موقعة صفين .. الأسباب والاستعدادات - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         ولا تبغوا الفساد في الأرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          تحرر من القيود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          فن التعامـل مع الطالبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 777 )           »          العمل السياسي الديـموقراطي سيؤثر في الصرح العقائدي وفي قضية الولاء والبراء وهي قضية م (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 129 )           »          طرائق تنمية الحواس الخمس لدى الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 16 )           »          حقيقة العلاج بالطاقة بين العلم والقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          الله عرفناه.. بالعقل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 90 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-04-2019, 02:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي موقعة صفين .. الأسباب والاستعدادات

موقعة صفين .. الأسباب والاستعدادات


أ.د: محمد سهيل طقوش


الصراع بين علي، ومعاوية
الصراع على مصر
تجلَّى الصراع بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما بأوضح مظاهره في مصر أوَّلًا، ورأى معاوية رضي الله عنه أنَّ الصراع الحاسم بينه وبين عليٍّ رضي الله عنه سوف يدور في هذا البلد، وأنَّ تحييده أو غزوه والسيطرة عليه من شأنه أن يُقوِّي وضعه على الجبهة العراقية - الشامية، وفي المقابل كان عليٌّ رضي الله عنه منهمكًا في حشد العراقيين حوله، ولم تكن مصر من أولى اهتماماته؛ فهي بعيدةٌ جدًّا عن قواعده، ولم يُدرك أهميَّة الرهان عليها -على الأقلِّ في حينه- إلَّا أنَّه دُفع دفعًا إلى الدخول في صراعٍ عليها، وقد حرصت المصادر على إظهاره بأنَّه شخصيَّةٌ سياسيَّةٌ تفتقر إلى المناورة السياسية والدهاء والحيلة، إلَّا أنها تُؤكِّد على خبرته القتالية والعسكرية.

وهناك حرصٌ شديدٌ -في المقابل- من المصادر نفسها على وصف معاوية رضي الله عنه بالشخصية السياسية الكثيرة الخبرة، والشديدة الدهاء والمكر، ما مكنه من استمالة عددٍ من الصحابة المشهورين بالحنكة السياسية والدهاء لصالحه، ومنهم المغيرة بن شعبة، وزياد ابن أبيه الذي ألحقه بنسبه، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم.

الواقع أنَّ هذه الإشارات التي تبالغ كثيرًا، قد وضُعت لاحقًا بتأثيراتٍ أموية أو عباسية؛ فقد كان عليٌّ سياسيًّا أكثر ممَّا تصفه به المصادر، وكان معاوية استراتيجيًّا أقلَّ كياسة، وأقلَّ مكرًا ممَّا جرت العادة على وصفه[1].

