فضيلة الشيخ الدكتور محمد بكر إسماعيل - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 21 )           »          تعظيم خطاب الله عزوجل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          رسـائـل الإصـلاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18-02-2020, 05:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي فضيلة الشيخ الدكتور محمد بكر إسماعيل

فضيلة الشيخ الدكتور محمد بكر إسماعيل


أحمد الجوهري عبد الجواد


قطوفٌ.. من حياة علماء وشيوخ عرفتُهم (3)








فضيلة الشيخ الدكتور محمد بكر إسماعيل


[1355هـ - 1936م / 1426هـ - 2006م]









عرَفَت أذناي فضيلةَ الشيخ الدكتور محمد بكر إسماعيل رحمه الله تعالى قبل أن تعرفه عيناي؛ ذلك أنَّا - أهل البيت - كنَّا نجتمع حول إذاعة القرآن الكريم لنسمع إجاباته عن أسئلة برنامج "بريد الإسلام"، أو مناقشاته في موضوعات الفِقه من خلال برنامج "موسوعة الفقه الإسلامي"، وغيرهما من برامج الإذاعة التي كانت تَحتفي بالشيخ الدكتور احتفاءً من نوع خاصٍّ، وقد كان الرجل موسوعيًّا بحقٍّ، فما كان يتكلَّم في فنٍّ إلاَّ ويبدع فيه، فعلى الرغم من أنَّه أستاذ بكلِّية الدراسات الإسلامية والعربيَّة في قسم التفسير وعلوم القرآن، إلا أنَّه كان يتحدَّث فيُمتع مستمعيه بكلِّ حديثٍ أو علمٍ يتكلَّم فيه، ولعلَّ هذا ما جعله يحتفظ بوجوده في مسامعنا كثيرًا؛ إذ يحضرنا في برامج إذاعة القرآن غالبَ أوقاتِ اليوم، على اختلافها، من إشراقة الصَّباح إلى حين الغروب.





وكذلك كان "سعادة الدكتور" متفنِّنًا في تآليفه وتصانيفه، كما هو متفنِّنٌ في دروسه وأحاديثه؛ فقد عرفَته ساحاتُ الجامعاتِ ومدرَّجاتُها مفسِّرًا، يُطيِّب القاعات بمحاضراته العطِرة التي جمع خلاصاتِها في كتبه: "دراسات في علوم القرآن، والبيان في أحكام القرآن، وأمثال القرآن، وغيرها"، وفي القمَّة من أعماله في هذا المجال كتابه الماتع: "خلاصة التفسير"، وبهذا عرفَته المكتبة الإسلاميَّة مفسِّرًا.





وكذلك عرف "الشيخَ" شبابُ الدَّعوة وأبناؤها فقيهًا؛ وذلك من خلال كتابه القيِّم: "الفقه الواضح من الكتاب والسنَّة"، وقد نحا فيه إلى التوسُّط في الاختيار من المذاهب الأربعة، ولم يجنَح إلى أحدها فيميِّزه على إخوته، وآثرَ فيه التأصيلَ على أساسٍ من الدليل القرآنيِّ والنَّبويِّ في غير حيفٍ أو تأويل، بلغةٍ سهلة سَلسة، مع ترتيبٍ جيِّد وعرضٍ متقن.





وقد رأيتُ "الفقهَ الواضح" في طبعته الأولى وقرأتُه قبل أن أَلقى الشيخ؛ كان عند بعض إخواني فأتحفني به استعارةً فقرأتُه، وليس "الفقه الواضح" هو الكتاب الوحيد من بين كتب الشَّيخ وتراثه في مجال الفِقه الإسلامي، فهنالِك أيضًا: "القواعد الفقهيَّة بين الأصالة والتوجيه"، مجلد جمَع فيه الشيخ (182) قاعدة مشروحة شرحًا وافيًا، لا مخلاًّ ولا مملاًّ، وفتاواه "بين السائل والفقيه"، وكتاب في أصول الفقه، وغيرها.





وقد غاص المتفنِّن "محمد بكر إسماعيل" في أعماق التاريخ الإسلاميِّ والسيرة النبويَّة، فاستخرج منهما لآلئ ودررًا رصَّعها للراغبين في كتبه ذات الخطر: "رجال أحبَّهم الرسولُ وبشَّرهم بالجنة"، و"نساء لهنَّ شأن في الإسلام"، و"قصص القرآن"، و"قصص الأنبياء"...، وغيرها من العناوين التي تنبئ عن تبحُّر الرجل الكبير في دراسة التاريخ الإسلامي والخِبرة بأحداث السِّيرة وحياة الصَّحب الكرام.





كما درس "الدكتور إسماعيل" السنَّةَ النبويَّةَ وأخرج خلاصَة رحلته معها في كتب أتحفَت القرَّاء وتلقَّوها بالقبول، أمثال: "من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم"، و"أسماء الله الحسنى، آثارها وأسرارها"، وغيرها.





وهكذا ألَّف الشيخ محمد بكر إسماعيل رحمه الله رحمة واسعة وصنَّف في جميع العلوم الإسلامية؛ في التفسير، والحديث، والفِقه، والتاريخ الإسلامي، حتى كَتب في اللغة والبلاغة، وقد كان الشيخ رحمه الله أعلن عن عزمه العملَ على تصنيف كتابٍ في كلِّ علمٍ من العلوم الشرعيَّة واللغويَّة، بأسلوبٍ عصريٍّ سهلٍ يخلو من الغرابة والتعقيد والحشوِ والتطويل، ويصلح للتدريس في المعاهد والمساجِد وغيرها، بحيث لا يَستعصي فهمه على العامَّة ولا يستغني عنه الخاصَّة، وقد وفَّى أجزل الله مثوبتَه بما وعد.


♦ ♦ ♦






وفي هذه الفترة - فترة الدراسة التأسيسية - والتي قضيتُها في القرية، لم أكن رأيتُ الشيخَ المبارَك الذي أحبَّه فؤادي، وتعلَّقَت به نفسي وتاقَت لرؤيته جدًّا حتى صارت ترسم له في مخيلتها صورًا جميلة متعدِّدة لما يكون عليه شكله، ويبدو فيه سَمْته ومَظهره، كلُّ ذلك اعتمادًا منها على الخيال! وكنت أسمع أنَّ فضيلة الشيخ تستضيفه برامجُ "التلفاز" في حلقاتٍ، لكن لم يكن إلى مشاهدتها من سبيل؛ إذ كان الوالد حفظه الله تعالى، ولا يزال، يرفض دخولَ التلفاز إلى بيتنا، ولم يكن لي من عِلم بمواعيد هذه البرامج حتى أتمكَّن من مشاهدتها عند غيرنا، لكنِّي لمَّا سافرتُ إلى القاهرة رأيتُه في الجامعة، وجالستُه، وتعرَّفتُ على كثير من أخباره، وهأنذا أوافيك - عزيزي القارئ - ببعضها في هذه السطور:


ولد الطِّفل "محمد" في صعيد مصر، بل في أقصى الصَّعيد حيث تكاد الأرض المصريَّة تلاصق أرض السودان، وكانتا أرضًا واحدة سياسيًّا، ولا زالتا عربيًّا وإسلاميًّا، وفي قرية المحاميد مركز إدفو بمحافظة أسوان؛ حيث يعيش "بكر إسماعيل" والد محمد، كان مسقط رأس "محمد" ونشأَتُه عام 1355 هجرية، الموافق لعام 1936 ميلادية، وهناك حفظ القرآن الكريم - كعادة الناس في ذلك الزَّمان، وفي كلِّ زمان يَحتفظ أهلُه بالواجبات الإسلاميَّة الحسنَة الفاضلة، ويتحلَّون بالخصال والعادات الجميلة الطيِّبة - وذلك في سنٍّ مبكرة.





وكانت نشأة "محمد" أزهريَّة، وترعرع في مراحل الأزهر المختلفة، حتى استقرَّ به المقام في الجامع الأزهر بالقاهرة والتحق بكليَّة أصول الدِّين ليتخرَّج فيها، ثمَّ يحصل على الماجستير، فالدكتوراه في قسم التفسير وعلوم القرآن، عن رسالته التي حملَت عنوان "مقاصد التشريع الأسري من خلال سورتَي الطلاق والتحريم"، وكان أن حصل عليها بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى.





انتظم الدكتور "محمد" مدرِّسًا للتفسير وعلوم القرآن الكريم في جامعة الأزهر بكليَّة الدراسات الإسلاميَّة والعربيَّة، وتدرَّج في سلك هيئة التدريس حتى وصل إلى درجة أستاذٍ بالكليَّة، وهناك التقيتُ الدكتور وحضرتُ له وسعدَت روحي بلقياه، وإن لم تشبع من عَذْب حديثه ومَعين بيانه.


♦ ♦ ♦






عرفَت الجامعة "محمد بكر إسماعيل" إذًا مدرِّسًا ومحاضِرًا أكاديميًّا، لكن الرجل المليء لم يكن ليكتفي بما يبثُّه من علمٍ بين الطلاب - وهم كُثر جدًّا - لتبقى جهوده حبيسة أسوار الجامعة!





إنَّه لم يفعلها وهو طالبٌ يتقفَّر العِلمَ في مساجد مصر، ويطلبه في مدارسها المختلفة، ويجتهد في تتبُّعه هنا وهناك، يتلمَّس مظانَّ حضور الشيوخ ويبحث عن دروسهم وحلقاتهم!





يحدِّثني شيخُنا الفقيه الأصوليُّ عبدالخالق خلاف حفظه الله فيقول: سمعتُ الشيخ محمد بكر إسماعيل رحمه الله يقول: "لو كنتُ اكتفيتُ وقت الطلَب بما نُلقَّاه في الجامعة، ما كنتُ حصَّلتُ شيئًا من العلم؛ فإنَّ الجامعة لا تعطي العلوم وإنما تعطي مفاتيحَها، بل كنتُ أنا وزملائي المتعطِّشون للعلم نَخرج نطوف على حلقات العلم الكثيرة في القاهرة، في مساجدها ومدارِسها سواء، ومن الشيوخ من كان يدرِّسنا في بيته، نذهب إليه في منزله يختصُّنا بالرِّعاية؛ لِما يرى من حِرصنا على الطلَب".





ومن ثمَّ خرج "الدكتور بكر" إلى المساجد والمدارس خارجَ أسوار الجامعة وبعيدًا عن قاعات الدرس العلميِّ، حيث لا يتقيَّد بمنهج دراسيٍّ، ولا بكتاب مدرسيٍّ، ولا بأسلوب نوعيٍّ، ولا بطلابٍ معيَّنين، أو زمن معيَّن؛ إنما أراد أن يُلقي علمَه إلى النَّاس، جميعِ النَّاس، مَن تُهيِّئُه ظروفه أن يدرس ومن لم يكن كذلك، من كان يحضر له بالجامعة وأراد أن يَستزيد ومن لم يكن كذلك، من كان في سنِّ وطور الطلَب أو فوق ذلك، خرج "الدكتور بكر" يدعو إلى الله، ويعلِّم كتابَ الله لكلِّ من يرغب في ذلك ويُقبل عليه من عبادِ الله.





وفي حياة الطالب والأستاذ "محمد بكر إسماعيل" عِظةٌ وعِبرةٌ من خلال هذين الموقفين، فيجدر بنا أن نتوقَّف أمامهما متأمِّلين:


فلله كم ضاعَت من أعمارٍ على طلاَّبٍ ظنوا العلم كلَّ العلم والتحصيل كلَّ التحصيل في دراسة الجامعة؛ يحضرون لأساتذتهم فيها صباح كلِّ يوم حتى الظَّهيرة - هذا إن حضروا - ثمَّ يذهبون بعد ذلك إلى مخادعهم، وهكذا كلَّ يوم، دواليك، حتى ينتهي العام، وينقضي عام بعد عام، وما يحصِّله الطالب من خلال حضور المحاضرات إضافة إلى الكتاب المقرَّر يضعه في ورقة الإجابة آخر العام، ويحصِّل درجات النجاح أو حتى التفوُّق ظانًّا بذا أنَّه يحصِّل العلمَ ويُحسب في عداد طلاَّبه، والمسكين يخادِع نفسه، والحال كما وصف الشيخُ عبدالفتاح أبو غدَّة رحمه الله في معرض الحديث عن رحلات السلَف لطلب العلم، يقول:


"فوازِن - رعاك الله - بين الدِّراسة التي أثمرَتْها هذه الرحلات التي عركَت الطلاب الرَّاحلين عركًا طويلاً، وبين دراسة طلاَّب جامعاتنا اليوم؛ يدرسون فيها أربعَ سنوات، وأغلبهم يدرسون دراسةً صحفيَّة فرديَّة، لا حضور ولا سماع، ولا مناقشة ولا اقتناع، ولا تطاعم في الأخلاق ولا تأسِّي، ولا تصحيح لأخطائهم ولا تصويب ولا تشذيب لمسالكهم، ويتسقَّطون المباحث المظنونة السؤال من مقرراتهم (المختصرة)، ثمَّ يسعون إلى تلخيص تلك المقررات، ثمَّ يسعون إلى إسقاط البحوث غير الهامَّة من المقروءات، بتلطُّفهم وتملُّقهم لبعض الأساتذة، فيجدون ما يسرُّهم وإنْ كان يضرهم، وبذلك يفرحون.





وبعد ذلك يتعالَون بضخامة الألقاب، مع فراغ الوطاب، ويوسعون الدَّعاوى العريضة، ويجهِّلون العلماءَ الأصلاء بآرائهم الهشَّة البتراء، وينصرون الأقوالَ الشاذَّة لتجانسها مع عِلمهم وفهمهم، ويناهضون القواعد المستقرَّة، والأصول الراسخة المتوارثة، ولم يقعدوا مقاعدَ العلم والعلماء، ولم يتذوَّقوا بصارة التحصيل عند القدماء! ولكنهم عند أنفسهم أعلم من السابقين!





ويشهد المراقِب للحال العلميَّة اليوم: كثرة متزايدة في الجامعيِّين والجامعات، وفقرًا متزايدًا في العلم وأهله، وضحالة في الفهم والمعرفة، ونقصًا كبيرًا مشهودًا في العمل بالعلم! وهذه مصيبة من أدهى المصائب! والله المرجوُّ أن يُلهم المنوط بهم أمور التعليم في البلاد الإسلاميَّة أن يتبصَّروا بالأمر، ويتداركوا هذا الخطر قبل تأصُّله وإزمانه، واستفحال آثاره.





ثمَّ يقول: ولا أتحدَّث طويلاً عن المبتعثين والراحلين اليوم من شبابنا، إلى بلاد الغرب والشَّرق من بلاد الكفَّار والأعداء للإسلام وأهله، فإنَّ الناجي من براثِن مكايدهم الخفيَّة والظاهرة في العقيدة والخُلق والتفكير والسلوكِ قليل، وكم من أبنائنا وشبابنا مَن وقع في حبائلهم، وذهب في سُبلهم، ورضيهم قادَة وسادة، ونزع - بالتالي - من ديار الإسلام إليهم، وتوطن بلادَهم مسكنًا ودارًا، واختارهم على أهله أهلاً وجارًا، وهو يظنُّ بنفسه أنَّه يحسن صنعًا، نعوذ بالله من الحَور بعد الكَور، ومن الكفر بعد الإيمان"؛ إلى آخر كلامه رحمه الله في كتابه الرائع "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل"، حريٌّ أن يُقرأ ويتأمَّل.





لقد ضرب الطالب "محمد بكر إسماعيل" المثلَ الذي يُحتذى في هذا المجال، بما سبق أن أوردناه عليك من مقالِه عن حاله أيام الطلَب والتحصيل.





وأمَّا عِظتنا الثَّانية، فهي في حياة "محمد - الدكتور" الذي لم يَكتف بتدريسه طلابَ الجامعة، وخرج ليطوف المساجدَ والمعاهد ودور العلم ومنتديات النَّاس؛ يعلِّم الكتاب والسنَّة في جدٍّ واجتهاد ومثابرةٍ، وظلَّ هذا دأبه إلى آخر حياته - وهو الذي قارب السَّبعين من العمر - في عزيمة يعجز عنها الشابُّ القويُّ الفتيُّ، أذكر أنِّي صحبتُ الشيخَ رحمه الله تعالى يومًا من كليَّة الدراسات الإسلاميَّة والعربيَّة - وكانت وقتئذٍ بجوار الجامع الأزهر في منطقة الدرَّاسة قبل أن تُنقل إلى مقرِّ الجامعة الجديد في مدينة نصر - فألقى الشيخُ محاضراته بالجامعة، وسألتُه في النِّهاية عن غايته، فقال لي بأنه ذاهبٌ بعد ذلك ليلقي درسًا في مسجدٍ بشارع بورسعيد في حي الموسكي بعد صلاة العصر، ووقف صاحبُنا مع أستاذه يسأل ويَستمع للجواب، وتدخَّلَت جموعُ الطلاب هي الأخرى وألقَوا على الشيخ الكريم أسئلتَهم والشيخ يجيب، وهو واقف على قدميه من بَعدِ يوم عملٍ مستمرٍّ من الصباح إلى ما بعد الظهر، وأدرك الإرهاقُ صاحبَنا فاستلَّ نفسَه من بين الحاضرين وذهب فاشترى ما يسدُّ به جوعَه، فأكل وشربَ، ثمَّ ذهب إلى المسجد المقصود، وهو يظنُّ ظنًّا راجحًا لديه أنَّ الشيخ لن يَحضر؛ إذ كيف يراه يَفعل وهو ما يظنه فرغ من أسئلة السائلين حتى الساعة! ثمَّ أين طعامه وشرابه وراحته؟! وإذ كان ذلك كذلك فإنَّ صاحبنا منَّى نفسَه براحةٍ في المسجد حتى المغرب أو بالعودة إلى المدينة الجامعيَّة حيث مسكنه ليستريح، وأُذِّن للعصر وأقيمَت الصلاة، فكان الشيخ الدكتور محمد بكر إسماعيل هو إمام المصلِّين فيها، بزيِّه الأزهريِّ، كما كان عليه، لم يتغيَّر، وبعد الصلاة تقدَّم الشيخ إلى كرسيِّ الدرس، فألقى درسَه، وكان في الفِقه، ولم يَختم الدرسَ إلاَّ بعد ساعة ونصف من مبدئه، فاستمرَّ يتحدَّث في جزالة أسلوب، وحُسن عرض، وفصاحة لسان، وتأصيل معلومة، وفي نهاية الدَّرس ختم بخاتمته المعهودة؛ فوضع العمامةَ الأزهرية من فوق رأسه وهو يتمثَّل شِعر سُحَيْم بن وَثِيل الرِّياحيِّ أحد بني حِمْيَريٍّ إذ يقول:


أنا ابنُ جَلا وطَلاَّع الثَّنايا ♦♦♦ متَى أضَعِ العِمامةَ تَعرِفُوني





ويضحك الجالسون ويقومون للسَّلام على الشيخ؛ ليصافحوه ويسألوه، ثمَّ يودِّعوه، وتقدَّم صاحبنا فسلَّم على شيخه مع المسلِّمين وانتظر حتى فرغ فخرجَ معه إلى عتبة باب المسجد ظانًّا أنَّ الشيخَ سيقصد إلى بيته في حدائق القبَّة، لكنَّ الشيخ كان في طريقه إلى درسٍ جديد في منطقة المقطَّم!





فلله هي من همَّة، ولله هو من مثابرٍ! بمثل هذا يُنصر الدِّين، وتُنشر الدَّعوة، ويُعلَّم الخير، ويُبث العلم في النَّاس، فأين من ذلك كثرةٌ من أساتذتنا المحسنين المجيدين المتقنين في العِلم - نشهد لهم بهذا وفوق هذا - ومع ذلك لا نراهم إلاَّ في قاعات الدَّرس بين طلابهم في الجامعة؟!





إنَّ في سيرة هذا الشيخ - ويدرِك الصغيرُ والكبير ما وضع الله له من القبول في الأرض والذِّكر الحسَن على الألسنة - عظةً وعبرةً لكلِّ متأمِّل ومتَّعظٍ.





كان لفضيلة الشيخ الدكتور محمد بكر إسماعيل باعٌ كبير في مجال الدَّعوة إلى الله على مستوى مصر والعالَم الإسلامي؛ من خلال عمله أستاذًا بعدد من الجامعات العربيَّة في مصر والسعوديَّة وغيرها، ومن خلال إذاعة القرآن الكريم التي أثراها بالعديد من البرامج والمشاركات الإذاعيَّة، ومن خلال القنوات الفضائيَّة بعد ذلك، ومن خلال محاضراته ومجالس دروسه العامَّة، ومن خلال كتبه ومصنَّفاته التي وَضع الله لها القبولَ، فله ما يربو على ثمانين مؤلَّفًا، ومن خلال طلاَّبه في كلِّ هذه البلاد ممَّن تعلَّموا على يديه مباشرة أو عبر وسائل الاتصال المختلفة.


♦ ♦ ♦






لقد رأيتُ الدكتور "محمد بكر إسماعيل" رحمه الله أوَّلَ مرَّة في كليَّته "كلية الدراسات الإسلامية والعربيَّة" بالدرَّاسة، وكنتُ اتصلتُ على هاتفه المنزليِّ أسأله عن مكان وجوده غدًا، فأخبرني بالمكان والوقتِ والمناسبة، فذهبتُ إليه ولشدِّ عجبي ممَّا رأيتُ؛ فلقد رأيتُ الدكتور الآن واقعًا - وأنا الذي رسمتُ له صورًا عديدة في مخيَّلتي قبل أن ألقاه - لكنِّي ما تصوَّرتُ قطُّ بأن عينَي الشيخ متعَبتين إلى درجة أنَّه لا يستطيع القراءة بهما من كتاب! وما كان فيهما من صلاح لتبصران أكثر من موطئ القدَم أو أبعد قليلاً؛ ولذلك اتَّخذ الشيخُ قارئًا يقرأ له ويطالِع معه ويكتب ما يمليه عليه، فسبحان مَن وضع تِلك الهمَّة التي جاء منها هذا الإنجاز في بدَنِ من كان يَستعين بغيره في القراءة والاطلاع، فبم يَعتذر ذَوو التقصير المبصرون؟!





وتتردَّد على مسامعي الآن كلمةُ شيخنا عبدالخالق خلاف حفظه الله وهو يقصُّ عليَّ رحلتَه مع فضيلة الدكتور في المملكة أيَّام كان معارًا إليها للتدريس بالجامعة، فيقول: "صحبتُ الشيخَ الدكتور محمد بكر إسماعيل رحمه الله وجالستُه أربعَ سنين؛ يَستقبلني في بيته ستة أيام في الأسبوع؛ أقرأُ عليه وأطالِع بين يديه، فأشهد لقد رأيتُ رجلاً مُلئَ علمًا، حتى إني كنتُ أقول لنفسي: هل يكون عالمًا من علماء الجنِّ لا عالمًا عاديًّا؟!".


♦ ♦ ♦






تذكِّرنا كلمةُ الشيخ "خلاف" عن شيخه: "وجالستُه أربع سنين؛ يستقبلني في بيته ستَّة أيام في الأسبوع" بكلمته هو عن أيام الطلَب، فيما سبق معنا؛ إذ يقول: "ومن الشيوخ من كان يدرِّسنا في بيته، نذهب إليه في منزله، يختصُّنا بالرعاية؛ لِما يرى من حرصنا على الطلَب".





لقد تربَّى الشيخ "بكر" على أيدي شيوخه، وكما رآهم يَبذلون من أنفسهم للطلاَّب فعَل هو الآخر! وهذا يذكِّرني بموقفٍ سمعتُه منه رحمه الله قصَّه عليَّ وأنا معه ننزل على درج السلَّم في الكلَّية يقول: "كما تفعل مع أساتذتك سَيفعل معك طلاَّبُك، إنْ إحسانًا أو إساءة"، ثمَّ استقبل يقصُّ: كنتُ وأنا في الكليَّة في مِثل سنِّك أتردَّد على أحد شيوخي في بيته أُراجع معه بعضَ الكتب، وكنتُ أعلم أنَّه يحبُّ نوعًا من القهوة، فكنتُ كلَّما ذهبتُ إليه أشتري هذا النَّوع من القهوة معي، ولا أغادر بيتَه حتى أصنعها له بيدي ويشربها، ثمَّ مضَت سنون ونسيتُ ذلك الأمر، حتى أتاني في بيتي طالِب من الطلاب وكان يُراجع معي رسالةَ الماجستير ودخل عليَّ يومًا ومعه هذا النَّوع من القهوة وهو يقول: قد علمتُ أنَّك تحبُّه فاشتريتُه لك، فقلتُ له: ضعه عندك، فإذا به يقول لي: لا، ليس قبل أن أصنعها لك بيدي وتشربَ منها! وتذكَّرتُ حينها موقفي الأول مع أستاذي، فكنتُ أشرب القهوة التي صنعها الطالب وأنا أتساءل:


كيف لهذا الطالب أن يعرف بأنِّي تحسَّستُ ما يحبُّه أستاذي وجلبتُه وصنعتُه بيديَّ وسقيتُه إيَّاه، فيفعل مثلي تمامًا؟!





ثمَّ جاوبتُ نفسي قائلاً: لا شكَّ أنَّه جزاء العمَل؛ فإنَّه يكون من جنسه، فمَن يعمل خيرًا يلقه.


♦ ♦ ♦






كان فضيلة شيخنا الدكتور "محمد بكر إسماعيل" من الحريصين جدًّا على وحدة الصفِّ بين العاملين للإسلام، نظريًّا؛ يتكلَّم بذلك ويحثُّ عليه، وعمَليًّا؛ تربطه بالعديد من العلماء صلاتٌ قويَّةٌ، في ذات الوقت الذي كنَّا نرى بين أولئك العلماء ومَن يقتدون بهم خلافاتٍ ومشاكساتٍ!





ولقد كان الشيخ رحمه الله سلفيَّ العقيدة، منهجيَّ الطريقة، بحَّاثة دؤوبًا، معلِّمًا، مربِّيًا، غيورًا على الدِّين، ذا عشرةٍ طيبة، ولقاءٍ ودود، وعاطفةٍ جيَّاشةٍ، وتواضعٍ عجيب.





ولكلِّ واحدة من هذه العِبارات شواهد وقصص وأحوال من حياة الشيخ الكريم، عسى الله تعالى أن ييسِّر لحديثٍ آخر عنه نستطرد فيه إلى بيان ذلك، في مناسبةٍ لعلَّها تكون قريبة.


♦ ♦ ♦






وفي ظهر يوم الخميس ثالث أيام عيد الأضحى المبارك من عام 1426 هـ - الموافق للحادي عشر من يناير من عام 2006 م، كَتب الله ختامَ هذه الحياة الطيِّبة، وكان ختامها مسكًا زادَها طيبًا؛ إذ شاء الله أن تفيض نفسُ العالِم الكبير، وهو في الركعة الثانية من صلاة الظهر، أثناء سجوده بين يدي الله تعالى، ويَحكي من كان بجواره في الصفِّ أنَّه قرأ قولَه تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30].





ورَكع وسجدَ وما قام من سَجدته.






رحم الله شيخَنا الدكتور محمد بكر إسماعيل، وتقبَّله في الصَّالحين، ورفع مقامَه في عِلِّيِّين.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 71.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 69.16 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.65%)]