إدراك الواقع وحسن إنزال النص في فقه الأقليات - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 173 - عددالزوار : 60011 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 803 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          خطورة الإشاعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          من الخذلان الجهل بالأعداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الجالية المسلمة - Muslim non-arabic

ملتقى الجالية المسلمة - Muslim non-arabic قسم يهتم بتوعية الجالية المسلمة وتثقيفهم علمياً ودعوياً مما يساعدهم في دعوة غير المسلمين الى الاسلام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-07-2020, 04:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,607
الدولة : Egypt
افتراضي إدراك الواقع وحسن إنزال النص في فقه الأقليات

إدراك الواقع وحسن إنزال النص في فقه الأقليات
د. وائل عبدالمتعال شهاب نجم


يجب على الخطاب الفقهي للأقليات المسلمة - خاصة - حسن إدراك الواقع، وحسن إنزال النص أو الدليل المناسب على الواقع المناسب؛ فواقع الأقليات المسلمة اليوم يختلف في الكثير من جوانبه عن واقع الأكثرية المسلمة التي تعيش في بلاد المسلمين كمصر والسعودية، وقد اشترط فقهاؤنا الأجلاء - بالإضافة إلى الرسوخ في علوم الشريعة واللغة العربية - العلم بالواقع ليتمكن المفتي والفقيه من الفتوى والحكم بالحق، وفي هذا يقول ابن القيم (ت 751 هـ) في إعلام الموقعين:
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله.

ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله[1].

من ثم فالخطاب الفقهي للأقليات المسلمة يجب أن يدرك الواقع الخاص والمعقَّد للجاليات المسلمة؛ ليتمكن من إنزال حكم الله الصحيح عليه، ويجب عليه كذلك أن يحسن إدراك موجبات تغير الفتوى في العصر الحاضر؛ فقد قرر علماؤنا السابقون أن الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان والحال والعرف - وأضاف د.القرضاوي ستة موجبات أخرى تتغير بها الفتوى في العصر الحاضر، وهي تغير المعلومات، وتغير حاجات الناس، وتغير قدراتهم وإمكاناتهم، وعموم البلوى، وتغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتغير الرأي والفكر،[2] فلا يجوز للخطاب الفقهي الجمود على الإرث القديم من اجتهادات وفتاوى فقهاء الأمة في العصور السابقة، بل عليه الإفادة من هذا الإرث الفقهي الحضاري ودراسته دراسة منهجية، ثم الانطلاق منه ليتعامل مع قضايا العصر الحاضر ونوازله على بصيرة بما يقتضيه الواقع وما يتطلبه التغير في الزمان والحال والحاجات وغيرها، فيجمع بذلك بين الأصالة والمعاصرة في نسق متزن معتدل، لا يغرق في الماضي، ولا يغفُلُ عن الحاضر ومتطلباته.

وأود أن أشير هنا - على سبيل المثال - إلى قضية هامة يسأل عنها الكثيرون من أبناء الأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا، وهي حكم شراء مسكن بنظام التقسيط (mortgage) عن طريق البنك الربوي نظرًا لضرورة تملك المسلم لمسكن له ولأسرته بدلًا من السكن بمنزل مستأجر والاستمرار في تحمل نفقات الإيجار والذي يحرمه من الكثير من الميزات، ولا ينتهي به بتملك المسكن، ففي هذه الحالة يجب على من يتصدى للخطاب الفقهي والفتوى أن يدرك الواقع الذي يعيشه أبناء الجاليات المسلمة بأوروبا وأمريكا والمضار التي تصيبهم من جراء استئجار المسكن على الدوام، كما عليه أن يدرك تغير حاجات الناس، وأن المسكن بأوروبا وأمريكا يعد من الضروريات، وليس من قبيل الحاجيات أو التحسينيات، وقد أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قراره التالي بهذا الشأن مراعيًا هذه الحيثيات:
حكم شراء المنازل بقرض بنكي ربوي للمسلمين في غير بلاد الإسلام:
نظر المجلس في القضية التي عمت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها، وهي قضية المنازل التي تشترى بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية.

وقد قدمت إلى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض، قرئت على المجلس، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة، انتهى بعدها المجلس بأغلبية أعضائه إلى ما يلي:
1 - يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمة من حرمة الربا، وأنه من السبع الموبقات، ومن الكبائر التي تؤذِن بحرب من الله ورسوله، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الربا الحرام.

2 - يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية، التي لا شبهة فيها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشئ مثل هذه البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين، وغير ذلك.

3 - كما يدعو التجمعات الإسلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية، لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعًا، مثل (بيع التقسيط) الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل، فإن هذا سيجلب لهم عددًا كبيرًا من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية، وقد رأينا عددًا من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعًا لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية، كما في البحرين وغيرها.

ويمكن للمجلس أن يساعد في ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك، لتعديل سلوكها مع المسلمين.

4 - وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسرًا في الوقت الحاضر، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية، لا يرى بأسًا من اللجوء إلى هذه الوسيلة، وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة، وقد اعتمد المجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين:
المرتكز الأول: قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات): وهي قاعدة متفق عليها، مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 119]، ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر محرمات الأطعمة: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145]، ومما قرره الفقهاء هنا أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة.

والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج، وإن كان يستطيع أن يعيش، بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن؛ كما في قوله تعالى في سورة الحج: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وفي سورة المائدة: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6].

والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه، بحيث يكون سكنًا حقًّا.

وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، فإنه لم ينسَ القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، فلم يجز تملك البيوت للتجارة ونحوها.

والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ﴾ [النحل: 80]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم السكن الواسع عنصرًا من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة، والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم، ولا يشعره بالأمان، وإن كان يكلف المسلم كثيرًا بما يدفعه لغير المسلم، ويظل سنوات وسنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجرًا واحدًا، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه، كما أنه إذا كبرت سنه أو قل دخله أو انقطع يصبح عرضة لأن يرمى به في الطريق.

وتملُّك المسكن يكفي المسلم هذا الهم، كما أنه يمكنه أن يختار المسكن قريبًا من المسجد والمركز الإسلامي، والمدرسة الإسلامية، ويهيئ فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها؛ عسى أن تنشئ لها مجتمعًا إسلاميًّا صغيرًا داخل المجتمع الكبير، فيتعارف فيه أبناؤهم، وتقوى روابطهم، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام.

كما أن هذا يمكن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية، ما دام مملوكًا له.

وهناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم: الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلًا للانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم، ليقوموا بواجب الدعوة، ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يقتضي ألا يظل المسلم يكد وينصب طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه، أو نشر دعوته.

المرتكز الثاني: هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني - وهو المفتى به في المذهب الحنفي - وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وهو رواية عن أحمد، ورجحها ابن تيمية، فيما ذكره بعض الحنابلة من جواز التعامل بالربا - وغيره من العقود الفاسدة - بين المسلمين وغيرهم في دار الحرب، ولهم في ذلك أدلة ذكرها الإمام الطحاوي وغيره، لا يتسع المقام لذكرها.

والمراد بدار الحرب عند الحنفية ما ليس بدار إسلام؛ فالتقسيم عندهم ثنائي، وليس ثلاثيًّا، فيدخل فيها ما يسمى عند غيرهم دار عهد، أو دار أمان؛ ولهذا نفضل التعبير عن هذا المعنى بقولنا: التعامل خارج دار الإسلام.

ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا عدة اعتبارات، منها:
1 - أن المسلم غير مكلف شرعًا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع، وفلسفة الدولة، واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي.

وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فردًا، مثل أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور، ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها، لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة، ما وجد إلى ذلك سبيلًا.

2 - أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة - ومنها عقد الربا - في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سببًا لضعفه اقتصاديًّا، وخسارته ماليًّا، والمفروض أن الإسلام يقوي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضره، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من الكافر بحديث: "الإسلام يزيد ولا ينقص"[3]؛ أي: يزيد المسلم ولا ينقصه، ومثله حديث: "الإسلام يعلو ولا يعلى"[4]، وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم، سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه، ولا يأخذ مقابله، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم، ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغُرم دائمًا، وليس له الغُنْم، وبهذا يظل المسلم أبدًا مظلومًا ماليًّا، بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يقصد أبدًا إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به، وأن يتركه - في غير دار الإسلام - لغير المسلم، يمتصه ويستفيد منه، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة، والمعترف بها عندهم.

وما يقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء؛ لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء، وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلا بشرطين:
الأول: أن يكون فيها منفعة للمسلم، والثاني: ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم، والجواب: أن هذا غير مسلَّم، مما يدل على ذلك قول محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير، وإطلاق المتقدمين من علماء المذاهب، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد؛ إذ به يتملك المنزل في النهاية.

وقد أكد المسلمون الذين يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة: أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك، بل أحيانًا تكون أقل، ومعنى هذا أننا إذا حرمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك، حرمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبر الفقهاء، وربما يظل عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر، يدفع إيجارًا شهريًّا أو سنويًّا، ولا يملك شيئًا، على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة - وربما أقل - أن يملك البيت.

فلو لم يكن هذا التعامل جائزًا على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه، لكان جائزًا عند الجميع للحاجة التي تنزل أحيانًا منزلة الضرورة، في إباحة المحظور بها.

ومن المعلوم أن أكل الربا المحرم لا يجوز بحال، أما إيكاله - بمعنى إعطاء الفائدة - فيجوز للحاجة، وقد نص على ذلك الفقهاء، وأجازوا الاستقراض بالربا للحاجة إذا سدت في وجهه أبواب الحلال.

ومن القواعد الشهيرة هنا: أن ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة، والله الموفق[5].

وعلى الخطاب الفقهي للأقليات أن يحيط علمًا بالثقافات المتنوعة - بل والمتباينة - لأبناء الجالية المسلمة، وقد لمست ذلك عن قرب في زياراتي للجاليات المسلمة بأمريكا وأوروبا؛ فالفتوى قد تتغير نظرًا للاختلاف والتنوع في الثقافات، وأذكر هنا أن أحد الأصدقاء أخبرني أنه تلقى سؤالًا من إحدى المسلمات عن حكم الخَلوة والخروج مع "خطيبها"؟ فلما استفسر عما تقصده بخطيبها، أخبرته أن "الخاطب" في ثقافتهم هو "العاقد"؛ أي: الشاب الذي عقد على فتاة ولكن لم يدخل بها بعد، من ثم فالإجابة هنا مختلفة تمامًا عنها للمجتمعات التي تعني بالخِطبة مجرد الوعد بالزواج، كما هو منتشر في كثير من البلاد الإسلامية، ورحم الله الإمام الشافعي (150 هـ - 204 هـ) الذي عد المعرفة باختلاف أهل الأمصار من شروط الإفتاء، حيث قال:
لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله؛ بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشِّعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي[6].

ولا يخفى أن الخطاب الفقهي الذي يخطئ فهم أعراف المجتمعات وثقافاتهم لا يتمكن من إنزال حكم الله الصحيح في كثير من القضايا والنوازل، خاصةً فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية والمعاملات المالية، وما أروع ما قاله ابن القيم في إعلامه حين قال:
لا يجوز له (أي للمفتي) أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرْف أهلها والمتكلمين بها، فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ذلك ضلَّ وأضل.

فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية دراهم، وعند طائفة اسم لاثني عشر درهما، والدرهم عند غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش، فإذا أقر له بدراهم أو حلف ليعطينه إياها أو أصدقها امرأة لم يجُزْ للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة، فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة لم يجُزْ له أن يلزم المستحق بالمغشوشة.

وكذلك في ألفاظ الطلاق والعتاق، فلو جرى عُرف أهل بلد أو طائفة في استعمالهم لفظ الحرية في العفة دون العتق، فإذا قال أحدهم عن مملوكه: إنه حر، أو جاريته: إنها حرة، وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها، لم يعتق بذلك قطعًا، وإن كان اللفظ صريحًا عند من أَلِفَ استعماله في العتق، وكذلك إذا جرى عرف طائفة في الطلاق بلفظ التسميح بحيث لا يعرفون لهذا المعنى غيره، فإذا قالت: اسمح لي، فقال: سمحت لك، فهذا صريحٌ في الطلاق عندهم.

وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل، فيغر الناس، ويكذب على الله ورسوله، ويغيِّر دينه، ويحرِّم ما لم يحرمه الله، ويوجب ما لم يوجبه الله، والله المستعان[7].


[1] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج 1، ص، ص 95 - 96.

[2] انظر ابن قيم الجوزية، المصدر السابق، ج 3، ص 2، والصفحات التي تليها، القرضاوي، موجبات تغير الفتوى، ص، ص 10 - 11.

[3] أخرجه أبو داود، رقم 2912.

[4] أخرجه الروياني في "مسنده"، رقم 783، والبيهقي، 6/ 205، وصححه ابن حجر في "الفتح"، 9/ 421.

[5] قرارات وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ص - ص 146 - 153.

[6] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج 1، ص 47.

[7] المصدر السابق، ج 4، ص، ص 249 - 250.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 70.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 68.66 كيلو بايت... تم توفير 1.93 كيلو بايت...بمعدل (2.73%)]