المُفتِي في الشَّريعة الإسلامية - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         السيول والأمطار دروس وعبر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          مضى رمضان.. فلا تبطلوا أعمالكم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          فضل علم الحديث ورجاله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          سورة العصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          الترهيب من قطيعة الرحم من السنة النبوية المباركة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          لمحات في عقيدة الإسماعيلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          عقيدة الشيعة فيك لم تتغير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          شرح حديث: تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          كيف تعود عزة المسلمين إليهم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          أدومه وإن قل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-01-2021, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي المُفتِي في الشَّريعة الإسلامية

المُفتِي في الشَّريعة الإسلامية














عبد العَزيز بن عبد الرَّحمن الرُّبَيعة




لا يَخلُو أي عَصْر من العُصور - مهما كان ما يسير عليه من أنْظِمة دينية وسِياسية واقتِصادية ، وغيرها من ظَواهر اجتِماعية : تَبرُز في مُحيطِه ، ويكون لها الأَثَر القَوي في سُلُوكه ، والهَيمَنَة الكامِلَة في تَوجيه طاقاتِه نَحْو ما يَعود عليها بالخِدمَة ، للحِفاظ عليها وتنمِيَتها إن كانت ظَواهِر مَحمودَة ، وبإزالَتِها إن كان يمكن ذلك - أو إيجاد ما قد يَحُدُّ من خَطَرها - حين لا يمكن ذلك - إن كانت ظَواهِر سيِّئة .


والباحِث النّابِه يكون واجِبُه تِجاه ذلك ، مُلاحَقَة تلك الظَّواهِر ، والتَّحَدث فيها ، والمُشارَكة في بَحْثها على النَّحو المُلائم لها ، شأنه في ذلك شَأن الطَّبيب الماهِر الذي يَتَتبَّع الأمراض البَدَنية ليُطَبِّق عليها ما جَدَّ في دُنيا الطِّب من عِلاج ، ويَعْصِر ذِهنَه بالمُقارَنَة والتَّجرِبَة لما لم يجد له قبل ذلك نَظيرا ، ويَتَتبَّع الظَّواهر الصِّحيَّة ، فيُهديها لِمُجتَمَعه ، ويُعين على تَنمِيتها إلى أرفَع مُستوى يستطيع الوُصول إليه بها .


ومن هذه الظَّواهر الاجتماعية غير المَحمُودة ، التي برزت في المُجتَمَعات الإسلامية في هذا العَصْر ، الجَهْل بكثير من أحكام دينِها ، حتى صار كثير من الناس يَسير في أمور دِينه على غير هُدَى ، وصار الحَصيف فيهم من يسأل العُلَماء عما يحتاج إليه في ذلك .


ومن هنا بَرَزَت قَضِية الفَتوَى من العالِم للجاهِل ، علاجا لتلك الظّاهِرة ، أو مُواجَهَة لها بما قد يَحُدُّ من آثارها على المُتَّصف بها .


غير أن هذا العِلاج - وإن كان هو العِلاج الوَحيد لِهَذه الظاهرة - لم يَسِر سَيْره الذي يَنبَغي أن يَسيره في كَثير من الشُّعوب الإسلامية ؛ حيث تَصَدى للفَتْوى كثير ممن لا تَتَوفَّر فيهم شُروط المُفتِي ، ولا تَكتمِل فيهم كثير من الأمور التي ينبغي لمن نَصَّب نفسه لهذا المَنصِب أن يَتَفطَّن لها ، وذلك ناتِج في كثير من الأحوال عن قِلَّة من هو أهل لهذا المَنصِب ، وانغِمارِه في خِضَمِّ هذه الأمواج الهائِلَة من الجَهَلة بأحكام دينها ؛ وحُبِّ كثير ممن شَدا بِقِسط قليل من العِلم للظُّهور والتَّبَوُّء للمَكان الذي لم يَتَأهَّل بَعد لأن يَتسَنَّم ذِروته .


ومن أجل ذلك كله آثَرْت أن يكون هذا البَحث مُتَناولا للمُفتِي في الشَّريعة الإسلامية .


ولن يَخْفى على رُوّاد هذا المَيدان أن الإلمام به ، والتَّعَمُّق في جُزَيئاته - في بحث قصير كهذا - بَعيد ، إن لم يَكُن مُستَحيلا .


لِذا فَإنَّني سأقتَصِر فيه على :


التَّعَرف على المُفتِي .


أقسام المُفتِين .


مَنزِلَة المُفتِي في الشريعة الإسلامية .


شُروط من يَتصَدَّى لهذا المَنصِب العَظيم .


وجُملَة أمور ممّا يَنبَغي له أن يَتفَطَّن لها حينما يُمارِس الفَتْوى ، وأختِمُه بِخاتِمَة أُلَخِّص فيها ما أنتَهي إليه من نَتائِج ، مُذَيَّلة باقتِراحات تَهدي إليها تلك النَّتائج ، وتُؤكِّد ضَرورَتَها ، سائلا الله ( سُبحانه ) أن يَمُدَّني بعَونه فيما أتَرَسَّمه من خُطُوات ، وإلهامِه فيما أقُرَّره من حَقائق ، وتوفيقِه فيما أصِل إليه من نَتائج ومُقْتَرَحات .


* * *



تَعريف المُفتِي



الحُروف : الأصلِيَّة التي قامت عليها هذه الكَلِمة ، هي الفاء ، والتاء ، والحرف المُعتَلُّ ، ولها مدلولان :


أحدُهما : الطَّراوَة والجِدَّة ، والآخر : تَبَيُّن الحُكم ، والذي يُناسِب هذه الكَلِمة في مَوضوعِنا المَدلول الأخير ، وإذن فالمُفتِي اسم فاعل على وزن " مُفْعِل " مُشتَق من الإفتاء بِمعنَى الإبانَة ، يقال : " أفتاه في الأَمْر ، أبانَه له ويقال : " أفتى الفَقيه في المَسألة ، إذا بَيَّن حُكمها .


وأما في الإصلاح ، فقد اختَلَف العُلَماء في تَعريفِه على آراء أهَمُّها :


1 - أن المُفتِي هو المُجتَهد المُطلَق ، وهو الفَقيه ، على حَدِّ تَعبير صاحِب " تَحرير الكَمال " ، ولهذا يقول " الصيرفي " إنه " مَوضوع لمن قام للنّاس بأَمْر دينِهِم ، وعَلِم جَمْل عُموم القُرآن ، وخُصوصِه ، وناسِخَه ومَنسوخَه ، وكذلك في السُّنن والاستِنْباط ، ولم يوضع لمن عَلِم مَسألَة وأدرَك حَقيقَتها " ويقول " ابن السَّمعاني " : " هو من استُكمِل فيه ثلاثَة شُروط : الاجتِهاد ، والعَدالَة ، والكَفُّ عن التَّرخيص والتَّساهُل . وللمُتَساهِل حالتان : إحداهما : أن يَتَساهَل في طَلَب الأدِلَّة وطُرُق الأحكام ، ويأخذ بِبادِئ النَّظر وأوائِل الفِكْر ، وهذا مُقَصِّر في حق الاجتِهاد ، ولا يَحِلُّ له أن يُفتي ولا يَجوز . والثانية : أن يَتَساهل في طَلَب الرُّخَص وتَأَوُّل السُّنة ، فهذا مُتَجَوِّز في دينه ، وهو آثَمُ من الأول " .


2 - ويذهب بعض العُلَماء إلى أن المُفتِي يكفي فيه أن يكون مُتَبَحِّرا في مَذهب إمامِه ، فاهما لكَلامِه ، عالما لراجِحِه من مَرجوحِه ، خَبيرا بالمرجُوع عنه من المرجوع إليه ، فلا يُشتَرط فيه أن يكون مُستطيعا لاستنباط الأحكام من أدِلَّتها التفصيلية ، ولا مُتَبحِّرا في الكتاب والسُّنَّة ، عالما بوجوه مَباحِثِهما .


وقد أيَّد أصحاب هذا القول كلامَهم بأن اشتِراط الاجتِهاد المُطلَق في المُفتِي ، يُفضِي إلى حَرَج عَظيم ، واستِرسال الخَلق في أهوائِهم ، ثم إن المُفتي حينما يكون مُتَبَحِّرا في مذهب إمامِه يكون ذلك كافيا ؛ حيث إنه يَغلِب على ظَنِّ العامِّي أنه حُكم الله عنده ، والقَضاء - وهو مَركَز عَظيم - قد أطبق النّاس فيه على تَنفِيذ أحكام من تَوَلاه دون مُراعاة لحُصول شَرط الاجتِهاد فيه ، فليَكُن للمُفتي ما للقاضي من حيث عَدَم اشتِراط الاجتِهاد فيه ، بل إنه قد انعَقَد الإجماع على جَواز الإفتاء لمن يَتَوفَّر فيه هذا الشَّرط ، فقد قال الشيخ " تاج الدين السُّبكي " : " وقد انعَقَد الإجماع في زَمانِنا على هذا النَّوع من الفتيا " .


وإذا أضَفنا إلى ما تَقَدم ما يُحَدثنا به التاريخ من أن أُناسا بَرَزوا في العُصور الزّاهِية للإسلام وملأوا الدُّنيا بعُلُومهم وآرائهم الصّائِبة ، وادَّعَوا الاجتِهاد المُطلَق تَبَعا لذلك ، ومع ذلك لم يُسَلِّم لهم أهل عَصرِهم به ، وإذا أَضَفنا - أيضا - إلى ذلك ، ما نُشاهِدُه في واقِع الأُمة الإسلامية ، من كَثْرة الجَهْل بأحكام الدين في كَثير من أفرادِها ، وكَثْرة المَشاغِل التي تَنْتاب الفِئة المُتخَصِّصة في أحكام الشَّريعة الإسلامية مما قد يَحول بينهم وبين الوُصول إلى دَرَجة الاجتِهاد المُطلَق في أحكام شَريعَتها ، إذا أَضَفنا ذلك كله إلى ما تَقَدَّم ، تَبيَّن لنا أنه لا يُشتَرط لمن يَتَبوَّأ هذا المَنصب أن تَتَوَّفر فيه صِفَة الاجتِهاد المُطلق .


ولَعَل من نافِلَة القَول أنه جاز لمن هذه صفَتُه أن يَتَصدَّى للفُتْيا ، فإنه يجوز بالأَوْلى لمن كان مُجتَهدا مُطلَقا ، أو مُجتَهدا مُقيَّدا في مذهب من ائتَمَّ به " بأن يعرِف قَواعِده ، وتَفْصيل مَذهَبه ، ويَقْوى على استِخراج الأَحكام فيما لم يَنُصَّ عليه إمامُه ، مُراعِيا قَواعِد إمامه ، وعلى تَرجيح قَول على آخَرَ داخِل المَذهَب ، حِينَما يَجهَل المتَقدِّم منها من المُتأخِّر " .


ولهذا نرى الإمام " ابن القَيِّم " ( المُتوفَّى سنة 751 هـ رحمه الله ) حين تَحدَّث عمن يَجوز لهم أن يَنتَصِبوا للفُتْيا ، ويجوز للعامَّة أن يتَّجِهوا إليهم بالأسئِلَة عن أحكام دِينِهم - يقَسِّمهم إلى أربَعَة أقسام :


أحَدُهم : العالِم بكِتاب الله ، وسُنَّة رَسولِه ، وأقوال الصَّحابَة ، فهو المُجتَهِد في أحكام النَّوازِل ، يَقصِد فيها مُوافَقَة الأدِلَّة الشَّرعية حيث كانت ، ولا يُنافي اجتِهادُه تَقليدَه لِغَيره أحيانا . فلا تَجِد أحدا من الأَئمَّة إلا هو مُقلِّد من هو أعلَم منه في بعض الأَحْكام . . .


النَّوع الثاني : مُجتَهد مُقيَّد في مذهَب من ائتَمَّ به ، فهو مُجتَهِد في مَعرِفَة فَتاويه وأقوالِه ومَأخَذه وأُصولِه ، عارِف بها ، مُتَمكن من التَّخريج عليها ، وقِياس ما لم يَنُص من ائتَمَّ به عليه على مَنصوصِه ، من غير أن يكون مُقَلِّدا لإمامِه لا في الحُكم ولا في الدَّليل ، لكن سَلَك طريقَه في الاجتِهاد والفُتْيا ، ودعا إلى مَذهَبِه ، ورَتَّبه ، وقَرَّره ، فهو مُوافِق له في مَقصِده وطَريقِه معا . . .


النَّوع الثالث : من هو مُجتَهد في مَذْهب من انتَسَب إليه ، مُقرِّر له بالدَّليل ، مُتقِن لفَتاويه ، عالِم بها ، لكن لا يتعدى أقوالَه وفَتاويه ، ولا يُخالِفُها إذا وجد نَصَّ إمامه لم يَعْدِل عنه إلى غيره ألبَتَّة . . .


النَّوع الرابِع : طائفَة تَفَقَّهت في مَذْهب من انتَسَبت إليه ، وحَفِظت فَتاويه وفُروعَه ، وأقرَّت على أنفُسِها بالتَّقليد المَحض من جميع الوُجوه ، فإن ذَكَروا الكِتاب والسنَّة يوما في مَسألَة ، فعلى وجه التبَرُّك والفَضيلَة ، لا على وجه الاحتِجاج والعَمَل ، وإذا رأوا حَديثا صحيحا مُخالِفا لقَول من انتَسَبوا إليه ، أخَذوا بقَوْله ، وتَرَكوا الحَديث ، وإذا رَأَوا أبا بَكْر وعُمَر وعثمان وعليًّا وغيرهم من الصَّحابة ( رَضِي الله عَنهُم ) قد أفْتَوا بفُتْيا ، ووَجَدوا لإمامِهم فُتْيا تُخالِفها ، أخَذوا بفُتْيا إمامِهم ، وتَرَكوا فتاوَى الصَّحابة قائلين : الإمام أعْلَم بذلك مِنّا ، ونحن قد قلَّدْناه ، فلا نَتَعدّاه ولا نَتخطّاه ، بل هو أعلَم بما نذهَب إليه منا ، ومن عَدا هؤلاء ، فمُتَكلِّف مُتخلِّف ، قد دنا بنَفسِه عن رُتبَة المُشتَغِلين ، وقَصُر عن دَرَجة المُحصِّلين ، فهو مُكَذْلِكٌ مع المُكَذلِكين ، وإن ساعَد القَدَر واستَقَل بالجَواب ، قال : يَجوز بشَرْطه ، ويَصح بشَرْطه ، ويَجوز ما لم يَمنَع منه مانِع شَرْعي ، ويَرجع في ذلك إلى رأي الحاكِم ، ونَحْو ذلك من الأَجْوبة ، التي يَستحسِنها كُل جاهِل ، ويَستَحي منها كُل فاضِل " .



* * *


يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 23-01-2021, 09:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المُفتِي في الشَّريعة الإسلامية

المُفتِي في الشَّريعة الإسلامية







عبد العَزيز بن عبد الرَّحمن الرُّبَيعة


منزِلَة المُفتِي












والإفتاء : مَنصِب عَظيم ، به يَتصدَّى صاحِبُه لتَوضيح ما يَغمُض على العامَّة من أمور دينِهم ، ويُرشدهم إلى المَناهج المُستَقيمة ، التي في سُلوكهم لها فَلاحُهم ونَجاحُهم ، ولهذا سُمُّوا أولي الأَمْر ، وأمَرَ النّاس بطاعَتهم بل قُرِنَت طاعَتُهم بطاعة الله ورَسولِه ( صلى الله عليه وسلم ) حيث يقول الله تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ
.


بل هو المَنصِب الذي تَولاه الله ( سبحانه ) بنفسه حيث يقول ( تعالى ) :

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ
، ويقول أيضا :
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ
، وكَفَى بهذا المَنصِب عِظَما وجَلالَة أن يَتولاه رَبُّ السَّماوات والأرض ، وكَفَى بمن يتَولاه شَرَفا ومَنزِلة عالية أن يكون نائبا عن الله في هذا المَنصِب والمُفتِي - أيضا - قائم مَقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في وِراثَتِه لعِلْم الشَّريعَة منه ( صَلى الله عليه وسلم ) ، وإبلاغِها للناس ، وتعليمِها للجاهِل بها ، والإنذار بها .


فأما قِيامُه مَقامَه ( صلى الله عليه وسلم ) في وِراثَة الشَّريعَة ، فيَدُل له قَوْله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه عنه أبو داوُد والتِّرمِذِي بِسَنَديهما : إن العُلَماء وَرَثَة الأنبِياء ، وإن الأنبِياء لم يُوَرِّثوا دينارا ولا دِرهَما ، ولكن ورَّثوا العِلم ، وما رواه عنه البُخاري ومُسلِم بِسَنَديهما : بَيْنا أنا نائم ، أتَيْت بقَدَح من لَبَن فشَرِبت حتى أني لأرى الرِّيَّ يخرُج من أظفاري ، ثم أعطَيْت فَضلي عُمَر بن الخَطّاب ، قالوا : فما أوَّلْتَه يا رسول الله ؟ قال : العِلم ، وقال الله ( تعالى ) :

فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
.


وأما قِيامه مَقامَه ( صلى الله عليه وسلم ) في إبلاغِها للنّاس ، وتعليمِها للجاهِل ، فيَدُل له قَولُه ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رَواه البُخاري بسَنَده : ألا ليُبَلِّغ الشّاهِد منكم الغائِب ، وما رَواه الإمام أحْمَد والبُخارِي والتِّرمذي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : بَلِّغوا عَني ولو آية ، وما رواه الإمام أحْمَد وأبو داوُد والحاكِم عن ابن عبّاس ، أن النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : تَسمَعون ، ويُسمَع منكُم ويُسمَع ممن يَسمَع منكُم .


وأما قِيامُه مَقامه ( صلى الله عليه وسلم ) في الإنذار بها ، فيَدُل له قَوْل الله ( تعالى ) :

إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ
مع قَوْله ( تعالى ) :
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
.


وبهذا يتَّضِح لنا ما للمُفتِي في الشَّريعة الإسلامية من مَنزِلة عُظمَى ، حيث كان يَتبَوَّأ مَقام النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما قدَّمناه من أمور ، ويُخبِر عن الله ( سُبْحانه ) ، ويُوقِّع شريعَتَه على أفعال المكلفين .


* * *










شُروط المُفتِي











يَشتَرِط العُلماء في المُفتِي بمعناه الاصطلاحي - الذي رجَّحناه فيما مضى - شُروطا كَثيرة ، وأهمُّها ما يأتي :


1 - الإسلام : فلا يُمكِن لأحَد أن يَتبوَّأ مَنصِب الإفتاء إلا حين يكون مُسلِما ، وهذا الشَّرط مما أجمَعَ الناس عليه ؛ إذ أنه يُخبِر عن الله ، ويَنوب عن رَسولِه ( صلى الله عليه وسلم ) ويَتلَقى الناس ما يَقوله على أنه دين الله ( تعالى ) ، ولا يتَّصف بذلك إلا من كان مُسلِما .


2 - التَّكليف : وذلك بأن يكون المُتولِّي لهذا المَنصِب بالِغا عاقِلا ، وهذا الشَّرط مما أُجْمِع عليه أيضا ، فإن الصَّبِي لا حُكْم لقَوْله في مثل هذا ، والمَجنون مَرْفوع عنه القَلَم ، فلا يَتَسنَّى له أن يَحتلَّ مكانَة الإفتاء .


3 - العِلم : وهو شَرط أساسي لمن تَقَلَّد هذا المَنصِب ؛ إذ أنه مُبَلغ عن الله أحكامَه ، ولا يُبلِّغ عنه من جَهِل أحكامَه ، ولهذا يَروي الخَطيب البَغْداي ( المتوفى سنة 462 هـ ) بسنده أن رَسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : من أفْتَى بغير علم لعَنَتْه المَلائكَة ، ويُروى أيضا أن رَسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : مَن أفْتَى بفُتْيا بغير ثَبْت ، فإنما إثمُه على من أَفْتاه .


4 - العَدالَة : في الأقوال والأفعال وذلك بأن يَكون مُستَقيما في أحوالِه ، مُحافِظا على مُروءتِه ، صادقا فيها بقَوْله ، مَوثوقا به ، ويُفسِّر لنا الشَّيخ " أحمد بن حَمْدان الحَرّاني الحَنبَلي " ( المتوفى سنة 695 هـ ) المُتَّصِف بالعَدالَة ، فيقول : " والعَدْل من استمَرَّ على فِعل الواجِب والمَندوب والصِّدق وتَرْك الحَرام والمَكروه والكَذِب ، مع حِفْظ مُروءتِه ومُجانَبة الرَّيب والتُّهَم . . . " وهذا الشَّرط قد دل عليه الإجماع ؛ حيث إن المُفتِي يُخبِر عن الله ( تعالى ) بحُكمِه ، ولا يكون ذلك إلا لمن اتُّصِف بالعَدالَة ، ثم إن " عُلَماء المُسلِمين لم يَختلِفوا في أن الفاسِق غير مَقْبول الفَتوى في أحكام الدِّين ، وإن كان بَصيرا بها " كما صَرَّح بذلك الخَطيب البَغْدادي وأما حين تَظهَر عليه صِفَة " العَدالَة " ، لكن باطِنه مَجْهول في ذلك ، فلعُلَمائنا ( رحمهم الله ) قَوْلان في وَصفِه بالعَدالَة أو عَدَم وصْفِه بها أظهَرُهما عَدَم وصْفِه بها .


5 - حُسْن الطَّريقة ، وسَلامة المَسلَك ، ورِضا السِّيرة : فلا بُدَّ لمن تَقلَّد هذا المَنصِب أن يتَّصِف بذلك ، فيكون حَسَن الطَّريقَة ، سَليم المَسلَك ، مَرضِيَّ السِّيرة ، حتى يَثِق الناس بأقْواله ، ويَقبَلوا ما يَقولُه لهم ؛ حيث إنهم يَتَلقَّون منه أموراُ هي أعظَم شيء في نُفوسِهم ، وهي أحكام الدِّين ، ومن المَعلوم أنهم لا يتلَقَّون ذلك إلا ممن تَحَرَّوا فيه هذه الأَوْصاف ، وأما من يتَحَلى بها ، فهم يُعرِضون عنه مَهْما كانت درَجَته الكُبرى في النّاحية العِلمية ، لذلك نرى الإمام القَرافي ( المتوفى سنة 684 هـ ) يؤكد هذا الشَّرط ويوَضِّحه أتَمَّ إيضاح حَيْث يقول " ويَنبَغي للمُفتِي أن يكون . . . حَسَن السِّيرة . . . ويقصد بِجَميع ذلك التَّوَسُّل إلى تَنْفيذ الحَق وهِدايَة الخَلق ، فتَصير هذه الأمور كلُّها قُرُبات عَظيمَة ، وإليه الإشارة بقَوْله ( تعالى ) حِكاية عن إبراهيم ( عليه السلام ) :

وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ

. قال العُلَماء :


معناه ، ثَناء جَميل ، حتى يَقتَدي بي الناس . "


6 - الوَرَع والعِفَّة عن كل ما يَخْدِش الكَرامَة ، والحِرص على استِطابة المَأكَل :


فحَرِيٌّ بمن انتَصَب لهذا الأمر العَظيم ألا يَقوم به حَقَّ القِيام إلا حين يكون مُتَّصِفا بالوَرَع ، جاعِلا نُصوص الوَعيد والتَّهديد لمن خالف أوامِر الله بين عَينَيه ، وحَرِيٌّ به ألا يَقوم به حَقَّ القِيام إلا حين يكون عَفيفا عما في أيدي النّاس ، وعما يُعتبر في عُرْفِهم من صِفات الدَّناءَة والضَّعَة ، وإلا حين يكون حَريصا أشَدَّ الحِرص على أن يكون مَكسَبه حَلالا ، وطُرُق مُعامَلته مع النّاس قائمَة في أُصولها وفُروعها على وَفْق مَنهَج الله ، وفي حُدود ما رَسَمه في شَرعِه ، وأن يكون مَأكَلُه حَلالا خالِصا ؛ بأن يكون قد عَرَف طُرُق حُصولِه وأيْقَن بحلِّها ؛ فهذه صِفات لا بُدَّ من حُصولِها في المُفتِي كي يُوفَّق في أداء رِسالَته ؛ إذ أن من لا يتَورَّع عن الشُّبُهات ، ولا يَعِفُّ عما في أيدي الناس ، ولا يرعى العُرْف في تَقويم الأُمور وتَنْزيلها مَنازِلها ، من حيث الإقْدام عليها ، أو الإحْجام عنها ، ولا يَحرِص على أن يكون ما يَتَناوَله طَيِّبا وحَلالا خالِصا ، إن من لا يرعى ذلك كُلَّه حَرِيٍّ به ألا يُوفَّق فيما يُفتِي به ، وألا يُصيب حُكْم الله فيما يُسأَل عنه ، وألا يُسمَع منه حين يُفتِي ، ولا يُستَجاب لقولِه حين يَقول ، ولهذا نرى الخَطيب البَغْدادي يُؤَكِّد اشتراط هذه المَعاني ، فيقول في مَعرِض ذِكرِه لما يُشتَرَط في المُفتِي : " ويَنبَغي أن يكون المُفتِي . . . حَريصا على استِطابَة مَأكَله ، فإن ذلك أوَّل أسباب التَّوفيق ، مُتورِّعا عن الشُّبُهات " . ويُتابِعه القَرافي ( رحمه الله ) في ذلك فيقول : " . . . وأن يكون ( المُفتِي ) قَليل الطَّمع ، كَثير الوَرَع ، فما أفلَح مُستَكثِر من الدُّنيا ، ومُعَظِّم أهلَها وحُطامَها " .


7 - رَصانَة الفِكْر وجَودَة المُلاحَظة ، والتَّأني في الفَتوى ، والتَّثبُّت فيما يُفتِي به :


فهذه صِفات يَلزَم وُجودُها فيمن يتَصدَّى للفُتْيا ؛ إذ أن من كان ناقِصا في فَهمِه ، أو مُتَّصفا بالغَفْلة ، أو مَعروفا بالعَجَلة في فَتواه والتَّسَرع بالإجابَة عما يُسأل عنه - دون أن يتَثبَّت من ذلك - إذ أن من كانت أوْصافُه كذلك ، قد فَقَد أوَّل أسباب التَّوفيق ، وحَرِيٌّ بمن فَقَد أوَّلها ألا يُحالِفه الحَظُّ في وُجْدان آخرها ، وألا يَنال في آخر المَطاف غايَتَه التي قَصَدها .


8 - طَلَب المَشورَة من ذَوي الدِّين والعِلم والرَّأي :


وَهَذا شَرْط مأخوذ من عُمومات الشَّريعة في غَيْر مَوضوع الفَتْوى ، ومما دَرَج عليه السَّلَف الصّالح فيها ، حيث كانوا يَستَشيرون حين تَعْرِض لهم المُشكِلة ، أو يَسأَلون عنها ، ودَليل ما نَقوله أن الله ( سبحانه وتعالى ) أثنَى على المُؤمنين ؛ حيث كان أمُرُهم شورَى بينهم ، وأمَرَ نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يُشاوِرَهم في الأمر ، وما كان من شَأن عُمَر بن الخَطّاب ( رَضِي الله عنه ) ، حيث كانت المَسأَلة تَنْزل عليه ، فيَستَشير فيها من حَضَر من الصَّحابَة بَل ربما جمَعَهم وشاوَرَهم ، حتى كان يُشاوِر ابنَ عبّاس ( رَضِي الله عنهما ) وهو إذ ذاك أحدَث القوم سِنًّا .


ويَنبَغي أن يُعلَم أن هذا الشَّرط مُقَيَّد بما إذا " لم يُعارِضه مَفْسَدة ؛ من إفشاء سِرِّ السائل ، أو تَعريضِه للأَذَى ، أو مَفْسَدة لبعض الحاضِرين " ؛ فإنه إن عارَضَه ذلك ، فلا يَنبَغي أن يُرتَكَب ؛ دفعا لتلك المَفاسِد .


9 - رُؤيَته لنَفسِه بأنه أهل لهَذا المَنصِب ، وشَهادة الناس له بالأهلِيَّة له :


فهذا شَرْط يورِثه اليَقين بِصَلاحِيته للفُتْيا فيَمضِي فيها ، ويُرَشِّحه في نَظَر العامَّة لهذا المَقام ، فيَقْدمون عليه يَتلقَّون عنه أحكام دينِهم ، وما لم يُعَزَّز الإنسان بِهذَين الوَصفَين ، فلن يكون صالِحا لتَبَوء هذا المَنصِب ، ولن يكون مَوثوقا بما يُفتِي به ، ولا مَقبولا عند العامَّة في سَماع ما يقوله لَهم في أمْر دينِهِم ، ولِمالِك بن أنس ( رحمه الله ) نُصوص تَدُل لذلك ، فَقَد ذَكَر القَرافي عنه ، أنه قال : " لا يَنبَغي للعالِم أن يُفتِي حتى يراه الناس أهلا لذلك ، ويَرى هو نَفسَه أهلا لذلك ، يريد تَثَبُّت أهليَّتِه عند العَلُماء ، ويكون هو بيَقين ، مُطَّلعا على ما قاله العُلَماء في حَقِّه من الأهلِيَّة ؛ لأنه قد يَظهَر من الإنسان أمْرٌ على ضِدِّ ما هو عليه ، فإذا كان مُطَّلِعا على ما وَصَفه به النّاس ، حصَل اليَقين في ذلك ، وما أفتَى مالك حتى أجازَه أربعون مُحَنَّكا " ، كما رَوَى الخَطيب البَغْدادي بسَنَده ، أن مالِك بن أنَس يقول : " ما أفتَيْت حتى شَهِد لي سَبعون أنِّي أهْلٌ لذلك " وروى بسَنَده أيضا إلى خَلَف بن عُمَر - صَديق كان لِمالك - قال : " سَمِعت مالِكا يقول : " ما أجَبْت في الفَتْوى حتى سألت من هو أعْلَم مني : هل تَراني مَوضِعا لذلك ؟ ؛ سألت رَبيعَة ، وسألت يحيى بن سعيد ، فأَمَراني بذلك ، فقلت له : يا أبا عَبْد الله : لو نَهَوْك ؟ قال : كنت أنْتَهي ؛ لا يَنبَغي لرَجُل أن يرى نَفسَه أهلا لِشَيء ، حتى يَسأَل من هو أعْلَم منه " .


* * *
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 23-01-2021, 09:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المُفتِي في الشَّريعة الإسلامية

المُفتِي في الشَّريعة الإسلامية








عبد العَزيز بن عبد الرَّحمن الرُّبَيعة





أمور يَنبَغي للمُفتِي أن يَتفطَّن لها



هناك أمور كَثيرَة يَنبَغي لمن تَقَلَّد مَنصِب الإفتاء أن يتَفطَّن لها ، وأن يأْخُذ نَفْسه بها ؛ إذ هي لا تَقِل أهميَّة عما ذَكَرناه من الأمور التي تُشتَرط له كي يَتقلَّد هذا المَنصِب العَظيم . ومن العَسير جِدًّا أن نُلِمَّ بها في بحث كهذا - في قِصَره - ، ولكن حَسْبنا من ذلك مُعظَمها ممّا نرى أنه يَحتَل المَكانَة الكُبرى بالنِّسبَة لغيره .


ومن هنا يُمكِننا أن نُلخِّصها فيما يأتي :


1 - جَمال المَظهَر وحُسْن الزِّي على الطَّريقَة التي تَتَناسب مع الوَضْع الشَّرعي :


وإنما كان هذا الأمر مَطْلوبا ؛ لأن الله يُحِب أن يرى أثَرَ نِعمَته على عَبدِه ، ولأن الخَلْق مَجْبولون على تَعظيم الصُّوَر الظّاهِرة ، والمُفتِي مَطْلوب منه أن يَعمَل ما يَجْعَله عَظيما في قُلوب العامَّة حتى يَقتَدوا به ، ويَستَنيروا بأقواله ، ولهذا كان اتِّصافُه بهذا الأمر قُرْبة لله يَنال بها الثَّواب حيث قَصَد بذلك التَّوسُّل إلى تَنفيذ الحَق وهِدايَة الخَلق ولهذا قال عُمَر ( رَضِي الله عنه ) : " أحَبُّ إلى أن أنظُر القارِئ أبْيَض الثِّياب . أي ليَعْظُم في نُفوس النّاس ، فَيَعظُم في نُفوسِهم ما لَديه من الحَقِّ " .


ويَدخُل في هذا الأمر اتِّصافه بالسَّكينَة والوَقار ، وظُهوره بمظْهَر الاحتِشام والأدَب ؛ فإن ذلك مما يُؤدِّي إلى أن يَرْغَب المُستَمِع في قَبول ما يقول " ، ومما يكون سَبَبا فيما يَقصِده من وُصول القَول الحَقِّ إلى العامَّة وعَملِهم به .


2 - البَداءَة بالنَّفس في كُل خَيْر يُفتِي به : فذلك أمر مَطْلوب من المُفتِي ؛ إذ هو عَلامَة صِدقِه في فَتْواه ، وهو السَّبيل لوَضْع البَرَكَة في قوله ، وتَيسير قَبوله في نُفوس مُستَمِعيه ، ولذا نَجِد القُرآن يُعتَبر في الصِّدق مُطابَقَة القَول والفِعْل ، وفي الكَذِب مُخالَفَته له ، وذلك كقول الله ( تعالى ) :


رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
ويَقول ( تَعالى ) :
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
(75)
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
(76)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
وقد سَلَك الرَّسول ( صلى الله عليه وسلم ) هذا المَسلَك ، فَجاءَت أقوالُه مُطابِقَة لأفعالِه ، وسيرَتُه مُمْتلِئة بالشَّواهِد لذلك .



ومنها ما أخْرَجه " مُسلِم " من أن عُمَر بن أبي سَلَمة " سأل النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن تَقْبيل الصائم .







فقال له : " سَلْ هذه ( لأم سلمة ) فأَخبَرَته أن رَسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يَفْعل ذلك ، فقال : يا رَسول الله : قد غَفَر الله لك ما تَقَدَّم من ذَنْبك وما تَأخَّر .



فقال له : والله إِني لأَتقاكم لله وأخشاكُم له ، ورَوَى مُسلِم ، أيضا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما نَهَى عن الرِّبا في خُطبَة حُجَّة الوَداع ، قال : وأوَّل رِبا أضَعُه رِبا العبّاس بن عبد المُطَّلب ، ورَوى الخَمْسة ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال حين شُفِع عنده في حَدِّ السَّرقَة : " وايْمُ الله لو أن فاطِمَة بنت مُحَمد سَرَقت ، لقَطَعت يَدَها ، فهذا منه ( صلى الله عليه وسلم ) ظاهِر في المُحافَظَة على مُطابَقَة القَول للفِعْل بالنِّسبَة إليه وإلى قَرابَتِه ، وهكذا يَنبَغي لمن تَصدَّى لأحكام الله من النّاس .


كما جاء الشَّرع ذامًّا للفاعِل بخِلاف ما يقول ، فقال الله ( تعالى ) :
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وقال أيضا - :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
(2)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ
.



ومما يَنبَغي التَّنبيه إليه ، أن هذا الأمر يُعتَبَر وُجوده أكْمَل في انتِفاع المُستفتِي ، وقَبوله لما يَقوله المُفتِي وليس معناه أنه لا بُدَّ من وُجودِه من أجل صِحَّة الفَتوى من النّاحية الشَّرعية ، اللهم إلا إذا سَقَطَت دَرَجة المُفتِي إلى مَرحَلة الفِسْق ، فإنَّه حينَئذ لا تُقبَل فَتْواه ؛ لاختِلال شَرْط العَدالَة فيه ، ولهذا يقول الشّاطِبي ( المتوفى سنة 790 هـ ) في ذلك : " والمُراد بما سُقنا من عَدَم مُخالَفة المُفتِي لما يُفتِي به ، أن هذا أكْمَل في الانتِفاع ولا يعني هذا عَدَم صِحَّة الفَتْوى من النّاحية الشَّرعية ، ما لَم يَنحَطَّ المُفتِي إلى رُتبَة الفِسق بالمُخالَفة " .


3 - مَعرِفة أحوال النّاس والتَّفطُّن لتَصَرُّفاتِهم ، واليَقظَة التامَّة للطُّرُق التي يَسلُكونها :


وذلك لِينكَشِف للمُفتِي مَكْر بعض المُستَفتين وخِداعُهم ، فلا يَغتَرَّ بِظواهِر ما يُدْلون به فَيُفتيهم تَبَعا لها ، كما ينبغي له أن يَسلُك الطريق المُستَقيم ، فيُفتِي في القَضيَّة حيث ظَهَر له أنه جَوابها ، دون أن يَسلُك طَريقا مُعوَجّا ، يحتال به على إسقاط واجِب ، أو تَحليل مُحَرم ؛ فإن ذلك مَكْر وخِداع ، وقد عاقَب الله من فَعَل ذلك أشَدَّ العِقاب ، وأحَل عليهم لَعنَتَه ، وتَوعَّدهم بالنار ، فقد قال ( تعالى ) :


وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
(50)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
وفي صَحيح مُسلِم عن النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : مَلعون من ضارَ مُسلِما أو مَكَر به وقال : لا تَرتَكِبوا ما ارتَكَبت اليَهود فَتَستَحِلوا مَحارِم الله بأَدنى الحِيَل وقال : المَكْر والخديعة في النّار .



4 - الكَفُّ عن النَّظَر في الفَتْوى حِينَما يكون مع المُستَفتِي فَتْوى قد كتَبَها من لا يَصلُح لذلك ، وعَدَم الكِتابَة معه حينما يكون الأمر كذلك ، ولو كان جَواب المُفتِي له صَحيحا ؛ إذ أن في الكِتابَة معه والحالة هذه تَقريرا لصَنيعِه ، وتَساهُلا عَظيما في شَأن الفَتْوى ؛ حيث يَتصدَّى لها ناقِص العِلم أو الدِّين أو غيرهما مما يشترط في المُفتِي .


5 - النَّظَر في السؤال والسّائل قَبْل الفَتْوى ، وعَقْد المُقارَنة بين مُستَوى السُّؤال من الناحية العِلمِيَّة ومُستَوى السّائل ، فإن كان السّائِل على مُستَوى السُّؤال ، أجابَه المُفتِي بما يراه الحَقَّ ، وإن كان السُّؤال أعلى مُستوىً من مُستوى السائل من النّاحية العِلْمية ؛ حيث يكون من العَوامِّ ، أو يكون السُّؤال من المُعضِلات ، أو من دَقائق الأمور ، أو مُتَشابه الآيات ، ونحو ذلك مما لا يَخوض فيه إلا أكابِر العُلَماء ، فيَنبَغي للمُفتِي أن يَنظُر في حال المُستفتِي : هل هذا السؤال منه نَتيجَة شُبْهة عَرَضت له ، يُريد إزالَتَها ، أو أن ذلك نَتيجَة تَرَف فِكري وفَراغ وَقتِي جَعَلاه يَتَأمل في أشياء ليس هو من أهْلِها ؟ فإن كان الأوَّل وَجَب على المُفتِي أن يُقْبل على مُستفْتيه ويَتَلطَّف معه ، ويحاول بِقَدر ما أمْكَنه أن يُزيل ما اشتَبَه عليه ، وإن كان الثاني ، فيَنبَغي له أن يَمتَنِع عن إجابَتِه ، بل يَنبَغي له أن يُنكِر عليه سُؤالَه ، ويُوجِّهه نحو ما ينَفَعه ، ويقول له : " اشتَغِل بما يَعنيك من السؤال عن صَلاتِك وأمور مُعامَلاتك ولا تَخُضْ فيما عَساه يُهلِكك ؛ لعدم استعْدادِك له .


6 - الشُّعور بالافتِقار إلى الله ( سبحانه ) في إلهام الصَّواب ، والدُّعاء بما يُناسب


فيَنبَغي للمُفتِي أن يَنْبعث من قَلبِه شُعور صَحيح بالافتِقار إلى الله في أن يُلهِمه الصَّواب ، ويُوفِّقه لطَريق الخَير ، ويَهديه للجَواب الصَّحيح .


وحَرِيٌّ بمن اتُّصِف بذلك أن يُوفِّقه الله في مُرادِه ، وأن يَدُله على طَريق الخَيْر ، كما يَنبَغي له - أيضا - أن يدعو بما يُناسب المَقام ، ومن ذلك الحَديث الصَّحيح .


اللهُمَّ رب جُبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطِر السَّماوات والأرض ، عالِم الغَيب والشَّهادة ، أنت تحَكُم بين عِبادك فيما كانوا فيه يَختَلفون ، اهدني لما اختَلف فيه من الحَقُّ بإذنِك إنك تَهدي من تَشاء إلى صِراط مُستَقيم .


وقد كان ابن تَيْمِيَّة ( المتوفى سنة 728 هـ رحمه الله ) كَثير الدُّعاء بذلك ، وكان إذا أُشكِلَت عليه المَسائل ، يقول : يا مُعَلِّم إبراهيم عَلِّمني . . . " .


7 - مُراعاة العُرف والعادَة ؛ إذ إن اختلافَهما له أثَر في اختِلاف الحُكم :


وهذا يَستَوجِب من المُفتِي أن يسأل - أول ما يسأل _ المُستفتِي - حين يَجهَل بلدَه عنها ، وعن عُرف أهلِها في مِثْل هذا اللَّفْظ ، وعلى ضَوْء ذلك يُجيب عما سَأَله " وهذا ( السُّؤال من المُفتِي ) أمر مُتَعَيَّن واجِب لا يَختَلف فيه العُلَماء ، وأن العادَتَين متى كانتا في بَلدَين لَيسَتا سَواء ، أن حُكمَهما ليس سَواء " .


وأما حِين يَكون اللَّفْظ صَريحا في مَدلولِه من جَهِة اللُّغة ، فَقَد اختَلَف العُلَماء في مُراعاة العُرْف في ذلك ، حيث يكون له مَدْلول غير مَدْلول اللُّغة ، فقيل : يُقَدَّم المَدلول اللُّغَوي للَّفظ ، وقيل يُقَدم العُرْف عليه ، وقد رَجَّح الإمام القَرافي تَقديم العُرْف قائلا : " والصَّحيح تَقديمُه ؛ لأنه ناسِخ ، والنّاسخ مُقَدَّم على المَنسوخ إجماعا ، فكذلك هاهنا " .


8 - التَّرَيُّث في الفَتْوى حين يَشتَمل اللفظ على بعض المُلابَسات التي تَجْعل المُفتِي يَغلِب على ظَنِّه أن صيغَة السُّؤال لا تُعبِّر عن حَقيقَة الواقِع تَماما :


وذلِك كأَنْ يكون السّائل عامِّيًّا لا يَدْري مَدْلول اللَّفظ ، فنَجِده يُطلِق اللَّفظ الصَّريح على غَيْر مَدْلوله ، ويأتي باللَّفْظ الخاصِّ على مَدْلول عامٍّ ، فيَنبَغي للمُفتِي إذا غَلَب على ظَنِّه أن مثل ذلك لا يَقَع له ، أن يَتَأنَّى في شَأن الفُتْيا حتى يَتَفقَّد قَرائن أحوال المُستَفتِي ، وحتى يَنكَشِف له واقِع الحال ، فيُفتيه في ضَوْء ما تَبيَّن له ، لا في حُدود ما أطْلَقه من لَفْظ ، وإن لم يَصِل المُفتِي إلى كَشْف الواقِع ، فلا يَحِل له أن يُفتِيه .


ومِنَ المُلابَسات التي تَجعَل المُفتِي يَغلِب على ظَنِّه أن صيغَة السؤال لا تُعبِّر عن حَقيقَة الواقِع ، أن يكون المَسئول عنه ما مِثلُه لا يُسأَل عنه ، فالغالِب على الظَّن حينئذ أنه يُقصَد بالسُّؤال أمر لو صُرِّح به ، لامتَنَعت الفُتْيا به ، ولهذا يَنبَغي للمُفتِي أن يَتَأنَّى في الفُتْيا ، ويستَكْشِف حال الُمستفتِي ويَبحَث عن حَقيقَة سُؤالِه .


ويَروي لنا القَرافي ، قصَّة حَصَلت له ، تُمَثل ذلك أتَمَّ التَّمثيل ، فيقول : " ولقد سُئلْت مَرة عن عَقْد النِّكاح بالقاهِرة : هل يَجوز أم لا ؟ فارتَبْت وقُلت له : ما أُفْتيك حتى تُبَيِّن لي : ما المَقصود بِهذا الكَلام ؟ فإن كُل أحَد يَعْلم أن عَقْد النِّكاح بالقاهِرة جائِز ، فلم أَزَل به حتى قال : إنا أرَدْنا أن نَعْقِده خارِج القاهِرة فمَنَعَنا ؛ لأنه استِحْلال ، فجِئنا للقاهِرة ( فعَقَدناه ) ، فقُلت له : هذا لا يَجوز بالقاهِرة ، ولا بِغَيرها " .


9 - النُّصحُ والشَّفَقَة على المُستَفْتِي : ولذلك صُوَر كَثيرَة ، ووُجوده مُتعَدِّدة ؛ إلا أن أبرَزَها دِلالَته على الأمر المُباح ، وتَوجيهه للطريق المِستقيم ، وذلك حين يَستَفتِي عن أمر مُحَرم فيَمنَعه المُفتِي منه وحاجته تَدعوه إليه ، ومَصلَحته تَستدعي أن يكون مُباحا تَناوُله ، فمن تَمام النُّصح والشَّفَقة للمُستَفتِي ، أن يَدُله المُفتِي على الأمر المُباح ، الذي يكون عِوضا عن المَمنوع ، وقائما في سَدِّ الحاجة مَقام ذلك الُمحَرَّم ، وهو حين يَسلُك هذا المَسلَك ، يكون مَثَله مِثل طَبيب الأبدان : يَحمي العَليل مما يَضُره ، ويَصِف له ما يَنفَعه .


وقد جاءت أقوال الرَّسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأحْكامُه بهذا ، ففي الصَّحيح أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ما بَعَث الله من نَبِي إلا كان حَقًّا عليه أن يَدُل أمَّتَه على خير ما يَعْلَمه لهم ، ويَنْهاهم عن شَرِّ ما يَعلَمه لهم ، كما يَروي البُخاري أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مَنَع عامِلَه على خَيْبَر من شِراء الصّاع من التَّمر الجَيِّد بالصّاعَين من الرَّديء ، ثم دَلَّه على الطريق المُباح ؛ فقال : بِعِ الجَمْع بالدَّراهم ، ثم اشْتَر بالدَّراهم جَنيبا .


وكان العُلَماء ( رحمهم الله ) يَسلُكون ذلك الطَّريق ، ويَتَحَرَّونه في فَتاويهم " ومن تَأمَّل فَتاوى ابن تَيْمِيَّة ، وَجَد ذلك ظاهِرا فيها " .


10 - مُراعاة الحُكم الشَّرعي الذي يَتَّفق مع مَقاصِد الشَّريعة ، وحَمْل المُستَفتِي على الأَخْذ به : ومَعْلوم أن الذي يَتَّفق مع مَقاصِد الشَّريعَة ، ما كان من الأحكام جارِيا على المَعْهود والوَسَط بين الشِّدَّة والخِفَّة ؛ فلا يَحمِل المُستَفتِي على الشَّديد ، ولا يَفتَح له باب الخِفَّة المُفضي إلى التَّحلُّل من أحكام الشَّرع .


ودَليل قَولنا ، أن من تَتَبَّع الشَّريعة في مَصادِرها ومَوارِدِها ، وَجَدها تَنْحو المَنحي الوَسَط في الأمور ، وتَقْصد الاعتِدال في كُل ما يَقوم به المُكَلَّفون من أعمال ، فالخُروج عن ذلك إلى التَّشديد والتَّخفيف المُفرِط ، خُروج عن مَقْصد الشَّريعة .


ثم إن ذلك مَفْهوم من أمر رَسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأَصْحابه ( رَضِي الله عنهم ) ، والوَقائع الصَّحيحة التي وَصَلت إلينا أخبارُها مِمّا لا يُحصيه العَدُّ ، تَدُل على صِحَّة ما ذُكِر ، ومن ذلك ما رَواه البُخاري وأحْمَد ومُسلِم من " أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ردَّ على عُثمان بن مَظْعون التَّبَتُّل ، وما رَواه البُخاري ومُسلِم وأبو داوُد والنَّسائي من " أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لِمُعاذ : أفَتّان أنت يا مُعاذ ، وما رَواه البُخاري من أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إن مِنْكم مُنَفِّرين وما رَواه البُخاري من أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : سَدِّدوا وقارِبوا ، واستَعينوا بالغُدْوة والرَّوْحة وشَيء من الدُّلْجَة . إلى غير ذلك مِمّا يَدُل على أن الشَّريعة ، قد بُنِيت على القَصْد والاعتِدال ، وروعِي فيها اجتِناب التَّشدِيد ، أو التَّخفيف الذي يُؤدِّي إلى التَّحلُّل من أحكام الإسلام .


ولِما تَقَدَّم " كان ما خَرَج عن المَذهَب الوَسَط مَذْموما عند العُلَماء والراسِخين .


11 - حُسْن النِّيَّة ، وسَلامَة القَصْد من المُفتِي : وذلك بأن يكون الهَدَف الأساسِي له في فَتْواه الإرشاد إلى الحَقِّ ، وهِداية العامَّة طريق الرَّشاد ، والعَمَل بأحكام الشَّرع الحَنيف ،


فلا يُداخِله رِياء أو سُمْعة ، أو حُبٌّ للظُّهور بين الناس بِمَظْهر العالِم الجَليل ، أو الغَيْرة على شَريعة الله ، دون أن يكون لذلك رَصيد في قَلبِه : من حُسْن في النِّية ، وحُبٍّ لإسْداء الخَير للنّاس ، كما لا يَجوز أن يُداخِله قَصْد لحُطام الدُّنيا أو عَرَض من أعراضِها .

يتبع







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 23-01-2021, 09:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المُفتِي في الشَّريعة الإسلامية


12 - الاحتِراز وأخْذُ الحَيطَة في الفَتْوى : ويتجلى ذلك في صُور مُتَعدِّدة ، تَختَلف في مَقاصِدها لكنه يَجمَعُها مَعنى الاحتِراز والحَيطَة اللَّذَين تَشتَمل عليها .


ومن هَذِه الصُّور أن يكون السُّؤال مُحْتملا لصُوَر مُتَعَددة ، ولا يَخْلو الأمر في هذه الحالة من أن يَكون المُفتِي عالما بالصُّورَة التي يَقصِدها المُستَفتِي بسؤاله أو لا ؟ فإن لم يكن عالما بذلك لم يُجِب عن أي صورة منها ، وإن كان عالما بما يَقصِده المُستَفتِي ، فقد اختَلَف العُلَماء ( رحمهم الله ) في الطريقة التي يَسوغ للمُفتِي أن يَسلُكها في إجابَته . فذَهَب بعْضُهم إلى أنه يَسوغ له أن يَخُصَّها وَحْدَها بالجَواب ، ولكن يَحتاط في نَفْي تَوَهُّم أن الإجابة عن غيرها ؛ بأن يَضَع قُيودا تَدُل دِلالَة واضِحَة على أنها هي المَقصودَة بالجَواب ، وأنها المَخصوصَة به دون غيرها ، كأنه يقول : " إن كان الأمر كَيْت وكَيْت ، أو كان المَسئول عنه كذا وكذا ، فالجواب كذا وكذا " ، كما يَسوغ له عند هؤلاء طريق آخر ، وذلك بأن يَذْكر جميع الصُّور المُحتَمَلة في المَقام ، ثم يَذْكر حُكْم كُل صُورة من هذه الصُّور على حِدَة . وَيرَى فَريق آخر من العُلَماء ، أنه لا يَسوغ للمُفتِي إلا أن يَتَّبع الطَّريقة الأولى - طريقَة تَخْصيص الصُّورة المَسئول عنها بالجَواب - ولا يَسوغ له ذِكْر جَميع الصُّور ، وذِكْر أحكامِها .


ويُعَضِّد رأيه بما يأتي :


أوَّلا :


أن في ذَلك تَعْليما للحِيَل ، وفَتْح أبواب كَثيرة ، يَستطِيع المُستَفتِي أن يَدخُل ويَخْرج من أيِّها شاء .


ثانيا :


أن ذلك قد يُؤدِّي إلى ضَياع مَقْصود من سُؤالِه ؛ إذ أنه يَقْصِد به الوُصول إلى جَواب يَعْمل به في واقِعَته التي سَأل عنها ، فإذا وَجَد نَفسَه أمام أحكام مُتَعَددة لصُوَر مُختَلفة لا تَعنيه ولا يُهِمُّه أمرها ، ازدَحَمت عنده الأحكام ، وصَعُب عليه فَهمُها ، واستخلاص ما يَحتاج إليه منها ، ومن هنا يكون هذا المَسلَك سَبَبا لفَوات مَقْصوده .


وبَينَما نَجِد العُلَماء يَختَلِفون فيما بينهم على هذا النَّحو الذي بيَّنا ، نَجِد الإمام ابن القَيِّم يرى مَذْهبا وسَطا بين المَذهَبين ، فيقول : " والحَقُّ التَّفْصيل ؛ فيُكْره حيث استلْزَم ذلك ( ضَياع مَقْصود العامِيِّ ) ولا يُكره - بل يُستَحب - إذا كان فيه زِيادَة إيضاح وبَيان إزالة لَبْس " .


وأيَّد رأيه بِما وَرَد عن النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) من التَّفصيل في كَثير من أجوِبَته بقوله : إن كان كذا ، فالأَمْر كذا ، وذَكَر من ذلك قِصَّة الذي وَقَع على جارَة امرَأَته ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن كان استَكْرَهها فهي حُرَّة ، وعليه لسَيِّدتها مِثلُها ، وإن كانت مُطاوِعة ، فهي له ، وعليه لسَيِّدتها مِثلُها " .


ومن هذه الصُّور التي يَتَجلى فيها مَعنَى الاحتِراز والحَيطَة ما إذا كانت الفَتْوى قد يُفْهم منها أنها بُنِيت على مَعنَى من المَعاني ، فقد يَذْهب نَظَر المُستَفتِي إلى أنه هو العُمدَة في هذا الحُكْم ، فَيُراعيه في القَضايا التي يوجَد فيها ، وحين يكون هناك مانِع يَمنَع من هذا ، يَنبَغي التَّنبيه إليه ، والاحتِراز مما قد يؤدي إليه الفَهْم منه ، ومن ذلك ما رَواه الإمام أحْمَد ومُسلِم والتِّرمِذي والنَّسائي وأبو داوُد أن النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : لا تَجْلسوا على القُبور ، ولا تُصَلوا إليها ، ففي النَّهْي عن الجُلوس عليها نَوْع تَعْظيم لها ، وحيث خَشِي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يُراعى تَعْظيمها فيَعْمل كل ما كان من شَأنِه خِدْمة هذا المَعنَى ، ومن ذلك الصَّلاة إليها - لَمّا خَشِي ذلك ، صَرَّح بالنَّهي عن المُبالَغة في تَعظيمِها ، حتى تُجعَل قِبْلَة يصلى إليها .


ومن هذه الصُّور أيضا أن المُفتِي حِينَما يُلقي الحُكْم على المُستَفتِي ، فمن اللائق به أن يَذْكر دَليل الحُكْم ومَأخَذه ؛ فإن في هذه الطَّريقَة احتِياطِيّا لِكَسْب ثِقَة المُستفتِي بمُفْتيه ، واطمِئنان نَفسِه بالحُكم الذي تَلقّاه منه ، وفيها احتياطيا للمُفتِي بحيث يُبَرهن لغيره أنه إنما أفْتاه عن عِلْم ويَقين لا عن تَخَرُّص وتَخْمين .


والنّاظر في فَتاوى النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي قَولُه حُجَّة بِنَفسه ، لا يَحتاج إلى شَيء يُعَضِّده ويُسانِده ، يَجدُها مُشتَمِلة على التَّنبيه إلى حِكْمة الحُكْم ، ووَجْه مَشروعِيَّته ، ونَظيره من الأحكام حتى يتأيَّد بها .


ومن ذلك ما رَواه الإمام أحْمَد والنَّسائي وأبو داوُد وابن ماجَة عن سَعْد بن أبي وَقّاص قال : سَمِعت النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) يَسأل عَنِ اشتِراء التَّمر بالرُّطَب ، فَقال لِمَن حَولَه : أَيَنقُص الرُّطَب إذا يَبِس ؟ قالوا : نعم ، فَنَهى عن ذلك فَمِن المَعْلوم يَقينا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) يَعلَم نُقْصان الرُّطَب بعد يُبْسه ، ولكنه أراد بهذا السُّؤال أن يُنَبِّههم إلى عِلَّة تَحْريم بَيْعه بالتَّمر .


ومن ذلك ما رَواه أحْمَد وأبو داوُد من قَوْله ( صلى الله عليه وسلم ) لعُمَر حين سأله عن حُكْم تَقْبيل الصّائم لامرَأتِه : " أرَأَيت لو تَمَضمَضْت بماء وأنت صائم ؟ قلت : لا بَأْس بذلك ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ففيم ؛ فَهُو أتى بين يَدَي الفَتْوى بِمُقَدمة الشُّرب للصائم وهي المَضْمضة ، وسأله عن حُكْمها ليَتَوصل من هذا إلى نَقْل مِثْل هذا الحُكْم إلى تَقْبيل الصّائم لامرَأتِه ؛ إذ هما نَظيران فَكُل واحد منهما مُقَدمة لِمَحظور ، ولا يَلْزم من ذلك أن يَكونا مَحْظورَين .


ومن هذه الصُّور - أيضا - أن المَسألَة حينما يكون في حُكمِها خِلاف بَيْن العُلَماء ، فإن المُفتِي يَنْظر فيها على أساس من الاحتِياط والاحتراز ، فإن رأى أن الفَتوى فيها ستُثير استِنكار بعض العُلَماء ، وتوقِع في التَّنازع ، وتُؤَدي إلى الطَّعن فيه ، فإن الاحتِراز من ذلك يَقْضي بأن يَحْكى ما فيها من خِلاف ، ويورِد ما لِكُل مَذْهب من أدِلَّة ، ويَنْقل من الكُتُب ما يُلائم المَقام من نُصوص . وبذلك يُبَيِّن وَجْه الصَّواب لِغَيره مِمَّن نازَعه من العُلَماء ، ويَصون عِرْضه مما قد يَحتَمل من الطَّعن فيه .


وإن رأى أن الفَتْوى لا يُقصد بها إلا مُجَرد الاستِرشاد ، ولا يُحتَمل من وَرائها أن تُثير استِنكارا ، ولا أن توقِع في نِزاع ، أو تُؤدِّي إلى طَعْن ، فإنه يَقْتَصر حينئذ على الجَواب عن السُّؤال مُجَرَّدا عن ذِكْر الخِلافات وما يُصاحِبها من أدِلَّة مُتبايِنة ونقول مُختَلفة ، وهذا هو ما تَقْضي به مُراعاة الاحتِراز في الفَتْوى عن التَّشويش على المُستفتِي ، والخَوف من وُقوعِه في بَلْبَلة فِكريَّة من كَثْرة الآراء التي أُلقِيت عليه ، فلا يَدْري بِأيِّها يَأخُذ . ومن صُور الاحتِراز التي يَنبَغي للمُفتِي التَّفَطُّن لها أن لا يَترُك شيئا مِمّا تَلَفَّظ به المُستَفتِي مما له تَأثير في الحُكم إلا كَتَبه ؛ وذلك أن المُستفتِي قد يَأتي بفَتوى مُحَرَّرة ، لكنه يتَلفَّظ بأُمور لَيْست مَكتوبَة ، وهي لها أَثَر في الحُكم ، فحينَئذ يَنبَغي للمُفتِي أن يَكتُبها " بِخطِّه بين الأسْطُر ، أو يقول : قال المُستفتِي من لَفْظه كذا " ؛ لأن في تَرْك ذلك - مع أنه قد راعاه في الفُتْيا - طَعْنا عليه في فُتْياه ، فيَنبَغي له أن يَتَحرَّز من هذا الطَّعْن .


كما يَنبَغي له أن يَتَفقَّد أسْطُر الوَرَقة تَفَقُّدا تاما ، فإذا رأى في السَّطر بَياضا سدَّده ، وإذا رأى في السَّطر الأخير نَقْصا أكْمَله بِخَطِّه بما يَكتُبه في الفُتْيا ؛ وذلك لأن مثل هذه الفَراغات تكون مَجالا للتَّوصُّل للباطل والتَّتميم بما يُخالِف الحُكم ، فَينشَأ عن ذلك فِتَن عَظيمَة بين العُلَماء ، وطَعْن أليم على المُفْتين ، ويَروي " القَرافي " قِصَّة حَصَل فيها هذا المَحذور ؛ بِسبَب إهمال هذا المُفتِي لهذه الفَراغات ، وإكمال المُستفتِي لها بما يُخالِف حُكْم المُفتِي ، فَيَقول " وقد استُفتِي بَعض العُلَماء المَشهورين عن رَجُل مات وتَرَك أمًّا وأخا لأم ، وتَرَك الكاتِب في آخر السطر بَياضا ثم قال : وابن عَمٍّ ، فكَتَب المُفتِي : للأم الثُّلُث ، وللأَخ ِلأم السُّدُس ، والباقي لابن العَمِّ ، فلما أخَذ المُستفتِي الفُتْيا ، كتب في ذلك البَياض : وأبًا ، ثم دَوَّر الفُتْيا على الناس بالكوفَة ، وقال انظروا فُلانا كيف حَجَب الأب بابن العَمِّ ، فقال له أصحابه : مِثْلُه ما يَجْهَل هذا ، فقال : هذا خَطُّه شاهِد عليه ، فوَقَعت فِتْنة عَظيمَة بين فِئتَين عَظيمَتين من الفُقَهاء " .


وأمْثال هذه القِصَّة كَثير بسبب ما تُزَيِّن للمُستفتِي نَفسُه أن يُضيفَه حين يَجِد المَجال مَفتوحا أمامه للإضافَة ، ولهذا فإنه يَنبَغي للمُفتِي التَّفطُّن التّام لذلك " فإذا رأى فُرْجة يمكن أن يُكتَب فيها شَيء ، فَليَمْلأْها بلفظ " صح ، صح " ونحوها مما يَشْغل به تلك الفُرْجَة ، وإذا بَقِيت فُرْجة في آخر السَّطر ، فلْيَسُدها بِمِثل " والحمد لله " أو " حَسْبنا الله " ، وليَنْو بها ذِكْر الله تعالى . . . " .


13 - تأدُّبه في صورة وَضْع الفُتْيا ، حين يكون قد أفْتَى في القَضية غيره ممن هو أعْلَى منه مَنْزلة في العِلم : ذلك أن في هذا تَواضُعا ، والله يُحب من اتُّصف بهذه الصِّفة ، وفيه احتِراما لذَوي المَنزِلة العِلْمية ، واعترافا بفَضْلهم ومَكانَتِهم .


والتَأدُّب في صورَة وَضْع الفُتْيا له ناحيتان : ناحية من حَيْث التَّلَفظ بالفَتْوى ، وناحية من حَيْث المَوضِع الذي يَكتُبها فيه ، ولكل من النّاحيتين دَرَجات تَختَلف قُربا وبُعْدا عن التَّواضع .


وقد أوْضَح " القَرافي " هذه الدَّرجات مُبَيِّنا عِلَل قُربِها أو بُعدِها عن التَّواضِع ، فقال : " فإن كان الذي تَقدَّمه ، في غاية الجَلالَة ، فلْيَقل : " كذلك جَوابي " إن كان يَعتَقد صِحَّة ما قاله من تَقدَّمه ، ودون ذلك في التَّواضُع " جوابي كذلك " ؛ لأن تَقديم لَفظ الجَواب قبل التَّشبيه ، تَقديم لجَوابِه على جَواب من تَقدَّمه الكائن في التَّشبيه ، وإن قال : " كذلك جَوابي " ، فالإشارَة ب " ذلك " الذي دَخلَت عليه كاف التَّشبيه ، هو جواب من تَقدَّمه ، فيكون قد قَدَّم جَواب السّابق عليه قبل ذِكْر جوابِه ، والتَّقديم تَعظيم واهتِمام ، فهو أَدْخل في الأدَب .


ودون هاتين المَرتَبَتين في التَّواضُع ، وأقْرَب إلى التَّرَفُّع أن يَكْتب مِثْل الجَواب بعبارة أخرى ، ولا يُشبه جَوابه بجَواب من تقدَّمه أصْلا ، وأرْفَع من ذلك وأبْعَد عن التَّواضُع ، أن يقول : " الجواب صَواب " أو " الجَواب صَحيح " وهذا لا يُستَعْمل إلا لمن يَصْلح للثاني أن يُجيزه في الفُتْيا أو يُزَكيه في قوله ، وأن يَكون معه في مَعنَى التِّلميذ والتَّبَع ؛ لأنه أظْهَر أن جَواب السّابق في صُورَة من يَشْهد له هو بالصِّحة ، أو بالصَّواب من جهة الثاني ، وهذه أدنى الرُّتَب لخُلُو اللَّفظ عن التَّعظيم بالكُلِّية .


هذا من حيث اللَّفْظ .


وأما من حيث المَوضِع الذي يُكتَب فيه ، فإن اتَّضَع ، كَتَب خَطَّه تَحت خَطِّ الأوَّل ، وإن تَرفَّع ، كَتَب قُبالَتَه في يمين الخَط أو شِماله ، وكذلك الجِهة اليُمنى أشْرَف من الجِهَة اليُسرى ، فالمُتَواضِع يَضُع في اليُسرى ، والذي لا يَقْصِد التَّواضع ، ويَقْصِد التَّعظيم للجِهَة اليُمنى لكَوْنها يُمنَى يَضَع فيها " .


خاتِمة


كان للواقِع الذي تَعيشُه الأمَّة الإسلامية في أفرادِها ، ومن يَتصدَّر للفُتْيا في دين الله ، سَبَب قَوِي جَعَلني أُفَكِّر في مَوضوع هذا البَحْث ، وأطلُب العَوْن من الله في استِجلاء كَثير من حَقائقِه كما كان لبعض جَوانِبه أثَر في نفسي أقوى من الجوانب الأخرى ، تلك هي ما يَتَّصل بالأُسُس الأَصيلَة ، التي يَنْبنى عليها تَكوين المُفتِي ، والمَطالِب الهامَّة التي يَنبَغي أن يَتَّصف بها ويَتَرسَّمها في حَياتِه العامَّة وأثْناء قِيامِه بِمهمَّة الفُتْيا ، والمَكانَة العَظيمَة التي قد مَنَحها مما يدل على عِظَم شأنِه ، وعُلوِّ مَنزِلَته .


لذلك حاوَلْت - بِقَدر ما أمَدَّني الله به من عَون - أن أستَجْلي من هذه الجوانب ما رأيْتُه في المَنزِلَة الأولى بين جوانِبه المُتعَدِّدة .


ومن هنا جاء البَحْث قائما على الحَقائق التالية :


الحَقيقَة الأولى : أن قَدَّمت له بتَمْهيد ؛ بيَّنت فيه مَكانَة هذا البَحث في مَيْدان البُحوث العِلمِية ، والمَدى البالِغ لأهميَّته في عَصرنا الحاضِر ؛ حيث فَشا الجَهْل في أفراد الأمَّة بأحكام دينِها وصار الكَثير ممن يتصدَّر الفُتْيا لا ينطَبِق عليهم ما هو مُشتَرط لمن يتصدَّى لهذا المَنصِب العَظيم .


الحَقيقَة الثانية : أن أوضَحْت مَعناه في اللُّغة ، وعَرَضت الخِلاف بين العُلَماء في تَعريفه اصطلاحا ، ورجَّحت بالأدلة ما تَبَيَّن لي رُجْحانُه ، وذَيَّلت هذه الحَقيقَة بعَرْض لأقسام المُفتين ، وتَعريف مُختَصَر بهم .


الحَقيقَة الثالثة : أن بيَّنت المَنزلَة الرَّفيعة التي يَحتلُّها المُفتِي ؛ حيث كان قائما مَقام النَّبي ( صلى الله عليه وسلم ) في وراثَته لِعلم الشَّريعة منه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإبلاغِها للناس ، وتعليمِها للجاهِل بها ، والإنذار بها ، وأقَمْت الأدلَّة النّاصِعة لذلك من الكِتاب العَزيز ، والسنَّة المُطهَّرة .


الحَقيقَة الرابعة : أن ذَكَرت الشُّروط التي يَنبَغي أن تتوفَّر فيمن اصطلَحْنا سابقا على تَسمِيته بالمُفتِي الذي تُؤخَذ الفَتْوى عنه ، وإن كان غَيْره ممن هو أعلى مَرْتبَة في العِلْم ، وأرسَخ قَدَما في الفَهْم والاستِنباط ، تُؤخَذ عنه من باب أَوْلى ؛ فكانت على النحو التالي :


الإسلام والتَّكليف ، والعِلم ، والعَدالَة ، وحُسْن الطَّريقة ورِضا السِّيرة ، والوَرَع والعِفَّة والحِرص على استِطابَة المَأكَل ، ورَصانَة الفِكْر وجَوْدة المُلاحَظَة ، والتَّأنِّي في الفَتْوى والتَثَبُّت فيما يُفتِى به ، وطَلَب المَشورة ، ورُؤيَة المُفتِي لنفسه بأنه أهل لهذا المَنصِب ، وشَهادَة النّاس له بذلك .


وقد ذَكَرت بعد كُل شَرْط ما يَدُل على اشتِراطِه ، فبان بذلك تَحَتُّم وُجودِها فيمَن نَصَّب نَفْسه للإفتاء " وتَحتَّم امتِناع من لم تَتَوفَّر فيه عن ذلك .


الحَقيقَة الخامِسة : أن سَجَّلت في هذا البَحْث أهم الأمور التي يَنبَغي لمن تَصدَّى للفُتْيا بأن يَتَحلَّى بها ، ويأخذ نفسه بها ، فاجتمع لنا منها ما يأتي :


جَمال المَظْهر وحُسْن الزِّي على الطَّريقة التي تَتَناسب مع الوَضْع الشَّرعي ، والبَداءة بالنَّفس في كل خَيْر يُفتِى به ، ومَعرِفة أحوال الناس والتَّفطُّن لتَصرُّفاتهم ، والكَفُّ عن النَّظَر في الفَتْوى حِينَما يكون مع المُستفتِي فَتْوى قد كتَبَها من لا يَصلُح لذلك ، وعَدَم الكِتابَة مع المُستفتِي حِينَما تكون حالُه مِثلَ ذلك ، والنَّظر في سُؤال السّائل من حيث مُطابقَته لمُستَوى السائل وعَدَم مُطابقَته لذلك ، وإعطاء كُل حالَة حُكمها المُناسِب لها ؛ من حيث إفتاؤه وعَدَم إفتائه ، والشُّعور بالافتِقار إلى الله ( سبحانه ) في إلهام الصَّواب ، والدُّعاء بما يتَناسَب مع هذا المَقام ، ومُراعاة العُرْف والعادَة في الفَتْوى حيث تَختَلف بُلدان المُستَفتين ، وعَرْض الخِلاف حين يَتَعارض العُرْف مع المَدْلول اللُّغوي للفظ الصَّريح ، والتَّرَيُّث في الفَتْوى حين يَشتَمل اللَّفظ على بَعْض المُلابَسات التي تَجْعل المُفتِي يَغلِب على ظنِّه أن صيغَة السُّؤال لا تُعَبر عن حَقيقَة الواقِع تماما ، والنُّصح والشَّفَقة على المُستفتِي ؛ إما بتَوجيهِه للطُّرق المُباحَة حين يَستفْتي عن أمر مُحرَّم ، فيمنَعه المُفتِي منه ، وإما غير ذلك مما يَدخُل في مَعنَى النُّصح والشَّفَقة ، ومُراعاة الحُكم الشَّرعي الذي يَتِّفق مع مَقاصِد الشَّريعة ، وهو ما كان جارِيا على المَعهود الوَسَط بين الشِّدَّة والخِفَّة ، وحُسْن النيَّة ، وسَلامَة القَصْد من المُفتِي ، والاحتِراز وأخْذ الحَيْطة في الفَتْوى - وقد ذَكَرت لذلك صُورا كَثيرة مُتَنوِّعة بِجمعِها هذا المَعنى - وخَتَمْت هذه الأمور بأمر يتَّصِل بالتَّواضُع المَشروع في الإسلام ، وهو تَأدُّب المُفتِي في صورة وَضْع الفُتْيا حين يكون قد أفتى في القضية غيره ممن هو أَعْلى منه مَنْزِلة في العِلْم .


وقد سَلكْت في بَحْث هذه الأمور ذِكْر الأدلَّة الشَّرعية لها ، وعَرْض الِخلاف حيث يوجَد فيها ، وتَفصيل الحالات المحُتَملة حيث يوجد الاحتِمال ، وإيراد الحُكْم لكُل حالَة مَقرونا بِدليلِه .


تِلك : هي مَكانَة المُفتِي في الإسلام ، وهذه هي الحَقائق التي يَنبَغي لمن تَصدَّى للإفتاء بأن تَتوفَّر فيه ، ويتجلَّى بها .


فما مَدَى انطِباقِها على المُفتين في العالَم الإسلامي المُعاصِر ؟ إننا نقرر - والأسى يَحِز في نُفوسنا - واقعا مَريرا تَعيشُه الأمَّة الإسلامية في هذا الجانب ؛ ذلك أن كَثيرا من أولئك المُفتين لا تتوفَّر فيه تلك الشُّروط ، ولا تَجتَمع فيه الأمور التي يَنبَغي لمن أفتى أن يَتَحلَّى بها ، ولا شك أن هذا كان له الأثَر السَّيئ في المُجتَمَع الإسلامي ؛ فأحكام الدِّين تُؤخَذ - في كثير من الأحيان - عن أفواه من لا يَصلُح للفُتْيا ، والثِّقَة بما يقال في ذلك انتُزِعت ؛ لكون القائل ليس أهلا لما يقول ، والاضطراب في الفتاوي بين العامَّة انتَشَر حتى صار سَبَبا للفَوْضى بينهم ، والتَّشْويش عليهم فيما يأخُذون أنْفُسهُم به .


والشَّيء الذي يَتَبادر إلى الذِّهن اقتِراحُه إزاء هذه المُشكِلة ؛ للقَضاء عليها ، أو الحَدِّ من خَطَرها ، أن لا يُتْرك الباب للإفتاء مَفْتوحا لمن أراد أن يَلِج منه ، بل يَنبَغي لوُلاة الأُمور ومن يَعنيهم هذا الشَّأن أن يَضَعوا قَواعِد أساسيَّة بها يقوِّمون الشَّخص ، ويَعلَمون مَدَى صَلاحيته لذلك ، فيُرشِّحوه لهذا الأمر ، ويُوجِّهوا عامَّة الناس نَحْوه في أخذ الأحكام ، حين يحتاجون لذلك ، وأن يَمنَعوا عن الإفتاء من لا يَصلُح لذلك ، ويُنذِروه إن لم يَنْتَه عنه ، ويُعاقِبوه بما يَتَناسب مع حالِه حين يَتَصدَّى له ، ولو أصاب في ذلك ، فإن إصابَتَه مرَّة سيَتْبعُها خَطَؤه مرات كثيرة في حالات أخرى ، وليس فيما نقول تَحْجير لواسِع ؛ فإنه لا مانِع من أن يُخْتار في كُل بَلَد من يَصْلح لذلك ؛ حتى يُفتيها في أمور دينِها ، ويُخَلِّصها مِمّا قد يَنْبَهِم عليها في صِلَتها مع رَبِّها ، كما أنه ليس فيما نقول ابتِكار لقَوْل لم نَسْبق إليه وإلى العَمَل به ؛ فقد قال الخَطيب البَغْدادي : " قُلْت يَنبَغي لإمام المُسلِمين ، أن يتَصفَّح أحوال المُفتين ؛ فمن كان يَصْلح للفَتْوى ، أقَرَّه عليها ، ومن لم يكن من أهْلِها مَنَعه منها ، وتقدم إليه بأن لا يَتَعرَّض لها ، وأوْعَده بالعُقوبة ، إن لم يَنْتَه عنها " .


ويَستأنِس في عَرْض رأيه هذا بما حَصَل من خُلَفاء بَنِي أميَّة في تَعيِينهم من يَتصدَّى للفُتْيا بمكة ، ومَنْعِهم لِغَيرهم منها ، فيقول : " وقد كان الخُلَفاء من بَنِي أميَّة يُنَصِّبون للفَتْوى بِمكَّة في أيام المَوْسم قَوما يُعيِّنُونهم ، ويأمرون بأن لا يُستَفْتَي غيرُهم ( ويروي بسَنَده ) إلى أبي يَزيد الصَّنْعاني عن أبيه قال : كان يَصيح الصّائح في الحاج : لا يُفتِي النّاس إلا عَطاء بن أبي رَباح ، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نَجِيح " .


ويُتابِع " ابن الجَوزي " ( المتوفى سنة 596 هـ ) الخَطيب البَغْدادي فيقول : " يلزم وَلِي الأمر مِنهم كما فعل بنو أمَيَّة " .


كما أن من يَتَصدَّرون الفُتْيا - مِمَّن كانوا أهْلا لها - يَنبَغي لهم تَوْعيَة العامَّة بهذا الشَّأن ، والعَمَل على صَرف النّاس عمن لا يَصْلح للفُتْيا ، والحَد من نَشاطِهم ، والمَنع من نُفوذِهم بُكُل الوَسائل التي تَخْدم هذه المَقاصِد .


ولهذا نَرى القَرافي يَعرِض رَأيا ، هو في نفسه أَحَد هذه الوَسائل ، فيقول : " ويَنبَغي للمُفتِي متى جاءَتْه فُتْيا ، وفيها خَطُّ من لا يَصْلح للفُتْيا ، ألا يَكْتب معه ؛ فإن كتابته معه تَقْرير لصَنيعِه ، وتَرويج لقَوْله الذي لا يَنبَغي أن يُساعَد عليه ، وإن كان الجَواب في نَفْسه صَحيحا ؛ فإن الجاهِل قد يُصيب ، ولكن المُصيبة العَظيمَة ، أن يُفتي في دين الله من لا يَصْلح للفُتْيا ؛ إما لِقِلَّة عِلمه ، أو لقِلة دينِه ، أو لهما معا " .


نَسأَل الله ( عز وجل ) أن يَنْصر دينَه ، ويُعلي كَلِمته ، وأن يُوفِّق القائمين على شُئون المُسلِمين لِما فيه خَيْر دينهم ، وصلاح من تَحْت رِعايَتهم ؟


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 146.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 143.33 كيلو بايت... تم توفير 3.27 كيلو بايت...بمعدل (2.23%)]