تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) - الصفحة 12 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 187 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28425 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60031 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 819 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #111  
قديم 28-08-2020, 03:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ...)

قال تعالى عن اليهود: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]، ومن سورة آل عمران: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24]، والكل واحد. لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا معناه أننا معترفون بذنوبنا وجرائمنا، وبظلمنا وفسادنا، وندخل النار، ولكن لأيام معدودة، لم يقولون هذا؟ ليخففوا الجريمة، ليخففوا عن أنفسهم وعن إخوانهم آلام الرهبة والخوف من الله، حتى يواصلوا البغاء، والسرقة، والإجرام، والربا، والباطل، فلا تخافوا، الحمد لله أنتم أمة الخير .. أمة الرحمة، من دخل النار يبقى فيها أياماً ويخرج، وهذا معناه: ابق يا زاني على زناك، ويا مرابي على رباك، ويا لص على لصوصيتك، ويا ساحر على سحرك.. لا تخافوا، ما تمسكم النار؛ لأنكم شعب الله المختار، إنما هي أيام معدودة.فهذا في بني إسرائيل أو لا؟والله لقد انتقل إلينا، وسلكنا مسلكهم، وكم من مشايخ، وكم من رؤساء يهونون على الناس الجرائم والموبقات، ويقولون: الجنة للمسلمين فلا تخافوا، ومن دخل النار يخرج منها، وسلكنا نفس المسلك.واليهود يقولون: كم عبدنا العجل؟ أربعين يوماً، مدة غيبة موسى فقط، فنعذب أربعين يوماً، وهذا هو التدجيل والتضليل؛ لأن أربعين يوماً تدرون كم؟ اليوم بألف سنة، والنتيجة أربعون ألف سنة، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، أربعون ألف سنة، هذه أيام معدودات؟!وهذا المراد منه التخفيف على المجرمين، والتهوين من الجريمة، ليرتكبوا الفواحش والمنكرات، وليأكلوا أموال الناس، وليضروا بالبشرية، ويحطموها، ويؤذوها، بسبب فتاوى علمائهم. وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ قل يا رسولنا .. قل لهم: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] عندكم عهد من الله .. صك أنكم لا تعيشون في النار إلا أربعين يوماً؟ هل عندهم؟ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا [البقرة:80] بل تقولون على الله ما لا تعلمون، أم هنا للإضراب فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون.لو اتخذتم عهداً من الله فالله لا يخلف وعده أبداً، وحاشاه؛ لأنه قوي قدير، والذي يخلف الوعد هو العاجز فيضطر إلى خلف الوعد، أما القوي القدير الذي بيده كل شيء ويملك كل شيء، كيف يخلف وعده؟! ما أخلف أحد عهده إلا للعجز والضعف القائم به، أما الله فهو غني غنى مطلق، فكيف يخلف عهده؟! فلهذا قال تعالى: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ . أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80] هذه الحقيقة، أنكم تكذبون على الله، وتنسبون إليه ما لم يقله، ولم يقرره في كتابه، ولا على ألسنة رسله.وهذا التوبيخ لليهود، ونحن -أيضاً- متأهلون له فمنا من يقول كذلك، ففي بعض الطرق يعدون أتباعهم بالجنة رسمياً تماماً: إخوان الشيخ الفلاني لن يدخلوا النار! وإن كنتم لا تعرفون فهذا واقع في ديار الإسلام: إخوان سيدي فلان .. مريدو فلان كلهم إلى الجنة، ولا تمسهم النار، وإن دخلوها يخرجون منها بعد أيام.فاسمعوا كيف وبخهم الله بعدما أورد قولهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] قال الله لرسوله: قل لهم .. اسألهم أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80]؟ الجواب: يقولون على الله ما لا يعلمون.لكن ما جرأهم على القول على الله؟إنه الجهل، فما عرفوا الله حتى لا يكذبوا عليه، ولا ينسبوا إليه ما لم يقل، فما ملأت معرفة الله في قلوبهم، ولا في أذهانهم، ولا في نفوسهم؛ فلهذا يقولون ويكذبون.

تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ...)

قال تعالى: بَلَى [البقرة:81] ليس الأمر كما تتصورون، وهذا للجميع .. للبشرية كلها بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81].

معنى السيئة

ما هي السيئة يرحمكم الله؟السيئة حركة عملية .. فعل، قد تكون كلمة .. قد تكون نظرة؛ تسيء إلى النفس البشرية .. إلى الروح، فتوضع فوقها كنكتة سوداء، والعياذ بالله.والسيئة تجمع على سيئات، والسيئة تؤثر في النفس البشرية، وسببها: كلمة حرمها الله .. نظرة حرمها الله .. لقمة حرمها الله، فإذا فعلها العبد انعكست على نفسه فأصبحت نكتة سوداء، والرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا أيما تبيين، ووضح أيما توضيح فقال: ( إذا أذنب العبد ذنباً ) تعرفون الذنب ما هو؟ ما يؤاخذ عليه العبد، والحيوان من أين نأخذه إذا هرب؟ من ذيله أو لا؟ من ذنبه، فكذلك نؤخذ بذنوبنا.( إذا أذنب العبد ذنباً ) سب إبراهيم .. نظر إلى امرأة زيد .. اغتاب فلاناً وهو غائب .. أدخل يده إلى جيبه فأخرج رياله، فهذا الذنب إذا أذنبه العبد نكت على قلبه نكتة سوداء، فإن هو تاب، وأناب، ورجع، صُقل الأثر، وزال ومُسح؛ لأن الروح كالزجاجة الصافية، فإذا لم يتب، وزاد ذنباً آخر، وضعت نكتة أخرى إلى الأولى، فإن ما تاب، ولا رجع، وزاد ذنباً ثالثاً وضعت نكتة أخرى .. وهكذا حتى تسودّ النفس، وذلكم الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] فإذا تغطى القلب بالسيئات أصبح المخلوق كالحيوان .. كالأفعى ينهش ولا يرحم .. كالثعبان يعض ويسمم .. كاللص يبقر البطن، ويأخذ الفلوس، انتهى. فلا يصدق، ولا يؤمن، ولا يعرف فضيلة ولا حق، فانطمس نوره.

كواسب الإنسان

مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81] أنتم تعرفون الكواسب يا معاشر الدارسين أو لا؟ ما هي الجوارح التي نجترح بها السيئات؟ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] ما هي جوارحك يا هذا التي تجترح بها؟ ما هي كواسبك التي تكتسب بها؟إنها سبعة: أولاً: السمع، وهل السمع يكتسب السيئة؟ نعم، كيف هذا؟ يسمع امرأة جاره تتكلم فيتلذذ بكلامها، ويبقى يسمع .. يسمع عاهرة تغني، وتلين الكلام، وترققه لتثير الغرائز والشهوات فينساب ويسمع، اجترح بأذنه أو لا؟ بآلة السمع .. يسمع الباطل، والغيبة، والنميمة، وسب الصالحين، وهو في المجلس يتلذذ بذلك الكلام.لعلي واهم! والله العظيم لَيَجلسون للطعن، والسب، والشتم في أولياء الله، والغافلون يضحكون. اكتسب أو ما اكتسب؟ اكتسب.ثانياً: البصر، البصر كاسبة أو لا؟ جارحة من الجوارح، فالذي ينظر إلى امرأة لا تحل له مما حرم الله عليه نظرة يتعمدها ليتلذذ بها فقد اكتسب ببصره السيئة، وانعكس على قلبه، أحب أم كره، فإما أن يتوب على الفور ويلهج بالاستغفار والندم، وإلا تنكت نكتة أخرى.يا شيخ! كيف تقول هذا ونحن ندعو إلى توظيف النساء، وقد وظفناهن في الدوائر .. في الفنادق .. في كل مكان، فكيف نغض أبصارنا؟آلله أمركم بهذا أم اليهود والنصارى؟ من يجيبني؟ الله الذي أمر؟!لقد عاش نساؤنا وبناتنا أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ما توظفن، وعشن صالحات أو لا؟ الآن فقط إذا ما توظفت المرأة الحياة مرة، والجوع والفقر والفاقة .. هكذا؟!ومما علمناه أن طبيباً مختصاً في العظام والدماغ في مستشفى الطائف عنده امرأة غير موظفة، فلا يسمح لها بالوظيفة، ولا أن تخرج، قالوا: لم؟ قال: لا أرضى أن امرأتي تنظرون إليها، وتشتغل معكم. هذا ألماني كافر لكنه كأنه عرف، فاستدعيناه فجاء لفندق شيراتون وجلسنا معه ساعة، وعرضنا عليه الإسلام، وهو متهيئ، وبالفطرة عرف: كيف امرأتي تنظرون إليها؟يا شيخ! لعل هذا ليس بصحيح، أنا أسمع.. اسمع الله يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، نقول: لا .. لا .. كيف نغض أبصارنا؟! كيف نمشي؟ كيف نعمل؟من قال هذه الكلمة كفر، كفر بالله، وانمحى اسمه من ديون المسلمين.غضوا، ما قال: أغمضوا. كيف تمشي؟ لما تشاهد المرأة أغمض عينيك.نعم! من اليسر عندنا -كما في المملكة- أن تغض بصرك؛ لأنه نادر ما تمر بين يديك امرأة كاشفة عن وجهها، أليس كذلك؟ لكن لما تكون في بلد نساؤه في الشوارع كيف تغض بصرك؟ فأنتم بين خيارين قلت لهم: إما أن تحجبوا نساءكم أو احجبوا رجالكم فقط. أما الاختلاط، وغض بصرك فما هو معقول، ولا يمكن أبداً، فكيف تغض بصرك؟!نعم! الحجاب مضروب، وكلما تشاهد امرأة غض بصرك، لكن إذا كنت معها في كل مكان فكيف تغض؟ إما أننا نحجب النساء، وهذا أرحم؛ لأن رحمة الله اقتضته، فالمرأة في بيتها قائمة بدولة: تغسل .. تنظف .. تطبخ .. تعمل .. تربي، عمل، وأنت يا فحل تقضي الساعات في المزرعة، أو المتجر، أو المصنع وتعود، أما أن تخرج المرأة وتخالط الأجانب والرجال وتقول: غضوا أبصاركم، كيف نغض أبصارنا؟! فهذا ليس بمعقول؟!إذاً: العين تكتسب بها بالنظر، فهي جارحة، وقد عرفتم أن مصيبة البصر أعظم، فالنظرة هذه تؤدي إلى الهاوية، وكم من نظرة أنتجت مقتلة ودماء تسيل، نعم! كل الحوادث من مستصغر الشرر.ثالثاً: اللسان، ولهذا يقول المثل المصري: لسانك حصانك؛ إن صنته صانك؛ وإن خنته خانك.دعك من هذا المثل، ها هو ذا رسول صلى الله عليه وسلم يقول، وقد أخذ لسانه بيده: ( كف عنك هذا، فقال الصاحب: أو إنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ )، والفتن كلها قائمة من طريق اللسان: الحروب، والبلاء، والنزاع، والصراع والطلاق، وكل الفتن مبدؤها باللسان.ولو التزمنا بمبدأ وهو: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، فمن كان منكم يا معاشر المؤمنين والمؤمنات يؤمن بالله والدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم أو عذاب أليم فليقل خيراً إذا تكلم أو يسكت، وإن وجد كلمة خير تنفع ولا تضر .. تطعم ولا تجوِّع .. ترفع ولا تضع قالها، وإن كانت تضر ولا تنفع لا يقولها.رابعاً: الأيدي .. أيدي السباع، الأيدي جارحة أو لا؟ هل هناك ضرب بدون يد .. سلب بدون يد .. قتل بدون يد؟ فاليد جارحة من أعظم الجوارح، ولا يحل لمؤمن أبداً أن يرفعها في غير حق، فضرب المؤمن .. كسلب ماله .. كقتله هذه محرمات وتتم باليد.خامساً: الرجلان .. الرجل، كيف الرجل؟ تجترح بها ماذا؟ الذي يمشي إلى دور الخنا والباطل والشر يمشي برجليه أو لا؟ برجليه. والذي يمشي إلى البدعة والخرافة ما يمشي برجليه؟ الذي يمشي إلى مجالس الغيبة والنميمة مشى برجليه، وهكذا .. الرجل جارحة يجترح بها الإنسان الذنب.سادساً: البطن، وهل البطن يكتسب به الإنسان السيئات؟ شرب الحشيش والأفيون، الكوكايين والدخان والشيشة هذا بماذا تتم؟ بالبطن أو لا؟ شرب الخمر .. أكل الخنزير .. أكل الحرام .. أكل الربا في البطن أو لا؟ فالبطن جارحة، وأية جارحة هذه! قاتلة.سابعاً وأخيراً: الفرج، ولهذا يقول أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( من يضمن لي ما بين لحييه )، وهو الفم ( وفخذيه ) وورد أيضاً البطن.على كلٍّ البطن والفرج، والفرج أعظمها؛ لأن فاحشة الزنا ما فوقها فاحشة إلا القتل والكفر، أما اللواط ما نقول عنه؟ لم؟ كيف يوجد اللواط في المسلمين.وعندنا مثل: هذه الديار التي أهلها الله للنور والكمال، وأوجد فيها بيته، لماذا ما أوجد هذا البيت في المغرب أو في الهند أو في أوروبا واختار فقط هذه الديار؟ لأن هذه الديار ما عرفوا اللواط قط قروناً إلى عهد خلافة عمر ، فلما تولى عمر الخلافة رفعت قضية أن أعجميين في بلاد البحرين ارتكبوا هذه الجريمة. والخليفة عبد الملك بن مروان يحلف على المنبر، ويقول: والله لولا أن الله تعالى أخبر في كتابه عن فاحشة اللواط فما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر.ويؤيد هذه أن هذا البلاد ما عرفت بغلة فيها ولا بغل، فما وجد البغال في هذه الديار لم؟ لأن البغل يوجد من إنزاء الحمار على الفرس، تعرفون هذا أو لا؟ كيف يولد البغل؟ يُنزى الحمار المعروف بالداب على الفرس فتلد الفرس بغلاً، وهو حيوان بين الحمار والفرس، وهذه البلاد والعرب من أولاد إسماعيل من قبل لا يعرفون هذا، كيف ينزون الحمار عن الفرس! وأول بغلة دخلت الحجاز بغلة أهداها المقوقس ملك مصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مارية القبطية اسمها الدُلْدُل، عرفتم أو لا؟الآن لو تعرفون ما يجري في أوروبا: أندية خاصة باللواط، وهذه الفاحشة تترفع عنها الحيوانات، والله إن ذكران الحيوان ليترفعون عنها ولا يقبلونها، هل رأيتم جملاً ينزو على جمل؟ أو تيساً على تيس؟ فكيف بالإنسان؟!إذاً: فاحشة الزنا هذه هي السابعة، فمن حفظ جوارحه، واستعصم، وثبت زكت نفسه، وطابت وطهرت بأدنى الأعمال من الصالحات، ومن كان يخبثها ويلوثها ولو يبيت مصلياً ويظل صائماً، فزنية واحدة تمحو ذلك كله وتغطيه، لكن إذا هو تجنب السيئات، وحسبه أنه يؤدي هذه الواجبات، وبذلك تزكو نفسه، وتطيب، وتطهر.

سوء عاقبة أصحاب السيئات والخطايا

وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، كيف أحاطت به؟ اليوم وغداً و.. كما بينها الرسول، نكتة إلى نكتة إلى نكتة فتغطى القلب، فيصبح مظلماً؛ لا يعي، ولا يفهم، ولا يسمع.هذا معنى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ [البقرة:81] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81].عرفتم من أصحاب النار؟ البيض أو السود؟ من هم؟ الذين أحاطت الخطايا بنفوسهم، ومن أحاطها بنفوسهم؟ هم؛ لأنهم ما رجعوا ولا تابوا، بل ولا سألوا، ولا عرفوا، ولا تعلموا ما هي السيئة، وكيف تحدث أثراً في النفس، لأنهم جهلة عاشوا في الغابات، والبساتين، والمصانع، والمتاجر، فما سألوا عن الله، ولا عرفوا. فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81] كم سنة يرحمكم الله؟ أبداً، عالمان لا يفنيان: عالم علوي دار السلام، وعالم سفلي النار، وباقي العوالم كلها تتبخر، فيبقى عالم الشقاء وعالم السعادة، وانتهت سنة الله في الخلق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #112  
قديم 28-08-2020, 03:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (62)
الحلقة (69)




تفسير سورة البقرة (32)




من أسلوب القرآن أنه يجمع بين الترهيب والترغيب، فهو يهدد من كفر، ويحذره عاقبة جحوده، وأن النار هي مصيره، خالداً فيها مخلداً، وبالمقابل يرغب المؤمن بأن له جنة عرضها السماوات والأرض، خالداً مخلداً فيها أبداً، ولكن ذلك لا يكون إلا للمؤمن، الذي حقق الإيمان اعتقاداً وقولاً وعملاً، فلا يضره شك الشاكين، ولا يؤثر فيه جحد الجاحدين.

تابع تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة وآياتها المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:81-83]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اعلموا -والعلم ينفع- أن الإنس والجن -هذان العالَمان: عالم الإنس وعالم الجن- نسبتهم إلى الله أنه ربهم .. خالقهم .. مدبر حياتهم، فما هناك من يتعزز أو يترفع أو يتسامى بنسبة خاصة عنده إلى الله عز وجل، وفي الحديث: ( كلكم لآدم، وآدم من تراب ). فالله عز وجل يُدخل دار السلام .. الجنة .. دار الأبرار مِن الإنس والجن مَن تهيئوا لذلك، وطلبوه، وعملوا على الحصول عليه، سواء كانوا بيضاً أو سوداً، عرباً أو عجماً، أشرافاً أو أوضاعاً، إنساً أو جناً. ويدخل عالم الشقاء .. النار؛ دار البوار -أعاذنا الله وإياكم منها- مِن الإنس والجن مَن تهيئوا لها، وعملوا لها واستعدوا لدخولها.وها نحن مع أشرف الناس .. مع بني إسرائيل، حيث يقول تعالى لهم بعد ما أبطل دعاواهم ومزاعمهم وجهالاتهم: بَلَى [البقرة:81]، أي: ليس الأمر كما تزعمون أو تدَّعون أو تقولون: إننا لا نعذب بالنار إلا أياماً معدودة، فالقضية أن مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81]، وكلمة (مَنْ): اسم موصول من ألفاظ العموم، يدخل فيه الذكر والأنثى، والعربي والعجمي، والشريف والوضيع.قال: مَنْ كَسَبَ أي: بنفسه، وقد علمتم سابقاً الكواسب والجوارح السبع التي بها نكتسب ونجترح. فالسيئة هي: كل قول أو عمل أو اعتقاد يحدث السوء في النفس بالظلمة والخبث والعفن والنتن. فذاك هو السوء، والواحدة سيئة.وقوله: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ، أي: مع العلم بأنه يكون مريداً لا مكرهاً، مختاراً لا مغالَطاً، فمن كسب سيئة بعمده وإرادته فهذه هي السيئة التي تحدث له المساءة في نفسه، أما مع الإكراه فلا تكون سيئة.ومن كسب سيئة واحدة ثم توالت عليه السيئات واحدة بعد أخرى فقد أحاطت به، وقد مثل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الإحاطة عند قوله تعالى: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، إذ بين لنا أن العبد المكلف، العاقل، البالغ، المريد، المختار إذا اكتسب سيئة وقعت نكتة سوداء على قلبه، فإن تاب مسحت وصقلت كما تصقل الزجاجة، وإن هو لم يتب وزاد سيئة أخرى وقعت إلى جنب الأولى، وهكذا الثالثة، والرابعة، والخامسة حتى يغطى القلب، وذلكم هو الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، أي: يكسبونه بجوارجهم: بالسمع .. بالبصر .. باللسان .. باليد .. بالرجل .. بالبطن .. بالفرج.وهذا قضاء الله وحكمه، فلا تقل: أنا ابن الأنبياء .. أنا حفيد أو سليل الأشراف، فكل هذا لا قيمة له؛ إذ هذا الكلام وجهه الله تعالى رداً على مزاعم بني إسرائيل.وقال تعالى بعد ذلك: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، أي: أهلها الذين تصاحبهم ويصاحبونها أبداً، فلا مفارقة. وقد عرفتم أن نار الآخرة صورتها موجودة في النار التي نوقدها للطبخ والاستدفاء، فهي آية من آيات الله الدالة على النار التي هي عالم الشقاء، ومن غفل أو ما تبين كيف أن ذلك العالم كله جحيم .. كله نار فليرفع رأسه إلى الشمس، الكوكب النهاري المضيء، وليذكر ما قاله أهل العلم من أن كوكب الشمس أكبر من كوكب الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فالشمس نار ملتهبة، ومن شدة حرارتها تصل إلينا بالصورة التي تعرفون، ولو جمعنا الإنس والجن -وكنا نقدر على ذلك- ووضعناهم في الشمس فإنهم لا يسدون عشر ما في الشمس، ويبقى ذلك العالم.فهذه هي الأرض قد ملأتنا وملأناها، وحملتنا موزعين فيها، ولو بعث أسلافنا الذين ماتوا لوقفوا في الأرض ووسعتهم!فإذا كانت الشمس لو جمعنا لها البشرية والجن ما سددنا جزءاً منها فكيف بعد ذلك تسألني عن النار أو عن أي عالم آخر؟!وهذا العالم بكواكبه ونجومه وشمسه كله يتبخر، ويصبح سديماً وبخاراً كما كان، وأما الجنة فتكون في الأعلى، ويكون عالم الشقاء في الأسفل.قال تعالى: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ والجمع: خطيئات، وهذا تنويع: السيئة والخطيئة، فلما يخطئ تحدث المساءة.وقوله: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فلم يبق ما يتعزز به المرء من نسب أو شرف أو قوة مالية أو بدنية أو .. أو .. لا، ما هو إلا حكم الله النافذ.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)

قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:82]، ما لهم؟ ما الخبر؟ اخبر عنهم! أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، أولئك هم الأشراف، السامون، الأعلون، وليسوا بالهابطين كأصحاب النار، فأصحاب الجنة هم الذين لا يفارقونها أبداً، وهم فيها خالدون.والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة لندرك حقيقة العالم الآخر فيقول: ( مثل الدنيا في الآخرة كمثل أن يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع )، أي: ما هي كمية البلل التي علقت بالأصبع من النيل أو الفرات أو المحيط؟ وما هي نسبة ذلك البلل إلى البحر؟ إنها لا شيء.وبين لنا الله كذلك حال الناس؛ فأخبرنا أن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، وأن هناك من يعطى مثل الدنيا عشر مرات من السابقين، أي: عشرة كواكب. ولا تقل: كيف؟ فإن المجرة كبيرة، وقد تستطيع أن تعد حصباء أو حصى الأرض ولكن لا تستطيع أن تعد الكواكب والمجرات، فقولوا: آمنا بالله!نحن الآن على الأرض بمثابة الجنين في بطن أمه سواء بسواء، ويوم نولد، ونخرج من بطون أمهاتنا هو يوم نفارق الحياة، ونخرج من الأرض، وتغمض العينان ويقال: مات فلان، فينتقل إلى العالم الآخر، ليرى العجب! والآن الدنيا كرحم، ها نحن فيها ما رأينا شيئاً، وما ولدنا بعد، فإذا مات أحدنا - وكلنا يموت- انتقل من هذا الرحم الضيق المنتن إلى عالم لا حد له ولا نهاية، واسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد )، فهذا عرض الكافر في جهنم .. في عالم الشقاء المسمى بالنار.ويقول صلى الله عليه وسلم: ( ضرس الكافر في النار كجبل أحد )، كما في صحيح البخاري ، فعرفنا أن ضرس الكافر كجبل أحد! وتعجبنا من حال هذا الكافر أن ضرسه كجبل أحد فكيف بذاته؟! ولما قرأنا قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد ) عرفنا أن هذا الضرس يتلاءم مع شخصية وحال الكافر.وإن قلت: كيف أن هذه النار تُبقي عليهم؟قلت: عرفنا ذلك من الحديث السابق فأجسامهم بتلك الحال تأكلها النار خلال الدهر كله، قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56]، فيحترق جلد الكافر، والجلد الآخر ينبت تحت الاحتراق، وهذه أجسامنا على ضعفها يحترق الجلد الأول، وينبت بعده جلد آخر؛ لأن العذاب في ذلك الجلد.فهل عرفتم إلى أين المصير أو لا؟ وأنه ليس وراء الجنة والنار عالم آخر، فقد انطوى الكون كله ولم يبق إلا عالمان: عالم الشقاء وعالم السعادة.

صدق الأنبياء فيما يخبرون به

فإن قال قائل: يا شيخ! مَن رأى الجنة ومَن رأى النار؟ فهذه أخبار غيب، فكيف تطمئن قلوبنا، وتسكن نفوسنا؟الجواب: أخبر الرحمن بآلاف الأخبار، فصدق في كل خبر، ولم يوجد خبر واحد أخبر الله به وما صح.وأخبر عن الجنة والنار ولم يبقَ للعاقل أن يقول: كيف؟ أو أن هذا غير ممكن؟!والمخبر هو خالق الصدق وقد أخبر بهذا، والمخبرون عنه هم رسله الذين اصطفاهم وهم في أرحام أمهاتهم بل وهم في أصلاب آبائهم وأجدادهم نطفٌ طاهرة قد أعدهم للإيحاء إلى الناس، وإبلاغهم ما أراد أن يبلغوا به. فهل الرسل يكذبون؟وإذا كنا نكذب الرسل فما بقي من يصدق في البشر، وقد انتهينا وهلكنا، فإذا قال الرسول: إن في السوق الفلاني كذا وكذا فإنه لا يصدق، وإن قال: مات كذا وكذا فلا يصدق، وهنا نكون قد انتهينا وأصبحنا شر الخلق. فلابد من الصدق والتصديق. ورسل الله عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر، ما منهم إلا ووصف دار السلام ودار البوار، أفيكون بعد هذا شك وارتياب؟!وأعظم دليل على ذلك موجود في الكتاب الذي تحدى الله به الإنس والجن، وما زال التحدي قائماً إلى الآن أن يأتوا بمثله، فهل استطاع جماعات الأدباء أن يعقدوا المؤتمرات، ويألفوا الكتب ليخرجوا على البشرية بكتاب يضاهون به كتاب الله؟ والله ما كان.وتحدى العرب على أن يأتوا بسورة فقط، فطأطئوا رءوسهم وانحنوا وما رفعوها إلى اليوم؛ ألف وأربعمائة سنة وزيادة، قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة:23]، أي: استعينوا بمن شئتم إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24] فعجلوا قبل أن تلتهمكم.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الملكوت الأعلى

ومع هذا عندنا الرائد الأعظم صلى الله عليه وسلم .. الرائد الذي ارتاد العالم الأعلى، فمن بيت أم هاني بجوار المسجد الحرام إلى المسجد الحرام إلى زمزم حيث أجريت له أول عملية جراحية للقلب تسمع بها الدنيا، فشق صدره، وغسل قلبه، وحشي بالنور والإيمان والحكمة، فتهيأ لأن يعيش في الملكوت الأعلى لحظات، فأسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، واقرءوا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1]، ومن المسجد الحرام إلى الملكوت الأعلى، والله لقد اخترق السبع السماوات؛ سماء بعد سماء، وانتهى إلى جنة المأوى، واقرءوا لذلك قول الله عز وجل يا أهل القرآن: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، تعرفون اليمين والحلف أو لا؟ أو كلكم بربر مثلي؟ هذه صيغة يمين أو لا؟ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2]، وصاحبنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:4-9]، هذا جبريل، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:10-13]، مرة أخرى أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18].فصعد إلى السماوات بالبراق، والتقى ببعض الأنبياء والرسل في السماوات، وتحدث معهم.وعاش تلك اللحظات في دار السلام، وذكر أنه رأى قصراً فيه حوراء، فقال: لمن هذه؟ قيل: هذا قصر عمر رضي الله عنه، وهذه حوراه. فما كان منه إلا أن أغمض عينيه، وقال: ( إني ذكرت غيرتك يا عمر ! )، وأنتم أيها الفحول ما زالت الغيرة موجودة أو ماتت؟! فالفحل لا يرضى ولا يقبل أن ينظر فحل آخر إلى امرأته بعينيه، وهذا عمر عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسيته، وعرف غيرته وفحولته، فاستحى أن ينظر إلى تلك الحوراء في ذلك القصر احتراماً لـعمر لما يعرف من غيرته، ( فقال عمر : أعليك يا رسول الله أغار؟! )، أي: أغار منك.أعيد القول: أيها الفحول! زيدوا في طاقات غَيرتكم، ولا تجعلوها كغِيرة النساء، فلا ترض أن يكشف الفحل عن امرأتك إلا في حال الضرر المتأكد للإنقاذ أو التطبيب والعلاج، أما أن تقدمها وهي تمشي معك في الشارع: هذه مدامي .. هذه مدامي! فهذا معناه: أننا أصبحنا شبيهين بالنصارى.فإن قال قائل: ماذا هناك إذا رأى وجهها؟أقول: كيف تقول: ماذا هناك؟! كأنك تقول: هذا ليس فيه شيء، فما سقطت الكواكب، ولا التهمت النار، ولا ولا ..، نعم هناك أعظم شيء وهو أن الله أمرها أن تستر محاسنها، وتغطي وجهها، وأنت تتحدى الله وتكشف له وجهها.فكيف تقول: ماذا هناك! والله طلب منها أن تغض بصرها، وطلب منك أيضاً أن تغض بصرك عن محارم الرجال.وكيف تقول: ماذا هناك! أتبطل شرع الله بكلمة: (ماذا هناك؟) بهذه الكلمة الهاوية الباطلة.وقد مر صلى الله عليه وسلم بالكوثر أيضاً، وهل هناك حوض يسمى الكوثر؟ إي والله، أخبر عنه خالقه واقرءوا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وعدد كيزانه كعدد النجوم، وقال هكذا جبريل في تربته، فأخرجها تربة رائحتها أطيب -والله- من ريح المسك، وهذا الكوثر أعطاه الله للرسول صلى الله عليه وسلم.فإن قال قائل: هل لنا أن نشرب منه؟نقول: نعم إن شاء الله نشرب في حالة نحن أشد فيها ظمأً وعطشاً، في حالة أن نكون من أهل دار السلام. وذلك في عرصات القيامة .. في ساحة فصل القضاء. وهذا الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن .. وأشد برودة من الثلج.فإن قال قائل: ومن أين هذا الماء؟الجواب: إنه من النهر الذي في الجنة، وفيه مرزابان يصبان في هذا الحوض.وقد بلغنا: أن رجالاً يريدون أن يقدموا على الحوض ليشربوا فتردهم الملائكة، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أصحابي! فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. قال: فأقول: سحقاً سحقاً سحقاً )، فيردون إلى العطش والظمأ في ساحة فصل القضاء.يا معاشر المستمعين والمستمعات! عما قريب تعيشون تلك الأحداث: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا [غافر:59]، وإننا في آخر أيامها، فانتبهوا!



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #113  
قديم 28-08-2020, 03:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

معنى الإيمان

قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:82].إن سأل سائل: ما معنى (آمَنُوا)؟فالجواب: معنى (آمَنُوا): صدقوا تصديقاً جازماً، خالياً من التردد .. خالياً من الشك، وبعيداً من الريب، بكل ما أخبر الله تعالى به، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو المؤمن.وإذا أخبر تعالى عن وجوده .. عن علمه .. عن قدرته .. عن حكمته .. عن رحمته لم تجد في نفسك إلا التصديق الجازم بما أخبر الله تعالى.وكذلك إذا أخبر رسوله وصح الخبر؛ لأن الحديث دخلت فيه شياطين الأنس، فقدموا وأخروا، وزادوا ونقصوا، ولكن الله حماه، فهيأ له رجالاً في كل زمان ومكان، ينفون عنه ما ألصق به المبطلون، أما القرآن فمعصوم محفوظ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].فإذا أخبر الله أو أخبر رسوله وقلت: آمنت، فأنت المؤمن، فإن ترددت وقدمت رجلاً وأخرت أخرى وتساءلت: كيف؟ فما آمنت.

بيان أركان الإيمان

لقد جاء القرآن الكريم ببيان أركان الإيمان، وجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد، والواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحفظها عن ظهر قلب، ولا يحل أبداً أن يعيش المؤمن خمسين سنة وهو لا يحفظ هذه الأركان.وهذه الأركان جاءت مبينة في القرآن الكريم، فآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... [البقرة:177] جمعت حوالي خمسة أركان، وركن القضاء والقدر جاء في سورة القمر.أما حديث جبريل في صحيح مسلم فسنذكره لنتلذذ بذكره، وليحفظه السامعون، والذي ما حفظه يجري وراء الطلاب ويقول لهم: والله لتعلمونني هذا الحديث، حتى يحفظه.لما أكثر الصحابة من سؤال الرسول وأتعبوه وأرهقوه؛ فهم بشر. ماذا فعل الله عز وجل تأديباً لأوليائه، ورحمة برسوله؟ أنزل آية من سورة المجادلة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ [المجادلة:12]، أي: إذا كنت تريد أن تخلو برسول الله، فكيف يفعل الرسول! ففي كل دقيقة هناك واحد يريد أن يكلمه، فقال: من أراد أن يخلو بالرسول ليكلمه خاصة فعليه أن يدفع صدقة ويتفضل بنجواه. فتأخر الصحابة وما استطاعوا أن يخلوا به؛ لأن أكثرهم فقراء، وليس عندهم شيء، فرحمة من الله تعالى نزل التخفيف فقال: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المجادلة:13]، فنسخ الله ذلك الحكم، وعرفوا لماذا كل من عنده سؤال لا يخلو بالرسول؟ فكيف سيعيش؟! وهذا في الخلوة.وفي الأسئلة أيضاً قال تعالى: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، فليس كل من في قلبه شيء يسأل، فإن الرسول لا يطيق هذا، فلما أدبهم وأصبحوا لا يسألون كانوا يفرحون بقدوم الأعرابي إذا دخل يسأل، والأعرابي ليس عنده علم، فما تحضّر ولا تأدب، فيأتي يسأل، وعندما يسأل يرتاحون، ويسمعون الهدى.وبناءً على هذا شاء الرحمن جل جلاله أن يبعث بجبريل في صورة رجل قال واصفه: ( شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر )، أي: ليس فيه شيب، ( لا يرى عليه أثر السفر )؛ لأن المسافر في تلك الأيام إذا جاء من السفر يكون مليئاً بالغبار، و.. و.. ولا تسأل، ( ولا يعرفه منا أحد )، فدخل المسجد ومشى حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمهم كيف يجلس طالب العلم، قال: ( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه ) فقواه الكامنة والباطنة جمعها، وأخذ يسأل، والصحابة يسمعون.وأول سؤال قاله: ( أخبرني عن الإيمان؟ ) أي: ما هو الإيمان؟ ( قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه! ) إذاً هو أعلم أو ماذا؟.( قال: أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت )، وهذه هي قواعد الإسلام الخمس، ولو سقطت قاعدة يسقط السقف ولا يبقى، ولا إسلام لمن سقطت قاعدة الإسلام منه.

مرتبة الإحسان

ثم قال: ( أخبرني عن الإحسان؟ قال: الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، الإحسان: أنك عندما تعبد الله بأنواع العبادات كالطواف .. أو السعي .. أو الوقوف في عرفة .. أو الاغتسال والوضوء .. أو الصلاة .. أو الصدقة، وعندما تباشر العبادة تفعلها وكأنك تنظر إلى الله، فإن عجزت عن هذا المستوى وما وصلت إليه فدونك المستوى الثاني، ولا عذر بعده، وهو أن تعبد الله بتلك العبادة وأنت تعلم أن الله ينظر إليك.ومن لم يعبد الله على حال من الحالين فما صحت عبادته ولا عبد الله، بل أساء وأفسد، وما أصلح ولا أحسن، إذ لابد للعابد عند مباشرة العبادة أن يكون مع الله كأنه يراه، فإن نزل عن هذا المستوى يُشعر ويعلم نفسه أن الله ينظر إليه، ومن ثَمَّ لا يقدم ولا يؤخر، ولا يزيد ولا ينقص، ولا يلتفت، حتى يكملها، ولهذا هذا الركن الواحد بدونه تسقط تلك الدعائم والأركان.فالإحسان: هو إتقان العمل وتجويده حتى يكون منتجاً للطاقة النورانية .. مولداً للحسنات؛ لأن العبادة من حيث هي عندما تقول: سبحان الله! إن كنت مؤمناً، وعارفاً، وسبحت الله؛ نزهته وقدسته وكأنك تنظر إليه، أو أنت تعلم أنه يراك، فأنتجت هذه الكلمة مادة نورانية سماها الشارع الحسنة؛ لأن النفس تحسن وتجمل بها، فلا تقبح وتتعفن كالسيئة.فلهذا: يا عباد الله! كلنا في هذا الباب متخلف وما تقدمنا، فيجب أن نعبد الله في حالة من الحالتين: إما وكأننا نراه، فإن عجزنا عن هذا المستوى وما استطعنا فعلى الأقل نعبده ونحن موقنون أنه ينظر إلينا، ومن ثم لا نزيد ولا ننقص، ولا نخافت ولا نسارع، ولا نفسد العباده عنا، فتنتج الطاقة النورانية المطلوبة.إذاً عرفتم الإحسان؟ عرفتم الإيمان؟ الإسلام؟فالإيمان عقيدة، والإسلام عمل؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، صوم رمضان، حج البيت الحرام مع القدرة عليه. والإحسان معناه مثلاً أن الخياط الذي يخيط الثوب يجب أن يراقب الله وأن يحسن الخياطة وإلا غش الناس. وقد وصلنا إلى مستوى أن أصبح الخياط يقول: هذه خياطة السوق، وهذه خياطة الذمة. فخياطة السوق يبيعها في السوق، ويلبسها الفحل يومين .. ثلاثة ثم تتمزق، وهناك خياطة أخرى تسمى خياطة الذمة. وأسألكم بالله: أيجوز هذا؟ كيف يصح؟ ولا لوم ولا عتاب فما عرفنا الله بعد، ولا تعلمنا الهدى والطريق إليه، فنحن مشغولون بدنيانا.

أمارات الساعة

ثم قال: ( أخبرني عن الساعة؟ )، أي: أتدرون ما الساعة؟ وهي نهاية هذه الحياة الدنيا، ( فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ). المسئول هو الرسول، والسائل هو جبريل، فقال الرسول: ما أنا أعلم منك، أي: أبداً ما المسئول بأعلم من السائل في هذه القضية، وهل جبريل يعلم متى الساعة؟ والله لا يعلم، قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187]، فالعالم العلوي ما عَرَف، وليس له أن يعرف؛ لحكمة إلهية أخفاها عن الملائكة .. عن الإنس .. عن الجن.ثم قال: ( أخبرني عن أماراتها )، يصح أن تقول: أماراتها أو إماراتها؟ والعوام يقولون: الأمارة. وأين الأمارة؟ الأمارة هي التي فيها الأمير. والإمارة: من أمر يأمر أمراً فهو آمر، والإمارة مكان الأمر والنهي. والأمارات جمع أمارة، بمعنى: علامة، والعامة يعرفون الأمارة والعلامة: أمارته وعلامته كذا وكذا.قال: ( أخبرني عن أماراتها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أن تلد الأمة ربتها )، والآن ليس عندنا إماء ولا عبيد. ويا ليتنا نكون عبيداً لله، صادقين في العبودية؛ لأن الإماء يوجدن أيام الجهاد؛ وذلك لما نحمل راية لا إله إلا الله وننشر الهدى، فمن وقف في طريق النور وأراد الظلم للبشرية نصفعه، وأسراهم عبيد لنا حتى يدخلوا في رحمة الله.وقوله: ( أن تلد الأمة ربتها ) معناه: يظهر الجهل ويعم، فالأمة تلد، ثم تلك المولودة تجد الأمة والتي هي أمها تباع في السوق فتشتريها فتصبح ربتها، للجهل واختلاط الأمر.ثم قال: ( وأن ترى الحفاة )، جمع: حافي، أي: ليس في رجليه نعلان ولا حذاء، ( العراة ) ليس فيه إلا ستارة تسمى: إزاراً أو رداء يرتديه، ( رعاء الشاء أو رعاة الغنم يتطاولون في البنيان ) وهذا قد وقع، فتجد من يقول: أيهم عمارته أطول، لقد بلغت عمارة فلان عشرين طابقاً .. ثلاثين طابقاً .. عشرة طوابق .. خمسة طوابق، عجباً لهذا الرسول! وليس هذا في المملكة والحجاز بل في العالم بأسره، فرعاة البقر في أوروبا يتطاولون بها، ورعاة الإبل يتطاولون بها؛ لأن هذا حكم عام.إذاً: قربت الساعة!قال: ( وترى الحفاة العراة العالة )، أي: الفقراء ( رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )، أي: أيهم يكون بناؤه أطول وأعلى.والشاهد عندنا أنكم عرفتم الإيمان والإسلام والإحسان، ولو رجعت إلى البيت عليك أن تفكر فيما قلناه، فإذا غابت عنك كلمة فاسأل أي مؤمن وقل له: من فضلك! أنا نسيت كذا فذكرني. وبمجرد ما تعزم هذه العزيمة وتطبقها فإنك ستتعلم، أما أن نجلس ولا نحفظ، ولا نعمل، فما قيمة جلوسنا؟!

أثر الإيمان في حياة القلوب

أقول معاشر المستمعين والمستمعات: يقول تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:82]، بم؟ بما علمتم.وهذا الإيمان قررناه مئات المرات أنه بمثابة الطاقة الدافعة، وإذا نفدت الطاقة من السيارة فإنها لا تمشي، وبطارية السيارة إذا نفدت فإنها لا تشغل شيئاً بل تصاب بالحشرجة التي في الصدر، وصوتها كصوت المريض الذي يموت، فهذه الطاقة هي الإيمان، فإذا كانت صحيحة وسليمة وقوية فإنها تدفع صاحبها إلى أن يقوم الليل كله .. إلى أن يعتزل النساء طول حياته .. إلى أن يرابط في الجهاد فلا يخرج.والإيمان طاقة قوية حملت بعضهم على أن يخرج من ماله كله، ولولا هذه الطاقة الإيمانية ما استطاعها إنسان، وهذه الطاقة إذا سلمت من الحيف، والزيادة، والنقص، والخرافة وعرفتها كما عرفك الله، ثم قويتها وزدتها دائماً وأبداً فإنها تثمر وتنتج باستمرار.لكن بم تزيد هذه الطاقة؟من مظاهر زيادة هذه الطاقة أنك إذا شعرت بضعف في هذه الطاقة فقم وصلِّ ركعتين، أو أخرج من جيبك ريالاً أو ريالين وتصدق.فلما تشعر بفتور أو ضعف في طاقتك قوها بعمل صالح؛ ولهذا قالت العلماء: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، فيوالي معصية بعد معصية فيخفت ذلك النور وينتهي.ولهذا عرض القرآن عرضين، فشاهدوا، هل تجدون أنفسكم -أيها المؤمنون- موجودين أو لا؟العرض الأول من سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ بصدق وحق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]، إن شاء الله معهم؟ما رأيتمونا؟ ما رأيتم أنفسكم؟ موجودون إن شاء الله.وأنت إذا قلت لأحدهم: يا سيد! كيف تبيع مجلات الخلاعة وصحف الباطل من أجل الريال! لا تبع هذا الباطل. يقول -مع الأسف-: الزبائن لا يشترون الأشياء الأخرى إلا إذا بعت هذه.قلنا: هل هذا توكل على الله أو على المجلة؟أين التوكل على الله: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #114  
قديم 28-08-2020, 03:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (63)
الحلقة (70)




تفسير سورة البقرة (33)


أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلا الله وحده، ولا يعبدوا معه غيره، وهذا البند هو أكثر ما أكد عليه القرآن، ومع هذا نجد كثيراً من المسلمين لا يحققونه، ولا أدلّ على ذلك من انتشار الأضرحة، ومظاهر التعبد لغير الله، أما البند الثاني من الميثاق فكان متعلقاً بالإحسان إلى الوالدين، وهذا معنى يشمل كل ما يسمى أحياناً بما في ذلك صلة أهل ودّهم.

تابع تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:81-83]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

تدسية النفس بكسب الخطايا والسيئات

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81-82]، هذا قضاء الله .. هذا حكم الله، وقد عرفنا -والحمد لله- الآية التي تحمل هذا الحكم الإلهي، وأصبح من الضروريات عندنا معشر أهل هذا الدرس! وهو قول الله تعالى بعد ذلكم الإقسام العظيم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت فإن نسبتك إلى الآباء والأمهات لا تغني عنك شيئاً، وما هو إلا أن تزكي نفسك فتنجو من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، أو تدسيها فتذل، وتهون، وتخسر في الدنيا والآخرة.أعيد هذا الحكم وتأملوه، وأعيدوه، وتحدثوا به، وبلغوه اليهود والنصارى والمجوس والمشركين؛ إذ الكل عبيد لله، خلقهم ورزقهم، وإليه مصيرهم، أحبوا أم كرهوا، فتَجاهلهم لا يجدي ولا ينفعهم، فهم مخلوقون مربوبون، يجب أن يتعرفوا إلى خالقهم وربهم، وهذا حكمه فيهم بعد أن أقسم تعالى بأعظم إقسام: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، هذه تسعة أيمان، حتى أقسم بنفسه.لكن على ماذا أقسم؟ أقسم على هذا الحكم الذي لا ينقض بحال من الأحوال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه، فطهرها وطيبها حتى تكون كأرواح أهل الملكوت الأعلى صفاءً وطهراً، وَقَدْ خَابَ خسر مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].وكأنكم تسمعون رسول الله وهو ينادي: ( يا بني فلان! يا بني فلان! أنقذوا أنفسكم من النار )، حتى قال: ( يا فاطمة ! إني لا أغني عنك من الله شيئاً ).والآية تبين لنا الآن ما تدسى وتزكى به النفس، فقال تعالى: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، تدست نفسه، وخبثت، وتلوثت فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81].إذاً: النفس تتدسى وتخبث بالسيئات، وبتلك الأقوال والأعمال والاعتقادات التي حرمها الله، وأودع فيها مادة الخبث، وما من عبد يفعلها إلا وتخبث نفسه، وخالق السم في العقرب والأفعى هو جاعل هذه التدسية في الكذبة يكذبها عبد الله.

تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح

بم تزكو النفس؟قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، فبين لنا ما تزكو به النفس، وهو الإيمان والعمل الصالح.فسبحان الله العظيم! أبعد هذا نطلب مزيداً؟!أيحلف الجبار على أن من زكَّى نفسه فاز، فزحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن دساها فقد خاب وخسر، ونطلب غير ذلك؟!بين الله لنا الفوز بقوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وبين التدسية أيضاً ومعنى الخسران فقال: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

تعجيل التوبة من الخطايا

معاشر المؤمنين والمؤمنات! إذاً: هذه الآية تخاطب بني إسرائيل .. اليهود الذين كانوا يجادلون رسول الله في المدينة، فلما ادعوا تلك الدعاوى أبطلها الله، وبين أنه لا قيمة للنسب. بَلَى [البقرة:81] أي: ليس الأمر كما تدعون، كيف إذاً يا ألله؟! قال: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، لأن الخطايا لا تأتي إلا بعد أن تكون خطيئة، فلهذا إذا اقترفت ذنباً فعجِّل بالتوبة وإلا فستتوالى الخطايا، والتوبة تجب على الفور بإجماع هذه الأمة؛ لأنك إذا أذنبت وتساهلت فسوف تتوالى الخطايا، وتحيط بنفسك، وحينئذ يكون قد فُرغ منك، ولن ينفعك شيء.قال: فَأُوْلَئِكَ [البقرة:81] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، فالنار عالم، وما عالمنا هذا إليه إلا كقطرة ماء في المحيطات الخمسة، واللسان فقط يقول: النار، وكوكب الشمس المضيء؛ الملتهب، الذي هو أكبر من الأرض بمليون أو نصف مليون مرة، لو كان هو النار فلن تملؤه البشرية ولو كانت مثل هذا خمسين مرة، لكن هذا الكوكب سيحترق وينطفي، والنار وراء ذلك.

التلازم بين الإيمان والعمل الصالح

قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، فلولا الإيمان ما عمل عبد الله العمل الصالح، وإياك أن تتصور إيماناً بدون عمل صالح، أو تتصور عملاً صالحاً بدون إيمان، فإنك ما أصبت الحق.كيف هذا؟إذا وجد الإيمان الحق المطلوب فأنت تجري وتطلب أهل الأرض: دلوني على عمل يحبه ربي .. دلوني على ما يكره مولاي. فلا تستطيع أن تؤمن بالله ولقائه ولا تعمل ما يرضيه، ولا تترك ما يسخطه، هذا مستحيل.فالإيمان بمثابة الروح، وإذ حيي العبد أمكنه أن يسمع ويبصر، ويقول ويعمل، لكن قبل الحياة كيف يعمل؟ لا يستطيع.فلا تتصورن وجود إيمان حق بدون عمل صالح، إلا لمن آمن ومات مباشرة. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم أدركه الموت، فلا اغتسل، ولا صام، ولا صلى.أما أن تتصور أن إنساناً أو جاناً يعيش مؤمناً اليوم واليومين .. والعام والعامين ولا يطلب مرضاة ربه بالعمل الصالح، وترك سخطه بالعمل الفاسد، فوالله ما كان ولن يكون، ومن عنده دليل فليأتنا به؟فكونك تجد عملاً صالحاً بدون إيمان هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يكون العمل -حقيقة- صالحاً وناتجاً عن غير إيمان بالله ولقائه، فلهذا هما مقرونان في كل آيات القرآن: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، حتى إذا ذكر الصالحات أولاً يأتي بالإيمان بعد ذلك: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أي: والحال أنه مؤمن.إذاً: هذه الآية الكريمة تكفينا وتكفي أهل الأرض، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله عن سورة (والعصر): لو ما أنزل الله تعالى إلا هذه السورة لكفت. لأن الله عز وجل أقسم بالعصر، وله أن يحلف بما يشاء. فحلف على أن هذا الإنسان مخلوق في خسر، واستثنى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ...)

الآن مع هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى وهو يخاطب نبيه فيقول: اذكر لهم، أي: لهؤلاء المتعنتين الخصوم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83]، ومن الذي أخذ ميثاق بني إسرائيل؟ الله.ما هو الميثاق؟ الميثاق هو العهد المؤكد بالأيمان .. العهد المغلظ المشدد الموثق بالأيمان، كأن يقول: والله لا أخلف وعدي معك، أو لأفعلن ما قلت، أو لأنهضن بما كلفت.قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وبنو إسرائيل -يرحمكم الله- هم اليهود.ولم قيل فيهم: بنو إسرائيل؟ ذلك لأن جدهم إسرائيل: عبد الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، هم بنو إسرائيل.ومن عجائب الحياة أن هذا النوع من البشر احتفظ بجنسيته، فلا يقبلون من يدخل في دينهم، ولا يدعون الناس إلى دينهم، ومن شك فليسأل أبناءنا وإخواننا الذين لهم الآن خمسة وأربعين سنة مع اليهود، بل من قبل: هل حاولوا أن يدخلوا فلسطينياً في اليهودية؟ أبداً، وقد يعيشون في أوروبا .. في آسيا .. في أفريقيا ولا يدعون أحداً لأن يدخل إلى دينهم، ولا يقبلون من ينتسب إليهم، إلا نادراً ولأغراض سياسية، ولا يقع هذا إلا مرة واحدة في مائة سنة.فلهذا يخاطبهم الله بهذا اللقب: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فليس فيهم دخيل، لم هذا؟ لأن علماءهم غشوهم، وأحبارهم ضللوهم بأنهم هم الشعب المختار عند الله .. وأنهم هم أفضل المخلوقين من بني آدم، وهذا كان في أيام الطهر والصفاء، نعم! فضلهم الله على العالمين، وهم عباده، وله أن يفضل من يشاء؛ ففضلهم لما كان فيهم من أنوار الهداية الإلهية، ولما كان في كل بيت منهم يوجد نبي، لكن لما انتكسوا وهبطوا، وقتلوا الأنبياء والعلماء، وحرفوا دين الله لعنهم الله. والمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق وأعرضوا عنه، وهم المغضوب عليهم في سورة الفاتحة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]. ولم غضب عليهم؟ لأنهم حرفوا كلام الله، وأفسدوا دين الله، ونقضوا العهود مع الله، فلعنهم الله، وغضب عليهم.ومن يسلك سلوكهم يحل محلهم؛ إذ البشرية كلها جنس واحد، وفي الحديث: ( كلكم لآدم، وآدم من تراب )، ( لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى )، ولم التقوى؟ لأنها تزكي النفس وتطهرها، فالمتقي هو الذي يعمل بمزكيات نفسه ومطهراتها من الإيمان والعمل الصالح، ويعيش يتهرب ويتجنب مدسيات النفس من الشرك والمعاصي، فهذا ولي الله الذي ينزل الملكوت الأعلى، سواء كان أبيض أو أسود.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #115  
قديم 28-08-2020, 03:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

أخذ الميثاق من بني إسرائيل

قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83]، فما مضمون هذا الميثاق؟ وما هي بنوده ومواده؟من الجائز أن تكون الوصايا العشر، والوصايا العشر يعتز بها اليهود اليوم، ومنذ عهد موسى، ولكن اعتزاز المسلمين اليوم ومنذ ألف سنة بالقرآن أكثر، ولكن بلا عمل.فاليهود إلى الآن لو تتصلون بهم وتدارسونهم لوجدتهم معتزين اعتزازاً بالوصايا العشر وهي وصايا الرب تعالى، وقد أخذ عليهم فيها العهد والميثاق.أما نحن فقد أعطانا الوصايا العشر، وزادنا العشرات بل المئات، فهل أخذنا بتلك الوصايا.اسألوا المؤمنين: هل عرفوا هذه الوصايا؟ وأين هذه الوصايا؟إنها عشر وصايا تعدل وصايا بني إسرائيل وتفوق بحسب مستوانا وقربنا من ربنا.هل تسمعون عن الوصايا العشر؛ لتعرفوا هل أنتم نفذتم الوصايا أو لا؟ أو ليس لكم حاجة؟!أعوذ بالله! كيف نأكل ونشرب ونحيا إذاً ونحن لا نعرف هل مرضي عنا أم مسخوط علينا؟!وها نحن نقرأ فقط من باب العرض التلفازي، فشاهدوا أنفسكم هل طبقتم هذه الوصايا العشر أو بقيت وصايا ما كملناها، ومن ثم نعزم ونصحح العزم على أن نطبقها؛ إذ هي ليست وصايا من الصعوبة أنها مستحيلة، لا، أبداً، فما كلفنا الله بما نعجز عنه.لقد جاء ذكر الوصايا العشر في سورة الأنعام، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم. وسورة الأنعام لما نزلت جملة واحدة زفها سبعون ألف ملك نزلوا معها. وكم طالبنا وصحنا عشرات السنين: هذه السورة يجب أن يفرض حفظها ودراستها في كل معهد .. في كل مدرسة .. في كل كلية في العالم الإسلامي. ومع هذا:لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تناديبسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].لمن هذه الوصايا؟ أليست للمؤمنين المسلمين؟كم وصية؟ عشر وصايا.كيف حالكم معها؟ نحمد الله، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، إما أن توفي الكيل والميزان أو تطفف.والشاهد عندنا: ليس بنو إسرائيل وحدهم أخذت عليهم المواثيق والعهود، بل نحن أكثر منهم، وتقدم لكم أن من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقد أعطى العهد والميثاق لله أن ينهض بكل تكليف، وأن يترك ويتجنب كل محرم ومنهي عنه، وإلا خان عهده ونقضه.

أخذ الميثاق بعبادة الله وترك عبادة غيره

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83] بنوده: أولاً: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83].أول بند هو ألا يعبدوا إلا الله، وهذا لازم أن يعبدوا الله أولاً، ثم لا يعبدون معه غيره، فليس معناه: لا تشرك فقط، ولا يقال: لا تشرك إلا إذا كنت تعبد، ومعنى هذا: اعبد الله وحده، وهو معنى لا إله إلا الله.وهذه هي المادة الأولى أو البند الأول في هذا الميثاق الإلهي، الذي أعطاه بني إسرائيل على عهد موسى.وقوله: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ جملة خبرية معناها الإنشاء، أي: اعبدوا الله وحده.فإن قال قائل: يا شيخ! كيف نعبد الله وحده؟الجواب: اسأل أهل العلم: بم يعبد الله، وكيف يعبد؟ ولا بد أن تسأل: كيف يُعبد الله، وكيف أعبده؟ ومن لم يسأل لم يعرف، ومن لم يعرف هل يقال فيه: عبدَ الله؟ كيف عبده؟! فلا بد وأن يسأل أهل العلم، والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].فكل من لا يعلم يجب أن يسأل حتى يعلم، وكل من سئل وهو يعلم عليه أن يُعلِّم حتى يعلم السائل ما طلب.ومن هنا المفروض أن أمة الإسلام وإن بلغت خمسمائة مليون لا يوجد بينها رجل ولا امرأة جاهل. صح هذا أم كذب؟ هذا هو الواجب، فلا ينبغي أن يعيش من المسلمين رجل أو امرأة العام والعامين والعشرة الأعوام وهو لا يعرف كيف يعبد الله، ولا بم يعبد الله! لأنه مأمور؛ فالله هو القائل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فنسأل أهل الذكر، والذكر هو القرآن: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1].هذا إن كنتم لا تعلمون، أما إذا كنت عالماً فلا تسأل، وإنما تهيأ فقط لأن تُسأل فتُعلِّم.لكن متى يفيق النائمون؟ ومتى يصحو السكارى بحب المال والدنيا؟ ومتى يصبح العالم الإسلامي نساء ورجالاً كلهم علماء؛ فيعرفون ربهم معرفة تثمر لهم حبه في قلوبهم، فيحبون الله أكثر من أنفسهم، وأموالهم، وأهليهم، وتصفو لهم خشيته في قلوبهم، فيرهبونه، ويرتعدون من ذكره، ثم يطيعونه.فإذا أحل لنا الحلوى نأكل: بسم الله .. وإذا حرَّم الدخان والشيشة امتنعنا .. وإذا أمرنا أن نلبس خاتم الفضة لبسناه .. وإذا نهانا عن خاتم الذهب تركناه، وهكذا فعل وترك، والفعل مستطاع وفي قدرة الآدمي إن خلا من علل وأمراض، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.ماذا نقول: هل من عودة؟ نعم، عائدون!هل هناك طريق قريب يا أبنائي؟!الطريق البعيد هو أحلام الغافلين من أمثالنا كأن يقول: هذا يوم تكون الخلافة! ونحن نعمل على إيجاد الخلافة الإسلامية.لكن متى توجد الخلافة؟!وإذا وجد الخليفة نكفره، ونرميه بقواصم الظهر حتى لا يطاع، وهذا هو واقعنا.أنا قلت غير ما مرة: لو أن عمر رضي الله عنه خرج في هذا المجتمع فلا يستطيع أن يفعل شيئاً أبداً، فالقلوب متفرقة، والأهواء والرغائب متنازعة، والشهوات عارمة، فكيف يجمعهم؟!إذاً علينا أولاً: أن نؤمن، وأن نحقق إيماننا بالله ولقائه، فإذا آمنا وحيينا فحينئذ كلف يا عمر ! ومر فإنك تطاع، أما ولا إيمان حق فكيف يكلفنا؟!

طريق النجاة

إذاً: ما هي الطريق؟أيها المفكرون! يا علماء الإسلام! نبحث عن طريق للخلاص والنجاة، فقد كونا منظمات وجمعيات فما نفع! فما الطريق؟وهنا عدنا من حيث بدأنا، فعلينا أن نسلك مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.ماذا كان يفعل في مكة وهو محاصر، كان إخوانه مضطهدون يعذبون أمامه، وهو قد منع من المسجد الحرام، فجمع المؤمنين في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وما جمعهم في هذه الدار لأكل البقلاوة، والحلاوة، والرز، واللحم، لا والله، إنما جمعهم ليعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ويطهرهم من أدران الأوساخ، والشرك، والمعاصي، والذنوب.ثم هاجر إلى المدينة النبوية في السنة الثالثة عشرة من البعثة، فنزل بديار عوف بن مالك بقباء، ونزل هناك مع زميله .. مع رفيقه .. مع خليله، وإن قال في الحديث: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن حسبي خلة ربي ). وما مضى عليه أسبوع إلى ثلاثة عشر يوماً حتى بنى مسجد قباء، فبنى المسجد في سبعة أيام أو ثمانية أيام، وبنى هذا المسجد ليجمع المؤمنين والمؤمنات -وهم أقليات- من أجل أن يعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم.أصحيح هذا الكلام أم لا؟ والله إنه لصحيح. وخرج من دار عوف بن مالك في موكب النور، وبطون وأفخاذ وقبائل الأنصار تقول: عندنا يا رسول الله! هنا النزول .. هنا النزول .. انزل عندنا، فيقول: ( اتركوا القصواء فإنها مأمورة ). فيمسكون بخطامها: انزل! لا .. لا، اتركوها، فتمشي وتمشي، والناس وراءه وأمامه، والدنيا كلها فرح، ولم لا ورسول الله بينهم؟ حتى وصلت إلى تلك الروضة وبركت، فأرادوا أن يقيموها فقال: ( دعوها فإنها مأمورة. هنا يبنى المسجد ).ودار أبي أيوب بينه وبين المسجد خمسة أمتار أو ستة.وبنى المسجد، فطلب عوناً من ربه، والله كأنكم ترونه وهو يحمل الحجارة على كتفيه، من هو هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو يتقاول بتلك الكلمة:اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرةوالناس يقولون معه؛ حتى يتشجعوا على البناء ومواصلة العمل:اللهم لا عيش إلا عيش الآخرةفاغفر للأنصار والمهاجرةوبنى المسجد، وأي مسجد هذا؟ هو هذا الملاصق لحجراته، وبنى بعد ذلك الحجرات، واشترى هذه التربة من يتامى، إلا أن أولياء اليتامى قالوا: لن نأخذ ثمناً، نحن سندفع الثمن.ولم بنى المسجد؟ ليجمع المؤمنين والمؤمنات؛ فيعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم.وجمعهم أم لا؟ وتعلموا أم لا؟والله ما اكتحلت عين الوجود بخريجي مدرسة أو جامعة أو مسجد كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواحد منهم يزن الدنيا!وسأعطيكم نماذج لتعرفوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تخرجوا من المسجد، لا أقل ولا أكثر:لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي الخلافة أبو بكر ، وكان يسكن في العوالي، فإذا به يسمع جارية تقول: آه! أبو بكر الآن ولي أمر المسلمين، فمن يحلب لنا؟ نعم كان أبو بكر يحلب لأهل الحي أغنامهم، فقال: لا يا بنيتي! ما زلت أحلب لكم.انظروا إذا تجدون في العالم هذا النوع من البشر!ونحن يعلق أحدنا خيطاً عسكرياً فيرتفع رأسه في السماء، ولا يعرف شيئاً.وأما إذا حصل على مليون ريال فحدث ولا حرج!وهذا سلمان الفارسي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ( سلمان منا آل البيت )، كان أبوه -عليه لعائن الله- هو الذي يوقد نار الشرك، أي: المسئول عن تأجيج النار التي تعبد في بلاد فارس، وهو القيّم على الإله.فأنقذ الله هذا الولد بعدما تجرع الغصص، وتذوق آلام الحياة وأتعابها، فما وصل إلى المدينة حتى بيع عبداً مرتين أو ثلاثاً، وهو يتنقل من إقليم إلى إقليم يسأل عن الهدى، فما اطمأنت نفسه إلى عبادة النار، وقد وجد من رجال المسيحية بصراء عقلاء مَن يرشده قائلين: إننا في انتظار نبي آخر الزمان. فيقول: صفوه لي وأعطوني علاماته. حتى قالوا: يوجد في قرية ذات نخيل وسبخة يقال لها: يثرب. فتنقل حتى وصل المدينة بعد عشرين سنة.فلما حكم عمر أو أبو بكر ولاه ولاية البصرة، فجاءت قافلة تجارية كبيرة من الشام ودخلت البلاد، فوضعوا أمتعتهم، وأناخوا إبلهم، أو ربطوا بغالهم وحميرهم، فليس هناك سيارات ولا قطارات يومئذ.وجاء سلمان وفي يده عصا.قالوا: من هذا؟ هذا لا نعرفه. تعال يا حمال.قال: ماذا تريدون؟قالوا: احمل معنا هذه الأمتعة إلى الفندق. فوالله لقد حمل حقيبتين أو ثلاثاً، واحدة على رأسه، وأخرى بيمينه وأخرى بشماله، ومشى إلى الفندق، فمر بهم بصري: يا جماعة! ويلكم هذا والي المدينة.قالوا: الله؟! قال: نعم. فأخذوا: يا والي! لوجه الله سامحنا. قال: اسكتوا، والله لا أضعها حتى أصل إلى الفندق.أرأيتم خريجي المسجد النبوي أم لا؟! وحسبنا هذا.فإن أردنا أن نصل إلى السماء، وننزل الملكوت الأعلى فهذا هو الطريق، فلا حزبية، ولا تكتلات، ولا تجمعات ولا أحلام، ولا تكفير، ولا عمل، إلا أن نعرف ربنا المعرفة الحقة، فنعرف كيف نعبده، وبماذا نعبده، والطريق يكون في العودة إلى بيوت الله؛ فلا كبر، ولا غطرسة، ولا مال، ولا شرف، بل نجتمع في بيت ربنا في الحي أو القرية، الغني كالفقير، العالم كالجاهل، الذكر كالأنثى، إلا أن النساء وراء الستارة، والفحول أمامهن، وكل ليلة وطول العام ندرس ماذا؟ تاريخ أفلاطون ! وسياسة نابليون ! ندرس قال الله وقال رسوله. وبعد عام .. عامين فقط تتجلى أنوار تتحير لها عقول البشر: كيف استقامت هذه الأمة؟! أين درست؟ ماذا تعلمت؟هذا هو الطريق.وهل هناك طريق آخر؟والله لا أراه، والتجارب كافية، فدعونا، وقد صحنا منذ ستين سنة وما تحركنا، وما زلنا في أماكننا! والآن معاشر المستمعين! أنتم في مسجد رسول الله أم لا؟ في دار النبوة أم لا؟ هل تسمعون غير الحق والهدى؟ والله ما كان ولن يكون.وإن قلتم: ها نحن مع اليهود، والله يقول لهم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83] أولاً: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83] وثلاثة أرباع المسلمين يعبدون الأولياء، فهذا يحلف بهم، وهذا يعكف على قبورهم، وهذا ينذر لهم، وهذا يدعوهم ويستغيث بهم، وإن خَفَّ هذا نوعاً ما لانتشار الدعوة. فثلاثة أرباع المسلمين لا يفكرون في لقاء ربهم، ولا يسألون عن محابه ولا مساخطه، ولا ما هو المصير ولا المنتهى، فهم مشغولون بالطعام والشراب والنساء، وهكذا! فكيف نعود؟من جديد نعود إلى المسجد، وكتاب: (المسجد وبيت المسلم) هذه هي الحيلة التي يسرها الله، وأعلناها للمسلمين، وما بلغنا أن قرية أو مدينة أو أهل إقليم في الشرق أو في الغرب عرفوا هذه الحقيقة واجتمعوا على هذا الكتاب إلى الآن!لعلي واهم .. لعلي غافل؟!وقد يقول قائل: ما هذا؟ وماذا ينفع؟تعال أتحداك! هيا نجمع أهل قرية سنة بنسائهم ورجالهم يتعلمون الهدى، ثم ننظر إلى حالهم بعد العام كيف سيكون! فإن وجدت من يقول: فلان زنى اذبحني، أو فلان قتل فلاناً، أو غش فلاناً، أو خدع فلاناً، أو سب أو شتم.إنني أتكلم عن علم، والشاهد في نفسي، فقد عشت ستين سنة أو سبعين والله ما ضربت مؤمناً، ولا أخذت ريالاً لمؤمن، ولا شتمت ولا سببت، لم هذا؟ عرفت فقط، وأمثالي بالملايين عرفوا، فالذين ما عرفوا لا يمكن أن تعول عليهم أبداً في أن يستقيموا، مستحيل.العلم نور، والعلم روح وحياة، وبدونه لا تأمن جاهلاً أبداً، ومن شك فلينظر أحوال المسلمين حكاماً، ووزراء ومسئولين، وكل دولة فيها عشرات المسئولين في وزارة المال .. وزارة الصحة .. وزارة التعليم .. وزارة كذا وكذا فأين آثار ذلك؟! لأنهم ما هم بأهل .. ما هم بصراء .. ما هم واعون .. ما هم عارفون بالله .. لا يبكون من خشيته .. لا يبيتون يتململون ودموعهم تسيل يطلبون رضا الله. فكيف تعول عليهم؟! وكيف يستقيمون؟!

مظاهر الإحسان إلى الوالدين

قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] الإحسان إلى الوالدين، ومن سأل: كيف أحسن إلى والدي؟ ومن هم والداي؟ ذكران أو إناث أو أب وأم؟الوالدان: الأم والأب، والأم يجوز أن يقال لها: الوالد والوالدة أيضاً، كالحائض، إذ ليس هناك رجل حائض حتى نقول: المرأة حائضة، بل حائض. كذلك هل يوجد رجل يلد من بطنه؟ لا يوجد. إذاً: المرأة نقول فيها: الوالد .. هذه الوالد، بمعنى الوالدة.ما هو الإحسان إلى الوالدين؟في أربع كلمات:أولاً: إيصال الخير إليهما. والخير: الطعام .. الشراب .. الكساء .. السكنى .. المروحة، وكل خير تصل به إليهم.ثانياً: كف الأذى عنهما، حتى ولو كان كلمة غضب: أف! فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، ومنع الأذى تماماً حتى كلمة تحدث المساءة في نفسيهما لا تقال.ثالثاً: طاعتهما في المعروف، فإذا قالت أمك: طلق هذه لا تصلح عندنا، طلقها، لم؟ لأن إبراهيم عليه السلام قال لإسماعيل: غير عتبة بابك. فغير أم لا؟ وذلك عندما جاء إبراهيم من الشام؛ من القدس يتعهد تركة ولده إسماعيل في الوادي الأمين، وقد تزوج جرهمية، إذ نزلت هذه القبيلة عندهم، فجاء فسأل: أين بعلك؟ أين زوجك؟ قالت: ذهب يطلب لنا الرزق. قال: من أين؟ قالت: يصيد غزالاً .. أرنباً. إذ ليس عندهم إلا اللحم والماء فقط، فلا يوجد لديهم عنب أو فاكهة أو خبز. وإلى الآن يقول أهل العلم: يستطيع أهل مكة أن يعيشوا على اللحم والماء، ولا يستطيع أي شعب أو بلد أن يعيش على هذا!فقال: كيف حالكم؟ قالت: إننا في بؤس .. إننا في شقاء .. إننا في كذا.قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه!فجاء إسماعيل بعد يوم أو يومين من الصحارى وهو يحمل الغزلان والضباء: السلام عليكم! قالت: وعليكم السلام. قال: هل زارنا أحد؟ فراسة .. تباشير النبوة. قالت: نعم. قال: ماذا قال؟ قالت: يقرئك السلام ويقول لك: كذا وكذا، قال: ذاك أبي، وقد أمرني بفراقك، الحقي بأهلك! فطلقها أم لا؟!ثم غاب عاماً آخر، وجاء إبراهيم زائراً فقال: السلام عليكم، كيف الحال؟ قالت: إننا في خير .. إننا في نعمة .. في فضل الله .. في رحمة الله .. في بيت الله.إي! هذه خلاف الزوجة الأولى، الأولى كأنها خريجة جامعة تريد الوظيفة والمال.قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له يثبت عتبة بابه. أي: يركزها.ثم جاء إسماعيل فقال: هل زارنا أحد؟ قالت: نعم. ماذا قال؟ يقول: كذا وكذا. قال: ذاك أبي، وقد أمرني بأن أثبتك في البيت. لتنجب بعد ذلك عدنان أبا سيد المرسلين.هذا درس علمي لا تجده في جامعات الدنيا.فنقول: إذا كان أبوك صالحاً وأمك صالحة وقالا: طلق هذه، فيجب أن تطلق؛ لأنهما عرفا عنها، فلا تصلح لك، ولئلا تنجب لك الأولاد.أما إذا كان الأبوان كما نحن عليه الآن أهل أهواء، ودنيا، وشهوات، وغيرة، وحسد فلا تطعهما، فإن قالا: طلق. فلا تطلق، قل: هي امرأة مؤمنة، تقية، صالحة، متحجبة فلم أطلقها؟وهذه النقطة خير من خمسين كيلو غرام ذهب لمن يعلم، ويعي، ويحفظ.إذاً: ثالثاً: طاعتهما في المعروف، وهو ما عرفه الشرع من عبادات وطاعات .. من خير وإحسان، أما إن أمرا بمنكر فـ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).قالت أمك: لا تصلِّ فهل تطيعها؟! قالت: لا بد أن تشرب الحشيش؟!فوالله لا طاعة لها: ( إنما الطاعة في المعروف )، والقرآن يصرح بهذا: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].رابعاً: صلة من تربطهم بك رحم واحدة، فالذين يرتبطون مع أمك أو أبيك برحم تصل الجميع.خامساً: أن تصل من كان صديقاً لأبيك أو أمك، فمن كانت لأمك صديقة ثم ماتت أمك، فزرتها فوجدتها، فينبغي أن تحسن إليها وتكرمها؛ لأنها صديقة أمك. وجدت أن فلاناً كان صديقاً لأبيك رحمة الله عليه، فتحبه وتكرمه، وتبجله، وتعظمه؛ لأنه كان صديقاً لوالدك.وانظر إلى هذا المنظر: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجع من مكة حاجاً؛ وقد كان يغزو عاماً ويحج عاماً، هكذا ثلاثين أو أربعين سنة، فنام في الطريق وإذا بأعرابي يقول: يا مؤمن! أعطني شيئاً. فنظر إليه وقال: من أنت؟ قال: أنا ابن فلان صديق عمر . فأعطاه عمامة كان يربط بها رأسه في الليل، وأعطاه حماراً كان يروح عليه، أي: يركب الجمل ساعتين وثلاثاً ثم يخفف عليه فيركب الحمار، فأعطاه العمامة والحمار، فجاء مولاه نافع : يا سيدي! كيف تفعل هذا؟ هذا أعرابي تكفيه حفنة من تمر أو قرص عيش، فكيف تعطيه عمامتك؟! قال: يا نافع ! هذا والده كان صديقاً لـعمر . وفي الحديث: ( من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ).وكل هذا لتتماسك الأسر والعائلات والسكان، ويصبحوا كالجسد الواحد.معاشر المستمعين! حسبنا ما سمعنا. والله نسأل أن يوفقنا للعمل. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #116  
قديم 31-08-2020, 04:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (64)
الحلقة (71)




تفسير سورة البقرة (34)


نص القرآن على ميثاق أخذه الله من بني إسرائيل، لم يكن ميثاقاً عادياً، لقد كان شاملاً كاملاً، تتقاسمه العبادة والمعاملة: توحيد الله، والإحسان إلى كل من الوالدين، وذي القربى، واليتامى، والمساكين، والإحسان في القول، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لكن هؤلاء القوم نبذوا كل هذا وراء ظهورهم إلا قليلاً منهم، والمؤسف أن أمة القرآن قد أصابها هذا الداء.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ... [البقرة:83-85] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

أخذ الميثاق بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به

معاشر المستمعين! كنا قد عرفنا أن الميثاق هو العهد المؤكد باليمين؛ من التوثيق الذي هو الربط والحزم بشدة.والله عز وجل هو الذي يقول لليهود الذين يمثلون بني إسرائيل: اذكروا إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [البقرة:83].وهذا الميثاق له بنود، وقد تكلمنا عن بند واحد.فالبند الأول من البنود التي تضمنها الميثاق: ألا يعبدوا إلا الله: أولاً: يعبدون الله بما شرع أن يعبد به.ثانياً: ألا يشركوا في عبادته غيره، وهذا معنى لا إله إلا الله.فلو سئلت عن معنى لا إله إلا الله، فإنك تقول: لا يستحق العبادة إلا الله، وبحكم أنك شهدت أنه لا معبود بحق إلا الله فوجب عليك أن تعبده، وإلا فإن شهادتك باطلة!ثانيا: ألا تقر عبادة غيره، وإلا ما معنى أنك تشهد على علم أنه لا يعبد إلا الله، وفي نفس الوقت تقر بعبادة سواه؟!وهذه القضية المهمة يا ليت إخواننا يفهمونها، فأنت تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فعلى أي شيء أقمت شهادتك؟ قطعاً ستقول: على علم، فأنا لا أشهد أن إبراهيم بن فلان أو أن خالداً ضرب فلاناً إلا إذا رأيت هذا، فالإخبار شيء، والشهادة شيء آخر، فأنا أشهد على علم أنه لا يستحق العبادة إلا الله.إذاً: فما دمت تشهد على علم فينبغي أن تعبد الله، وإن لم تعبده فشهادتك باطلة. وأنت تكذب!ثانياً: أن تعبده وحده، ولا تعبد معه سواه، وإلا تناقضت من أول يوم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وفلان! ثالثاً: لا نقر عبادة غير الله، ولو نُسأل عن عبادة اليهود .. النصارى .. المجوس .. عبدة عيسى .. عبدة الملائكة .. عبدة الجن .. عبدة الكواكب؛ نقول: هذه عبادة باطلة، ولا نقرها أبداً؛ لأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة، فالعبادة يستحقها الخالق للعبد .. الرازق للعبد .. الكالئ والحافظ له إلى نهاية أجله. أما الذي ما خلق، ولا رزق، ولا حفظ فكيف يعبد! وبأي منطق وبأي حق؟ إنها عبادة باطلة!إذاً: أول بند من بنود هذا الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل وهم في جبل الطور أو في غيره هو ألا يعبدوا إلا الله.

أخذ الميثاق بالإحسان إلى الوالدين

ثانياً: قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] أي: وأن يحسنوا بالوالدين إحساناً عاماً بالآباء والأمهات، وقد عرفتم أن من الإحسان بالوالدين أن يصل بالخير إليهما.وهنا لطيفة: لم قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وما قال: وإلى الوالدين إحساناً؟(إلى) حرف جر تصل به إلى الغاية، فقال: (وبالوالدين)، ومعنى هذا: إذا احتاج الوالد، بل ولو لم يحتج، فلا تضع أمامه الكأس وتقول: اشرب! بل خذ الكأس بيدك وضعه في يده. ولا ترم السجادة وتقول له: افترش، لا! افرشها أنت وقل له: اجلس! ولا تركب في السيارة وتقول له: اركب، بل أنت تفتح الباب وانتظر حتى يركب. وهذا دل عليه حرف باء الإلصاق، فما قال: وأحسنوا إلى الوالدين، إنما قال: أحسنوا بالوالدين. فالباء باء الإلصاق، فليكن الخير الذي تقدمه لهم كأنك تلصقه بهم. ومن ذلك لا تقل: يا أبت! المشلح في المشجب البس واخرج، فهذا لا يجوز، بل ائت به أنت وألبسه إياه، حتى تكون قد أحسنت به.فهل فهم الأبناء هذه: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]؟

صور الإحسان إلى الوالدين

قد عرفتم أن الإحسان بالوالدين يدور حول أربع مسائل:الأولى: أن تصل بالخير إليهما من الطعام .. الشراب .. الكساء .. المركوب .. السكن .. الدواء، تصل به إليهما، ما داموا محتاجين إليك وأنت في غنى عنهم.ثانياً: أن تكف الأذى عنهما، حتى ولو كانت كلمة نابعة أو صوتاً مرتفعاً، والله عز وجل يقول: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] فهذه الكلمة محرمة، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يواجه بها أحد أبويه، فإنها من كبائر الذنوب، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] أما أن ترفع صوتك لا، فليكن صوتك منخفضاً دون صوتهما، ومن كان غير مربَّى ولا مهيأ فليتربَّ من الآن، ويخفض صوته عند أبويه، وليكن صوته دون صوتهما وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] وقد مثلت لكم: افرض أنك طويل وأبوك دونك في الطول، فحاول إذا مشيت معه أن تتقاصر؛ حتى لا تفوقه في الطول، وإذا مشيت معه فلا تمش أمامه بل امش وراءه أو إلى جنبه وأنت متطامن، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وكن ليناً هشاً جداً، لا قسوة ولا شدة ولا غلاظة، وإنما لين وتطامن.ثالثاً: طاعتهما في المعروف، فإذا أمرك أبوك أن تقول أو تفعل أو تعتقد؛ فانظر إذا كان أمره من أمر الله ورسوله فيجب أن تطيعه ولا تتردد، وإن كان أمره مناقضاً لأمر الله ورسوله فأمر الله أولاً! فأنت فُرِض عليك طاعة الوالدين نظراً إلى المعروف الذي قدماه لك، والإحسان الذي بذلاه لك، فأمك حملتك تسعة أشهر، وأنت من صلب أبيك؛ من مائه فكيف إذاً لا تشكر هذا النعيم؟! ولكن شكر الله أولى؛ لأنه خالقك، وخالق أبويك، وخالق الكون لك.وقوله: ( إنما الطاعة في المعروف ) هذا الحكم يتناول أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتناول إمام المسلمين، فالكل لا طاعة إلا في المعروف، ومن قال: وكيف تقول والرسول صلى الله عليه وسلم؟! فليسمع، أقرأ عليه مادة في هذا الكتاب الكريم إذ يقول تعالى للنساء في آية البيعة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ... [الممتحنة:12] فانظر كيف قيد العصيان بالمعروف، وهذا معناه فرضاًً: لو أمر الرسول بغير طاعة الله فلا يطاع! وهذا من باب الفرض فقط لتعليم الخلق، وإلا حاشى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر بغير ما في رضا الله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]. فكل أقضيته وأحكامه وسننه كلها من الله عز وجل، وهذا من باب: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12] أما إن أمرك بغير المعروف فلا حق لك في الطاعة، فكيف إذاً في غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!فإذا أمرك أبوك بألا تصلي فهل تطيعه؟! إذا أمرك ألا تشهد صلاة الجماعة فهل تطيعه؟! إذا أمرك الحاكم أن تشرب خمراً فهل تطيعه؟! إذا أمرك أن تقتل عمراً فهل تطيعه؟! إذا أمرك أن تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل تطيعه؟! الجواب: لا، ( إنما الطاعة في المعروف ).رابعاً: صلة الرحم التي تربطك بهما كجدك وابن أخيك وبقية الأقارب سواء كانوا من الأدنين أو من الأباعد، فما دامت الرحم جمعت الكل فلا بد من هذه الصلة.وأخيراً: بر صديقهما. فإذا كان لأبيك صديق أو لأمك صديقة فينبغي أن تبر هذا الصديق وهذه الصديقة لبر أبويك! وفي الحديث: ( إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه )، وقد ذكرت لكم حادثة عبد الله بن عمر في طريقه من المدينة إلى مكة عندما نزل منزلاً، وإذا بأعرابي يقف ويطلب من ابن عمر مساعدة، فيعطيه عمامته وحماره، والعمامة كان يستعملها في الليل يشد بها رأسه لينام، والحمار يروح به على نفسه، لما يملّ من ركوب الجمل يركب الحمار، والمسافة عشرة أيام في الطريق. فلما أعطى الرجل الحمار والعمامة سأله مولاه نافع : كيف يا مولاي تعطيه مع أن حفنة التمر تكفيه، وليس أن تعطيه هذه العمامة التي تستعملها في ليلك، وهذا الحمار الذي تروح به على نفسك؟! فقال ابن عمر له: إن أباه كان صديقاً لـعمر ! وهذا بعد موت عمر .وبهكذا يوثق الإسلام الروابط بين الأسر .. بين الأصدقاء .. بين الجيران .. بين .. بين .. لتصبح أمة الإسلام أمة واحدة، وقوة واحدة، وحق لها؛ لأنها تحمل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، والتي يبغضها الأبيض والأسود والعجم. فإذا لم تتماسك وإذا لم تقوَ لا تستطيع حملها أبداً؛ ولهذا اسمع كيف أمرنا الله بصلة الأرحام: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36].أريد أن يفهم المستمعون أن هذه الأمة غالية عزيزة؛ لأنها أسعد أهل الأرض وأطهرهم .. لأنها مهيأة للسماء والنزول في الملكوت الأعلى .. لأنها عدو لكل كافر وكافرة، ومشرك ومشركة. وهي القائدة الرائدة السائدة فلا بد وأن تكون جسماً واحداً، وإلا فلا تقوى أبداً على أن تخوض هذه المعارك مع الإنس والجن.ولهذا كل ما يدعو إلى الفرقة حرام، ولو تتبعت المعاملات المحرمة من أولها إلى آخرها في البيع .. في الإيجار .. في الشراء .. في كل المعاملات؛ تجدها تدور على شيء واحد، وهو ألا يحصل أو يحدث خلل في قلوب المؤمنين! فهذه المعاملات التي بين الناس كل معاملة محرمة، وعلة تحريمها أنها توجد الضغينة في قلوب المؤمنين، وتوجد العداء والبغضاء بينهم، وكل ما يسبب العداء والفرقة حرام!وما أخذ على بني إسرائيل أخذ علينا نحن.

أخذ الميثاق بالإحسان إلى الأقارب

قال تعالى: وَذِي الْقُرْبَى [البقرة:83] قرابة الإنسان معروفون، وهي جمع قريب، واليتامى جمع يتيم، فاليتيم يجب أن يحسن إليه، وهذا قد أخذ الله به عهداً على بني إسرائيل، ونحن أيضاً أخذ علينا ذلك، كما في آية النساء السابقة وهي لنا وليست لبني إسرائيل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36] عشرة حقوق! فهذا الميثاق فيه عشر مواد، وتسمى هذه الآية بآية الحقوق العشرة، حتى الجار ثلاثة جيران: جار قريب، وجار بعيد، وجار قريب من جهة وقرابة من جهة أخرى. فالجار اليهودي أو النصراني يجب أن نحسن إليه ولا نسيء إليه!

أخذ الميثاق بالإحسان إلى اليتامى

قال تعالى: وَالْيَتَامَى [البقرة:83] اليتامى: جمع يتيم.من هو اليتيم يا عباد الله؟!هو من فقد أباه لا من فقد أمه، فالذي مات والده إذ هو العائل والمنفق والقيم؛ فأصبح هذه الغلام يتيماً لموت والده، ويستمر يتمه حتى يبلغ سن التكليف، وهذا اليتيم يجب أن يجد بين المواطنين مأمناً حيث لا يخاف أبداً، ويجد بينهم رزقاً حيث لا يجوع ولا يعرى، ويجد بينهم مدرسة تربيه؛ حتى يتخرج ربانياً صالحاً، فلا يهمل ويطرح في الشوارع ليعيش على الجهل.وحسبنا أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ) أرأيتم كيف يرغب أم لا؟ ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) مقترنان السبابة والوسطى.فاليتيم يجب وقد فقد أباه ألا يفقد شيئاً مما كان يغدقه عليه أبوه ويعطيه إياه؛ من تربيته .. من الحفاظ عليه .. من إطعامه .. من كسوته .. من من .. فهذا شأن اليتامى.والحمد لله هذه البلاد وفق الله أهلها إلى إنشاء -وما عرفنا هذا في أي بلد- دور اليتامى، والمفروض أن يكون كل بلد فيها دار لليتامى الذين فقدوا الآباء، فدار اليتامى في المدينة تخرج منها مسئولون، حيث يؤخذ الغلام إلى الدار فيجد من يربيه ويعلمه ويطعمه ويعينه، حتى يبلغ سن الرشد، وبعد ذلك يخرج فيذهب حيث شاء، فإن عجزنا عن بناء دور اليتامى فعلى الأقل كل مؤمن يرعى هذا الحق مع من يراه يتيماً في جواره أو في قريته أو في حيه.أما إضاعتهم .. أما أخذ حقوقهم .. فلا تجوز، ولكن وللأسف الشديد إنهم يأخذون حقوقهم، ويأكلون أموالهم، ويلهونهم، ويعبثون بهم؛ فقط لأنه فاقد والديه أو فاقد أبيه.والشاهد عندنا في هذا البند أيضاً: وَالْيَتَامَى .



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #117  
قديم 31-08-2020, 04:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

أخذ الميثاق بالإحسان إلى المساكين

قال تعالى: وَالْمَسَاكِينِ [البقرة:83] أخذ على بني إسرائيل العهد والميثاق بالإحسان إلى المساكين.ما هو المسكين؟المسكين هو الذي أذلته الحاجة والمسكنة، فلا يجد غذاء ولا كساء ولا دواء، فهذا ينبغي أن يحسن إليه، فإن لم تجد ما تحسن إليه فعلى الأقل ابتسم في وجهه، ولا ترفع صوتك عليه، ولا تظهر في مظهر أنك متفوق عليه، والقائد الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: ( ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق )، ومن لم يجد ما يتصدق به فالكلمة الطيبة صدقة، فإذا قال المسكين: يا أبتاه! أو يا أباه! أنا جائع فعليك أن تطعمه، فإن لم تجد ما تطعمه فقل له كلمة طيبة ينشرح لها صدره، وتطمئن نفسه، أما أن تدفعه بقوة وتقول له: اذهب ليس عندنا، فهذا خطأ، ونستغفر الله منه، ونتوب إليه.والواجب ألا يشعر المسكين في القرية أو الحي أو المدينة بأن فيه ضعفاً أو أنه يهان أو لا يبالى به، بل يجب أن يحترم كما يحترم الأغنياء.وهذه تعاليم الله لعباده، فإن هم وفوا بهذه العهود كملوا وسعدوا، وإن أعرضوا عنها وأهملوها فحسبهم الذل والعار الذي يلاقونه.

أخذ الميثاق بالقول الحسن للناس

قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] هذا بند آخر: قولوا للناس الحسن لا القبح، فإذا ناديت الشخص فقل له: يا أبتاه! إن كان أكبر منك .. يا أخاه! إن كان مساوياً لك .. يا ولدي! أو يا بني! إن كان أصغر منك.أما أن يقول أحدنا: يا أعمش! يا أعرج! يا طويل! يا بدوي! يا كذا! فهذا حرام ولا يجوز! ولا يحل أبداً. بل لا بد وأن تقول الحسنى في القول والعمل لهذا المؤمن.وكلمة (الناس) عامة تشمل حتى الكافر، فهل إذا مر بك كافر وقال: يا فلان! ناولني كأساً أشرب، تقول: يا ملعون! لا أعطيك؟! فهذا لا يجوز أبداً؛ لأن الله قال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا والكلمة الحسنة هي التي يظهر أثرها في وجه من تتكلم معه.أما الإساءة فهي محرمة، ومن هنا لا ينبغي لا سب ولا شتم، ولا تعيير، ولا تقبيح، ولا سخرية، ولا لمز، ولا همز، فكل هذا محرم عنها في كتاب الله. واقرءوا آخر سورة الحجرات: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].وأنتم تسمعون وتعرفون ماذا يحدث في مجتمعاتنا من السخرية والاستهزاء بالفقراء .. بالأغنياء .. بالجهال .. والله بالعلماء! وما سر هذا؟ إنه الجهل، فوالله ما علمناهم، وما ربيناهم، وما ضممناهم إلى حجور الصالحين؛ فكانت النتيجة أن تخرجوا ضائعين تائهين، فلا أدب ولا خلق ولا معرفة. وماذا ترجو من شخص ما جلس طول حياته بين يدي مرب يربيه ليلة من الليالي؟! ماذا تريد أن يكون؟!فإن عرفنا العلة فهيا إذاً من جديد نتربى، فإن قلتم: لا نستطيع، أقول: لم لا تستطيع؟ هل هذا حمل ثقيل لا تطيقه؟ يقولون: لا نستطيع؛ نحن عندنا أعمال، فهذا عنده مصنع، وهذا عنده متجر، وهذا عنده مزرعة، فكيف نعمل؟قلنا: اعمل من صلاة الصبح، فصلِّ الصبح في بيت الرب واحمل فأسك أو مطرقتك أو نقودك وإلى السوق والمزرعة واعمل إلى غروب الشمس، أما يكفي هذا النهار كاملاً؟! فإذا مالت الشمس إلى الغروب غير ثيابك في بيتك، واصحب زوجتك وبناتك وأولادك إلى بيت الرب، واجلسوا، ويجلس لكم ربانيّ ذو علم وحكمة ليعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك كل ليلة ولطول العمر.أسألكم بالله: هل هذا فيه مشقة أو تكليف ما يطاق؟!قولوا لي: اليهود .. النصارى .. الملاحدة .. العالم بأسره إذا غابت الشمس تركوا العمل، وذهبوا إلى المقاهي والملاعب، والمراقص، والمقاصف، ودور السينما أم لا؟أما نحن فلسنا مثلهم، والفرق بيننا وبينهم كالذي يريد أن يهبط إلى أسفل الأرض، وآخر يريد أن يطلع إلى أعلى السماء فهل يستويان؟ هذا هبوط بسهولة، فلا يتكلف ولا يجهد نفسه، أطلق نفسك يهبط إلى أعماق الأرض، لكن تطلع كيف تشق الملكوت. فرق كبير أم لا؟!وفرق آخر: المؤمنون أحياء، والكافرون أموات، فهل تكلف الميت أن يسمع ويبصر ويعقل عنك، ويعطي ويأخذ؟! هذا ميت! وأما المؤمن فحي، يسمع ويبصر، ويأخذ ويعطي، لوجود الحياة فيه.فإن قال قائل: لم يكرر الشيخ هذه القضية؟ قد مللناها وسئمنا منها، فهو في كل درس يعيدها؟قلنا: هذا هو سؤالكم؟! هو هذا! وأنا قلت لكم: والله لا سبيل لإنقاذ هذه الأمة وقد غرقت إلا بالعودة إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كلفناها أن تبني المدارس والكليات! فليس عندها أموال، وما كلفناها أن توقف الفلاحة أو التجارة، فإنها لا تستطيع؛ لأنها ستجوع، وما قلنا هذا أبداً، فقط من المغرب إلى العشاء نرجع إلى الله في بيته، وليس في بيتنا أو بيت أخيك فتقول: لا يتسع لنا، ضايقتمونا! نقول: في بيت الرب جل جلاله، وعظم سلطانه، النساء وراء الستار، والأولاد دونهن، والفحول أمام الكل، وهم يتلقون الكتاب والحكمة، قال الله وقال رسوله، فلا مذهب أبداً، ولا حزب، ولا جماعة، ولا وطنية، بل قال الله يا عباد الله! وقال رسوله يا مؤمن!أسألكم بالله يا من فهمتم عني: هل بعد عامين .. ثلاثة .. أربعة هل يبقى في القرية جاهل أو جاهلة؟والله ما كان أبداً، وإن لم يكتبوا، وإن لم يقرءوا، فهذا العلم لا يتوقف على الكتاب والقراءة، إنما يتوقف على الفهم، والعمل، والتطبيق، فإذا أصبح أهل القرية علماء هل تتصور أن يوجد في القرية من يزني؟ أن يوجد في القرية من يخون ويغش؟ والله لا يوجد، هل يوجد في القرية من يموت جائعاً وهم شباع؟ والله لا يكون. أن يوجد في القرية من يمشي عارياً حافياً وهم منتعلون مكسوون؟ والله لا يكون، فلا يستطيعون أبداً.وفوق ذلك هل يستطيع الإنس أو الجن أن يذلهم أو يقهرهم وهم أولياء الله؟ والله لا يستطيعون. أقسم بالله؛ لأنهم أولياء الله، وليست قضية بركة فقط، إذا استووا على هذا المستوى من الفهم والإدراك والعلم؛ هؤلاء يكونون أقوى الناس طاقات بدنية .. أقوى الناس مالاً .. أقوى الناس عملاً.إذاً: عرفتم لم نكرر هذا القول؟فإن قيل: متى نسكت؟نقول: لما يبلغنا أن الإقليم الفلاني نهض علماؤهم وأخذوا يجمعون النساء والرجال والأطفال في بيوت الرب تعالى من المغرب إلى العشاء، فالدكاكين مغلقة .. المقاهي مغلقة .. العمل وقف، أين الأمة؟ في بيت الرب! ليلة قال الله، وليلة أخرى قال رسول الله، فيحفظون الآية ويتغنون بها، ويدخرونها في نفوسهم، ويحفظون الحديث، ويتلذذون بكلام رسولهم، ويفهمون معنى تلك الحكمة، وتأخذ آثارها تتجلى في منطقهم .. في لباسهم .. في أكلهم .. في شربهم؛ حتى تصحوا الأمة، وما كلفنا هذا شيئاً، ولا نطلب من أهل القرية ريالاً واحداً أبداً، ولا تخافوا!إذاً: لا تلوموا الشيخ: لم يعيد هذا القول ويكرره! ونحن كمن ضاعت دابته، وهو طول عمره ينادي عنها ليحصل عليها! فهل يسكت؟!إذاً: قال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] فيا بني إسرائيل! ويا أبناء الأنبياء وأحفاد المرسلين! قولوا للناس حسناً، ولا تسيئوا إلى البشر، ولا تقولوا البذاء والمنطق السيئ، ولا سخرية ولا كذب.ألسنا نحن أحق بهذا؟ نعم. أمرنا كما أمروا، وآية الحقوق العشرة موجودة في سورة النساء.

أخذ الميثاق بإقام الصلاة

قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:83] يا بني إسرائيل! أقيموا الصلاة، فأُخِذ عليهم عهد من الله في عهد موسى بأن يقيموا الصلاة.وما معنى يقيموا الصلاة؟أي: يؤدونها أداء حسناً صالحاً حتى تنتج لهم الطاقة النورانية، وحتى تولد لهم النور في قلوبهم، وهذا النور إذا كثر يظهر على البصر .. على السمع .. على المنطق .. على اليد .. على الرجل، فيصبح عبد الله كالملك، فلا ينظر إلا حيث يأذن الله له بالنظر، ولا يسمع إلا حيث يأذن الله له بالسماع، ولا يأكل إلا حيث أذن الله له بالأكل، ولا ينطق إلا حيث أذن الله تعالى له أن ينطق، فغشاه النور؛ ولأن أكبر مولد للنور والمعبر عنه بالحسنات هو إقام الصلاة! فأكبر مولد ليس الصيام ولا الحج ولا العمرة، بل إقام الصلاة!وهنا نقول: يا شيخ! إخوانك في الشرق والغرب بعد أن استقلوا من سلطة الكفر وخرج المستعمرون من ديارهم فاستقلوا وكونوا الدويلات: الدولة الباكستانية .. الأفغانية .. الأندونيسية .. الدول العربية، دول! فهل سألوا أهل العلم: نحن الآن استقللنا فعلى أي شيء نقيم هذه الدولة؟ هذه الدولة لله أليست لله؟ نعم، نحن عبيد لله. كيف نقيمها؟ ابعثوا إلى العلماء واسألوهم عرباً أو عجماً؛ فيقول لهم العالم: أنتم الآن استقللتم، وأردتم أن تقيموا دولة، وإن الله عز وجل قد وضع لها أربع دعائم .. أربع ركائز، فأقيموا دولتكم على هذه الدعائم، فإنها تقوى ويشتد أمرها، وتصبح قادرة على إسعادكم، وتطهيركم، ونجاتكم.فهل سألوا؟ دلوني.أقول: دعني من أبنائي الأحداث! أنا أخاطب الكبار ذوي اللحى البيضاء! لما استقل إقليم في الشرق والغرب هل سأل: كيف نقيم دولة الإسلام؟فكوّنا دويلات منهارة، فلا سعادة، ولا طهر، ولا صفاء، ولا مودة، ولا محبة، ولا إخاء، كأننا ما ذقنا طعم الإسلام، ولا تحلينا بحلية الإيمان! ما السبب؟!هل تذكرون دعائم الدولة الإسلامية؟يوجد في القرآن الكريم ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية هي نور يضيء الظلام، وخذ آية واحدة من هذه تجد فيها دعائم الدولة الإسلامية، وقد جاء من سورة الحج بين الأنبياء والمؤمنون: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الحج:1] هذه السورة في وسطها جاء قول الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] استقلوا أم لا؟ حكموا الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]. كم قاعدة هذه؟ أربع. (أقاموا الصلاة)؛ لأن إقام الصلاة هو الذي يطهر المجتمع .. هو الذي ينفي الخبث .. هو الذي يبعد المنكر .. هو الذي يشيع المعروف بين المواطنين، أما أي وسيلة أخرى فوالله إنها لا تجدي! ولو توزع على المواطنين يومياً الأموال والله لن تزكيهم ولن تطهرهم! ولن ينتهي الخبث والظلم والشر والفساد، فما هناك عامل إلا أن تقام الصلاة، وإذا أقيمت الصلاة في القرية .. في المدينة .. في الإقليم فنصف الميزانية التي كانت معدة للأمن كلها يستغنى عنها.قالوا: يا شيخ! النصف كثير؟نقول: نعم، والله لأكثر من النصف، ولا نحتاج إلى قوى أمنية أبداً، فكل مؤمن حامي للحمى، وحارس للفضيلة! وذلكم لأن الله المشرع الحكيم طابع الطبائع، وغارز الغرائز، وخالق الأنفس هو الذي قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لم يا ألله؟! علل! إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].وكم كررنا هذا وقلنا: هيا بنا نمشي إلى المحافظ أو مدير الشرطة في أي بلد، ونقول له: أعطنا قائمة بأسماء المجرمين في هذا الأسبوع: السارق والساب والشاتم .. فإن أعطانا قائمة أقول له: أقسم بالله! لن نجد بين هؤلاء المجرمين أو الظالمين نسبة (5%) من مقيمي الصلاة، و(95%) من تاركي الصلاة والمصلين، وإلى الآن ما زلنا نطالب وما تحداني واحد، وهذا الكلام قلناه في الشرق والغرب!الله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] ونحن نشاهد المقيمين للصلاة ما عصوا الله، ولا فسقوا عن أمر الله، ولا آذوا، ولا اعتدوا، ولا زنوا، ونجد الأذى والاعتداء والعنترية والفساد كله من تاركي الصلاة، والمتهاونين فيها.ماذا تقولون يا أهل الإسلام في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] لم لما يستقل إقليم ما يقيم نفسه على إقام الصلاة؟ وهل إقام الصلاة يعوق الأمة من العمل؟!إن الصلاة مقسمة تقسيماً إلهياً: أولاً: صلاة الصبح، هل صلاة الصبح تعوق عن العمل؟والله إنها لتنشط عليه، والله إنها لتساعد عليه، أقسم بالله! لأن الشعب الحي قبل الفجر وهم في يقظة، صلوا الصبح واندفعوا وراء أعمالهم، يشتغلون ساعتين .. ثلاث ساعات، أما الكفار فنائمون، لا يبتدئون العمل إلا في الساعة الثامنة.أما صلاة الظهر ففي الساعة الثانية عشرة وعندها يتوقف العمل، والذين يشتغلون من السادسة حتى الواحدة ليس هؤلاء ببشر، لكن عند الثانية عشرة أو الحادية عشرة يتوقف العمل، فصلاة الظهر تقع في وقت الراحة، فيزدادون قوة.وأما صلاة العصر فيمتحنهم الله بها، فإذا قال المؤذن: الله أكبر! وقف العمل، وأقبلوا على الله واقفين بين يديه، فهذه الطاقة تساوي طاقة الذرة.والمغرب والعشاء وقت الراحة، فلا عمل، والمؤمنون في بيوت ربهم يصلون المغرب والعشاء.فإقام الصلاة فقط يرفع من قيمة الشعب، ويعلي مكانته، ويحقق له الكمالات، ونحن مع الأسف ما أجبرت دولة رعيتها على إقام الصلاة!

أخذ الميثاق بإيتاء الزكاة

أما جباية الزكاة من المواطنين فما استقلت دولة وأمرت بالزكاة أبداً، بل عوضوا عن الزكاة بالضرائب، والفادحة أنك تعجب للضريبة فأحياناً تجدها نصف المال!لم ما نطالب بالزكاة ليرضى الله أولاً! وفيها بركة أفضل من الضرائب مليون مرة، لأنها طاعة لله، قالوا: لا .. لا .. لا، ليس هناك زكاة. ومعنى هذا: ما تذكروا الله ولا الإسلام.هل وجد في أي بلد رجال تعدهم الحكومة ليأمروا الناس بالمعروف وينهوا عن المنكر ويمشون في الأسواق .. في المقاهي؟ لا، أبداً. فكيف حال دويلاتنا الإسلامية؟!والذي يؤسف له أنه لو ما أوجد الله هذه الدولة على يد عبد العزيز رحمه الله لكنا نُعذر؛ فما عرفنا، لكن والله ما استقل إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا إلا وهو يعرف عن هذه البلاد! وأن الصلاة فيها إجبارية، والزكاة إلزامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له رجال في القرى .. في المدن .. في كل مكان، فلم لا نعمل هكذا؟ معاشر المستمعين! متى نعود إلى الله فيعود الله إلينا؟ ما وجدنا حيلة إلا هذه، فهيا بنا: إذا مالت الشمس إلى الغروب نأتي إلى بيوت الله بنسائنا وأطفالنا ونبكي بين يدي الله، وسوف يوجد الله تعالى لنا من يعلمنا الكتاب والحكمة وفي أي مكان، فإذا علم الله رغبتنا، ورأى صدقنا فسوف يهيئ لكل قرية من يعلمهم الكتاب والحكمة.
تولي بني إسرائيل مع أخذ المواثيق والعهود عليهم
قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ [البقرة:83] بعد هذا الميثاق في هذه البنود العظيمة رجعتم وراء إلا قليلاً؛ وهذا من حكمة الله، فلا يطلق الحكم العام، إذ يوجد من بني إسرائيل من استقاموا حتى لقوا الله، ولكن العبرة بالأكثرية، فأكثرهم نقض هذه المواد، ورماها وراء ظهره، ومن ثم سلط الله عليهم المحن والرزايا والبلايا، فأذلهم البابليون، وأذلهم الرومان، وفعلوا بهم حتى أصبحوا -والعياذ بالله- أذل الخلق.وكذلك المسلمون لما أعرضوا عن هذه العهود وتولوا، كيف أصبحت حالهم؟ أما استعمرتهم بلجيكا .. فرنسا .. إيطاليا .. وهولندا العجوز استعمرت مائة مليون مسلم! فما الذي فعل بالمسلمين هذا؟الجواب: أعرضوا عن هذه العهود والمواثيق، فتكبروا، وتجاهلوا، وأعرضوا عنها، هكذا إلا القليل، والقليل لا قيمة له؛ لأن الفتنة إذا جاءت عمت، والقليل يدخل الجنة بالبلاء الذي أصابه.قال: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83] كما هي حال المسلمين الآن حيث الإعراض، فليس هناك من يفكر أبداً أن يعود إلى الله، وخاصة المسئولين في العالم الإسلامي، فقد أعطوا عرضهم تماماً ولا التفات إلى هذا الدين! سبحان الله! هذه الآيات تنزل في بني إسرائيل لتصبح في يوم من الأيام كأنما نزلت في المسلمين! وهذه هداية القرآن، فالآيات تخاطب اليهود، والقرآن ينزل وهم في المدينة فتكشف الغطاء، وتزيح الستار، وتريهم أسوأ أحوالهم علَّهم يتوبون إلى الله ويرجعون. نعم آمن البعض منهم وأسلم، ودخلوا في رحمة الله، لكن أكثريتهم أعرضت إعراضاً كاملاً.وتمضي القرون، وتصاب أمة الإسلام بما أصيبت به أمة بني إسرائيل، وتصبح الآيات منطبقة على المسلمين بالحرف الواحد! فنتلوها فقط من أجل أن نعرف أننا نحن الذين نقضنا هذه العهود ونكثناها: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا .. [البقرة:83] رجعتم عن هذا النور وعن هذه الهداية إلى الظلام والباطل إلا قليلاً منكم، والحال أنكم معرضون؛ لأن الذي تولى إذا كان قلبه ما زال حياً .. ما زال يفكر في العودة .. ما زال يفكر أن يتوب؛ هذا فيه خير، لكن إذا أعرض تماماً فمعناه: لا يعود إلى الحق والصواب أبداً.والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما نتلو ونسمع. وصلى الله على نبينا محمد.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #118  
قديم 31-08-2020, 04:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (65)
الحلقة (72)




تفسير سورة البقرة (35)

كانت لبني إسرائيل دولة، لكنها ما لبثت أن انهارت، وذهب اليهود شذر مذر، واستقر ببعضهم القرار في المدينة وعقدوا الأحلاف مع قبيلتيها، فكانت الحروب، وسفك الدماء، والتظاهر بالإثم والعدوان، ونقض اليهود ميثاق الله، حيث كان قد نهاهم عن كل ذلك، لكن اليهود كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فكانت عاقبتهم وكل من يسلك مسلكهم الخزي في الدنيا، وأشد العذاب في الآخرة.

تابع تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:83-85] والعياذ بالله تعالى.

الخطاب لبني إسرائيل شامل للبشرية

أعيد إلى أذهان السامعين والمستمعين والسامعات والمستمعات: إنه لا فرق بيننا وبين بني إسرائيل وبين كل آدمي على صدر هذه الأرض، فنسبتنا إلى الله واحدة، ونحن عبيد لسيد واحد، فقط مَن آمن وعمل صالحاً ارتقى، وسما وعلا، وارتفع فوق الذين ما آمنوا ولا عملوا الصالحات، أما الاعتبار بالجنس فلا اعتبار له أبداً: عربي .. عجمي إسرائيلي .. فارسي .. قل ما شئت، فالكل عبيد الله.والله عز وجل لما يوجه هذا الخطاب لبني إسرائيل فإنه من باب أن تهتدي البشرية عليه، لا أنه خاص بمجموعة من اليهود كانوا في المدينة! من أجلهم فقط ينزل الله هذه البيانات؟ لا والله، ولو كان من أجلهم نسخه؛ لأنهم انتهوا، ولكن هذا الكتاب -القرآن الكريم- يتضمن هداية البشرية أبيضها كأسودها .. عربيها كأعجميها .. أولها كآخرها.والسر يا معاشر المستمعين والمستمعات أن الإيمان طاقة تدفع صاحبها إلى أن ينهض بالتكاليف، فالمؤمن بحق حي، يقوى ويقدر على أن يسمع .. على أن يعقل .. على أن يأخذ .. على أن يعطي .. على أن يصوم أو يفطر، فهو مؤمن حي، فهذه الحياة تحمله وتدفعه وتعينه على أن يستخدم المواد المزكية للنفس المطهرة لها.لكن ما هذه المواد المزكية للنفس المطهرة لها؟هذه المواد لا يضعها إلا الله، فلو تجتمع البشرية كلها على أن تضع عملاً ما على أن من فعله تزكو نفسه وتطهر، والله ما استطاعت ولا قدرت عليه، وبيان ذلك: هل تستطيع البشرية أن تجعل الحصباء، والرمال، والطين والتربة غذاء للإنسان فتدس فيه مادة الفيتامينات ويتغذى به الآدمي؟ هذا مستحيل.ومن أودع تلك المغذيات في الفواكه، والخضار، والخبز، واللحوم، وأخلى التراب، والطين، والحجارة، والأخشاب منها؟ إنه نفسه الذي إذا قال لكم: قولوا: سبحان الله، وقلتموها مؤمنين بالله، وكان لها أثر على نفوسكم بالطهر والصفاء، كما أنه إذا حرَّم كلمة فلأن فيها مادة مخبثة للنفس أشد من مادة السم الموجود في العقرب والأفعى، وما قالها عبد تمرداً على الله، وفسقاً عن أمره إلا اسودت نفسه، وأصيبت بالظلمة والعفن والنتن، وهذه سنن الله.فلهذا لما يُذكِّر بني إسرائيل كأنه من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فهو لنا نحن كذلك، ونحن الذين انتفعنا به، فمن رفع تلك الأمة إلى عنان السماء وإلى مستوى لم تبلغه أمة؟ والله ما هو إلا هذه الهداية الإلهية.

ميثاق العبودية ألا تكون إلا لله

ما هذا الميثاق وماذا تضمن؟وإن كنا قد تدارسنا هذا الموضوع مرتين، لكن سنعيده ليستقر في أذهاننا، ولننظر هل أخذنا والتزمنا بهذه العهود والمواثيق أو ما زلنا لم نلتزم؟!أولاً: قال الله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83] فأول ميثاق: (لا تعبدون إلا الله).معشر المستمعين والمستمعات! هل فينا أو بيننا من يرغب أن يعبد مع الله غيره؟ ما فينا.ولكن بيننا من لا يفهم، فإذا أراد مثلاً أن يقوم يقول: يا ألله ورجال البلاد، فلا يفهم أنه عبد غير الله. وتسقط المسبحة فيقول: يا ألله ويا رسول الله، فما عبد الله وحده.كيف نصنع إذاً؟الطريقة أن يأتوا إلى مجالس العلم في بيوت ربهم وطول عمرهم فلا يتخلفون ليلة واحدة؛ ليتعلموا الهدى، وليعرفوا ما تزكو به النفس وما تتدسى به، أما بدون العلم فإنك قد تجد من يقول: أنا لا أعبد إلا الله، وهو يعبد مع الله غيره.ما هي العبادة؟ وكيف يعبد الله؟ وكيف يعبد غير الله؟لا بد من العلم، ومن لم يتعلم لا يسلم من الوقوع في هذه السراديب والمهاوي، ولا عذر لأحد، فإياك أن تقول: أنا شيخ كبير، وهذا فقير، وأنا بدوي، لا، لا بد وأن تسأل أهل العلم حتى تعلم، فلا تحمل كتاباً، ولا قرطاساً، ولا تقرأ، ولا تكتب، فقط اسأل أهل العلم واعمل بما تعلم، ولا تزال تعلم وتعمل حتى تصبح من أولياء الله، وأنت لا تفرق بين الألف والباء، فليس من شرطه الكتابة والقراءة أبداً، ولا توقف عملك، ولا سانيتك، ولا حرثك، ولا مزرعتك، فكما تذهب وتقضي حاجتك عند الحاجة أو تسد جوعتك عند الجوع، تذهب إلى العالم حولك تقول له: علمني كيف أذكر الله. فإن أعرضت يا بني فالله في غنى عنك، وأنت الذي تصاب بالمحنة.

فضل الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين

ثانياً: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]، ثالثاً: وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [البقرة:83].كيف أنتم مع هؤلاء أيها المستمعون والمستمعات؟!هل أحسنتم إلى والديكم وما أسأتم إليهم؟!هل أحسنتم إلى قراباتكم من العمة إلى الخالة .. إلى العم والخال، وما أسأتم إليهم لا بسب ولا شتم ولا أذى؟واليتامى كيف حالكم معهم؟ هل تهينونهم .. تأكلون أموالهم .. تسخرون منهم أو تعطفون عليهم وترحمونهم وتبشون في وجوههم وتهشون، وتطعمونهم إذا جاعوا، وتكسونهم إذا عروا؟والمساكين اللاصقين بالأرض فلا دينار ولا درهم هم إخوانكم، فأحسنوا إليهم، ولو بالوجه الطلق، والعبارة الطيبة، أو دس في كفه ريالاً أو قرصاً من الخبز.فهذا المسكين هو أخوك، وهو عبد الله تحت الامتحان، قد ينجح في يوم من الأيام ويصبح ولياً للرحمن، وما أفقره الله إلا ليبتليه .. ليمتحنه هل يصبر فيتخرج ولياً من أولياء الله أو ينتكس والعياذ بالله؟

الوصية بالقول الحسن للناس

قال تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] أبيض الناس كأسودهم، عربيهم كأعجميهم، فالكل اسمه ناس: يهودي .. صليبي .. بوذي، ولا تقل لهم سوى القول الحسن، أما الشتم والتعيير، والقدح، والاستهزاء، والسخرية كما نفعل مع إخواننا المؤمنين فلا، فهذا الشتم، والسخرية، والاستهزاء، والتكبر لا يصح حتى على اليهود والنصارى .. حتى على المشركين عبدة الأصنام والفروج والأهواء، فطبعنا ونظام حياتنا وسبيلنا الإحسان، لم؟ لأننا رشداء .. علماء .. ربانيون، ومستوانا ليس بهابط كالكافرين والمشركين، الذين لا يفرقون بين الخير والشر، نحن علماء وأولياء، فتتجلى هذه الحقائق في سلوكنا: لا ظلم .. لا اعتداء .. لا بغي .. لا عدوان .. لا، لا، وكل مظاهر الباطل لا توجد فينا؛ لأننا أولياء الله. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا أي: لا قبحاً.وقد عايشنا أمتنا وعرفناها، ومن يوم أن بعدت عن بيوت الرب وكتاب الله وهدي رسوله وهي تعيش على أسوأ الأحوال، والله إنك لتسمع السخرية، والاستهزاء، ومظاهر الكبر على إخوانهم وفيما بينهم، وليس مع اليهود والنصارى.وما سبب هذا؟ السبب أنهم ما عرفوا .. جهلوا.ولم جهلوا؟ لأنهم ما طلبوا العلم.ومن منعهم وصدهم؟ أهواؤهم وشهواتهم ودنياهم، إذاً: فهي عائدة عليهم، ولا عذر أبداً.

أخذ الميثاق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة

قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:83]، يا بني إسرائيل! يا معشر المسلمين! أقيموا الصلاة، هل قال: وصلوا؟ قال: (وأقيموا الصلاة) لم يا رب؟! نصلي يكفي؟ لا، أنت لا تدري يا عبد الله أن هذه العملية مركبة تركيباً كيميائياً وضعه العليم الحكيم، وإذا لم تؤدها كما هي ظاهراً وباطناً بكل جزئياتها فإنها لا تولد النور، ولا تثمر لك الحسنات، ولا تزكي نفسك ولا تطهرها.والأدلة عندنا أنك ترى أحدهم يخرج من الصلاة وإذا به يكذب .. يخرج من الصلاة وإذا به يشرب الحرام ويأكل الحرام .. يخرج من المسجد! بل في المسجد يسب أخاه. وهذه الأمور واقعة في حياة كثير من الناس فأين آثار الصلاة؟! ولم ما زكت نفسه؟ الجواب: لأنه ما أداها على الوجه المطلوب الذي من شأنه أن تولد النور له في قلبه.وإليكم هداية الله توجه إلى رسوله ليأخذها أتباعه منا: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، أي: اقرأ ما أوحي إليك من الكتاب، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه الكتاب، وعلمه جبريل، وحفظه يؤمر بأن يقرأ، وأنتم: لا .. لا، مشغولون فلا نقرأ.(اتل) ماذا؟ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].هنا عدة خطوات: الخطوة الأولى إلى سماء الكمالات .. إلى الرقي .. إلى دار السلام .. إلى الطهر والصفاء: تلاوة القرآن، لا على الموتى .. لا من أجل الحصول على المال الدنيوي، وإنما من أجل التدبر والتفكر، واستخراج درر المعاني وأنوار الآيات؛ لتحيا عليها، وتكمل في آدابك، وأخلاقك، وقلبك، وعباداتك.الثانية: إقام الصلاة، وهذا البند لا يقل عن البند الأول؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

ولذكر الله أكبر

الثالثة: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، ومعنى (ذكر الله) ألا تغفل ساعة، ولا نصف ساعة، ولا دقيقة، إلا إذا شغلت بكلمة: السلام عليكم، أو: يا غلام! أحضر كذا، أو: يا فلانة! قدمي كذا. فما دمت فارغاً فأنت مع الله بقلبك ولسانك.ولعل قائلاً يقول: إن هذا لا يتأكد، ولا يتحقق!فنقول: ولو كان لا يتحقق فهل يأمر الله به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ [الأحزاب:41] كم؟ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وإذا كان الله العظيم يقول: (كثيراً) كم -إذاً- يكون نصيبك المطلوب حتى لا تنسى الله أبداً؟وهذا عبد الله بن عمر قال: ( كنا نعد -أي: نحسب- لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد قوله: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة )، هذا في المجلس الواحد، أما مجالس الطامعين في دار السلام بالأحلام والأوهام فيجلسون الساعة والساعتين والثلاث على موائد اللهو واللعب، لا يذكرون الله فيها، ويجلسون مجالس الأكل والشرب وأنواع الطعام فيهرفون، ويتحدثون، ويتضاحكون، ويتكلمون، ولا يذكرون الله.وتجد سيارة الحافلة من المدينة إلى دمشق، لا تخرج من المدينة إلا والأغاني، والمزامير، وأصوات العواهر تهيج النفوس إلى دمشق، فمن أي جنس هذه الأمة؟ آلله أذن بهذا؟! وكذلك تجد الفيديو، والتلفاز، والصحن الهوائي، آه، يا ويحهم .. يا ويلهم: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فالله بالمرصاد ينظر ماذا نعمل، ويراقب تحركاتنا قائمين أو قاعدين، نائمين أو يقظين، وهذه هي الخطوة الرابعة من هذا التوجيه الإلهي: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] خيره وشره، حقه وباطله، صحيحه وفاسده، ومعنى هذا أنه يجزيكم بصنيعكم؛ لأنه الحكيم العليم.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #119  
قديم 31-08-2020, 04:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

المعاصي سبب لتسلّط الأعداء

لكن هل ظهرت آثار هذا التهديد أو لا؟اليهود الذين توجه إليهم هذه النداءات سلط الله عليهم البابليين في زمن ما ففعلوا بهم الأعاجيب: مزقوهم .. شتتوهم .. دمروهم .. بقروا بطونهم، وحولوا بيت المقدس التي بناه إبراهيم عليه السلام إلى مخرأة، فكان الجندي البابلي في تلك الحملة إذا جاءه الغائط ودفعه يذهب إلى المسجد ليبول ويخرأ فيه، وهذا يحصل مع أبناء الأنبياء .. أبناء إسرائيل.ثم تابوا فتاب الله عليهم، وباب الله مفتوح، فتكونت لهم دولة داود وسليمان فسادوا العالم أجمع، فهل سادوه بالسحر .. بالخرافات والتضليل .. بالأهواء والشهوات .. بالمزامير والطبول؟! أسألكم بالله بم؟سادوه بالاستقامة على منهج الحق، إيمان الصدق والاستقامة، فأحلوا ما أحل الله، وحرموا ما حرم الله، ونهضوا بما أوجب الله، فسادوا وارتفعوا، وكانت الإمبراطورية الأولى في العالم.ثم مائة وخمسون عاماً وظهر فيهم الترف، فأخذوا يهبطون حتى عرفنا عنهم أنهم هم الذين صنعوا الكعب العالي، وبعض الناس لا يفهم هذه اللغة، ما هو الكعب العالي؟ امش للدكاكين واسأل، قل لهم: أريد كعباً عالياً لابنتي، وقد يستوردونه من إسرائيل، مع أن الرسول يحذرنا.لم صنعوا الكعب العالي؟ لأنها قصيرة وهي تريد أن تظهر أمام الشبان والفحول أنها طويلة، فيصنع لها صانع الأحذية حذاء كعبه طويل، فتمشي به، فتشاهد من بعيد: هذه زليقة.وجزى الله أحد الدكاترة حيث قال: يا شيخ! ليست القضية أنها ترتفع وتعلو، لا، هذا الكعب العالي يجعلها تتمايل وتتغنج في مشيتها، وهذا موجود ومشاهد عندكم.إذاً: فسلط الله عليهم الرومان فاكتسحوهم .. شردوهم .. مزقوهم، حتى شردوا إلى المدينة فتركوا بلاد العسل والزبدة؛ بلاد الشام، ونزلوا في هذه الصحراء ذات النخيل، والسبخة، والحر، والبرد.ولم لجئوا هنا؟ لجئوا إلى العرب لأنهم كرماء، ولأنهم بنو عمهم سيرحمونهم.لكن كيف شردوا، وفرقوا، وطردوا، وتسلط عليهم الرومان الكفرة؟لأنهم فسقوا عن أمر ربهم .. نقضوا العهود والمواثيق، وفعلوا كما فعل العرب والمسلمون في هذا العصر، فسلط الله عليهم فرنسا، وإيطاليا، وأسبانيا، وبلجيكا، وهولندا، وبريطانيا، فالله بالمرصاد.وجاء الإسلام فوجدهم شذر مذر، ملعونين مضطهدين، فإذا مشى اليهودي أمام الصليبي يكاد يأكله من تغيظه عليه، يقول: هذا قاتل إلهي. ومع هذا فتح الله لهم باب الهداية والرحمة، وناداهم، وعرض عليهم كل درجات الكمال وسبل السلام، فتكبروا، وقالوا: لن نتابع هذا الرجل، ولن ندخل في دينه؛ لأننا سنذوب فيه، ولن يبقى لنا وجود، وسينتهي بنو إسرائيل، فلا مملكة، ولا دولة، ولا سلطان، وهذا كلام رؤسائهم وأحبارهم وعلمائهم، وهو حق، فلو دخلوا في الإسلام لن يبقى يهودي، فحافظوا على النسمة الهالكة ونجحوا بعض الشيء، وكونوا دولة إسرائيل.هل هناك دولة تسمى إسرائيل أو لا؟ نعم موجودة.وأين كونوها؟ في فلسطين .. في قلب العالم الإسلامي.كيف يتم هذا؟ أنت تقول الخيال فلا وجود لهذه الدولة أبداً، كيف يمكن هذا الكلام؟ لو يأتي جيل بعد جيل لا ينكر ذلك، أما الآن فهي موجودة، وقد أذلت العرب والمسلمين، ودسّت أنفوهم في التراب.كيف يتم هذا يا شيخ؟هذا يتم حسب نظام الله في الكون وتدبيره في خلقه، أيفسق المسلمون ويفجرون، ويعتزلون دين الله بالمرة في أكثر بلادهم ثم يباركهم ويرفع من قيمتهم؟ فسلط الله عليهم حفنة من اليهود لعلهم يرجعون، فهل رجعوا هذه الأيام؟ ما رجعوا، وما زالوا في غمرة ساهون.قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:83]. عرفتم هاتين الدعامتين؟!

معنى إقامة الصلاة

إقامة الصلاة معناها: لا يُشاهد رجل سواء كان عسكرياً أو مدنياً، شريفاً أو وضيعاً، عالماً أو جاهلاً، فقيراً أو غنياً، شريفاً أو وضيعاً، فلا يمكن أن يقر وجود مؤمن لا يشهد الصلاة في بيوت الله، فإذا قيل: حي على الصلاة وقف دولاب العمل.والله لقد كان أحدهم في يده الإبرة وما كانت الآلات كالآن، فالخياط يخيط بالإبرة والخيط، يقول هكذا يغرز الإبرة في الثوب، ولما يسمع حي على الصلاة لا يكملها .. لا يتمها.والآخر يرفع الميزان ويضع البضاعة فإذا سمع حي على الصلاة وقف.ومن شك في هذا فليقرأ من نور الله من سورة النور: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37]، حق هذا؟ ولولا هذا كيف سادوا العالم، واتسعت دولتهم في المدينة حتى رمت جناحها على أقصى الغرب وأقصى الشرق في خمسة وعشرين سنة فقط؟!والآن في بلاد العالم بأسره ليس هناك دولة أبداً تأمر جيشها أو أفرادها بالصلاة كأنهم ضد الله أو لا يؤمنون بالله.أنت حاكم أو لا؟ هذه مهمتك، فهذا الشعب خلق ليصلي؟ وبالله عظيم ما خلق إلا ليذكر الله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، لا لشيء آخر، وكونك تحرث وتصنع فهذا -والله- من أجل أن تصلي، فضيعت الصلاة وتركت، وكان من نتائج تركها انتشار: السرقة .. الزنا .. القمار .. الكذب .. الغش .. السفك للدماء .. القتل.فإن قيل: يا شيخ لم تبالغ؟أقول: أبالغ! أليس هذا موجوداً؟ ما سببه؟ الإيمان وذكر الله؟! هل المؤمنون الذاكرون لله يسفكون الدماء ويفجرون بالنساء؟ أتحداكم، من يقول هذا؟!ولقد أرانا الله عز وجل هذه الدولة، وجعلها آية من آياته، فأقيمت فيها الصلاة إجبارياً بين المدنيين والعسكريين وكل مؤمن، فهل حط هذا الأمر من قيمتها؟ وهل عوقها عن الأكل والشرب؟ وهل جر إليها المحنة؟ والله ما أفادها إلا أمناً وطهراً، فما المانع إذن من أن نفعل مثلهم؟ولقد جبيت الزكاة حتى صاع الشعير. ولم لا نجبي الزكاة باسم الله؛ ليرضى الله عنا؟ وإن فرضنا بعد ذلك الضرائب فللضرورة وأفتى بها العلماء، أما أن تعطل فريضة الله .. قاعدة الإسلام، وتغفل عنها الحكومة ورجالها، والأمة معرضة، فهذا معناه باللغة الواضحة أننا رفضنا الإسلام، وما اعترفنا به.

تولي وإعراض بني إسرائيل عن الالتزام بالمواثيق والعهود

قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة:83] أي: توليتم وأعرضتم عن هذه التعاليم العشرة، إلا قليلاً منكم لازموا باب الله، وثبتوا على ما هم عليه، ونعم. كل بلد .. كل أمة .. كل جيل لا بد أن يبقى فيه الربانيون الصالحون. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:83] أي: لما توليتم، فلو كان في نفوسكم الرغبة إلى التوبة .. الرغبة إلى العودة .. الرغبة إلى أن نراجع طريقنا كما كنا، فلا بأس، لا .. لا، فتوليتم وأنتم معرضون إعراضاً كاملاً؛ لا تريدون هذا الإسلام.وهذه التوجيهات الربانية إلى يهود بني إسرائيل في المدينة هي نبراس هداية لنا، وسلّم رقي ونجاح لأمة القرآن. وكذلك كان، فقد أديت هذه الحقوق -كما أمر بها الله وبينها- في تلك الأمة السعيدة ذات القرون الذهبية الثلاثة، وما كان يعقل أن مواطناً لا يصلي أبداً؛ رجل أو امرأة، فالإعدام سبيله، فلها خُلقنا!ثم لما تقام الصلاة فلسنا في حاجة إلى قوى الأمن، والشرط، والبوليس، والجواسيس، لا، كل مؤمن ومؤمنة رباني، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وتمضي العشرون سنة لا تحدث حادثة، وإن حدثت لاختلال يكون في صاحبها في عقله أو في إيمانه، أما أن مؤمناً يتكلم مع الله، ويجلس بين يديه، ويناجيه، ويبكي بين يديه كل يوم وكل ليلة خمس مرات ويعصيه فلا يمكن، ولا يحصل هذا أبداً.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ...)

الآن يذكر الله تعالى بني إسرائيل، ومن باب: إياك أعني واسمعي يا جارة يقول لهم: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:84]. عرفتم الميثاق أو هو ميثاق الأمم المتحدة؟! ما هو الميثاق؟الميثاق هو العهد المؤكد باليمين، وقد قلت لكم: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد أعطى العهد والميثاق من نفسه والتزم، فإن خان فقد أهلكته خيانته، والله يقول: وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة:7]، متى؟ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، هذا خطابه لنا.وهنا قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [البقرة:84] في أي شيء؟ لا تَسْفِكُونَ [البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، فأنتم شعب الله كما تقولون، وأبناء الأنبياء والمرسلين، فكيف يقدم أحدكم على قتل أخيه؟ وليس شرطاً أن يكون أخوه من أبيه وأمه بل يكفي أن يكون يهودياً، فأنتم أبناء الأنبياء قد أخذ الله عليكم ميثاقاً: ألا يقتل يهودي يهودياً لا تَسْفِكُونَ [البقرة:84].ثانياً: وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [البقرة:84] فإذا شنت الغارة في الزمن الأول وإلى الآن يخرجون من هم في بيوتهم ويحتلونها.والقضية تعود إلى أن اليهود لما نزلوا المدينة في الجاهلية هاربين لاجئين أو منتظرين النبوة المحمدية كما جاءت بها التباشير في الإنجيل والتوراة، كانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج، وهم قحطانيون من اليمن، ولم جاءوا من اليمن؟لما فسق أولئك الأقوام عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته غرَّق ذلك السد وهدمه، وانتهى ذاك الطهر وذاك النعيم فشردوا، لقد كانت بلادهم زروعاً ونخيلاً .. وكانت وكانت، جنات عن يمين وشمال، فلما شربوا الشيشة والحشيشة وغنوا ابتلاهم الله بحيوان يقال له: جربوع أو يربوع أخذ يأكل الخشب من تحت الأرض حتى ثقب السد وتدمر، فهاجروا تلك الأراضي، والتحقوا بالشام وبتبوك، ومكث الأوس والخزرج في المدينة.الشاهد عندنا: كانت القبيلتان أحياناً تقوم بينهما حرب لمدة أربعين سنة، ومن يصلح، فلا أمم متحدة، ولا أمم متفرقة، والبلاد متباعدة، فأربعون سنة والنار مشتعلة بين قبيلتين من أسرة واحدة؛ ولهذا امتن الله عليهم بقوله: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران:103]، بعدما كانوا متعادين متحاربين. فاليهود لضعفهم وعجزهم وهم في وسط العرب أقاموا عدة تحالفات، فبنو قينقاع وبنو النضير تحالفوا مع الأوس، وبنو قريظة تحالفوا مع الخزرج، ومعنى حالفوهم: دماؤنا واحدة، وأرواحنا واحدة، فإذا عدى علينا عدو فأنتم معنا ونحن معكم. فهذه هي الأحلاف.فلما تطول الحرب بين الأوس والخزرج يقاتل اليهود بعضهم بعضاً، فأحلاف الخزرج يقاتلون أحلاف الأوس، فيتسبب ذلك في قتل اليهودي لأخيه اليهودي، وإذا هاجموهم وأخرجوهم من الحي واحتلوا ديارهم كذلك اليهودي يحتل دار اليهودي ويخرجه من بيته.واسمع كيف يوبخهم الرحمن: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا [البقرة:84] أي: بأن لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:84] كيف تخرج يهودياً من بيته وتسكن أنت فيه؟ فأين الرحمة وأين الأخوة؟ وأنتم أبناء الأنبياء أولاد إسرائيل.قال: تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [البقرة:84] فهذا العهد وهذا الميثاق أخذ عليهم في جبل الطور، وبعضه جاء في التوراة: يا بني إسرائيل! نأخذ عليكم عهداً وميثاقاً أنه لا يقتل إسرائيلي أخاه، ولا يخرجه من داره أبداً، وإذا أسر أخوه يجب أن يفاديه ولو بأن يبيع فراشه وكساءه.سبحان الله الرحمن الرحيم، فهذه كرامة الله لأولئك الأنبياء والصالحين، فهؤلاء أحفادهم وأولادهم، يعطف الله عليهم أكثر من عطف الأم على ولدها، وما عرفوا هذا.

تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ...)

قال تعالى مخاطباً اليهود وهم يسمعون على عهد النبوة، والقرآن ينزل: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ [البقرة:85] أي: الموجودون الآن .. الحاضرون في المدينة، ماذا تفعلون؟ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:85] كما هو الواقع، فها أنتم الآن تقتلون أنفسكم، فاليهودي المناصر للأوس يقتل اليهودي المحالف للخزرج، وذلك بمقتضى الاتفاقية، وبموجب الحلف. وتخرجونهم من دياركم، فإذا استولى الأوس على إقليم .. منطقة يطردونهم، وينزلون في ديارهم، ويذهب أولئك إلى الصحراء.قال: تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [البقرة:85]. ينتصرون عليهم بالإثم والعدوان، فالأوس والخزرج ليس عندهم نبوة أو رسالة أو شريعة أو قانون وإنما قوانين جاهلية، وكلها باطل.قال: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ [البقرة:85] إذا ما تفهمون هذا فعندنا له بيانات، فاليهود إذا اختطف يهودي من فلسطين أو من فرنسا، فإنهم يعرفون أن من اختطفه هم الفلسطينيون العرب فيفادونه بعشرين عربي .. بثلاثين .. بمائتين، وأنتم تسمعون بهذا، ولو تطالبوهم بألف واحد فلا يمكن أن يتركوا اليهودي أسيراً، لم؟ طاعة لله، فقد أمر الله بهذا: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ .قال: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ [البقرة:85] وهذا واقع، فالآن لو يختطف يهودي من ذوي المنصب ويطالب خاطفوه بإطلاق خمسين أسيراً أو مائة سجين يقولون: تفضلوا، خذوا. وهذا إيمان، فآمنوا بالله وأطاعوه في هذه القضية.وقوله: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ [البقرة:85] أي: بالملايين، فالمفاداة ليست دائماً بالأشخاص، إنما تكون بالأموال، فلو يبيع قميصه ولا يترك اليهودي أسيراً تحت مشرك، أبداً، لا حياة عندنا إذا سكتنا عن هذا، فهكذا كانوا، وما زالوا.

الكفر ببعض الكتاب وعاقبته

ثم قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]. فالله وبّخهم، وهذا الاستفهام للتقريع والتأنيب والتأديب والتوبيخ. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ تبيحون قتله وإخراجه من داره لا بأس، وإذا أسر تفاديه بأموالك ولو تجوع الدهر كله، فهذا إيمان ببعض وكفر ببعض.وهيا نطبق هذه الآية على المسلمين كيف حالهم؟نضرب مثلاً: أهل القرية صائمون إيماناً بالله ولا يصلون، ويصلون تلك الصلاة ولا يزكون، فهذا إيمان ببعض وكفر ببعض وإلا لا؟! أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ .ثم قال: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85]. الله أكبر! عجب هذا القرآن، أسألكم بالله: هل هناك أذل وأخزى من المسلمين؟ لا إله إلا الله! فما توعد بعذاب النار ولا ولا، لا إله إلا الله! خزي، هل هناك أذل من العرب والمسلمين؟ لا سيما أيام الاستعمار فقد كانت أذل المخلوقات، وإلى الآن ما زال خزيهم واضحاً، لا ينكره عاقل أبداً.قال: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وسببه أننا نعمل ببعض الشريعة ونترك بعضها كأننا أحرار، أو نعترض على الله، فالذي يناسب هوانا وشهواتنا نفعله، والذي يتعارض معها نتركه، والله لو يسمع المؤمنون بهذا وهم في مجلس لتمرغوا على الأرض، لكن ألف سنة والقرآن يقرأ على الموتى، ويقرأ على العبرة أن هذا في اليهود، والمدرس لهم يقول: هذا في اليهود، ولا يلفت النظر إلى أن هذا هو واقعنا نحن، واليهود انتهوا.قال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] إذاً فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85].فمن يقول بأنه مؤمن يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنه من أهل الجنة، فهذا الكلام باطل باطل باطل، فالنسبة لا تغني شيئاً، وإن أردت أن تصدقني فانظر إلى من يقول: إني شبعان والبطن مملوءة، فأنا معي في جيبي ألف ريال وأنت ليس عندك شيء، فهل ينفع هذا الكلام؟ لا ينفع.قال: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ [البقرة:85] من يردهم؟ الله، إلى أين؟ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85] أي: أقساه وأمره، فما هو عذاب الخزي في الدنيا أو الفقر فيها.

الاعتصام بالدين هو المخرج

سبحان الله العظيم! هذه الآية لم ما تبلغ إلى العالم الإسلامي؟!ما الطريق وكيف نبلغها؟ دلونا يرحمكم الله.الطريق هو أن نؤمن الإيمان الحق، ونطلب الله في بيته، فنأتي إليه بأطفالنا ونسائنا ورجالنا، ونعكف في بيته وأكفنا إليه، وأصواتنا تتضرع بين يديه، وكل ليلة وطول الحياة حتى ينقذنا، وليس معنى هذا فقط أن نكتفي بالبكاء فمن أين تأتي الدموع إذا القلب قاسي؟ فلا بد من تلقي الكتاب والحكمة كما نتلقاها الآن، والكتاب والحكمة هي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فتنمو المعارف وتفيض أنوارها على القلوب وعلى الجوارح، ونصبح حقاً أحياء، وهذا هو الطريق.وأنا موقن لو أن أهل إقليم التزموا ما قلت، فلا نفارق بيت الله كل ليلة، والله ليأتين أمراؤهم ومسئولوهم ويجلسون معهم.فالأمير أو الضابط -كما يقولون- يلتفت لا يجد أحداً فيسأل: أين ذهب الناس؟ فيقال له: في بيت الله. فيقول: لم؟ فيقال له: من أجل الرحمة الإلهية. فييأس ويقول: خليهم، ثم والله ليأتين ويصبح يسبقهم، ويعين له مكاناً يجلس فيه.فإذا ما نحن تعرفنا إلى الله فعرفنا وعرفناه، واطرحنا بين يديه، فرفعنا وأصبحنا علماء ربانيين؛ أولياء، فلو كادنا أهل الأرض لن يستطيعوا أن يزلزلوا أقدامنا.فإن قالوا: يا شيخ كيف تقول هذا؟نقول: غزا جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة غزوا بلاد الروم، فاستقبلهم الروم بمائتي ألف مقاتل، وهم ثلاثة آلاف، فثلاثة آلاف يقاتلون مائتي ألف، ومع هذا نصرهم الله. بل قال إمامنا الأعظم صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، فخرج من المدينة باثني عشر ألفاً بعد أن تجمع روم أوروبا بكاملها يزحفون، فما إن وصل تبوك حتى أيسوا، وصدرت القرارات الجمهورية والحاكمة: لا فائدة من قتال محمد فاتركوه، وعاد بسلام مع رجاله إلى المدينة.كذلك المؤامرة التي تمت منذ ثلاث سنوات لإطفاء نور الله، فمن صرفها؟ الذي لا يقول: إن الله هو الذي صرفها فهو كافر، وليخرج من المسجد. فالله هو الذي صرف تلك المحنة وتلك المؤامرة التي كانت من أجل إطفاء نور الله، فلم يبق من يرفع رأسه بلا إله إلا الله.ومعنى هذا: أيما مؤمنون صادقون يحتمون بحمى الله، ويقيمون دين الله، ويعيشون على نور الله لو كادهم أهل الأرض أجمعون فلن يستطيعوا أن يزلزلوهم، ولكن إذا فسقنا عن أمره، وخرجنا عن طاعته، وعبثنا بشرعه، وأخذنا البعض، وآمنا ببعض، فهذا يصلي وهذا يغني، فلنتهيأ ليسلط علينا أحقر الناس وأذلهم.أما سلط الله اليهود على ألف مليون مسلم أو لا؟ ومن هم؟ اليهود. وكم عددهم؟قالوا: خمسة ملايين بنسائهم وأطفالهم ورجالهم أذلوا العالم الإسلامي بكامله.هل هذا منام أو يقظة؟!قولوا: آمنا بالله، آمنا بالله، آمنا بالله.

الله محيط بكل شيء

وآخر الخطاب: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85] معناه: هيا نتحصن ونستر أنفسنا أمام الله: فمن كان يكذب فلا كذب .. ومن كان يسرق فلا سرقة .. ومن كان يحسد فلا يحسد .. ومن كان يؤخر الصلاة عن وقتها فلا يؤخرها .. ومن كان يرغب في كشف وجه امرأته فلا يكشفها .. ومن كان يحتال ويغش في معاملته فلا يغش ولا يحتال .. ومن كان لا يذكر الله في كل أحايينه فمن الآن لا ينسى ذكر الله .. وهكذا؛ لأنه يراقبنا: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].ومن أصيب بفقر أو مرض فليفرح بذلك ويقول: رب هو الذي طهرني. فيتلذذ بالجوع، ويتلذذ بالبرد؛ لأنه يعيش مع الله، والله ليكونن في حال أطيب وأسلم وأسعد من حال الذي يتمرغ في الذهب والحرير. فإذا اتصل بالله، وعرف أن سيده هو الذي ابتلاه، والله لتكون حاله أسعد من أهل الدنيا. وصلى الله على نبينا محمد.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #120  
قديم 31-08-2020, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (66)
الحلقة (73)




تفسير سورة البقرة (36)


عجب أمر هؤلاء اليهود، أنزل الله عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل والأنبياء، وجاءهم النور من كل اتجاه ومع هذا أعرضوا، اصطفاهم الله، وخصّهم بتشريعات فيها عزهم، وكرامتهم، وصيانة دمائهم وأعراضهم، ومع هذا خالفوا، لقد باعوا دينهم بدنيا قليلة، فكان جزاؤهم العذاب الأليم، والخزي والهوان والذلة في الدارين؛ الدنيا والآخرة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:86-88].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

إيمان اليهود ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [البقرة:86] من هؤلاء الذين أشير لهم بلام البعد، إذ هم في متاهات لا حد لها؟(اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) أي: استبدلوا الآخرة بالدنيا، وهم يؤمنون بالآخرة، ويعرفون ما فيها، وما يتم فيها للناس، ومع هذا استبدلوا الآخرة بالدنيا؛ لأن الدنيا عاجلة حاضرة بين أيديهم، وكل ما فيها يشاهدونه، فأعمتهم عن الآخرة أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [البقرة:86]، فهل هناك في أذهاننا مما سبق حتى أشير إليهم بهذه الإشارة وهو عيب لهم؟سبق أن عرفنا أنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.فإن قيل: لم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟الجواب: لأن الآية إذا كانت تدعوهم إلى تحقيق رغائبهم الدنيوية قالوا: أهلاً وسهلاً ومرحباً، هذا كلام الله .. وحي الله .. تنزيل الله ومن ثم يعملون، وإذا كانت الآية تريد أن تبعدهم عن شهواتهم، وأطماعهم، وأهوائهم، وتحول بينهم وبين رغائبهم كفروا بها، ولم يعملوا بما فيها.ولهذا مثل سبق لنا، فقد أخذ عليهم في التوراة وعلى لسان موسى عليه السلام: أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من داره، وأُعطوا على هذا العهد والميثاق، وأَعطوهم أيضاً العهد والميثاق، وإذا بالأيام والقرون تمضي فيقعون في هذه الفتنة، فتجد اليهودي يقتل أخاه اليهودي، ويخرجه من داره ليسكنه.

سبب هروب اليهود إلى بلاد العرب

وسبب هذا أنهم كانوا شبه لاجئين في هذه الديار، فقد نزحوا من بلاد الشام لمِا كان ينالهم من الاضطهاد والتعذيب والتنكيل من أعدائهم المسيحيين الصليبيين؛ لأن الصليبيين كانوا يرون أن اليهود هم الذين قتلوا إلههم، والذي يقتل إلهك أو نبيك وأنت مؤمن به فإنك لا تفتح عينيك فيه، ولا تحب أن تراه أو تسمع كلامه.والنصارى يعتقدون إلى اليوم أن اليهود هم الذين قتلوا السيد المسيح بل صلبوه أولاً وقتلوه، والله عز وجل أبطل هذه الفرية فقال: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].والقضية كما علمتم أنهم عزموا حقاً على قتل عيسى، فطوقوا منزله بالشرط والدرك ورجال الأمن، كما هو حال دولة يهود، فلما أبى عيسى أن يفتح الباب دخل رئيس الشرطة في عهدهم، فما إن دخل حتى رفع الله تعالى عيسى إليه من روزنة المنزل وإلى السماء والملكوت الأعلى، فانتظر رجال الشرطة خروج رئيسهم لينظروا ماذا فعل، فلما استبطئوه دخلوا، وما إن دخلوا حتى ألقى الله تعالى عليهم الشبه في رئيس الشرطة، فما إن رأوه حتى قالوا: هذا عيسى، والتفوا حوله وكبلوه بالحديد أو بالحبال وأخرجوه، وصدر الحكم بصلبه وقتله، وبالفعل صلبوه على الأخشاب وقتلوه.فانظر! فمن السخف، والجهل، والعمى، والضلال كيف أن الإله يُقتل؟ وما فائدة إله يقتله أعداؤه؟ كيف يرحمه؟ كيف يدخله الجنة؟ كيف ينصره؟ كيف .. كيف، وهم قد قتلوه وصلبوه. أرأيتم، ويا ليت قساً من القسس بيننا يسمع هذا الكلام فيتململ ويتغايظ، فهذا واقعه.وإن قال لنا: كيف تقولون مثل هذا الكلام؟ قلنا له: ها أنت تعلق صورة الصليب في عنقك تتبركون بها، وتذكركم بعداوة اليهود؛ فهم الذين صلبوا عيسى وقتلوه.وقد أرانا الله تعالى آية أيام كنا في باب المجيدي، فقد سمعنا في الإذاعات أن بولس الثامن رئيس الكنيسة العالمية أصدر بياناً قال فيه: إن اليهود برآء من دم السيد المسيح، فاهتز العالم كيف مضت ألفا سنة إلا عشرين عاماً والنصارى يعتقدون أن اليهود قتلوا إلههم، والآن يصدر هذا البيان، فهل هذا الرجل مسحور بالمال .. بالسحر، وكيف أن رئيس الكنيسة في العالم يقول ويصرح بمثل هذا التصريح؟!فهللنا وكبرنا وقلنا: الحمد لله، هذا هو معتقدنا، وبهذا نزل كتاب الله إلينا، إذ الله يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، وأغمضوا أعينهم، ودسوا رءوسهم في الرمال كالنعام، وما زالوا يعتقدون أن اليهود هم الذين قتلوا السيد المسيح.إذاً: هؤلاء اليهود نزلوا هذه الديار لعلتين واضحتين بيناهما كثيراً:الأولى: اضطهاد الرومان لهم؛ لأنهم قتلة إلههم.والثانية: انتظار النبوة التي بشرت بها الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل، وهي أن نبياً قد أظل زمانه، وأنه يخرج من جبال فاران، أي: جبال مكة، وأن مهاجره قرية ذات سَبِخة ونخيل تسمى يثرب، فقالوا: ننزح إلى هذه الديار انتظاراً للنبي الجديد فنؤمن به، ونلتف حوله، ونسترد أمجادنا، ونعيد مملكتنا.عرفتم إذاً علتي دخولهم المدينة، أو عندكم شك فلا تستطيعون أن تتحدثوا بهذا أو أن هذه خرافة؟ كلا والله لن تسمعوا هنا سوى ما هو حق، فلا خرافة، ولا ضلالة، ولا باطل.والآيات أمامنا، غداً -إن شاء الله- تقرر هذه الحقيقة.والشاهد عندنا: أنهم تواجدوا في المدينة وفي تيماء وفدك نازحين، ولما كانوا في المدينة كانوا ثلاث قبائل: بنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو قريظة، وكانت الحرب تدور بين الأوس والخزرج حتى تدوم عشرات السنين، وهاتان القبيلتان من قح العرب، نزحوا من اليمن بسبب خراب سد مأرب، فشاع الفقر والضعف فنزحوا إلى الشام والشمال، فحالف بنو النضير وبنو قينقاع الأوس، وحالف بنو قريظة الخزرج، أو العكس، وكانت إذا اشتعلت نار الحرب كان الأحلاف يقاتلون مع أحلافهم، فهذه فطرة الناس؛ لأنهم أيضاً يقاتلون معهم، فلما يبدأ القتال كان اليهودي يقتل أخاه اليهودي الآخر، وإذا هاجموهم في القرية وأخرجوهم من ديارهم كان اليهودي يخرج أخاه اليهودي من داره، ثم لما تنتهي الحرب يفادون إخوانهم بالدينار والدرهم، يقولون: لا يحل لنا أن نترك إخواننا أسرى في أيدي العدو فلا بد من الفداء، فيفادونهم حتى بلباس نسائهم إيماناً بالله وطاعة لهم، فقد فرض الله علينا هذا، فانظر كيف يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فمن جهة يقتلون إخوانهم ويخرجونهم من ديارهم، ومن جهة أخرى لا بد من مفاداة الأسرى.وقد رأينا هذا في أيامنا هذه بأعيننا، فإذا اختطف الفلسطينيون يهودياً فإنهم يفدونه بعشرين .. بمائة .. بستمائة عربي، ولا يسمحون أن يتركوا أسيراً بل يفادونه بالملايين إذا طولبوا بالمال، ويفادونه بالأسرى الذين عندهم ولو بالمئات، كل هذا إيماناً بالله وبشرع الله، فالله قد فرض على بني إسرائيل أن يفادوا إخوانهم، فلا يسمحون أن يبقوا في يد العدو العام والعامين والسنين، ولو يبيعون حلي نسائهم كله، فهذا عجب، والقرآن يخبر بهذا.وهل يختلف ما حدث عما هو واقع؟والله ولا قيد شبر أو قيد شعرة؛ لأنه كلام الله .. وحي الله، فلنقرأ لهذا قول الله عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:84-85].

تحذير المسلمين من مشابهة اليهود في أخلاقهم وطبائعهم

قلنا: القرآن كتاب هداية .. كتاب إنجاء من الغرق، وإخراج من المحن والفتن .. كتاب إسعاد وإكمال، فهل المسلمون اليوم ما سلكوا مسلك اليهود؟ الجواب: سلكوه وأعظم، فأسرانا لا نفاديهم، ولا نستطيع أن نعطيهم فلوساً أبداً، واليهود يفادون أسراهم، فهم أشرف؛ لأنهم يفادون أسراهم بالملايين، ونحن نقول: دعه في الأسفل، كيف نجمع المال، وكيف نفادي ونعطي الأموال للعدو من أجل أن يطلق فلاناً أو فلاناً، خليهم، فهذا هو الواقع.ثانياً: هل طبقنا شريعة الله كاملة؟!نعم، الصلاة لا بأس يصلون، لكن الزكاة لا يزكون، كذلك الصيام لا بأس يصومون، ولكن كشف العورات والسوآت، وتبرج النساء واختلاطهن بالرجال، وانتشار الزنا لا بأس، يقولون: هذا فيه مضايقة على الشعب، فدعوهم.وتتبعوا غير ذلك، فإنكم ستجدون أن أكثر المسلمين هذا صنيعهم، كأنهم يؤمنون ببعض الآيات ويكفرون بالبعض الآخر، فهل يلامون أو لا يلامون؟ أو هم أشراف وسادة الدنيا لا يلامون؟ اليهود وهم أبناء الأنبياء، وهم بنو إسرائيل عليه ألف سلام ومع هذا وبخهم الله وقبح سلوكهم .. عيّرهم .. انتقدهم .. توعدهم .. لعنهم، ونحن لا، يكفي أنه مسلم.وهل أصاب المسلمين ذل وخزي في الدنيا أو لا؟آه، نعم أصابهم، وهذه آية من آيات الله، ومن عجب أن سلّط عليهم حفنة من اليهود لا يساوون واحداً ونصف في المائة من المسلمين، فخمسة ملايين أذل الله بهم ألف مليون، ومن ينظر بعيني العلم والبصيرة يشاهد ما أقول، أليس المسلمون ألف مليون من إندونيسيا إلى موريتانيا، واليهود خمسة ملايين؟!وليس اليهود هم الذين أذلونا، لا والله، ما هم ومَن هم! ولكن الله قواهم وسلطهم علينا، وخذَّلنا وأنزلنا في الحضيض؛ لتتجلى هذه الآية في الكون؛ لأننا نؤمن ببعض ونكفر ببعض.وقد وجد من يقول: ما يلائم الطبع، والفطرة، والحضارة، والمدنية، والسير وراء أوروبا هذا هو الدين، وما عاكس ذلك وخالف فلا نريده، ولا نريد أن نعود إلى التخلف والوراء والرجعية و.. و، فالزمان تقدم، والعلم تطور.وأنتم تسمعون هذه اللغة، ووالله العظيم إن هذه حال المسلمين، والمؤمنون الصادقون يتململون، ويبكون ويرفعون أكفهم إلى الله أن يجيرهم من خزيه وعذابه، ولكن إذا حلت النقمة تحل بالجميع، والمؤمنون يثابون على ابتلائهم ومحنتهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، لكن الأخذ بالعموم لا بد منه.الآن عرفتم هداية القرآن أو لا؟لا تفهموا فقط إلا قول من يقول: هذا من شأن اليهود، وهذه حال اليهود، فهم الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فجازاهم الله بالذل، والعار، والخزي، وعذاب الآخرة، أما نحن فلا، فهذا القرآن نزل في اليهود، نعم هذا صحيح، لكنه نزل علينا لا عليهم .. وهذا الكتاب نزل على نبينا، وهو كتاب الله إلينا، فيه هدى وموعظة للمتقين.والله لقد عاشت أمتنا أربعة .. خمسة .. ستة قرون، والمفسرون -فقط- يقولون: هذا نزل في اليهود .. هذا نزل في أهل الكتاب، ونحن ما نزل فينا؟ نعم، نحن نزل علينا؛ من أجل إكمالنا وإسعادنا .. من أجل هدايتنا .. من أجل ترقيتنا واصطفائنا؛ لأنه فقط يلوم اليهود، ويعتب عليهم، فهذا كتاب البشرية جمعاء، والإنسانية كلها، والحمد لله زال ذلك الظلام والجهل، وأصبحنا نفسر كلام الله على مراد الله، فهذه نعمة والحمد لله.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 289.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 283.42 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (2.11%)]