|
|
من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
أغنية الحرية (قصة رمزية)
أغنية الحرية (قصة رمزية) ربيع شملال بن حسين هبَّت ريحٌ باردة، تراقصَت لها أوراق الشجرة العظيمة، وتقلَّصَت وأفرزَت رطوبة. فخاطبَ الجزءُ الترابيُّ[1] الجزءَ الهوائيَّ[2] منها مجامِلًا: • أراكَ تتألَّم أيها المسكين، لطالما تمنَّيتُ لو أقتسم معك بعضَ متاعبك. وكان يظنُّ أنه سيردُّ على المجاملة بمجاملة، ولكن الجزء الهوائي امتعض كأنما سمع هُجرًا، ثم تكلَّم بصعوبة مُظهِرًا علوًّا وكبرًا: • لا يُؤلمني شيءٌ مما تظن، لا يؤلمني إلَّا قبضتُك التي قبضتَ بها على جذعي، فصفدتَ بها حريَّتي. فتعجَّب الجزء الترابيُّ من هذا الهجوم المباغت، وتساءل: • كيف تتَّهمني وقد خُلقنا لبعضنا البعض؟ نحن شيء واحد. الجزء الهوائي: لا.. لا.. لا يمكن أن نكون شيئًا واحدًا فلا تُمَنِّي نفسَك الأماني الكاذبة، نحن مختلفان اختلافًا شديدًا، كيف يكون الأخضر والأسود شيئًا واحدًا؟ أو كيف يمكن لمن همَّته في نزولٍ أن يرافِقَ مَن همَّته في صعود؟ الجزء الترابيُّ: ولكن رغم ذلك نبقى شيئًا واحِدًا، كل المخلوقات تَعلم ذلك، حتى الأطفال. الجزء الهوائي: هَه.. إذا كنتَ تدَّعي ذلك فاطلب من الأطفال أيها الجزء المدفونُ أن يرسموا شجرةً، وابحث عن نفسك في الرَّسمة، فلن تجدَ غير الجزء الهوائي؛ وذلك أنا، أنا الشجرة، وأنت طفيليٌّ معتدٍ. الجزء الترابي: لا أكادُ أصدِّق ما أسمع، أشك أنَّ مخلوقًا ما من المخلوقات الشريرة يتكلَّم على لسانك، أووووه.. عذرًا، ماذا أقول؟ أقول،،،لا أظنُّ إلا خطبًا ما حلَّ بك. الجزء الهوائي: قلتُ لك: لا خطب إلا أنت، تدفِن نفسَك في الأرض، وتختارُ أبشع الألوان، وتفضِّلُ الستر وترفض النُّورَ، وفوق ذلك كله تقبض على جذعي، فلا تَتركني أنطلق حرًّا كما تفعل جلُّ المخلوقات. لم يطِق الجزء الترابيُّ سماعَ هذا الاتهام القاسي، فغيَّر من لهجته وقال: • نعم أنتِ الشجرة، ولكنَّكِ من غير أخلاق، اسمعي أيَّتها الشجرة المغرورة، لقد أقحمتِ نفسَكِ مُقحَمًا لا تُطيقينه، ودخلتِ حربًا لستِ أهلًا لها، وأدرتِ ظهرَك لحليفٍ قديم، والمؤلم في كلِّ ذلك أنَّكِ تعلمين أنِّي مأواكِ ووطنُك، وتدركين جيدًا أنَّ خضرتَك من سوادي، وجمالَك من قبحي، وحريتَكِ من قيدي، ولو استبدلتِ موضعي بموضعك ليومٍ واحد لعلمتِ كم أقاسي لتستمتعي! ضحك الجزء الهوائيُّ ضحكةً ساخرة وقال: •أتُسمِّي هذا الذي أعيشه استمتاعًا، وأنتَ ترى أنِّي مربوطُ الذَّات والإرادة لا أستطيع السَّفر ولا الركض ولا التحليق؟! غُرَّ بكلامك غيري، أمَّا أنا فهمَّتي في التجوُّل، وعيني على الحرية، ولأنالنَّها يومًا ما وإن تسبَّب ذلك في قتلك، وإنِّي أبوح إذ أبوح بما سمعتَ وأعتبره