الإصلاح بين الناس - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 171 - عددالزوار : 59781 )           »          شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 162 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 112 - عددالزوار : 28257 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 795 )           »          طرق تساعد على تنمية ذكاء الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          السلفيون ومراعاة المصالح والمفاسد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 686 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 100 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 16036 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 65 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 03-08-2020, 03:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي الإصلاح بين الناس

الإصلاح بين الناس


أحمد عماري





مرة أخرى مع أخلاق هذا الدين العظيم، فأعظم أزمة أصيبت بها البشرية اليوم أزمة الأخلاق. وحديثنا اليوم عن خلق عظيم جليل، به تنتشر المودة والمحبة، وتحفظ الوحدة والألفة بين الناس، وتزول الأحقاد والضغائن من النفوس، وتصفوا القلوب من كل كراهية وبغضاء. وتزول كل أسباب العداوة والخصومة والنزاع...

إنه الصلح، والإصلاح بين الناس.
وما أحوج الأمة اليوم إلى هذه الخصلة الحميدة، وإلى هذا الخلق العظيم، في زمن كثرت فيه الصراعات والنزاعات، والهجر والقطيعة، فلم يسلم منها الأقارب فيما بينهم، ولا الجار مع جاره، ولا الأصدقاء، ولا الشركاء.

والصّلح: تصالح القوم بينهم. والإصلاح: نقيض الإفساد.
وإصلاح ذات البين: إزالة أسباب الخصام والنزاع، بالتّسامح والعفو، أو بالتّراضي.

فمِن أخلاق الإسلام، وصنائع المعروف: الصلحُ بين الناس إذا تقاطعوا، والصلح بين الناس إذا تهاجروا، وقطع أسباب الضغائن والشحناء، وقطع أسباب الفتن والبغضاء، فإنها من أعظم الأمور المقربة إلى الله جل وعلا.

تحذير الأمّة من الهَجْر والقطيعة:
عباد الله: الاختلاف من سجايا البشر، والتنازع من عاداتهم؛ وذلك لاختلاف أخلاقهم وطباعهم؛ ولتنافسهم في حظوظ الدنيا من المال والشرف وغيرهما ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هود: 118، 119].

وأكثر الناس يغضبون لأجل الدنيا ولا يغضبون للدّين، تنتهك حرمات الله تعالى فلا يتحرك قلب أحدهم، ولكنه يغضب أشد الغضب إذا انتُقِصَ شيء من دنياه، أو اعتُدِي على كرامته، ولأجل ذلك تكثر الخصومة فيما بينهم، بل قد تكون الخصومة على أمور حقيرة، وأسباب تافهة، ولكن الشيطان ينفخ فيها حتى تعظم في نفوس المتخاصمين. وقديما اشتعلت حرب البسوس بين بَكر وتغلب فدامت أربعين سنة أكلت القبيلتين من أجل ناقة عُقِرت!! واشتعلت حرب داحسَ والغبراء في خيل سُبقت!! وليس ثمن الناقة أو الخيل أغلى من ثمن الرجال والقبائل حتى تُسَعَّر الحروب في سبيلها، ولكنه الشيطان الذي يُشعل الفتن الكبيرة من مستصْغَر شرَرها، فإن قضي على أسبابها في بادئها وإلا نفخ الشيطان في نارها حتى تُفنى قبائل فيها، وكم من قتيل ذهبت روحه في خصومة بدأت صغيرة فكبرت حتى فقدته أسرته؟! وكم من رحم قُطِعت سنوات طويلة بسبب كلام قيل في فلان أو نقل عنه؟! وكم من إخوان تهاجروا في وشاية سرت بينهم؟!

والخصومة قد تقع بين زعماء الدول حتى تصل إلى حروب يكتوي بنارها شعوب لا ذنب لها، وقد تقع الخصومة بين طائفتين من المسلمين: قبيلتين أو أسرتين أو جماعتين أو حزبين، فَتُفَرِّق أفرادَهما الخصومةُ وقد جمعهم الإسلام، وقد يوالون أعداء الله تعالى من الكفار والمنافقين في سبيل النيل من خصومهم وهم مسلمون مثلهم، وقد وقع ذلك كثيرا في القديم والحديث، ويعظم الإثم إن قطعت أرحامٌ بسبب ذلك، فإن نتج عن الخصومة اقتتال فالأمر أشد؛ لأنه عَوْدٌ إلى أمر الجاهلية التي أنقذنا الله تعالى منها بالإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للناس في حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) متفق عليه.

إن التنازع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدّد للثروات: ﴿ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46].

الخصومة والنزاع من سعي الشيطان وكيدِه؛ فهمّه أن يزرع الأحقاد والضغائن في النفوس، وأن ينشر الخلافات والنزاعات بين الناس، ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ». أي أنه يسعَى فِي التَّحْرِيش والتحريض بَيْن المؤمنين بِالْخُصُومَاتِ وَالشَّحْنَاء وَالْحُرُوب وَالْفِتَن، بعد أن أيس أن يعبدوه ويطيعوه.

فأين المتهاجرون الذين يرفضون كل مبادرة للصلح من أهل الخير والصلاح، ويردّون كل الأطراف؛ حتى من أصحاب العلم والفضل وكبار السن. يُسوّل الشيطان لبعض المتهاجرين أن الصلح هزيمة ومذلة، وهو للآخَر انتصار وعِزة، ونسِيَ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما زاد الله عبداً بعفو إلا عِزاً ». وقول ربه سبحانه: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40] فاحرص على الأجر يرحمك الله.

وفي الصحيحين عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ ».

وأخرج الطبراني في معجمه عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ، إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ مِنْهُ بكرامته».

وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا » أي أخروا وأمهلوا هذين عن نيل المغفرة حتى يصطلحا. قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: يدل هذا الحديث على أن الذنوب إذا كانت بين العباد، فسامح بعضهم بعضاً، سقطت المطالبة بها من قِبَل الله عزَّ وجلَّ.

وأخرجَ الإمام أحمدُ وأبو داودَ والحاكم عَنْ أَبِى خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ ».

فكيف بالمتهاجرين سنوات؟ وربما يفرقهم الموت وهم متهاجرون. فكيف الجواب عمّا حرم الله يوم العرض على الله.

فيا أهل الإيمان ويا أهل القرآن: هل يُعقل أن نرى أباً وابنه، أو أخاً وأخاه، متهاجرين عشرات السنين؟ لولا أن الأعين تراه والواقع يحكيه لما صدّقناه وقبلناه، يتحاكمون إلى القضاء الشهور والسنين، على أمور تافِهة وحقيرة من متاع الدنيا الزائل، فتذهَب أُخوّة الدّين ولُحْمة الرّحم والنسب، فتصغي الآذان لكلام نساء وأطفال وأهل وشاية، ثم يُشعِلها الشيطان فتكون حطاماً وناراً. ومَن المستفيد؟ إنه الشيطان وحزب الشيطان. فأين العقول وطهارة القلوب وسلامة الصدور؟ أين الإيمان، وأين القرآن؟..
أيهجر مسلم فينا أخاه
سنيناً لا يمد له يمينه

أيهجره لأجل حطام دنيا
أيهجره على نتف لعينه

ألا أين السماحة والتآخي
وأين عرى أُخوتنا المتينه

بنينا بالمحبة ما بنينا
وما باع امرؤ بالهجر دينه

علام نسدّ أبواب التآخي
ونسكن قاع أحقاد دفينه


الإسلام يدعو إلى إصلاح ذات البين:
إن الإسلام جاء بإصلاح ذات البين، وأوصَدَ الطرقَ المؤدية إلى فسادها، وأمر المسلمين بالإصلاح بين المتخاصمين، كما حث المتخاصمين على قبول أيِّ مبادرة للصلح وفض النزاع والشقاق، وإنهاء القطيعة.

أمر الله تعالى بالإصلاح بين الناس فقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10] وقال سبحانه: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].

وإن الأمة في كثير من مواقعها تحتاج إلى إصلاح يُدْخِل الرّضا على المتخاصمين، ويُعيد الوئام إلى المتنازعين، إصلاح تسكن به النفوس، وتتآلف به القلوب، إصلاح يقوم به أناس خيرون، شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نُبل الطباع وكرم السجايا.

فئات من ذوي الشهامة من الرجال أو النساء، أصحاب مقامات علية من القوم، مصلحون ذوو خبرة وعقل، وإيمان وصبر، يحضرون الناس في أحوالهم ومعاملاتهم، حُذّاق في معالجة أدوائهم، وهمهم جمع الشمل والسعي فيما يرضي الطرفين.

أيها الأحبة: إن سبيل الإصلاح عزيمة راشدة، ونية خيرة، وإرادة مصلحة، وإن بَريدَ الإصلاح حكمةُ المنهج، وجميلُ الصبر، وطِيبُ الثناء. إنه عمل جليل يقوم به لبيب تقي، يَسرّه أن يَسود الوئام بين الناس: ﴿ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ [النساء: 129].

الإصلاح بين الناس رأبٌ للصدع، ولمّ للشعث، وإصلاح للمجتمع كله. ثوابه عظيم لمن ابتغى به وجه الله عز وجل. وإن الموفق إذا رأى بين اثنين عداوة وتباعدا سعى بينهما في إزالة العداوة والتباعد حتى يكونا صديقين متقاربين.

أيها الإخوة: إن الكريم لا يحقد ولا يحسد، ولا يبغي ولا يفجر، إن بلغه عن أخيه ما يكره التمس له عذراً، لعلمه أن الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويدفع الأحقاد، ويزيل الصدود.

فعلى كل واحد من المتهاجِرَيْن أن يضع حدّا لهجْرِ أخيه، ولْيبادرْ إلى مُصالحة أخيه، ولسانُ حاله:
فيم التقاطع والإيمان يجمعنا
قمْ نغسل القلب مما فيه من وَضرِ

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].

منزلة الصلح ومكانته:
أيها الإخوة المؤمنون: مرة أخرى مع الصّلح والإصلاح بين الناس؛ فتعالوا بنا لنتعرف أكثر على فضل الصلح والإصلاح بين الناس، لعل أناسا ممن أراد الله بهم الخير يسعون في الصلح والإصلاح بين الناس.

الصلح: إخوتي الكرام: خُلق عظيم؛ فضله عظيم، وأجره كبير، وخيره كثير. إنه عنوان الإيمان والأخوّة، ومصدر الطمأنينة والهدوء، ومبعث الاستقرار والأمن، ويَنبوع الألفة والمحبة. وصدق ربي إذ يقول: ﴿ والصلح خير ﴾ [النساء: 128].

الصلح خير، خير من النزاع والخصام، خير من الهجر والفراق، خير من القِصاص والانتقام.

فهنيئا لمن أجرى الله الخير على يديه، فجعله سببا للمّ شمل قد تفرق، وإنهاء فُرْقة دامت لسنوات:
أخرج ابن ماجة في سننه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيِهِ». حديث حسن.

