معالم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته بأسرته - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 573 - عددالزوار : 92950 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 118 - عددالزوار : 56999 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 81 - عددالزوار : 26305 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 35 - عددالزوار : 745 )           »          كلام جرايد د حسام عقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 41 )           »          تأمل في قوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره... } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          بيان معجزة القرآن بعظيم أثره وتنوع أدلته وهداياته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          { ويحذركم الله نفسه } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الأسرة المسلمة > ملتقى الأمومة والطفل

ملتقى الأمومة والطفل يختص بكل ما يفيد الطفل وبتوعية الام وتثقيفها صحياً وتعليمياً ودينياً

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 31-03-2020, 05:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,671
الدولة : Egypt
افتراضي معالم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته بأسرته

معالم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته بأسرته
عراقي محمود حامد


مقدمة
الحمد لله الرحمن الرحيم الرؤوف الحليم، الذي أرسل رسوله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغُرِّ المَيَامين الرُّحمَاء الحُلَماء الطيبين، ومن سار على سبيلهم، واقتفى آثارهم إلى يوم الدين.
وبعد، فالرسالة المحمدية كانت ولا تزال وستظل- بإذن الله- إلى أن يرث - سبحانه - الأرضَ ومَن عليها- رحمة للعالمين، نزلت لتستنقذهم من متاهات الماديات، وغياهب الشرك والضلالات، وأتون الحروب والصراعات، وضياع الأخلاق والمكرمات، وشقاء القلوب والأرواح والأبدان البائسات، إلى نور التوحيد، واطمئنان القلوب، وإسعاد النفوس، وعزِّ الدنيا والآخرة.
وإذا كانت الرسالة بهذا الوسم؛ فلا شك أن صاحبها كذلك، موسوم بالرحمة في أعلى صورها، وأكمل ما يكون عليه بشرٌ خُلِق واختير لهذه المهمة الجليلة، والغاية النبيلة؛ قال - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107]، وقال - سبحانه -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، فبلغ - صلى الله عليه وسلم - في رحمته المنزل المنيف الذي لا يدانيه فيه بشر، كما بلغ ذلك في سائر أخلاقه؛ لذا امتدحه ربه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4].
هذا مع أن الله- سبحانه - أرسله على حين فترة من الرسل في زمن كان العالم يعاني فيه أزمةً ظاهرة في القيم، وأبرزها قيمة الرحمة حتى بين الأرحام؛ فإنَّ هذا الخُلق كاد أن يكون معدومًا وقتها؛ إذ كيف نفسِّر ظاهرة وأد البنات، والحروب التي كانت تشتعل بين الشعوب والقبائل لأتفه الأسباب مدمرة طاحنة مستمرة لعدة سنوات، لا يُرقب فيها رحمًا ولا خُلُقًا.
في هذه الأجواء التي تفتقد الرحمة بكل معانيها ومظاهرها- أرسل الله - تعالى - نبيه الرحمة المهداة؛ ليكون رحمة للعالمين، وليضع أسسًا للتعامل تكون فيها الرحمة غالبة للخصومة، ويكون فيها العدل مضبوطًا بالرحمة، بل تكون فيها الحربُ نفسُها غيرَ خالية من الرحمة.
فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أرحمَ الخَلق بالخَلق؛ وكانت هذه السمة البارزة في حياته منذ طفولته إلى أن لحق بربِّه.
ومع أن الله - تعالى - لم يرسله إلا رحمة للعالمين، إلا أنه - سبحانه - قد اختصه بكل خُلُق نبيل؛ وطهَّره من كل دَنَس، وحفظه من كل زلل، وأدبه فأحسن تأديبه، ورفع ذِكره على العالمين، وجعله على خلق عظيم.
وجمع فيه صفات الجمال والكمال البشري، فسمت روحـُه الطاهرة بعظيم الشمائـل وجليل الخِصال، وكريم الصفات والأفعال، حتى أبهرت سيرته القاصي والداني، والحاضر والبادي، والصديق والمُعادي، لذلك يصفه شاعرُه حسانُ بن ثابت - رضي الله عنه - بقوله:
وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي **** وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ **** كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ[1]
ولقد ظهر هذا كله في سيرته - صلى الله عليه وسلم - المباركة، وهَدْيه المُشرَّف قولًا وفعلًا
وكان هو نفسه - صلى الله عليه وسلم - من مظاهر رحمته - تعالى -بخلقه أجمعين إذ أرسله - سبحانه - رحمة للعالمين.
ولما كانت رحمةُ المرء ولدَه وأمه وأباه وزوجَه وأخاه وقريبه رحمةً فطريةً، يستوي فيها سائر الخلق إلا من تحجَّر قلبه، ونُزِعت منه الرحمة- دعا الرؤوف الرحيم - صلى الله عليه وسلم - الناسَ كافة إلى التراحم فيما بينهم، وجعل ذلك شرطًا لتحصيل رحمة الرحمن الرحيم جل في علاه؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ؛ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[2].
إذ يَعتبر - صلى الله عليه وسلم - البشريةَ جميعها أسرة واحدة تنتمي إلى ربٍّ واحد، وإلى أبٍ واحد، وإلى أرض واحدة؛ لذا نادى فيهم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لا فَضْلَ لعربيٍّ على عَجَمِيٍّ، ولا لِعَجَميٍّ عَلَى عَرَبيٍّ، ولَا لأحْمَرَ على أَسْوَدَ، ولا لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلَّا بالتَّقْوَى))؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]...» الحديث[3].
ولكن لما حاد بعضُ الناس عن هذا الهدي النبوي والخلق النبيل، وهو خلق التراحم- نشأ الشقاق بين الناس، حتى وصل الحال إلى وقوع التدابر والتقاطع بين الزوج وزوجته، وبين الأب وأولاده، وبين الرجل وأقاربه، بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، وكل هذا نتيجة طبيعية لبعدنا عن التخلق بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة خلق الرحمة، وأخص من ذلك رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأسرته وأهل بيته.
وعليه فمن أراد أن يحيا حياة هانئة بين أهله؛ فلينظر كيف كان يعامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهله، وعليه أن يقتفي أثره، وأن يتلمس هديه في معالجة المشكلات الطارئة على الحياة الزوجية، وأن يُقايس بين ما قد يحدث له وبين المواقف التي عالجها - صلى الله عليه وسلم - في حياته الزوجية ومعاملته لأهله.
فدعوةٌ للرجوع إلى سيرة خير العباد ليتبين لنا بجلاء تلك الرحمة وهذا النُّبل في التعامل مع الناس جميعًا؛ فما الظن بالتعامل مع أهله؟! وقد قال: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلي))[4]، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا كبيرًا.
وقد وفَّقني الله - تعالى - لكتابة هذا البحث؛ لبيان هذه الحقائق، وليكون نبراسًا في تعاملنا وأخلاقنا وسلوكنا خاصَّةً فيما يتعلق بـ«معالم رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في علاقته بأسرته»، وقد اشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الرحمة، وأهميتها، وبيان منزلة رحمته - صلى الله عليه وسلم -.
أولًا: تعريف الرحمة، في اللغة، وفي الشرع، ثم بيان مقتضى الرحمة، وغايتها.
ثانيًا: أهمية الرحمة.
ثالثًا: بيان منزلة رحمته - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الثاني: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته، وذريته (أولاده البنين والبنات، وأحفاده).
أولًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته، وبعض مظاهر رحمته - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته.
ثانيًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بذريته (أولاده البنين والبنات وأحفاده).
المبحث الثالث: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأصهاره، وأرحامه (أعمامه، وأخواله، وعماته، وباقي أرحامه، وأقاربه من الرضاعة).
أولًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأصهاره.
ثانيًا: رحمته بأرحامه.
ثالثًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأقاربه من الرضاعة.
المبحث الرابع: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بخدمه ومَوَاليه.
ثم الخاتمة.
المبحث الأول: تعريف الرحمة، وأهميتها، وبيان منزلة رحمته - صلى الله عليه وسلم -
أولًا: تعريف الرحمة:
الرحمة في اللغة: الرقة والتعطف[5].
أما الرحمة في الشرع فهي «رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وتستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة»[6]، وهي صفةٌ ثابتةٌ لله على ما يليق بجلاله وكماله - سبحانه -، كما هو منهج أهل السنة والجماعة.
ومقتضى الرحمة بين الخلق: الانتصار للمظلوم، والأخذ على يد الظالم، ونشر العدل والتراحم بين الناس، ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم.
وغاية رحمة المسلم للناس: تعبيدهم لخالقهم، ودعوتهم إليه بالتي هي أحسن، وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك كله الحظُّ الأَوْفَى والنَّصيبُ الأتَمُّ.
ثانيًا: أهمية الرحمة:
الرحمة في كمالها المُطلق- صفةٌ للرَّحمن الرَّحيم، تباركت أسماؤه؛ فإن رحمته - تعالى -شَملت الكون كله علويه وسفليه؛ ولذلك كان من تسبيح الملائكة واستغفارهم: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)[غافر: 7].
فهي صفة الخالق؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي))[7].
ومن أسمائه- تبارك وتعالى -: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[الفاتحة: 1].
وقال - سبحانه - عن نفسه: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الحجر: 49].
وصفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو رءوف رحيم، وصفة أصحابه فهم رحماء بينهم، وصفة أمته فهي أمة مرحومة متراحمة، وصفة شريعته؛ فأينما وُجِدت المصلحةُ فثَمَّ شرعُ الله، وهذا منتهى الرحمة.
فرسالته - صلى الله عليه وسلم - كلها رحمة، إذ هي تُمَثِّل سبيل الرشاد للتي هي أقوم، وتعاليمها وقيمها وأحكامها هي طوق النجاة، وسبيل التحرر من عبودية العباد والحجر والشجر إلى عبادة الله وحده رب العالمين.
وهي كذلك رحمة في مقاصدها، وتطبيقاتها، ووسائلها، وغاياتها؛ قال - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78].
يقول الطاهر بن عاشور: «وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تُسَاس بالرحمة، وأن تُدفعَ عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة، وما في شريعة الإسلام من تمحض الرحمة- لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم.
فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر؛ قال - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78]، وقال - تعالى -: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)[البقرة: 185]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بُعِثتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَةِ))[8]" ا. هـ. [9].
وكذلك الرحمةُ صفة الأمة المرحومة التي وصفها نبيُّها بمثل قوله: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))[10].
قال السعدي: "يخبر - تعالى -عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المهاجرين والأنصار: أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ) أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذَلَّ أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه"[11].
ثالثًا: بيان منزلة رحمته - صلى الله عليه وسلم -:
الرحمةُ كذلك صفة الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - التي لا تنفك عنه أبدًا، لا في سِلم ولا في حرب، ولا في حَضر ولا في سفر.
وقد سماه ربُّه رَءُوفًا رَحِيمًا؛ قال - تعالى -: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[التوبة: 128]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إِنَّ لِي أَسْمَاء: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا))[12].
وقال جل في علاه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128].
قال ابن كثير: "يخبر - تعالى - أن الله جَعَل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلَّهم، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ- سَعد في الدنيا والآخرة، ومن رَدَّها وجَحَدَها خَسِر في الدنيا والآخرة"[13].
وذكر القرطبيُّ عن الحسين بن الفضل قوله: "لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه قال: (بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وقال: (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحج: 65][14].
وقال الله - عز وجل -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107].
يقول الشنقيطيُّ عند تفسيره لهذه الآية: "ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة: أنه ما أرسل هذا النَّبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم؛ لأنه جاءهم بما يُسعدهم، وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه، ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى"[15].
ولقد تجلَّت مظاهر رحمته - صلى الله عليه وسلم - في حياته كلها، وحفلت بها سيرتُه العَطِرة، وامتلأت بها شريعتُه المُشرَّفة، فرحم - صلى الله عليه وسلم - كلَّ صغير وكبير، وقريب وبعيد، وامرأة وضعيف، بل شملت رحمته الحيوان والجان، وجاء بشريعة كلها خير ورحمة للعباد، وما من سبيل يُوصِّل إلى رحمة الله - تعالى -إلا بينه لأمته، وحضَّهم على التزامه، وما من طريق تبعدهم عن رحمة الله - تعالى -إلا حذرهم منها؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم؛ حتى كادت نفسُه من حرصه الشديد على هدايتهم أن تهلِك؛ فعَاتَبَه ربُّه بقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 3]، وبقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف: 6].
فقد حَازَ - صلى الله عليه وسلم - خصال الكمال في الأنبياء كلهم قبله، واجتمعت فيه، وتخلَّق بجميع أخلاقهم ومحاسنهم وآدابهم، وفَاقَهَم حتى صار أكمل الناس وأجملهم، وأعلاهم قدرًا، وأعظمهم محلًا، وأتمهم حسنًا وفضلًا.
فكان أفضلَ الخَلْق خَلْقًا وخُلُقًا؛ أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، وأمره فهداه، وأعلى ذكره، فقال جل في علاه: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشرح: 4].
وكرَّم نبيُّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الإنسانَ، ورفع شأنه؛ لأن الله كرَّمه وفضَّله، وأنزل الناس منازلهم، وخاطب كل قوم بلسانهم، فكان لكل صنف من الناس حظٌّ من خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاملته ورحمته؛ فوقَّر الكبير، ورحم الصغير، ومازح العجائز، وسلَّم على الأطفال، وحَمَلَهم، وقَبَّلهم، ولَاعَبَهم، ولاطَفَهم.
وبالجملة؛ اختار - صلى الله عليه وسلم - التيسير لأمته؛ وفي ذلك تقول عائشة - رضي الله عنها -: «مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ؛ فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ»[16].
وابتعد كل البعد عن الفحش والتفحش؛ يقول عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: «لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا))[17].
ولما قِيلَ له: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ! قَالَ: ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا؛ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً))[18].
وكان شعاره: ((ما كان الرفق في شيء إلا زَانَه، ولا نزع من شيء إلا شانه))[19].
وحضَّ على الرفق بقوله: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه))[20].
وكان لا يقرُّ الظلم ولا يرضى به، ويحذرهم منه بمثل قوله: ((إن الله يُعذِّب الذين يُعذِّبون الناسَ في الدنيا))[21]؛ هكذا بإطلاق «الناس» أي: كل الناس، فلا ظُلْم لأحدٍ، كما نهى - تعالى - عن ذلك في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حَرَّمتُ الظُّلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا...))[22].
فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير مُنصف، يقيم الحق والعدل اللذين جاء بهما.
ولم لا وهو القائل: ((وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))[23].
وقد بعثه الله - تعالى - رحمة للعالمين؛ فمَن اتبعه - صلى الله عليه وسلم - سَعِد في الأولى والآخرة؛ فيرحمه الله في الدنيا، وينجيه فيها من العذاب والخسف والمسخ والقتل وذل الكفر والجزية، ويُنير قلبه بهذا الدين، ويحييه حياة الطيبين، وفي الآخرة ينجيه من العذاب الخالد الأليم، ويرزقه أعظم نعيم؛ وهو النظر إلى وجهه - سبحانه - الكريم، ويرزقه شفاعة النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم -، ويورده حوضه، ويحشره في زمرته، وتحت لوائه؛ بفضله ومَنِّه، وهو أكرم الأكرمين.
للموضوع تتمة
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 31-03-2020, 05:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,671
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معالم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته بأسرته

معالم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته بأسرته
عراقي محمود حامد



المبحث الثاني: رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته وذريته

أولًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته:
ضرب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من نفسه أروع النماذج البشرية في المعاشرة الزوجية، فكان نِعم الزوج لزوجه، وخير الناس لأهله، ولم لا وهو المُبيِّن للقرآن بأحواله، وأقواله، وأفعاله، فكان الرجلَ الوحيدَ الذي لم تكن له خصوصيات، ولا أمورٌ مستورات محجوبات، بل كان كل ما يفعله يُقَصُّ عنه - صلى الله عليه وسلم - ويُبَثُّ، إذ هو المثل الأعلى والأسوة الحسنة، وإلا فكيف يقتدي به أتباعُه في هذه الأمور الخاصة؛ إن حُجِبت عنهم معرفتها، وحيل بينهم وبينها؟!
فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعامل زوجاته بكل سُموٍّ خُلقي؛ من محبة وعدل ورحمة ووفاء، وغير ذلك مما تقتضيه الحياة الزوجية في جميع أحوالها وأيامها، كما فاضت بذلك كتب السنة والشمائل والسير عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ وسأوجز فيما يلي بعض مظاهر رحمته - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته:
1- محبته - صلى الله عليه وسلم - لهن:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ))[24].
وقد سأله عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قائلًا: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: ((عَائِشَةُ))... الحديث[25].
هكذا بكل صراحة وفصاحة، وهكذا يكون الحب الصادق والوفاء الحق، وهذا رفع لدور المرأة بحق.
2- حُسن عشرته وكريم خُلقه - صلى الله عليه وسلم - معهن جمعاوات:
لقد وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - معيار خيرية الرجال في حسن عشرة الزوجات، فقال: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلي))[26].
فكان من حُسن عشرته - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل بيته دخل من طرفي الباب إمَّا يمينًا وإما شمالًا، ولا يدخل من وجه الباب؛ يتخون أهله، فإذا دخل بيته مَلَك قلوب أزواجه بالعطف والإحسان والرحمة والحنان.
فإذا قُدِّم له طعام إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وما عاب طعامًا قط، ولا سبَّ امرأة ولا شتمها، و«مَا ضَرَبَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ - عز وجل -»[27].
وكان يُكرم ولا يهين، يُوجِّه وينصح، لا يعنِّف ويَجْرَح.
وكان يخدم نفسه ويُعين أهله ويساعدهم في أمورهم، ويكون في حاجاتهم؛ كما تقول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: «كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ»[28].
ومن رفقه وحسن عشرته أنه كان أحيانًا يغتسل مع زوجته من إناء واحد؛ حتى تقول له: ((دَعْ لي))، ويقول لها: ((دَعِي لي))[29].
قال ابن كثير: "وَكَانَ مِنْ أَخْلَاق النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنّهُ جَمِيل الْعِشْرَة، دَائِم الْبِشْر، يُدَاعِب أَهْله، وَيَتَلَطّف بِهِمْ، وَيُوسِعهُمْ نَفَقَته، وَيُضَاحِك نِسَاءَهُ...".
إلى أن قال: "وكان - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَع نِسَاءَهُ كُلّ لَيْلَة فِي بَيْت الّتِي يَبِيت عِنْدهَا، فَيَأْكُل مَعَهُنّ الْعَشَاء فِي بَعْض الْأَحْيَان، ثُمّ تَنْصَرِف كُلّ وَاحِدَة إِلَى مَنْزِلهَا، وَكَانَ يَنَام مَعَ الْمَرْأَة مِنْ نِسَائِهِ فِي شِعَار وَاحِد، يَضَع عَنْ كَتِفَيْهِ الرّدَاء وَيَنَام بِالْإِزَار.
وَكَانَ إِذَا صَلّى الْعِشَاء يَدْخُل مَنْزِله يَسْمُر مَعَ أَهْله قَلِيلًا قَبْل أَنْ يَنَام، يُؤَانِسهُمْ بِذَلِكَ - صلى الله عليه وسلم –"[30].
3- سماحه - صلى الله عليه وسلم - لهن بمصاحبة النساء واللهو معهن:
تقول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: "كنت ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل ينقمعن- أي: يتغيبن منه- فيُسربهنَّ إليَّ؛ فيلعبن معي"[31].
4- ممارسة الرياضة البدنية معهن:
كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُسَابِق عَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ - رضي الله عنها -، يَتَوَدّد إِلَيْهَا بِذَلِكَ؛ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي؛ فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ»[32].
5- وصيته الحادي أن يخفف السير رفقًا بهن في السفر:
عنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي سَفَرٍ، وَكَانَ غُلَامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ، سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ))[33].
قال الإمام النووي: "ومعناه: الأمر بالرفق بهن...، أي: ارفق في سوقك بالقوارير، قال العلماء: سمَّى النساء قوارير؛ لضعف عزائمهن، تشبيهًا بقارورة الزجاج لضعفها، وإسراع الانكسار إليها"[34].
6- مساعدتهن فيما لا يقدرن عليه، وإكرامهن بالمركب اللين:
عن أنس قال: "... فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ"[35].
فانظر- رحمني الله وإياك- إلى مبلغ رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأزواجه، وأكثر من ذلك أن تظل إحداهن هاجرة له اليوم كله حتى تهجر اسمه الشريف، ومع ذلك فهو يغض عن ذلك ويحلم ويصفح، وهو القادر على أن يفارقهن، فيبدله ربه خيرًا منهن، كما وعده بذلك إن هو طلقهن، ولكنه كان - صلى الله عليه وسلم - رؤوفا رحيمًا بالمؤمنين؛ فكيف بخاصته وأهل بيته الأقربين؟!
وقد دل النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمَّته إلى ما تنبغي أن تكون عليه العشرة الزوجية بقوله، كما دلَّهم على ذلك بفعله، والثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب أحاديث كثيرة منها:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: ((استوصوا بالنساء خيرًا))[36]، وفي رواية: ((وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها))[37].
فيا لله العجب! كيف جمع - صلى الله عليه وسلم - بين حسن معاملتهن والوصية بهن، وبيان حقيقتهن؛ ليكون ذلك أدعى إلى قبول وصيته، والعمل بهديه وسيرته.
وجعل - صلى الله عليه وسلم - للعلاقة الزوجية من القدسية الشيء العظيم؛ حيث قال: ((إن شرَّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه، ثم ينشر سرها))[38].
وما أجمل تكريمه - صلى الله عليه وسلم - للزوجة الصالحة بقوله: ((الدنيا مَتاع، وخيرُ متاع الدنيا: المرأة الصالحة))[39].
ثانيًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بذريته (أولاده البنين والبنات وأحفاده):
كان - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا بالأطفال إلى درجة لم يُسمع بمثلها؛ قال أنس - رضي الله عنه -: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم –"[40].
وهذا من تمام رحمته بأولاده وبالصغار عمومًا، وقد ربَّاهم بالقدوة وتمام المحبة والرفق والرحمة؛ لأنهم شباب الغد الذين سيذللون سُبَل المعالي، وقد كان من شأن أولئك الفتيان الذين ربَّاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصنعهم على عينه- الأمور العظام.
وكان من مداعبته - صلى الله عليه وسلم - للصغار يُدلع لسانه[41] للحسن، فيرى الصبيُّ حُمرة لسانه فيَهَشُّ إليه[42].
وكان يحملهم ولو كان في صلاة؛ كما صحَّ عن حمله لأمامة بنت ابنته زينب - رضي الله عنها -، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها[43].
وكان - صلى الله عليه وسلم - شديد الاهتمام بتربية البنات من حيث تعويدهن على الحياء، وعدم مخالطة الرجال، وحضهن على العلم والذِّكر، وإعدادهن أمهات مربيات صالحات، وقد ربَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بناتِه وبنات الصحابة من حوله على ذلك، فرأينا كيف كانت سيرة فاطمة - رضي الله عنها - ابنته، وكذلك أمامة بنت أبي العاص حفيدته، وغيرهن من الصحابيات رضوان الله عليهن.
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - الحنان والعطف عليهن؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: ((مَرْحَبًا بِابْنَتِي». فَأَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ))[44].
وكانت إذا دخلت عليه - صلى الله عليه وسلم - قام إليها، فقبَّلها، وأجلسها في مجلسه[45].
وفي العصر الذي كثر فيه وأد البنات جاء - صلى الله عليه وسلم - برحمتهن والعطف عليهن، ورفع قدرهن، وتجريم هذه الفعلة الشنعاء التي قال الله - تعالى -عنها: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)[التكوير: 8، 9].
فلم يكتفِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالنهي الشديد عن وأدهن، بل رفع قدر من ربَّاهن فأحسن تربيتهن، وعالهن وأحسن إليهن؛ فقال: ((مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ)) وَضَمَّ أَصَابِعَهُ[46].
وكان يحزن حزنًا شديدًا على وفاتهن، وتذرف عيناه الدمع على فراقهن؛ يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه- في نبأ وفاة أم كلثوم - رضي الله عنها -: «شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ»[47] الحديث.
وهذه بلا شك دموع رحمة وشفقة تسيل من عيني أرق قلب وأرحمه، وقد ابتلي - صلى الله عليه وسلم - بفقد جميع ذريته من الذكور والإناث، ولم يبق بعد وفاته إلا فاطمة - رضي الله عنها - التي توفيت بعده بستة أشهر، وقد أسرَّ لها في مرض موته أنها أول أهله لحوقًا به.
وللموضوع تتمة



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 87.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 85.60 كيلو بايت... تم توفير 2.34 كيلو بايت...بمعدل (2.66%)]