مهما يكن من أمرٍ فالمعروف أنَّ مصر بقيادة الوالي محمد بن أبي حذيفة الأموي، كانت مركزًا للثائرين على عثمان، وكان معاوية يُواجه حصارًا حقيقيًّا في دائرة نفوذ عليٍّ الواسعة ولا يُمكنه المناورة طويلًا في موقفه، ولقد شعر بوطأة الخطر بعد تعيين قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري واليًا على هذا البلد خلفًا لمحمَّد بن أبي حذيفة الذي قُتل في الحملة التي نفَّذها معاوية رضي الله عنه ضدَّه[2]، وهو أحد الأشخاص البارزين في إدارة عليٍّ، بل أكثرهم حماسةً لقضيَّته، وقد عقد الخليفة آمالًا كبيرةً على نجاحه في مهمته، فيما كان معاوية في المقابل يُقدِّر المتاعب التي سيُسبِّبها تعيين مثل هذا الرجل على مصر، فهو عدا صلابته ينتمي إلى فئةٍ معاديةٍ للبيت الأموي، وخشي من هجومٍ قد يشنه عليٌّ من العراق، وآخر قد يشنه قيسٌ من مصر[3] فيقع بين فكي الكماشة، ويلحق به هزيمة محقَّقة، بالإضافة إلى ذلك فإنَّ السيطرة على مصر من شأنها أن تمدَّه بموارد اقتصادية وفيرة بفعل غنى هذا البلد بالمقارنة مع غنى بلاد الشام، وتكسبه مركزًا عسكريًّا ممتازًا بفعل موقع مصر الجغرافي، وتحصر الصراع بين العراق والشام، كما تُعدُّ خطوة أساسية في البناء السياسي للدولة الإسلامية، وقد دفعه ذلك إلى التصميم على السيطرة عليها، وتعاون من أجل ذلك مع عمرو بن العاص الذي هدف إلى استعادة مجال نفوذه في مصر وفقًا للتحالف الذي عقده الرجلان منذ بداية تعاونهما الذي أضحى وثيقًا جدًّا.
الواقع أنَّ قيسًا نجح إلى حدٍّ ما في مهمته، وحصل على بيعة أهل مصر لعليٍّ رضي الله عنه وسيطر على الوضع، غير أنَّ نواةً قوية من العثمانية تجمَّعت في خربتا[4]، وقد رفض أفرادها البيعة لعليٍّ رضي الله عنه، كان منهم مسلمة بن مخلد وبسر بن أرطأة ومعاوية بن حديج، وقد ارتأى قيس محاورتهم دون أن يجد في موقفهم السلبي ما يُشكِّل خطرًا على وضعه، ووُقِّع اتفاق هدنةٍ بين الطرفين من واقع عدم تعرُّض أيِّ طرفٍ للطرف الآخر[5]، إلَّا إنَّ ذلك اصطدم برأي الخليفة الذي مال إلى حسم هذا التمرُّد بالقوة. ومن خلال هذه الثغرة نفَّذ معاوية ليفسد على قيس مهمته ويُسيطر على مصر، فراح يتَّصل بالعثمانية واعدًا إياهم بمساعدةٍ عسكريةٍ فورية، والمعروف أنَّ معاوية لم يقم حتى ذلك الحين بأيِّ تحركٍ جدِّيٍ ضدَّ عليٍّ رضي الله عنه، ولا لأجل قضية عثمان رضي الله عنه باستثناء رفض البيعة والهجوم الذي نفَّذه على مصر ضدَّ محمَّد بن أبي حذيفة رضي الله عنه، الذي ربما ارتدى طابعًا أسريًّا[6]، ولم يفتح باب الصراع الفعلي مع عليٍّ إلا بعد تصفية جماعة الجمل؛ حيث بات مدفوعًا أو مكرهًا على اتخاذ مواقفٍ وقرار. كان عليه أن يُعلن صراحة أنَّه ضدَّ عليٍّ أو أن ينقاد له، فاختار المواجهة.
تُغالي المصادر كثيرًا في طريقة تمكُّنه من إبعاد قيس بن سعد وإخراجه من مصر بالترغيب والتهديد[7]؛ إذ إنَّ كلَّ شيءٍ يُعدُّ صالحًا للوصول إلى الهدف، وكان المقصود زرع الشكوك في نفس عليٍّ حول ولاءه، ممَّا دفعه إلى التعليق حول ما يُروَّج عن قيسٍ من أخبار "إني والله ما أُصدِّق بهذا عن قيس"[8].
الواضح أنَّ خطة معاوية بن أبي سفيان القاضية بإبعاد قيسٍ عن مصر كانت تسير نحو النجاح، من واقع رفض الوالي تنفيذ ما أمره به الخليفة من القضاء على حركة التمرد في خربتا، معلِّلًا ذلك بأنَّهم وجوه أهل مصر وأشرافهم، ومن هذه الرؤية جاء قرار عزله عن ولاية مصر[9].

اختار الخليفة رجلًا يثق به -هو الأشتر بن مالك النخعي- وأحد كبار قادته وعيَّنه واليًا على مصر خلفًا لقيس. ويبدو أنَّه أدرك الآن أهمية مصر وأنَّها تُشكِّل نقطة توازن مهمة في الصراع بينه وبين معاوية، دون أن يعني ذلك فقدان ثقته بقيس، لكنَّ حادثة العزل صبَّت في مصلحة معاوية؛ لأنَّ الأشتر تُوفِّي -مسمومًا على الأغلب- في القلزم وهو في طريقه إلى مصر لاستلام منصبه ممَّا حرم عليًّا من رجلٍ قدير[10]؛ لأنَّ خلفه محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما الذي عيَّنه عليٌّ اتَّصف بقصر النظر السياسي والجهل بشئون الحكم، فارتكب أعمالًا أثارت المصريين، فتعثَّرت مهمَّته، ولم تؤدِّ إلى سدِّ الثغرة بل أسهمت في توسيعها ممهِّدةً لخروج مصر من سلطة الخلافة.

سرعان ما وجد الوالي الجديد محمد بن أبي بكر نفسه أمام مشكلة العثمانية في مصر، وفشل في تجاوزها وسقط ضحيَّتها بعد تدخلٍ مباشرٍ من معاوية الذي انعتق من قيود الهدنة بعد معركة صفين، وتوطَّد مركزه من جراء التحكيم الذي جرى في شهر "محرم 38هـ= يونيو 658م"، فراح يكشف عن مطامعه ومطامحه لكي يُقرِّر الاستيلاء على مصر علنًا.

الواقع أنَّه كان قد اتخذ قراره قبل ذلك، كما أنَّ علاقته بالعثمانية قد باتت واضحة، إلا إنَّ التنفيذ حدث في شهر "صفر 38هـ= يوليو 658م"، فأرسل قوَّةً عسكريَّةً مؤلَّفةً من ستة آلاف مقاتل بقيادة عمرو بن العاص، توغَّلت في أرض مصر، وانضمَّت إليها العثمانية.

عبَّأ محمَّد بن أبي بكر أتباعه لمواجهة الزحف الشامي، وطلب نجدةً عاجلةً من عليٍّ رضي الله عنه، إلَّا أنَّه واجه عدَّة صعاب لم يتمكَّن من تجاوزها:
-
فقد تعرض لعملية تهديدٍ نفسيٍّ من جانب معاوية والعثمانية؛ بسبب موقفه المناوئ لعثمان بن عفان، وكان مهدَّدًا بأشدِّ عقوبات القصاص، ونُصح بإخلاء الساحة.

- لقد وعده عليٌّ بإرسال الإمدادات إليه، ولكن حثَّه على الاعتماد على قواه الذاتية.
- لقد تعرَّضت قوَّاته لارتدادات، ممَّا أدَّى إلى تراجع قوته القتالية، وأدَّى في المقابل إلى تضخُّم صفوف الجيش الأموي، فانقلب ميزان القوى لغير صالحه.
خاض محمد بن أبي بكرٍ رضي الله عنهما معركة المسنَّاة وهو في وضعٍ مزعزعٍ ممَّا أدَّى إلى انهزامه، ودافع عن نفسه حتى الموت. ويُبالغ أبو مخنف في روايته الملحمية حول نهايته: فقد وجد نفسه وحيدًا بعد المعركة، فلجأ إلى مكانٍ خَرِب حيث كشف أمره فلاحون، فأخذه معاوية بن حديج وأعدمه؛ خوفًا من أن يعفو عمرو بن العاص عنه، ثُمَّ أدخله في جيفة حمار وأحرقه[11]، والواضح أنَّ هذا التصرف القاسي والرهيب الذي يطال رجلًا مسلمًا -مهما كانت مواقفه السياسية- هو أمرٌ مستهجنٌ وبعيدٌ عن مبادئ الإسلام السمحة.

مرحلة المفاوضات

ظلَّ عليٌّ رضي الله عنه يأمل في استقطاب معاوية رضي الله عنه وتجنيب المسلمين مزيدًا من إراقة الدماء، وقدَّم نفسه منذ البداية على أنَّه طالب حق، فأرسل إليه رسولًا من الكوفة في شهر "رجب 36هـ/ يناير 657م"، هو جرير بن عبد الله البجلي، من فاتحي العراق الأوائل ورئيس قبيلة بجيلة، وأحد الأشراف الذين تعاون عثمان رضي الله عنه معهم، وأحد زعماء القبائل الذين تجنَّبوا الاشتراك في وقعة الجمل، واقتصرت مهمته على حمل معاوية رضي الله عنه على البيعة، ودعوته إلى الطاعة والجماعة[12].
يبدو أنَّ معاوية كان يُواجه آنذاك موقفًا حرجًا، فهو لم يكن مطمئنًا على الوضع في مصر، ويرغب في تحييدها أو الاستيلاء عليها، كما أنَّه كان يتعرَّض لضغطٍ بيزنطيٍّ متزايد، ولا بُدَّ له من تهيئة أهل الشام وتعبئتهم إلى جانبه، كما كان يُراقب تطوُّر موازين القوى في معسكر عليٍّ رضي الله عنه، وهو بانتظار وصول عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي استدعاه من فلسطين لمشاورته في الأمر؛ لذلك أجَّل ردَّه إلى ما بعد وقعة الجمل، وأمسك الرسول[13].
وجد معاوية في عمرو بن العاص سندًا قويًا، فأشركه في مشروعه ووعده بمنحه ولاية مصر مدى الحياة في حال انتصاره، وبأنَّه سوف يُساعده في تجاوز العقبات الداخلية والخارجية، ونصحه بتنظيم دعايةٍ في أوساط مقاتلة الشام وفلسطين ضدَّ عليٍّ رضي الله عنه، وتحميله مسئولية قتل عثمان رضي الله عنه وإيواء قتلته ثُمَّ يُقاتله بهم[14]، فاستدعى شرحبيل بن السمط الكندي، وهو من أشراف كندة، والرجل الأكثر تأثيرًا في بلاد الشام -قبليًّا- وفيما يتعدى الزعامة القبليَّة، وأقنعه بمسئولية عليٍّ رضي الله عنه عن تفجير الوضع، ودعاه إلى دعمه للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، فجال هذا في مختلف المدن الشامية يُروِّج لأفكاره، ونجح في استقطاب أهالي الشام باستثناء أهل حمص[15]، وكان ذلك كافيًا لدعم موقف معاوية ومطالبه، الأمر الذي سمح له بأن يُعيد رسول عليٍّ مزوَّدًا بشرطين:
الأول:
القصاص من قتله عثمان.
الثاني: الشورى لانتخاب خليفة جديد[16].

كان ذلك الردُّ بمثابة إعلان حرب. إِذَنْ هناك نقطتان أساسيَّتان تُشكِّلان مضمون الصراع من جانب معاوية رضي الله عنه: الأولى ذات صلة بمقتل عثمان رضي الله عنه، والثانية متعلِّقة بمسألة شرعيَّة السلطة[17]. وشدَّد على النقطة الأولى أمام مقاتلة الشام الأشدِّ تأثُّرًا بالدعوة للانتقام للخليفة المقتول، وهو يستند إلى كونه وليًّا له بسبب قرابته منه[18]، وأمام القرَّاء الأقل تحمُّسًا للسير معه، وعندما طلب منه هؤلاء تبرير موقفه أجابهم: "إذا كان عليٌّ لم يقتل عثمان فقد تواطأ على قتله، وحمى القتلة الذين يُشكِّلون محيطه ونواة أتباعه"[19]. وعلى هذا النحو ربط بين عنصري الصراع؛ فكرة المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه والدعوة إلى الشورى[20]، لكنَّه لم يتمكَّن من توجيه تهمةٍ مباشرةٍ لعليٍّ بالضلوع في القتل، الأمر الذي يُفسِّر اتهاماته المتدرِّجة له من التجريم المباشر إلى مجرَّد طلب تسليم الجناة[21]. وحاول استقطاب المؤيدين لفكرته فكتب إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه يدعوه إلى مساندته "فأعنَّا يرحمك الله على حقِّ هذا الخليفة المظلوم، فإنِّي لست أريد الإمارة عليك، ولكنِّي أريدها لك، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين"[22]. كما كتب إلى سعد بن أبي وقَّاص ودعاه إلى نصرته في معاقبة قتلة عثمان "...فإنَّا نردها شورى بين المسلمين"[23]. وأكَّد خلال اتصالاته مع عليٍّ على رؤيته لحلِّ النزاع "اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، يُولِّي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم"[24].
في المقابل دافع عليٌّ رضي الله عنه عن رأيه، فرأى أنَّه يُمسك بزمام السلطة الشرعية، وقد جرى انتخابه في المدينة مركز منح السلطة بالأغلبية الساحقة من المسلمين وبخاصَّةٍ المهاجرين والأنصار الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، كما أنَّ الشورى هى لهم، فإذا "اجتمعوا على رجلٍ فسموه إمامًا كان ذلك لله رضى، فإن خرج منهم خارجٌ ردُّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتِّباعه غير سبيل المؤمنين"[25]. وعليه واجب توحيد كلمة المسلمين، ولا علاقة لمعاوية رضي الله عنه بالمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه؛ لأنَّ أبناء القتيل أولى منه، وأنَّه ادَّعى ما ليس أهله، ونازع هذا الأمر من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق [26]، وعدَّه خارجًا. أمَّا القصاص من قتلة عثمان فهى قضيةٌ ثانوية، ولا يعدُّ نفسه متورِّطًا في هذا القتل، كما أنه لا يستطيع تسليم قتلته في هذه الظروف الحرجة التي يمرُّ بها المسلمون[27].

كرَّر عليٌّرضي الله عنه مطالبة معاوية رضي الله عنه العودة إلى حظيرة الجماعة الإسلامية والاعتراف به خليفة للمسلمين، ضمن كتابٍ أرسله إليه في شهر "رمضان 36هـ/ مارس 657م"، مع ضمرة بن يزيد وعمرو بن زرارة النخعي، لكنَّ معاوية رضي الله عنه لم يُبدِّل رأيه، وكرَّر تنفيذ شرطيه السابقين[28].


مرحلة التجهيز، والاستعداد

التعبئة البشرية في قوَّات علي رضي الله عنه

كان قتلة عثمان رضي الله عنه يتولُّون زمام الأمور في الكوفة، وقد ازداد عددهم كثيرًا بعد وقعة الجمل، ومارسوا مزيدًا من التأثير والضغط في سبيل الحرب، متخطِّين الانقسامات القبلية، وقد وظَّفوا نفوذهم بين قبائلهم من أجل تجييش المؤيدين والأتباع، والراجح أنَّه كان يربطهم اعتقادٌ راسخٌ بأنَّهم كانوا على حقٍّ حين قتلوا عثمان رضي الله عنه، وحين حاربوا أصحاب الجمل، وأنَّهم الآن على حقٍّ وهم يستعدون لمحاربة "ظلمة الشام"[29]، لكن ربما علينا أن نفرِّق بين فئتين منهم:
الفئة الأولى:

هم القادة القلائل وأتباعهم الذين يسيرون وراءهم، وقد تجمَّعوا حول عليٍّ وتبنُّوا قضيته، ودخلوا في لعبة السلطة الجديدة، وسوف يُساندونها بقوة، وسيُقاتلون في صفين من أجل شرعية عليٍّ رضي الله عنه، وبخاصَّةٍ أنَّه عيَّنهم ولاةً على الأمصار[30].
الواقع أنَّ الخليفة اهتمَّ باستقطابهم بعد ضعف المشاركة الكوفية إلى جانبه في وقعة الجمل، فكان بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى نفوذهم السياسيِّ بقدر ما كان بحاجةٍ إلى قدرتهم القتالية لكي يُؤمِّن قوةً ضاربة؛ إذ لم يكن قادرًا على فرض قيادةٍ شخصيةٍ ومباشرةٍ من جمهور الكوفيين، وبالتالي كان لا بُدَّ له من أن يمرَّ من خلال الأشراف[31]، وفعلًا فقد سانده هؤلاء من واقع:-
أنَّه الخليفة الشرعي.
- لقد كان في الكوفة اتجاهٌ عامٌّ لصالحه.
- لقد أدَّت الإقليمية دورًا مهمًّا في دفع العراقيين بعامَّةٍ إلى الوقوف خلفه؛ وذلك من خلال التنافس الإقليمي بين العراق والشام، بدليل قول معاوية لجنده وهو يُعبِّئهم لمعركة صفين: "... إنَّكم قد سرتم لتمنعوا الشام، وتأخذوا العراق ..."[32].