وأخرج أحمد والترمذي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ» فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ المَوْتِ»: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

ويقول ربنا سبحانه: ﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [النساء: 114].

﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ ﴾ [النساء: 114] أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما أنه لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما أنه شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ﴿ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ﴾ أي إلا أن تكون هذه النجوى وهذا الكلام أمرا بصدقة من مال أو علم أو أي نفع كان. ﴿ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾ وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه. ﴿ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ وهو عقد الصلح بين متنازعين متخاصمين متهاجريْن؛ سواء بين الأفراد أو الجماعات. ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾.

الاشتغال بالصلح بين المتخاصمين أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات؛ لما في الإصلاح بين الناس من النفع العام الذي يكون سببا في وَصل أرحام قطِعت، وزيارة إخوان هُجِروا، ونظافة القلوب مما علق بها من أدران الحقد والكراهية، وذلك ما يؤدي إلى متانة المجتمع وقوته بتآلف أفراده وتماسكهم، فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن حبان عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُوا: «بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ، لَا أقُولُ إنَّها تحلِقُ الشَّعَرَ، ولَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ».

نعم؛ إن فسادَ ذات البين تحلق الدين؛ تقضي عليه وتُذهِب بأجره وثوابه؛ لأن النزاع والعناد قد يؤديان إلى الفجور والعدوان، والكذب والافتراء، والغدر وإفشاء الأسرار، وتلك علامات من علامات النفاق ـ نعوذ بالله من النفاق ـ ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». أَيْ مَال عَنْ الْحَقّ، وَقَالَ الْبَاطِل وَالْكَذِب.

فساد ذات البين تحلق الدين، لأن صاحبه قد يأتي يوم القيامة مُفلسا إذا تمادى في ظلمه وعُدوانه ولم يتب إلى ربه سبحانه. ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ»؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ». نعوذ بالله من الإفلاس ومن النار.

أما المؤمن الحق فهو على العكس من ذلك؛ لا يحمل الغِلّ ولا الحقد ولا البغضاء، لسلامة صدره من ذلك، قلبُه أبيض ناصع، لا يبيت وفي قلبه على مسلم شيء، ولا يخرج عن العدل وقول الحق قدر أنملة، منصفٌ فيما يقول ويُدْلي به، سواء كان الخصم غائبًا أو حاضرًا، يخشى الله في سِرّه وعَلنه، لا يَهمه أمر البشر؛ لأن إيمانه وخوفه من الله يَردَعه عن الوقوع فيما حرّم الله، فهو ينتصب للدفاع عن نفسه ودفع الظلم عنه بالكلمة الصادقة والقول الحق العدل السديد.

الإصلاح بين الناس صدقة من الصدقات:
فمن الصدقات التي ينبَغِي أنْ يتقرَّب بها المؤمن كلَّ يوم إلى ربه، شكرًا له على أنْ عافاه في بدنه: الصلحُ بين المسلمين. ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، ـ أي على كل مِفصل من مفاصل الإنسان صدقة يؤديها العبد شكراً لله تعالى على نعمة الصحة والعافية ـ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ الاثنين صَدَقَةٌ ـ أي تصلح بينهما بالعدل ـ وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ».

الإصلاح بين الناس تجارة مع الله عز وجل:
ومَن ذا الذي يأبى التجارة مع الله، إلا محروم غافل. فقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي أيوب رضي الله عنه: «ألا أدلك على تجارة؟» قال: بلى يا رسول الله. قال: «تسعى في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا». أخرجه البزّار في مسنده. وهو في صحيح الترغيب والترهيب.

الإصلاح بين الناس من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم:
فلقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم السعيُ في الإصلاح بين الناس، وكان يَعرض الصلح على المتخاصمين، كما أنه باشر الصلح بنفسه في مواطن عديدة، وحث صحابته على ذلك. فقد أخرج البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ» فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يذهبوا معه للإصلاح بينهم.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب في الإصلاح ولو بعدت المسافة وفاته شيءٌ من الجماعة لأجل الإصلاح بين الناس، ففي صحيح البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حُبِسَ، وَقَدْ حَانَتِ الصَّلاَةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ... الحديث.

وكذلك كان السلف رحمهم الله حريصين على هذا الخير ساعين فيه.
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي من يُوَليه ويقول: (رُدُّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يُحْدث بين القوم الضغائن). أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق.

وأخرج ابن أبي شيبة عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ: أَنَّهُ رُبَّمَا أَتَاهُ الْقَوْمُ يَخْتَصِمُونَ إلَيْهِ فِي الشَّيْءِ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَاصْطَلِحُوا.

ويقول الأوزاعي رحمه الله: (ما خُطوة أحبّ إلى الله عز وجل مِن خُطوة في إصلاح ذات البين).

عباد الله: ذلكم شيءٌ من فضل الصلح، وتلكم جوانبُ مما ورد في الحث عليه، واهتمام الإسلام به، وتكريم أهله، فأي نفسٍ بعد ذلك تأباه وتعرض عنه؟ أي نفسٍ ترفضه ولا تسعى فيه؟...

ولو أننا راجعنا الوقائع وتصفحنا الحوادث لوجدنا أن كثيرا من المشاكل الاجتماعية ترجع في جملتها إلى إهمال الصلح بين الناس، فما اشتدّت الفتن ولا اشتعلت الحروب، ولا أريقت الدماء، ولا أزهقت النفوس، ولا بُدِّدت الأموال، ولا قطِعت الأرحام، ولا خُرّبت البيوت، ولا قوّضت الأسر، ولا شُرّد الأطفال، ولا مُزقت الجماعات إلا لأن الناس قد أهملوا الصلح بين المتخاصِمِين والتوفيق بينهم، وتركوا الشرّ ينتشر حتى عمّ القريب والغريب، وقضى على الأخضر واليابس، وأهلك النفوس والأموال.

وهذه النتائج السيئة والعواقب الوخيمة هي التي نظر إليها هذا الدّين العظيم عندما أمرنا بالإصلاح بين الناس، فقال ربنا سبحانه: ﴿ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1].

صور من الصلح والإصلاح بين الناس:
أيُّها المسلمونَ: مرة أخرى مع الصلح والإصلاح بين الناس؛ وحديثنا اليوم عن صور من الصلح تحتاج إليها الأمة، للقضاء على ظاهرة الهجر والقطيعة التي مزقت صف الأمة، وانتشرت بشكل رهيب بين مختلف مكوناتها من أفراد وجماعات.

إخوتي الكرام؛ إنَّ اللهَ تعالَى قَدْ خلقَ الخلْقَ وجعلَ كُلَّ إنسان بحاجةٍ إلى غيرِهِ، لا يستطيعُ أنْ يعيشَ وحدَهُ، ولا أنْ ينفرِدَ بأمرِهِ، وإنَّما هوَ يأْنَسُ بإخوانه، ويَسكُنُ بوجودِهم، ويحتاجُ إليهم، سواء أكانوا من الأقارب أمْ من الأباعد، مِنَ الرجالِ أمِ النساءِ، كما قالَ تعالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]. وقال في شأنِ الزوجينِ: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾[الروم: 21].

وقدْ جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ عَلاقةً خاصةً بينَ المؤمنينَ، ورابطةً ساميةً بينَ المسلمينَ، فالمؤمنُ أخو المؤمنِ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، و"المسلمُ أخو المسلمِ" فلا رابطةَ أعلَى مِنْ رابطةِ الإيمانِ، ولا وَشيجَةَ أقْوَى مِنْ وشيجَةِ الإسلامِ.

ولهذا كانَت لهذهِ الأُخوَّةِ حقوقٌ عظيمةٌ، وواجباتٌ كريمةٌ، بَينَّهَا لنا ربُّنا سبحانَه وتعالَى في كتابِهِ الكريمِ، ووضَّحَها لنا رسولُه الأمينُ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتَمُّ التَّسْليمِ في سُنَّتِه، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات:11، 12].

فهل يعقل بعد هذه الأوامر الربانية؛ أن يستمر التنازع والتخاصم، أن ينتشر التحاسد والتنابز والتباغض؛ أن يستمر التدابر والهجر والقطيعة بين أبناء الأسرة الواحدة، أو بين أبناء المجتمع الواحد، أو بين أبناء الأمة الواحدة؟.. ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد نهى أمته عن ذلك كله؛ فقد أخرجَ مسلمٌ في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ».

فأين نحن مِن أخلاق الإسلام السامية، ومبادئه الغالية، فلقد أقضّت مضاجعَ القضاة القضايا، وامتلأت كثيرٌ من السجون بالبلايا، ناهيك بما في مراكز الشرطة وأسرّة المشافي من المآسي نتيجة كثرة النزاعات والخصومات...

ألا ينبري خيّرون بمساعي حميدة هنا وهناك، ليطفئوا نار الفتن، وينزعوا فتيل اللهب؟!
إن ميدان الصلح واسع عريض، وصُوَرُه كثيرة ومتعدّدة، تحتاجه الأمة أفرادا وجماعات، في البيوت والأسر، في الإدارات والمؤسسات، بين الأزواج، وبين الأقارب والجيران، وبين الأصدقاء والشركاء، في الأموال والدماء، والنزاع والخصومات..

من صور الصلح بين الناس:
الصلح بين المسلمين المتقاتلين:
من أعظم الصلح: الصلح بين المسلمين المتقاتلين المتصارعين، حقنا للدماء، وصيانة للأنفس والأموال والأعراض. فإن إراقة الدماء بين المسلمين مِن أعظم الكبائر، ومما يفرق الصفوف أشد تفريق، ولذلك قال ربنا سبحانه: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].

فدماء المسلمين غالية، لا تقدر بثمن، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ». أخرجه الترمذي والنسائي وصححه الألباني.

فمَن سعى في حقن دماء المسلمين بالصلح بينهم فقد حاز المجد والشرف، كما حازه الحسن بن علي رضي الله عنهما حين صالح معاويةَ رضي الله عنه، وتنازل عن الخلافة له، فأصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وأخمد الله تعالى نار الفتنة على يديه، فتحقق له ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مناقبه؛ كما جاء في صحيح البخاري أن أَبَا بَكْرَةَ رضي الله عنه قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ، وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ».

فضّ الخصومة بين المتنازعين في دَيْن أو إرث أو وصية أو غير ذلك.
فكثيرا ما يكون النزاع والخصام على المال، فيحتاج المتنازعون إلى من يتدخل باقتراح الحل الوسط الذي يفضّ النزاع ويرضي الطرفين.

فإن كانت الخصومة بسبب إرث سعى المصلح في قسمته وفق شرع الله تعالى، كما هو مبين ومفصل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وإن كانت الخصومة بسبب وصية جَوْر رفع المصلحُ الظلمَ وصحح الخطأ؛ ﴿ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 182]. يقول القرطبي رحمه الله: " إِنْ خِفْتُمْ مِنْ مُوصٍ مَيْلًا فِي الْوَصِيَّةِ وَعُدُولًا عَنِ الْحَقِّ وَوُقُوعًا فِي إِثْمٍ وَلَمْ يُخْرِجْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوصِيَ بِالْمَالِ إِلَى زَوْجِ ابْنَتِهِ أَوْ لِوَلَدِ ابْنَتِهِ لِيَنْصَرِفَ الْمَالُ إِلَى ابْنَتِهِ، أَوْ إِلَى ابْنِ ابْنِهِ وَالْغَرَضُ أَنْ يَنْصَرِفَ الْمَالُ إِلَى ابْنِهِ، أَوْ أَوْصَى لِبَعِيدٍ وَتَرَكَ الْقَرِيبَ، فَبَادِرُوا إِلَى السَّعْيِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ سَقَطَ الْإِثْمُ عَنِ الْمُصْلِحِ. وَالْإِصْلَاحُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا قام أحدهم به سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل".

وإن كانت الخصومة بسبب دَيْن، تدخّل المصلح واقترح على الخصمين تأجيل الدّيْن أو تقسيطه أو وضعه. فقد روى البخاري ومسلم عن عَبْد اللهِ بْن كَعْبٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ فِي بَيْتٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، فَقَالَ: «يَا كَعْبُ»، فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه. فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ. فَقَالَ كَعْب: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أي للمَدين ـ: «قُمْ فَاقْضِه».

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03-08-2020, 03:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإصلاح بين الناس

الصلح بين الأقارب إذا تهاجروا:
أيها المسلمون: من أشد أنواع الخصومة ضررا وإثما ما يكون بين القرابة، فتقطع بسببه الأرحام، ويتهاجر الإخوان والأعمام والأخوال، وربما مكثوا سنواتٍ عديدة على حال لا ترضي الله عز وجل ولا ترضيهم وهم يؤمنون بالله تعالى، ويعلمون عظيم حق الرّحم عليهم، ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ».

ويقول ربنا سبحانه: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22، 23].

ولكنه الشيطان الذي يوهم كل واحد من الخصمين أن كرامته تقتضي الإصرار على رأيه، والبقاء على قطيعته لرحمه، وهِجرانه لقريبه، وهذه نقطة الضعف التي يتسلل الشيطان منها إلى قلوب المتخاصمين.

الصلح بين الزوجين:
عباد الله! ومن أعظم أنواع الصلح: الصلح بين الزوجين المتخاصمين، الإصلاحُ بين الزوجين المختلفين؛ لأن الإصلاح بين الزوجين تبنى عليه البيوت، وتترابط به الأسر التي هي أسُسُ المجتمعات البشرية، كما أن فساد ما بين الزوجين يترتب عليه فساد البيوت وتفكك الأسر وتشتتها..

اعْلَموا - عِبادَ اللهِ - أنَّ مِنْ أهم ما يسعى إليه الشيطان، وأشدِّ ما يَسُرّه ويعجبه: أنْ يُفَرِّقَ بيْنَ المرْءِ وزوجِهِ؛ حيث يبعث جنودَه ينتشرون للفتنة بين الناس، ويكون أقربهم وأحبَهم إليه من سعى بالتحريش بين المرء وزوجه حتى يقع الطلاق والفراق بين الزوجين.

ففي صحيحِ مسلمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: «فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا» فَيَقُولُ: «مَا صَنَعْتَ شَيْئًا». قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: «مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ». قَالَ: «فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ». قَالَ الْأَعْمَشُ: «أُرَاهُ قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ». فهل ترضى لنفسك يا عبد الله أن تدخِل السرور والفرح على عدوّك وعدوّ البشرية جمعاء؟ أن ترضي الشيطان، وتغضب الرحمان؟..

لِذا أمر الله تعالى بالصّلح بين الزوجين وحَثّ عليه، فقال سبحانه: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128].

قالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً ﴾ [النساء: 128] قالت: [هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه -كبراً أو غيره- فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت، قالت: ولا بأس إذا تراضيا]. ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ خيرٌ من الشقاق، وخيرٌ من الفراق، وخيرٌ من تفكك الأسر وتشرّد الأبناء.

فإن الأسَر تقوم على المحبة والألفة وتدوم بدوامها، فإذا انتهت المحبة والألفة وحل الشقاق، صار الفراق، ولابد للمصلحين من القيام بواجبهم تجاه الأسر المتفككة بالسعي في الإصلاح بين الأزواج، ولا ينبغي ترك الخصومة بين الزوجين لتشتد حتى يكون الطلاق نتيجتها، ويكون الأولاد ضحيتها. ولئلا تبلغ الخصومة بين الزوجين هذا المبلغ فإن الشارع الحكيم شرع الصلح بين الزوجين، وأمر بتحكيم حَكميْن من أهلهما للقضاء على الخصومة، وإزالة أسباب التوتر والشقاق، والحفاظ على استقرار الأسْرة، وسلامة الأولاد، فقال ربنا سبحانه: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾ [النساء: 35].

فإذا كانت النية طيبة جاءت النتيجة طيبة: ﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 35].

فماذا يفعل الحَكمان؟ يقوم كل واحدٍ منهما بالتقاء وكيله أو مندوبه الذي انتدبه، أو طرفِه الذي ينوب عنه، فيسمع منه سبب الشقاق والخلاف، ثم يجتمع الحكمان لتشخيص الداء والبحث له عن دواء، بالسعي في تقريب وجهات النظر، بنصح صاحب الخطأ ووعظه، باقتراح الحل الوسط الذي يرضي كلا الطرفين... كلّ ذلك حفاظا على البيت الزوجية، ولمّا لشمل الأسرة.

فعلى الحَكم من أهل الزوج أن يُذَكِّرَ الزوج بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الوصية بالزوجة: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وقول ربنا سبحانه ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].

وكذلك ينبغي للحَكَم مِن أهل الزوجة أن يُكلم الزوجة بمعاني الإسلام، ويذكّرها بأحكامه المتعلقة بالزوجة في علاقتها بزوجها، وأن يذكرها بعظيم حق الزوج عليها، وأن من حسن معاشرتها له بالمعروف أن تُسْمعه الكلمة الطيبة اللينة، وأن تسارع إلى طاعته فيما أوجبه الشرع عليها من طاعته. روى النسائي في سننه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْوَدُودُ، الْوَلُودُ، الْعَؤُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا آذَتْ أَوْ أُوذِيَتْ، جَاءَتْ حَتَّى تَأْخُذَ بيَدِ زَوْجِهَا، ثُمَّ تَقُولُ: وَاللهِ لَا أَذُوقُ غُمْضًا حَتَّى تَرْضَى».

فتذكير الطرفين بحق كل واحدٍ منهما على الآخر وبالمعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، مما يجعل أمرهما ليناً سهلاً، والصلح بينهما قريبا ووشيكاً.

إخوتي الكرام؛ تلكم إذن أهمّ صور الصلح التي ينبغي لكل مُصلح غيور على أمته ومجتمعه أن يسعى جاهدا في العمل لتحقيقها، والانخراط في كل مشروع إصلاحي يروم جمع الشمل وتوحيد الكلمة ونشر المودة وإزالة الشحناء.

فقه الإصلاح بين الناس:
عباد الله:
وبعد أن تحدثنا في الجمَع الماضية عن فصل الصلح ومكانته، وعن بعض صوره؛ تعالوا بنا لنتحدث اليوم عن فقهه ومسالكه.

فلكي يثمر الصلحُ نتيجته المرجوّة لا بدّ من معرفة فقهه ومسالكه؛ فللإصلاح فقه ومسالك، دلت عليها نصوص الشرع، وسار عليها المصلحون المخلصون الناجحون، ومن ذلك:
الإخلاص في الإصلاح بين الناس.
فمِن فِقه الإصلاح صلاح النية، وسلامة القصد، وابتغاء مرضاة الله، وتجنب الأهواء الشخصية، والمنافع الذاتية. فإذا تحقق الإخلاص حلّ التوفيق بإذن الله، وجرى التوافق، وأنزل الله الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.

أما مَن قصد بإصلاحه الترؤس والرياء، وارتفاع الذكر والاستعلاء، فبعيد أن ينال ثواب الآخرة، وحري ألاَّ يحالف التوفيق مسعاه: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [النساء:11].

فالإصلاح بين الناس مَهمة عظيمة، وواجب ديني مقدس، لا يقوم به إلا أولئك الذين شرفت نفوسهم، وصفت أرواحهم، وتضاعف إيمانهم، وكمل يقينهم، أذواقهم سليمة، وطباعهم مستقيمة، وضمائرهم حية، وشعورهم نبيل، يكرهون الشر، ويمقتون الخلاف عند غيرهم من الطوائف، ويسعون لإبطال عمل الشيطان، ويجدّون في إحباط كيد الخائنين، ويعملون على إطفاء الفتن، وإزالة الشرور، وحقن الدماء، وصيانة الأنفس، وحفظ الأموال، وتأليف القلوب، فهم كالماء الذي يُطفِئ النار قبل أن يَستفحِل شرّها، أو كالنور الذي يُبدّد الظلام قبل أن يَعُمّ.

النجوى في الإصلاح.
من فقه الإصلاح: سلوك مسلك السر والنجوى، فإذا كان كثير من النجوى مذموماً، فإنه يكون محمودا عندما يكون من أجل أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، كما ربنا سبحانه: ﴿ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء:11].

ولعلَّ فشل كثير من مساعي الصلح ولجانه بسبب فُشُوّ الأحاديث، ونشْر الأخبار، وتشويشات الفهوم، مما يفسد الأمور المضرَمة، والاتفاقيات الخيّرة. والمفروضُ في المُصلِح أن يحافظ على سمعة الطرفين المتنازعين، لا أن يفضحهما وينشر أسرارهما.
تعمَّدني بنصحك في انفرادي
وجنبني النصيحة في الجماعة

فإن النصح بين الناس نوع
من التوبيخ لا أرضى استماعه

وإن خالفتني وعصيت قولي
فلا تجزع إذا لم تعط طاعة


فعلى المصلح أن يَجتهد في قطع الطريق على النمّامين ونَقَلة الكلام، الذين يُعجبهم أن تسود البغضاء بين الناس؛ فإنهم ينشطون في الأزمات لبث الشائعات، ونقل الكلام بين الناس، فَليَحذر المرْء من الاستماع إلى أراجيفهم، وافتراءاتهم.

التسلح بالعلم الشرعي.
ولْيتسلح المصلح في إصلاحه بالعلم والحكمة، حتى لا يفسد من حيث يريد الإصلاح، وحتى لا يشتت الشمل من حيث يريد جمعه. ولْيسألْ أهل العلم فيما يحتاج إلى سؤال؛ ليتبين الظالم من المظلوم، والمخطئ من المصيب، فينبه الظالم على ظلمه، ويدل المخطئ على خطئه.

اقتراح ما فيه مصلحة الطّرفين.
على المصلح أن يبذل وسعه في تقارب وجهات النظر بين الخصمين، وليقترحْ من الحلول أنفعَها وأحسنَها مما فيه مصلحة للطرفين.

روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلامٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا»..

اختيار الكلام الحسن.
على المصلح أن يختار من الكلام أحسنه وأليقه، فقد أذن الشرع للمصلح أن يختار من الكلمات ما يُطَيِّبُ به خاطر الخصمين، ويُزيلُ الأحقاد والضغائن من النفوس. كأن يقول لأحد الخصمين مثلا:
إن فلاناً لا يقصد أذيّتك، إنما خانه التعبير فلم يختر اللفظ المناسب، إنه نادم على فعله وقوله، وهو الآن مستعد للصلح معك... ونحو ذلك من الكلام الطيّب الذي يسكن به الغضب، وتزول به الكراهية، وينتهي به الهجر والقطيعة. فليس هذا من الكذب المذموم في شيء، لأنه يهدف إلى تحقيق المصلحة والمصالحة، ولا ضرر فيه.

ففي الصحيحين عن أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا». وفي صحيح مسلم: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا. أي بما من شأنه أن يزرع المودة والمحبة بينهما.

فلا بأس أن تَنقلَ إلى أحد الخصمين كلمات من الخير على لسان الطرف الآخر، وتَكتمَ عنه أمورا من الشر جاءت على لسان الطرَف الآخر، فهذا من الحكمة والسياسة في الإصلاح بين المتخاصمين.

فالمصلح الحكيم يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشر والنقص.

العدل في الإصلاح.
على الساعي بالإصلاح أن يتحرى العدل في صلحه؛ فلا يميل لأحد الخصمين لقوته ونفوذه، أو لإلحاحه وعناده، فيظلم الآخر لحسابه، فيتحول من مصلح إلى ظالم، ولا سيما إذا ارتضاه الخصمان حكما بينهما فمالَ إلى أحدهما، وقد أمر الله تعالى بالعدل في الإصلاح بين الخصوم في قوله سبحانه: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات:9].

فالشر لا يُطفأ بالشر.
وليعلم محبو الإصلاح والساعون فيه -أثابهم الله وأنجح مساعيهم- أن الشر لا يطفأ بالشر، كما أن النار لا تطفأ بالنار، ولكنه بالخير يطفأ، فلا تسكن الإساءة إلا بالإحسان، ولهذا فقد يحتاج المتنازعان إلى أن يتنازلا عن بعض الحق فيما بينهما، وإن من التبصر بأحوال الناس أن يعلم أصحاب المروءات من المصلحين أن النفوس مجبولة على الشح وصعوبة الشكائم، مما يستدعي بذلاً في طول صبر وعناء، فربكم يقول: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [النساء:12].

الموعظة والتذكير.
من وسائل الإصلاح النافعة: الموعظة الحسنة، التذكير بالله عز وجل، فالله تعالى يقول: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ﴾.

فعلى المصلح أن يختار من الكلام ما يرقق القلوب، ويؤثر في النفوس، ويبين للخصمين حقارَة الدنيا وما فيها، فلا تستحق أن يتعادى الإخوان من أجلها، ولا أن تقطع القرابة بسببها، ويذكرهما بالموت وما بعده من الحساب والوقوف بين يدي الله عز وجل، فماذا يقول القاطع لرحمه؟ الهاجر لإخوانه؟ المسيء إلى جيرانه؟..

ففي الصحيحين عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قالت: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، ـ أي يَسْأَلهُ أنْ يَضَعَ عَنْهُ بَعضَ دَيْنِهِ ـ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ، ـ أي يَسأَلُهُ الرِّفْقَ ـ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَيْنَ المُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لاَ يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟»، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَب. وعظه عليه الصلاة والسلام فقال: أين الذي يحلف بالله ألا يفعل الخير؟ فاستحيا الرجل وقال: أنا يا رسول الله، فله أيّ ذلك أحب، أيْ: فما أراده من عفو عن بعض المال فأنا راضٍ به، فكان عليه الصلاة والسلام يعظ في أمر الصلح ويرغب فيه.

فربّما احتجّ أحد الخصمين بأنه نذر أن لا يتنازل، أو حلف على أن لا يصالح، وهذا كثيرا ما يقع بين الغرماء والمتخاصمين، فمن نذر فليعلم أن النذر الذي يجب الوفاء به إنما هو نذر الطاعة، لا نذر المعصية. ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ».

ومن حلف على هجر أخير أو قطيعة رحمه فليُكِّفرْ عن يمينه، وليصالِح أخاه، وليصل رحمه، فربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:224] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هو الرجل يحلف ألاّ يصلَ قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير، وأمره ألاّ يعتلّ بالله، وليكفرْ عن يمينه). وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ».. وكفارة اليمين معلومة قال تعالى عنها: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُو ﴾ [المائدة: 89].

ثمرات الصلح بين المسلمين:
أيها المسلمون: إن فوائد الصلح كثيرة، ونتائجه جليلة، وعواقبه حميدة؛ فبه تحُلّ الألفة مكان الفرقة، كما أنه سبيل لاستئصال داء النزاع قبل أن يَستفحِل، وحَقن الدماء التي تراق، وتوفير الأموال التي تهدَر في الخصومات والنزاعات، وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس.

عباد الله؛ هذه عبادة عظيمة أوصى بها الله سبحانه، وأوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتدِبوا أنفسكم للقيام بها، فإن في القيام بها أجراً عظيماً لا يعلمه إلا الله عز وجل. فلا شك أن الصلح خير من الشقاق، وأن الصلة أفضل من القطيعة، وأن المودة أولى من الكراهية.

