى الزَّمن الماضي؛ لكيلا يُظنَّ أن تلك الحالةَ انقضت ولم يعُدْ لها وجود، ولكن جزاء المحاربين لدينِ اللهِ هو أنْ ï´؟ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ï´¾، وهذا الجزاء سيكونُ في المستقبل بطبيعةِ الحال، ولكن "حَبِطَتْ" وردَتْ بصيغةِ الماضي؛ للإشارة إلى أن هذا الخسرانَ يقينٌ تامٌّ كالماضي الذي ليس للمرءِ شكٌّ فيما شهِدَ فيه.


5- ï´؟ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ï´¾ [آل عمران: 42، 43].


أ- كرَّر "اصطفاك" لاصطفائِهِ إياها لعبادتِهِ، ولاصطفائه إياها بأنْ وهَبَها عيسى - عليه السلام - مِن غير أبٍ، وهو ما لم يكُنْ لأحدٍ من النساء؛ (تفسير الطبري 3/ 357، تفسير القرطبي 4/ 88، الكشاف 1/ 355)، وتكرَّر ذكرُ مريمَ؛ ليتناسبَ مع تكرار اصطفاك، أو أن هذا الاصطفاء يتطلبُ مزيدًا من الطاعة؛ فخُصَّت بالخطاب.


ب- في قوله -تعالى-: ï´؟ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ï´¾ تقدم السجودُ على الركوعِ، وهذا قد يكونُ بسبب:
1- أن الواوَ لا توجب الترتيبَ، وعلى هذا فإن المعنى هو "وَارْكَعِي وَاسْجُدِي"؛ (تفسير القرطبي 4/ 91).


2- أن يكونَ السجودُ في شرعِهم قبل الركوعِ (نفسه).


3- أن يكونَ هذا أمرًا بالصلاةِ مع الجماعةِ، أو بمعنى أن تنتظمَ نفسَها في جملةِ المصلِّين، لا أن تكونَ من غيرِهم؛ (الكشاف 1/ 355).


4- أن يكونَ الناسُ في زمنِها على قسمين: مَن يقوم ويسجدُ في صلاته من غير ركوعٍ، ومَن يقومُ ويركع ويسجد، فأُمِرَتْ أن تكونَ مع الراكعين منهم (نفسه).


5- أن يكونَ الناسُ في زمنها يقومون ويركعون وحسب، فطلَبَ اللهُ -تعالى- منها أن تزيدَ عليهم بالسجودِ، وقد تكونُ هذه الزيادةُ أنسبَ لمقامِ تمييزِها بالاصطفاء.


6- ï´؟ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ï´¾ [آل عمران: 59].


وقوله - سبحانه -: ï´؟ كُنْ فَيَكُونُ ï´¾؛ أي: فكان، والمستقبل "يكون" في موضع الماضي إذا عرف المعنى؛ (تفسير القرطبي 4/ 110)، كما أن "فَيَكُونُ" حكايةُ حالٍ ماضية؛ (الكشاف 1/ 361).


وورَدَ هذا التركيبُ مراتٍ عدة في القرآن الكريم؛ للإشارة إلى الإنشاءِ والإيجاد في التوِّ واللحظة، ومعناه هنا - والله أعلم - أن الحملَ والولادة لم يستغرقا زمنًا طويلاً كما هو المعتاد في النساءِ، بل تم الأمرُ كلُّه في لحظة واحدة.


7- ï´؟ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ï´¾ [آل عمران: 106، 107].


فقدَّم تبييضَ الوجوه على تسويدها يوم القيامةِ؛ لأن في هذا وصفًا عامًّا لِما تكونُ عليه الخلائقُ يومئذٍ، فهم إما بِيضُ الوجوه أو سُودُها من جهة، ولأن أصحابَ الوجوه البيضِ أعلى مقامًا، ومِن حقِّهم التقديم في الذكر من جهة أخرى، وعندما جاءت الآيةُ إلى التفصيل ذُكر المسْودَّةُ وجوهُهم أولاً.


وقد يُحمل هذا على المقابلةِ المعكوسة بلاغيًّا، ولربما كان "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ" مقدَّمًا؛ لأن الآياتِ السابقة تدورُ على المؤمنين وتقواهم اللهَ حقَّ تقاتِه، المعتصمين بحبلِه، الدَّاعين إلى الخير، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 102 - 104]؛ ولهذا فإن تقديمَ تبييض الوجوه كان لمناسبةِ تلك الصورة مع المؤمنين الذين دارت الآياتُ الشريفاتُ عليهم، وقد يُستنبطُ من هذا التقديم أن المؤمنين هم أوَّلُ مَن يُفصَل بينهم يوم القيامة، وأن تأخيرَ الكافرين يكونُ لزيادة العذابِ، فضلاً عن تأخير المرتبةِ.


وقد جاء بعد هذه الآيات الكريمات وقبل الآيات "106 - 107" التي نحن بصددها الآية "105"، وهي قوله - سبحانه وتعالى -: ï´؟ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ï´¾ [آل عمران: 105]، والتفصيل البادئ بالوجوه المسودَّة آتٍ بعد هذه الآية "105"، المحذِّرة من التشبُّه بأهل الكفر والنفاق؛ لكيلا ينقلبَ الإيمانُ إلى كفرٍ، ويُحبَط العمل، ولأن بؤرة هذه الآية على أهل الخسرانِ مِن ملةِ الكفر والنفاق، فقد كان الأنسبُ والحالُ هذه أن يتقدَّمَ ذكرُ التسويد، كما يمكنُ أن يُنظر إلى ï´؟ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ï´¾على أن المسودَّةَ وجوهُهم كانوا مؤمنين أولاً، ثم انقلبوا كافرين، ï´؟ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ï´¾، فكان إيمانُهم أولاً فقال: ï´؟ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ï´¾، ثم أصبحوا كافرين، فحَالَ البياضُ إلى سوادٍ ï´؟ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ï´¾.


8- ï´؟ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [آل عمران: 129].


فقال: ï´؟ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ï´¾ من باب تغليبِ غير العاقل؛ لأنه أكثر عددًا، أو من باب التنكير؛ إشارةً إلى عِظَم ما فيهما مما يخفى على الناسِ.


وذكر - سبحانه - المغفرةَ أولاً، ثم العذابَ لمن يشاء، ثم خَتَم الآيةَ بقوله: ï´؟ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾؛ لتلتقي هذه المغفرةُ مع المغفرةِ التي سبقتها، ويبدو أن هذا كان هكذا - والله تعالى أعلم - لأن مغفرةَ الله -تعالى- تسبقُ غضبَه، وأن رحمتَه تسبق عقوبتَه، فقدم المغفرة حتى إذا ذكر ï´؟ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ï´¾ عاد إلى الصفة الأولى: الغفور الرحيم.


9- ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 130].


ولا تعني هذه الآيةُ أن النهيَ هو عن الرِّبا عندما يكون أضعافًا مضاعفة، وأنه يكون مقبولاً إن لم يكن كذلك؛ ذلك أن الرِّبا محرَّمٌ بكل أشكاله وصفاته، وقوله - سبحانه -: ï´؟ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ï´¾؛ لأن المضاعفةَ كان مما يُتَّفق عليه، ولأن المقرِض كان يضاعِف العائدَ إذا حلَّ وقتُ السداد وعجز المقترضُ عن الإيفاء، فيجعل المائةَ مائتين، ولئن عجَز عن السدادِ في الوقتِ الجديد جعَله أربعمائة، وهكذا، وكذلك الحال إن كان القرضُ في غير الذَّهب والفضَّةِ؛ (تفسير الطبري 4/ 119 - 120)، فالرِّبا هو في حدِّ ذاته فعلٌ شنيعٌ، ويزداد قُبحًا وشناعةً بمضاعفته؛ (تفسير القرطبي 4/ 213-214)، وقد وكَل اللهُ -تعالى- الناسَ إلى إيمانهم الذي تصدَّر الآيةَ الكريمة، وجعل مجانبة الرِّبا علامةً على التقوى ووسيلةً للفلاح، ومن ثم فإن المستجيبَ هو المؤمن حقًّا، وأما مَن لم يكن الإيمانُ في قلبِهِ، فله مع الآية الكريمةِ شأنٌ آخَرُ.


10- ï´؟ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ï´¾ [آل عمران:157، 158].


وقد قدم القتل؛ لأنها جاءت تعقيبًا على الجهادِ وما يقوله الكافرون بحق المجاهدين بقوله - سبحانه -: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ï´¾ [آل عمران: 156].


وفي سياق الجهادِ فإن السببَ الأدعى إلى الموت هو القتلُ؛ ولهذا قدَّمه، وأما الآية الثانية، فهي تقريرٌ لمآلِ الإنسان إلى الله تعالى، وهو تقريرٌ عام عن نهاية كل إنسان بالموت، وفي هذه الحالة فإن الموتَ الطبيعيَّ هو السائدُ، والقتل استثناءٌ، ومن ثم تمَّ تقديمُ الموتِ الطبيعي في الذِّكر.


11- ï´؟ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ï´¾ [آل عمران: 190].


وأولو الألباب هؤلاء هم المستدلُّون على الإيمان بآياتِ الله -تعالى- وقد وصَفَهم الباري - عز وجل - بأنهم: ï´؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ï´¾ [آل عمران: 191]، و"هَذَا" في قوله: ï´؟ مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً ï´¾ يشير إلى الخَلق، لا إلى السموات والأرض، ولئن كانت الإشارة إليهما لقال: "هذه"؛ فهما مؤنثتان، والآيات الوارد ذكرها في الآية "190" مؤنثة هي الأخرى، وفي صرف الإشارةِ من "هذه" الدالِّ على الآياتِ والسمواتِ والأرض إلى "هَذَا" توجيهٌ لعقل السامع للتفكُّر في الخَلْقِ كله، وإن هذه المذكوراتِ مفاتيحُ لِما عداها، ولا تحقِّقُ صيغة "هذه" تلك السعةَ في الفهمِ، بل تجعل التفكيرَ في السموات والأرض على ما يرى الناظر فيهما، ولا يعمل ذهنه فيما لا يدركُهُ حسُّه.


وبمجرد أنْ أدرك أولو الألباب أن الخلقَ لم يكن بَاطِلاً، ركنوا إليه - سبحانه - وسألوه أن يقيَهم عذابَ النار، وبادروا - دونما تردد - إلى الإيمانِ بمجرد أن دعاهم إليه الرسولُ - صلى الله عليه وآله وسلم.


وتُجلي الفاءُ التي تفيد الترتيبَ وعدمَ التراخي هذا الإسراعَ في: "فَآمَنَّا" في قوله - سبحانه -: ï´؟ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ï´¾ [آل عمران: 193]، ثم ما أنْ أدرك أولو الألباب الغايةَ من الخَلق حتى صارت الآخرةُ شُغلَهم الشاغل، واتبعوا المناديَ للإيمان - صلى الله عليه وآله وسلم - ليكونوا في آخرتِهم في أمانٍ، ونسوا الدنيا بما فيها، والآيات الشريفات التالية تعكس هذا الانشغال بضراعةٍ وابتهال يتجلَّيان بتكريرِ قولِ المؤمنين: "رَبَّنَا" خمس مرات في أربعِ آيات: ï´؟ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ï´¾ [آل عمران: 191 - 194].


واستجاب اللهُ - سبحانه وتعالى - لهم فورًا، ولإظهار العناية بهم تحوَّل الخطابُ الخاص بالاستجابة من الإخبار عن المؤمنين بضمير الغائب إلى مخاطبتِهم مباشرة "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ... مِنْكُمْ".


والوجه الثاني للعناية كان في تفصيلِ المؤمنين إلى ذكر وأنثى؛ لكيلا يظنَّ ظانٌّ أن ضميرَ الجمع المخاطب "كُم" هو للذُّكور دون الإناث، على اعتبارِ أن "كنَّ" مستعمَلٌ في القرآن الكريم وفي غيرِه في خطابِ الجمع المؤنَّث كالقول: "ذكْركنَّ، وعملكنَّ، ومنكُنَّ، وهكذا".


والوجهُ الثالث في العنايةِ هو أن المؤمنين والمؤمنات متساوون؛ فإن بعضَهم من بعض، وكما أنهم تساوَوا في التكليفِ والإيمان، فقد تساوَوا في استجابةِ الدعاء: ï´؟ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ï´¾ [آل عمران: 195].


12- ï´؟ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ï´¾ [آل عمران: 193]، ولعل مرادهم بـ: "ذُنُوبَنَا" هو الكبائرُ، وبـ: "سَيِّئَاتِنَا" هو الصغائر.


ومن سياقِ الآيات يتبين أن اللهَ -تعالى- غفَر الكبائرَ بالإيمان، وكفَّر الصغائرَ بالعمل، وقد أبان اللهُ -تعالى- لعبادِه أنواعَ العمل عندما قال: إنه استجاب لهم؛ ï´؟ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ï´¾ [آل عمران: 195].


إن المؤمنين طلبوا المغفرةَ بعد أن أعلنوا إيمانَهم، وأشار القرآنُ الكريم إلى أن اللهَ -تعالى- لا يضيعُ: "عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ"، وفي قوله - سبحانه -: ï´؟ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا ï´¾ معنى الهجرة الاختيارية التي يقوم بها المرءُ من مكانٍ لا يجد فيه حرية العبادة إلى مكانٍ آخر يحقق له تلك الحرية، وفضلاً عن ذلك فإن "هَاجَرُوا" تنطوي على هَجْرِ ما نهى اللهُ عنه، ومن ثم فإن الكلمةَ تلخِّص عملاً بدنيًّا، هو الهجرةُ من مكان إلى آخر، وعملاً قلبيًّا، هو حفظُ النفس مما لا يرضي اللهَ سبحانه.


وأما ï´؟ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ï´¾، ففيها الأذى النفسي والأذى البدني، ويتمثل الأذى النفسيُّ في إكراهِ المسلم على ترك ديارِه بسبب دينه، فهو يفارق المكانَ الذي ألِفه وأحبَّه، ويجد لذلك الفِراقِ الألَمَ في نفسه، ولكنه يتحمَّلُه من أجل ربِّه، و"أُوذُوا فِي سَبِيلِي" فيه الأذى النفسي بالكلام والتحقير وما أشبه، وفيه الأذى البدني بالتعذيب والضرب وغيرهما، والقتل والقتال يشتملان على هذينِ النوعين من الأذى على حدٍّ سواء، واحتسابُ المسلم كلَّ ما يلقى في سبيل اللهِ هو الذي يهوِّنُ عليه، وهو العمل الذي علَّق الباري - عز وجل - به تكفيرَ السيئات، وأن مَن دخل في صفوف المسلمين واحتسب يُجْزَ الجنةَ ï´؟ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ï´¾.


13- ï´؟ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ï´¾ [آل عمران: 196، 197].


و"لَا يَغُرَّنَّكَ" خطابٌ للأمة من خلال مخاطبة النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لكيلا يؤثِّر فيهم ما يرونه في أهل الكفر من نعيمٍ وجاهٍ وسلطان، وقد ذكر - سبحانه - حالَ مَن رأى قارون ممن تأثَّر بمظهره: ï´؟ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ï´¾ [القصص: 79]، ومثله ما رُويَ عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - في حديث ضعيف أنه دخَل على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرآه نائمًا على حصيرٍ أثَّر بجنبِه فبكى، فقال له: ((ما يبكيك يا عبدالله؟))، قلت: يا رسولَ الله، كسرى وقيصر يطوون على الخز والديباج والحرير، وأنت نائمٌ على هذا الحصير قد أثَّر بجنبِك؟! فقال: ((لا تَبْكِ يا عبدَالله؛ فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة، وما أنا والدنيا إلا كمَثلِ راكبٍ نزل تحت شجرةٍ ثم سار وتركها))؛ (مجمع الزوائد للهيثمي 10/ 329، ضعيف الترغيب للألباني، حديث رقم 1912).


وفي هذه الآيةِ تسليةٌ للمسلمين عما يمكنُ لهم أن يجدوا في نفوسهم مِن أَسى المقارنة مع الكافرين، وهي - أي: الآية - في الوقت عينِهِ لقطة سريعةٌ عن الكافرين، مقارنة بما قبلها وما بعدها من آيات بحقِّ المؤمنين، والاكتفاءُ بهذه اللقطة السريعة في هذا الموضع مردودٌ - والله أعلم - إلى تطييبِ نفوس المؤمنين إذا ألقى الشيطانُ في نفوسهم أذًى من هذا الباب، ولأن الكافرين لا قيمة لهم، فما ذُكِروا إلا بمصيرهم المشؤوم.


14- ï´؟ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ï´¾ [آل عمران: 198].


إن اللهَ -تعالى- ضمِن الجنةَ لعباده المؤمنين العاملين عملاً صالحًا؛ ولهذا فإنه قال - جل شأنه - في الآية 195: ï´؟وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِï´¾ [آل عمران: 195]، وهذا الثوابُ هو لعمومِ المؤمنين، وأما الآية 198 فهي - والله أعلم - عن المتقينَ من بين المؤمنين، الذين تتفاوتُ درجاتُهم بحسَب تقاهم، ومن ثم فإن الوعدَ وقد تكرر هنا فإنه اقترن ببيان المنزلة ï´؟ نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ï´¾.


15- ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 200].


جاءت هذه الآيةُ في ختامِ السورة، وفي ختام الآيات المباركات عن المؤمنين، وهي تدعوهم إلى أربعة أشياء؛ هي: الصبر والمصابرة؛ أي التنافس فيما بينهم في الصبر، أو في أن يصبِّرَ بعضُهم بعضًا، والثبات والتقوى.


والصفات الثلاث الأولى مطلوبةٌ للحفاظ على الإيمانِ، وقد تعددت لأن الفتنَ التي من شأنها أن تُفلتَه أو التي تؤثر فيه متنوعةٌ وعديدة، والمسلم يحتاجُ تلك العدةَ لاجتياز الفتن، ويحتاج إلى صحْبِهِ في إعانتِهِ وتصبيرِهِ، وأما توصيتُهُ - سبحانه - لعبادِه بالتقوى؛ فلكي يتبوَّؤوا بها نُزُلَهم العاليةَ في دار القرار.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 24-08-2020, 03:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم
أ. د. عباس توفيق


سورة النساء



1- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].


تبدأ السورة بهذه الآية التي تدعو إلى تقوى الله تعالى، ومعها وقفاتٌ:
أ- في ﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ذُكِر سبحانه بـ ﴿ رَبَّكُمُ لا باسم ذاته العلية ﴿ اللَّه، والمراد هو تنبيه ذهن المستمع إلى ما تَعنيه هذه الكلمة، والربُّ هو مالك الشيء الذي يُعنَى بما يَملك، ويُصلح شأنَه، ويُدبِّر أمره، ويُخبر هذا الابتداءُ الإنسانَ أنه ملكٌ لله - تعالى - وأن هذه الملكية تتأتَّى من أن الله - تعالى - هو الذي خلقه وخلَق زوجه ووهبه الذرية وأكثَرَ نوعه، وأنه مِن ثمَّ هو مَن يَجب على الإنسان أن يعبده.


إن على الإنسان أن يَبذل عبوديته لمالكِه، ولا يوجد مَن تتحقَّق فيه هذه الصفة غيره - سبحانه وتعالى - وأما الأشياء التي صرَف الناسُ عبادتهم إليها - كالأصنام مثلاً - فإنها مملوكة للإنسان نفسه؛ بصُنعِه إياها، أو بما بذَل لها من مال، وإذا قُلِبت المعادلة، فقد أضاع الإنسان الطريقَ، وغفَل عن ماهية الصِّلة الرابطة بينه وبين المعبود، فعلَّق قلبه بما ليس في مقدوره شيءٌ، وها هو الباري - عزَّ وجلَّ - يُنبِّهه لوضع الصلة في موضعها الصحيح، ويدعوه إلى سلوك الخطِّ ذي المسار القويم.


ولأن الله - تعالى - هو المالك البارئ؛ فإنه الأعلم بما يُصلِح شؤون مخلوقاته، ومن هنا اشتملت السورة المُبارَكة على جملة من الأحكام التعبُّدية، والقضايا الاجتماعية، والشؤون الأسرية، والعلاقات المجتمعية وغيرها، وكأنه - سبحانه - يضَع الإنسان أمام حقيقتين: أولاهما: هي أنه ملك لله تعالى، وثانيتهما: هي أن إدراك هذه الحقيقة والإيمان بها لا بدَّ أن يَقود إلى امتثال الأحكام المبسوطة في السورة، فهي مِن وَضعِ الخالق لمخلوقه، وإنَّ تمثُّلَها يجعل الإنسان يتحرَّك في دائرة الناموس الذي يَكفُل له حياة طيبة، ويُفضي به إلى آخرة مرضية.


ب- ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، والمراد بـ ﴿ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ - والله أعلم - هو النوع الواحد، فكما أن الملائكة نوع، والجن نوع، فإن الإنسان نوع أيضًا، ولكلٍّ من هذه الأنواع خصائصها المشتركة التي تجعلهم يتوافقون فيما بينهم، ومعنى هذا أن حواء خُلقت مما خُلق منه آدم - عليهما السلام - وأنها لم تؤخَذ من ضلعه بالمعنى الحرفيِّ للعبارة، والله أعلم.


وإن الله - تعالى - إذ أوجد الإنسان فقد أوجد معه زوجًا تُشاركه الطبائع والصفات، ومِن هذَين المخلوقين المُنتسبَين إلى ﴿ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ؛ أي: نوع واحد، بثَّ﴿ رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً بالطبائع والخصائص البشرية المعروفة، والتي يُشكِّل الرَّحِم قطبًا أساسيًّا فيها، والتي تتطلَّب أحكامًا ضابطة لتُمارس دورها المناط بها في الحياة، وقد ذكَر القرآن الكريم طائفة من هذه الأحكام في هذه السورة المُبارَكة.


ج- إن الله - تعالى - دعا عباده إلى خشيته، وخاطبهم بصفة تَملُّكه وخَلقِه إياهم، فقال: ﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ، ثم أعاد عليهم الدعوة بـ﴿ اتَّقُوا؛ لمزيد تأكيدٍ وبيانٍ لأهمية التقوى، غير أنه في هذه المرة قرن الدعوة باسمه الجليل ﴿ اللَّه فقال: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ، ولعلَّ ذلك مردود إلى أن الناس كانوا يُعلِّقون قلوبهم بأشياء تحلُّ محلَّ ألوهيَّة الله - تعالى - من مثل ما فعَل الكافِرون في تشبُّثهم بالآلهة المختلفة، فكان المَطلوب أولاً إزالة الغِشاوة عن الأعيُن، وتبصير الناس بأن أصل منشئِهم وعائديَّة ملكيَّتهم إنما هو لربِّهم، فإن أقرُّوا بهذه الربوبيَّة، لم يعد للآلهة مكان في قلوبهم، وخضَعوا بعد ذلك لألوهية الله – تعالى - وإن هذا التدرج هو الذي اقتضى - والله أعلم - أن يقول أولاً: ﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ثم بعد ذلك: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ .


وفي قوله: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ربط ﴿ الْأَرْحَام باسمه الجليل - سبحانه - تنويهًا بعظيم شأنها، ثم إن لتقوى الله - تعالى - ورعاية الأرحام مظاهرَ ملموسةً، وحقائقَ قلبيةً، وإن الحقيقة القلبية هي الأساس في الصدق والقَبول، وهي مما لا يطَّلع عليه غيرُ الله - سبحانه وتعالى - فذكَّر - جل شأنه - الناسَ بصفة المراقبة، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا؛ ليَعلموا أن الله رقيب عليهم؛ فيُراقِبوا قلوبهم لتصير خلجاتها وحركاتها خالصةً لطاعته، ومتوافقة مع مراده - جلَّ وعلا.


2- ﴿ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 2].


وهو مِن علاقات المَجاز المُرسَل باعتبار ما كان؛ أي آتوا الذين كانوا يَتامى، أو اللواتي كنَّ يتامى، أموالَهم، وصيغة اليتامى تَصلُح أن تكون جمعًا للمذكر (اليتيم) وللمؤنث (اليتيمَة)، وهي خاصة بمَن فقَد أباه.


3- ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ﴾ [النساء: 11]، ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾ [النساء: 12].


وهذه الآيات حول توزيع الميراث، ومع أن للدَّين السبقَ في الإيفاء، فقد تقدَّم ذِكر الوصية، ومردُّ ذلك إلى أن حرف العطف ﴿ أَوْ لا يُفيد الترتيب، فيكون المعنى: بعد دَينٍ أو وصية، كما أن تأمُّل الآيات قد يُشعِر أن النِّسَب الواردة فيها تَنطبِق على من هو رخيُّ الحال، وأما ضعيفُه أو المُعدم، فقد لا يكون لَهُما ما يتركانه، وإنَّ مَن يعلمُ أن مِقدار ميراثه وافرٌ؛ بحيث يُتيح له أن يوصي ببعضه - لا يكون في الأغلب مدينًا، بينما يكون غيره من رقيقِي الحال عرضةً للدَّين، بمعنى أن الذين يورِّثون همْ أصحاب الثروة بالدرجة الأولى، وأنَّ تَوزيع ميراثهم لا يتمُّ إلا بعد تنفيذ وصاياهم إن وجِدت، ولأن الأكثر توقُّعًا في هذا الصنف ألا يكونوا مدينين؛ فقد ذُكرت الوصية أولاً، وأما غيرهم من الذين لا يكاد لمُمتلكاتهم أن تَحتمِل التوصية، فقد لا يكون لهم ما يورِّثونه أصلاً، ولئن كانوا مَدينين، استوفي الدَّين مما تركوا، وأما إذا وجِد مورِّثٌ وله توصيةٌ وعليه دَينٌ، فقد استفاضَت الأخبار في أن الأولوية تكون لاستيفاء الدين.


4- ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 43].


و"مَسَحَ" فعلٌ مُتعدٍّ بنفسه؛ فنقول: مسح يدَه، ومسح وجهَه، ومسح الطاولةَ، ولكنه ورَد في الآية متعديًا بحرف الباء ﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ، وللباء معانٍ كثيرة في اللغة العربية؛ كالإلصاق والمصاحبة والسببية والتبعيضية والظرفية والقسَم وغيرها، ولربما عُدَّت الباء في ﴿ بِوُجُوهِكُمْ للإلصاق؛ فيكون الحكم المستنبَط منه اشتراط مسح الوجه كله، وقد تُعَدُّ تبعيضيَّةً؛ فيجوز حينئذٍ الاكتفاءُ بمسح بعض الوجه، وشبيه بهذا مسحُ الرأس في آية الوضوء في سورة المائدة ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة: 6].


5- ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 92].


إن الحرف "ما" هو للتحريم، وليس للنفي، فلو كان للنفي لما وُجِد مؤمنٌ يَقتُل مؤمنًا إلا خطأً، فإذا قتل مؤمنٌ مؤمنًا خطأً، فعليه تحرير رقبة وديَة يُسلِّمها إلى أهل القتيل، وأما إن كان المقتول مؤمنًا في قومٍ عدوٍّ للمؤمنين؛ كأنْ يكون هؤلاء القوم كافرين، فإن الكَفَّارة في هذه الحال تَقتصِر على تحرير رقبة مؤمنة، ولا تكون له دية، طالَما أنه لم يهاجر إلى جماعة المسلمين، والديَة تُدفع عادةً لأهل القتيل، وهو مال يُعين على التقوية، ولأن المقتول المؤمن مُنتسِب إلى قوم كافرين فإن الدية مَحجوبة؛ لكي لا يَقوى قومه الكافرون بمال المسلمين.


وأما الجزء الثالث من الآية الشريفة، فخاصٌّ بقتل امرئٍ من قومٍ يَربِطهم بالمسلمين ميثاق، ففي هذه الحالة تُسلَّم الدية إلى أهل القتيل، ويُعتق من بين المؤمنين رقبة، وخصَّ العتق بالمؤمنين لمنْع تقوية غير المؤمنين بالرجال، واختلف العلماء في الرقبة الواجبِ تحريرُها، فقال بعضهم: لا بد أنها صامت وصلَّت، فلا ينفع تَحرير الطفل مثلاً، وذكر القرطبي أن هذه الجزئية المتعلِّقة بدية أهل الميثاق منسوخة بقوله سبحانه:﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 1]؛ (تفسير القرطبي 5: 326).


إن الرقبة المطلوبَ تحريرُها في هذه الأصناف الثلاثة هي رقبةٌ مؤمِنة، لا تضييقًا على الرقِّ وحسْب، بل وتقويةً لجماعة المسلمين أيضًا، ولأن هذَين الهدفَين يتعلقان بالوسط المؤمن؛ فقد تقدم ذِكر تحرير الرقبة على دفع الدية في الصِّنف الأول، وعلل الزمخشري هذا التقديم بأنْ كما أخرج القاتل "نفسًا مؤمنة عن جملة الأحياء، لزمه أن يُدخِل نفسًا مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقها مِن قَيد الرقِّ كإحيائها"؛ (الكشاف 1: 538)، وتمَّ الاكتفاء بتحرير الرقبة في الصِّنف الثاني؛ لأن أهل المقتول قوم أعداء للمسلمين، وذِكْر: ﴿ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ﴾ يعني - والله أعلم - أنهم في حالة حرب مع المسلمين، ولظروف الحرب أحكامُها الخاصة، وأما في الصِّنف الثالث، فقد تمَّ تقديم الديَة؛ لأن الفِكرة تدور على المقتول غير المؤمن المُنتسِب إلى جماعة بينها وبين المسلمين ميثاق، وقد يَنجم عن قتله خطأً ما يضرُّ الجماعةَ المسلمة ويتسبَّب في إراقة دمائهم؛ ولهذا فقد تقدَّم ذِكر الدية؛ لأنها تدرَأ الشرَّ المُحتمَل وقوعُه على المجموع، ولدفعه الأولويةُ على الحالة الفردية المتمثِّلة بتحرير الرقبة.


ويُمكن أن يُنظر إلى هذه الآية من زاوية أخرى، وهي أن في القتل الخطأ اعتداءً، وإن كان غير مَقصود، على حقِّ الله - تعالى - وعلى حق العباد، وأن تحرير الرقبة كفَّارة عن حق الله - سبحانه - والديَة كفَّارة عن حق الناس؛ ولهذا فإن الصنفَين الأولين يَشتملان على الإيفاء بحق الله - تعالى - الأَوْلَى بالوفاء؛ فتقدم ذكر تحرير الرقبة، وأما الصنف الثالث، فقد تقدَّم فيه حق الناس في الذكر؛ حفاظًا على كيان الجماعة المسلمة وعلى نفوس أفرادها، ولحِفظ النفس السبقُ والأولوية كما هو معلوم في الشريعة الإسلامية.


6- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97].


ورَدَ تقريرُ حال هؤلاء الظالمين بصيغة الماضي: ﴿ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾، ﴿ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا ﴾، ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ﴾، ولا شك أن هذه ليست حال الظالم الذي قَضَى سابقًا، بل هي حال الظالم في الماضي والحاضر والمُستقبَل، وصيغة الماضي في هذا الموضِع لا تدلُّ على الزمن الفائت وحسب، بل تشمَل الأزمنة كلَّها، ولكن إبراز الحالة من خلال الفعل الماضي راجعٌ - كما هو شأن التعبير القرآني في مواضع شتى - إلى أن الماضي يقينٌ لا يَشكُّ الإنسان فيما حصل له فيه، والآية الكريمة تُريد أن تستحضر الصورة بهذا اليقين الحيويِّ إلى ذهن المُستمِع؛ لعله يتَّعظ أو يَصحو.


7- ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142]، والخَدْعُ هو أن يُظهر المرء خلاف ما يُبطن، والفعل الثلاثي منه هو خَدَع، بمعنى أضلَّ وغشَّ، وأما رباعيُّه "خادَعَ"، فهو على وزن فاعَلَ، وهذا الوزن يدلُّ على المشاركة؛ مثل: قاتلَ، وضاربَ، ولاكمَ، وساومَ، وقد يدلُّ على وقوع الفعل مِن واحد مثل: عاقب، وعالج، وجاز استِعمال هذه الصيغة الدالة على المشاركة للواحد؛ لكثرة ورودِها في كلام العرب، والعرب تقول: خادعتُ فلانًا، إذا كنتَ تروم خدْعَه، وعلى هذا يوجه قوله تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾، معناه إنهم يُقدِّرون في أنفسهم أنهم يَخدعون الله، والله هو الخادع لهم؛ أي المُجازي لهم جزاء خداعِهم؛ (لسان العرب مادة: خدع)، وأما المُخادَعة بمعنى المشاركة في الخدع، فمُحال النسبة إلى الله - تعالى - ولكن إسناده إليه - سبحانه - يُحمَل على طلب التشاكُل، وللعرب أمثلة على ذلك؛ كقول عمرو بن كلثوم:
ألاَ لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا
فنجْهَلَ فوق جَهلِ الجاهِلينا



ووردَت المشاكلة هذه في مواضع من القرآن الكريم؛ كقوله سبحانه: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 194]، والثاني قصاص ليس بعدوان (لسان العرب مادة: خدع).


وقد ورَد أن الخادع هو الفاسد من الطعام وغيره، وعلى هذا فإن تأويل الآية هو أنهم "يُفسِدون ما يُظهرون من الإيمان بما يُضمِرون من الكفر؛ كما أفسد الله نِعَمهم بأن أصدرهم إلى عذاب النار" (نفسه).


3- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ﴾ [النساء: 170، 171].

﴿ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ ﴾، و﴿ خيرًا منصوب على اعتبار أنه صفة للمفعول المُطلَق المَحذوف، وتقديره: آمنوا إيمانًا خيرًا لكم، وأما في ﴿ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ﴾ فإن خيرًا منصوب عند سيبويه بإضمار فعل؛ أي انتهوا وائْتوا خيرًا لكم؛ لأنه إذ نهاهم عن الشرك، فقد أمرهم بما هو خير، وإنك إذا قلتَ: ائتِ، فإنك تخرج المدعوَّ من أمر وتدخلُه في آخَر، ومعنى الآية والحال هذه: انتهوا مما أنتم فيه من شركٍ، وائتوا خيرًا لكم، وقدَّر أبو عبيدة فعلاً ناقصًا مُضمِرًا؛ أي: انتهوا يكنْ خيرًا لكم، ولكن القرطبي نقَل عن محمد بن يزيد تخطئة هذا التأويل؛ "لأنه يُضمِر الشرط وجوابه، وهذا لا يوجد في كلام العرب"؛ (تفسير القرطبي 6: 28).


إن الآية الأولى خطاب للناس جميعًا، ودعوة لهم ليُؤمنوا بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ﴿ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ ﴾، وأما الآية الثانية، فهي خاصة بالنَّصارى مِن أهل الكتاب، ولعلَّ تخصيصهم بالذكر هنا عائدٌ إلى أن الآيات الكريمة السابقة تَدور على الكافِرين، والكافرون كانوا عبَدةَ أوثان، فدعاهم إلى الإيمان بالحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنهم إن فعلوا نجوا، وأما النصارى، فقد كانوا كالكافرين في البُعد عن عبادة الله - تعالى - ولكن كفرهم مِن نوع مختلف، فهم يعبدون إنسانًا، وقد دعاهم الباري - عز وجل - إلى الإيمان ﴿ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾، وذكر الرسل بصيغة الجمع على خلاف دعوة الكافرين الآخَرين الذين كان ذكْر الرسول - عليه الصلاة والسلام - لهم بصيغة الإفراد، والمَظنون أن النصارى كانوا يؤمنون بالأنبياء السابقين على عيسى - عليه السلام - وكفَروا برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحده، فما المَغزى إذًا بدعوتهم إلى الإيمان برسل الله بصيغة الجَمع وليس بصيغة المُفرَد كما فعل مع الكافرين الآخَرين للإشارة إلى خاتمهم - عليه الصلاة والسلام؟


إن السبب عائد إلى أن معظم النصارى يَعتقدون في عيسى - عليه السلام - الألوهيَّة لا النبوة، وإن معتقدهم هذا قد هدَمَ إيمانَهم بالرسل السابقين، وجمَعوا إلى ذلك عدم تصديق رسول الإسلام - صلى الله عليه وآله وسلم - وجاءت دعوتهم إلى الإيمان بالرسل بصيغة الجمع في قوله - سبحانه -: ﴿ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾؛ لكي يؤمنوا بعيسى - عليه السلام - نبيًّا لا إلهًا؛ لكي يقود هذا الإيمان إلى تصحيح إيمانهم بالرسل السابقين، ولا يكون تصحيحهم لعقيدتهم كافيًا وسيَبقون خارج الإيمان بجميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ما داموا يَجحدون رسالة النبي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكي يَصيروا على الجادة والصواب لا بدَّ لهم أن يدخلوا في زمرة ما دخل فيه المسلمون، وهو الإيمان بالله وبرسله جميعًا وبضمنِهم خاتمهم - عليهم الصلاة والسلام - وأما إذا أبوا الاستجابة، فإن شأنهم سيكون كشأن أولئك الكافرين الذين قال الله - تعالى - فيهم في الآية السابقة: ﴿ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾.


8- ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 157 - 159].


في قوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إلماحات:
أ- إنَّ ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾ تُفيد الاستغراق ولا استثناء فيها، والمعنى أن أهل الكتاب قاطبة سيؤمنون به حتمًا، وقد أكِّد الخبر بنون التوكيد الثقيلة في ﴿ لَيُؤْمِنَنَّ ﴾، ويُشْبِه هذا الاستغراقَ والعموم قولُه - سبحانه - في سورة مريم: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71].


ب- تفيد الهاء في ﴿ بِهِو﴿ مَوْتِهِ معانيَ، منها:
1- أن الهاء في ﴿ بِهِ ﴾ تُشير إلى الرفْع أو إلى عيسى - عليه السلام - وفي ﴿ مَوْتِهِ ﴾ إلى أفراد أهل الكتاب، ويكون المعنى: إن كل واحد من أهل الكتاب سيؤمن في لحظة وفاته أن عيسى - عليه السلام - لم يُقتَل بل رفعه الله إليه، ولكنه إيمانٌ حاصل في الوقت الذي لا ينفع النفسَ إيمانُها.


2- أن الهاء في الموضعَين تُشيران إلى عيسى - عليه السلام - أي: إن أهل الكتاب جميعًا سيؤمنون بعيسى - عليه السلام - قبل أن يتوفاه الله - تعالى - وهذا يعني أن الإيمان سيكون في آخِر الزمان بعد نزول عيسى - عليه السلام - إلى الأرض مرة ثانية، ولأنه في ذلك الوقت يكون مُتبعًا لنبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن أهل الكتاب سيكونون تبعًا له على ملة الإسلام.


9- ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [النساء: 160].


إن للذنب عقوبة عاجِلة وعقوبة آجِلة إن لم يتدارَكْه المرء بالتوبة، فالذين هادوا كانوا ينعمون بطيبات أحلَّها الله لهم، ولكنها صارت محرَّمة عليهم بذنوبهم، لا من حيث إنها محرَّمة من أصل الوضع، وشبيهٌ بهذا ما رُوي عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((إن الرجل ليُحرَم الرِّزقَ بالذنب يُصيبه، ولا يردُّ القدرَ إلا الدعاءُ، ولا يزيد في العمر إلا البِرُّ))؛ "الترغيب والترهيب"؛ للمنذري (3: 294).


10- ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176].
وتَلتقي هذه الآية التي خُتِمت بها السورةُ الشريفة بالآية الأولى التي يُفهَمُ منها أنها دعوة للناس إلى الإيمان وإلى اتِّباع الأحكام التي وضعَها الباري - عز وجل - لعباده، وتُقرِّر هذه الآية الأخيرة أن الله - تعالى - بيَّن لعباده الأحكام لكي لا يَضلوا، فهذه السورة المباركة تبدأ وتَنتهي ببيان الطريق والمُعامَلة والأحكام، ولا يتحقَّق للإنسان سبُلُ النجاة إلا إذا أخذ نفسه بما أراده المولى - عز وجل.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 24-08-2020, 03:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم
أ. د. عباس توفيق
سورة الأنعام



1- ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا ﴾ [الأنعام: 1، 2].

أ- تنتهي سورة المائدة التي تسبق سورة الأنعام بآيات مباركات تتعلق باليوم الآخر وبفوز الصادقين، وتؤكد بمشهدها الختامي عائدية ملك السموات والأرض لله تعالى طاوية بشكل تلميحي قصة مبدأ الإنسان وإلى ماذا كان مآله. وتبدأ سورة الأنعام بحمد الله تعالى الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في إشارة إلى بدء الخليقة، فالبدء خلْقٌ والمنتهى مُلْك وقدرة. كما أن هذا الحمد الذي بدأت به سورة الأنعام بعد عرض المشهد الختامي للآخرة يلتقي بالحمد الذي ذكره القرآن الكريم في سورة الزمر بعد انقضاء الأمر كله إذ قال سبحانه: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75].

ب- تشير السموات والأرض إلى الأمكنة وتشير الظلمات والنور بدلالتها على الليل والنهار إلى الزمن. وقد خُلق المكان والزمان جميعاً من أجل الإنسان فالحمد لله على ذلك ولكن الكافرين يتعالون على حمد المنعِم ويجعلون له شريكاً.

ج- "خَلَقَ" أي أوجد وأبدع على غير مثال سابق، ومن المعاني التي لـ "جَعَلَ" خلق وأوجد، فالمعنى هو خلق السموات والأرض وخلق الظلمات والنور، وبين هذين الفعلين على اتفاقهما في المعنى ظلٌّ من الاختلاف جعل كل واحد منهما مناسباً لما وضع له. فالسماوات والأرض التي لم تكن فكانت تبدو ثابتة على وضعها، فقد تم خلقها وانتهى الأمر ظاهرياً، ومن ثم فإن "خَلَقَ" بدلالتها المشار إليها مناسبة للموضع. ولكن "جَعَلَ" التي تعني الخلق والإيجاد أيضاً تحمل إلى جانب ذلك معنى الصيرورة من حال إلى حال، فالحركة الموجودة فيها مستمرة، والنور والظلام لا يبقيان على حال وإن كل واحد منهما يصير إلى ضده منذ أن كانا وبتعاقبهما يصبح الزمن شيئاً مدركاً، ولهذا فإن الفعل "جَعَلَ" هو الأنسب في هذا المقام. بينما الفعل "خَلَقَكُمْ" كان مناسباً لإيجاد الانسان الذي تمّ على غير مثال سابق والذي، منذ ان خُلق، يشتمل على النوازع النفسية والأعضاء التي تميز كينونته البشرية من غير أن يطرأ عليها أي تغيير.

2- ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 7].

واللمس يكون باليد وذكْر اليد بعد الفعل فلتأكيد التحسس المادي للقرطاس، ولئن نُزِّل عليهم الكتاب كما اشتهوا وتأكدوا من حقيقته المادية بأيديهم لظلوا على عنادهم وقالوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ فكيف يمكن تخيّل موقفهم لو أنهم نُزِّل الكتاب عليهم في قرطاسٍ كانوا يستطيعون رؤيته دون لمسه؟


3- ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 13].

" أي كل دابة في السماوات والأرض، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، لا إله إلا هو" (تفسير ابن كثير 2/113). واكتفى القرآن الكريم بذكر السكون مع أن لكل دابة حركة وسكوناً، واكتفاء القرآن الكريم كان بأحد الضدين، وهو السكون، لعلتين:
أ- أن مآل كل متحرك إلى سكون، وأن السكون هو الأعم في حق الكائنات الحية التي تشير الآية الكريمة إليها.

ب- إن الآيات التي تسبق الآية المذكورة تشتمل على "الحركة"، فقد قال الله تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 11، 12]. ففي قوله سِيرُوا حركة بدنية وفي انْظُرُوا حركة ذهنية من أجل معرفة ما أخبر الله تعالى به، والآية الثانية حركة ذهنية حتما للتفكر في عائدية ملك السماوات والأرض. وعندما ينتهي الانسان من هاتين الحركتين ويصل إلى قناعةٍ ما فإنه يكون قد اجتاز الحركة وبلغ مرحلة السكون، ولهذا فإن الآية 13 الكريمة بدأت بالسكون ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: 13] ليكون هذا السكون متناسباً مع الحالة الذهنية للمخاطبين الذين سكنت عقولهم إلى النتيجة التي توصلوا إليها.

4- ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ [الأنعام: 25].

الأكنّة جمْعٌ للكِنان وتعني الأغطية الساترة، وإذ صارت الأكنّة على القلوب فقد صارت مانعة للفهم، والوَقْر هو الصمم وثقل السمع. وقد يكون الغطاء العازل للقلب عاهة خِلقية، وليس في الذين تتحدث الآية الشريفة عنهم مانعٌ خِلقي يحجب عنهم الفهم والسمع وإلا لكان لهم حكم آخر، ولكن العبارة كناية عن عزوفهم الإرادي عن الفهم وعن الاستجابة لدعوة القرآن الكريم.

5- ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنعام: 27].

جواب "لَوْ" محذوف وتقديره لرأيت أمراً عظيماً، وجاء الحذف لغاية بلاغية تتمثل في تهويل ما سيرى الكافرون واستعظامه. وللغاية البلاغية ذاتها حُذِف جواب "إِنِ" في قوله سبحانه ﴿ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ [الأنعام: 35] وتقديره فافعل.

6 - ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [الأنعام: 36].


وقد كنّى عن المؤمنين بمن له القدرة على السمع وهم الذين تنطبق عليهم صفة الأحياء، وأما الكافرون فقد كنّى عنهم بالأموات. وكما أن الحي قادر على السمع فإن الميت عاجز عنه. والمقابلة بين السامع والميت وليس بين السامع والأصم. وكما أن الحي ملحوظ في السامع فإن الأصم ملحوظ في الميت. وهذا الذي لا يسمع الآن سيسمع ولكن بعد فوات الأوان.

7- ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44].

وفي هذه الآية تحذير من الاغترار بما يفتح الله به على الإنسان، فليس كل عطية علامة على رضاه سبحانه، فالفتح الوارد ذكره هنا ثمرةٌ للعصيان، وهو استدراج كما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبُّ فإنما هو استدراج" ثم تلا الآية ( تفسير ابن كثير 2/119).

8- ﴿ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ﴾ [الأنعام: 57].
فقد عطف الجملة الفعلية "وَكَذَّبْتُمْ بِهِ" على التوكيدية "إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي". والضمير في "بِهِ" وهو مذكر قد يعود على ربي، أو إنه يعود على " بَيِّنَةٍ " وفي هذه الحال فإن الضمير يعود على معنى البينة الذي هو البيان، وقد قيل إن المراد بالهاء هو العذاب وقيل القرآن (تفسير القرطبي 6/411) وفسره ابن كثير على أنه الحق الذي جاء من الله (تفسير ابن كثير 2/123).

9- ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59].


و "مَفَاتِحُ" جمعٌ لمِفْتَح بمعنى المفتاح الذي يُجمع على مفاتيح، وقد يكون "مَفَاتِحُ" جمعاً لمَفْتَح بمعنى المخزن، والخزينة تعني مكان الخزن وتأويل الآية على ذلك وعنده خزائن الغيب، وحصَرَ العلم بهذه الخزائن بالله سبحانه وتعالى لا يعلمها غيره ثم عطفَ على هذا العلم بالغيب علمَ ما في البر والبحر والورق والحب ونوعهما وفي أي مكان. وقد ورد هذا التفصيل بإبهام ما في البر والبحر لإعطاء الانطباع عن سعة مداه، وذكر الورقة والحب وهما من الفتات الصغير الذي لا ينتبه إليه الإنسان.


ويروق لأهل النحو أن يقولوا في "وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ" أن "مِنْ" حرف جرٍّ زائد وأن " وَرَقَةٍ " مجرورة لفظاً ومرفوعة محلاً لأنها فاعل "تَسْقُطُ" والتقدير وما تسقط ورقةٌ إلا يعلمها. وفي هذا التقدير حصرٌ من الناحية البلاغية وتركيبٌ يعطي معنى سعة العلم، وأما استغراق هذا العلم وشموليته لأدق الدقيق وأجلّ الجليل فلا يتأتى إلا بذكر "مِنْ" التي تدل على أنه لا يندّ عن علمه أي شيء، وحذف "مِنْ" يلغي هذه الخصوصية الشاملة في العلم. وقد عُطِفت الحبة والرطب واليابس على الورقة لتأخذ حكمها ويكون لها الدلالة ذاتها. وعلاوة على هذا فإن هذا العلم الكلي لا يحصل في لحظة وجود الأشياء أو لحظة وقوع ما يقع بل هو في اللوح المحفوظ منذ الأزل وقبل الإنشاء والإيجاد، إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.

وإذا أراد الإنسان أن يعُدَّ المتناثر من الحب وورق الشجر في رقعة من مترين فسيعجزه الأمر ويختلط عليه التصنيف والتمييز والحساب، فكيف إذا توسعت الرقعة لتشمل حقلاً أو حقولاً أو قرية أو مدينة أو دولة أو الأرض كلها لا في زمن واحد بل منذ أن كانت الأرض وهذه الأشياء وإلى قيام الساعة؟ إن تخيل ضخامة كمية هذه الأشياء البسيطة يعين على فهمِ أن مفاتح الغيب ليست محصورة بالأمور الكبيرة التي تنصرف إليها أذهان الناس بل إنها تشمل حتى الذرة التي تكون في الجيب أو على البدن لا يعلم بها المرء والله تعالى محيط بها علماً. وإذا أدرك الإنسان مدى علم الله تعالى فإن إدراكه سيقوده إلى الإيمان بالله تعالى ويعينه على المحافظة على ذلك الإيمان باستحضار علم الله سبحانه بكل صغيرة وكبيرة، وفضلاً عن ذلك فإن مثل هذا الإدراك يهذّب الإنسان ويعرّفه بحجمه الحقيقي ويحمله على التواضع ويلجم فيه الأنفة والاستعلاء والكبرياء.


ولعل في قوله سبحانه ﴿ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59] تعليماً للإنسان في أن يقيّد ويسجّل ما يهمّه، فالتقييد وسيلة الحفظ من النسيان، وجلّ الله تعالى عن النسيان فهو لا يجوز عليه ما يجوز على البشر، وقد كتب كل شيء في اللوح المحفوظ لعلةٍ لا يعلمها غيره سبحانه. وأما نحن البشر فعلينا أن نحمي معارفنا وحقوقنا وكل ما يقع في دائرة عنايتنا وتدبير شؤوننا الدنيوية والحياتية بأن نستلهم الطريقة التي يدبّر بها الباري عز وجل كونه.


10- ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: 60].


والباء في "بِاللَّيْلِ" و"بِالنَّهَارِ" ظرفية بمعنى "في"، أي يتوفاكم في الليل ويعلم ما جرحتم في النهار. ولظرفية الباء بمعنى " في" شواهد أخرى في القرآن الكريم كقوله سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [آل عمران: 123] أي في بدر، وكقوله سبحانه: ﴿ إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ﴾ [القمر: 34]، أي في سحر.


11- ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 73].


بِالْحَقِّ يعني بالعدل والميزان، وفي صدر الآية إشارة إلى بدء الوجود ونهايته الدنيوية، و" قَوْلُهُ الْحَقُّ " أي صادق وواقع، و " يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ " بيانٌ والله أعلم لـ" َيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ "، أي، في سياق هذه الآية فقط، إن يوم يقول كن فيكون هو يوم النفخ في الصور.


12- ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74].


ذكر الزجاج أنْ لا خلاف بين النسابين في أن اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان تارخ وليس "آزر" (معاني القرآن 2/265). وللمفسرين توجيهاتٌ واجتهادات في ذلك ومنها ما اختاره ابن كثير في أن آزر اسم صنم وغلب الاسم على "أبي" إبراهيم لخدمته ذلك الصنم (تفسير ابن كثير 2/134).


و يبدو أن التصريح باسم آزر في الآية يلمح إلى أنه، والله أعلم، ليس أباه، فقول القائل: قلتُ لأبيك لا يستوجب ذِكْر اسم الأب لأن المخاطَب يعلمه. ولكنْ إن قيل: قلتُ لأبيك زيدٍ فهذا يعني أن المتكلم في شكٍّ من اسم الأب وذكرَه لرفْع الالتباس أو أنه ذكرَه لأن المخاطَب يقدّر ذلك الشخص كأبيه. وما يزال الناس في بعض الدول العربية يخاطبون الرجل المسنّ بالوالد مع أنهم يعلمون أنه لم يلدهم. وعندما قصّ القرآن الكريم سرْدَ يوسف عليه السلام لمنامه على أبيه لم يعقّب بإعلان اسم يعقوب عليه السلام، ﴿ إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ ﴾ [يوسف: 4]. وقد يستعمل الأب بمعنى العم كما في قوله سبحانه ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، فإسماعيل المشار إليه ضمن الآباء كان عمّ يعقوب عليهما السلام. ولعل إبراهيم عليه السلام كان على هذا النوع من الصلة الحميمة بآزر ولهذا جرى خطابه له في سورة مريم بـ ﴿ يا أَبَتِ ﴾ الدال على القرابة العاطفية. إن آزر ربما كان عم إبراهيم عليه السلام أو زوجاً لخالته مثلاً أو ما شاكل والله أعلم.


13- ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 75-78].


أ- جاءت هذه الآية بعد دعوة إبراهيم عليه السلام "لأبيه" وقوله له إنه يراه وقومه في ضلال مبين، ولأنه عليه السلام كان محسِناً كافأه الله تعالى بأن أراه ملكوت السموات والأرض، قال الله تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وإن أقواله في الآيات الأخرى عن الكوكب والقمر والشمس تؤخذ على أنها استفهام، والله أعلم، أي أهذا ربي؟ وليس على أنها تقرير فيُظنُّ أنه عليه الصلاة والسلام مرّ بمرحلة شك وهو ما لم يحصل فالأنبياء معصومون.


ب- قيل إن الناس في زمانه كانوا يعبدون كواكب مختلفة. ولأنه كان بصدد بيان بطلان عقائدهم فقد بدأ بهدم الأصغر أي النجم ثم تدرج إلى القمر الذي هو أكبر منه ثم إلى الشمس. وهذه الطريقة مماثلة لتهشيمه الأصنام الصغيرة وإبقائه للصنم الكبير ليعودوا إليه وليهدم من خلال عمله عقيدتهم الزائغة.


ج- عندما غاب القمر قال ﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فبيّن الحاجة إلى ربٍّ يرشده ويهديه وكأنه قال لمن حاججوه إن أفول الكواكب يحجب عنها استحقاق العبودية فلا بد من رب لا يأفل، وكأن قومه وافقوا على ذلك فجاء دور الشمس ثم إذ أفلَتْ ألزمهم الحجة بالرب الذي تنطبق عليه صفة عدم الأفول والذي ينبغي أن يُعبد، ولكن قومه نكصوا وظلوا على عنادهم وأعلن هو تبرّأَه مما كانوا يعبدون، والله أعلم.


د- ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ﴾ ذكّر الإشارة إلى الشمس صيانة لاسم الرب من شبهة التأنيث.


14- ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 84-86].


وجعل عيسى عليه السلام من ذريته من جهة أمه وعدَّ لوطاً عيه السلام منهم وهو ليس من صلبه بل هو ابن أخيه، واعتباره من ذريته فلمكانِهِ من إبراهيم عليه السلام.


15- ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [الأنعام: 92].


ولم يقل: وما حولها لأن ﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ معطوف على المضاف المحذوف في ﴿ أُمَّ الْقُرَى، والتقدير لتنذر أهل أم القرى ومن حولها.


16- ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [الأنعام: 95].

وقوله سبحانه ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ بصيغة الفعل و ﴿ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾ بصيغة اسم الفاعل، ومرد ذلك إلى أن ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ تفسير لقوله ﴿ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾، وأما ﴿ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾ فهو معطوف على ﴿ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ فعطف اسم الفاعل على اسم الفاعل وفسر فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى بالفعل المضارع الدال على التجدد والحدوث والمتناسب مع التجدد المستمر في فلْق الحب والنوى.

17- ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 98 - 99].

تتكلم الآية الشريفة على الخلْق، وأن الناس أنشئوا من نفس واحدة ومع ذلك فإنهم مختلفون في ألوانهم وأشكالهم، وكذلك الحال مع النباتات التي يخرجها سبحانه من ماء واحد ولكنها تختلف في النتيجة فيكون منها العنب والزيتون والرمان. وكما أن الناس متشابهون في الخلق ومختلفون في الجوهر ولا يختلط عليهم الحال، فكذلك النباتات تتشابه في مظاهرها وتختلف في مذاقاتها ولكن يختلط على الناس حالها، فإنك ترى عنباً وعنباً أو زيتوناً وزيتوناً أو رماناً ورماناً فتظن هذا كهذا ولكنهما ليسا كذلك. إنك ترى النوعين متماثلين فيشتبه عليك الأمر ولكنك إذا طعمته وجدته مختلفاً، ولهذا قال سبحانه: ﴿ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾، أي يختلط عليك أمره فتظنهما سواء وهما ليسا كذلك لأنهما غير متشابهين.

18 - ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141].

وأما هذه الآية فإنها تتكلم على صورة المخلوق وهيئة الجنات في أنها معروشات وغير معروشات. والمعروشات تعني المرفوعات، وقال ابن عباس رضي الله عنه: "المعروشات المنبسطات على الأرض كالكروم والزروع والبطيخ وغير المعروشات ما قام على ساق كالنخل وسائر الأشجار" (تفسير القرطبي 7/99). وإن من شأن هذه الهيئة المختلفة أن تعطي نتاجاً مختلفاً. ثم إنه خصّ الزيتون والرمان مع أنهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة (تفسير القرطبي 7/99). ويمكن أن يكون قوله سبحانه: ﴿ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ لكل أصناف الأطعمة المذكورة في الآية مع وجود تقديم وتأخير، أي: والنخل والزرع والزيتون والرمان مختلفاً أُكُلُه متشابهاً وغير متشابه. ويمكن أن يكون قوله سبحانه: ﴿ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ﴾ خاصاً بالجنات والنخل والزرع وأن المتشابه وغير المتشابه يكون للرمان والزيتون، أي والنخلَ والزرع مختلفاً أُكلُه، والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه. فهما متشابهان في الورق والغصن ومختلفان في الثمر. وعزا ابن منظور إلى أهل اللغة أنهم " قالوا متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الجودة والحُسن، وقال المفسرون: متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الصورة ويختلف في الطعم" (لسان العرب مادة: شبه).

ولأن الآية كلها تدور على هيئة الزرع فإن ﴿ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ يختص بتلك الهيئة ليتوافق الكلام على هذين الثمرين، إن خصصناها بهما، مع الكلام على هيئتهما وهيئة النباتات الأخرى.

19- ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 109].

وقد ورد في كتب التفسير أن الذين أقسموا هم الكافرون، وعزا الطبري إلى قرأةٍ من المكيين والبصريين أن الخطاب من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولأصحابه، "وذلك ان الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآيةٍ المؤمنون به، قالوا (أي هذا البعض من المكيين والبصريين): وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك أن المشركين حلفوا أن الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا رسول الله ربك ذلك، فسأل، فأنزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك: قُلْ للمؤمنين بك يا محمد إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله أنهم لَا يُؤْمِنُونَ... قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية قول من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله أعني قوله: ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 109]، وأن قوله أَنَّهَا بمعنى لعلها. وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب لاستفاضة القراءة في قرأة الأمصار بالياء من قوله لَا يُؤْمِنُونَ ولو كان قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ خطاباً للمشركين لكانت القراءة في قوله لَا يُؤْمِنُونَ بالتاء" (تفسير الطبري40: 12-43). وقد نبّه بذلك أنهم- أي المؤمنين- لا يعلمون الغيب وأن توقعهم مبنيٌّ على الظن وإن كانوا هم في أنفسهم لا يشكون أن الكافرين سيؤمنون، ولكن العالم بالغيب هو الله عز وجل وإنه يعلم أن الكافرين لا يؤمنون حتى وإن جاءتهم الآيات. ومفتاح هذا المعنى هو "أنّ" في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ ﴾ بمعنى " لعلّ" قاله الخليل وحكاه عنه سيبويه ( تفسير القرطبي 7/66). وقد وردت أنّ بمعنى لعل في كلام العرب كقول عدي بن زيد العبادي:
أعاذلَ ما يدريك أنّ منيتي
إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد


أي لعل منيتي. وكقول امرئ القيس، في رواية:
عوجا على الطلل المحيل لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن حزام


أي لعلنا نبكي وبها ورد البيت في روايات أخرى مشهورة. وكقول دريد بن الصمّة:
أريني جواداً مات هزلاً لأنني
أرى ما ترينَ أو بخيلاً مخلّدا


أي لعلي أرى، وهذا في كلام العرب كثير (تفسير القرطبي 7/66). وقد عدل القرآن الكريم عن استعمال لعل لما فيها من معنى الرجاء وهو المعنى الذي يتلاشى مع "أنّ".

20- ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151].

ولكي يتوضح معنى الآية فقد كان للغويين تقدير في قوله تعالى: ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾، فاختار البصريون أن يقدروا بعده أتلُ عليكم، ويكون سياق الآية هكذا: قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم، أتلُ عليكم ألا تشركوا به شيئاً... الخ. وأما الكوفيون فقد اختاروا بعده " حرّم عليكم"، ويكون سياق الآية تبعاً لذلك هكذا: قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم، حرّم عليكم ألا تشركوا به شيئاً... الخ. وكلا الاختيارين مقبول كما يقول القرطبي ( تفسير القرطبي 7/130). وأما الزمخشري فوقف عند قوله تعالى " ألا"، وهي كما هو معلوم: أن لا، ونظر إلى "أنْ" على أنها مفسرة، تُفسّر ما حرم الله، و" لا" على أنها ناهية وعطفت الأوامر بعضها على بعض فيكون السياق: لا تشركوا وأحسنوا بالوالدين ولا تقتلوا... إلخ ( الكشاف 2/76). وجعل ابن الشجري " عَلَيْكُمْ " منقطعة عن السابق، ويكون التقدير هكذا: أتلُ ما حرّم ربكم، عليكم (أي يجب عليكم) ألا تشركوا به وعليكم بالوالدين إحساناً وعليكم ألا تقتلوا أولادكم (تفسير القرطبي 7/130).

21- ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام 162-163].

وعرض العلماء للأولية في قوله سبحانه: ﴿ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ تأويلات تكاد تكون متقاربة، فذكر الطبري أن المراد هو أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أول هذه الأمة اسلاماً وإقراراً وخضوعاً لربه جل وعلا (تفسير الطبري 5/147-148). وتأويل الزمخشري قريب من هذا فقال: " لأن إسلام كل نبي متقدم لإسلام أمته" ( الكشاف 2/81). ونقل ابن كثير عن قتادة كلام شبيهاً بكلام الطبري واستخلص منه رأياً قريباً من رأي الزمخشري فقال: "وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قال قتادة: أي من هذه الأمة وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الاسلام، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له"( تفسير ابن كثير 2/176). غير أن القرطبي جعل هذا الرأي آخر ثلاثة أجوبة عن هذه المسألة، وأما الجوابان الآخران فقد استنبطهما من الأحاديث الشريفة وهما:
أ- إنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أول الخلق أجمع معنىً بناءً على الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول مَن يدخل الجنة... " (صحيح مسلم حديث رقم 855). وعلى قوله عليه الصلاة والسلام: "نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضيّ لهم قبل الخلائق" ( صحيح مسلم حديث رقم 856).

ب- إنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أول المسلمين "لكونه مقدماً في الخلق عليهم، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ﴾ [الأحزاب: 7]. قال قتادة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث. فلذلك وقع ذكره مقدماً قبل نوح وغيره" ( تفسير القرطبي 7/152-153). وهذا الحديث الذي بنى القرطبي عليه استنتاجه ذكره ابن رجب في لطائف المعارف (ص 162) وقال انه روي مرفوعاً، ورواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (417: 4) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال إن فيه سعد بن بشير ولعله يهم في الشيء بعد الشيء ويغلط والغالب على حديثه الاستقامة والغالب عليه الصدق، وذكر ابن كثير في تفسيره (383: 6) أن في ابن بشير ضعفاً وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة (661) وحكم الزرقاني في مختصر المقاصد (774) على الحديث بأنه صحيح.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 24-08-2020, 03:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم


أ. د. عباس توفيق

سورة الأعراف

1- ï´؟ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ï´¾ [الأعراف: 12].
والمعنى هو ما منعك أن تسجد، ولكن "أن تسجد" وردت هكذا: ï´؟ أَلَّا تَسْجُدَ ï´¾، وحسِب بعضُ النحاة أن "لا" زائدة، وأضفى البعض الآخر على هذه الزيادة معنى تأكيد النفي؛ (تفسير ابن كثير 2/180).
وإذا كان هناك زيادةُ معنًى أفادها الحرفُ، فمعنى ذلك انتفاءُ فكرة الحرف الزائد، وأن لكل حرفٍ أو صيغة تعبيرية دورًا في إجلاء المغزى.
ورفضَ ابنُ جرير تأويلَ الزيادة وتأكيد النفي، ومال إلى أن الفعل "منع" يتضمن معنى فعلٍ آخر، "وتقديره ما أحرَجك وألزمك واضطرَّك ألاَّ تسجُدَ إذ أمرتُك"؛ (تفسير ابن كثير 2/180).
وتحججَ إبليس بأنه خيرٌ من آدم - عليه السلام - وذلك بنظره إلى الأصل الذي خُلق منه كل واحدٍ منهما، فزكَّى نفسه وفضَّلها من غير رعايةٍ لكون أمرِ الله - تعالى - هو الأعلى، وبذلك ارتكب معصيتينِ؛ أولاهما: هي عدم إطاعة أمر الله سبحانه وتعالى، وثانيتهما: هي الكِبْر المتمثِّلُ في تفضيل نفسه، وقد أهبطه اللهُ - تعالى - وجعله صاغرًا ممَّا كان فيه لكبره لا لعدم إطاعة أمره؛ فقال - سبحانه -: ï´؟ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ï´¾ [الأعراف: 13]، فقد يُتبَع عدمُ طاعة الأمر بالتوبة والإنابة، والله - تعالى - يقبَلُ من عبده أَوْبَتَه، ولكن إبليس جمَع إلى العصيان الكبرَ الجِبِلِّيَّ، الذي يكون مصدرًا لحجبِ الخيرِ عن المخلوق.
ومن الكِبْر ما يمكن علاجُه بالدِّين، أو بالوسائلِ النفسية، أو بالإرادة الذاتية، إذا ما كان صفةً يفتعل المخلوقُ وجودها في ظل ظروف معينة، ولأن اللهَ - تعالى - علاَّم الغيوب يعلَمُ أن كبْرَ إبليس من النوعِ الذي لا ينفع معه النصح ï´؟ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ï´¾، وإن إبليس لم يرتدِعْ بسببٍ من كِبْرِه عندما أمَره الله - تعالى - بالهبوطِ، ولم يبادِرْ إلى التوبة من جسامة الذنب الذي ارتكبه، بل - ويا للغرابة! - زاد كِبْرُه وعناده، بأنْ طلَب من الله - تعالى - أن يُبقيَه إلى يوم الدِّينِ؛ ليُضلَّ بني آدم، مستمرًّا في الكبر والعناد!
إن إبليس أُمِر بما فيه فلاحُه؛ بالسجودِ لآدم - عليه السلام - فلم يستجِبْ، وأُمر بما فيه خسرانُه؛ بالهبوطِ، ففعَل بإرادتِه، أو بدون إرادته.
والكبْر من أخطر ما ابتُلي به الناس على مر الزمن، وهو نفْخُ الشيطان في الإنسان، ومع أن الله - تعالى - يأمُرُنا ألا نزكيَ أنفسنا بقوله - سبحانه -: ï´؟ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ï´¾ [النجم: 32]، إلا أن هذه الآفةَ مستشرية في حياةِ الكثيرين من الناس؛ فتهوين الآخرين أو تهوين آرائهم أو انتقادهم بدون وجه حق على ما يفعلون، وغير ذلك ممَّا نراه ونسمعه - ينطوي على تزكية للنفس، وتقليل من شأن الغير، وإن هذا الفعل مصدرٌ أساس للصراعات الحاصلة في الشؤون الحياتية والسياسية والاجتماعية، وحتى الدينية، وكأن إبليسَ يريد أن يورد الناسَ الهلاك من ذات المورد الذي ورده هو، بأن ينفُثَ روح "الأنا" المستعلية المريضة، ويشعل بسببها التناحر والتباغض، فينغِّص على الناس حياتَهم، ويجرُّهم بها معه إلى النار، والعياذ بالله.
2- ï´؟ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ï´¾ [الأعراف: 16، 17].
أ- أي: لأقعدَنَّ لهم على صرطِك المستقيم؛ لأصرفَهم عنه، أو لأتهيَّأَنَّ لهم على صراطِك المستقيم؛ لأحرفَهم عنه، وحذفَ حرف الجر "على"؛ لتشير الآيةُ باختصارِها إلى إسراع إبليس في التضليل الذي عبَّر عن عميق بُغضِه لبني آدم؛ بحيث إنه يُغلِق عليه الجوانبَ كلها، ويأتيه من كل اتجاه ليحقِّقَ فيه ظنَّه بإغوائه، فقال: ï´؟ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ï´¾ [الأعراف: 17].
ب- ومعنى ï´؟ شَاكِرِينَ ï´¾؛ أي: مؤمنين موحدين، وانصرافُ الناس عن الإيمان لا يضرُّ الله - تعالى - شيئًا، ولكن إبليس ينفُثُ ضغينتَه، ويُظهر صلَفَه بتحدِّي الله - تعالى - إمعانًا في الكِبْر، وكأنه يريد بذلك أن يبيِّنَ أنه هو المصيبُ، وأن تكريمَ الله - تعالى - للإنسان كان خطأ، والعياذ بالله.
ج- نوَّعَ الضمير بين المخاطب والغائب في ï´؟ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ï´¾، ثم وحَّده للمخاطب في ï´؟ مِنْكُمْ ï´¾؛ لأن مَن يتبع الشيطان يكون منه.
3- ï´؟ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا ï´¾ [الأعراف: 20].
وسوس له وإليه: حدَّثه بما لا خيرَ فيه ولا نفع، وقد فعَل إبليس ذلك، وكان يعلَمُ أن نجاحَه في إغوائهما لا يتسبَّبُ في طردِهما من رحمة الله كما طُرِد هو، بل سيوقِعُهما فيما يخجلانِ منه ï´؟ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا ï´¾ [الأعراف: 20].
4- ï´؟ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ï´¾ [الأعراف: 25].
الفعلانِ الأوَّلان مبنيَّان للمعلوم، وكأن المخاطبينَ يَحْيَوْن بأنفسهم ويموتون بإرادتهم، والفاعل هو مَن يقومُ بالفعل، وهو هنا الواو المشيرة إلى المخاطبين، ومع أن الأمر ليس كذلك في الحياة أو الموت؛ أي إن الإنسانَ لا يقوم بفعلهما ذاتيًّا وإراديًّا، إلا أنَّ طبيعة اللغة جاريةٌ على اعتباره وكأنه قائم بهما، ولا يكاد إسنادُهما يكون لغيره، وأما الفعل الثالث "تُخْرَجُونَ"، فقد قُرئ بفتح التاء ليتوافق مع الفعلينِ الآخرين في البناء للمعلوم، وقد قُرِئ بضم التاء مبنيًّا للمجهول بالالتفات إلى انعدامِ قدرة الإنسانِ على فعل شيءٍ بنفسه وهو ميت، وأن خروجَه إنما هو إخراجٌ في واقع الحال.
5- ï´؟ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ï´¾ [الأعراف: 26].
اللباس لسترِ العورات، وهو من الضروريات، والرِّيش للتزيُّن والتجمُّل، وهو من الكماليات؛ (تفسير ابن كثير 2/184)، وكلاهما لستر العورات الظاهرية، ولكنَّ عوراتِ الإنسان القلبية أَولى بالستر؛ ولهذا قال: ï´؟ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ï´¾ [الأعراف: 26]؛ أي: أفضل، فلا قيمة لهِندام المرءِ إذا كان باطنه خرِبًا، ولأن السترَ من الضرورات جاءت الآيةُ السابعة والعشرون محذِّرةً من الشيطان، ومن أن يفعَلَ بالناس ما فعَل بأبيهم آدم ï´؟ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ï´¾ [الأعراف: 27]، وقد فتَن الشيطانُ الناسَ، فنزَع عنهم أو عن معظمهم السترَ القلبي، بأن جعلهم كافرين ووثنيين، وأزال عنهم السترَ الظاهريَّ المتمثل في الملابس، فكانوا يُلقونها رجالاً ونساءً في طوافهم بالبيت؛ بدعوى عدم جواز الطواف بملابس عصَوُا اللهَ - تعالى - فيها، ثم جعلوا هذا العُرْيَ مما أمَر الله به؛ ï´؟ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ï´¾ [الأعراف: 28]، وقد نجَح الشيطانُ مرة أخرى الآن في نزع لباس الإنسان، ولكن بدعوى التطور، ومجاراة الموضة، أو أن هذا اللبس أو ذاك أكثرُ ملاءمةً ومناسبة لطبيعة العمل الذي يقوم به الناس، وخاصة النساء، وغير ذلك من أسباب إلقاء اللباس.
6- ï´؟ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ï´¾ [الأعراف: 38].
لكل منهما ضعفٌ؛ لأن الأوَّلينَ كانوا أولينَ من الناحية الزمنية أم كبراء مِللِهم قد كفروا وروَّجوا لكفرهم، وحملوا أتباعَهم عليه، وأما الآخِرون زمانيًّا أو مكانةً، فلأنهم كفروا واتبعوا سابقيهم أو كبراءَهم بدون بصيرة، وجعلوهم يفكِّرون بدلاً عنهم، وعطَّلوا عقولَهم الذاتية التي هي مناطُ التكليفِ، فلم يستعملوها في التمحيصِ والوصول إلى الحقيقة.
7- ï´؟ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ï´¾ [الأعراف: 43].
ومعنى أورثه شيئًا: ترَكه له، وأعقبه إياه؛ أي صارت الجنَّةُ عقبى لكم، وأوَّلَه الطبريُّ بأورثكم اللهُ - تعالى - عن الذين كذَّبوا رسله، بتصديقِكم إياهم، وإطاعتِكم ربَّكم، وروى عن السديِّ أن ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنَّة والنار منزلٌ، فإذا دخل أهلُ الجنة الجنةَ وأهلُ النار النارَ، ودخلوا منازلَهم، رُفعت الجنَّةُ لأهل النار، فنظروا إلى منازلِهم فيها، فقيل لهم: هذه منازلُكم لو عمِلْتم بطاعة الله، ثم يقال: يا أهل الجنة، رِثُوهم بما كنتم تعملون، فتوزع تلك المنازلُ على أهل الجنة؛ (تفسير الطبري 12/442-443).
8- ï´؟ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ï´¾ [الأعراف: 44].
وأظهر المفعول به في ï´؟ وَعَدَنَا رَبُّنَا ï´¾، وأخفاه في ï´؟ وَعَدَ رَبُّكُمْ ï´¾، على تقدير وعدكم؛ لأن الحوار بين المؤمنين وغير المؤمنين، والوعد المسؤول عنه هو العذاب، فالذين دخلوا الجنة كانوا صِنفًا واحدًا يجمَعُهم الإيمان، وأما الذين دخَلوا النار، فقد كانوا أصنافًا، وقد يكون مِن بينهم المؤمنون العاصون إلى أن يتطهروا، فحُذف المفعولُ به "كم"؛ لأن إظهارَه يجعل المخاطَبين بأصنافهم المختلفة متساوين ومشمولين بما في السؤال من تقريعٍ، بينما التقريع خاصٌّ بغير المؤمنين، والله أعلم.


9- ï´؟ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ï´¾ [الأعراف: 51].
والله - تعالى - لا ينسى، وإنما ورد هذا الفعل من باب المشاكلةِ اللفظية لنسيان الناس لربهم، وقد يكون المقصودُ أننا نهملهم ونتركُهم، كما أهملوا هم هذا اليومَ وترَكوه فلم يعدُّوا له عدَّته في حياتِهم الدنيا.


10- ï´؟ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [الأعراف: 54].
وسواء كانت هذه الأيام كأيام الدنيا، أم كان كلُّ واحد منها كألف سنة؛ (تفسير ابن كثير 2/195) - فإن الله تعالى قادرٌ على أن يخلق ما خلَق في لحظة، وقد ورد في القرآن الكريمِ كثيرًا أنه إذا أراد شيئًا ï´؟ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ï´¾ [آل عمران: 47، وغيرها]، ولكن الحكمةَ مِن خَلْقه للسمواتِ والأرض في ستة أيام هي - والله أعلم - أن يُريَ ملائكتَه قدرتَه، فكما أظهر لهم تلك القدرة في أشياء بإيجادها في لحظة، أظهَرَ لهم القدرة في خلق السموات والأرض بصورة متكرِّرة ومتجددة.
11- ï´؟ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ ï´¾ [الأعراف: 62]، ï´؟ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ï´¾ [الأعراف: 68]، ï´؟ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ï´¾ [الأعراف: 79]، ï´؟ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ï´¾ [الأعراف: 93].


وجاءت ï´؟ رِسَالَاتِ ï´¾ بصيغة الجمع وï´؟ رِسَالَةَ ï´¾ بصيغة المفرد، ورسالة الأنبياء واحدة، ولكن صيغة الجمع تكونُ بالالتفات إلى الأوامر والنواهي المتعددة والمتكررة، وكأن كل واحد منها رسالة، والذي يناسب التعدد والتكرار هو الجمعُ الذي ورد ثلاث مرات، وأما صيغة المفرد، فبالالتفاتِ إلى المنهج الربَّاني الواحد الذي دعا إليه الأنبياءُ، والذي يحوي فيه كل ما شرعه الله - تعالى - لعباده، وهو منهجٌ لا تعدُّدَ فيه.


12- ï´؟ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ï´¾ [الأعراف: 115، 116].
البادئ بالكلام هم السحرة، وانطوى بَدْؤُهم به على رغبتِهم في أن يكونوا أولَ الملقين؛ لتكون المبادَأَةُ في أيديهم، ويُفلِتوها من يدِ موسى - عليه السلام - ويُرْهِبوه ويُوهِنُوا عزيمتَه، ويحقِّقوا بذلك هدفَهم الذي اجتمعوا من أجله، ولكن الذي حصَل هو أنهم أفزَعوا الناس وأرهبوهم بما جاؤوا به، وأما موسى - عليه السلام - فما كان منه إلا أن ألقى عصاه، وانقلب السِّحرُ على الساحر، ويبدو أن جمهور الناس الذين فزعوا بما رأوا من السحرة، زُلزلوا بالنتيجة، وأيقنوا أو أيقن قسمٌ منهم بصحة ما جاء به موسى - عليه السلام - ولكنهم لم يجهَروا بتيقُّنِهم؛ خوفًا من فرعونَ الذي يبدو أنه أيقَن هو أيضًا فقد "انْقَلَبُوا صَاغِرِينَ"، ولكنه أنكَر كِبْرًا، وسكت القرآنُ الكريم عما كان من الناس، وأبرَز مآل السَّحرة الذين كانت آمال فرعون معقودةً عليهم؛ ï´؟ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ï´¾ [الأعراف: 119، 120]، فإذا أقرَّ المُناظِر والخبيرُ بالحقِّ، فإن المراقِب الذي جاء بالمُناظر والخبير لدفع الخصم، سيؤول إلى الخِذلانِ، وستسقُط من يدِه أسبابُ قوَّتِه.


ï´؟ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ï´¾ [الأعراف: 121، 122]، وï´؟ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ï´¾ [الأعراف: 122] عطفُ بيانٍ لـ ï´؟ رَبِّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [الأعراف: 121]؛ أي إنهم قالوا: إنهم آمنوا بذلك الربِّ الذي هو لموسى وهارون - عليهما السلام - لكيلا يظُنَّ فرعون أو يشيعَ بين الناس أن السحرةَ آمنوا به هو؛ حيث كان يدَّعي الألوهيةَ لنفسه، أو بما كان يقوله في أن موسى - عليه السلام - ساحر، ولقد أغلق السحرةُ عليه باب التلاعب بالحقيقة ببيان أن الرب الذي آمنوا به هو: ï´؟ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ï´¾ [الأعراف: 122].


14- ï´؟ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ï´¾ [الأعراف: 127].


ï´؟ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ï´¾ "قال بعضهم: الواو هنا حالية؛ أي: أتذرُه وقومَه يفسدون في الأرض، وقد ترك عبادتك؟... وقال آخرون: هي عاطفةٌ؛ أي: أتدَعُهم يصنعون من الفساد ما قد أقرَرْتَهم عليه وعلى ترك آلهتك، وقرأ بعضهم: إلاهتك؛ أي: عبادتك"؛ (تفسير ابن كثير 2/210).


15- ï´؟ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ï´¾ [الأعراف: 145].
وقد يكون المعنى هو العملَ بالأوامر وترك النواهي، وقد يُنظر إلى الأعمال على أن فيها الحسنَ؛ كالاقتصاص والانتصار في مواضع الحق، والأحسن؛ كالعفو والصبر، وإن الله - تعالى - وجَّه موسى إلى أن يأمُرَ قومَه أن يحمِلوا أنفسَهم على الأخذ بما هو أدخلُ في الحُسْن، وأكثَرُ للثواب؛ (الكشاف 2/152، تفسير القرطبي 7/269).
16- ï´؟ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ï´¾ [الأعراف: 158].
وقد يكون معنى: ï´؟ الْأُمِّيِّ ï´¾ الذي لا يقرَأُ ولا يكتب، وقد يكون نسبةً إلى أمِّ القرى، وهي مكة.
17- ï´؟ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ï´¾ [الأعراف: 160].
والسِّبط مذكَّر، ولم يُجارِه العددُ في التذكير، فضلاً عن أن تمييز العدد جاء جمعًا لا مفردًا، كما هو المقتضى في هذا الموضع، وكان تأنيثُ العدد بالنظر إلى معنى السبط في بني إسرائيل، وهو الجماعة والقبيلة؛ لأن كلَّ سِبط في بني إسرائيل كان أمَّةً وجماعة، فكأنه قال: وقطَّعناهم اثنتي عشْرةَ أمَّة، أو قبيلة، أو جماعة.
ونقل البغوي عن الفراء أن تأنيث العدد راجعٌ إلى الأمم؛ (تفسير البغوي 2/168)، وهو رأي قال به القرطبي أيضًا؛ (تفسير القرطبي 7/289)، وذكر الرازيُّ في تفسير سورة الأعراف في كتابه "التفسير الكبير" أن كل قبيلةٍ مؤلَّفة من أسباط، وأنه وضَع الأسباط موضعَ القبيلة، ونُقل عن الزجاج أن أسباطًا نعتٌ لموصوف محذوف، وهو الفِرْقة.
وأما أبو عليٍّ الفارسيُّ، فإنه يرى الأسباط بدلاً من اثنتي عشرة، وذكر الزمخشري أن ï´؟ أُمَمًا ï´¾ بدلٌ من ï´؟ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ï´¾، بمعنى: وقطعناهم أممًا أسباطًا، ولو قيل: اثني عشر سبطًا "لم يكن تحقيقًا؛ لأن المراد: وقطَّعْناهم اثنتي عشْرةَ قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط، فوضع أسباط موضع القبيلة"؛ (الكشاف 2/162).
18- ï´؟ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ï´¾ [الأعراف: 170].
أي: يعتصمون به، ويُقيمون أوامرَه، وتضعيف الفعل "يُمَسِّكُونَ" للتنويهِ بالقوة في الاعتصام والتنفيذ وعدم التراخي، ويقتضي التمسُّكُ بالكتاب إقامةَ الصلاة، ولكن الله - تعالى - أفرَدها بالذِّكر؛ تأكيدًا لها، وإعلاءً لشأنها، وبيانًا لمزيد أهميتها، ويدخُل هذا في باب ذِكر الخاص بعد العام، ويؤتى به عادة معطوفًا بالواو، وكأنه ليس مِن صنف العام، وأنه قائمٌ بذاته؛ فالتمسك بالكتاب عامٌّ، وإقامةُ الصلاة خاص، وï´؟ يُمَسِّكُونَ ï´¾ فعلٌ مضارع، وعطف عليه الماضي ï´؟ وَأَقَامُوا ï´¾، وقلَّ ما يُعطَف ماضٍ على مستقبل إلا في المعنى؛ (تفسير البغوي 2/177).
والمراد هو - والله أعلم - تمسَّكوا بالكتاب، وأقاموا الصلاة، وقرأ أُبيُّ بن كعب: "تمسَّكوا" على الماضي (المصدر نفسه)، أو أن المعنى هو يتمسَّكون بالكتاب، ويقيمون الصلاة؛ تنويهًا باستمرارية الالتزامِ بالمنهج والعمل به، وهذه الاستمراريةُ يكشِفُها الفعلُ المضارع الدالُّ على التجدُّد والدوام.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 24-08-2020, 03:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم
سورة الرعد












أ. د. عباس توفيق





1- ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 1].



بدأ عددٌ من سور القرآن الكريم بحروفٍ مقطعة مثل: ﴿ الم ﴾ و﴿ الر ﴾ وغيرهما، وبدأت هذه السورةُ المباركة بـ﴿ المر ﴾.

ولعلماء التفسير آراء واجتهادات في فَهمِها، ويردُّون في الوقت عينِه المرادَ الحقيقي بها إلى الله تعالى.





وإنما وقفت هنا؛ لأن الطبري رحمه الله روى من طرقٍ عن ابن عباس رضي الله عنه أن ﴿ المر ﴾؛ تعني: "أنا الله أرى"؛ (تفسير الطبري 7: 326)، وقد قال بهذا المعنى عن ابن عباس وغيره أيضًا عندما كان بصدد تفسير ﴿ الر ﴾ في بداية سورة يونس؛ (تفسير الطبري 6: 525).

وبين الافتتاحين زيادةٌ في حرف الميم في سورة الرعد، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى كما يقال، غير أن المعنى الذي أورده الطبري واحد، وإن كان المبنى مختلفًا قليلاً، ويبدو - والله أعلم بالمراد - أنه إذا كانت ﴿ الر ﴾ تعني: أنا الله أرى، فإن الميم المضافة في ﴿ المر ﴾ لا بد أن تشير إلى زيادة لتكون مثلاً: أنا الله أعلم وأرى.






2- ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ [الرعد: 2].


الضمير في ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ قد يعود على السَّمَوَاتِ، وقد يعود على عَمَدٍ؛ ففي الحالة الأولى ترتبط الجملة بالسموات فتكون حالية، وعندئذٍ يُحتمل أن تكون السموات مرفوعة بغير عمد أصلاً، أو أنها تكون مرفوعة بعمد، ولكن لا يراها الناس.



ويمكن أن تكون ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ استئنافية، فيكون المعنى: رفعها بغير عمد أنتم ترونها.

وإذا عاد الضمير على العمد، فإنها تصير موصوفة بالجملة، ويكون المعنى: أنها مرفوعة بأعمدة غير مرئية.

وبكلا الرأيينِ قال المفسرون ونقلوا، ولكن ابن كثير مال إلى اعتبار الرفع بغير عمد؛ لأنه الأكمل في القدرة؛ (تفسير ابن كثير 4: 429).

إن الاحتمالين يَعْنيان أن السموات مرفوعة حتمًا، ولكن الرفع حاصل بالقدرة الإلهية، أو بالأعمدة غير المادية التي تُمثِّل القوانين التي تحكم نظام الكون، وكلا الاحتمالين من قدرة الله تعالى، فهو سبحانه خالق القوانين ومُودِع الأسرار فيها، ولئن شاء رفع السموات بدون سبب أو بالواسطة التي أودع هو فيها القدرة على أداء ما يريده سبحانه.






3- ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الرعد: 3].

﴿ جَعَلَ فِيهَا ﴾ الأولى بمعنى وضع فيها، أو أوجد فيها.

﴿ وَجَعَلَ فِيهَا ﴾ الثانية بمعنى أنشأ وخلق، وقد تكون ﴿ جَعَلَ فِيهَا ﴾ الثانية توكيدًا لـ﴿ جَعَلَ فِيهَا ﴾ الأولى.






وللزوج معانٍ مختلفة؛ منها:


كل واحد معه آخر من جنسه، ويبدو أن الطبري أخذ بهذا في تأويله، فالتفت إلى العدد حين قال: "وعنى بـ﴿ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾: من كل ذكرٍ اثنان، ومن كل أنثى اثنتان، فذلك أربعة، من الذكور اثنان ومن الإناث اثنتان في قول بعضهم"؛ (تفسير الطبري 7: 331).

ومن معانيه: الشيء أو الشكل له نقيض؛ كالرطب واليابس، والذكر والأنثى، ويبدو أن هذا هو المعنى الذي أخذه الزمخشري، فذكر أن المراد بالزوجين هو الأسود والأبيض، والحامض والحلو، والصغير والكبير؛ (الكشاف 2: 493).

وللزوج معنى آخر هو النوع والصنف، وهو المراد والله أعلم.






وتأمُّلُ الوجود يفضي إلى تبيُّن "نظامين" منفصلين؛ هما:


الوحدانية، وهي الخاصة بالله سبحانه وتعالى، لا يشاركه في ذلك أحد.

والثنائية التي هي صفة المخلوقين أيًّا ما كانوا.

فالذكر والأنثى نوعان مختلفان وليسا متناقضين، فلكل واحد منهما خصائصه، وتنشأ عن تلاقيهما ديمومة الكائنات الحية.

والليل والنهار وقتان مختلفان يُتمِّم بعضهما بعضًا لينتجا بحركتِهما شيئًا واحدًا هو الزمن.

والشمس والقمر جِرْمانِ لا تربط بينهما صفة ولا زمن، وترتبط بهما أجرام أخرى وظواهر كونية.

فهذه الثنائية هي في الأنواع، وهي متتامة، وإن حركة الكون مرهونة بتلاقيها لا بانفرادها أو انفصالها على أساس العدد أو النقيض.






4- ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الرعد: 6].

أي سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيَهم بالعذاب سخريةً واستهزاءً، غير معتبرين بالتجارب الماضية.




و﴿ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾ قد تعني على فعلِهم ما فعلوا من غير بيِّنة أو توجيه، وقد تعني: مع ظلمهم؛ أي: إنه سبحانه لذو مغفرة للناس على الرغم من ظلمهم، وقد أكَّد المغفرة بـ(إن واللام)، وبهما أكد شدة العقاب؛ ليتساوى الجناحان اللذان بهما يقوم الإنسان: الرجاء والخوف.






5- ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [الرعد: 7].

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾ [الرعد: 27].

ذكَّر الفعلَ "أُنزِلَ" مع أن نائب الفاعل آيَةٌ مؤنث؛ لوجود فاصل بينهما، ولأن نائب الفاعل مؤنث غير حقيقي.

أراد الكافرون آيةً وكأنهم لم يروا الآيات التي جاءتهم؛ كانشقاق القمر مثلاً، أرادوا آية وقد صمُّوا آذانهم عن الاستماع إلى أعظمها وهو القرآن الكريم، فكان الرد عليهم: ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ﴾.

وفي قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ ورد ذكر المنذر والهادي، ونقل الطبري آراءً مختلفة تتَّفِق على أن المنذر هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتختلف في الهادي:

فمن قائلٍ: إن الهادي هو الله تعالى؛ (تفسير الطبري 7: 342).

ومن قائلٍ: إن نبيَّ القوم هاديهم، أو أن الهادي هو القائد؛ (نفسه 7: 342-343).

إن الوظيفة الأساسية للأنبياء هي الإنذار، وهي كذلك بحقِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإنذار يحصل بالآية وبدونها، وحصر الدور هنا بالإنذار معناه أنك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس عليك أن تثبِّت الإيمان في صدورهم، "ولستَ بقادرٍ عليه، ولكل قومٍ هادٍ قادرٌ على هدايتِهم بالإلجاء، وهو الله تعالى"؛ (الكشاف 2: 495).

وربما كان المراد أن لكل قوم هاديًا بآيةٍ مخصوصة، وطريقة مغايرة لآية وطرق الأنبياء الآخرين؛ فآية موسى عليه السلام كانت العصا، وآية عيسى عليه السلام كانت إحياء الموتى وشفاء الأكمه والأبرص، وأما آية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهي القرآن وما جرى على يديه من خوارق.

والهادي يكونُ بمعنى الدليل والمرشد ومَن في المقدّمة، وفي وقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان هو كذلك، فجمع بين أن يكون منذرًا لقومه ودليلاً ومرشدًا لطريق الخير والاستقامة.

وكلما جاء جيلٌ كان لهم دعاة على منهج المنذر، فكان أولئك الدعاة هداةً، ويُستَنبط هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾، فهي جملة اسمية ينعدم فيها الزمن، فتشمل الماضين واللاحقين، فيكون المنذر خاصًّا بالأنبياء عليهم السلام، والهادي مشتركًا بينهم وبين أتباعهم؛ إذ يكون النبي هو الهادي في حياته، وأما بعد وفاته، أو ربما في حال غيابه، فيكون السائرون على منهجه وخطاه والداعون إليه هم الهادين إلى أن يأتي النبي اللاحق، فتنتقل الراية إليه وإلى أتباعه، وهكذا.

إن الدلائل التي أرادها الكافرون لم تكن هي التي تمنحهم الهدى، فمَن كان أعمى البصيرة ما كان ليرى الآية التي تأتيه أو يعتبر بها، وإذا أذعن لها مؤقتًا، فإنه كان يريد غيرها بعدئذٍ، وهلمَّ جرًّا، والمسألة كلها هي هداية من الله تعالى، بالآية وبدونها يهدي مَن يشاء ويضل من يشاء.






6- ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ [الرعد: 12].

﴿ والسَّحَابَ ﴾ هو الغيم، سواء كان فيه ماء أم لم يكن.

و﴿ الثِّقَالَ ﴾ جمع الثقيل، والوصف به للإشارة إلى السحاب المحمل بالماء.




﴿ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ بمعنى يُوجِده، وبمعنى يرفعه، فأنشأ الله السحاب؛ أي رفعه، وكلا المعنيين مناسب في هذا الموضع.

وأجرى السحاب مجرى العاقل فوصفه بـ﴿ الثِّقَالَ ﴾، وهي جمع، ولم يقل الثقيلة، كما نقول نحن الأمطار الغزيرة، والعواصف الرعدية، والغيوم المتراكمة، وغيرها، فهي جميعًا وصف بالمفرد، جريًا على قاعدة معاملة جمع غير العاقل معاملة المفردة المؤنثة.

وقد يُنظر إلى ذلك في الدراسات النقدية الحديثة على أنه تشخيص؛ أي: إضفاء صفات الشخصية الإنسانية على ما ليس بإنسان، ولكن الاستعمال القرآني دقيق، ويرِدُ في مواضعَ كثيرةٍ منه وصف الجمع غير العاقل بصفة العاقل، فتكون الصفة جمعًا؛ كهذه الآية التي نحن بصددها.

وكقوله سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [آل عمران: 7].

وكقوله: ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ﴾ [النور: 34].

وكقوله: ﴿ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: 67]، وغيرها كثير.

ومَرَدُّ ذلك إلى أن هذه الأشياء تبدو لنا نحن غيرَ عاقلة، فنعاملها لُغويًّا تبعًا لذلك، ولكنها في نظر الله تعالى جنوده وعباده، يفعلون ما يأمرهم به، ويُسبِّحون بحمده، والقائم بهذه الأفعال عاقلٌ، فيُجرَى عليه ما يُجرَى على العاقل في قوانين الكلام.

ولفظ ﴿ السَّحَابَ ﴾ مفردٌ، ودلالته جمع، ولوصفه بـ﴿ الثِّقَالَ ﴾ بصيغة الجمع مغزى آخر، فلو قال مثلاً: الثقيل؛ لدلَّ على المرة الواحدة، لا على المداومة والتَّكرار اللذين يُلحظان في ﴿ الثِّقَالَ ﴾؛ إذ كلما تخفَّفت قطعة منه بإنزال المطر حلَّت محلَّه قطعة أخرى، أو ارتفع سَحَاب ممتلئ بديل.






7- ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [الرعد: 15].

ذكر ﴿ مَنْ ﴾ بتغليب العاقل؛ لأن الفعل الذي يتحدَّث عنه وهو السجود يصدر عن العقلاء.

وقال الطبري: فللهِ يسجدُ مَن في السموات من الملائكة الكرام ومَن في الأرض من المؤمنين به طوعًا، فأما الكافرون به، فإنهم يسجدون له كرهًا حين يكرهون على السجود؛ (تفسير الطبري 7: 366).

ظل المؤمن يسجد طوعًا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعًا وهو كاره؛ (نفسه 7: 367).

ويبدو من نسق الآية الكريمة أن الطواعية والإكراه هما للشخوصِ والذوات، وكيف يسجدُ الكافر وهو لا يسجد لا طوعًا ولا كرهًا؟

إن المعنى هو أن مَن في السموات والأرض يخضع لله تعالى، شاء ذلك أم لم يشأ، وكذلك تفعل ظلالهم.

وأما السجود بمعنى وضع الجبهة على الأرض، فهو خاصٌّ بالإنسان، والله أعلم بكيفية سجود الكائنات الأخرى.

والسجود طوعًا وكرهًا قد يحمل معنى الإجبار على السجود، أو أن الأشياء مجبولة عليه، أو أن السجود يكون بمشقة.

وأما ظِلالُهُم، فهي وإن كانت معطوفة على "مَن"، فإنها غير مشمولة بالطوع والكره، وهذا أدعى لإظهار القوة الإلهية؛ لأن الكافر الذي يتكبَّر على الله تعالى، والذي لا يسجد له، يكون من الضعف بحيث يعجز عن التحكُّم في ظلِّه ومنعه من السجود، فيسجد رغم أنفه.






8- ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ﴾ [الرعد: 16].

السؤال عن الأعمى والبصير في بصيرتَيْهما، وليس عن الأعمى في حاسة بصره، فحاشاه سبحانه أن يبتلي عبدَه ببلاء ثم يعيِّره به.

السؤال موجَّه إلى المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، وهي أحجار صنعوها بأيديهم، ووضعوها في مواضع تحكَّموا بها هم، ثم تطامنوا أمامها من دون الله.

والسؤال يستثير عقولهم ليتفكروا في حقيقة ما كانوا يفعلون، وكذلك الحال مع الأعمى الوارد ذكره في الآية 19؛ إذ جاء في مقابل مَن يعلم، والعلم لا يكون في العين: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19].

أو أن الأعمى يفتقر إلى مَن يقوده، كما أن القابع في الظلمات يحتاج إلى مَن يأخذ بيده ويدلُّه على دربه، بينما البصير - أو مَن هو في النور - مستغنٍ عن قيادة الغير؛ فالأنبياء ومَن بعدهم ممَّن هم على منهجهم هم المبصرون، وأما الكافرون ومَن في الظلمات، فسواء حالُهم، يحتاجون إلى مَن يرشدهم ويدلهم على الطريق ليخرجوا إليه وينجوا مما كانوا فيه.






9- ﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [الرعد: 18].

الاستجابة لله تعالى تورث ﴿ الْحُسْنَى ﴾؛ أي: الجزاء الجميل حق الجمال، وعدم الاستجابة تورد الهلاك والعياذ بالله.

وبحسابات الآخرة وقياسها على الدنيا يكون المستجيبون هم أهلَ الغنى الفعلي، ويكون غير المستجيبين أهل الفقر والعِوَز والإفلاس، الذين لو كان يُقبَل منهم لافتدوا أنفسَهم بكل ما في الأرض مضاعفًا، فكأن المستجيبين امتلكوا ﴿ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ ﴾، فبذلوه في الدنيا بالاستجابة والطاعة، وأمسك به غير المستجيبين وبذلوه بعد فوات الأوان، فكان للطائفة الأولى ﴿ الْحُسْنَى ﴾، وللطائفة الثانية ﴿ سُوءُ الْحِسَابِ ﴾؛ أي: شدته والمؤاخذة بالذنوب كلها، فلا يُتجاوز عن شيء منها ولا يُغفر.






10- ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26]؛ أي: فرِحوا بما بسط لهم من الرزق في الحياة الدنيا، وجاء الضمير في ﴿ فَرِحُوا ﴾ جمعًا بالالتفات إلى معنى الجمع في ﴿ مَنْ ﴾.

وورد الفعل ﴿ يَبْسُطُ ﴾ بصيغة المضارع؛ لأنه سبحانه يفعله على التجدُّد والدوام، وأما ﴿ فَرِحُوا ﴾، فوردت بصيغة الماضي؛ لأنه للذين أُوتُوا الرزق، وكأنَّ ما أوتوه قد انتهى وزال عنهم، وإن كانوا ما يزالون أحياء؛ لأنه سيزول عنهم، فما كان في اليوم حاضرًا سيصير في الغد ماضيًا، ولأن الغد آتٍ، فإن الحاضر منصرم.

وفي هذه الآية إِلْمَاحة أخرى إلى حقيقة الغنى والفقر، حينما يُلتفَت معهما إلى الآخرة، فمن بُسِط له في رزقه إنما أوتي متاعًا وهو الشيء القليل الذاهب، وعندما يُدرِك فقير الدنيا أن ما فاته إنما هو متاعٌ لا قيمة له، فإنه لا يحزن، ويتساوى الفقير والغني فيما أوتيا، وتصبح درجة إيمانهما بالله تعالى وارتباطهما به هي المصدر الفعلي لغناهما وحيازتِهما لما هو حقيق بالامتلاك والبقاء.






11- ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].

﴿ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ ﴾، فآمنوا وردت بالماضي لاستقرار الإيمان في القلوب، ووردت ﴿ تَطْمَئِنُّ ﴾ بالمضارع للإشارة إلى تجدد حركة الاطمئنان، وهي حركة مرتبطة بدرجات الإيمان زيادةً ونقصانًا، وهي هنا للزيادة، فاطمئنان القلب بذكر الله هو زيادة في الإيمان.






12- ﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ [الرعد: 30]؛ أي: أرسلناك إلى أمة، ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي ﴾؛ أي: إن الرحمن الذي تكفرون به هو ربي.

وذكر المفسرون أن ذكر الرحمن عائدٌ إلى أن الكافرين لم يقرُّوا به؛ "لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله بالرحمن الرحيم، ولهذا أنِفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم، وقالوا: ما ندري ما الرحمن الرحيم"؛ (تفسير ابن كثير 4: 460).

ومع أن هذا ممكنٌ إلا أن للرحمن ههنا مناسبة أخرى، والله أعلم، وهي أن الآية بصدد إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمته ليهديَهم إلى طريق الله، واشتملت الآية السابقة على جزاء المؤمنين، وهذا كله من رحمة الله تعالى بعباده، وقد قال في سورة الأنبياء 107 مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ولأن كلمة "الرحمن" تنطوي على صفات الرحمة كانت هي الأنسب في هذا الموضع وفي هذا السياق.






13- ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [الرعد: 31].

جواب ﴿ لَوْ ﴾ محذوف، تقديره لكان هذا القرآن، والمعنى أن لو كان في الكتب السماوية كتابٌ تسير به الجبال، أو تُقطَّع به الأرض، أو يُكلَّم به الموتى، لكان هذا القرآن.

﴿ أَفَلَمْ يَيْئَسِ ﴾؛ أي: أفلم يعلم ويتبيَّن على رأي بعض البصريين، ولكن الكوفيين أنكروا أن تكون يئس بمعنى علم، ويترجح رأي البصريين بقراءة بعض الصحابة كعلي وابن عباس رضي الله عنهما: "أفلم يتبيَّن الذين آمنوا"، وعلاوة على ذلك، فقد روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أنهم أوَّلوا قوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَيْئَسِ ﴾ بـ: "ألم يتبيَّن"، أو "ألم يعلم"؛ (تفسير الطبري 7: 388-389).






14- ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ﴾ [الرعد: 35].

ذكر المفسرون أن الظل دائم؛ لأن الجنة لا شمس فيها، ولعل المراد من ديمومة الظل، والله أعلم، هو توقُّف الزمن بحسب القوانين الأرضية؛ ذلك أن حركة الظل طولاً وقصرًا دالَّة على حركة زمنية، ولكنه إذا كان دائمًا كان ذلك علامةً على أنه غير متحرِّك، ومن ثَمَّ فإن الزمن ينعدم بمفهومه الأرضي، ويبقى أصحاب الجنة على ما هم عليه من قوَّة وفتوَّة.






15- ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 38، 39]؛ أي إن الشرائع أتت بحسب الأزمنة والمصالح، فإذا تغيَّرت الأزمنة بعث الله تعالى رسلاً آخرين بما محاه وما أثبته من الشرائع السابقة، ولكن أصل ما كانوا يدعون إليه - وهو التوحيد - باقٍ كما هو، والله أعلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24-08-2020, 03:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم .. سورة يونس
عباس توفيق

- (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)[يونس: 2].


قد اختُلف في تأويل: (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ):

فقيل: سبقت لهم السعادة في الذِّكر الأول.

وقيل: إن لهم أعمالاً صالحة قدَّموها؛ كالصوم، والصلاة، والصدقة، وغيرها.

وقيل: لهم سلف صدق عند ربهم؛ تفسير ابن كثير 2/349.

ولعل المراد هو المؤمنون المسارعون المتسابقون إلى الخيرات.

وقال: (قَدَمَ صِدْقٍ)؛ لأن التسابق يتمُّ بالقدم، وهذا من المجاز المرسل، وتعقيب الكافرين على البشارة أنهم قالوا: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)؛ لأنهم لَمَسوا تأثير القرآن الكريم في متَّبعيه، أو إنهم رأَوا من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمورًا خارقة، فنسبوا ذلك التأثير أو ما رأَوه من خوارق إلى السحر.

2- (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)[يونس: 5].

وقد يُعدُّ الضياء والنورُ لفظينِ مترادفين في المعنى على تفاوتٍ في درجة سطوعِهما، واستُعمِل كل واحدٍ منهما للجرم بحسب ضيائه، والأدعى إلى القبول أن مصدر الضياء هو الشيء ذاته، وهو هنا صادرٌ من الشمس، وكذلك تُستعمل الكلمة للنار، وأما النور، فهو مأخوذ من مصدر آخر كالقمر، الذي يكتسب شعاعه من ضوء الشمس.

(وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)، والضمير في: (قَدَّرَهُ) مفردٌ، وعائد على القمر دون الشمس، مع أن الأزمنة تُضبط بهما معًا، ولكن اقتصار الإشارة على القمر مردودٌ إلى أن تحصيل المعرفة بالزمن يكونُ بمتابعة حركة القمر التي تستغرق شهرًا في منازله، فيُعرَف بها الشهور، وبمتابعة الشهور تُعرف السنون وتُضبط الواجبات الدينية والالتزامات المالية وغيرها[تفسير المنار 11/249].

وهذه معرفة ميسورة ومتاحة لكل راءٍ للقمر، بينما تُعين الشمس على معرفة الأيام ورؤيتها، تشير إلى ساعةٍ من نهار لا على يومٍ ما من الشهر أو السنة.

3- (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[يونس: 22].

أ- تحوُّل الكلام من كونِه موجهًا إلى مخاطب: (يُسَيِّرُكُمْ)، و(كُنْتُمْ) إلى كونه موجهًا إلى غائب: (بِهِمْ)، و(وَفَرِحُوا) وكأن الحال مذكورة عن المخاطبين لغيرهم لإثارة التعجُّب من أمرهم.

ب- الفُلك؛ أي السفن، وهي صيغة دالةٌ على المفرد؛ كما في قوله - سبحانه -: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود: 38]، على الجمع كما في الآية التي نحن بصددها؛ ولهذا قال: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) ولم يقل: "وجرت أو جرى بهم".

ج- (جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) والعاصف بمعنى الشديد، والريح مؤنثة، ولكنه لم يقل في وصفها: "عاصفة"؛ وذلك لأن غير الريح لا يكون عاصفًا[تفسير البغوي 2/295].

وإذ أُمِن التباس المذكر بالمؤنث جاز وضع العاصف في صيغة التذكير، وعزا القرطبي الأمر إلى أن العاصف ورد مذكرًا بالالتفات إلى لفظ الريح الذي هو مذكَّر[تفسير القرطبي 8/302].

د- ضمير الهاء في: (جَاءَتْهَا) قد تعود على: (رِيحٍ طَيِّبَةٍ) فتفسدها، وقد تعود على الفلك فتخل توازنها وتزعزعها، و"هم" في (جَاءَهُمُ) يعودُ على ركاب السفن؛ إذ تُفلت من أيديهم السيطرة، فلا الريح تسمح لهم بإحكام القبضة على الفلك، ولا الموج يترك لهم مجالاً لتصرف سليم، فيكون اضطراب الفلك بين الأمواج المتلاطمة كاضطراب نفوسهم في ذلك الوضع المنذر بالهلاك، ولهذا فإنهم: (ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي: أيقنوا أنهم هالكون، وكثيرًا ما تأتي "ظنَّ" في القرآن الكريم بمعنى التأكد واليقين.

هـ- (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي: من الشاكرين لنِعَمك، أو من الذين يشكرونك بأن يؤمنوا بك ويوحِّدوك.

4- (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)[يونس: 31].

يأمر الله -تعالى- نبيَّه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يسأل قومه عمَّن خلقهم ويرزقهم: (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) فهم يُقرُّون به - سبحانه -، ولكن الفاسقين لا يؤمنون، ولهذا فإنه في الآيات التاليات أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يسأل المشركين عمَّن خلق وهدى، ويبدو والله أعلم أن بهت الجاحدين كان متوقعًا من السؤال الجديد بعد أن أقرُّوا في الآية السابقة أن الله -تعالى- هو الفاعل لِما سُئِلوا عنه، ولسكوتِهم أو توقع تهرُّبهم من الإجابة أُمِر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن يتولى الإجابة عنهم: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[يونس: 34، 35].

5- (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ)[يونس: 42، 43].

أ- جمع أولئك المستمعون المشار إليهم بين عاهتَي الصمم المعنوي وخفة العقل، فقد كانوا يسمعون ولكنهم كانوا صمًّا، فما انتفعوا بما سمعوا، ولا أدركتهم عقولُهم بأن تحملهم على التفكير فيما سمِعوه، وكيف كان لهم أن يُفكِّروا وهم كأنهم لم يسمعوا؟

وطائفة أخرى من أولئك الكافرين كانوا يرون دلائل نبوة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعيونهم، ولكن بصائرهم كانت عمياء، فما انتفعوا بما رأَوا.

ب- (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ) (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ) وجاءت "مَنْ" مرتين، وتُبِعت بفعل مضارع، ولكن الفعل ورد في المرة الأولى بصيغة الجمع وهو (يَسْتَمِعُونَ).

وفي المرة الثانية بصيغة المفرد وهو: (يَنْظُرُ) وكان الالتفات في المرة الأولى إلى معنى "مَنْ" الذي قد يكون للمفرد وقد يكون للجمع، والمراد: منهم ناس يستمعون إليك، وكان الالتفات في (يَنْظُرُ) إلى لفظ "مَنْ"[الكشاف2/336، تفسير القرطبي 8/320].

كما يمكن الاستدلال على أن الذين استمعوا ولم يفيدوا من استماعهم كانوا أكثر عددًا من الذين قدروا على ملاحظة دلائل النبوة، ولكن بصائرَهم العمياء حجبتهم عن الإيمان كِبرًا، فاختلف الفعل بالالتفات إلى عدد الجاحدين في كل حالة.

6- (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ)[يونس: 50].

ما يقابل النهار هو الليل، ولكنه - سبحانه - لم يقل: ليلاً أو نهارًا؛ لأن الغالب - والله أعلم - على حال الناس في النهار الغفلةُ بشؤون الكسب والحياة والأعمال، وما يتلاقى مع غفلة النهار هو البيات في الليل، وغالبًا ما يكون الإنسان في ذلك الوقت نائمًا وغافلاً؛ أي إن ما يوعدون به يأتي والناس غافلون إما بكسبٍ وإما بنوم.

7- (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[يونس: 61].

أ- "مَا" نافية، والخطاب موجهٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن خلاله إلى أمته، ولهذا فإن الفعل بعد "مَا" للمخاطب المفرد في الموضعين الأولين: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) ثم توجَّه الخطاب إلى عموم المخاطبين في قوله: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) وإذ تحوَّل الخطاب من المفرد إلى الجمع، فقد تغير حرف النفي من (مَا) إلى (لَا).

ب- صدرُ الآية الشريفة خطابٌ موجَّه للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وفيها بيان بعلم الله - تعالى -ومراقبته لِمَا يشغَلُ النبي - عليه الصلاة والسلام -، وهو في غالب أمره منشغلٌ بشأن الدين وتلاوة القرآن، فهذه خصوصية سلوكه - عليه الصلاة والسلام -، ولم يكن ليشاركَه غيره في درجة ذلك الانشغال، فخُصَّ هو بالخطاب، ثم خاطب الناس عما يعملون بقوله: (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي: تتوسَّعون فيه وتتشعَّبون، وفي هذا مظنَّة لوجود الخطأ والباطل فيما يخوضون فيه، ولهذا فإن الخطاب لم يكن للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تزكيةً له من الخطأ والبطلان.

ثم عادت الآية إلى تخصيص النبي - عليه الصلاة والسلام - بالخطاب: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) لمزيد عنايةٍ بذاتِه الشريفة - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولكي يعلم الناس أن الجميع بلا استثناء تحت مراقبة الله - تعالى -.

ج- (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ) "مِنْ" في (مِنْهُ) تعليلية، وفي (مِنْ قُرْآَنٍ) تبعيضية؛ أي: وما تتلو من أجله شيئًا من القرآن.

د- قدم ذكر الأرض على السماء: (فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) بينما تَرِدُ السماء مقدَّمة في آيات أخرى، وعلَّل الزمخشري ذلك بقوله: "حق السماء أن تُقدَّم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله: لا يعزب عنه، لاءم ذلك أن قدَّم الأرض على السماء"[الكشاف 2/342].

8- (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[يونس: 90].

عبر عن إيمانه الذي حصل بعد فوات الأوان - وفي الوقت الذي لا ينفع فيه الإيمان - ثلاث مرات: (آَمَنْتُ) و(لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) و(وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) برجاء أن يُقبَل منه، وهذا الإعلان عن الإيمان من الأمور الغيبية التي أَطْلَع الله -تعالى- نبيَّه عليها -صلى الله عليه وآله وسلم- [تفسير ابن كثير2/369].

وفرعون الذي كان يقول للناس: إنه ربهم الأعلى، و: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الزخرف: 51]، قد تسبب نهرٌ في هلاكه، وكان هذا النهر مما يتبجح به ويتعالى على الناس بالإيحاء بتمكُّنه منه وسيطرته عليه.

9- (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)[يونس: 92].

وقيل في (نُنَجِّيكَ) إنها تعني: نُلقِيك في نجوة؛ أي مرتفع من الأرض، أو نخرج بدنك، وقيل: إن البدن قد يكون جسد فرعون، وقد يكون درعه، ونجاته بجسده أو بجسمه الذي لا روح فيه آيةٌ ولا شك - كما قال الله - تعالى - لتعتبر به الأجيال، وخروج الجسد من البحر معجزة، فقد كان المنتظر أن يرسب، وخاصة أنه كان مثقلاً بالدرع والحديد كما قيل، وعلاوة على العبرة المرادة بنجاته، فلعله نُجِّي في ميتته السيئة بأن دفع الله -تعالى- عنه أن يصير طعمة للأسماك بسبب الذي أعلنه في غير وقت القبول، والله أعلم.

10- (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[يونس: 93]؛ أي إنهم اختلفوا، وما كان لهم أن يختلفوا من بعد أن بيَّن الله - تعالى - لهم وأزال عنهم اللبس[تفسير ابن كثير 2/371].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 24-08-2020, 03:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم















سورة النحل




أ. د. عباس توفيق



1- ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 1، 2].






﴿ أَمْرُ اللَّهِ هنا: هو يومُ القيامة والحساب، ويدلُّ في آياتٍ أخرى على قضائه سبحانه وعلى العذاب، وقد أخبر الباري عزَّ وجلَّ عن دنوِّ يوم القيامة "بصيغةِ الماضي الدالِّ على التحقيق والوقوعِ لا مَحالة"؛ (تفسير ابن كثير 2: 483)، وعلاوة على نقل حتميَّة وقوع الحدَث مِن خلال الفعلِ الماضي ﴿ أَتَى ﴾، فإنَّ استهلال الآية الكريمة بهذا الفعل كان لظلالٍ مصاحبة تتمثَّل في أمرين؛ هما: أنه فعلٌ منطوٍ على الحركة؛ أي: إنَّه يصوِّر الحركة ولا يكتفي بنقل المعنى نقلاً ذهنيًّا مجردًا، وإنه من خلالِ انطوائه على هذه الحركة يكشِف عن أن ما أُسند الفعلُ إليه - وهو يوم القيامة - موجودٌ قبلَ زمن التكلُّم، فعندما يُقال مَثلاً: أتى زيد؛ فإنَّ زيدًا موجودٌ قبل النُّطقِ بهذه الجملة، ولكنَّه لم يكن بشخصِه حاضرًا، فإذا أقبل قِيل: أتى أو جاء.





وأمَّا استخدامه للتعبير عن شيءٍ حادِث لم يكن ذَا وجود سابقٍ؛ فإنَّ كلمات أخرى تؤدِّي الوظيفة؛ كالقول مثلاً: حصلَت زيادة في الأسعار، أو حدَث في حيِّنا شيءٌ غريب، أو وقعَت كارثة في دولة كذا؛ ففي هذه الأفعال وما شاكَلَها لم يكن للمسنَد إليه - الذي هو الفاعل - وجودٌ عيانيٌّ مِن قَبل، ولكنَّه ظهر فجأة، فدلَّ الفعلُ على تصوير ما كان، بعدَ إذ لم يكن.





والمراد بهذا أن التعبير بـ﴿ أَتَى ﴾ يعني أنَّ يوم الحساب ليس موضوعًا يُخبَر عن حصولِه المستقبليِّ ليُعامَل الخبرُ مِن ثمَّ على أنَّه حقيقةٌ أو وَهْم؛ بل إنَّه يومٌ ذو وجودٍ فِعليٍّ ولكن لم يحضر أوانُه بعد، ويَكتسب هذا الوجودُ كينونتَه ممَّا قدَّره الله تعالى ليكون، فهو ماثلٌ حتى إذا حان وقتُه وصَل.





ومن الملاحَظ أنَّ أمر الله - سواءٌ كان للدلالة على يومِ الحساب، أو على العذاب، أو على القضاء الذي قضاه - يقترنُ بفعلٍ دالٍّ على الحركة كـ"أتى" أو "جاء"، وهذا يعني أنَّ ما قضاه اللهُ تعالى على عباده حاصلٌ وله وجودٌ سابِق، ولكن ذلك القضاء يحضر أو يقعُ عند حلولِ وقتِه، وأنَّه ليس شيئًا طارئًا يتمُّ التنبُّه إلى ضرورة وقوعه من خلال الظروفِ المحيطة بالأشياء، وكذلك فإن طيَّ الزَّمان بالنسبةِ إلى الإنسان إنَّما هو حركةٌ نحو النهاية، وقد يخيَّل للساهي المتنقِّل بمركبةٍ مثلاً أنَّه ثابتٌ وأنَّ ما حوالَيه يَدور ويتحرَّك، وكذلك الإنسان؛ فهو يتحرَّك نحو الحسابِ وبتحرُّكه يبدو ذلك اليوم متحركًا نحوه أيضًا.





ومع حتميَّة وقوعِ هذا الحساب إلاَّ أن الكافرين كانوا يستعجلون النبيَّ عليه الصلاة والسلام بأن يأتِيَهم به، وكذلك كان الكافرون من الأُمم السَّابقة يستعجلون أنبياءَهم بشأنِه، وما كان استعجالهم إلاَّ من باب التكذيب لما أُخبِروا به، والذي حالَ بينهم وبين التصديقِ هو تعلُّقهم بأوثانِهم المعنويَّة والماديَّة، التي عبَدوها مِن دون الله تعالى؛ ولهذا كان التعقيب بقوله: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، وبإرسال الرُّسل بالدعوةِ للتوحيد: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾.





2- ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الْإنسان مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ [النحل: 3 - 6].


لتوكيد وجودِ الله تعالى ووحدانيَّته تضع الآيات الكريمات "الخَلْق" أمام الإنسان، وتؤكِّده بإعادة كلمة ﴿ خَلَقَ ﴾ ثلاث مرَّات، وببيان ثلاثة أنواعٍ من المخلوقات تتدرَّج في عِظمها أو مكانتها: السماوات والأرض، والإنسان، والأنعام.





﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ: والأرض كوكبٌ في هذا الوجود، شأنُها شأن القمر والشمسِ والكواكب الأخرى التي تبدو للنَّاظر إليها من الأرض على أنَّها في السماء، وتبدو الأرض كذلك لمن ينظر إليها من كوكبٍ آخر كما قيل، وأمَّا تخصيصُها بالذِّكر فلأنها مستقَرُّ الإنسانِ في هذه الحياة، ولربَّما ينطوي تَكرار ذِكرها في آياتٍ كثيرة على أنها وحدها مِن بين جميع الكواكب الأخرى مظنَّة الحياة وأسبابها، والله تعالى لم يخلقها عبَثًا؛ بل لغايةٍ معلومة، ولكن إنكار المشركين للحساب وللرُّسلِ يعني أنهم غابَت عنهم الغايةُ منها، والذي أعماهم عن تلك الغاية هو آلهتُهم التي عبدوها؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.






وإزاء هذه الأجرام الكَبيرة العملاقة - السماوات والأرض - المخلُوقة بالحقِّ خلَق الله تعالى جرمًا صغيرًا هو الإنسان، خلقه من قطرةٍ، فإذا به يخاصِم ربَّه العظيم ويجادِلُه بالباطل وبكلِّ ما أوتي من قوَّة، ويريد بباطِله أن يغلب الحقَّ، وفي هذا بيان لخفَّة عقلِ المجادِل وغرورِه، فإذا به يوضَع أمام حجمه الحقيقيِّ عندما يوضع أمامه ضعفُه الذي يحْوِجُه إلى من هو أحَط منه قدْرًا - الأنعام والحيوانات - لتدبير مطعمِه وتنقله وشؤونه الحياتية الأخرى؛ وهذا هو السبب - والله أعلم - أن الفعل ﴿ خَلَقَ ﴾ ورد قبل ذِكر السماوات والأرض والإنسانِ، ولكنَّه جاء بعد ذكر الأنعام: ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾.






وقد أبرزت الآيةُ الكريمة حاجةَ الإنسان الماديَّة والمعيشية من تلك الأنعام؛ ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾، وأبرزت أيضًا حاجتَه المعنوية الداخليَّة، وهي الشعور بالسعادة والابتهاج التي تحقِّقها الأنعامُ له؛ ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾.






إن هذه المخلوقات ليست منفصلةً بعضها عن بعض؛ فالأنعام والحيوانات مُسخَّرة للإنسان، وهي - وكذلك الإنسان - ينتفعون بالسماء التي تُمطِرهم فتُخرج لهم أسبابَ الحياة، وفي السماء ما هو مسخَّر للإنسان ليضبِط وقتَه واتِّجاهه، ويتحكَّم بموجبهما فيما تحت يديه من الدوابِّ، وفي الأرض مَظاهرُ تدلُّ على التنظيم المُحكَم كالجبال التي تُرْسِي الأرضَ، والطرق التي يسلكها السالكون، وعلى النعمة كالبحار التي تُستعمل للتنقُّل ولاستخراج الحلي والطعام. ولا بدَّ لكلِّ ذي بصَر أن يتأمَّل انتفاء العبثيَّة في الخَلْق، وأن يفتِّش عن الغاية منها وأن يستسلِم لموجدِها.






لقد ورد معنى تتبُّع طريق الحقِّ في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ [النحل: 9]، وهي آية تتوسَّط الآياتِ التي تتحدَّث عن الخَلْق، وتلك التي تبيِّن النِّعمَ والمنافع التي سخَّرها الله تعالى للإنسان.






وكان هذا هكذا - والله أعلم - لأنَّ مِن النَّاس من يستجيب لله تعالى مِن أقصر طريقٍ وأبسط دليلٍ؛ فهؤلاء يستجيبون عندما تطرق آياتُ الخَلْق آذانَهم، وهي الآيات (3 - 5)، ولكن منهم من يحتاج إلى أدلَّة في الخَلْق إضافيَّة؛ فكانت تلك الآيات التي بدأَت من الآية (10) إلى الآية (16): ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [النحل: 10، 16]، ولهذا اختتمَت هذه اللوحةُ بقوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17].






3- ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النحل: 12].


والتسْخِير: هو التذلِيل، و﴿ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ يتناغمان مع ﴿ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ على جهةِ القلب، وهذه المخلوقات الأربعة مسخَّرة لما تقوم عليه مصالح الإنسانِ في العملِ والرَّاحة ومعرفة الوقت، ولكن التحكُّم فيها ليس للإنسان فهي ليسَت مسخَّرةً له ليتصرَّف فيها؛ بل مسخرة له لينتفِع منها، وأمَّا النُّجوم فقد قُطعَت عمَّا قبلها ورفعَت بالابتداء؛ وذلك لأنَّها في جملتها لا تقعُ في الفائدة المباشرة المحسوسَة للإنسان، كما أنَّها كلَّها ليست مسخرةً له، ولعلَّه لا يعلم بوجود قسمٍ منها، وأن الانتفاعَ الظاهريَّ لا يكون إلا بعددٍ محدودٍ منها وهي التي يَهتدي بها لمعرفةِ الاتجاهات وما شاكلَها، ولهذا - ولأن النَّجوم كلَّها ليست مسخرةً لفائدة الإنسان - قال سبحانه: ﴿ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ﴾ بالرَّفع ولم يعطفها على المنصوبِ قبلَها؛ وهو ﴿ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾، وأمَّا من قرأ: ﴿ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ ﴾ بالرفع فعلى اعتبار أن انتفاع الإنسانِ منها جميعها محددٌ ومقدَّر بمقدارٍ، بينما انتفاعه من اللَّيل والنهار لا يحدُّه حدٌّ، والله أعلم.






وقد عدَّد الله تعالى بعضَ نعمه وذكَّر بها الإنسانَ؛ لكي يستدلَّ بها على خالقِه، ولكن هذا الإنسان لم ينْحنِ للحقِّ لَمَّا جاءَه؛ بل قابل النعمةَ بالنكرانِ والجحود وسوءِ الأدب؛ ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [النحل: 24]، وأمَّا الذين استجابوا بالإيمان فقد رأَوا الخيرَ فيما أُنزل، وكانوا يرَون الخيرَ حتى فيما بدا مقيِّدًا لهم أو محمِّلاً إيَّاهم مسؤوليةَ الدعوةِ التي يترتَّب عليها الإنكارُ والتضييق والتعذيب وغيرها؛ لأنَّهم يرون فيما يصيبهم منافذَ للخير الإلهي ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [النحل: 30].






4- ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 35].






إنَّ المشركين لا يؤمنون بالمشيئة الإلهيَّة أصلاً؛ ولهذا فإنَّ قولهم: ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 35] هو من باب الجدل الفارِغ، أو هو من باب التألِّي على الله تعالى؛ أي: إنهم زعموا أنَّ موقفهم محكومٌ بإرادة الله تعالى، وأنَّهم خاضعون لتِلك الإرادة، لم يَخرجوا عليها، ولا موجِب إِذًا لكي يُنكِر عليهم منكِرٌ، وقد بيَّن الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام أنَّ هذا كان دَيْدن مَن سبَقهم في الإشراك من الأممِ الغابرة؛ فالعقليَّة الكافرة واحدة وإن اختلفَت أزمانُها.






وغابَ عن الكافرين بطلانُ دعواهم أو كفاية الإنكارِ عليهم؛ بأَنْ جاءَتهم الرُّسلُ بإنكارِ فعلهم، ولكنَّهم كذَّبوا المنذِرين وصدَّقوا أوهامَهم هم، وللردِّ على هذا الزَّعم كان آخر الآية: ﴿ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 35]، فلو لم ينكِر اللهُ عليهم ما كانوا يفعلون، ولو كان يرضَى لهم قدَريَّتهم التي تذرَّعوا بها لَمَا أرسلَ إليهم الرسلَ، ولأَبْقاهم على ما كانوا عليه: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].






لقد حذَّر الرسلُ الناسَ وبيَّنوا أنَّ مصدر دعوتهم هو الوحي مِن الله تعالى، وكانت دعوتُهم مشفوعةً بخوارقَ تُبيِّن صِدْقَهم، ولكنَّ الكافرين كانوا يكذِّبونهم ويَزعمون لأنفسهم مزاعمَ كانت تخالِف ما كان الرُّسلُ يقولون، ومِن الغريب أنَّ الكافرين كانوا يحلِفون الأَيْمانَ الغليظة بالله تعالى - الذي لم يؤمنوا بوحدانيَّته - على زعمِهم الباطل الذي لم يبرهِنوا عليه بدليلٍ؛ ولهذا فقد كان الكذب هو الصِّفةَ المناسبة لبيان حالهم: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ﴾ [النحل: 38، 39].






﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ﴾، إنَّ هذا التبيِين لِما كانوا يختلفون بشأنه مرتبطٌ في هذا الموضع بيومِ القيامة؛ فيومئذٍ يكون الكافر في عالَم المشاهدَة، ويتبيَّن له أنَّ ما كان ينكره إنَّما هو صِدقٌ وحقٌّ، وأنَّ ما كان يزعمه كان باطلاً وقَسَمُه عليه كان كاذبًا، وقبل الوصولِ إلى هذا المآلِ والنَّدمِ على التفريط بعثَ الله تعالى مَن يبيِّن للناس ما هم فيه مختلفون؛ ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 64]، وهذا التبيينُ في هذا الموضع جارٍ في الحياة الدنيا.






وقد عرَض سبحانه بين هذين التبيِينَين مشاهد كونيَّة على وحدانيته؛ كلُطْفِه بالعباد وعائديَّة الملكوت إليه، وأخبر عن سجود كلِّ شيءٍ له، وعن أنَّ الإنسان لا يلجأ إلاَّ إلى الله إذا أصابه الضرُّ، فإذا انكشف عنه ضرُّه راحَ قِسْم منهم إلى الطواغيت! ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 53، 54]، وهذه هي أدلَّةُ القُدْرة التي قد لا يعرفها الإنسانُ أو لا ينتبه إليها.






وأما الأدلَّة التي ذكَرها بعد قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ وهي من الآية (65) إلى الآية (81) - فهي مما يعايشُه في واقعه ويَلْمَسه بحواسِّه ومشاعره، فحقيقٌ بها أن تحمله على التفكير في صِدق ما يَسمع؛ ولهذا فإنَّه سبحانه ختمَ استعراض هذه الأدلَّة موجِّهًا الخطاب إلى نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [النحل: 82، 83]؛ ببيان أنَّ رسالة النبيِّ عليه الصلاة والسلام هي البلاغُ وحَسْب، والذين يجحدون الرسالةَ بعد بسطِ الآيات الكاشِفة المبصِّرة لا يصدرون في رفضهم عن جهلٍ وعماية؛ وإنَّما عن معرفةٍ وإدراكٍ يجعلان استحقاقهم للعذاب حقًّا وعدلاً.






وإزاء هذه اللوحة - وهي بسطُ الأدلَّة المنطقيَّة والعقلية والواقعية على الرسالة ورفض قبولها من قِبَل الكافرين - جاءَت لوحةٌ أخرى لبيان حال الكافرين المنكِرين يومَ القيامة؛ وهي الآيات (84) إلى (89)، وهي جزاء من يعلَم ويأبى الإذعان لما يقتضيه علمُه، وتُختَتم هذه اللَّوحة بقوله سبحانه: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]؛ ببيان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهيدٌ على قومِه، وأنَّ رسالته ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾، وهؤلاء المسلمون هم الذين توجَّهَت الآيات (90) إلى (100) إليهم بالخطاب.






وأما الآيات التالية من (101) فهي خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلَّم، وتطييبٌ لخاطره من تقوُّلات المرجِفين بشأنِ رسالته، وإخبارٌ بحالِ الفِئتين الكافِرة والمسلمة، وبيانٌ لبعض الأحكام التي تلمِّح الآية (118) من بينها إلى أن اليهودَ غيَّروها، ولم يُبقوا عليها كما أَنزلها اللهُ تعالى في شرعِهم.






ويدلُّ سياقُ الآيات الكريمة على أنَّ صفاء العقيدة وصحَّة الشريعة قد تعرَّضا مِن قِبَل أتباعِ الأنبياء بَعد إبراهيم عليه السلام إلى ما ليس فِيهما؛ ولهذا أثنى اللهُ تعالى على إبراهيم عليه السلام وخصَّه بالذِّكر في هذا الموضع، وأمر نبيَّه عليه الصلاة والسلام أن يتَّبع ملَّته؛ لكي يتَّصل حبلُ الصَّفاء والصحَّة من جديد، وهذه المهمة - وهي إعادة الناس إلى السبيل القويم الصحيح - تكون بالحكمَة والعدلِ والصَّبر والتوكُّل؛ وهي المعاني التي اشتملَت عليها الآياتُ الأخيرة من السورة المبارَكة: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 125 - 128].





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 24-08-2020, 03:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم

تأملات في آيات من القرآن الكريم
أ. د. عباس توفيق




"سورة الإسراء"






1 - ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].



سرَى بمعنى سار وانتقل، وليست همزة أسرى للتعدية، في مثل قولنا: أشرب وأسقط وأعلم؛ أي: جعله يشرب ويسقط ويعلم، فليس المقصود جعله يسري، بل الكلمة مرادفة لسرى، وتدل في أصل وضعها على الحركة ليلًا، ومع أنها لا تستعمل إلا للدلالة على الحركة في هذا الوقت، فقد نص القرآن الكريم على الزمن بـ: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ [الإسراء: 1]، وذِكر الليل في الآية الكريمة توكيدٌ لمعنى الزمن الذي تحتويه كلمة أسرى، أو إنه وقد جاء نكرة أفاد معنى التبعيض؛ أي: أسرى بعبده في جزء من الليل، وأن الإسراء لم يستغرق الليلَ كله.



والليل بظلمته وانعدام أو ضعف الرؤية فيه يجعل تجلي الأشياء وتبيُّنها بوضوح أمرًا غير يسير في أقل الأحوال، وكان من الممكن لو أن الرحلة تمت نهارًا أن يعزوَ السامعُ رؤيةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمشاهد الأرضية إلى الضياء الذي يتيحه النهار، ولكن الرحلة جرت في الليل وفي الظلام الذي يتضاءل التبيُّن فيه إلى درجة كبيرة، فلم يكن خرقُ المكان بطيِّ مسيرة شهر أو أكثر بين مكة المكرمة وبيت المقدس في لحظة هو الخرقَ الإعجازي الوحيد الذي ذكرته الآية، بل أضيف إليه خرق آخر، هو الرؤية الجلية في الظلام الدامس، وسر هذا الخرق المزدوج كامن في قوله تعالى: ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ [الإسراء: 1]، فلا بد من نور لكي تكون الرؤية حاصلة، والنور الذي رأى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن نور الشمس الذي يعتمد عليه الناس في إدراكهم البصري، بل نورٌ خاص لا يتقيد بليل أو نهار.



واختتام الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1] له علاقة بهذه المسألة؛ فإن ما أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجله كان آياتٍ اجتمع في استجلائها السمع والبصر، وانطوت الرحلة في مراحلها المختلفة على الكلام والحوار، ثم المعاينة، وقد روت كتب الحديث الشريف التفصيلات الدالة على هذا النسق، كما أن تقديم السمع لم يكن لأهميته وأولويته من بين الحواس، كما قال الكثيرون، بل لأن عملية الإدراك في الليل - وخاصة يومئذ - كانت عن طريق السمع؛ فكان تقديم ﴿ السَّمِيعُ ﴾ [الإسراء: 1] هو الأنسبَ.



وذكر علماء التفسير أن الله تعالى قال: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1]، ولم يقل: أسرى بنبيِّه أو برسوله؛ لأن العبودية أسمى مقامٍ، ولا شك في صحة ما ذهبوا إليه، وفي أن العبودية لله تعالى مقام لا يدانى، ولكن ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1] هنا - فيما يظهر - كان للإشعار بمعنى إضافي، وهو أن إكرام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإسراء كان لاستكماله معنى العبودية في ذاته الشريفة، وهو لا يخرجه عن إطار العبودية، فلا يُغلَى فيه كما غلا النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام.



﴿ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1]، وكون البركة حول المسجد الأقصى يعني أن المسجد نفسَه هو مركز هذه البركة، ولو كان النص على سبيل الافتراض: باركنا فيه، لكانت البركة في المسجد وحده، ولَمَا تمدد إلى أطرافه، وأما ﴿ حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1] فأشمل لرقعة البركة التي أودعها الله تعالى في هذا الموضع.



وليست البركة ثمارًا وفواكه في تلك المنطقة، كما ذهب إلى ذلك عددٌ من المفسرين؛ لأن بركات الأرض موجودة في كل مكان، ولكنها بركة الإيمان والنور، ولهذه الخَصيصة كان المسجدُ الأقصى أحدَ المواضع التي تُشدُّ إليها الرحال للتعبُّد.



2 - ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 2، 3].



والرابط بين هذه الآية والآية السابقة هو أن النبيَّيْنِ محمدًا وموسى عليهما الصلاة والسلام نُقلا من مكانهما ليَرَيَا آيات الله، وكان نقل موسى عليه السلام لمسافة قصيرة قطعها بنفسه فتلقى النبوة، ورأى العصا التي انقلبت إلى حية تسعى، ويده التي خرجت بيضاء للناظرين، وكان نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة البراق، وبصحبة جبريل عليه السلام، وبعد النبوة، والتقى بالأنبياء السابقين في المسجد الأقصى، وصلى بهم، ورأى في عروجه عليه الصلاة والسلام إلى السماء ما وصفه الله تعالى بالآيات الكبرى.



وحصل انتقالُ هذين النبيَّيْنِ عليهما الصلاة والسلام من موضعيهما في خلال الليل الذي هو أدعى أن تستأنس الرُّوحُ فيه ببارئها سبحانه، وتسكن إليه، وقد يعكس اختلاف المسافة التي قطعاها نوعَ المهمة التي أوكلت بكل منهما، ولأن مهمة موسى عليه الصلاة والسلام كانت موجهة إلى قومه، أو إلى الناس في زمنه، فإن استقدامه كان من مسافة قريبة، حتى إنه حين آنَسَ نارًا أَمِنَ على أهله أن يمكثوا في موضعهم وينتظروا عودته، ولم يدرِ أن ما رآه إنما يستقدمه للنبوة؛ ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ [طه: 9 - 13].



وأما رحلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماء، حيث بلغ ما لم يبلغه ملَكٌ مقرَّب - فقد كانت بعد نبوته، وقد علم قبل الرحلة بما هو مقبِل عليه، وتحمل هذه الرحلة المكانية طيَّ المكان، وهو ظاهر، وطي الزمان أيضًا؛ لأنها تستغرق في المألوف زمنًا طويلًا من جهة، ولأن في مشاهدها ما كان مرتبطًا بالزمن في ماضيه، وهو التقاء النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء السابقين، وبمستقبله، كمشاهد الجنة والنار، وعِظَم مساحة الرحلة - مكانيًّا وزمانيًّا إذا جاز القول - يعكس، والله أعلم، شموليةَ دعوته عليه الصلاة والسلام لكل زمان ومكان، على خلاف دعوة موسى عليه السلام، التي كانت مقيدة بهما.



﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا ﴾ [الإسراء: 3] بنصب ﴿ ذُرِّيَّةَ ﴾ [الإسراء: 3] على النداء؛ أي: يا ذرية مَن حملنا مع نوح، وهذا هو أكثر الأقوال (معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3: 226)، ويجوز النصب على معنى: ألا تتخذوا ﴿ ذُرِّيَّةَ ﴾ [الإسراء: 3] مَن حملنا مع نوحٍ من دوني وكيلًا، فيكون الفعل تعدى إلى الذرية، وإلى الوكيل (المصدر السابق).



وقد يبدو أن إشكالًا ما يمكن أن يحصل بين هذه الآية التي تَعني بنصب ﴿ ذُرِّيَّةَ ﴾ [الإسراء: 3] فيها على النداء: أن بني إسرائيل لم يكونوا من ذرية نوح عليه السلام، بل مِن ذرية مَن كان معه في السفينة - وبين قوله تعالى في سورة الصافات: ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 75 - 80] التي تنص على أن مَن بقي على الأرض هم ذريةُ نوح عليه السلام.




وتكلَّم بعض علماء التفسير على هذه المسألة، فقيل: إن مَن كان مع نوح لم تكن لهم ذرية، أو أن عقِبهم انقطع، أو أن من كان على السفينة كان من ذرية نوح عليه السلام: أولاده وأحفاده.



ويرتفع هذا الإشكال، والله أعلم، بالنظر إلى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]؛ إذ إن "جعل" تفيد الصيرورة؛ فقد كان لنوح ولِمَن معه ذرية، ولكن ذرية نوح عليه السلام هي التي بقيت فيما بعد، وصار انتساب الناس إليه، وأما ذراريُّ الآخرين فقد تلاشَوا بمرور الزمن، ولا يتعارض مع هذا قوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ [الإسراء: 3]؛ لأن أبناء نوح عليه السلام الذين تحدَّر منهم الناس، وهم سام وحام ويافث، كانوا ممن حملهم نوح معه في السفينة، وقوله تعالى: ﴿ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ [الإسراء: 3] ينصرف إليهم، ولا يعني أن الذرية المخاطَبَين هم من غير هؤلاء الثلاثة، والله أعلم.



ويذكِّر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بنعمة نجاة آبائهم الذين كانوا مع نوح عليه السلام من الغرَق، وبنعمة نجاتهم هم من مطاردة فرعون لهم، ومن الغرق أيضًا.



وهاتان النعمتان تقتضيان الشكر؛ اقتداءً بالأنبياء، كما كان نوح عليه الصلاة والسلام ﴿ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3] لنِعَم الله تعالى عليه، ولإنجائه ومَن آمن معه في الطوفان، ولكن الله تعالى أعلَم بني إسرائيل أنهم سيتنكبون عن خط الأنبياء، فبدلًا من أن يشكروا، اقتداءً بنوح عليه الصلاة والسلام، فإنهم سيُفسدون مرتين، وكأنهم يقابلون النعمتين، نعمة إنجاء آبائهم ونعمة إنجائهم هم، بمفسدتين! ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 4]، وأخبَرهم الله تعالى بأن إذلالهم الذي سيقع عليهم ناجمٌ عن إفسادهم، والمراد من ذلك هو تنبيه المسيء الغافل منهم إلى ما هو عليه، فيرتدع ويؤوب إلى الله تعالى، وهذا من رحمته سبحانه، وإذا لم ينتبه المسيء إلى دلالة العقوبة العاجلة، ولم تتفتَّح بصيرته، وظل يعاود ظلمه - فإنه ليس له عندئذ غيرُ جهنم؛ ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 5 - 8].



وليست الرحمة كامنة فيما هو عقوبة في الظاهر وحسب، بل لها أبواب أخرى، فتحها الله تعالى لبني إسرائيل ولغيرهم، ومنها هذا القرآنُ الذي نزَّله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].



ومِن أبواب الرحمة أيضًا: عدم استجابة اللهِ تعالى لبعض دعاء الناس؛ إذ يَدْعون بالشر على أنفسهم وأهليهم، ومنها مشاهد كونية؛ ليهتدي بها الإنسان إلى الصرط المستقيم، ولأن هذه الأبواب وغيرها تعُمُّ الناس جميعًا، وليست مخصوصة ببني إسرائيل - جاءت الآيات التالية تخاطب هذا العموم: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 9 - 11].



وقد يشعُرُ المرءُ ببعضِ أبواب الرحمة هذه في قلبه؛ كالدعاء، وقد لا يؤمن به؛ كالنبوة والقرآن، ولأن الإنكار قد يقع لهذين المدخلين جاءت الآيات التالية لافتةً إلى آيتي الليل والنهار المتعاقبتين، اللتين تنطويان على تفصيلات ينبني إدراكها على التلمُّس الحسي، وليس على ما ورد في القرآن الكريم، ولا على شعور قلبي، ولا سبيل إلى الإنكار مع الحس إلا ممَّن يعاند من أجل العناد ذاته: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12]، فمُوجِد هذه الرحمة: الليلِ والنهارِ، هو ذاتُه موجِد تلك الرحمةِ المتمثلة في القرآن، وفي عدم استجابة الشرِّ مِن الدعاء، فإذا شاء الإنسان أن يقتنعَ، فلنفسِه يعمل، وإن أبى فعلى نفسه يجرُّ الوبال، بعد أن أصمَّ أذنيه، وأعمى بصره عن الآيات التي نبَّهه الله تعالى عليها عن طريق رسله: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 13 - 15].



3 - ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].



وفي هذا إشارة إلى أن عاقبةَ فساد أولي الأمر والمترَفين الذين يمسكون باقتصاد البلاد لا تقتصر عليهم وحدهم، بل تتجاوزهم إلى أوطانهم، والناسِ الذين معهم فيها، وإذا كان أخذُ المترَفين لبَطَرِهم وطغيانهم وعدم تأديتهم شكرَ النعمة التي أنعم الله بها عليهم - فإن الآخرين الذين لم تذكُرِ الآية لهم جرمًا يؤخَذون، والله أعلم؛ لسكوتهم عن المترفين، وعدم منعِهم، فكانوا وكأنهم أقرُّوا أولئك على ما يفعلون، أو أنهم خافوا وآثروا السلامة، أو أنهم يسَّروا للمترفين سبل فسوقهم؛ فكانوا وكأنهم أعانوهم على الطغيان، ورضا الأصاغرِ بما فعل الأكابرُ في معصية الله يجعلهم مجموعين في دائرة واحدة من العذاب، ولا تختص هذه الحالة بأمة من الأمم، ولا بزمنٍ معين، بل هي سنَّة الله تعالى في خلقه؛ فأمان الأقوام وازدهار البلدان يكونان باللجوء إلى كنَفِ الله تعالى، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر.



4 - ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23].



في هذه الآية الكريمة والآيات التالية إلى قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء: 39] بيانٌ لعلاقات الإنسان بغيره، وهي علاقة العبودية بالله تعالى، والإحسان إلى الوالدين، وصلة الرحم والأقارب، والعطف على الناس، كما أنها تضبط البنية الاجتماعية؛ كمجانبة الزنا، أو البنية المالية؛ كحسن التعامل مع مال اليتيم، والعدل في البيع، أو تضبط شؤونًا شخصية؛ كعدم الخوض فيما يجهله الإنسان، والتطامن في المشي، ومجانبة الكِبْر، ولزوم التواضع.




ورأس هذه الحكم ومِفتاحها هو معرفة الله تعالى، وإفراده بالعبودية، والعبودية تعني الطاعة المطلقة، وهي ما لا يجوز صرفُها إلى غيره سبحانه، وأما الوالدانِ فلا بد أن يكون الرابط بهما إحسانًا، لا طاعة مطلَقة.




وليس الجمع بين التعبُّد لله تعالى والإحسان إلى الوالدين في هذا الموضع لبيان عظيم حق الأبوين، وإن كان هذا واردًا، بل للفصل بينهما في الطاعة؛ لكونهما أقربَ المقرَّبين إلى المرء، وأكثرهم عليه دالة، والسويُّ من الناس يؤثِر طاعتهما على هوى نفسه؛ فجاءت الآية الكريمة لتبين أن الطاعة الخالصة تكون لله تعالى وحده، وأما الوالدان فلهما تمام البر، والرحمة، والإحسان، والدعاء، حتى وإن لم يكونا مسلِمَين، ولئن أجاز الله تعالى للإنسان أن يطيع والديه طاعة كاملة، فإنهما قد يدعوانِه إلى عدم الإيمان بالله، وهو ما نهى الله عنه سبحانه وتعالى في سورة لقمان: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان: 15]، أو قد يدعوانِه وهما مسلِمان إلى ما لا يُرضي اللهَ، والنبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث المشهور: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)).




ويكون الإحسان أو الإساءة سلوكًا يكشف عن نفسه، وشعورًا قلبيًّا ينبئ عنه اللسان، والأمر بالإحسان توجيهٌ للسريرة أن تكون مرضية، ولئن انتاب الإنسانَ شيءٌ في سريرته تجاه والديه، فعليه أن يشكمه، ولا يدَعَ له سبيلًا إلى لسانه، وإن كان أفًّا؛ لأن التأفف هو أول الضجر، ويؤول إلى الانتهار الذي هو أشد، وعليه أن يتصبر على خدمتهما، وأن يقول: ﴿ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]، دالًّا على المروءة والعطف، والبِر والخُلق الحميد؛ أي أن يتحمل منهما الأذى الذي يسببه له تقدُّمُهما في السن، ولا بد أن يكون هذا السلوك - أي كرمُ القولِ والفعل والتعامل - ابتغاءَ مرضاة الله، وخالصًا لوجهه، وبهذا التوجُّه الصادق المخلص تُنال المغفرة؛ ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 25].




وهذه الآية الخاصة بالبِرِّ بالوالدين وما تلاها من آيات هي كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 39]، وهي تشتمل على مكارم الأخلاق والمعاملات، وهي تستوجب من الإنسان أن يكون شاكرًا لله عليها، وذا أدبٍ معه، ولكنَّ الكافرين قابلوها وقابلوا الدعوة إلى التوحيد لا بالجحود وحسب، بل بسوء الأدب أيضًا؛ إذ عزَوْا إلى الله تعالى الإناثَ، وهن الأضعف في نظرهم، وكانوا يستهينون بشأنهن، ويقتُلُهنَّ قسمٌ منهم؛ خوفَ الفقر والعار: ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [الإسراء: 40].




ولم يأخُذِ الله تعالى الجاحدين بظلمهم، ولا سيِّئي الأدب بوقاحتهم، بمجرد أن بدَرَ منهم الظلمُ وسوءُ الأدب، بل أظهر جلالَه وحِلمَه وعفوَه: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 43، 44].



وكان الكافرون سيِّئي الأدب أيضًا في قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجالسهم: إنه مسحورٌ، وهو وصفٌ ينطوي ضمنًا على أنه، وحاشاه، كاذبٌ: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الإسراء: 47]، وكانوا إذا قابَلوه جادلوه منكِرين، وحرَّكوا رؤوسهم نحوه مستهزئين: ﴿ وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء: 49 - 51].




ولأنهم كانوا سيِّئي الأدب مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قلوبهم لم تنفتح للدعوة، وانغلقَتْ عن أن تمسَّها كرامة الاسلام، ولعل سوء الأدب هذا هو الحجابُ الذي كان يفصل بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والكافرين: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 45، 46]، وسوء أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقولهم عنه: إنه مسحورٌ - كان السببَ في ضلالهم: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء: 47، 48].




إن حُسنَ الأدب مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مفتاحٌ للإيمان والفلاح، كما هو واضحٌ مِن هذه الآية الكريمة، وحُسن الأدب هذا يتلاقى مع الإحسان الذي بسطَتْه الآياتُ السابقة مع الوالدين، ومع الناس، وفي التعاملات، وكل منهما يؤدي إلى الآخر في النفوس التي أراد الله تعالى لها الخير، وهو الحسن والإحسان الذي أمر عباده به؛ لأنه شارة المؤمن: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء: 53].




5 -﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء: 55].

اختُلف في داود عليه السلام: أنبيٌّ هو وحسب أم نبي مرسل؟! واختُلف في معنى النبي والرسول، فقيل: إن النبي هو المأمور لنفسه، غير المكلف بالتبليغ، وقيل: بل هو الذي لم يأتِ بشريعة جديدة، وقيل: إن الرسول أيضًا قد يجدِّد تطبيق شرع سابق عليه، كما هو حال داود عليه السلام.




وقد ورد اسمُ داود عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة، لم يقترن في أيٍّ منها بالرسالة، على حين اقترنت أسماء أنبياء آخرين بها، ولعل مَن قال: إن داود عليه السلام رسولٌ اعتمد على أنه أوتي الزَّبُورَ.




ويبدو أن هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء تُبيِّن مرتبتين من مراتب الأنبياء الذين شرُفوا بالنبوة فقط، ولم يكونوا مرسَلين، وهاتان المرتبتان هما: نبوة بكتابٍ، ونبوة بلا كتاب، ولعل ذوي الكتاب كانوا أقل عددًا، ويُفهَم من الآية أن داود عليه السلام أفضل هذا الصنف؛ ولهذا خصص بالذكر، وإذا صح هذا فإن مَن كرَّمهم الله تعالى بالاصطفاء ليسوا كما هو شائع على مرتبتين: نبي ومرسَل، بل هم على ثلاثِ مراتبَ، هي بحسَب علو المقام:

النبي المرسَل بشريعة وكتاب.

النبي المؤيَّد بكتاب.

النبي.




وداود عليه السلام هو من الطبقة الثانية، ولعله كان أفضلهم كما يُفهَم من الآية السابقة، والزَّبُور الذي أُوتِيَه لم يكن شريعةً جديدة، وهو - كما قال القرطبي - كتابٌ ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائضُ ولا حدودٌ، وهذا يعني أن الزَّبُور لم يتضمن تجديدًا لشريعة موسى عليه السلام، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد، وبهذا التوجيه - أي إن داود كان نبيًّا مؤيدًا بكتاب - يمكن أن يُفهَم تخصيصه بالذكر في هذا الموضع، فلو كان مرسَلًا فإن إفراده بالذِّكر في هذا الموضع لا يتضح؛ ذلك أن هناك رسلًا آخرين أعلى منه مقامًا، وعلى رأسهم أولو العزم وذوو الشرائع.




6 -﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء: 60، 61].




إن القياس الذي يعتمده الكافرون في موقفهم نابعٌ مِن انغلاقهم على تفكيرهم الذاتي والجزئي، وفي هذا مدخل الكِبْر؛فذاتيةُ تفكيرهم تحُول بينهم وبين التماس الصواب مع الآخرين، وجزئيتُه تحُول بينهم وبين الإيقان بما يخرج عن القوانين الظاهرة المحدودة؛ولهذا فإنهم فُتنوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما لم تحتمله عقولُهم، ومنها ما ذكرته هذه الآيةُ المباركة عن رحلة الإسراء التي استغرقت بعضًا من الليل، وهو يستغرق في عُرف الناس شهرًا أو أكثر، والشجرة التي تنبُتُ في أصل الجحيم بدلًا من أن تحترق بنارها، وانغلاقُ تفكيرهم حال دون التفاتهم إلى موجِد القوانين، الذي تخضع فاعلية هذه القوانين لإرادته العليَّة، بل إنهم بتنبيههم إلى هذا الموجِد، واستعراض مشاهد الترهيب أمامهم؛ ليصحُوا وينتبهوا - لا يزدادون ﴿ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 60]، ويقتدون بإبليسَ في كِبْرِه وتزكيةِ عقله ونفسِه، ويتركون الآياتِ الدالةَ على صِدق ما يسمعون، أو ما يقع أمامهم، فيطلُبون آيات أخرى.



وآيات الله تعالى تنقسم على قسمين: قسمٍ يؤيد اللهُ تعالى به أنبياءه مِن غير أن يطلبه أحدٌ، ولا تترتب العقوبة العاجلة على عدم الاستجابة له، كما كانت الحال بالنسبة إلى قوم إبراهيم عليه السلام بعد أن أنجاه الله تعالى من النار، وكما كانت الحالُ مع عيسى عليه السلام وهو يُحيي الموتى ويُبْرِئ الأكمهَ والأبرص بإذن الله، وقسمٍ يكون في مقابل التحدي، وهو الذي يقتضي حتميةَ الإيمان، وإلا فإن الوبال العاجل يحُلُّ بمنكِره بعد أن طلبه، كما هو الحال بالنسبة إلى ثمودَ قومِ نبي الله صالح عليه السلام، الذين طالَبوه بآية، فلما أُوتوا الناقةَ مبصِرةً عقَروها، وكما هي الحال بالنسبة إلى قوم فرعون، الذين طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعوَ لرفع الرِّجز عنهم، ووعَدوه بالاستجابة له، ولكنهم جحدوا من بعدُ، أو بالنسبة إلى مَن طلب العذاب في تحدٍّ لصدق النبي المرسل إليه، ومطالبة كفار قريش بالآيات، مِن مثل جَعْلِ الصَّفا ذهبًا، هي من هذا الصنف، وإرسال الآية في هذه الحالة لا يكون لإثبات النبوة، وإنما لإقامة الحجة والتخويف: ﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59]، ولكن الله تعالى لم يستجب لطلب قريش؛ لأن الإصرار على الكفر بعد سَوْقِ الآية المطلوبة يعني الأخذَ بما أُخذت به الأممُ السابقة، ووجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قومه كان يحُول دون هلاكهم؛ فقد قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 32، 33].




7 -﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء: 76، 77].




وهذا الاستفزازُ هو أحد أسلحة إبليسَ، الذي نفخ به في نفوس الكافرين وأعداء الأنبياء على مرِّ العصور، فمما قاله الله تعالى عن مشهد عصيان إبليس وما تلاه: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء: 64]، فقد كان الكافرون في إنكارهم لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفِهم إياه بالمسحور، وسعيِهم إلى استفزازه عليه الصلاة والسلام - سائرين على خطَى إبليسَ في الكِبْر والمعاندة، وهي الخطى ذاتُها التي سار عليها الكافرون السابقون؛ ففرعون، كما ورد في هذه السورة، وصَف نبيَّ الله موسى عليه السلام بالمسحور، وأراد أن يستفزَّه وبني إسرائيل بعد أن رأى الآياتِ البينات: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا [الإسراء: 101 - 103]، وورَد هذا الاستفزاز بلفظ الإخراج في سورة إبراهيم، الذي شهَره الكافرون في وجوهِ المرسَلين كلِّهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ [إبراهيم: 13].



وعاقبةُ الكافرين واحدةٌ؛ فهي سنَّة الله فيهم: ﴿ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 77]، فكما كانت نهاية السابقين أنْ أخَذَهم الله تعالى بذنوبهم، فكذلك ستكون نهاية الكافرين الذين وقفوا في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهي البُشرى له عليه الصلاة والسلام بالنصر والتمكين؛ ولهذا كانت الآياتُ التالية آمرةً بالصلاة ومظاهر الإيمان التي يتنزَّل معها النصر: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا * وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 78 - 82].




وتلتقي هذه الآيات - أي: مِن 78 إلى 82 - التي جاءت عقب الآيات الخاصة بكفار قريش، بأمرٍ مماثل عقِب الآيات التي قصَّت هلاك فرعون وجنوده في آخر السورة: ﴿ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا * وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا * قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 103 - 110].




ولأن نصرَ الله تعالى مكفولٌ للمؤمنين؛ بوعدِه لهم في هذا الشأن، وبقصِّه عليهم مِن أنباء الأمم السابقة، التي انتهت بخَسارِ الكفار - فقد كان مِن شأن هذه الآيات، وسواها في سورٍ أخرى، أن تكونَ بشارةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وطمأنينة لأتباعه؛ في أن الغلَبةَ والكلمة العليا ستكون لهم، وهو ما يستوجب حَمْدَه سبحانه وتعالى، وتمجيدَه: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء: 111].




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 338.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 332.73 كيلو بايت... تم توفير 5.90 كيلو بايت...بمعدل (1.74%)]