- إنَّ وجود الخليفة في الكوفة كان يفرض على الكوفيين الدفاع عنه وعن عاصمتهم أيضًا.
- إنَّ شخصية عليٍّ رضي الله عنه كانت تفرض الاحترام، وتستقطب الأتباع من خلال ماضيه الإسلامي، ومن حيث استقامته، وعدم تبديله النظام الاجتماعي القائم.
الفئة الثانية:
هم جماعة القرَّاء الذين شكَّلوا قوةً متماسكة، إنَّما ظلُّوا أقليَّةً في الكوفة والبصرة. إنَّهم نواة الخوارج، وقد ركَّزوا على قناعاتهم الخاصَّة بدافع ماضي عليٍّ رضي الله عنه، وتعالي القرآن فوق كلِّ سلطانٍ بشري، وإدانة ما قام به عثمان رضي الله عنه، والمطالبة بالتخلُّص منه والعداء للمزاعم القرشية في الوصاية على الإسلام. وقد توافقت مصلحتهم مع مصلحة عليٍّ رضي الله عنه ضدَّ الخصم المشترك، وبالتالي فإنَّ دعمهم له هو مصلحيٌّ بقدر ما كان عليٌّ رضي الله عنه يُشاطرهم آراءهم، وسوف يُقاتلون من أجل فكرتهم عن العدل والعدالة، لكنَّ الخلافات بين الطرفين سوف تُغيَّب الآن بفعل قرب الخطر والمعركة المشتركة، وحضور عليٍّ رضي الله عنه، وبحركة قادتهم النشطة، وستنفجر بعد القتال في صفين[33].
تلقَّى عليٌّ رضي الله عنه مساعدةً محدودةً من قبائل البصرة -النصف تقريبًا- ذلك بسبب مواقفها السابقة من أحداث الفتنة المتمثِّلة في تأييدهم لسياسة عثمان رضي الله عنه ومعارضتهم لقتله، ووقوفهم وراء أصحاب الجمل.
ساند المهاجرون والأنصار وذوو الأصل البدويِّ المقيمون في المدينة عليًّا؛ سبعون من أهل بدر، وسبعمائة ممَّن بايع تحت الشجرة، وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار[34].
إنَّهم نسبيًا قليلو العدد بالمقارنة مع الجماعتين الكبيرتين الكوفية والبصرية، ولكنَّهم كانوا مع ذلك يملكون قوةً معنويةً كبيرة بوصفهم كانوا صحابة وأبناء الصحابة وأنصار رسول الله الذين ذكرهم الله في كتابه، والمعروف أنَّه جرى تهميشهم على أيدي الخلفاء الثلاثة السابقين، فرفعهم عليٌّ بعد أن بنى شرعيَّته على إجماعهم، وبفعل أنه أراد أن يُمارس سياسةً إسلاميةً بعيدةً عن الشعور القبلي المحض[35].

هكذا نجح عليٌّ رضي الله عنه في تشكيل تجمُّعٍ من المقاتلين إلى جانبه، ويُعدُّ هذا انتصارًا بحدِّ ذاته، غير أنَّ التشكيل جاء غير متجانس وغير منسجم عقائديًّا وإقليميًّا وقبليًّا؛ إذ ضمَّ عناصر متباينة في الولاء والمفاهيم والتوجُّهات؛ فهناك المهاجرون والأنصار، وأشراف القبائل وأهل القادسية والأيام والروادف وجماعات القرَّاء، وهي عناصرٌ تتفاوت في درجة تقديرها لمصالحها، وفي نظرتها لقريش، ولسلطان المدينة، وفي تقييمها لأبعاد الصراع الذي تخوضه، بدليل أنَّها ظلَّت مثار شكوى عليٍّ رضي الله عنه منذ انطلاقه لمواجهة معاوية وحتى مقتله[36].

التعبئة البشرية في قوَّات معاوية

وقفت القوى في بلاد الشام بأجمعها وراء معاوية رضي الله عنه، وساندته بكلِّ قواها، ودعمته بشكلٍ مطلق، وذلك بدافع:-
الشعور البدائي بعصبية الدم.

- الكبرياء والكراهية.

- عدم القبول بسيطرة أهل العراق.
شكَّلت هذه القوى تجمُّعًا مؤتلفًا نسبيًّا، ووحدةً إقليميةً مماثلةً لوحدة الكوفة وحدها أو البصرة وحدها، لكنَّها كانت متباعدةً جغرافيًّا؛ فقد أقام القيسيون في الجزيرة حول قرقيسياء، واتخذت الجماعات اليمنية الكبرى مكانًا لها ومجالًا حول حمص، واستوطنت قضاعة -لا سيما لخم وجذام- ساحل فلسطين والأردن، مع امتدادٍ باتجاه الصحراء الشامية[37]، ومن محاسن هذا التبعثر أنَّه يستبعد الاحتكاكات القبلية ويسمح بتعايشٍ منسجم، لكنَّه بحاجةٍ إلى قوةٍ توحيديةٍ ومطاعة، وبخاصة أنَّ بلاد الشام كانت في وضعٍ حدوديٍّ ودفاعيٍّ دائم بسبب التهديد البيزنطي المستمر، لذلك كانت هذه القوى في حال جهوزيَّةٍ دائمة، ومدرَّبةٍ على القتال. من هنا كان الشعور بالحرص على الأرض والدِّفاع عنها، والاستقرار والولاء الشديد للسلطة[38].
كانت بلاد الشام مصونة من كلِّ أشكال الاعتداءات الخارجية في ظلِّ حكم معاوية رضي الله عنه، وآل الأمر بالشاميين إلى تكوين عالمٍ خاص، مُلْك قائم بذاته، وليس مستغربًا أن تتوافق خصوصيتهم مع قضية الخليفة المقتول، وأن تُعزِّز شعورًا قويًّا لصالح البيت الأموي، في ميله الانتقامي لقتلة عثمان رضي الله عنه وفي طموحه السياسي وفي رفضه القبول ببيعة عليٍّ رضي الله عنه، وكان ذلك يزداد بقدر ما كان يتراءى لهم أنَّ عليًّا أضحى رجل العراقيين[39].

المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] جعيط، هشام: الفتنة، ص186، وملحم: ص248.
[2] الطبري: 4/546، 56/105، 106.

[3] المصدر نفسه: 4/550.
[4] خربتا: قرية تقع غربي مصر، وهي قريبة من الإسكندرية. الحموي: 2/355.
[5] الطبري: 4/549، 550.

[6] جعيط، هشام: الفتنة، ص185.
[7] الطبري: 4/550، 551.
[8] المصدر نفسه: ص554.

[9] المصدر نفسه: ص552، 553.

[10] المصدر نفسه: ص553

[11] الطبري: 5/104، 105.

[12] ابن مزاحم، نصر: وقعة صفين، ص27، 28، وابن قتيبة: 1/79، 80، والطبري: 4/561.

[13] ابن مزاحم: ص55.

[14] الطبري: 4/558، 559.

[15] ابن مزاحم: ص50.

[16] المصدر نفسه: ص56.

[17] جعيط، هشام: الفتنة، ص188.
[18] ابن مزاحم: ص32، 132، والبلاذري: 3/66، 67، وابن قتيبة: 1/85، 86.
[19] ابن مزاحم: ص85-87.
[20] البلخي: 2/224.
[21] جعيط، هشام: الفتنة، ص190.

[22] ابن مزاحم: ص63، 64، 72، وابن قتيبة: 1/84.

[23] ابن قتيبة: المصدر نفسه: ص84، 85.

[24] المصدر نفسه: ص85، 86، والطبري: 5/7.
[25] ابن مزاحم: ص28-30، 58.
[26] ابن قتيبة: 1/80، والطبري: 4/574.
[27] جعيط، هشام: الفتنة، ص190.
[28] ابن مزاحم: ص80، والبلاذري: 3/78.
[29] جعيط، هشام: الفتنة، ص191.
[30] لقد عيَّن عليٌّ مالكًا بن الحارث الأشتر واليًا على الموصل ونصيبين، ويزيد بن قيس واليًا
على المدائن وجوخى. انظر: ابن مزاحم: ص116.
[31] جعيط، هشام: الفتنة، ص191، 192.
[32] ابن قتيبة: 1/87، وابن مزاحم: ص56، 78، 79، 168.
[33] جعيط، هشام: الفتنة، ص192.
[34] ابن مزاحم: ص92-94، وقارن بابن كثير: البداية والنهاية 7/253، 254،واليعقوبي: 2/88.
[35] جعيط، هشام: الفتنة، ص194.
[36] جعيط، هشام: الفتنة، ص195.
[37] ابن مزاحم: ص206، وجعيط، هشام: الفتنة، ص196.
[38] المرجع نفسه.[39] المرجع نفسه: ص197، 198.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 73.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 71.99 كيلو بايت... تم توفير 1.93 كيلو بايت...بمعدل (2.61%)]