ومن سعى بإصلاح ذات البين فإنه يجب على الناس تأييده وتشجيعه بالقول والفعل، ومعونته بما يحتاج من الجاه والمال؛ فإن إصلاح ذات البين يعود على الجميع بالخير والمحبة والألفة، كما أن فساد ذات البين يضر المجتمع عامة بما يسود فيه من الأحقاد والضغائن والجرائم والانتقام.

ومن سعى إليه أخوه بالإصلاح فليقبل منه، وليعنه عليه، وليعلمْ أن القوة كل القوة، وأن منتهى الشجاعة والجرأة في دحر الشيطان، والانتصار على النفس، والمبادرة إلى الصلح. والسابقُ من الخصمين إلى الصلح هو المنتصر، والمسبوق منهما يودّ بعد الصلح لو كان هو السابق، فكن ـ أخي الكريم ـ خيرَ الخصمين، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام.

روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ. فَقَالَ: « لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ». أيْ كَأنَّمَا تُطْعِمُهُمُ الرَّمَادَ الحَارَّ، وَهُوَ تَشبِيهٌ لِمَا يَلْحَقَهُمْ من الإثم بما يلحَقُ آكِلَ الرَّمَادِ الحَارِّ مِنَ الأَلمِ، وَلاَ شَيءَ عَلَى هَذَا المُحْسِنِ إلَيهمْ، لكِنْ يَنَالُهُمْ إثمٌ عَظيمٌ بتَقْصيرِهم في حَقِّهِ، وَإدْخَالِهِمُ الأَذَى عَلَيهِ.

فواجب على كُبراء الأسر، ووجهاء القبائل، ومديري الدوائر؛ أن يصلحوا بين المتخاصمين في أسرهم وقبائلهم وإداراتهم، وكل ذي مال وجاه يقبل المتخاصمون منه ما لا يقبلون من غيره؛ فليزك ما أنعم الله تعالى عليه من المال والجاه بالصلح بين الناس؛ فينال رضوان الله تعالى، ومحبة الناس له.

يا أيها الناس: نريد مجتمعاً تسوده الشفقة والعطف والرحمة. نريد من المتهاجرين صفحة جديدة، وبداية سعيدة، ونسياناً لذلك الركام الهائل من الأخطاء والمشاكل. نريد تجافياً عن الزلات، وتعافياً عن الهفوات، وإقالة للعثرات. ومَن كانت حاله كذلك فلن يُعدَم الأجر الكثير، والذكر الجميل، والشكرَ الجزيل. فلا يكنْ للشيطان نصيب منا في قطيعة الأرحام، والتناحر بين الجيران، ونقص في الإيمان.

فهيا معشر المسلمين إلى التلاحم والصفاء، هلموا إلى هجر القطيعة وترك الضغينة، إلى ركن الصداقة والإخاء حيث الصفاء والنقاء.. هلموا إلى سلامة الصدر وطهارة القلب.. فإنها من أفضل الأخلاق روعة وحسناً، وأدعاها إلى ثبات الودّ والصفاء، ودوام العهد على الوفاء. سلامةٌ في العواقب، وزيادة في المناقب. راحة في البال، وأنس في الحال. انشراح في الصدر، وطيب في العيش. وفوق ذلك كله فوز وفلاح، وسعادة وهناء، وهداية وتوفيق، ولذا كانت قليلة في الناس، عظيمة عند الله، ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾..

جرى بين أخ وإخوانه جفوة وفرقة وعتاب فكتب إليهم:
من اليوم تعارفنا
ونطوي ما جرى منّا

فلا كان ولا صار
ولا قلتم ولا قلنا

وإن كان ولابد
من العتاب فبالحسنى


ثم أبى إلا أن يزيد فرحه بلقاء إخوانه وإزالة شبح القطيعة فقال:
تعالوا بنا نطوي الحديث الذي جرى
ولا سمِع الواشي بذاك ولا درى

تعالوا بنا حتى نعود إلى الرضا
وحتى كأنّ العهد لن يتغيّرا

لقد طال شرح القِيل والقالِ بيننا
وما طال ذاك الشرح إلا ليقصرا

من اليوم تاريخ المحبة بيننا
عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى


اللهم إنا نسألك أن تجعلنا إخوةً متحابين في سبيلك، قائمين بحقوقك، عاملين بدينك.

نسأل الله أن يصلح ذات بيننا، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور.

اللهمَّ اجمعْ علَى الخيرِ قلوبَنا، وأصْلِحْ ذاتَ بَيْنِنا، واغفِرْ لنا وتُبْ علينا إنَّكَ أنتَ التوَّابُ الرحيمُ.

اللهمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ مِنْهم والأمواتِ.

اللهمَّ ارزقْنا خَشْيَتَكَ في الغَيْبِ والشَّهادَةِ، وكلمةَ الحقِّ في الرِّضا والغضَبِ، والقَصْدَ في الغِنَى والفقْرِ، واجعلْنا مِنَ المعظِّمِينَ لِحُرُماتِكَ، الحافظينَ لحدُودِكَ.

اللهمَّ أصْلِحْ لنا دِينَنا الذي هوَ عِصْمَةُ أمْرِنا، وأصْلِحْ لنا دُنْيانا التَّي فيها مَعاشُنا، وأصِلحْ لنا آخرَتَنا التي فيها مَعادُنا، واجعلِ الحياةَ زِيادَةً لنا في كُلِّ خيْرٍ، واجعلِ الموتَ راحةً لنا مَنْ كُلِّ شَرٍّ.


ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ.

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 120.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 117.97 كيلو بايت... تم توفير 2.34 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]