تحدِّيًا لك. الجزء الترابي: آه! الآن فهمتُ، أنتَ أيضًا سمعتَ أغنية الحرية التي راجت سوقُها عند كثير من المخلوقات، فردَّدتَ معهم دون أن تفهم معناها ولا مغزاها. الجزء الهوائي: هَه.. ما أسفهك وما أغباك! ولكن لن ألومك، لأنَّك لا تعرف عن الحرية شيئًا، وأنَّى لك ذلك وأنتَ مدفونٌ في رقعتك لم ترَ كيف تعيش المخلوقات المتنوِّرة هناك حرَّةً بلا قيود ولا حدود! ثم تحسَّر وقال: • ولكنِّي سمعتُ وشاهدتُ؛ لذلك جننتُ بحبِّها، ولن يهدأ لي بالٌ حتى أنالها. الجزء الترابي: لا أراك إلا تعرَّضتَ لاغتصابٍ فكريٍّ، واختراقٍ معرفيٍّ، وغزوٍ ثقافي، ألم يحدِّثك عارِفٌ ممن يدرك كُنْه الحرية أنها أنواع عديدة، وأشكال مختلفة، وأنَّ ما قد يكون حرِّية لِكائنٍ قد يكون قيدًا لآخر. الجزء الهوائي: الحريَّة ليست علمًا حتى تضبطها بمقاس.. الحريَّة إحساس... الحريَّة إيمان بالذَّات.. الحرية انطلاقٌ، آه.. هل أنال حريَّتي يومًا ما يا تُرى؟ ومتى يكون ذلك؟ متى؟! الجزء الترابي:لو كانت أمنيتُك معقولة ومشروعة لفهمتُ وقدَّرتُ طموحك، ولكني أرى مثَلَك كمثل تلك القرية التي كانت آمنةً مطمئنَّة يأتيها رزقها رغدًا من كلِّ مكانٍ، فكفرَت بأنعُم ربِّها، فأذاقها الله لباسَ الجوع والخوف، وكان مصيرها ما تَعلمين. الجزء الهوائي: تقولُ: أمنيتي غير معقولة ولا مشروعة؟ الجزء الترابيُّ: نعم، أمنيتك ضد حريَّتك لو تبصر، حريتنا أيها الجزء العلويُّ في قيدنا، حريتكَ أن تكون معي، وحريتي أن أغوص في الأرض بحثًا عن الحياة، إوص في الأرض، هذا قدَري وقدرُك، ولا عيب في ذلك مطلقًا، فارضَ بذلك تحصل على حريتك وسعادتك. الجزء الهوائي: دعنا من خُطَبِك الرنَّانة، ودعنا نكن أكثرَ فاعليَّةً، هيا ننفصل. كان الجزء الترابي قد وصل إلى حالةٍ خطيرة من الإحباط، فهزَّ رأسه متحسِّرًا ولم يتكلَّم، وأكمل الجزءُ الهوائي تحدِّيَه: • تريد الصدق، والله وبالله وتالله لو أعثر على نِصف فرصةٍ لتخلَّيتُ عنك وانطلقتُ أعيش حريتي. وقبل أن يُكمل جملتَه الأخيرة - فجأة - تغيَّر الجوُّ، وهبَّت ريحٌ عاتية، فاستبشر الجزء الهوائي، ورأى أنها فرصتُه، فاستشرف وتراخى، وكان عونًا على نفسه، ولم تجد الريحُ صعوبة فكسرَته من أسفل الجذع، وفصلَته عن الجزء الترابي. ••••• اليوم.. بعد مرور شهور على الحادثة، يَحكي لك المكانُ الذي حدثَت فيه قصَّتين: الأولى عن الجزء الهوائي الذي دبَّ فيه دبيبُ الموت حتى سلبَه لونَه وماءه وروحَه؛ فهو خشبة صمَّاء تعوث فيها السُّوس. والثَّانية عن الجزء الترابي الذي أخرج برعمًا جديدًا، وأمدَّه بالرعاية والدَّعم حتى صار شجرة جميلة. [1] يُقصد به: الجذور. [2] يُقصد به: الجذع والأغصان والأوراق.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |