خصائص النثر في الأسلوب الشاكري - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7818 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 45 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859340 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393663 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215882 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 75 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي
التسجيل التعليمـــات التقويم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-08-2023, 10:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي خصائص النثر في الأسلوب الشاكري

خصائص النثر في الأسلوب الشاكري
الشاعر محمد بركات






توطئة وتمهيد:

إن العلامة محمود شاكر قمة من القمم الباذخة الراسخة، التي أنارت السبيل، ومهدت الطريق، فهو مصلح اجتماعي إذا عد المصلحون، وأديب بلاغي إذا عد الأدباء والبلاغيون، وهو شيخ وواعظ إذا ذكر الوعاظ والشيوخ، وهو مفكر كبير إذا عد المفكرون، وقد آتاه الله ملكة الأسلوب البياني الذي لا تأتيه اللُّكنةُ من بين يديه ولا من خَلْفِه، رجلٌ سِيطَ لحمُه ودمه من كلام البلغاء، وحكمة الشعراء، فأَحْسَنَ التذوق والتطبيق، فكان شامة في جبين النثر العربي جنبًا إلى جنب مع الجاحظ وأبي حيان التوحيدي والرافعي.

والعجيب حقًّا أن يحتل محمود شاكر هذه المنزلة العظمى بين صانعي الأسلوب وقساورة البيان، رغم أن مؤلفاته النثرية قليلة جدًّا، تكاد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولكن بيانه ترك بصمة قويةً بالغة في العقول والقلوب والأسماع.

والكتابة لم تكن عنده ترفيهًا، ولم تكن مجرد أفكار تصول في رأسه فيضعها كما بدت له أول وهلة، بل هو رجل لا تزال الفكرة تعتمل في رأسه وتنمو وتكبر حتى تستويَ على سُوقها، فتَخرُجُ تامَّةَ الخَلْق، مكتملةَ البنيان، وليس أقدر على وصف حالة الأديب لحظة معاناة الكتابة غير الأديب نفسه، فلندعه هو يحدثنا عن نفسه حين يتهيأ للكتابة؛ إذ يقول في تصوير بليغ:
«حين أتهيأ للكتابة يُخيَّل إلي أن الموضوع قد استقر في نفسي واستوى، وأن الوجه قد استبان واستتبت لي مَذاهبُه، وعندئذٍ أكون كالذي يَرى جَنّة مترامية الأطراف من المنظر الأعلى؛ كأنها زُوِيت لي في رُقْعة يحيط بها البصر، فيَرى أَفْنانَ شجرها، وتناويرَ أثمارها، وتَخاريجَ ألوانها... فإذا أخذتُ مكاني وأمسكت القلم وبدأت أكتب، فكأني قد انحدرت من سماء مَرْقَبتي، وأفضيت إلى سَوادها، وأجدني وقعتُ على حواشي حَرَجةٍ مظلمة الجوانب (والحرجة: الشجر المجتمع الملتف، لا يقدر أحد أن ينفذ فيها)» (أباطيل وأسمار ص423).


تلك هي الكتابة عند العلامة شيخ العربية في العصر الحديث محمود محمد شاكر، ولم تكن هذه العبقرية الفذة في الأسلوب والتعبير وليدة الفجأة والحظ والصدفة، وإنما حازها الشيخ بعد طول معاناة ومراس، وقراءة واطلاع، واستظهار أساليب كبار الكتاب شعرًا ونثرًا، فما هي مصادره التي انحدر إليه منها هذا الأسلوب الجبار؟ ومن الذي كان له أقوى التأثير على فكر الشيخ وثقافته؟ هذا ما سنعرفه في العنصر التالي بإيجاز.


المصادر التي أثرت في ثقافته:
لا شك أن لكل أديب مصادرَ أثرت في أسلوبه وشخصه، وطريقة تفكيره، والعواملُ التي أثرت في شاكر كثيرة جدًّا، وسنحاول أن نُجْمِلَها فيما يلي:
1) نشأته في بيت عالم من أعلام العصر الذي عاشه وهو أبوه محمد شاكر ذلك الأزهري الكبير وهو من كبار علماء عصره.

