فرسان غزوة مؤتة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-03-2020, 08:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي فرسان غزوة مؤتة

فرسان غزوة مؤتة
د. محمد عبدالمعطي محمد








ليس هذا عنواناً لإحدى الروايات السخيفة التي تصنع أبطالاً من ورق، وربما كان للورق الذي سُطِرت الخيالات عنهم فيه.. ربما كان له قيمةٌ تفوق القيم الزائفة التي صنعت لهم من أجل خلق أي نوع من أنواع البطولة ولو كان رخيصاً لا يمت للبطولة الحقة بأية صلة..







على أي مبدأ زائفٍ صنع هؤلاء أبطالهم الوهميين؟



على مبادئ القهر والغلبة بلا أخلاق، والحياة لِلامبدأ.. بل أرادوا تصدير هذه البطولة الموهومة لنا، وقد ساعدهم في ذلك جهلنا الإجرامي بأبطالنا الحقيقيين أو بالأحرى تجهيلنا.. عن طريق العبث بتاريخنا ورموزنا، أو شغلنا بسفيه الفكر وألاعيب السفهاء.. ولقد سدد خطاهم أناسٌ من جلدتنا ملأهم النفاق والخنوثة، وادعوا التنوير والتقدمية والتجديد حتى اقنعوا أجيالاً نشأت بعيدةً عن دينها وماضيها المجيد.. أقنعوهم بأن المستقبل الباسم في حضن هذا الغرب المجرم وطريقه المظلم.. ألا يعجب العالمون من أنهم جعلوا من (جيمس بوند) القاتل الماجن، وزيرِ النساء الفاسد، بطلا ينقذ العالم كل مرةٍ من الأشرار الذين يريدون السيطرة عليه، أو تدميره بفيروسٍ فتاكٍ، وقنبلةٍ كاسحةٍ مدمرةٍ.. إنه العجب العجاب وكلنا يعلم ما يصنعه الأمريكان والصهاينة والروس وأشباههم من قتل للنساء والأطفال، وتدمير للبلاد، وذل للعباد، وتجارب للفيروسات القاتلة، والأسلحة الإجرامية المحرمة على بني الإنسان.. ثم يهتفون لهؤلاء الأبطال المدمرين الذين ينشرون الحرية في أرجاء البلاد التي خربوها، وقتلوا أهلها!!







ولكننا نتحدث ههنا عن أبطال حقيقيين.. أبطال صنعتهم أخلاق الإسلام، وتربوا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم للرجولة؛ والتي شهد لها التاريخ ببناء أعظم، وأجمل، وأعدل حضارةٍ عرفها الزمان.. (ولا يستطيع دين من الأديان ومدنية من المدنيات تعيش في العالم المتمدن المعمور أن تدعي أنها لم تتأثر بالإسلام والمسلمين في قليل ولا كثير. يقول (Robert Briffault) في كتابه (The Making of Humanity): (ما من ناحية من نواحي تقدم أوربا إلا وللحضارة الإسلامية فيها فضل كبير وآثار حاسمة لها تأثير كبير).. ويقول في موضع آخر: (لم تكن العلوم الطبيعية (التي يرجع فيها الفضل إلى العرب) هي التي أعادت أوربا إلى الحياة ولكن الحضارة الإسلامية قد أثرت في حياة أوربا تأثيرات كبيرة ومتنوعة منذ أرسلت أشعتها الأولى إلى أوربا).







فلو جرت الأمور هكذا وتمتعت الأمم الإنسانية بقيادة الجماعة التي خُلقت بقيادتها وأعطيت القوس باريها، وجرت المياه إلى مجاريها، لكان للعالم الإنساني تاريخ غير التاريخ الذي نقرؤه حافلاً بالزلازل والنكبات ناطقاً بطول بلاء الإنسانية ومحنها، لكان له تاريخ مجيد جميل يغتبط به كل إنسان ويقر عيناً، ولكن جرت الأقدار بغير ذلك، وبدأ الانحطاط في المسلمين أنفسهم)[1].







بدأ الانحطاط حينما فقد المسلمون ذاكرتهم، ونسوا مكانهم في الأمم وصاروا التابع الذليل، والممالئ الحقير.. حينما تنكروا لجذورهم، وهدموا بأيديهم، وبجهلهم تراثهم، وعقارهم.. ولكن رسولنا علمنا ألا نلعن الظلام، بل نشقه بالنور شقاً.. لنقيم حضارة النور ونهدم صروح الظلام.. بقلوب تحمل عظمة الإسلام، واستبسال أبطاله الذين نشروا نوره من قبل في كل الربوع...







يحكي لنا الزمان (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بصرى (ليوصل رسالته بنور الإسلام إلى قيصر الروم)، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني - وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر - فأوثقه رباطاً، ثم قدمه، فضرب عنقه. (وهكذا يفعل أعداء النور.. لا شرف عندهم، ولا أخلاق، ولا رجولة ).. وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليه جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي، لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب [2]. (جهز جيشه صلى الله عليه وسلم ليقاتل مائتي ألف مقاتل من الفرنجة ونصارى العرب الذين مالئوهم - أو مائة وخمسين على رواية السهيلى– جهزهم ليشق النور طريقه عبر الظلام، ولو تكاثف الظلام وصار أمواجا بعضها فوق بعض.. فإن رجال محمدٍ بحَّارون مهرةٌ يعلمون جيداً كيف يديرون دفة التاريخ.. يقودون ركب الحضارة الإنسانية لبر الأمان).. فلقد كان الإسلام يسرى سريان النور، والشام لم يكن بعيدا عن البلاد العربية، بل كانت به قبائل من العرب، فالغساسنة منهم، وإذا كان الإسلام يسرى نوره فيعم الآفاق القربية، فقد كان من عرب الشام من دخل في الإسلام، أو كان من العرب من سافر إلى الشام. وأولئك المسلمون، وإن كانوا عدداً قليلاً ضاقت بهم صدور النصارى حرجاً، فقتل والى الشام من قبل الرومان من أسلم من عرب الشام، ولا بد أن يحمى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أولئك الذين يفتنون عن دينهم لتمنع الفتنة عنهم، ويقول في ذلك ابن تيمية في رسالة القتال: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما بعث إلى حرب الروم في مؤتة إلا بعد أن قتل الوالي الروماني من أسلم في الشام[3]... وكان لا بد أن يقف أمام هذا الغدر بقوة، ولو كانت مقابل قوة الرومان. وذلك لأنهم فتنوا المؤمنين، بقتل بعضهم فكان ذلك إرهابا لمن يهم بالدخول في الإسلام، ولأنهم قتلوا رسول النبي الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم في وقت قد صارت عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القوة الفاصلة العليا في البلاد العربية، فكان لا بد لذلك من أن يقاوم ذلك الغدر، لأن السكوت يكون ذلة لأهل الإيمان، وذلة للعرب أجمعين، وهم بصدد أن يقوموا بدعوة الحق وحماية الشعوب من طغاتها. [4]







بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش وأمَّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" - وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة. وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: "اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقطعوا نخلا ولا شجرة، ولا تهدموا بناء" [5]. (قلت: هذه هي قمة الخلق الإنساني الراقي حتى مع الغادرين في ساحة الحرب.. هذا هو الإسلام، وهذا سيف محمد صلى الله عليه وسلم كيف يضع مبادئ البطولة الحقة.. بطولة الرقي في أي ظرف، وتحت أية ذريعة.. فأين المتشدقون بالحرية والحضارة وهم يقتلون الأطفال بسلاحهم الفسفوري والنووي والفيروسي، ويشوهون حياتهم لمئات السنين، أين هم من عظمة فرسان الإسلام ومبادئه؟).. وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل معان، من أرض الشام، مما يلي الحجاز الشمالي، وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرِقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف. لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم، الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة - وهل يهجم جيش صغير، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب، على جيش كبير عرمرم، مثل البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون، وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا: (نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له ). ولكن (عبد الله بن رواحة) عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلا: (يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة). وأخيرا استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة[6].







(هكذا الرجال لا تهاب الموت، وإن الأمر برمته لهو عمليةٌ استشهاديةٌ بكل المقاييس.. فماذا يفعل الرجل الواحد بقليل تجهيزه وعتاده أمام ما يقارب السبعين من الرجال الأكثر عتاداً وتجهيزاً.. إن الشجاعة وبأي تقديرٍ في موقفٍ كهذا لتتبخر وتطير في الهواء.. ولكنه الإيمان الذي جعل (أنس بن النضر) رضى الله عنه يرى الناس يفرون وهو المقبل يعانق الموت.. يقول " إني لأشم ريح الجنة من وراء أحد".. لقد جاوزوا بيقينهم وصدقهم حدود الظروف، وكأنهم صاروا في عوالم من العبير الإيماني صنعتها بطولتهم، فهم في الحقيقة أقوى من الموت؛ لأنهم يصنعون منه حياةً لا تنتهي أبداً...) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْتُ مُؤْتَةَ فَلَمَّا دَنَا مِنَّا الْمُشْرِكُونَ رَأَيْنَا مَا لَا قِبَلَ لأحدٍ بِهِ مِنَ الْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، فَبَرِق بصري، فقال لي (ثابت بن أرِقم): يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَأَنَّكَ تَرَى جُمُوعًا كَثِيرَةً؟ قلت نعم! قال إنك لم تشهد بدراً معنا، إِنَّا لَمْ نُنْصَرْ بِالْكَثْرَةِ.. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ [7].. هذا هو المبدأ.. فحين يكون الرجل منا بمليون لا يكون للكثرة حساب ولا للعدة وزن.. وهاهنا ندرك كيف صنع الإسلام رجاله، وأعدهم لشق المستحيل بسيوف الحق...







ألهم صلى الله عليه وسلم، أن حملة الراية سيكونون المقصودين، فرتب الولاية بينهم فجعلها لزيد بن حارثة لقوة إيمانه، وليعلم أنه لا شرف إلا بالإيمان والعمل الصالح، ثم تكون لجعفر بن أبى طالب الذي هاجر مرتين، لكى يعلم الناس أنه لا يضن بأهله عن مواطن الردى، ثم لعبد الله بن رواحة شاعر الإسلام وفارسه وبطله من الذين آووا ونصروا رضى الله عنهم أجمعين.. وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل. معركةٌ عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب. (فلمّا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم الجموع من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء، يقال لها "مشارف" ودنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها "مؤتة" والتقى الناس، واقتتلوا.







وقاتل زيد بن حارثة - رضي الله عنه - براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى استشهد، وقد أخذت الرماح منه كلّ مأخذ، ثمّ أخذها جعفر فقاتل بها، حتّى إذا أرهقه القتال، اقتحم عن فرسه فعقرها، ثم قاتل، فقطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره، فقطعت يساره، فاحتضن الراية بعضديه حتّى قتل، وله ثلاث وثلاثون سنة، ووجد المسلمون ما بين صدره ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة، ما بين ضربة بالسّيف، وطعنة بالرمح كلّها في الأمام، فقد كان هذا البطل العظيم مقبلاً معانقاً للموت لا يهابه، روى البخاري عن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره. يعني ظهره. وفي رواية أخرى قال ابن عمر: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية. وفي رواية العمري عن نافع زيادة "فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده".







ومات فتى الفتيان وهو يحنّ إلى الجنّة، ويتغنّى بنعمائها، ويستهين بالعدوّ وعَدده وعُدده، وبزخارف الدنيا. وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. ولما قتل جعفر بعد القتال بمثل هذه الضراوة والبسالة أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد حتى حاد حيدة، ثم قال:






أقسمت يا نفس لتنزلنهْ




كارهة أو لتطاوعنهْ




إن أجلب الناس وشدوا الرنهْ




مالي أراك تكرهين الجنهْ؟











ونزل عن فرسه، وأتاه ابن عمّ له، بعظم عليه بعض لحم، وقال: شدّ بهذا صلبك، فإنّك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذ بيده وأخذ منه بفمه يسيرا، ثمّ ألقاه من يده، وأخذ سيفه فتقدّم وقاتل حتى قتل. وحينئذ تقدم رجل من بني عجلان- اسمه ثابت بن أرِقم- فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالا مريرا، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية. وفي لفظ آخر: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية. وقد استدل ابن كثير بهذه الرواية على انتصار المسلمين في المعركة فانكسار الأسياف في يد خالد رضي الله عنه توحي بكثرة القتلى والجرحى في صفوف العدو.. واستدل كذلك برواية البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف الموقف بعد تولى خالد القيادة بالفتح.. وبذلك رد ابن كثير قول ابن اسحق بأن المسلمين فقط نجحوا بالانحياز والخروج غير مغلوبين.. وقد وافق ابن كثير من أهل المغازي موسى بن عقبة والواقدي والبيهقي والزهري في بحث وافٍ في البداية فراجعه [8].. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم مؤتة - مخبراً بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال -: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم. ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين كان مستغربا جدا أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أمام تيارات ذلك البحر الغَطَمطم من جيوش الروم، ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه.







واختلفت الروايات كثيرا فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيرا. ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال، وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية، تلقي الرعب في قلوب الرومان؛ حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة، فقد كان يعرف جيدا أن الإفلات من براثنهم صعب جدا لو انكشف المسلمون، وقام الرومان بالمطاردة.







فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقة، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد- بعد أن تراءى الجيشان، وتناوشا ساعة- يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظنا منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء. وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين، ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة [9]. (انتهت هذه الغزوة بنجاة الجيش الإسلامي من أن يقع فريسة لجيش الكفر، المتكاثف، وحسب ذلك نصرا مبينا، وإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أدرك قبلها نتيجة المعركة، فإنه عندما علم أن خالدا تولى القيادة، وحمل الراية قال: تولى الراية سيف من سيوف الله يفتح الله تعالى عليه، وما كانت لتسمى النتيجة فتحاً لو كانت النهاية أن يرضى الجيش من الغنيمة بالإياب. ولقد قال بعض كتاب السيرة أن النتيجة كانت السلامة، ولم تكن نصرا. ولكنا نقول أنها كانت نصرا لأسباب:



منها: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سماها فتحا، وسمى الذين عادوا إلى المدينة المنورة كرارا. ومنها: أن المسلمين ساقوا غنائم ولم يؤخذ منهم شيء.







ومنها: أن قتلى المؤمنين كانوا اثني عشر، وقتلاهم لا تحصى عددا، فقتلى المسلمين كانوا أقل عددا، وفيها كان النصر المؤزر، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله تعالى هي العليا.







ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير في تاريخه[10]: "هذا عظيم جدا، أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين أحدهما وهو القلة التي تقاتل، في سبيل الله وعدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة، وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن النصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر، وقد قتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: لقد اندقت في يدي تسعة أسياف وما بقيت في يدي إلا صفحة يمانية، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها.







دع غيره من الأبطال الشجعان من حملة القرآن الكريم وقد تحكموا في عبدة الصلبان، عليهم لعنة الرحمن ذلك الزمان وفى كل أوان، وهذا مما يدخل في قول الله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]. وإننا نرى أن هذا يشبه ما قرره الله تعالى من أن عشرين صابرين يغلبوا مائتين، وأن مائة صابرة تغلب ألفا، وأنه عند قوة الإيمان وقوة الصبر يكون المؤمن الصابر يغلب مائة. وقد كان ثلاثة آلاف قد غلبوا مائتي ألف، وصدق قول الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنفال: 65] هذا هو الحق ). ا.هـ. إن غزوة مؤتة أول غزوة تخرج عن دائرة الجزيرة العربية إلى دائرة أراض تحت سلطان الرومان، فإذا كانت النتائج تكون على هذه الشاكلة، فإن النصر سيكون لجيش الحق بإذن الله تعالى، وقد كان، فكانت اليرموك وما بعدها في عهد الراشدين، فكانوا يفرون كما تفر الشاة أمام الأسود. وإذا كانت بدر أول انتصار في الأرض العربية، فمؤتة أول انتصار مؤزر خارج الجزيرة العربية، وهو ابتداء ليس له انتهاء أو مبتدأ له خبر[11].







هؤلاء هم الفرسان الثلاثة.. أو الأربعة.. (هؤلاء زيد، وجعفر، وابن رواحة استشهدوا ثلاثتهم في سبيل الله في موقعة واحدة. وقال فيهم صلى الله عليه وسلم: لقد رفعوا إلي الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير صاحبيه؛ فسأل: لم هذا؟ فقيل: مضيا، وتردّد عبد الله بعض التردد ثم مضى. أترى إلى هذه العبرة والموعظة الحسنة! فإنما معناها أن المؤمن لا يجوز له أن يتردد أو يخاف الموت في سبيل الله؛ بل يجب عليه، كلما مضى في أمر يؤمن بأنه لله، أن يحمل حياته على كفّه، وأن يلقى بها في وجه من يقف في سبيله؛ فإما فاز وظفر فبلغ ما يؤمن به من حق الله والوطن، وإمّا استشهد فكان المثل الحيّ لمن بعده والذكر الباقي لروح عظيم عرف أن قيمة الحياة ما يضحّى بالحياة في سبيله، وأن الإمساك على الحياة في مذلة إهدار للحياة، فما يستحق صاحبها بعد ذلك في الحياة ذكرا؛ وأن الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو عرّض حياته تعريضا تذهب معه ضحيةَ غرضٍ وضيعٍ، وأنه كذلك يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو أمسك على حياته حين يدعوه داعي الحق جلّ شأنه ليقذف بها في وجه الباطل ليسحقه، فيواريها هو بالحجاب ويخاف عليها الموت خوفا هو شرّ من الموت. وإذا كان التردّد القليل من ابن رواحة مع إقدامه بعد ذلك واستشهاده، قد جعله في غير مكانة زيد وجعفر اللذين اقتحما صفوف الموت اقتحاما وطارا للاستشهاد فرحا، فما بالك بالذي ينكص على عقبيه طمعا في جاهٍ أو مالٍ أو غرض من أغراض الحياة! إنه إذا للحشرة الحقيرة وإن عرض عند السواد جاهه، وإن بزّ مال قارون ماله. وهل لنفس إنسانية أن تغتبط حقّا لشيء اغتباطها للتضحية في جانب ما تؤمن بأنه الحقّ، حتى تنتهي من ذلك إلى الاستشهاد في سبيل الحق، أو إلى تمليك الحق الحياة [12]!







إن أهم ما يثير الدهشة، في هذه الغزوة، تلك النسبة الكبيرة من الفرِق بين عدد المسلمين فيها وعدد مقاتليهم من الروم والمشركين العرب!..... ومكان الدهشة في الأمر، أن تجد المسلمين بعد هذا كله- وهم سرية ليس فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم- مقبلين غير مدبرين، لا يقيمون لكل هذه الحشود الهائلة أمامهم وزنا، مع أنها- فيما يبدو ويظهر- لو التفّت من حولهم وطوقتهم من جهاتهم، لانقلبوا إلى ما يشبه نواة صغيرة في جوف قطعة أرض سوداء!.. ثم إن مكان الدهشة بعد ذلك، أن يصمد المسلمون لقتال هذا اليمّ المتلاطم. يقتل أميرهم الأول، ثم الثاني، فالثالث، وهم يقتحمون أبواب الشهادة في نشوة بالغة وإقبال عجيب، حتى يدخل الرعب الإلهي في أفئدة كثير من المشركين، دون أن يكون له سبب ظاهر، فينكشفون عن مواقعهم ويدبر منهم الكثير، وتقتل منهم خلائق لا تكاد تحصى!.. ولكن الدهشة كلها تزول، والعجب ينتهي، إذا تذكرنا ما يفعله الإيمان بالله، والاعتماد عليه، واليقين بوعده... فالمسلمون- كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه- لا يقاتلون بعدد ولا قوة، ولا كثرة، وإنما يقاتلون بهذا الدين الذي أكرمهم الله به[13]..







إنه ما نتحدث عنه مراراً وتكراراً من صناعة الرجال في مدرسة الإيمان؛ ثم تركهم يصوغون معاني البطولة على أرِقى ما يكون في دفاتر التاريخ، وعرصات الحياة.. لم يكن معهم محمد صلى الله عليه وسلم سوى بالقلب والدعاء والفخر الذي يملأ روحه وهو يراهم يسطرون في جبين الدهر أسماءهم.. لم يكن معهم ولكن نجحت تربيته فيهم لأقصى الحدود.. ولا أدل على ذلك من فخر الله سبحانه وتعالى ومباهاته بهم في أشرف كتبه يقول ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ (29 من سورة الفتح).. ولعل ختام سورة الفتح بهذه الآية يرسم التفاؤل في قلوب أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ويبشرهم بالنصر والفتح والتمكين من رب العالمين.. وإنها المرة الوحيدة التي تنعي فيها السماء رجالا تسميهم من أهل الأرض.. وما ذلك إلا لأن إيمانهم ويقينهم وبطولاتهم قد حازت رضا الله سبحانه.. فشهدت لهم السماء قبل شهادة الأرض.. لقد أبلغ الوحى ببطولاتهم، واستشهادهم، ومنازلهم في جنة رب العالمين، فأي منقبةٍ بعد ذلك؟!هل علمت الآن أن مجرد ذكر الفوارس والفروسية في غير الإسلام سفهٌ وجهلٌ وخنوثةٌ.. فما بالنا بمن يفرضهم في الثقافة والأدب والإعلام على أنهم؛ ولا غيرهم؟!













[1] ( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ) لأبى الحسن الندوي ص118، مكتبة الإيمان / المنصورة .




[2] الرحيق المختوم للمباركفوري دار العصماء / دمشق، 1/ 326.




[3] خاتم النبيين، لمحمد أبي زهرة دار الفكر العربي / مصر، 3/ 846.




[4] المصدر السابق 3/ 846.




[5] الرحيق المختوم 1/ 327.




[6] المرجع السابق 1/ 328.




[7] كذلك فى البداية والنهاية لابن كثير 4/ 278 ط. دار إحياء التراث العربي.




[8] راجع البداية والنهاية 4/ 283 دار إحياء التراث. وراجع كذا هناك (فَصْلٌ فِي فَضْلِ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ زَيْدٍ وَجَعْفَرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) 4/ 290.





[9] السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي - دار ابن كثير / دمشق 1/ 438. والرحيق المختوم 1/ 329، 330، 331. بتصرف وزيادة .




[10] راجع البادية 4/ 295 دار إحياء التراث.




[11] خاتم النبيين، 3/ 851.




[12] حياة محمد صلى الله عليه وسلم لمحمد حسين هيكل الهيئة العامة للكتاب / مصر، ص257.




[13] فقه السيرة للبوطي دار الفكر / دمشق 1/ 261.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 67.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 65.63 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]