رسالة تاج الدين السبكي إلى والده، وجواب والده عليها - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : أبـو آيـــه - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858908 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393269 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215633 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-02-2022, 04:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رسالة تاج الدين السبكي إلى والده، وجواب والده عليها

رسالة تاج الدين السبكي إلى والده، وجواب والده عليها
د. عبدالحكيم الأنيس




المراسلاتُ بين الأبناء والآباء مِنْ أجمل المراسلات، لاسيما إذا كانوا من أهل العلم والفضل والدين، وهذه رسالةٌ كتبها تاجُ الدين السبكي إلى والده تقي الدين -رحمهما الله تعالى- في سادس عشر جمادى الأولى سنة (755هـ) بدمشق، وكتبَ الوالدُ جواباً لابنهِ عليها.

ولا ندري سببَ كتابة تاج الدين هذه الرسالة، ولكننا نستشفُّ ذلك مِنْ مضمون الرسالتين، ويبدو أنه متعلقٌ بعلاقة التاجِ بالناس، وفتحهِ باب قضاء حوائجهم، وتقريبِ غاياتهم، وقد فُسِّرَ هذا تفسيراً أدخلَ الحزنَ على قلبه، وهو أنه يريدُ مِنْ ذلك تحقيقَ أمورٍ خاصة.

وهاتان الرسالتان نقلهما السيوطي في الجزء السابع من تذكرته (الفلك المشحون) (الورقة 2-4 حسب ترقيمي) مِنْ خطِّ الابنِ والأبِ.

وقد رأيتُ نشرَهما؛ لما لهما من أهميةٍ كبيرةٍ في الكشفِ عن جوانبَ جديدةٍ في حياة الشيخين القاضيين، وحاولتُ توضيحَ نصَّيهما كما ترى.

♦♦♦
قال السيوطي -رحمه الله-:
♦♦♦
(بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يسِّر
نقلتُ مِنْ خطِّ الشيخ تاج الدين السبكي -رحمه الله تعالى- ما نصُّه:
بعد البسملة الشريفة:
الحمدُ لله، وصلى اللهُ على سيِّدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم.

أمّا بعدُ:
فهذه رسالةٌ كتبها العبدُ الفقيرُ إلى الله تعالى عبدُالوهاب بنُ علي السبكي إلى والده ---أطال الله عمرَه، وشيّدَ به رَبْعَ الدين وعَمَرَه-.

الأسبابُ المقتضيةُ للإجلالِ والتعظيمِ، والمحبّةِ والمهابةِ عند الصاحبِ لصاحبه أمورٌ:
أحدُها: القرابةُ: وأعلى درجاتها البعضيةُ، فلا أعظمَ من الوالدية والولدية.
والثاني: العلمُ: واللهُ يعلمُ أنَّ سيِّدَنا عندَنا في درجةِ سفيان الثوري، ومحمدِ بن إدريس الشافعي، وأمثالِهما.
والثالث: الدِّينُ: ولا يَشكُّ اللبيبُ في أنَّ مولانا بالمحلِ الأعلى منه، وأنه جامعٌ لأنواعهِ، حاوٍ لأقسامهِ، قائمٌ فيه بقلبهِ وقالبهِ، وأنّه من الأولياءِ.

ولو كنّا نقضي بما نقضي به على العلماء لقلنا: إنّه أزهدُ أهل زمانه، ولكنّه لا اطلاعَ لنا على الزُّهاد، بخلاف ذوي العلم، فإنَّ العلمَ لا يكادُ يختفي على أحد.

والرابع: الإحسانُ: وقد اشترك الخاصُّ والعامُّ في معرفة إحسانِ مولانا لبنيه وذويه إحساناً بلغَ النهاية مِنْ قدرتهِ، مع تقصيرهِ في الإحسانِ إلى نفسهِ. ومرادُنا بالإحسان هنا الإحسانُ الدُّنيوي دون الدِّيني.

والخامس: الهدايةُ والإرشادُ: وقد نصبَ اللهُ تعالى مولانا علَماً تأتمُّ الهُداة به، وضياءً تمشي السائرون في جنَباته.
والسادس: الرأفةُ والشفقةُ والمحبةُ: ومولانا بالمكانِ المكينِ منه كلِّه.

والسابع: حُسْنُ الإخاء: مِنْ بذلِ النُّصحِ، وعدمِ الحقد، والإغضاءِ، والصفحِ، والحلمِ:
أبداً تراهُ لا يعاتِبُ صاحِباً
بالذنبِ خوفَ تغيُّرِ الأصحابِ

فالذنبُ ليس بسالمٍ منه امرؤٌ
والعاتبونَ غدوا بلا أحبابِ

والصفحُ أولى ما تدرَّعَهُ الفتى
والحقدُ شرُّ ملابسِ الأثوابِ



وكلُّ خصلةٍ من هذه الخصال تُوجِبُ ما ذكرنا من الإجلال والمحبة، فما ظنُّك بها إذا اجتمعتْ؟
وأقول: إنّي
ذو خُلُق خَلِق إذا وازنتَهُ[1]
أربى وإنْ يكُ آخرَ الميزانِ

كيف النجاةُ وإنهُ الموضوعُ في ال
ميزانِ قبلَ مكاسبِ الإنسانِ؟



والطالبون ذوو إلحاحٍ وعمَى لا يَعرفون إلا قضاءَ حوائجهم، وقادرون والأذى أغلبُ على طبائِعهم، وإذا أُضيف إلى عماهم وجاههم سماعُهم ذكر الدرهم والدينار ازدادَ الجهلُ جهلاً، والعمى ضلالاً، فهُمْ أحبُّ خلقِ الله فيما بأيديهم، وما أحسنَ قولَ ابن الرومي:
ولوْ أنّي جُعِلتُ أميرَ جيشٍ
لمَا قاتلتُ إلا بالسؤالِ

لأنَّ الناسَ ينهزمونَ منهُ
وقد صَبَروا لأطرافِ العوالي



[إذا أُضيفَ هذا][2] مع ضعفِ المسؤولِ عن مقاواتهم كانَ ذلك أشدَّ.
وإنّي لما حُدِّثتُ فيما علمتم - واللهُ يعلمُ أنَّ الدنيا تضيقُ بي إذا حُدِّثتُ في شيءٍ مِنْ ذلك، وأنَّ الحالَ في هذا الزمانِ مضطرٌ إلى المحاسبة[3]، وأنتم تعلمون أنَّ مَنْ نَسَبَ إلى علمِ اللهِ ما لم يكن فقد كفرَ- ثم جئتُكم بعد إهانةٍ زائدةٍ، ورددتم الكلامَ رَدَّ مَنْ غلبَ على ظنِّه أنَّ لي غرَضاً -واللهُ يعلمُ البراءةَ مِنْ ذلك - شقَّ ذلك [عليَّ][4] مشقةً زائدةً، وقلتُ: سبحان الله:
نُرَقِّعُ دنيانا بتمزيقِ دينِنا ♦♦♦ فلا دينُنا يبقى ولا ما نُرَقِّعُ


وقد كتبتُ هذه الأسطرَ باسطةً للعذر، مُعْلمةً أنَّ مولانا لا ينبغي أنْ يقيسَ على نفسهِ غيرَه، ولو أنه[5] إلا لأنه يُعامَلُ بما لا يُعامَلُ به غيرُه من التهكُّم، مع ما في أنفسِ الناسِ الأعداءِ خذلهم اللهُ منه مِنْ مكايد، لا يجدون بُدّاً من الانتقامِ والتشفِّي بأولاده - حيثُ قدروا لا قدرهم الله - لعجزهم عنهُ[6]، مع أنّهم لو قدروا عليه هو لم يُبالِ بهم، فإنّه:
مَنْ كان فوقَ محلِ الشمسِ موضعُهُ ♦♦♦ فليس يرفعُهُ شيءٌ ولا يَضَعُ


وهذا بخلافِ غيرهِ، وهذا هو المُوجِبُ للحديثِ معكم.
وأمّا ترتُّبُ غيظِكم على ذلك، وتوهُّمُكم فيَّ ما لا ينبغي، فهو أشدُّ الأمرين، وآلمُ الجرحين، وأعظمُ المُذففين.
وأشتهي أنْ تعلموا العذرَ، وأنْ يكون خاطرُكم مع ذلك طيّباً راضياً، وأنْ تدعوا لي دعاءً ينفعُ -إنْ شاءَ اللهُ تعالى- في الدارين، فإنَّ مَنْ كان والِداً عالِماً عامِلاً مُحسناً مهذِّباً رؤوفاً حليماً ينبغي اغتنامُ هذه الأشياءِ منه.

وأنا قد كتبتُ إلى الأخ بهاء الدين[7] مِنْ مدةٍ أنِّ الذي أدينُ اللهَ تعالى بهِ أنَّ الإقامةَ عندَكم أفضلُ مِنَ الإقامة بمكة[8].

لذلك فما أشتهي خاطرَكم يتغيّرُ، وأشتهي تكتبونَ الجوابَ بخطِّكم فيما فضلَ مِنْ هذه الأوراقِ، لتكون حجةً لي عليكم[9] يوم القيامة، وسجلاً يشهدُ برضاكم عني، ودعائِكم لي.

كتبه عبدُالوهاب بنُ علي السبكي غفر اللهُ لهما، في سادس عشر جمادى الأولى[10] سنة خمس وخمسين وسبع مئة، بدمشق.
وصلّى اللهُ على محمدٍ وسلُمَ.

وقد أحاطَ علمُكم بأنَّ الذي ضمِنَ له عبدُالرحمن ابنُ أبي حاتم الجنةَ دُفِنَ وورقتُه معه.
وأنَّ السيّدَ الكبيرَ الإمام أبا بكر الصبغي دُفِنَ معه الخاتمَ الذي رأى في النوم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر تختموا به.

ونحنُ نرجو أنْ تُدْفَنَ هذه الكراسة التي يكون فيها خطُّكُم بذلكَ - إنْ شاءَ اللهُ - معنا.
والحمدُ لله، وصلى اللهُ على سيِّدِنا محمد، وآلهِ وصحبهِ وسلَّم تسليماً.

♦♦♦♦
فكتبَ والدُهُ عقبَ ذلك في بقيةِ الكُراسةِ ما نصُّهُ - ومِنْ خطِّهِ نقلتُ -[11]:
الحمدُ لله.
وقفتُ على هذهِ الفضائلِ التي رسمَها الولدُ، والفوائدِ التي فاتتْ العدد، ولا يَصلُ إليها أحد، وحلّتْ في قلبي حُلولَ الزُّلال على الكبد، وريحِ الصَّبا على الجسد.
فحمدتُ اللهَ وشكرتُهُ إذ جَعَلَ نجلي يأتي منهُ ذلك، وإنِّي مُقصِّرٌ عمّا هُنالك، وذلك فضلُ اللهِ يؤتيه مَنْ يشاءُ، ولا يَهلِك على اللهِ إلا هالك، ولقد سلكتَ في إرسالِك هذه الرسالة أحسنَ المسالك.
ولقد علوتَ فيها أدباً، واتخذتَ مِنْ كلِّ فنٍّ سبباً، ولم تُبْقِ شأواً لمُجيبٍ وإن كان أباً، حتى قضى مِنْ حسنها وما قضى عجباً:
فكأنها وكأنَّ رقةَ لفظِها
ذكرى حبيبٍ فوقَ كلِّ حبيبِ

ما مسلمٌ إلا صريعٌ[12] عندها
ولغيرها[13] يزهو بكلِّ نسيبِ



فأفديكَ مِنْ ولدٍ بما أجد، وأعيذُك بالواحدِ الأحدِ مِنْ شرِّ ما يرِد.
فأمّا ما ذكرتَهُ من الوالِديةِ فصحيحٌ متين، وذلك حقٌّ للهِ أنزلهُ في كتابهِ المُبين، ليُصرَّف به حقُّ الله ويستبين.

وأمّا العلمُ فأنا عنهُ بمعزلٍ، ولا يُعجبني من الولد أنَّ يظنَّ أنّي منه بمنزلٍ، فضلاً مِنْ أنْ يذكرَ سُفيان أو ابنَ إدريس، فهيهاتَ اشتهيتُ أنْ أسلمَ مِنْ إبليس، فالولدُ لا يرجع يفوه بمثلِ هذا، أخافُ أنْ يُقالَ لي: أنتَ بهذا[14]؟.

وأمّا الدِّينُ فواللهِ أكبرُ منايَ أنْ أموتَ مُسْلماً، وإيّاكَ ثم إيّاكَ أنْ تقول هذه الكلمة (الولاية) بعد هذا، أو تتخيلها بذهنك، فأين نحنُ وتلك المرتبة؟! فلا تغلطْ، ففيه مفسدتان:
أخروية: مِنْ جهةِ اللهِ: أخافُ من المؤاخذةِ لي ولكَ بها.
ودنيوية: لأنَّ الناسَ ينتقدون دون ذلك ما كانَ بسببها[15].

وكذلكَ ما ذكرتَهُ من الإحسان والهداية والإرشاد؛ كل هذا أَبْعِدْ[16] عنهُ غايةَ الإبعاد، فخذْ فيما ينفعُ، ونعوذُ بالله مِنْ علمٍ لا ينفعُ، ودعاءٍ لا يُسْمَعُ.

وأنتَ ما تعلم أنَّ الإطراءَ يَضرُّ القائلَ والمَقولَ فيه؟
فشفقتُك على نفسِك وعلى والدِك أنْ لا تكونَ تذكرُ بعد اليوم شيئاً مِنْ هذا، بل نسألُ اللهَ لكما[17] الصفحَ وتركَ المُؤاخذة، وأنْ يسرَّنا في الدارين، ويزيدَنا مِنْ فضله كما يشاء سبحانه وتعالى.

وأمّا رضاي: كلُّ[18] أحدٍ يَعلمُ بطبيعتهِ البشريةِ منزلةَ الولدِ من الوالدِ، ولي مِنْ ذلكَ -إنْ شاء الله- أعظمُ [نصيبٍ][19]، وأنا في غايةِ الرضى والحُنو، وأشتهي لكلِّ مُسلمٍ أكثرَ ممّا أشتهي لنفسي.

وأمّا حوائجُ الناسِ فأنتَ معذورٌ، ولكني أقولُ لكَ قولَ شفقة:
متى سلَّطَهم الإنسانُ على نفسهِ تعبَ، فإنَّ [حوائجَهم][20] ما لها نهاية.
ومتى فطمَهم انفطموا.
ومتى سلكَ طريقَ المُخاشنة تعبَ تعباً لا ينجو منه.
فأنا أريدُ كلَّ مَنْ طلبَ حاجة يطلبُها مني إنْ اتفقَ قضاؤُها، وإلا كان عتبُهُ عليَّ وحدي، والله يلطف بي وبه.

وأنتَ إذا عرفوا مني ومنكَ هذا استرحتَ وتفرَّغتَ لما أنتَ بصددهِ مِنْ اشتغالٍ بعلمٍ يُنْتَفعُ به في الحالِ والمآلِ، فالشافعيُّ يقول: لو كُلِّفتُ شراءَ بصلة ما حفظتُ مسألة.

وأنا لولا كان أبي قائماً بكلِّ ما أحتاجُ إليهِ وأنا لا أفكِّرُ في شيءٍ ما حصَّلتُ علماً، بل اليومَ وأنا في هذه الحالة والله - لولا أني أخلو في البيتِ بعضَ الأيام، فأنامُ كثيراً حتى يستريحَ بدني ويصفو عقلي، فيخلصُ إليَّ ثلاثُ، أربعُ ساعاتٍ في كل يومين، ثلاثة - ما قدرتُ أعملُ شيئاً.

والإنسانُ - أنا وغيري - ما يصفو له مِنْ دهرهِ العُشرُ منه، فإنْ انتهزَ فيه فرصةً في خاصةِ نفسهِ في دينهِ وعلمهِ وضرورةِ دنياهُ انتفعَ بها، وإنْ ضيَّعها مع الناس أو مع نفسهِ راحتْ عليهِ وندمَ حيثُ لا ينفعه الندمُ، والناسُ واللهِ لا ينفعون شيئاً.

والوالدُ إذا كان حيّاً يُمكنه أنْ يتلقّى عن الولدِ بعضَ ما يَنوبه، وإذا ماتَ احتاجَ الولدُ يتلقى كلَّ ما ينوبُه، فالولدُ يغتنِمُ حياةَ والده، ويرمي كَلَّهُ عليه، ويُفرِغُ بالَهُ بقدرِ إمكانهِ لما ينفعُهُ فيما سيأتي، فمصيرُهُ يَتعبُ، ولا يُعجِّل لنفسهِ التعبَ الآنَ والفكرةَ في ما لا يَنفعُ.

وكلًّ أحدٍ يُحسِّنُ إليهِ الناسُ أو نفسُهُ الأمّارةُ أو إبليسُ أنَّ تلك الحاجة التي يطلبُها منه الناسُ خيرٌ لمحاسنهِ أو ضرورة.
.............................. ♦♦♦ وتلكَ خديعةُ الطبعِ السقيمِ
(إنهم لنْ يُغنوا عنك من الله شيئاً).

وأمّا كوني أتوهَّمُ أنَّ لك غرضاً فهذا ما يَخطرُ ببالي، فلا يَسْرِ هذا بذهنك، وإنما غرضك[21] لضعفِ قوتك، وتوهُّمِك عيبَ الناس [في الامتناع من][22] قضاء ما يطلبونهُ مِنْ قضاءِ حوائجِهم.

وأنا أعرفُ أنَّ هذا مثلُ مَنْ يفتحُ على نفسهِ بابَ سبيلٍ لم يقدرْ يدفعُه، فأريدُ أسدُّ عنكَ لتتفرغَ لمصلحتك.

أنا أجدُني في حقِّ نفسي هكذا، لا يُمْكنُ أفهمُ شيئاً حتى أستجمَّ زماناً، وتنصرفَ نفسي عن كلِّ شيءٍ حتى لا أفكِّر في أكلٍ ولا في شربٍ ولا في أحدٍ، ذلك الوقتَ يصفو لي خاطري، فيحصلُ لي بعضُ شيءٍ يسيرٍ من العلم.
والمُتقدِّمون ما حصلَ لهم شيءٌ إلا بهذا، فهذا فليكن[23] دأبَك لا يصدَّك عنه صادٌّ، ولا يصرِفْك عنه صارفٌ.
وأنا داعٍ لكَ، راضٍ عليكَ أتمَّ الرضى.

والإنسانُ لا بُدَّ له مِنْ حاجة، وهي حاجةٌ يسيرةٌ مِنْ أكلٍ وشربٍ يُمكنُ أن يقومَ بها أقلُّ غلامٍ عنده، بحيثُ لا يكونُ له فكرةٌ فيها، فمتى تفكَّرَ فيها تنغَّصَ حالُه، ونقصتْ فكرتُه العلمية.

وله نفسٌ مشتملةٌ على صفاتٍ حسنةٍ وصفاتٍ قبيحةٍ، ومِنْ جملة صفاتِها الحسنة عقلي؛ إمّا منها، وإمّا زائدٌ عليها، متى مكَّنها مِنْ اتباع شهواتِها، وصفاتِها القبيحة، -وهو الشهواتِ الجُثمانية أو الوهمية أو الخيالية- تعِبَ وضَيَّعَتْ عليه أوقاتَه.

ومِنْ جملة أغراض النّاس الذين هم أصحاب العافية[24] لا يودون الإنسانَ إلا في حالِ العافية ما دامَ مُحسناً إليهم، وفي غيرِ ذلك لا يعرفونه، فرَمْيُ النفسِ في هذا التيّار أعظمُ مِنْ حاجةِ البدنِ بكثيرٍ؛ لأنَّ هذا تيارٌ وبحرٌ لا ساحلَ له، والعقلُ يقتضي أنَّ الإنسانَ لا يَصرِفُ له وقتاً إلا في علمٍ، أو دينٍ، أو شيءٍ يسيرٍ مِنْ ضروراتِ معاشهِ، فإنّه لابُدَّ من المعاش والمعاد؛ أمّا المعاشُ فلإصلاحِ الدنيا، وهي يسيرة، وأمّا المعادُ فلإصلاح الآخرة. واللهُ أعلمُ، فاجتهدْ فيما ينفعُك، واللهُ يبارِكُ فيكَ ويكونُ في عونك.

وأنا كنتُ أطلبُ أجيءُ إليكَ بكرةً قبلَ "دارِ العدل"[25]، فجيدٌ الذي سيَّرتَ إليَّ هذا حتى عرفتُ طيبةَ خاطرِك، فما يَصلُ الإنسانُ إلى مصالحِ دنياهُ وآخرتهِ إلا بطيبِ خُلقه، وحُسْنِ خلقه، واعتدالِ مزاجه.

والشيطانُ يستفزُّ الإنسانَ حالةَ غضبهِ يُخرِجُ منه ما ليسَ بجيدٍ، ولاسيما عند مَنْ لا يرحمُه، فأعيذُك باللهِ مِنْ شياطين الإنس والجن، وأسأل اللهَ أنْ يكونَ في عونِك، ويُعلي قدرَك، ويزيدَك ولا ينقصَك، ويعطيَك ولا يحرمَك، ويهبَك مِنْ موادِّ فضلهِ.
إنّه هو الوهّاب - إنْ شاءَ اللهُ تعالى -).


[1] كرَّر الناسخ: خلق إذا وازنته.

[2] زيادة مني.

[3] كذا في الأصل، ولعل الصوابَ: المحاسنة. وسيأتي في كلام التقي ما يفيدُ ذلك: وكلُّ أحدٍ يُحسِّن إليه الناس...

[4] زيادة مني.

[5] كذا في الأصل، ويظهرُ أنَّ في الكلام سقطاً.

[6] أي: لعجزهم عن النيل من الشيخ تقي الدين.

[7] وكان يقيم في مكة.

[8] كأنه ينظر في ذلك إلى جانب البر.

[9] هذه اللفظة (عليكم) قاسية هنا!

[10] في الأصل: الأول!

[11] أي من خط تقي الدين، وهذا يعني أنَّ الكراسة لم تُدفن مع تاج الدين.

[12] تورية بالشاعر صريع الغواني: مسلم بن الوليد المتوفى سنة 208هـ، وترجمته في "الأعلام" (7 /223).

[13] في الأصل: ولغرها. ولعل الصواب ما أثبتُّ.

[14] كذا في الأصل، ولعل المرادَ: أنتَ هو هذا.

[15] هذه اللفظة كأنها كذلك في الأصل.

[16] كذا في الأصل بهمزة مفتوحة على الألف، وسكون الباء، وكسر العين.

[17] يقصد بهاء الدين وتاج الدين.


[18] أي: فكلُّ. ولم يَستعمل الفاء هنا، مع أنه استعملها فيما مضى.

[19] زيادة مني.

[20] زيادة مني.

[21] أي أعرف أن غرضك فيما صنعت.

[22] زيادة مني.

[23] في الأصل: يكن.

[24] من أقوال السلف: إياك وصديق العافية. أي الذي يصاحبك في الرخاء ويتخلى عنك في الشدة.

[25] أي قبل ذهابي إلى دار العدل.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 67.46 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 65.81 كيلو بايت... تم توفير 1.65 كيلو بايت...بمعدل (2.45%)]