2) أخوه أحمد شاكر الذي كان مهتمًّا بالتحقيق إلى حد بعيد فحقق ديوان السنة الأضخم (مسند أحمد بن حنبل)، وحقق (الرسالة للشافعي)، ثم حقق بعد ذلك تفسير الطبري بمشاركة أخيه محمود، وبذلا مجهودًا جبارًا في فك مغاليق هذا الكتاب.

3) الشعر، لقد كان للشعر دور كبير في تكوين ثقافة شاكر الأدبية، فقد أحس شاكر بغربة في التعليم الذي قرره دنلوب، وأحس بتضاؤل لغته العربية أمام الأجنبية، وهو الذي نشأ في بيت أزهري يعتز بدينه ولغته كما أسلفنا، فذهب إلى الجامع الأزهر واستمع إلى مطارحة الشعر، وكان ديوان المتنبي هو المائدة العامرة التي يلتفون حولها فيقرؤونه ويتناشدون وأكب على شرح ديوان المتنبي لليازجي ليلا ونهارا حتى حفظ الديوان كله، وتمكنت العربية بقدر كبير في وجدانه.

4) اتصاله بشخصيتَينِ من كبار عصرهما؛ هما: المرصفي والرافعي، وقد تولى المرصفي تدريس العربية في الجامع الأزهر، وكان حامل لوائها في ذلك الوقت، وتخرج عليه كبار الأدباء والمفكرين في ذلك العصر؛ كالزيات، وعلي عبد الرازق، وحسن السندوبي، وأحمد شاكر، وعلي الجارم، وطه حسين، واتصل به شاكر وحضر دروسه، وقرأ عليه (الكامل) للمبرد، و(حماسة أبي تمام)، وشيئا من (أمالي القالي). أما الرافعي فكان تأثيره في شاكر كبيرًا جدًّا.

5) وكذلك تَعلُّمُه الرياضيات فيما بعد أثر على تذوقه وأسلوبه، وقد ألمح هو إلى ذلك في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)؛ إذ قال: «علمني كتاب سيبويه يومئذٍ أن اللغة هي الوجه الآخر للرياضيات العليا».

يقول في مقال له بعنوان «إياكم والمهادنة» (جمهرة المقالات 1 /490): «إنما حملتُ أمانة هذا القلم لأصدع بالحق جِهارًا في غير جَمْجَمةٍ ولا إِدْهانٍ، ولو عرفتُ أني أعجزُ عن حَمْلِ هذه الأمانةِ بحقها، لَقَذَفْتُ به إلى حيث يَذِلُّ العزيز ويُمْتهَنُ الكريم».


ثم يواصل في المقال ذاته: «وأنا جندي من جنود هذه العربية لو عرفت أني سوف أحمل سيفا أو سلاحا أَمْضَى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نذرت على هذا القلم أن لا يكف عن القتال في سبيل العرب ما استطعت أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكانا أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينهى الناس أو يخدعهم أو يغرر بباطل من باطل هذه الحياة».


وكذلك عزلته التي اعتزلها عن الحياة الأدبية الفاسدة التي وصفها في وقته كان لها أكبر الأثر في تكوين ثقافته وأسلوبه وشخصيته إذ يقول في (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص23، 24: (فإن هذا الإحساس القديم المبهم المتصاعد بفساد الحياة الآدبية، قد أفضى بى... إلى إعادة قراءة الشعر العربي كله أولًا، ثم قراءة ما يقع تحت لدي من هذا الإرث العظيم الضخم المتنوع من تفسير وحديث وفقه، وأصول فقه وأصول دين (هو علم الكلام)، وملل ونحل، إلى بحر زاخر من الأدب والنقد والبلاغة والنحو واللغة، حتى تراث الفلسفة القديمة والحساب القديم وا لجغرافية القديمة، كتب النجوم وصور الكواكب، والطب القديم ومفردات الأدوية، وحتى قرأت البيزرة والبيطرة والفراسة.... بل كل ما استطعت أن أقف عليه بحمد الله سبحانه، قرأت ما تيسر لى منه).


الولوج إلى موضوع البحث:
سأتناول في هذا العنوان خصائص أسلوب شاكر التي تفرد بها عمن سبقه، والتي جعلت لأسلوبه مريدين ومتذوقين.


خصائص أسلوب شاكر:
نظرًا لأن الرجل ينطلق من منطلق إيماني عقدي يدافع فيه عن أمته ودينه ولغته، فالقلم في يده ليس مجرد يراعة تكتب بالحبر، وإنما هو سيف يقطر بالدم، وينير بريقه الدرب أمام أبناء الأمة، ولهذا فهو لا يضع لَأْمَةَ الحربِ أبدًا، وكان لأسلوبه الأدبي من هذا المنطلق بعض السمات التي حددته، وسأوجزها فيما يلي، وهذا مما لم أقف عليه عند أحد؛ إذ لم أجد أحدًا فصَّلَ أسلوبه تفصيلًا كما فعلتُه الآن، إلا أن يكون هناك من تكلم عن أسلوبه كما تكلمت، ولم يَصِلْني، ولم أَقِفْ عليه:
للعلامة شاكر أسلوب مبتدع مخترع لا يشبه من سبقه، وهذه هي قمة وقوة العبقرية الأدبية التي يمكن أن يصل إليها أديب، فشاكر مسبوق بأجيال من الأدباء الراسخين ذوي المكانة وصانعي الأسلوب ومبتكريه، وهو قد شهد في وقته ثلة كبيرة من أصحاب الأسلوب على رأسهم الرافعي، الذي احتفى به شاكر كثيرًا، وأكبَرَ أسلوبَه ووضعه في موضعه اللائق به، وعاصر العقاد، وسيد قطب، والمازني، والزيات، وطه حسين وغيرهم، ولكلٍّ أسلوبٌ وطريقة تختلف عن الآخر قوةً وضعفًا، فالطريق إذن أمامه شاقة وعسيرة، لكنه استطاع أن يجعل لنفسه أسلوبًا أثر في الأجيال التالية له وأكبروه وتَرسَّموا خطاه، حتى عدوه جاحظ وقته، وهو أسلوب قوامه البلاغة في اختيار اللفظة ووضعها في سياقها اللائق بها بعيدًا عن المحسنات البديعية، والإغراق البياني والزخرفة، فتخرج جملته كالذهب لا تشوبه شائبة، ولا عجب فهو الذي يحتفي بالبلاغة والأساليب الأدبية العالية، حتى إنه جعل سبب شهرة مقدمة ابن خلدون إنما هو أسلوبه وفصاحته لا معارفه التي بثها فيها والتي يعرفها كثيرون غيره في الشرق والغرب، انظر إليه وهو يتكلم عن ابن خلدون في (جمهرة مقالاته 2 /674) فيقول: «وأكثَرُ الناسِ على أن ابن خلدون هو أول من اهتدى من العرب إلى هذه الحقائق العظيمة التي أثبتها في مقدمته، فهذا صحيح من ناحية، هي أنهُ أول من دوَّنها جميعها بين دفّتَيْ كتاب، ولكنّي لا أشكُّ أن أهل السياسة والرياسة في الدول العربية في الشرق والغرب كانوا يجيدون ما أجاد ابن خلدون من هذا العلْم، وكانوا يعرفون ذلك حقَّ المعرفة، وهناك أدلة كثيرة على ذلك ليس هذا موضعُ إيضاحها وتفصيلها. وأنا لا أظنُّ أن رجلًا مثل (لسان الدين بن الخطيب) الوزير الأندلسيُّ البارع في السياسة والأدب كان يجهل من هذا ما علمهُ ابن خلدون، بل أرجح الظن عندي أن (لسان الدين) كان على شرف من هذا العلم يكاد يفوق به صديقه ابن خلدون؛ إلا أن ما تهيأ لابن خلدون -من البلاغة التي لا صنعة فيها، ومن دقة العبارة، ومن جودة القياس، ومن براعة الإفصاح عمَّا يترجرج في نفسه وضميره- لم يتهيأ للسان الدين بن الخطيب؛ فقد كان هذا شاعرًا كاتبًا بليغًا على أسلوب غير هذا الذي كان لابن خلدون».


جملته النثرية جملة شامخة منيفة فيها العزة والإباء، تقرؤها بعقلك قبل حسك الأدبي، فتلمس شعورك ووجدانك، وتصيبك بالعزة والأنفة والكبرياء، جملة تحمل إليك شموخ الماضي معبرة عن قضايا العصر خرجت من نفس ما خلقت للراحة بل للتعب والنصب وقيادة الأمة لطريق عزها وشرفها، ولا أكون مبالغا إن قلت: إنك تكاد تسمع لجملته وقع حوافر الخيل المغيرات صبحًا لقوة جرسها، وما تحمله من معانٍ كالشلال الهادر.


صلابة مفرداته وقوتها كأنها صخور تتدهده من قنة جبل عال، فإذا سقطت على الأرض فُصِّلت تفصيلا وفُكَّت رموزها، ونَثَرتْ لك ما في بطنها إذا أحسنت تحليلها تحليلا دقيقا بمنهج شاكر نفسه، فمنهجه في التذوق منثور في تضاعيف كتاباته كلها، وخصوصا كتابه نمط صعب ونمط مخيف، وهو منهج يعني القدرة المعرفية على استنباط الدفائن من مكامن الكلمات، ومعرفة أخفى أسرارها، وأغمض سرائرها (أهم الكتب التي أثرت في فكر الأمة في القرنين التاسع عشر والعشرين ص525).

أسلوبه في تناول القضايا الاجتماعية يعتمد على الجملة الطويلة الخالية من أي زخرفة فنية كما في مقالته تعليم اللغة العربية كقوله في (الجمهرة 1 /152): (ولا بد أن تحزم وزارة المعارف أمرها على خطة واسعة متراحبة ترمي إلى أبعد مدى على أتم حذر؛ ليتسنى لها أن تمحو كل أخطاء الماضي التي لعبت فيها الأيدي الاستعمارية والسياسية بكل ما من شأنه أن يسلب الشعب قدرته على التحفز والتوثب والتجمع، وما ينشئه على الحرية العقلية والنفسية التي ترفعه إلى الدرجات السامية التي يجب أن يرقى إليها كل شعب يريد أن يتحرر ويسود ويفرض مدنيته على الأرض التي يعيش عليها»، فالجملة هنا طويلة جدًّا كما ترى.


زد على ذلك أن محمود شاكر لا يحمل قلمًا، بل سيفًا يحارب به في جبهات متعددة؛ مما جعل جملته قوية مجلجلة مزلزلة، واختار ألفاظًا قدت من الصخر ترسل كأنها شواظ من نار، وأسلوبه أسلوب الترسل غير المسجوع.


واستمع إليه وهو يحارب بقلمه فيقول: (وفي هذا الصدام بين إرث وجودنا، وإرث حضارتنا، وإرث ثقافتنا، وبين هذا الغازي الصليبي المحترق الشديد الدهاء، الكثير الوسائل، المتلفع بألوان من الإغراء والتدجيل، المتذرع بذرائع الغلبة والسيطرة على النفوس والقلوب والأهواء، في هذا الصدام المر لم يبق لنا إلا إحدى اثنتَينِ: إما أن نَستَبْسِل فتكون لنا غَلَبة أهل الحق على شِيعةِ الباطل = وإما أن نفشل ونتنازع فيما بيننا، فتذهب ريحنا كما ذهبت رياح أمم من قبلنا قُضِي عليها الفشل والتنازع أن تصبح أثرًا بعد عين، وبالله نعتصم، وإليه نلجأ، وعليه نتوكل).


ولعل الشيخ أدرك قوة أسلوبه، وأنه لا يتأتى لأي أحد معرفة مراده ببعض مفرداته فيضطر لشرحها أثناء الاسترسال في الكتابة.


هذه سمات أسلوبه في غالب كتاباته، لكنه إنسان ككل الأناسي، تلين جملته في مواضع الرحمة والشفقة والعظة والعبرة، فمقالته في رثاء الرافعي خير دليل على أنه يحسن أن ينتقل من أسلوب صخري إلى أسلوب عذب سلسل (الجمهرة 1/5)، وأسلوبه في هذه الناحية يشبه أسلوب الرافعي إلى حد كبير، فهو يغوص على المعنى، ولا يعتمد على ضخامة اللفظة ومعجميتها بقدر اختياره لها لتناسب السياق الذي تقال فيه، ولتعبر عن عاطفته الجياشة.


نجد أسلوبه الذي قرره في التذوق يشيع في جملته النثرية في كل ما كتب تقريبًا، فهو عندما يرد فكرة على صاحبها يقرأ دوافعها وراءه كرده على سيد قطب رحمه الله في جمهرة مقالاته 1/8: وقد جعل الأستاذ الفاضل يستثير دفائن الإحن والأحقاد... إلخ.


وهو كذلك يعمل على تحرير الألفاظ بكل دقة حتى لا يلتبس الأمر على قارئه في الألفاظ القريبة الدلالة من بعضها بعضا، فيقول في (أباطيل وأسمار ص419):
(من أجل ذلك ينبغي أن ندل على معنى «الدين» عند أهل الكتابَينِ كما هو ظاهر في كتابَيْهِما؛ لكي يظهر الفرق بين معنى الدين عند أهل الإسلام، ومعناه عندهما، وإذا ظهر هذا الفرق استطعنا أن نحدد مكاننا الذي ينبغي أن نقف فيه، وأن نزيل اللبس الذي يؤدي إليه اختلاط معاني الألفاظ على المتكلمين والسامعين، أو على الكاتِبينَ والقارئين، وليس هذا الأمر من اليسر بالمكان الذي يتوهمه المرء عند النظرة الأولى، بل هو أمر شديد التعقيد، أرجو أن أستطيع حل عُقَدِه؛ حتى لا يتورط القارئ فيها، وحتى لا تشتبه عليه السبل في زمان نحن أحوج ما نكون فيه إلى الدقة والتغلغل، والنفاذ إلى أعماق المعاني والألفاظ، بلا حيرة، ولا بلبلة، ولا عِيٍّ عن بلوغ أقصى ما نُطيقُ من التمييز).


وأسلوبه خال من السجع والإفراط في المحسنات البديعية بل يعتمد على اللفظة المعجمية الرصينة، ولكنه يضعها في سياق لا تحتاج معه إلى الإبانة عنها، وهذه هي عبقريته، إلا ما ندر مما كان يضطر في أضيق الحدود أن يشرح معناه بين قوسين.


استخدامه للجملة الرصينة والكلمة الصعبة ليس استعراضًا منه، ولا ينبو الكلام عنه، فلا تحس بأنه يفجؤك باللفظة الصعبة في السياق السهل، بل سياقه كله واحد من مطلعه لنهايته، وهذه هي طبيعة ثقافته التي تشربها من قراءته لكل ما وقع تحت يده من كتب التراث، لذا فأنت ترى أسلوبه يكاد يكون واحدًا في مقالاته وكتبه ونقده غالبًا.


وهو يعتمد على الجمل الطويلة في أسلوبه، واستخدامه للجمل القصيرة نادر جدًّا، وهذه هي طبيعة من ينتهج هذا الأسلوب، ومن تزدحم في رأسه الأفكار، فلا ينتبه لبداية الجملة ونهايتها، بل يهمه أن تكتمل الفكرة التي في رأسه فقط.


وأسلوبه كذلك واضح وصريح، ليس فيه غموض، ولا فلسفة عميقة، فليس مما تختلف فيه الأفهام، وتتضارب في فهمه الآراء، ولا هو يحتاج إلى روية وتلبث في إدراكه، وهو مناسب لطبيعة الدور الذي وضع نفسه فيه، وهو النصح للأمة وشبابها، وتبصيرهم بالخطر الداهم.

وله أسلوب آخر مغاير تمامًا لأسلوبه العام في كل ما كتب، وهو أسلوب يدل على مقدرته القصصية التي لو استغلها جيدًا لصار واحدًا من أهم كتاب القصة، وهو أسلوبه في مقالاته المعنون لها بـ(مذكرات عمر بن أبي ربيعة)، فأسلوبه فيها مختلف إذ يعتمد على الجمل القصيرة، وتلك طبيعة الحوار القائمة عليه المقالات، كما تعتمد على البلاغة في اللفظة، وعلى التشبيهات والصور. والحق أنه لم يكن سابقًا إلى تلك الفكرة، بل سبقه إليها أستاذه الرافعي في وحي القلم في مقالة له بعنوان: (سمو الحب)، وفي مقالة (اليمامتان)، وفي (قصة زواج، وفلسفة المهر) وغيرها.


وإذا تعرض للتحقيق والنقد وتصحيح رواية ورد أخرى، فإن عبارته تكون قاطعة حاسمة لا تقبل التردد والشك في أغلب ما كتب.


يتضح جدًّا في كثير من المواضع أن شاكر متأثر بالرافعي في طريقة تفكيره، مباين له في أسلوبه، وهذا يتضح جدًّا في كتاب «أباطيل وأسمار» مقارنة بكتاب «تحت راية القرآن»؛ فالمعركة متشابهة، وطريقة التفكير والرد متشابهة لحد بعيد، حتى في السخرية، فالكتابان قد مزجا الجد بالسخرية، غير أن سخرية الرافعي سخرية لاذعة متهكمة، وسخرية شاكر من السخرية التي تتخذ شكل الجد، ويكاد يطغى عليها هم صاحبها وضيق صدره بما لا يجعلك تضحك بسببها كما عند الرافعي في «تحت راية القرآن» و«على السفود».


عبارته عنيدة لا تلين لأحد؛ خصوصًا إذا دخل معركة فإنه لا يداهن فيها ولا يجامل، حتى ولو كان مخالفه من أقرب الأقربين إليه، وتلك أمانة وثقة وإخلاص في البحث والنتيجة، وهذه طبيعة الكَتَبةِ المتمكنين أصحاب الرسالة، ومن أدل دليل على ذلك أنه واجه صديقه يحيى حقي بكتابه (نمط صعب ونمط مخيف) بأن أنكر عليه إعجابه بأسلوب جوته في نقده لقصيدة تأبط شرا وإعادة ترتيب أبياتها، وقال إن إعجاب يحيى حقي (نمط مخيف) وهو صديقه القريب، فكيف بغيره؟


ومن سمات أسلوبه مقدرته العجيبة على الوصف، وهذا يذكرنا بشيخنا الجاحظ، فهذا هو شاكر يصف لنا صديقًا من أصدقائه في فكره وعزمه وجداله، وهو صديقه الحساني حسن عبد الله، فيرسم لنا صورة نكاد نلمسها بأيدينا لا مجرد معانٍ ذهنية، يقول شاكر في (أباطيل وأسمار ص424، 425):
(وقبل كل شيء لنا صاحب بعيد الرضا، مقبل على الدنيا بوجه واحد لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا، إذا نظر في شيء رأيته كأنه ينحط إلى أعماقه -أو هكذا يظن- بفكر صارم صلد حديد، فهو لذلك أكثر شيء جدلًا إذا خاصم، وهو إذا قرأ ما أكتب لم يُعْفِني من جداله وإن لم يكشف لي عما في نفسه، بَيْدَ أني لا أكاد أراه حتى أرى الجدال قائمًا نافذًا مُطِلًّا من أسارير وجهه، وتجاليد جثمانه، فإذا ما أردت استثارته ثار عن حشدٍ حاشدٍ من وجوه الاعتراض، ومن التصميم الماضي على الاعتراض، لا يبالي أن يمسك بتلابيبي لِيَرُدَّ فكري إلى فكره، وليس عجيبًا أني أجد متاعًا لا يُمَلُّ في أن أُحِسَّ بقبضته وبِلَزِّه إذا ما لَزَّني إلى مَضيق رأيه؛ وذلك لأني أجد لتعبيره عن نفسه نشوة تحملني على مقارعة حِدّته بحدتي، ولا أزال ألم شعث الكلام المبعثر بيني وبينه، فإما تراضينا واصطلحنا على شيء، وإما تركته على غير رضًا حتى يزداد جداله بينه وبين نفسه عُرامًا وعُنفًا).


هذا كله مع أنه لم يحصل على شهادة جامعية، وكان عضوًا لمجمع اللغة العربية.



ثناء الأدباء على أسلوبه:

يقول حلمي القاعود في كتابه (مدرسة البيان النثري الحديث ص380): «يمكن أن نعتبر محمود شاكر تابعًا لمدرسة البيان الذهني، التي تخاطب العقل والوجدان بالحجة والدليل، مع الاهتمام الشديد بالناحية البيانية، وقد برع فيها جدًّا هو والرافعي».

ويقول مالك بن نبي واصفًا العلامة محمود شاكر في عبارة آسرة (مجلة الدوحة العدد 60 ديسمبر 1980، ص28):

«لو وُجِد الجاحظ الآن لترك مكانه عن طيب خاطر لمحمود شاكر،قرأتَ للبعض؛ ممكنٌ، لكن اقرأ لشاكر تذوب فيه ذوبانًا؛ فهو الطريق إلى ثقافتنا، أما غيره فإما أباطيل وإما أسمار، ما الذي ميزه؟ أنه عرف اللغة تذوقًا؟ ربما، أو لأنه عرفها حارسة الشريعة فدَكَّ بها حصون الحداثيين؟ ربما، أو لأنه عرفها منهج حياة، فجعلها سلاحه في طريق الجهاد؟ ربما، أو لأنه استطاع أن يكون حلقة وصل بين السلف والخلف في عصر قُطّاع الطُّرُق؟ ربما،أو لأنه كان يَنبِضُ بالعلم، وبه ينبض العلم في عصر الأشباح الذين صورهم الحداثي طه حسين في الأيام؟ ربما،أو لأنه - بإذن الله - أحيا وأمات: أحيا المتنبيَ والجُمَحيَّ والمعري والطبري، وأمات لويس عوض وطه حسين، أحيا المحققين واللغويين، ودَكَّ المستشرقين والحداثيين، كان قاطرة يسكنها عبد السلام هارون وأحمد شاكر والنفاخ والسيد صقر، إلى الطناحي وأبي موسي وبشار عواد معروف، ألهذا كان شاكرًا؟
نه أبو فهر أبو العربية وابن الشريعة، يكفيه أني أحبه وأنا أبو جهل في اللغة لا أملك التذوق، ولا أملك البيان، ولا أملك إلا الأمية اللغوية، ومع ذلك حرك وجداني، أخرج من الصخر ماء، كرامات تشبه معجزات الأنبياء،أحسبه -والله حسيبه- للغة القرآن من الأولياء».اهـ.


ويقول الدكتور محمود الطناحي: «إن أسلوبه يبهرك جماله فيعجزك عن وصفه، وغاية ما أستطيع أن أقوله عن هذا الأسلوب الذي لا يشبهه أسلوب لا في القديم ولا في الحديث، إنه أسلوب انحدر من سلالة كريمة، وإن قدرته على التذوق التي واتته بعد دُرْبة طويلة متوارَثة، انطلقت من الشعر الجاهلي الذي هو أنبل كلام العرب وأشرفه بعد القرآن الكريم، ثم استقرت عند القرآن الكريم الذي كان نزوله على النبي العربي حادثة في تاريخ البشر، وقد نمت هذه الدُّرْبة عند شيخنا بطول مُدارَسته للقرآن الكريم الذي هو البيان الإلهي الملفوظ، وقد أفضى به ذلك إلى الإحساس العميق باللفظ العربي في ترجيعه ونغمته في الدلالة والألفاظ والتركيب والصور».


ثم يواصل حديثه قائلًا: «وأسلوب الشيخ أسلوب أديب يمتع قارئه ولا يتعالى، ثم هو أيضًا أسلوب أديب يحترم عقل قارئه، فلا يبهظه باللغو من الكلام، ثم هو يريحه بكثرة الإحالات إلى ما مضى من الكلام ليجعله على ذُكْر من القضية التي يعالجها، ولا يتركه حتى يعينه بتلك الشروح اللغوية التي تلتحم بالكلام التحامًا).اهـ. [قصة قلم 62، 63].


ويقول الشاعر العظيم محمود حسن إسماعيل متحدثًا إلى الأستاذة عايدة الشريف: «لا أستطيع تحديد أبعاد ما حزته من صداقتي لمحمود... لقد زَجَّ بي إلى الشعر الجاهلي، وأمالني مع الشعر الأُمَوي، وطوَّحَ بي مع الشعر العباسي، فأحاطني بلُحْمة الشعر العربي وسَداه جميعًا... وأستطيع القول: إن شعري قبل معرفتي بمحمود كان نبعًا هادئًا، فجعله بحرًا متلاطمًا!).اهـ. [قصة قلم 87].


وأختم بأبيات من قصيدة باذخة مدحه بها الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل؛ إذ يقول:
تعنو العقول، ووجهُ عقلِك أَصْيَدٌ
كالشمس مرصودٌ على أوصالها
أفأنتَ ضيف أديمها وهوائها؟
أم أنت عزف سكونها وملالها
أم أنت رجف جراحها في غمرة
حَشَرَتْ بها النكباتُ كلَّ صِلالِها
أم أنت حرف الضاد في لهواتها
وعلى مرابضها، وفوق تلالها
أوْغَلْتَ في أعماقها وسَكَنْ
تَها: فَجْرًا يُحَوِّم دائما بخيالها
ووقَفْتَ بالمرصاد، كُلَّ مُجَهَّلٍ
يلغو ترد له الصدى بنبالها



ويقول في موضع آخر فأبدع:
وأراك أنت بكل لجٍّ موجَهًا
والهادرَ المشبوبَ من شلالها
وأراك أنت عليمَها وكليمَها
والجازِرَ الشبهاتِ في استدلالها



هذا ما استطعت الوقوف عليه من خصائص أسلوبه في تلك العجالة، معتمدًا على مقالات جمهرة مقالاته، وكتابه (أباطيل وأسمار)، وما يزال في خصائص أسلوبه النثري ما يحتاج إلى مزيد كشف وبحث، وحسبي أني فتحت الباب، فإن أصبت فهي التي أرجو، وإن تكن الأخرى فعذري أني اجتهدت، والمجتهد مأجور بكل حال، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

رحم الله شيخ العربية وحامل لوائها حتى لقي ربه غير متهاون ولا متلجلج.

[1]محمد حسن بركات، أديب وشاعر مصري، وعضو اتحاد كتاب مصر، وباحث بقسم إحياء التراث بمشيخة الأزهر الشريف.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



 

[حجم الصفحة الأصلي: 67.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 65.62 كيلو بايت... تم توفير 2.34 كيلو بايت...بمعدل (3.44%)]