وقفات مع قصة أصحاب الكهف - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 850152 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386293 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 29-05-2020, 03:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي وقفات مع قصة أصحاب الكهف

وقفات مع قصة أصحاب الكهف -1


(وقفة دعوية: أهمية دور الشباب في نصرة الدين)


كتبه/ سعيد محمود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنقف مع قصة أصحاب الكهف وقفات متنوعة: (عقدية - دعوية - فقهية - تربوية - إيمانية).

وهذه أول الوقفات، وهي وقفة دعوية بعنوان: "أهمية دور الشباب في نصرة الدين".

فإنك إذا تأملتَ قصة أصحاب الكهف؛ وجدتَ هذا الأمر ظاهرًا جليًّا، وهو دور الشباب في نصرة دين الله، قال -تعالى-: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى . وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا . هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) (الكهف:13-15).

لقد قام هؤلاء الشباب ونصروا عقيدة التوحيد، وقد بقي أثر موقفهم في قومهم مِن بعدهم؛ فإنه لما مات الملك الكافر رجع الناس الى توحيد الله -عز وجل- بأثر دعوة هؤلاء الشباب الأفاضل، الذين قاموا بإعلان دعوة التوحيد فيهم مِن قبل.

ولذا نقول: إن الشباب هم وقود الدعوة إلى الله -عز وجل-، وهم حملة الدِّين على مرِّ الزمان والتاريخ؛ وذلك لأن الشباب أكثر قبولًا مِن الشيوخ، فأكثر الشيوخ عندهم موانع كثيرة، ومن أعظمها: السن؛ إذ إن كثيرًا منهم يدعي أنه صاحب خبرة، وأنه له علم قديم، فما هذا الذي يأتي به الشباب ونحن لا نعلمه؟! فيكون ذلك حائلًا ومانعًا بينه وبين قبول الهداية والاستجابة، أما الشباب فليس عندهم ذلك.

وتعبِّر عن ذلك أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بقولها: "كانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فَقَدِمَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وقُتِّلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وجُرِّحُوا، قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في دُخُولِهِمْ في الإسْلَامِ" (رواه البخاري)، أي: أن أهل يثرب قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- دارت بينهم معركة، وهي ما تسمى بيوم بعاث؛ دارت بين الأوس والخزرج، قتل في هذه المعركة شيوخهم ورؤساؤهم ولم يبقَ منهم إلا ابن سلول، وهو الذى بقي بعد ذلك من الملأ يصد عن سبيل الله -عز وجل-.

وأما بقية الأوس والخزرج فكان جلهم من الشباب؛ ولذلك كان دخول الإسلام الى المدينة أسهل من مكة، وهذا ظاهر في أحوالهم ودعوتهم، والمواقف في ذلك كثيرة، فمِن ذلك: ما كان مِن شباب وفتيان بني سلمة بقيادة معاذ بن جبل، ومعاذ بن عمرو في دعوة مَن بقي مِن قبيلتهم، وفي قصة إسلام عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- ما يظهر لنا أهمية دور الشباب في الدعوة إلى الله -عز وجل-، وكيف أنهم ابتكروا مِن الوسائل الدعوية المشروعة، ما أقاموا به الحجة على توحيد الله، وبطلان عقيدة الشرك وتعظيم الأصنام.

وكذلك الرعيل الأول في مكة؛ جلهم كانوا مِن الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم العشرين، ولم يكن يقارب النبي -صلى الله عليه وسلم- في العمر إلا أبو بكر.

ولذلك... اعلم أيها الشاب: أنك في مرحلة الشباب تعيش مرحلة مِن أخطر مراحل عمرك؛ إما أن تذهب بها إلى أعلى الجنان، وإما أن تذهب بها إلى أسفل السافلين -والعياذ بالله-؛ فإنها مرحلة القوة؛ ولذلك إذا اهتدى الشباب قويت الأمة، ورفع الدِّين، وهابها أعداؤها، وإذا فجر الشباب ضعفت الأمة، وقلَّ الدِّين وطمع فيها أعداؤها.

انظروا إلى مَن بقي مِن المشركين بعد موقعة "بدر"، يعاند الإسلام والمسلمين ويشتد عليهم، ستجدهم مِن الشباب: كخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن العاص، وصفوان بن أمية؛ كل هؤلاء كانوا مِن الشباب.

وهذا يظهر لنا: أن الشباب سلاح ذو حدين؛ ولذلك فالحذر الحذر مِن الاقتداء بالشباب الماجنين والغافلين، وليعلم الشاب أن هذه المرحلة سيُسأل عنها مرتين يوم القيامة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصالٍ: عَنْ عُمُرِهِ فيمَ أَفْناهُ؟ وعَنْ شَبابِه فيمَ أَبْلاهُ؟ وعَنْ َمالِهِ من أين اكْتَسَبَهُ وفيمَ أنْفَقَهُ؟ وعَنْ علمِهِ ماذا عمِلَ فِيهِ) (رواه البزار والطبراني، وقال الألباني: صحيح لغيره).

فسيسأل الشاب عن العمر مرة بالعموم، ومرة بالخصوص؛ ولذلك خَير ما يغتنم به الشاب مرحلة الشباب هو الالتزام بدين الله -عز وجل-، والعمل لنشر هذا الدين في الخلق؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ... ) وذكر منهم: (وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه... ) (متفق عليه).

فيا أيها الشباب:

إن كنتم تريدون الفوز بالجنان في ظل عرش الرحمن...

إن كنتم تريدون الفلاح والنجاح...

فعليكم بنصرة هذا الدين، والدعوة إليه، كما قام الفتية مِن أصحاب الكهف: (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا) (الكهف:13).

فاللهم اهدِ شباب المسلمين لما تحبه وترضاه.

وللحديث بقية في وقفاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13-06-2020, 05:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قصة أصحاب الكهف

(وقفة إيمانية: فضل البذل والتضحية من أجل الدِّين)


كتبه/ سعيد محمود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الفتية أصحاب الكهف يظهر مِن قولهم وحالهم عظيم تضحيتهم وبذلهم لأجل دين الله -عز وجل-، فهم أبناء ملوك ورؤساء، ومع ذلك لما حالت الدنيا الناعمة من القصور والدثور بينهم وبين قضية عقيدتهم، تركوا ذلك كله لله -عز وجل-، واستعذبوا حياة الكهف الخشنة، لكنها أسعد حياة؛ لأن الحياة الحقيقية هي حياة الأرواح والقلوب؛ فالأرواح والقلوب تحيا بالوحي المنزل من الله -عز وجل-، وأما الأبدان فإنها ربما تتألم قليلًا لخشونة عيش أو شدة محنة، ونحو ذلك، لكن الأرواح والقلوب مروحة منعمة بالوحي الذى يهون على الأبدان ما تلاقيه، وموقف الفتية هذا، كان له الأثر العظيم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الاقتداء بهم في بذلهم وتضحيتهم؛ فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه وأرضاه- أزهى وأرقى وأرفه شباب مكة، لما حال الغِنَى والنعيم الدنيوي بينه وبين دينه، ترك ذلك كله لله -عز وجل-.

ولما راوده أهله على المال والدنيا اختار ما عند الله وهاجر، وكان أول سفير في الإسلام يفتح الله -عز وجل- به المدينة.

ولقد مر مصعب -رضي الله عنه- يومًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بين نفرٍ مِن أصحابه، وقد تخشف جلده، وبلي ثوبه، فلم يكن له إلا بردة واحدة وثوب واحد، وهو الذي كان في مكة من أزهى شبابها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "ما رأيت بمكة أحدًا أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير" (رواه بن سعد في الطبقات).

ومات مصعب -رضي الله عنه- يوم مات فلم يجدوا له كفنًا يسترونه به، يقول الصحابة -رضي الله عنهم-: "... فَكُنَّا إذا غَطَّيْنا بها رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ، وإذا غَطَّيْنا رِجْلَيْهِ بَدا رَأْسُهُ، فأمَرَنا رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، ونَجْعَلَ علَى رِجْلَيْهِ، شيئًا مِن إذْخِرٍ" (رواه البخاري).

لقد ترك مصعب -رضي الله عنه وأرضاه- اللمعان الدنيوي؛ ترك المال، ترك الغنى لما حال بينه وبين قضية عقيدته، وهكذا أصحاب العقيدة يضحون ويبذلون لأجل قضيتهم.

كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يعبِّر عن ذلك من أن نعيم الروح والقلب مع وحي الله القرآن والسنة، هو الحياة الحقيقية، فيقول في سجنه: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنَّتِي وبستاني في صدري، أين رحتُ فهي معي لا تفارِقُني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة".

ويوم أدخل السجن وأغلقوا عليه الباب، نظر إلى الباب، وتلا قوله -تعالى-: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (الحديد:13).

وكذلك فإن أصحاب العقيدة يضحون ولا ينظرون إلى تضحياتهم، مثلهم -إن صح التعبير- كمثل الذي ينطلق يريد هدفًا؛ فسقط أثناء انطلاقه من جيبه قرش صاغ، فهل يلتفت إليه كل العقلاء؟!

لا يلتفتون؛ لأنه لا قيمة له، كذلك أصحاب العقيدة.

لا كما هو حال بعض الناس التائبين حديثًا؛ لا سيما من المشاهير كالممثلين، ولاعبي الكرة، ونحو ذلك، فإن للشيطان على كثيرٍ من هؤلاء مدخلًا، وهو الشهرة، فإذا تركوا هذا المجال؛ ترى كثيرًا منهم يمن على الله وعلى الناس بذلك، ويرى أنه ضحى لأجل ذلك بالمجد والشهرة -كما يقولون!-.

ولذلك تراه يبحث عن الشهرة في مجال الدِّين والتدين!

وسرعان ما يسقط وينقلب ويعود إلى ما كان عليه في السابق -والعياذ بالله-، والتجارب أمام أعيننا كثيرة؛ ولذلك نوصي إخواننا وشبابنا بعدم تسليط الأضواء على أمثال هؤلاء؛ لاسيما في وسائل التواصل ونحوها؛ مما يكون سببًا في هلاك كثيرٍ منهم، نسأل الله العفو والعافية.

وللحديث بقية في وقفاتٍ مقبلةٍ -إن شاء الله-.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13-06-2020, 05:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قصة أصحاب الكهف

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (3)




وقفة دعوية: فضل الهجرة في سبيل الله


كتبه/ سعيد محمود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن فتية أصحاب الكهف ضربوا أروع المثل في هذه القضية؛ قضية الهجرة في سبيل الله -عز وجل- كما هو ظاهر، فإن محور القصة الرئيس هو الإشارة إلى الهجرة من أرض الكفر الى أرض الإسلام، وهي تحمل إشارة -كما تقدم- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أن يستعدوا للهجرة، وأن الله -عز وجل- سينجيهم كما نجَّى أصحاب الكهف.

ولقد ضرب الفتية كذلك أروع المثل في بيان أن قضية المسلم في هذه الحياة الدنيا هي قضية العبودية، وأن الأوطان، والأهل والخلان، والأموال، قضية تأتي تبعًا لذلك؛ فالمسلم يعبد الله -عز وجل- في أي مكان، وهو غير مقيد بالأوطان؛ لا سيما إذا كانت الأوطان والأهل والخلان، يأخذونه الى غير دين الله -عز وجل-: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ . كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ? ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (العنكبوت:56-57).

والهجرة وإن كانت شاقة على النفوس إلا أن فضلها وأجرها يهون ذلك على المهاجر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).

يتسلط الشيطان على الإنسان الذى يريد الهجرة ويقول له: تترك الوطن؟ وتترك العيال؟! تترك الأهل؟ تترك العشيرة؟! تترك مراتع الصبي التي عشت فيها؟! تترك كل هذا ثم تذهب الى مصير مجهول لا تدري ماذا سيكون؟! ثم أنتَ إذا نزلت بأرضٍ فأنت فيها غريب، أنت فيها مقيد كما هو الفرس في الطول -والطول هو الحبل يقيد به الفرس-؛ فهو لا يتحرك إلا في هذا الحد، لا يقدر على أن يسترسل؛ فكذلك أنت أيها المهاجر غريب مقيد، قليل الحركة، خائف على الدوام!

ولذلك لما جاء رجل الى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الهجرة، قال: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ) (متفق عليه)؛ لأن المسلم يُظهِر فيها إعلانًا صريحًا لكل مَن خالف أمر الله -عز وجل- بالمفاصلة، ولو كانوا أقرب الناس إليه، قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:23-24).

ولذلك لا يجوز لمسلم أن يبقى في أرضٍ هو فيها مستضعف يُفتن في دينه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، بخلاف ما نراه ونسمع عنه في هذا الزمان مِن حال كثيرٍ ممَن جهل هذه القضية العظيمة، فصاروا يتنافسون في الهجرة من أرض الإسلام الى أرض الكفار، ويسمون ذلك بأسماء رنانة: (الطيور المهاجرة! - الهجرة الشرعية! - ... )، ونحو ذلك، ولا هجرة شرعية إلا الهجرة من أرض الكفر الى أرض الإسلام؛ هذه هي الهجرة الشرعية، أما الاستثناء وهو أن يعيش في بلاد الكفر لأمرٍ استثنائي، مع شرط حفظ دينه؛ فهذه مسألة لا بد فيها من الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم عن كل حركة وسكنة لأجل ذلك.

فلا يجوز لمسلمٍ أن يقرر العيش في بلاد الكفر دون أن يرجع إلى العلماء ليقرروا له: هل بقاؤه هذا مِن النوع الجائز أم من النوع الممنوع؟ وهل يُحاسَب على بقائه في بلاد الكفر مستضعفًا ويُعاقَب على ذلك عند الله -عز وجل- إذا كان قادرًا على أن يعيش في بلاد المسلمين، أم لا؟ قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:97).

فالذين بقوا في مكة بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن المسلمين وآثروا البقاء مع أهليهم وعيالهم وأموالهم، وهم قادرون على الهجرة؛ حكم الله عليهم بذلك: (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)؛ لأنهم عاشوا في أرض الكفر وعاشوا مع الكفار، مع قدرتهم على الهجرة من هذه البلاد التي يفتن فيها المسلم في دينه.


ونعود للقصة: فإن الفتية قد ضربوا لنا مثالًا رائعًا في أمر الهجرة في سبيل الله -عز وجل-، فقد هجروا الأوطان، والأهل والخلان، والأموال مِن أجل الله -عز وجل-.

وللحديث بقية في وقفاتٍ مقبلةٍ -إن شاء الله-.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 21-06-2020, 02:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قصة أصحاب الكهف


وقفات مع قصة أصحاب الكهف (4)



(وقفة عقدية: العذر بالإكراه رحمة من الله)


كتبه/ سعيد محمود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فهذه قضية عظيمة تظهر لنا في قصة أصحاب الكهف، فإن أصحاب الكهف فروا وخرجوا من هذه الأرض وتركوا المواجهة؛ لأنهم صاروا في حكم المكرهين، فإنهم إن بقوا قتلوا أو فتنوا في دينهم، (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) (الكهف:20).

فكان الخروج خروج اضطرار، وكان الفرار فرار اضطرار وإكراه، وهو مِن نوع خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة بعد المعاناة في دعوة قريش، وبعد أن تعرض للقتل في ليلة الهجرة، فكان الفرار وكان الخروج مع الإكراه، وقد عبَّر عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم وقف على الحزورة، وجعل ينظر الى مكة ويقول: (وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)، فكان خروج الفتية خروج إكراه معتبر يرفع عنهم الاثم، فإن الانسان إذا أكره إكراهًا معتبرًا رُفع عنه الإثم؛ فضلاً عن التكفير إن أتى شيئًا هو من الكفر في ظاهره، مع اطمئنان قلبه بالإيمان.

وفي قصة أصحاب الكهف يظهر لنا أن العذر بالإكراه كان في الأمم من قبلنا على الراجح من كلام أهل العلم، وإن من الادلة على ذلك، قول الله -عز وجل- عن مؤمن آل فرعون: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) (غافر:28)، وجاء في الآثار والاخبار والسنة: "خبر ماشطة بنت فرعون"، وكيف أنها كانت تكتم إيمانها، وجاء في "خبر غلام الاخدود" أنه كان يكتم إيمانه عن الساحر ومَن حوله في أول أمره؛ فهو مِن رحمة الله بالمؤمنين في كل زمان.

وأما حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، فإنه كما قال بعض أهل العلم: "لا مفهوم له؛ لأنه في مقام الامتنان، ولا يؤخذ منه مفهوم مخالفة".

وعلى كل حال؛ فالعذر بالإكراه مِن عظيم رحمه الله -عز وجل- بعباده المؤمنين، سواء كان عامًّا في الأمم قبلنا، أو كان مختصًا بأمة الإسلام؛ أنهم إذا أُكرهوا إكراهًا معتبرًا فارتكبوا ما هو محظور محرم تحت هذا الإكراه المعتبر، فإن الله يرفع عنهم الإثم، بل يرفع عنهم حكم التكفير إن أتوا ما هو في ظاهره كفرًا، لكن بشرط أن تكون قلوبهم مطمئنة بالإيمان كما قال -سبحانه وتعالى-: (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) (النحل: 106).

- ولذا لابد مِن التفريق بين الإكراه المعتبر وغير المعتبر، ومن الإكراه المعتبر: التهديد المعتبر بالقتل والسجن، ونحو ذلك مما لا تطيقه النفوس السوية، بخلاف ما عليه أحوال بعض الناس من التفريط في اعتبار بعض الأمور الموهومة عذرًا وإكراهًا معتبرًا؛ فترى مَن يحلقون لحاهم، ومن تخلع الحجاب، ويخالفون تعاليم الإسلام ويرتكبون المحرمات؛ لأجل وظيفة مرموقة أو منصب أو جاه، أو لمجرد تهديد غير معتبر أو نحو ذلك، ويقولون: نحن معذورون؛ لأننا مكرهون! (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت:10)، أي: يسوي بين إيذاء الناس وعذاب الله -عز وجل-، ويضيع قضيته ويضيع تعاليم دينه، ويظن أن هذا مِن العذر!

- فيُقال لهؤلاء: أين أنتم من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- والصالحين على مدار الزمان؟ الذين كان لهم العذر والإكراه المعتبر، ومع ذلك ثبتوا واختاروا الثبات والعزيمة على الرخصة؛ فأين أنتم مِن هؤلاء؟!

- أين أنتم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يعذبون في أنحاء مكة؛ فهذا بلال -رضى الله عنه- يُعذب ويؤخذ إلى بطحاء مكة في الرمضاء، ويضرب وتوضع الأحجار على صدره، وهو في كل ذلك ثابت، مع أن له رخصة في أن ينطق كلمة الكفر، مع اطمئنان قلبه بالإيمان؛ إلا أنه ظل ثابتًا يردد "أَحَدٌ.. أَحَدٌ!".

- وهذا ياسر والد عمار وأمه، يظلان على ثباتهما حتى لقيا الله -عز وجل- في أول الشهداء في الإسلام، وغيرهم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومِن الصالحين على مرِّ الزمان.

- ومع ذلك نقول: إن العذر بالإكراه مِن رحمه الله بعباده المستضعفين، على الضوابط التي أشرنا إليها من خلال تفصيل أدلة الشريعة كما بينها العلماء.

- وهذا الذي وسع الفتية أصحاب الكهف -رضي الله عنهم- في خروجهم من أرضهم؛ خشية القتل أو الفتنة في الدين.


وللحديث بقية في وقفاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله-.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26-06-2020, 02:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قصة أصحاب الكهف

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (5)



(وقفة تربوية: ضوابط العزلة والخلطة)


كتبه/ سعيد محمود



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الفتية أصحاب الكهف -رضي الله عنهم- لما كانوا يخشون الفتنة في دينهم، فضلًا على تعرضهم للقتل من قومهم كما قال -تعالى-: (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) (الكهف: 20)، كان الاعتزال لهؤلاء المشركين المحاربين لدين الله أمرًا واجبًا، وهو مِن نوع اعتزال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمشركين مِن أهل مكة قبل بعثته، فقد كان يأوي إلى غار حراء -صلوات الله وسلامه عليه- يعتزل ما هم عليه من الشرك والوثنية والباطل.

وهنا لابد لنا مِن وقفة حول كلام العلماء في العزلة والخلطة، فإن العلماء لهم كلام طويل وواسع في هذه المسألة من وجهين:


الأول: اعتزال أهل الكفر والشرك إذا ظهر انعدام الفائدة من مخالطتهم.

الثاني: اعتزال عموم المسلمين أو مخالطتهم لأجل التفرغ للعبادة.

فأما الوجه الأول: فقد بيَّنا في مقالة سابقة من خلال كلام العلماء، وجوب اعتزال الكفار وبلادهم إذا لم يكن في ذلك مصلحة شرعية للمسلم أو الاسلام.

وأما الوجه الثاني: فجماهير أهل العلم على تفضيل الخلطة، وذهبت طائفة الى تفضيل العزلة، ولكل منهم ما يستدل به على مذهبه.

ومن أدلة الجمهور قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقالوا: إن في الخلطة فوائد عظيمة وكثيرة، ومنها: إقامة شعائر الدين، وتكثير سواد المسلمين بالإعانة والإغاثة، والعيادة والجنازة، والعلم والتعليم، ونحو ذلك.

وأما الذين ذهبوا إلى تفضيل العزلة، فقد استدلوا بمثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لما سئل: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) (رواه الترمذي وصححه الألباني)، فقالوا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصح رجلًا مِن أصحابه أن يبقى في بيته، وأن يبتعد عن مخالطة الناس، وأن يبكي على ذنوبه، ويتعبد لله في بيته.

ومِن أدلتهم: أنه لما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: قِيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ في سَبيلِ اللَّهِ بنَفْسِهِ ومَالِهِ)، قالوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (مُؤْمِنٌ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ، ويَدَعُ النَّاسَ مِن شَرِّهِ) (رواه البخاري). وفى رواية مسلم: العطف وليس الترتيب، وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "نِعْمَ صَوْمَعَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ بَيْتُهُ يَكُفُّ لِسَانَهُ، وَفَرْجَهُ، وَبَصَرَهُ" (العزلة والانفراد لابن أبي الدنيا).

والحق -والله أعلم-: أن الأمر يختلف باختلاف الناس، فمن كانت له قدرة على مخالطة الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصبر على مخالطة الناس ويتحمل أذاهم، فالخلطة له أفضل، وأجره أعظم عند الله.

ومَن كان لا يقدر على الأمر والنهي أو كان يقدر على الأمر والنهي، ولكن لا يقدر على تحمل أذى الناس، فالعزلة في حقه أفضل، وهذا اختيار الإمام النووي -رحمه الله-، واختيار كثير من أهل العلم، وهذا الذي يحمل عليه حال بعض الصحابة -رضي الله عنهم- الذين مالوا الى أحد الأمرين.

وأما عزلة الفتية أصحاب الكهف -رضي الله عنهم- فكانت من النوع الأول الذي يدل عليه قوله -تعالى-: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) (الكهف:16).


وللحديث بقية في وقفاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله-.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-07-2020, 03:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قصة أصحاب الكهف

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (6)



وقفة إيمانية: إيواء الله عز وجل لمَن أوى إليه


كتبه/ سعيد محمود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الله -عز وجل- يؤوى من يأوي إليه ويعتصم به، وهذا ظاهر في قصة الفتية أصحاب الكهف -رضوان الله عليهم-: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) (الكهف:16).

فإنهم لما تركوا الأموال والديار والأهل لله -سبحانه وتعالى-، وأووا إلى الكهف، وهو غريب وبعيد عن طبيعة حياتهم، آواهم الله -عز وجل- فصار الكهف الموحش أرفق مكان لهم، (وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا)؛ لا سيما وأنهم لما دخلوا الكهف كان منهم هذا الدعاء الجميل: (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف:10)، فكانت رحمة الله -عز وجل-، وكان الرفق من الله -عز وجل- بأن جعل الكهف لهم أنعم مكان، بل أنعم من الفُرش التي عاشوا عليها، وجعل لهم الكهف آمن مكان، بل آمن من بيوتهم التي كانوا فيها يعيشون، وأجرى الله -عز وجل- ما أجرى عليهم من الكرامات، وهكذا كل مَن أوى إلى الله؛ فإنه يؤويه ويقويه، ويعينه على الصعاب والشدائد.

وهكذا الولي الحفيظ يؤوي ويحفظ مَن أوى إليه، والصور في ذلك كثيرة متعددة؛ فهذا رسول -صلى الله عليه وسلم- يوم خرج مهاجرًا من مكة، فارًّا بدينه من المشركين، وقد أوى إلى الكهف -غار ثور- فآواه الله -عز وجل-، وقد وصل المشركون إلى فوهة الكهف، وصارت أقدامهم على باب الكهف، حتى قال صاحبه -رضي الله عنه-: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فقال الذي أوى إلى الله، ويعلم بأن الله يؤوي مَن أوى إليه: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟) (متفق عليه).

وذكر الله -عز وجل- ذلك في قرآنه: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40).

وهكذا الوكيل -سبحانه وتعالى- يؤوي مَن يتوكل عليه، ويفوِّض أمره إليه، وها هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- خرجوا يوم بدرٍ يلاقون قافلة تجارية؛ فإذا بهم يلاقون جيشًا عظيمًا كبيرًا يضاعفهم في العدة والعتاد والعدد، لكنهم أووا إلى الله -سبحانه- فآواهم الله -عز وجل-: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال:26).

وها هم يوم الأحزاب وقد اجتمعت عليهم الدنيا من حولهم؛ العرب عن بكرة أبيها، واليهود والمنافقون من وراء ظهورهم، حتى اشتد الأمر عليهم، وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار، لكنهم أووا إلى الله -سبحانه وتعالى- فآواهم ونصرهم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:137).

أخي الحبيب: أقبِل على الله، ادخل كهف الإيمان، وكن في إيواء الله -سبحانه وتعالى-، وعلى قدر إقبالك سترى مكانك!

نعم... على قدر إقبالك سترى مكانك، تأمل معي هذا المشهد لتعلم المقصود: بَيْنَمَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ والنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وذَهَبَ واحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وأَمَّا الآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) (متفق عليه).

أخي... قف طويلًا وتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ!)، فأي فضل أعظم؟! وأي رضوان أكثر؟! وأي رحمة أكثر لمَن أوى إلى الله في مجلس ذكر؛ فكيف بمن يأوي إلى الله في كل أحواله؟!

هكذا... على قدر إقبالك على الله سترى مكانك، وقد جاء في الحديث القدسي: (أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه).


فهكذا مَن أوى إلى الله آواه الله، وهيَّأ له من أمره رشدًا، وهذا كان حال الفتية -رضي الله عنهم-: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) (الكهف:16).

وللحديث بقية -إن شاء الله- في وقفاتٍ قادمةٍ.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 07-07-2020, 03:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قصة أصحاب الكهف

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (7)



وقفة عقدية: إثبات كرامات الصالحين


كتبه/ سعيد محمود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن عقيدة أهل السُّنة والجماعة: إثبات كرامات الصالحين.

والكرامة في ملخص كلام العلماء، هي: "أمر خارق للعادة غير مصحوب بدعوى النبوة، يجري على عبد صالح الاعتقاد، صالح العمل".

"فخارق للعادة" يعني: لا يوافق نواميس الحياة، وهذا ظاهر في قصة أصحاب الكهف.

"غير مصحوب بدعوى النبوة": أي أنه لو كان مصحوبًا بدعوى النبوة، فإن كان مدعيه صادقًا فهي المعجزة، وإن كان كاذبًا فهو دجال، وهي مِن خوارق الشياطين، وأما الجزء الأخير من التعريف، وهو أنها "تجري على عبد صحيح الاعتقاد، صالح العمل"؛ فيخرج بهذا ما يأتيه فاسد العقيدة، فاسد العمل: كالسحرة والكهان، والمشعوذين، وأصحاب البدع الخرافية، الذين يأتون بشيءٍ مِن هذه الخوارق في الظاهر: كابتلاع النار، أو المرور عليها، أو اللعب بالحيات، أو ابتلاعها، أو الطير في الهواء، أو المشيء على الماء، فهذه ليست كرامة.

- والكرامة تكون لعباد الله الصالحين تثبيتًا لهم، كما أن المعجزة تكون للنبي -صلى الله عليه وسلم- يتحدى بها قومه، أو يثبِّت بها أتباعه، فهو يعرفها قبل أن تظهر؛ أما الصالح فتجري عليه الكرامة دون أن يعلم، ولا يعلم إلا بعد وقوعها، ثم إن الصالح غير مأمور أن يعلن هذه الكرامة، بل كثير مِن الكرامات تحدث لكثيرٍ مِن الصالحين ولم نعلم بها مِن عظيم صلاحهم؛ لأنهم يكتمون ذلك.

- والأمثلة على كرامات الصالحين كثيرة في الأمم السابقة، وفي أمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن الأمثلة في الأمم السابقة: ما كان مِن كرامة مريم -عليها السلام- التي انقطعت للعبادة في بيت المقدس، فكان يأتيها الطعام والشراب من جميع الألوان، وهي لا تدري، لكنها تعلم أن ذلك من عند الله -عز وجل-، قال -تعالى-: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (آل عمران:37)، وكذلك هاجر أم إسماعيل -عليهما السلام-، فقد أجرى الله -سبحانه وتعالى- عليها من كراماته الكثير، والتي مِن أعظمها: تفجير بئر زمزم؛ هذا البئر الذى خرج في أرض صحراء جرداء لا حياة فيها، ولا ماء.

- وأما الأمثلة في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فهي كثيرة، ومَن شاء الاستزادة فليرجع إلى رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"؛ فقد ذكر فيها صورًا كثيرة، ومنها: ما كان مِن حال الصحابي الجليل عمران بن حصين -رضي الله عنه- فقد كانت الملائكة تنزل تسلم عليه وهو في مرضه؛ وذلك لأنه قد أشتد عليه المرض وطال حتى تقرح ظهره، فكانت الملائكة تنزل تسلم عليه مواساة له.

وهذا أسيد بن حضير -رضي الله عنه- صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما وقف يصلي صلاة الليل نزلت الملائكة تظلله بظلة، فلما أصبح أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ) (متفق عليه)، وهذا أنس بن النضر -رضى الله عنه- يوم أُحد يجد ريح الجنة قبل أن يدخلها، فينطلق في المعركة ساعة الثغرة، وهو يقول: "إنِّي أجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ" (رواه البخاري).

وهذا خبيب بن عدي -رضي الله عنه وأرضاه- كان أسيرًا عند المشركين في مكة، وكان يؤتى بالعنب يأكل منه، ولم يكن في مكة عنبة واحدة، وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقف على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة فيريه الله -عز وجل- أحداث معركة تدور في الشام، فجعل عمر ينظر ويقول: "يا سارية -قائد المسلمين- الجبل، يا سارية الجبل"، أي: يا سارية الزم الجبل بالجيش، فلما رجع جيش المسلمين، أخبر سارية القائد أنه سمع صوت عمر -رضي الله عنه-!

- فمظاهر الكرامات في الأمة كثيرة، ولا تزال -والحمد لله-، وإن قلَّت في المتأخرين، ولكن الكرامة ثابتة وموجودة في الأمة الى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، جعلها الله -عز وجل- للصالحين من عباده تثبيتًا لهم، وكذلك تأييدًا لمنهجهم.


- وهكذا أجرى الله -عز وجل- مِن الكرامة على الفتية أصحاب الكهف الكثير تثبيتًا لهم، وتأييدًا لمنهجهم وعقيدتهم.

وللحديث بقية في وقفاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله-.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 07-09-2020, 06:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قصة أصحاب الكهف

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (8)

(وقفة تربوية: فضل الصاحب الصالح)










سعيد محمود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمَن صاحب أهل الخير نال مِن بركتهم؛ هذا المعنى الطيب ظاهر بوضوحٍ في قصة أصحاب الكهف حيث نال حيوان بهيم (وهو كلب الفتية) بركة صحبتهم، قال الله -تعالى-: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) (الكهف:18).

قال أبو الفضل الجوهري -رحمه الله-: "ان مِن أحب أهل الخير نال مِن بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم، فذكره الله في محكم تنزيله".

وقال القرطبي -رحمه الله-: "فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين، بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصِّرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي -صلى الله عليه وسلم- وآله" (تفسير القرطبي).

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "شملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم مِن القوم على تلك الحال، وهذه فائدة صحبة الأخيار" (تفسير القرآن العظيم).

فصحبة أهل الخير باب من أبواب الأعمال الصالحة إذا قصرت بالمسلم الأبواب الأخرى، فصحبة الصالحين ومحبتهم ترفع المسلم إلى درجتهم وإن لم يعمل بأعمالهم، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: بينما أَنَا وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- خَارِجَيْنِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِينَا رَجُلًا عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ما أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قالَ فَكَأنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قالَ: (فأنْتَ مع مَن أَحْبَبْتَ). قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)، قَالَ أَنَسٌ: "فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ" (متفق عليه).

وصحبة الأخيار والصالحين درجات، ومِن أعظمها: اتخاذهم أصدقاء وخلان للإنسان، فإن الصديق والخليل الصالح خير عون على الدنيا والدين، ففي الحديث: (قَالَ: هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) (رواه البخاري)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ... )، وذكر منهم: (وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ) (متفق عليه).


وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ مِن عبادِ اللهِ لَأُناسًا ما هم بأنبياءَ ولا شُهداءَ، يغبِطُهم الأنبياءُ والشُّهداءُ يومَ القيامةِ بمكانِهم مِن اللهِ -تَعَالىَ-) قالوا: يا رسولَ اللهِ، تُخبِرُنا مَن هم؟ قال: (هم قومٌ تحابُّوا برُوحِ اللهِ(4) على غيرِ أرحامٍ بَيْنَهم، ولا أموالٍ يتعاطَوْنَها، فواللهِ إنَّ وجوهَهم لَنُورٌ، وإنَّهم على نُورٍ، لا يخافونَ إذا خاف النَّاسُ، ولا يحزَنونَ إذا حزِن النَّاسُ)، وقرَأ هذه الآيةَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ولقد عبَّر السلف -رحمهم الله- كذلك عن فضل الصديق والخليل الصالح في الدنيا والآخرة بدررٍ مِن القول؛ قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لِقَاءُ الْإِخْوَانِ جَلَاءُ الْأَحْزَانِ"، وقال بعض السلف: "رُب صديق أودُّ من شقيق"، وقال آخر: "أَفْضَلُ الذَّخَائِرِ أَخٌ وفِيٌّ"، وقال أخر: "صديق مُسَاعدُ عضدٌ وَسّاعدً" (أدب الدنيا والدين).

وعبَّروا عن فقدان الخليل الصالح وصاحب الخير بأن ذلك مصيبة تنزل بصاحبه؛ قال الامام أحمد -رحمه الله-: "إذا مات أصدقاء الرجل ذل" (طبقات الحنابلة). وقال سفيان بن عيينة: "قال لي أيوب: إنَّهُ لَيَبْلُغُنِي مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ إخْوَانِي فَكَأَنَّمَا سَقَطَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِي" (الآداب الشرعية)، وقال الخليل بن أحمد: "الرجل بلا صديقٍ كاليمين بلا شمال".

وقال الشاعر:

لـكـل شـيء عَـِدمْـتَه عـوضٌ وما لفقدِ الصديق مِن عوض

وقال جعفر بن محمد: "لقد عظمت مكانة الصديق، ألم تسمعوا قوله -تعالى- في أهل النار: (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ . وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (الشعراء:100-101)".


نسأل الله أن يجمعنا على محبته.

والحمد لله رب العالمين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 07-09-2020, 06:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قصة أصحاب الكهف

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (9)
وقفة عقدية: وجوب الإيمان بالبعث والحساب










كتبه/ سعيد محمود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن أعظم الدروس المأخوذة من القصة، هو بيان قضية البعث والحساب بعد بيان قضية التوحيد، فقد قال الله -تعالى- بعد بعث الفتية: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ) (الكهف:21).

- فلقد كان مِن بركة دعوة الفتية -رضي الله عنه- في مدينتهم قبل خروجهم بثلاثة قرون أن آمن كثير من أهل المدينة، لا سيما بعد موت الملك الكافر الذي كان يضطهد دعوة التوحيد، ولكن بقي بعض الناس لا يزالون يتشككون في مسألة البعث والحساب، وأنهم إذا ماتوا لا يبعثون ولا يحاسبون، فكان بعث الفتية ورؤية أهل المدينة لهم جميعًا من أعظم الحجة على المتشككين ونصرة لدعوة الموحدين.

- ولقد كذب كثير من الناس قديمًا وحديثًا بالبعث والنشور، بل هناك ممَن آمنوا بالبعث والنشور والحساب، صورة على غير الصورة التي أخبرت بها الرسل.

- ولقد ذكر القرآن قول المكذبين وذمهم وكفرهم وتهددهم وتوعدهم، قال -تعالى-: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ . وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (الأنعام:29-30).

ويمكننا أن نصنف المكذبين بالبعث والحساب إلى ثلاثة أصناف:

الأول: الملاحدة الذين أنكروا وجود الخالق، ومن هؤلاء كثير من الفلاسفة الدهرية الطبائعية، ومنهم الشيوعيون في عصرنا، وهؤلاء ينكرون صدور الخلق عن الخالق، فهم منكرون للنشأة الأولى والثانية، ومنكرون لوجود الخالق أصلًا.

- ولا يحسن مناقشة هؤلاء في أمر المعاد والبعث والحساب، بل يناقشون في وجود الخالق، ووحدانيته أولًا، ثم يأتي إثبات المعاد بعد ذلك؛ لأن الإيمان بالمعاد فرع عن الإيمان بالله.

الثاني: الذين يعترفون بوجود الخالق، ولكنهم يكذبون بالبعث والنشور، ومن هؤلاء العرب الذين قال الله فيهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (لقمان:25)، وهم القائلون فيما حكاه الله عنهم: (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَ?ذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَ?ذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (النمل:67-68)، وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يدعون أن قدرة الله عاجزة عن إحيائهم بعد إمامتهم، وهؤلاء هم الذين ضرب الله لهم الأمثال، وساق لهم الحجج والبراهين لبيان قدرته على البعث والنشور، وأنه لا يعجزه شيء.

- الثالث: الذين يؤمنون بالمعاد على غير الصفة التي جاءت بها الشرائع السماوية، ومن هؤلاء اليهود والنصارى الذين ينكرون الأكل والشرب والنكاح في الجنة، ويزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح، وهم يقرون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمها وعذابها (مجموع الفتاوى لابن تيمية 2/162 بتصرفٍ، القيامة الكبرى للأشقر، ص 70 بتصرفٍ يسيرٍ).

- وأما أهل التوحيد فهم يؤمنون بأن البعث خلق جديد، يعيد الله فيه العباد أنفسهم، ولكنهم يخلقون خلقًا مختلفًا شيئًا ما عما كانوا عليه في الحياة، فمَن ذلك أنهم لا يموتون مهما أصابهم البلاء في الآخرة، قال -تعالى-: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) (إبراهيم:17)، وعن عمرو بن ميمون الأودي قال: "قَامَ فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَقَالَ: يَا بَنِيَّ أَوَدُّ، أَنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، تَعْلَمُنَّ أَنَّ الْمَعَادَ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، ثُمَّ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ إِلَى النَّارِ، إِقَامَةٌ لَا ظَعْنَ، وَخُلُودٌ فِي أَجْسَادٍ لَا تَمُوتُ" (حلية الأولياء).

- وأهل الإيمان يؤمنون بأن البعث والحساب من مقتضى حكمة الله في خلقه، فالله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان الطريق الذي يعبدونه به، فمن العباد من استقام على طاعة الله، ومنهم من رفض الاستقامة على طاعة الله، أفيليق بعد ذلك أن يموت الصالح والطالح، ولا يجزي الله المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ) (القلم:35).

إن الكفرة الضالين هم الذين يظنون أن الكون خُلق عبثًا وباطلًا لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح، والكافر المفسد، ولا بين مصير التقى والفاجر، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ . أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِين َ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص:27-28).


وللحديث بقية في وقفاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله-.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 29-10-2020, 08:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع قصة أصحاب الكهف

وقفات مع قصة أصحاب الكهف (10)
كتبه/ سعيد محمود


وقفة عقدية: بناء المساجد على القبور









الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإنه قد يتوهم بعض أصحاب البدع مِن المعظِّمين للقبور والأضرحة: أن في القصة دليلًا على جواز بناء المساجد على القبور والعكس، وظنوا أن في قول الله -عز وجل- حكاية عن أهل المدينة لما وصلوا إلى كهف الفتية: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) (الكهف:21)، دليلًا على جواز بناء المساجد على القبور، أو جعل القبور في المساجد.

وهذا ظن باطل مردود في الجملة مِن وجهين:

- الوجه الأول -كما قالت طائفة من أهل العلم-: أن هذا على أحسن أحوال هؤلاء كان في شريعة مَن قبْلنا، أي: أن هذا كان جائزًا في شريعتهم هم، وليس في شريعتنا أهل الإسلام، وهذا الوجه وإن ذكره طائفة من أهل العلم إلا أنه مرجوح؛ لقوله -تعالى-: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) فلا مناسبة لذكر وصف غلبتهم على الأمر، وهو السلطان والنفوذ والكلمة؛ إلا لأجل أنهم كانوا يجهلون الحكم الشرعي فغلبوا أهل الحق بسلطانهم؛ ولذلك قال كثيرٌ من العلماء: إن هذا كان بسبب جهل هؤلاء أصحاب النفوذ والسلطان، وهذا هو الوجه الثاني.

- وعلى القول الأول أو الثاني؛ فإن ذلك محرم في شريعتنا، فلا يجوز بناء المساجد على القبور والعكس؛ لقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهي تحكي لنا مشهد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ومعلوم أن الأنسان في آخر حياته إذا تكلم بشيء تكلم بأهم الأمور عنده، وأهم الأمور عند النبي -صلى الله عليه وسلم-: أعظم قضايا الدين؛ تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له، فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) تَقُولُ عَائِشَةُ: "يُحَذِّرُ مِثْلَ الَّذِي صَنَعُوا" (متفق عليه)، أي: إياكم أيتها الأمة أن تفعلوا ذلك.

- ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤكِّد على ذلك ويكرره في حياته في كل مناسبة تتعلق بذلك، ومِن ذلك: ما حكته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان جالسًا بين بعض أزواجه يومًا ومِن بينهن أم حبيبة وأم سلمة -رضي الله عنهما-، وكلتاهما هاجرت الى الحبشة في الفترة المكية، فجلسن يحكين عن المعابد والكنائس اللاتي رأينها في الحبشة، ويذكرن له ما كان فيها مِن تصاوير، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِيكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) (متفق عليه).

- وكل هذا يدل على أن هذا محرم في شريعتنا، وقد نهانا ربنا -سبحانه وتعالى- عن تعظيم ودعاء غيره في بيوته، فقال -سبحانه-: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (الجن:18).

وهذا يأخذنا إلى الجانب الفقهي في هذه الوقفة، وهو حكم الصلاة في هذه المساجد؟

والجواب عن ذلك مرجعه إلى كتب الفقه المفصلة، لكن في جملة يسيره نقول: إن العلماء تكلموا عن ذلك بتفصيل وهذا لتغير أحوال الناس في ذلك، فإن مِن الناس مَن يذهب إلى هذه المساجد التي فيها الأضرحة والقبور قاصدًا إياها؛، فهذا على الأصح عند العلماء تبطل صلاته ويأثم، وأما مَن لم يقصدها ووقع ذلك اتفاقًا لا قصدًا فقد اختلفوا فيه اختلافًا واسعًا، وأصح الأقوال في ذلك: أن صلاته صحيحه مع الكراهة الشديدة؛ لأنه لا يجوز الصلاة في هذه المساجد، فالإنسان الذي يصلي في هذه المساجد صلاته محل جدل وخلاف بين العلماء؛ إما باطلة، وإما مشكوك فيها، وعلة النهي عن ذلك أنها ذريعة للشرك؛ وذلك لأن الأمم من قبلنا كان الشرك فيهم بسبب الأضرحة، وبسبب قبور الصالحين، هذا بالنسبة لقصة أصحاب الكهف.

- وهناك شبهه أخرى يطرحها أصحاب بدعة تعظيم الأضرحة فيقولون: ما تقولون في المسجد النبوي؟ وهل تمنع الصلاة فيه؛ لأن فيه قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!

- والجواب باختصار شديد جدًّا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما دفن في المسجد، ولكن دفن في حجرة عائشة -رضي الله عنها- وظل ذلك حتى عام ثمانية وثمانين من الهجرة، وكان الأمر في عهد الخلفاء إذا أرادوا توسعة المسجد فكانوا يوسعونه في الجهات الثلاث، ولا يتطرقون الى هذه الجهة التي فيها قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قام أحد الأمراء الأمويين بقصد توسعة المسجد بضم الجزء المحيط لحجرة عائشة -رضي الله عنها- والتي فيها قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فضمه إلى المسجد، وقد نهاه بعض السلف في هذا الوقت، فلم يلتفت إلى ما قالوا.

وكذلك لا يجوز لأحدٍ أن يقول: إن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فلا نصلي فيه؛ فهذا مردود لفضيلة الصلاة في هذا المسجد، فإن الصلاة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- تعدل ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ثم إن المسجد النبوي فيه قطعة هي من الجنة، أو فيها ما فيها من معاني روح الجنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما بيْنَ بَيْتي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّةِ) (متفق عليه)، والكذابون الجهلة يحرِّفون هذا الحديث فيقولون: "ما بين قبري ومنبري"، وهذا كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وعليه فإنه لا يجوز للمسلم أن يصلي في المساجد التي فيها قبور، ولا يجوز للمسلمين أن يقيموا على القبور مساجد والعكس، فإن هذا من سنة أهل الكتاب الملعونين على ذلك الفعل، وهو من ذرائع الشرك بالله -عز وجل- لما يحدث عند هذه القبور.

- ومَن أراد أن ينظر فليذهب إلى قبر البدوي وأبي العباس والحسين، وغيرهم، وسيرى مظاهر الشرك -والعياذ بالله- مِن سؤال الناس لأصحاب الأضرحة الشفاء والنجاح، والفلاح لهم ولأولادهم وأزواجهم وغير ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والخلاصة: أن الآية في قصة أصحاب الكهف: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) ليست دليلًا لأصحاب تعظيم الأضرحة والقبور مِن الشيعة والصوفية ومِن على شاكلتهم.

- فنصوص الشريعة المحمدية تنهى عن ذلك؛ فليحذر المدعون محبته -صلى الله عليه وسلم- مِن مخالفة شريعته: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).


وللحديث بقية في وقفاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله-.

والحمد لله رب العالمين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 157.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 151.60 كيلو بايت... تم توفير 6.11 كيلو بايت...بمعدل (3.88%)]