|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
عبرة التيه
عبرة التيه د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم الحمد لله واهب الآلاء، عظيم الثناء، تعالى في المجد والكبرياء، وابتلى بالشدة والرخاء، وأشهد ألا إله إلا الله ديان يوم الجزاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الحنفاء، صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وصحبه الأوفياء. أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 278]. أيها المؤمنون! إن أكثر قصص القرآن كانت نبأً عن بني إسرائيل قوم موسى - عليه السلام -؛ ولعل سبَبَ ذلك: طولُ أمد تلك الأمة، وما أصابها من انحراف عن منهج الله، وما رُزِأت به من خطوب واستطالة عدى، وما سنّه الله لهم من هدى مُخْرجٍ لهم من تلك التيه والأزمات، مما هو مشابه لحال أمة الإسلام؛ لتستوعب العبرة، وتدرك الخلل؛ فتعدل المسير، وتستصلح الحال. وإن من أخبار القوم التي قصها الله في كتابه نبأ فتح الأرض المقدسة؛ وذلك أن الله كلفهم بفتحها، ووعدهم بالنصر بعد أن بدّل ضعفهم قوة، واستعبادهم تحرراً، وجعل فيهم الأنبياء، وآتاهم الملك، وآتاهم ما لم يؤتِه أحداً في زمانهم، وأراهم مصارع من كانوا يسومونهم سوء العذاب؛ فما برح كليمُه موسى - عليه السلام - يعدد عليهم تلك الآيادي الربانية، ويغريهم بالفتح الذي كتبه الله لهم حين يدخلون تلك البقعة، ويحذرهم من مغبة النكوص عن تنفيذ الأمر الإلهي والارتداد على العقب؛ وأن عقبى ذلك الخسارُ الذي لا مربح معه؛ فقال: ﴿ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾[المائدة: 20، 21]. هذا قيلُه ولمّا يزلْ نصر الله لهم ماثلاً على أرض مصر حين أورثهم سلطانها إثر إهلاك طغاتها؛ فلا مقارنة بين شرس الفراعنة ومغتصبي الأرض المقدسة، ولا مقاربة بين مساحة حدود ذينك القطرين وعدد أهلها وعدتهم! كيف واللهُ قد وعد بالفتح وكتب الأرض لهم؟! لكن أنّى لمهزوم النفس مَوات الإرادة أن يستروح ريح النصر الزكي أو يحيى بمائه. أيها المسلمون! تجرّع نبي الله موسى - عليه السلام - من قومه غصص التمرد على التكاليف، والتحيّلِ لإسقاطها؛ فمذ أن وجّه لهم الأمر بدخول الأرض المقدسة بعد تقديمه ذكرَ سالف النعم اعتذروا بشدة بطش سكانها وتفوق قوتهم، وأن دخولهم الأرض لن يكون إلا بعد خروج أولئك منها، هكذا يريدونه نصراً رخيصاً! لا ثمن له! ولا جهد فيه! نصراً مريحاً يتنزل عليهم تنزل المنّ والسلوى! ﴿ إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ ﴾ [المائدة: 22]. وفي موطن الأزمات تتبدّى حقائق الإيمان الناصعة؛ ويكون الثبات بقدر ما قام منها في القلوب؛ فحين كعّ خواة الإيمان وجبنوا عن المنازلة برز كميّان سَكَنَ الإيمانُ قلبيهما، وملأ خوف الله فؤاديهما، ولم يعد لما دون الله هيبة إزاء هذا الخوف الذي أنعم الله به عليهما؛ فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين: مخافته - جل جلاله - ومخافة الناس، والذي يخاف الله لا يخاف أحداً بعده، ولا يخاف شيئاً سواه - فطفقا مشجعَيْن قومهم على الدخول، وأن ما بينهم وبين درك النصر إلا اقتحامُ باب المدينة، ﴿ ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ﴾ [المائدة: 23] ، لَا يَهُولَنَّكُمْ عِظَمُ أَجْسَامِهِمْ؛ فَقُلُوبُهُمْ مُلِئَتْ رُعْبًا مِنْكُمْ؛ فَأَجْسَامُهُمْ عَظِيمَةٌ وَقُلُوبُهُمْ ضَعِيفَة، فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تُقَوّى قلوبكم، وشعروا بالهزيمة في أرواحهم، وكُتب لكم الغلب عليهم. ثم أوصوهم مع بذل السبب بالتوكل على الله وتفويض الأمر له؛ فإن من توكل على الله كفاه وآواه ونصره. لكن أنى حراك لميّت الهمة؛ فلم تحرك فيهم موعظة كليم الله ولا نصح المؤمنَيْن شيئاً، بل لم يكتفوا بالجبن حتى جمعوا معه الوقاحة: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24] ، هكذا في وقاحة العاجز! «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ»! فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال! «إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ»؛ لا نريد ملكاً، ولا نريد عزاً، ولا نريد أرض الميعاد، ودونها لقاء الجبارين! أيها الإخوة في الله! وبعد هذا الجهد الجهيد من نبي الله، وحين رأى إصرار قومه على إيثار الدعة والنكوص، توجه بالجؤار إلى الله شاكياً حاله مع قومه حين لم يتمثل الأمر إلا هو وأخوه هارون عليهما السلام، ودعا بالمفاصلة بينه وبين قومه العصاة، وأن ينزل الله فيهم من العذاب ما تقتضيه حكمته؛ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 25]. فاستجاب الله لنبيه، وحكم بالجزاء العدل على الفاسقين: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [المائدة: 26]: قضى بحرمانهم من دخول الأرض المقدسة التي كان قد كتبها لهم أربعين سنة، مع ضياعهم في الأرض هذه المدة، ونهى نبيه موسى - عليه السلام - عن الحزن على تلك العقوبة: ﴿ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26]؛ إذ مَهْمَا حَكَم عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ، وما يعقب من خير البلاء يخفف بشع مرارته. وقد ذكر المفسرون أن تيههم كان في صحراء، كلما أَمْسوا من مَوضِع للمسير أصبحوا فيه، وإِذا أَصْبحُوا أمسوا على ذَلِك الْموضع، وَهَكَذَا كل يَوْم طيلة مدة التيه. ولعل الحكمة في هذه العقوبة - كما قال جمهور المفسرين - أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة صلبة العود، تعتبر بالدرس، وتنشأ في خشونة الصحراء وحريتها، وتتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة. وهكذا وقع بعد انقضاء فترة التيه. الخطبة الثانية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله... أيها المسلمون! إن مما أفصحه نبأ التيه أن الانتصار على النفوس جادة الانتصار على الأعداء وعقبتها الكؤود؛ وأن المهزوم من هزمته نفسه، فأقعدته همّته عن ركاب الطاعة، وأخلدته إلى الأرض، والقرار بحطام الدنيا، والرضا بالدون، وترك استعادة ما اغتصب من الحقوق. وكذلك، فإن طول بلاء الأمة واشتداده مؤذن بصقل قادة التغيير؛ فإنهم من رحم الأزمات يولدون، وفي مستحلكها يترعرعون. وبقدر ما أبان نبأ التيه من خواء إيمان قوم موسى - عليه السلام - حين تأبّوا عن التكاليف، وتفصّوا من عراها، أظهر حسن ضدِّه من حال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم -، كما قال أنس بن مالك – رضي الله عنه -: " لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى بَدْرٍ خَرَجَ فَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَسَكَتَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّمَا يُرِيدُكُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ لَا نَكُونُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24] ، وَلَكِنْ وَاللهِ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا حَتَّى تَبْلُغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَكُنَّا مَعَكَ " رواه أحمد وصححه الألباني.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |