|
|
ملتقى الأمومة والطفل يختص بكل ما يفيد الطفل وبتوعية الام وتثقيفها صحياً وتعليمياً ودينياً |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
معالم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته بأسرته
معالم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته بأسرته عراقي محمود حامد مقدمة الحمد لله الرحمن الرحيم الرؤوف الحليم، الذي أرسل رسوله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغُرِّ المَيَامين الرُّحمَاء الحُلَماء الطيبين، ومن سار على سبيلهم، واقتفى آثارهم إلى يوم الدين. وبعد، فالرسالة المحمدية كانت ولا تزال وستظل- بإذن الله- إلى أن يرث - سبحانه - الأرضَ ومَن عليها- رحمة للعالمين، نزلت لتستنقذهم من متاهات الماديات، وغياهب الشرك والضلالات، وأتون الحروب والصراعات، وضياع الأخلاق والمكرمات، وشقاء القلوب والأرواح والأبدان البائسات، إلى نور التوحيد، واطمئنان القلوب، وإسعاد النفوس، وعزِّ الدنيا والآخرة. وإذا كانت الرسالة بهذا الوسم؛ فلا شك أن صاحبها كذلك، موسوم بالرحمة في أعلى صورها، وأكمل ما يكون عليه بشرٌ خُلِق واختير لهذه المهمة الجليلة، والغاية النبيلة؛ قال - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107]، وقال - سبحانه -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، فبلغ - صلى الله عليه وسلم - في رحمته المنزل المنيف الذي لا يدانيه فيه بشر، كما بلغ ذلك في سائر أخلاقه؛ لذا امتدحه ربه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]. هذا مع أن الله- سبحانه - أرسله على حين فترة من الرسل في زمن كان العالم يعاني فيه أزمةً ظاهرة في القيم، وأبرزها قيمة الرحمة حتى بين الأرحام؛ فإنَّ هذا الخُلق كاد أن يكون معدومًا وقتها؛ إذ كيف نفسِّر ظاهرة وأد البنات، والحروب التي كانت تشتعل بين الشعوب والقبائل لأتفه الأسباب مدمرة طاحنة مستمرة لعدة سنوات، لا يُرقب فيها رحمًا ولا خُلُقًا. في هذه الأجواء التي تفتقد الرحمة بكل معانيها ومظاهرها- أرسل الله - تعالى - نبيه الرحمة المهداة؛ ليكون رحمة للعالمين، وليضع أسسًا للتعامل تكون فيها الرحمة غالبة للخصومة، ويكون فيها العدل مضبوطًا بالرحمة، بل تكون فيها الحربُ نفسُها غيرَ خالية من الرحمة. فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أرحمَ الخَلق بالخَلق؛ وكانت هذه السمة البارزة في حياته منذ طفولته إلى أن لحق بربِّه. ومع أن الله - تعالى - لم يرسله إلا رحمة للعالمين، إلا أنه - سبحانه - قد اختصه بكل خُلُق نبيل؛ وطهَّره من كل دَنَس، وحفظه من كل زلل، وأدبه فأحسن تأديبه، ورفع ذِكره على العالمين، وجعله على خلق عظيم. وجمع فيه صفات الجمال والكمال البشري، فسمت روحـُه الطاهرة بعظيم الشمائـل وجليل الخِصال، وكريم الصفات والأفعال، حتى أبهرت سيرته القاصي والداني، والحاضر والبادي، والصديق والمُعادي، لذلك يصفه شاعرُه حسانُ بن ثابت - رضي الله عنه - بقوله: وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي **** وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ **** كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ[1] ولقد ظهر هذا كله في سيرته - صلى الله عليه وسلم - المباركة، وهَدْيه المُشرَّف قولًا وفعلًا وكان هو نفسه - صلى الله عليه وسلم - من مظاهر رحمته - تعالى -بخلقه أجمعين إذ أرسله - سبحانه - رحمة للعالمين. ولما كانت رحمةُ المرء ولدَه وأمه وأباه وزوجَه وأخاه وقريبه رحمةً فطريةً، يستوي فيها سائر الخلق إلا من تحجَّر قلبه، ونُزِعت منه الرحمة- دعا الرؤوف الرحيم - صلى الله عليه وسلم - الناسَ كافة إلى التراحم فيما بينهم، وجعل ذلك شرطًا لتحصيل رحمة الرحمن الرحيم جل في علاه؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ؛ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))[2]. إذ يَعتبر - صلى الله عليه وسلم - البشريةَ جميعها أسرة واحدة تنتمي إلى ربٍّ واحد، وإلى أبٍ واحد، وإلى أرض واحدة؛ لذا نادى فيهم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لا فَضْلَ لعربيٍّ على عَجَمِيٍّ، ولا لِعَجَميٍّ عَلَى عَرَبيٍّ، ولَا لأحْمَرَ على أَسْوَدَ، ولا لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلَّا بالتَّقْوَى))؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]...» الحديث[3]. ولكن لما حاد بعضُ الناس عن هذا الهدي النبوي والخلق النبيل، وهو خلق التراحم- نشأ الشقاق بين الناس، حتى وصل الحال إلى وقوع التدابر والتقاطع بين الزوج وزوجته، وبين الأب وأولاده، وبين الرجل وأقاربه، بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، وكل هذا نتيجة طبيعية لبعدنا عن التخلق بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة خلق الرحمة، وأخص من ذلك رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأسرته وأهل بيته. وعليه فمن أراد أن يحيا حياة هانئة بين أهله؛ فلينظر كيف كان يعامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهله، وعليه أن يقتفي أثره، وأن يتلمس هديه في معالجة المشكلات الطارئة على الحياة الزوجية، وأن يُقايس بين ما قد يحدث له وبين المواقف التي عالجها - صلى الله عليه وسلم - في حياته الزوجية ومعاملته لأهله. فدعوةٌ للرجوع إلى سيرة خير العباد ليتبين لنا بجلاء تلك الرحمة وهذا النُّبل في التعامل مع الناس جميعًا؛ فما الظن بالتعامل مع أهله؟! وقد قال: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلي))[4]، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا كبيرًا. وقد وفَّقني الله - تعالى - لكتابة هذا البحث؛ لبيان هذه الحقائق، وليكون نبراسًا في تعاملنا وأخلاقنا وسلوكنا خاصَّةً فيما يتعلق بـ«معالم رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في علاقته بأسرته»، وقد اشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: تعريف الرحمة، وأهميتها، وبيان منزلة رحمته - صلى الله عليه وسلم -. أولًا: تعريف الرحمة، في اللغة، وفي الشرع، ثم بيان مقتضى الرحمة، وغايتها. ثانيًا: أهمية الرحمة. ثالثًا: بيان منزلة رحمته - صلى الله عليه وسلم -. المبحث الثاني: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته، وذريته (أولاده البنين والبنات، وأحفاده). أولًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته، وبعض مظاهر رحمته - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته. ثانيًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بذريته (أولاده البنين والبنات وأحفاده). المبحث الثالث: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأصهاره، وأرحامه (أعمامه، وأخواله، وعماته، وباقي أرحامه، وأقاربه من الرضاعة). أولًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأصهاره. ثانيًا: رحمته بأرحامه. ثالثًا: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأقاربه من الرضاعة. المبحث الرابع: رحمته - صلى الله عليه وسلم - بخدمه ومَوَاليه. ثم الخاتمة. المبحث الأول: تعريف الرحمة، وأهميتها، وبيان منزلة رحمته - صلى الله عليه وسلم - أولًا: تعريف الرحمة: الرحمة في اللغة: الرقة والتعطف[5]. أما الرحمة في الشرع فهي «رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وتستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة»[6]، وهي صفةٌ ثابتةٌ لله على ما يليق بجلاله وكماله - سبحانه -، كما هو منهج أهل السنة والجماعة. ومقتضى الرحمة بين الخلق: الانتصار للمظلوم، والأخذ على يد الظالم، ونشر العدل والتراحم بين الناس، ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم. وغاية رحمة المسلم للناس: تعبيدهم لخالقهم، ودعوتهم إليه بالتي هي أحسن، وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك كله الحظُّ الأَوْفَى والنَّصيبُ الأتَمُّ. ثانيًا: أهمية الرحمة: الرحمة في كمالها المُطلق- صفةٌ للرَّحمن الرَّحيم، تباركت أسماؤه؛ فإن رحمته - تعالى -شَملت الكون كله علويه وسفليه؛ ولذلك كان من تسبيح الملائكة واستغفارهم: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)[غافر: 7]. فهي صفة الخالق؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي))[7]. ومن أسمائه- تبارك وتعالى -: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[الفاتحة: 1]. وقال - سبحانه - عن نفسه: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الحجر: 49]. وصفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو رءوف رحيم، وصفة أصحابه فهم رحماء بينهم، وصفة أمته فهي أمة مرحومة متراحمة، وصفة شريعته؛ فأينما وُجِدت المصلحةُ فثَمَّ شرعُ الله، وهذا منتهى الرحمة. فرسالته - صلى الله عليه وسلم - كلها رحمة، إذ هي تُمَثِّل سبيل الرشاد للتي هي أقوم، وتعاليمها وقيمها وأحكامها هي طوق النجاة، وسبيل التحرر من عبودية العباد والحجر والشجر إلى عبادة الله وحده رب العالمين. وهي كذلك رحمة في مقاصدها، وتطبيقاتها، ووسائلها، وغاياتها؛ قال - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78]. يقول الطاهر بن عاشور: «وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تُسَاس بالرحمة، وأن تُدفعَ عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة، وما في شريعة الإسلام من تمحض الرحمة- لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم. فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر؛ قال - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78]، وقال - تعالى -: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ)[البقرة: 185]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بُعِثتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَةِ))[8]" ا. هـ. [9]. وكذلك الرحمةُ صفة الأمة المرحومة التي وصفها نبيُّها بمثل قوله: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))[10]. قال السعدي: "يخبر - تعالى -عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المهاجرين والأنصار: أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ) أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذَلَّ أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه"[11]. ثالثًا: بيان منزلة رحمته - صلى الله عليه وسلم -: الرحمةُ كذلك صفة الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - التي لا تنفك عنه أبدًا، لا في سِلم ولا في حرب، ولا في حَضر ولا في سفر. وقد سماه ربُّه رَءُوفًا رَحِيمًا؛ قال - تعالى -: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[التوبة: 128]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إِنَّ لِي أَسْمَاء: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا))[12]. وقال جل في علاه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]. قال ابن كثير: "يخبر - تعالى - أن الله جَعَل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلَّهم، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ- سَعد في الدنيا والآخرة، ومن رَدَّها وجَحَدَها خَسِر في الدنيا والآخرة"[13]. وذكر القرطبيُّ عن الحسين بن الفضل قوله: "لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه قال: (بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وقال: (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحج: 65][14]. وقال الله - عز وجل -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107]. يقول الشنقيطيُّ عند تفسيره لهذه الآية: "ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة: أنه ما أرسل هذا النَّبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم؛ لأنه جاءهم بما يُسعدهم، وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه، ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى"[15]. ولقد تجلَّت مظاهر رحمته - صلى الله عليه وسلم - في حياته كلها، وحفلت بها سيرتُه العَطِرة، وامتلأت بها شريعتُه المُشرَّفة، فرحم - صلى الله عليه وسلم - كلَّ صغير وكبير، وقريب وبعيد، وامرأة وضعيف، بل شملت رحمته الحيوان والجان، وجاء بشريعة كلها خير ورحمة للعباد، وما من سبيل يُوصِّل إلى رحمة الله - تعالى -إلا بينه لأمته، وحضَّهم على التزامه، وما من طريق تبعدهم عن رحمة الله - تعالى -إلا حذرهم منها؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم؛ حتى كادت نفسُه من حرصه الشديد على هدايتهم أن تهلِك؛ فعَاتَبَه ربُّه بقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 3]، وبقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف: 6]. فقد حَازَ - صلى الله عليه وسلم - خصال الكمال في الأنبياء كلهم قبله، واجتمعت فيه، وتخلَّق بجميع أخلاقهم ومحاسنهم وآدابهم، وفَاقَهَم حتى صار أكمل الناس وأجملهم، وأعلاهم قدرًا، وأعظمهم محلًا، وأتمهم حسنًا وفضلًا. فكان أفضلَ الخَلْق خَلْقًا وخُلُقًا؛ أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، وأمره فهداه، وأعلى ذكره، فقال جل في علاه: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشرح: 4]. وكرَّم نبيُّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الإنسانَ، ورفع شأنه؛ لأن الله كرَّمه وفضَّله، وأنزل الناس منازلهم، وخاطب كل قوم بلسانهم، فكان لكل صنف من الناس حظٌّ من خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاملته ورحمته؛ فوقَّر الكبير، ورحم الصغير، ومازح العجائز، وسلَّم على الأطفال، وحَمَلَهم، وقَبَّلهم، ولَاعَبَهم، ولاطَفَهم. وبالجملة؛ اختار - صلى الله عليه وسلم - التيسير لأمته؛ وفي ذلك تقول عائشة - رضي الله عنها -: «مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ؛ فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ»[16]. وابتعد كل البعد عن الفحش والتفحش؛ يقول عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: «لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا))[17]. ولما قِيلَ له: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ! قَالَ: ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا؛ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً))[18]. وكان شعاره: ((ما كان الرفق في شيء إلا زَانَه، ولا نزع من شيء إلا شانه))[19]. وحضَّ على الرفق بقوله: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه))[20]. وكان لا يقرُّ الظلم ولا يرضى به، ويحذرهم منه بمثل قوله: ((إن الله يُعذِّب الذين يُعذِّبون الناسَ في الدنيا))[21]؛ هكذا بإطلاق «الناس» أي: كل الناس، فلا ظُلْم لأحدٍ، كما نهى - تعالى - عن ذلك في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حَرَّمتُ الظُّلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا...))[22]. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير مُنصف، يقيم الحق والعدل اللذين جاء بهما. ولم لا وهو القائل: ((وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))[23]. وقد بعثه الله - تعالى - رحمة للعالمين؛ فمَن اتبعه - صلى الله عليه وسلم - سَعِد في الأولى والآخرة؛ فيرحمه الله في الدنيا، وينجيه فيها من العذاب والخسف والمسخ والقتل وذل الكفر والجزية، ويُنير قلبه بهذا الدين، ويحييه حياة الطيبين، وفي الآخرة ينجيه من العذاب الخالد الأليم، ويرزقه أعظم نعيم؛ وهو النظر إلى وجهه - سبحانه - الكريم، ويرزقه شفاعة النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم -، ويورده حوضه، ويحشره في زمرته، وتحت لوائه؛ بفضله ومَنِّه، وهو أكرم الأكرمين. للموضوع تتمة
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: معالم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في علاقته بأسرته
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |