|
ملتقى القصة والعبرة قصص واقعية هادفة ومؤثرة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#21
|
||||
|
||||
رد: السنن الإلهية
السنن الإلهية (21) عند المعاينة… لا توبة! - من كمال شريعة الإسلام وجمالها (باب التوبة)، هذا الباب الذي جعله الله لجميع خلقه، رغبهم فيه، وحببهم إليه، وأمرهم به، وعندما تقرأ آيات التوبة في كتاب الله، تكاد تجزم ألا مذنب إلا ويرجع إلى الله ويتوب إليه، مهما كان ذنبه كبيرا أو كثيرا. صاحبي من محبي (الرقائق)، دوما مسبحته في يده، وبعد كل صلاة يصاحبني في طريقي إلى المنزل، يتحدث عن الآيات التي يقرؤها الإمام في العشاءين، حتى وإن كانت من قصار السور. - ما أعظم هذه السورة! {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} الله أكبر، إنه أمر عظيم، ينبغي الإعداد له، {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} آيات تهز الكيان، وترتعد لها الفرائس، {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}. كان صاحبي يتحدث متأثرا منفعلا، وبعد أن أنهى آيات الزلزلة، عقب عليها: - كل ما يحتاجه العبد، هو أن يتوب ويؤوب إلى الله، وربنا الغفور الرحيم الرؤوف الودود، يقبل عبده المذنب، بل ويحب عودته، ويمحو سيئاته وكأنه لم يذنب قط! {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53). وفي الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله -تعالى-: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» (صحيح الترغيب). توقفنا عند مفترق الطرق؛ حيث منازلنا في ا تجاهين متعاكسين، عقبت على كلامه: - ولكن ينبغي على العبد أن يتوب، وأن يستغفر، حتى لا يغلق عنه باب التوبة! - وهل يغلق باب التوبة قبل يوم القيامة؟! - نعم، من سنة الله أن التوبة لا تنفع عند المعاينة! استغرب صاحبي عبارتي! - ماذا تعني عند المعاينة؟! - اسمع هذه الآيات: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر:84-85)، وقوله -سبحانه-: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس:90-91)، وقوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء:18)، في تفسير هذه الآيات ومثيلاتها بيان لهذه السنة الإلهية، دعني أقرأ لك ما تيسر من تفسير هذه الآيات في هاتفي، وهذا الذي جمعته بتصرف من تفاسير المنار والسعدي والتحرير والتنوير. {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء:18)، وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. فيكون المعنى أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب، وأناب إلى الله وندم على ذنبه، فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفات راسخة، فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه فإنه سد على نفسه باب الرحمة. والحكمة في هذا ظاهرة؛ فالإيمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب، وكان اختيارا من العبد فأما إذا وجدت الآيات صار الأمر شهادة، ولم يبق للإيمان فائدة؛ لأنه يشبه الإيمان الضروري، كإيمان الغريق والحريق ونحوهما، ممن إذا رأى الموت، أقلع عما هو فيه كما قال -تعالى-: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}. ووجه عدم قبول الإيمان عند حلول عذاب الاستئصال؛ لأن عذاب الاستئصال مشارفة للهلاك والخروج من عالم الدنيا، فإيقاع الإيمان عنده لا يحصل المقصد من إيجاب الإيمان؟ وماذا يغني إيمان قوم لم يبق فيهم إلا رمق ضعيف من حياة ؟ فإيمانهم حينئذٍ بمنزلة اعتراف أهل الحشر بذنوبهم وليست ساعة عمل ، قال -تعالى في شأن فرعون-: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس: 90 -91 ) ، أي فلم يبق وقت لاستدراك عصيانه وإفساده. وقال- تعالى-: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} (المؤمنون)، هذا الإيمان الاضطراري ليس بإيمان حقيقة ولو صرف عنه العذاب والأمر الذي اضطره إلى الإيمان لرجع إلى الكفران. وقوله: {إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} بعدما رأوا العذاب، {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، فهم مستثنون من العموم السابق، ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة لم تصل إلينا ولم تدركها أفهامنا، قال الله -تعالى-: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} ولعل الحكمة في ذلك أن غيرهم من المهلكين لو رُدوا لعادوا لما نهوا عنه وأما قوم يونس، فإن الله علم أن إيمانهم سيستمر، بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه والله أعلم، وقال -تعالى في بيان ذلك-: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} أي يوم يأتي بعض آيات ربك الموجبة للإيمان الاضطراري لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل إتيانها إيمانها بعده في ذلك اليوم، ولا نفسا لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وعملا صالحا ما عساها تكسب من خيرٍ فيه لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الإيمان والعمل الصالح، فإنه -أي التكليف- مبني على ما وهب الله المكلف من الإرادة والاختيار، بالتمكن من الإيمان والكفر وعمل الخير والشر، وإنما الثواب والعقاب مبني على هذا التكليف. عقب صاحبي: - نعم، هذا واضح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -تعالى- يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (صحيح الترمذي). أي: تصل روحه حلقومه، {حتى إذا بلغت الحلقوم}، وفسر ابن عباس -رضي الله عنهما- ذلك (بالمعاينة)، أي رؤية ملك الموت، وقال غيره: مراده يتقن الموت لا خصوص رؤية ملك المؤت، وقالوا أيضا: هي حالة الاحتضار عموما، وإن طالت، وهل من العقل أن ينتصر العبد حتى يرى الموت ثم يتوب، الحمدلله الذي شرع لنا التوبة، وأمرنا بها ويسرها لنا، وجعلها من هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد قال مبينا لأمته: «إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» (صحيح الترمذي)، وذلك عندما نزل عليه { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وفي رواية عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة» (مسلم). اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#22
|
||||
|
||||
رد: السنن الإلهية
السنن الإلهية (22) سنة الله في المنافقين - بعض الأحكام الشرعية تبدو لبعض الناس (غير منطقية)، ولكن المؤمن يعلم يقينا أنها من لدن حكيم عليم، يؤمن بها ويعتقدها ويطبقها وإن لم تظهر له حكمتها، من ذلك زواج المسلم من النصرانية، وتحريم زواج الكافرة، وتحليل البيع وتحريم الربا، وإن كانت بعض المعاملات متشابهة، إباحة أكل طعام أهل الكتاب وتحريم طعام الكفار من الذبائح، وأحكام المنافقين ومعاملتهم بالإسلام رغم أنهم أشد خطرا من الكفار. - دعنا نتوقف عند هذه الأخيرة. - تعني التعامل مع المنافقين؟ - نعم. كنت وصاحبي في رحلة قصيرة إلى لبنان، وقد انقطعنا عنه لأكثر من ثلاث سنوات، أراد صاحبي تفقد منزله الصغير في منطقة (حمانا)، غادرنا يوم السبت على أن نرجع يوم الاثنين. - المنافقون فئة أظهرت الإيمان وأبطنت الكفر، شهد الله على كذبهم وأنزل سورة كاملة فيهم، غير الآيات الكثيرة في بيان أخلاقهم وتصرفاتهم، في سورة البقرة وآل عمران والنساء والتوبة التي تسمى (الفاضحة)؛ لكثرة ما ذكرت من أخلاقهم وتصرفاتهم، بقوله -عز وجل-: ومنهم، ومنهم، ومنهم، ولم تظهر هذه الفئة إلا في المدينة بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم - وما سنة الله فيهم؟ - يقول الله -تعالى-: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب:60-62). قررنا قضاء الليلتين في فندق (وادي -فيو)، تجنبا لعملية تنظيف البيت وتجهيزه. كان حديثنا بعد وجبة الإفطار، نحتسي القهوة في الشرفة المطلة على الوادي الأخضر. - هذه الآيات وغيرها تبين أن الله -عز وجل- أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالسكوت عن المنافقين وعدم قتالهم ما داموا لا يؤذون المسلمين علانية، وكان المنافقون يحذرون أن ينزل أمر من الله لرسوله أن يستأصلهم، فكانوا يرتكبون الأخطاء ويعتذرون، ويخطئون ويرجعون، ويقولون ثم ينكرون، هكذا كان ديدنهم، وفي هذه الآيات من سورة الأحزاب، أعطاهم الله إنذارا واضحا، إن لم ينتهوا سيأتي الأمر باستئصالهم وإخراجهم من المدينة، مع استحقاقهم للعنة الله في جميع الأحوال، وفي تفسير هذه الآيات إليك ما ورد. {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، أي: مرض شك أو شهوة {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}، أي: المخوفون المرهبون الأعداء، المحدثون بكثرتهم وقوتهم، وضعف المسلمين. ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه، ليعم ذلك، كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر، من التعريض بسب الإسلام وأهله والإرجاف بالمسلمين وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة، من أمثال هؤلاء. {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي: نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ونسلطك عليهم، ثم إذا فعلنا ذلك، لا طاقة لهم بك، وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال: {ثم لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا} أي: لا يجاورونك في المدينة إلا قليلا بأن تقتلهم أو تنفيهم. وهذا فيه دليل، لنفي أهل الشر، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين، فإن ذلك أحسم للشر، وأبعد منه، ويكونون {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِلُوا تَقْتِيلا}، أي مبعدين أين وجدوا لا يحصل لهم أمن ولا يقر لهم قرار، يخشون أن يقتلوا، أو يحبسوا، أو يعاقبوا. {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أن من تمادى في العصيان، وتجرأ على الأذى، ولم ينته منه فإنه يعاقب عقوبة بليغة. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا}، أي تغييراً، بل سنته -تعالى- وعادته جارية مع الأسباب المقتضية لأسبابها. وحرف {في} للظرفية المجازية، شُبهت السنة التي عوملوا بها بشيء في وسطهم، كناية عن تغلغله فيهم وتناوله جميعهم، ولو جاء الكلام على غير المجاز لقيل: سنة الله مع الذين خلوا. و{الذين خلوا} الذين مَضَوا وتقدموا. والأظهر أن المراد بهم من سبقوا من أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين أذن الله بقتلهم، مثل الذين قتلوا من المشركين، ومثل الذين قتلوا من يهود قريظة، وهذا أظهر؛ لأن ما أصاب أولئك أوقع في الموعظة؛ إذ كان هذان الفريقان على ذكر من المنافقين وقد شهدوا بعضهم وبلغهم خبر بعض. ويحتمل أيضاً أن يشمل {الذين خلوا} الأمم السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم؛ فاستأصلهم الله -تعالى- مثل قوم فرعون وأضرابهم. وذيل بجملة {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} لزيادة تحقيق أن العذاب حائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهوا عما هم فيه وأن الله لا يخالف سنته؛ لأنها مقتضى حكمته وعلمه فلا تجري متعلقاتها إلا على سنن واحد. والمعنى: لن تجد لسنن الله مع الذين خَلَوْا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلاً، وبهذا العموم الذي أفاده وقوع النكرة في سياق النفي تأهلت الجملة لأن تكون تذييلاً. وفي سورة التوبة (الفاضحة) يقول-تعالى-: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (التوبة:64-66). في هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه ويستهزئ به وبآياته ورسوله فإن الله -تعالى- يظهرها ويفضح صاحبها، ويعاقبه أشد العقوبة، وأن من استهزأ بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله الثابتة عنه أو سخر بذلك أو تنقصه أو استهزأ بالرسول أو تنقصه فإنه كافر بالله العظيم وأن التوبة مقبولة من كل ذنب وإن كان عظيما. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#23
|
||||
|
||||
رد: السنن الإلهية
السنن الإلهية (23) سُنَّة الله في الهداية والضلال قبل عام، دعاني زميلي -في العمل من تونس- ليريني الشقة الجديدة التي استأجرها، كان مسرورا بها؛ لكبر مساحتها وإطلالتها الجميلة على البحر، وتوفر الخدمات حولها، كان يجهزها قبل أن تأتي زوجته وابنته إلى الكويت للمرة الأولى. رافقني بعد صلاة ظهر الثلاثاء الماضي إلى مكتبي، بدأت عليه علامات الضيق، وعدم الارتياح. - أفكر أن أغير السكن. استغربت رغبته. - شقتك جميلة، وموقعها مميز، وإطلالتها فاخرة. - نعم كل ذلك صحيح، ولكن جيراننا -مع الأسف-، مجموعة من الشباب الذين يسهرون كل أسبوع تقريبا، يوم الخميس ليلة الجمعة إلى ساعات الصباح الأولى، ونحن لا ننام تلك الليلة. - هل تحدثت معهم؟ - في البداية شكوت الأمر إلى (حارس المبنى)، أظهر اهتماما، ولكن يبدو أنهم كسبوه لناحيتهم بالمال! وتحدثت إلى مالك الشقة، ووعدني خيرا ولم يتغير شيء، طرقت الباب ذات مرة عليهم، بعد صلاة العصر، كان واحد منهم فقط في الشقة، تعرفت عليه، تحدثت معه بلطف. - طلب مني أن نتحدث في بهو مدخل المبنى. - نحن خمسة من الشباب اثنان منا متزوجان، بعضنا يعمل في القطاع النفطي وبعضنا في القطاع الأمني، عملنا فيه نظام النوبات، نرتب أمورنا ونرفه عن أنفسنا يوم الخميس، ليلة الجمعة. - ألا تصلون الجمعة؟! - في أغلب الأحيان، لا؛ لأننا نكون نياما «ورفع القلم عن النائم حتى يصحو»! - هذا فهم خطأ للحديث؛ وذلك أن «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه» (صحيح أبي داود). - عسى الله أن يهدينا، ونحافظ على الجمعة. أغاظتني ردوده الجاهزة، وعدم مبالاته. - وماذا فعلت معه؟ تابعت حديثي معه مع علمي أنني لن أصل إلى شيء. - (الهداية) نعم من الله، ولكن لها أسبابها، الله -سبحانه وتعالى- وضع شروطا للهداية، من استوفى هذه الشروط نال الهداية، ومن لم يأخذ بها تركه الله لما اختاره. قاطعني. - كما آية في القرآن يقول الله فيها: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}. - نعم آيات كثيرة، ولكن حاشا لله أن يظلم أحدا. وإلا، لماذا يثيب من يهدي، ويعذب من يضل، إذا لم يكن للعبد دور في الهداية والضلال؟ لا ينبغي أن نصف الله بهذه الطريقة، الله -سبحانه وتعالى- يهدي من أراد الهداية وبذل أسبابها، ويضل من ترك أسباب الهداية ولم يردها، فيتركه الله -عز وجل- لما اختار، يقول -تبارك وتعالى-: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر:8)، بمعنى: الذي يريد العمل السيئ ويمارسه ويرى أنه حسن يتركه الله لما أراد، وكذلك يقول الله -عز وجل-: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر:3)، هو الذي اختار الكفر فتركه الله لاختياره وإصراره، ويقول -تعالى-: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر:28)؛ فالذي يختار طريق الضلال، ويسير فيه ويعرض عن طريقة الهداية، يتركه الله، وهذا معنى (يضله الله)، أما من أحب الهداية، وأرادها صادقا، وبذل أسبابها، فإن الله يهديه ويوفقه ويحفظه، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد:17)، يقول -تعالى-: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة:16). ويقول -سبحانه-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (يونس:9). ويقول -عز وجل-: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} (النساء:175). - أظن أن الإنسان يعلم في أعماق نفسه، أنه إذا أراد الهداية يصل إليها، ولكن من اعتاد الذنوب والبعد عن طاعة الله، تصعب عليه الرجعة، ويزين له الشيطان ما هو فيه، ويلقي في قلبه، أن الهداية بيد الله، لو أراد الله له الهداية ما استطاع أحد أن يضله، فيبقى على ما هو عليه. قاطعت صاحبي. - وإلى ماذا انتهى حوارك مع جارك؟ - تبين لي أنه يعلم أن ما يفعله خطأ، وأنه يعصي الله بترك الواجبات، والوقوع في المحرمات، يعلم كل ذلك، وأنه لو أراد أن يتوقف فإنه يستطيع ذلك، ولكنه يريد أن يتمتع بحياته، إلى حين، ثم يرجع إلى الله. - وما الضمان أنه سيبقى حتى تكون له فرصة الرجوع. سألته، عن ذلك، قال إذا كان ذلك، فإنه أمر الله لا يرد! - وكيف ختمت حديثك معه. - ختمته، بطلب مراعاة الجيرة، وحسن التعامل مع الجار، ولكن عقدت العزم على ترك المكان كما في الحديث. «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول» (صحيح الترغيب). اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#24
|
||||
|
||||
رد: السنن الإلهية
السنن الإلهية (24) سنّة الله في (عقوق الوالدين)! أديت وصاحبي صلاة الجمعة في غير مسجدنا المعتاد، كل مسجد له خصوصية يتفق عليها رواده، فإن لم تكن من أهل المسجد لا تستغرب بعض (الأوضاع) غير الصحيحة. دخل الخطيب، صعد المنبر، سلّم على المصلين، رُفع الأذان، تناول الخطيب أوراقا كتبت فيها الخطبة (الرسمية) لوزارة الأوقاف، وأخذ يقرأ منها، كان موضوعها (بر الوالدين) انتهى من الخطبتين بأقل من ثلاث عشرة دقيقة، خرجت وصاحبي بعد الصلاة، بدأ هو الحوار. - لا أعلم كيف يكتفي الخطيب بقراءة الخطبة، وكأنه مدرس يريد أن ينهي مادة تعليمية، ثم ينصرف. - هذه وظيفة، وقد أداها كما هو مطلوب منه. - نعم هي وظيفة، ولكن ما المانع أن يكسب أجر الآخرة أيضا، بأن يضيف لما كتب ويزيد على ما أرسل إليه، ويضع جهدا في إرسال الموضوع ذاته إلى المصلين، ولكن دون أسلوب الإلقاء المدرسي؟ - دعنا من ذلك يا (أبا فيصل)، لكل خطيب أسبابه، ولكن لنتحدث عن الموضوع (بر الوالدين وعقوقهما)، هل تعلم أن الله -عز وجل- له سنة نافذة دائمة فيمن يقع في هذا الذنب العظيم؟ - تعني (عقوق الوالدين)؟ - نعم، هذه كبيرة من الكبائر التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، مع ما يدخره لصاحبها في الآخرة من عذاب؛ ففي الحديث عن أبي بكر نقيع بن الحارث - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل ذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا البغي وعقوق الوالدين (أو قطيعة الرحم)، يعجل لصاحبها في الدنيا قبل الموت» (صحيح الأدب المفرد). وفي رواية «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله -تعالى- لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم» (صحيح الجامع). - نعوذ بالله من عذاب الله، لا شك أنه ذنب عظيم. - وفي رواية أنس بن مالك - رضي الله عنه - جزم بهذه السنة الإلهية حديث يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق» (صحيح الجامع). استدرك صاحبي موضحا: - لا ننسى أن العقوق درجات، وأقسى العقوبة مع أقصى العقوق وذلك أن بعض العلماء، جعل من العقوق أن تأكل مع والدك! وأن تنظر إليه إذا تحدثت معه! وأظن أن مفهوم (العقوق) يختلف مع اختلاف (الأعراف) في المجتمع. - دعني أبيّن أمرا قبل أن نناقش (درجات العقوق). (العقوق) مشتق من (العق)، وهو القطع والشق، ولعل مقياس العقوق، هو شعور الأب المنصف بأن ابنه (بار به) أو (عاق له)، ولا شك أن هناك درجات لا خلاف على أنها من العقوق مثل ما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه! قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟! قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه وأمه» (البخاري)، وكذلك من العقوق الذي لا شك فيه أن يبلغ الغضب في الوالد حتى يدعو على ابنه! ودعوته مستجابة. كما في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» (الألباني حسن لغيره). وكما في العقوق درجات، في البر درجات، والعبد يجتهد أن يكون بارا بوالديه، يبتغي رضا الله والجنة. (كما أن تمام الأجر مع تمام العمل، كذلك تمام العذاب مع تمام العقوبة). - أحسنت يا (أبا أحمد)، العبد مهما اجتهد في بر والديه، هناك درجة أعلى، والسقف عال جدا في بر الوالدين، في حياتهما وبعد موتهما، وكذلك العقوق دركاته كثيرة، أظن أن المطلوب أن يكون الوالدان راضيين، بمعنى أن يشعر الوالدان أن الابن بار بهما، على قدر استطاعته. - من أبواب الجنة باب لبر الوالدين، كما هناك باب للصلاة وباب للصدقة وباب للصيام، من أبواب الجنة باب (بر الوالدين) في الحديث عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه» (صحيح الترمذي). قاطعني. والوالدة؟ - لا شك أن شأنها أعظم؛ فهذا من باب الاستشهاد بالأقل على الأعلى، بمعنى إن كان الباب للوالد، فالوالدة أولى بهذا الباب، ومن حفظ حتى الوالد فهو لحق الوالدة أحفظ؛ وذلك أن الوصية بها ثلاثة أضعاف الوصية بالوالد، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المعروف: «قال رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك فأدناك» (صحيح مسلم). الشاهد أن سنة الله في بر الوالدين الأجر العظيم في الدنيا وسبب لدخول الجنة، وفي عقوق الوالدين العقوبة المعجلة في الدنيا، والحرمان من الجنة إلا بعد المغفرة بمشيئة الله. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#25
|
||||
|
||||
رد: السنن الإلهية
السنن الإلهية (25) من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه اقترح علي صاحبي أن نؤدي صلاة الجمعة في مسجد جديد، لم نجمع فيه من قبل. - معظم المساجد يدخل الخطيب وقت الصلاة، يصعد المنبر، يقرأ من الخطبة التي وضعت له ثم يصلي وينصرف، وإذا اجتهد اجتهد في طريقة الإلقاء، من رفع النبرة وخفضها. ابتسمت معلقا على ملاحظة صاحبي. - وماذا في ذلك؟ عادة الخطب الجاهزة تكون مفيدة لجمهور المسلمين وفيها من العلم والموعظة ما ينفع العامة. لم يعقب صاحبي، فسألته: - وماذا عن خطبة اليوم؟ ماذا سيكون موضوعها؟ - خطبة الوزارة الرسمية (كلمة التوحيد). - موضوع جميل، ومهم، ونافع، ويحتاجه العامة. - لنر كيف سيلقيها الخطيب. - بعد الصلاة، وكان موضوع الخطبة مختلفا عن توقع صاحبي، تناول الخطيب (سنة إلهية فيمن يترك شيئا لله). - ما رأيك بالخطبة؟ - بصراحة، استمتعت بها، على غير العادة، لقد أجاد في كل الجوانب، الموضوع، والأداء، والفائدة، وتخريج الأحاديث، ولاسيما الحديث عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها» (صحيح الترمذي)؛ فقد يظن المرء أن هذا النص لا يتفق مع قول الله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:32)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته» (صحيح الجامع). ولكن الشيخ -جزاه الله خيرا- بين أن ترك اللباس باهظ الثمن، إنما من باب التواضع لله، وإلا فالثياب الحسنة من السنة. بعد أن خرجنا من الزحمة وسلكنا طريقنا نحو المجمع الذي اتفقنا أن نتناول الغداء فيه، عقبت على مقالته. - أجمل ما في الخطبة بالنسبة لي، هي بيان سنة إلهية من السنن الثابتة الدائمة، وهي أن «من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا مما ترك». هذه قاعدة عامة، وقانون دائم، يدفع العبد أن يترك المحرمات أولا، يريد وجه الله، ويترك المباحات يريد وجه الله، وهنا يحضرني حديث معاذ بن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله -سبحانه وتعالى- على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء» (رواه الترمذي وأبو داود - صحيح الترغيب). وأحسن الخطيب بذكره قصة صهيب الرومي - رضي الله عنه - عندما أراد الهجرة من مكة وتبعه نفر من قريش حتى أدركوه ليرجعوه، فعرض عليهم ماله كله الذي في مكة على أن يتركوه يلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففعلوا، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له مبشرا: «ربح البيع يا أبا يحيى، ربح البيع يا أبا يحيى» وفيه نزل قول الله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207)، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع لله إلا رفعه -عز وجل-» (مسلم). وأصرح من ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنك لن تدع شيئا لله -عز وجل- إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه» (السلسلة الصحيحة)، قال ابن القيم -رحمه الله-: «وقوله من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه: حق، والعوض أنواع مختلفة، وأجل ما يعوض به: الأنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به، وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه -تعالى-» (الفوائد). تابعت كلام صاحبي. - هكذا هو الشيخ ابن القيم -رحمه الله- يتعامل مع القلوب والإيمانيات، ولم يذكر أن العوض يكون أيضا في الدنيا، وقد ذكر هو ذاته أمثلة من العوض في (روضة المحبين)، يقول: «لما عقر سليمان بن داود -عليهما السلام- الخيل التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، عوضه الله بالريح، تسير به، غدوها شهر ورواحها شهر: (أي يقطع بها في الغداة مسافة ما يقطعه بالخيل شهرا كاملا، وكذلك في العصر!)» ويتابع ابن القيم أمثلته: «ولما ترك المهاجرون ديارهم لله، وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم أعاضهم الله أن يفتح عليهم الدنيا وملكهم شرق الأرض وغربها». هذه سنة إلهية لا تتبدل ولا تتعطل أبدا. أدركنا المكان الذي نريد، وذلك أن الطريق كانت سالكة والمسافة قصيرة. تابعنا حديثنا. - والظاهر أن معظم العوض يكون في الآخرة كما قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: «فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا، لا يساوي ذرة مما في الجنة» فتح الباري . ومن الأدلة أن العوض في الآخرة أضمن، حديث أبي هريرة -]- قال رسول الله -[-: «من سره أن يسقيه الله الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا، ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركها في الدنيا» (صحيح الترغيب)، ومما يذكر في هذا الباب قصة زواج والد عبدالله بن المبارك.. الإمام المعروف: - فقد كان المبارك رقيقا فأعتقه سيده، وعمل أجيرا عند صاحب بستان، وفي يوم خرج صاحب البستان ومعه نفر من أصحابه إلى البستان، وأمر المبارك أن يحضر لهم رمانا حلوا، فجمع لهم فلما ذاقه قال للمبارك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال المبارك: لم تأذن لي أن أكل حتى أعرف الحلو من الحامض؛ فظن صاحب البستان أن المبارك يخدعه، وقال له: أنت منذ كذا وكذا سنة تحرس البستان وتقول هذا؟ ثم سأل بعض الجيران عنه فشهدوا له بالخير والصلاح وأنهم ما عرفوا أنه أكل رمانة واحدة، فجاءه صاحب البستان وقال له إذا أردت أن أزوج ابنتي فممن أزوجها؟ فقال المبارك : إن اليهود يزوجون على المال، والنصارى يزوجون على الجمال، والمؤمنين يزوجون على التقوى والدين فانظر من أي الناس أنت؟ فقال: وهل أجد لابنتي من هو خير منك؟ وعرضها عليه فقبل المبارك وبنى بها ورزق منها أولادا، كان منهم عبدالله بن المبارك -رحمه الله-. - ختم صاحبي كلامه.. أنا أقسم بالله وأجزم يقينا دون شك أن «من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه»، على العبد فقط أن يكون صادقا مع الله، ويصلح نيته، وأن يترك هذه المنهيات يريد رضا الله، ورغبة فيما عند الله، وسوف ينال ما يريد، دون أدنى ريب. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#26
|
||||
|
||||
رد: السنن الإلهية
السنن الإلهية (26) سنة الله في المكر صاحبي دقيق في كل شيء، يدهشني -أحيانا- بدقة ملاحظاته، كنا في مكتبتي كعادتنا، بعد صلاة الجمعة، نقضي نصف ساعة تقريبا نتحاور معظم الأحيان حول قضايا شرعية، بدأ حواره: - الكيد، والمكر، والخداع، كلمات وردت في كتاب الله، تتشابه، وتفترق، ليتك تبحث لنا عن معانيها. أعجبتني ملاحظة صاحبي، جلست خلف الحاسوب، هذا الجهاز الذي سهل علينا حياتنا، أصبحنا ننجز في دقائق معدودة ما كنا نحتاج لأيام من البحث. إليك يا (أبا عبدالله) ما وجدت في المكر. وردت كلمة (مكر) ومشتقاتها 43 مرة في القرآن وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: والعرب قد تطلق الكيد على المكر، والعرب قد يسمون المكر كيداً ووردت الكلمتان في كتاب الله فتبين الفرق بينهما، فالمكر إظهار الطيب وإبطان الخبيث، وهو الخديعة، وقد يكون حسنا أو سيئا، وقد بين -جل وعلا- أن المكر السيئ لا يرجع ضرره إلا على فاعله، وهذه سنة إلهية لا تتبدل ولا تتعطل، بل نافذة على الجميع، وذلك في قوله -تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُوراً استكبارا في الأرض وَمَكْرَ السيء وَلَا يحيق المكر السيء إلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تحويلاً} (فاطر: 43). قال -تعالى- في بيان معنى المكر وجزائه: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَاهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابِ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} (النحل: 26)، وهذا في قصد النمرود، فكان مكرهم بنيان الصرح ليصعد إلى السماء، فكان مكر الله بهم أن تركهم حتى تصاعدوا بالبناء، فأتى الله بنيانهم من القواعد، فهدمه عليهم. وذكر الله في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102)، وبين -سبحانه- في أول هذه السورة الكريمة أن الذي أجمعوا أمرهم عليه هو جعله في غيابة الجب، وأن مكرهم هو ما فعلوه بابيهم يعقوب وأخيهم يوسف، وذلك في قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب}. وذكر -جل وعلا- (المكر) في آيات كثيرة مثل: مكر كفار مكة بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُقْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30)، وذكر بعض مكر اليهود بقوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} ( آل عمران). ومعنى: {والله خير الماكرين} أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم. ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين: أنّ الإملاء والاستدراج، الذي يقدّره للفجار والجبابرة والمنافقين، الشبيه بالمكر في أنّه حَسَن الظاهر سَيِّئ العاقبة، هو خير محض لا يترتب عليه إلاّ الصلاح العام، وإن كان يؤذي شخصاً أو أشخاصاً، فهو من هذه الجهة مجرّد عما في المكر من القُبح، وبين بعض مكر قوم صالح بقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} (النمل: 50-51). وذكر مكر قوم نوح بقوله: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آهِتَكُمْ} (نوح: 22-23) الآية. وبين مكر رؤساء الكفار في قوله: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفر بالله} (سبأ: 33) الآية. وقال -عز وجل-: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} (الاعراف). واعلم أن المراد بـ(أمن مكر الله) في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين، الذي ابتُدئ الحديث عنه من قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} (الأعراف: 94) ثم قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} الآيات، وهو الأمن الناشئ عن تكذيب خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق؛ فهو أمن ناشئ عن كفر، والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله. وقال -تعالى- في ذم الكافرين: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمَكُرُونَ} (يونس:21). ومكرهم في آيات الله هو الاستهزاء بها وإنكارها ووصفها بما لا يليق، ولما كان الكلام متضمناً التعريض بإنذارهم، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكراً، أي منكم، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرهم بآيات الله، والمعنى أن الله أعجل مكراً بكم منكم بمكركم بآيات الله. وجملة: {إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون} خطاب للمشركين مباشرة تهديداً من الله، وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك؛ إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن مكرهم سيمر عليه دون أن يشعر به! فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك، وعبر بالمضارع في {يكتبون} و {يمكرون} للدلالة على التكرر، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم، وقال -تعالى-: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْس وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْيَ الدَّارِ} (الرعد:42). وفي هذا التشبيه رمز إلى أن عاقبتهم كعاقبة الأمم التي عرفوها؛ فنقص أرض هؤلاء من أطرافها من مكر الله بهم جزاء مكرهم؛ فلذلك أعقب بقوله: {وقد مكر الذين من قبلهم} أي كما مكر هؤلاء. والمعنى: مكَرَ هؤلاء ومكر الذين من قبلهم، وحل العذاب بالذين من قبلهم؛ فمكر الله بهم وهو يمكر بهؤلاء مكراً عظيماً كما مكر بمن قبلهم، وإنما جعل الله (جميع المكر) بتنزيل مكر غيره منزلة العدم، وتقديم المجرور في قوله: {فلله المكر جميعاً} للاختصاص، أي له -سبحانه- لا لغيره وقال -تعالى-: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (إبراهيم:46). والعندية إما عندية عِلم، أي وفي علم الله مكرهم، وإما عندية تكوين ما سمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله، فيكون وعيداً بالجزاء على مكرهم في كلا الحالين، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال، وفي هذا تعريض بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم؛ لأنهم كالجبال الرواسي. انتهيت من قراءة ما جمعت عن (المكر)، قال صاحبي: - وماذا عن (الكيد) ؟ - سوف أجهز لك بحثا آخر -إن شاء الله-. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
#27
|
||||
|
||||
رد: السنن الإلهية
السنن الإلهية (٢٧) {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} - هذه الآية من سورة الفتح، يذكر الله -تعالى- أنها إحدى سننه التي لا تتبدل، وقد حيرتني صراحة ؛ وذلك أن معاركنا الأخيرة مع (الكفار)، كانت جيوشنا هي التي تولي الأدبار؟! لم يخف صاحبي علامات الاستفهام التي كانت واضحة في طريقة حديثه وتعابير وجهه! ابتسمت! - هاتان الآيتان هي الثانية والعشرون والثالثة والعشرون من سورة الفتح، يبين الله -عز وجل- موقفا من مواقف المؤمنين مع الكفار، ونص الآيتين: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} (الفتح)، وحتى تكتمل الصورة نقرأ الآية قبلها. {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (الفتح)، نزلت هذه الآية في الحديبية وذلك أن جمعا من المشركين أرادوا أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على حين غرة؛ فأوحى الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأمره فأسرهم، قيل: كانوا ثلاثين أو خمسين رجلا، ثم أفرج عنهم، فيخبر الله -عز وجل- أنه لو كان هناك قتال بينكم وبين أهل مكة، {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ}، ولكن الله كف أيدي الكفار، ولم يقع قتال، وعلل ذلك بقوله -عز وجل-، في الآية 25، {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح:25). قاطعني: - أعلم كل هذا، وجميل أن أتيت بسبب النزول، والتفسير لهذه الآيات، لكنَّ إشكالي في قول الله -تعالى-: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الفتح:23)، المعنى الذي يتبادر إلى ذهني، أنه ولو كان قتال بين المؤمنين والكفار، فإن الكفار يولون الأدبار، هذه من سنة الله التي لا تتبدل ولا تتأخر! كان صاحبي متحمسا بعض الشيء. - دعني أبيّن لك المعنى حتى يزول الإشكال من ذهنك؛ ذلك أنك يجب أن تطَّلع على المشهد كاملا حتى تعرف المعنى المراد من هذه السنة الإلهية. في التحرير والتنوير، المعنى: سن الله ذلك سنة، أي: جعله عادة له أن ينصر المؤمنين على الكافرين إذا كانت نية المؤمنين نصر دين الله، كما قال -تعالى-: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (الحج:40)، أي ضمن الله النصر للمؤمنين بأن تكون عاقبة حروبهم نصرا وإن كانوا يغلبون في بعض المواقع كما وقعة في أحد، وقد قال -تعالى-: {والعاقبة للمتقين} (القصص:13)، وقال: {والعاقبة للتقوى} (طه:132)، وإنما يكون كمال النصر بحسب ضرورة المؤمنين وبحسب الإيمان والتقوى؛ ولذلك كان هذا الوعد غالبا للرسول ومن معه، فيكون النصر تاما في حال الخطر كما كان يوم بدر، ويكون سجالا في حال السعة كما في وقعة أحد، وقد دل على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» (انتهى)، وتفصيل هذه الموقف ورد في صحيح مسلم، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لماّ كان يوم بدر، نظر النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وهم ثلاث مئة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة ثم مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدأ، فما زال يستغيث ربه -عز وجل- ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر -رضي الله عنه- فأخذ رداءه فرده عليه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله -عز وجل-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال:9)، فكانت هزيمة الكفار ونصر المؤمنين. عقب صاحبي: -مع الأسف، كثير من الشباب المتحمس يظن أنه ما التقى جيش من المؤمنين بجيش من الكفار إلا كان النصر للمؤمنين! فيلقون بأنفسهم في الهلاك دون اتخاذ الأسباب، ودون علم محيط بأسباب النصر، لفهمهم الخطأ بهذه السنة الإلهية، وأنا شخصيا لم يكن لدي فهم شامل لهذه السنة. - دعني أكمل لك تفصيل هذه السنة من كتب التفسير. ويكون لمن بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جيوش المسلمين بحسب تمسكهم بوصايا الرسول -صلى الله عليه وسلم -؛ ففي (صحيح البخاري) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: فيكم من صحب النبي؟ فيقال: نعم، فيفتح عليه، ثم يأتي زمان فيُقال: فيكم من صحب أصحاب النبي؟ فيقال: نعم فيفتح ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صَحِب من صَاحَبَ النبي؟ فيقال: نعم فيُفتحُ»، ومعنى {خلت} مضت وسبقت من أقدم عصور اجتلاد الحق والباطل، وفائدة هذا الوصف الدلالة على اطرادها وثباتها. والمراد: أن ذلك سنة الله مع الرسل قال -تعالى-: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة: 21). ولما وصف تلك السنة بأنها راسخة فيما مضى، أعقب ذلك بوصفها بالتحقق في المستقبل تعميماً للأزمنة بقوله : {ولن تجد لسنة الله تبديلاً}؛ لأن اطراد ذلك النصر في مختلف الأمم والعصور، وإخبار الله -تعالى- به على لسان رسله وأنبيائه، يدل على أن الله أراد تأييد أحزابه، فيُعلم أنه لا يستطيع كائن أن يحول دون إرادة الله -تعالى-. وفي تفسير السعدي: هذه بشارة من الله لعباده المؤمنين بنصرهم على أعدائهم الكافرين، وأنهم لو قابلوهم وقاتلوهم {لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يتولى أمرهم، {وَلا نَصِيرًا} ينصرهم ويعينهم على قتالكم بل هم مخذولون مغلوبون وهذه سنة الله في الأمم السابقة، أن جند الله هم الغالبون {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا}. وفي تفسير الطبري يقول -تعالى ذكره للمؤمنين به من أهل بيعة الرضوان-: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله أيها المؤمنون بمكة {لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ}، يقول: لانهزموا عنكم، فولوكم أعجازهم، وكذلك يفعل المنهزم في الحرب {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}، يقول: ثم لا يجد هؤلاء الكفار المنهزمون عنكم، المولوكم الأدبار، وليا يواليهم على حربكم، ولا نصيرا ينصرهم عليكم؛ لأن الله -تعالى ذكره- معكم، ولن يغلب حزب الله ناصره. عن قتادة قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ } يعني كفار قريش، قال الله: {ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا} ينصرهم من الله. وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} لو قاتلكم هؤلاء الكفار من قريش، لخذلهم الله حتى يهزمهم عنكم خذلانه أمثالهم من أهل الكفر به، الذين قاتلوا أولياءه من الأمم الذين مضوا قبلهم. وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا}، يقول -جل ثناؤه- لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولن تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييرا، بل ذلك دائم للإحسان جزاؤه من الإحسان وللإساءة والكفر العقاب والنكال. اعداد: د. أمير الحداد
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |