وقفات ودروس من سورة البقرة - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858753 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393152 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215583 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-01-2024, 04:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات ودروس من سورة البقرة (1)
ميسون عبدالرحمن النحلاوي

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين.

مقدمة:
القرآن الكريم من أكبر النعم التي مَنَّ بها ربُّ العالمين على عباده المسلمين، فيه الرحمة، وفيه الهدى، وفيه العلم والحكمة والبيان، فيه القصص والعبر والعظات.

هو نور ورحمة وشفاء لكل مسلم على أي حال كان؛ القرآن الكريم فيه الخير كله، مَنْ تمسَّك به فاز، ومن حُرمه خاب وخسر آخرته ودنياه. اللهم إنا نعوذ بك من الخيبة والخسران.

يقول تعالى في سورة يونس: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 57، 58].

جاء في تفسير القرطبي: "قوله تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ﴾ قال أبو سعيد الخُدْري وابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله: القرآن، ورحمته: الإسلام، وعنهما أيضًا: فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله"؛ انتهى.

وقد ذمَّ الله في كتابه العزيز من يقرأ القرآن بلا تدبُّر ولا فهم لمعانيه ومقاصده، فقال عزَّ مِن قائل: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].

قال ابن كثير: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾؛ أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه.

فالمؤمن مأمور أن يبحث ويتقصَّى ويحاول ويجتهد في فهم معاني القرآن الكريم، ليكون ممن "يتلون الكتاب حقَّ تلاوته" فيكتب ممن "يؤمنون به"، يقول تعالى في سورة البقرة: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة: 121].

قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، إن "حق تلاوته" أن يحل حلاله، ويُحرِّم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يُحرِّف الكَلِم عن مواضعه، ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله.

وكذا رواه عبدالرزاق، عن معمر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود.

وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: يحلون حلاله ويُحرِّمون حرامه، ولا يُحرِّفونه عن مواضعه.

قال القرطبي: وروى نصر بن عيسى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121]، قال: " يتبعونه حقَّ اتِّباعه"؛ انتهى.

والعمل بالقرآن واتِّباع ما جاء به يقتضي تدبُّره، ويتطلَّب منا فهم مقاصده ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.

وقد ورد عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- قال: "لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره! ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل! ".

اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا وفهمًا وتدبُّرًا لكتابك العزيز، وأن تكتبنا من أهل القرآن وخاصته دون رياء ولا نفاق، اللهم آمين، وبعد:
فهذه الدراسة البسيطة لسورة البقرة، والتي تمتد على عشر حلقات أو أكثر، هي محاولة لتدبُّر وفهم ما شاء الله لنا أن نتدبر منها، وإلا فإن أسرار القرآن ومقاصده وإعجازه لا يحيط بها إلا منزله جل وعلا، ولا نحيط نحن البشر من علم الله بشيء إلا بما شاء، كما قال عز وجل في آية الكرسي: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255]، وفي سورة الكهف: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف: 109].

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك لا يشوبها من الرياء شائبة، اللهم آمين.

بسم الله الرحمن الرحيم

وقفات ودروس من سورة البقرة (1)

مقدمة:
تعريف بسورة البقرة:
أسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنام القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: "البقرةُ سنامُ القرآنِ وذروتُه، نزل مع كل آيةٍ منها ثمانون ملكًا، واستُخرجت ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255] من تحتِ العرشِ فوُصلتْ بها"؛ عن معقل بن يسار، المحدث: الشوكاني، المصدر: فتح القدير، خلاصة حكم المحدث: سنده صحيح، وأخرجه أحمد والطبراني.

وسورة البقرة مدنية بالإجماع، وهي ثاني سور القرآن الكريم بعد سورة الفاتحة بحسب ترتيب المصحف العثماني، وعدد آياتها: ست وثمانون ومائتا آية، وهي أطول سورة في القرآن، وفيها أطول آية في القرآن، وهي آية المداينة، وفيها أفضل آية في القرآن، وهي آية الكرسي.

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "هذه السورة أول ما نزل بالمدينة، نزلت في مُدَدٍ شتى"، وعنه أيضًا: "آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، آية الربا".


وروي أن آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، ومعها تختم آيات الربا.

تسمية السورة:
سميت هذه السورة بعدة أسماء، منها: السنام، والذروة، والزهراء. أما تسميتها بالاسمين الأوَّلين؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكًا»؛ رواه أحمد وغيره، وأما تسميتها الزهراء؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران»؛ صحيح مسلم.


ومن يتدبَّر في مفصليات سورة البقرة يجد أن اختيار قصة بقرة بني إسرائيل لتكون اسمًا للسورة، إنما هو بمثابة عنوان عريض لما تزخر به السورة من عروض متنوعة للجوانب النفسية والسلوكية العجيبة لبني إسرائيل؛ ومن عجيبها ما كان منهم في تعاملهم مع نبيهم وربهم في قصة البقرة.. فتجدهم يجادلون ويتعنتون في أبسط وأهون طلب طلبه الله منهم، ليحقق لهم مصلحة، ويحل لهم أمرًا مستعصيًا، فكيف حالهم مع أمور العبودية المطلقة؟!


واستفاضة سورة البقرة في ذكر بني إسرائيل فيه الكثير من الدروس والعِبَر:
ففي قصصهم ومواقفهم إضاءة على خصالهم الخبيثة التي لا ينفع معها استمرار الرسالة والنبوَّة فيهم، وأولها خيانة عهد الله وأمانته، والتقوُّل على الله جلَّ وعلا، والتبديل والتحريف في دينهم، وإبراز وإخفاء ما شاءوا من الكتاب حسب أهوائهم ومصالحهم، ناهيك عن كفرهم.


كما أنها تحمل تذكيرًا ليهود المدينة بما كان عليه أجدادُهم من تكبُّر وتعنُّت واستكبار، وما أصابهم من عقوبات كارثية جزاء كفرهم وخيانتهم لله ورسالته، وبما ينتظرهم إذا ما أنكروا محمدًا ورسالته حسدًا واستكبارًا، وأصرُّوا على اتِّباع خطى أولئك الأجداد.


وهذا بدوره يقودنا إلى الدرس التالي: أن انتبهوا أيها المسلمون أن تسيروا على خطى القوم فيصيبكم ما أصابهم.


كما يلفتنا في سياق السورة أن الجزء الذي يتناول عددًا من التشريعات المنظمة للمجتمع المسلم لم يأتِ إلا بعد أن وعى المؤمنون وفهموا عاقبة عصيان الله ورسوله من خلال البسط المرتب والمستفيض لسيرة أولئك القوم، وما كانوا عليه من خلل في علاقتهم مع شريعة ربِّهم ورسولهم وأنبيائهم.


وسنفرد في هذه الدراسة إن شاء الله حيزًا بارزًا لما أوردته السورة بشأن بني إسرائيل.

فضل السورة:
لم يرد في السنة الشريفة فضل لسورة من سور القرآن كما ورد في فضل سورة البقرة، فقد ورد في سورة البقرة جملةٌ من الأحاديث النبوية الشريفة، نذكر منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة»؛ رواه مسلم.


وقوله صلى الله عليه وسلم: "عن النواس بن سمعان الكلابي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُؤْتَى بالقُرْآنِ يَومَ القِيامَةِ وأَهْلِهِ الَّذِينَ كانُوا يَعْمَلُونَ به تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرَةِ، وآلُ عِمْرانَ، وضَرَبَ لهما رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ثَلاثَةَ أمْثالٍ ما نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قالَ: كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ ظُلَّتانِ سَوْداوانِ بيْنَهُما شَرْقٌ، أوْ كَأنَّهُما حِزْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن صاحِبِهِما"؛ صحيح مسلم.


في هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "يُؤْتَى بالقرآنِ وأهلِهِ الَّذين كانوا يَعْمَلُونَ به"؛ أي: الَّذين يَقرءون القُرآنَ، ويُؤمنون بأخبارِهِ، ويُصدِّقون بها، ويعملون بأحكامِهِ، فهؤلاءِ يكون القرآنُ حُجَّةً لهم يومَ القيامةِ، وَخَرَجَ بذلك الَّذين لا يُؤمنون بأخبارِهِ، ولا يُقيمون حُدُودَهُ، فهؤلاء يكون القرآنُ حُجَّةً عليهم؛ لِأَنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: "القرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك"، "تَقْدُمُه"؛ أي: تَتَقَدَّمُ القرآنَ، أو أهلَهُ: "سورةُ البقرةِ، وآلِ عِمرانَ"، "كأنَّهما غَمَامَتَانِ، أو ظُلَّتَانِ"؛ أي: سحابتان، "سَوْدَاوَانِ"؛ لِكَثَافَتِهِما، وَارْتِكَامِ بعضِهما على بعضٍ، "بينهما شَرْقٌ"؛ أي: ضَوْءٌ، ونُورُ الشَّرْقِ هو الشَّمسُ، وفي ذلك تنبيهٌ على أنَّهما مع الكثافةِ لا يَستُرانِ الضَّوْءَ، وقِيلَ: أُرِيدَ بالشَّرْقِ الشَّقُّ، وهو الانْفِراجُ؛ أي: بينهما فُرْجَةٌ وَفَصْلٌ؛ كتميُّزِهما بالبَسْمَلَةِ في المُصْحَفِ؛ "وكأنَّهما حِزْقَانِ"؛ أي: قطيعان وجماعتان، "تُحَاجَّانِ"؛ أي: تُدافِعان الجحيمَ والزَّبَانِيَةَ، أو تُخاصِمان الرَّبَّ، أو تُجادِلان عنهم بالشَّفاعةِ، أو عِنْدَ السُّؤالِ إذا سَكَتَ اللِّسانُ، واضْطَرَبَتِ الشَّفَتَانِ، وضاعتِ الْبَرَاهِينُ".


اللهم اجعلنا من أهلهما.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا، وهم ذو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل منهم من أحدثهم سنًّا، فقال: «ما معك يا فلان؟»، قال: "معي كذا وكذا، وسورة البقرة"، قال: «أمعك سورة البقرة؟»، فقال: "نعم"، قال: «فاذهب، فأنت أميرهم»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن".


ولو نظرنا إلى أحوال الصحابة في تعاملهم مع هذه السورة، نجد شيئًا عجبًا، فهذا عمر،كما أخرج البيهقي في الشُّعب "بقي يتعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا"؛ شعب الإيمان.


فهذه المدة الطويلة لا شك أنه كان يتفهم ما فيها من المعاني والهدايات والعقائد والأحكام، وإلا فهو ذو قدرة على حفظها في أيام، ولكن هكذا كانوا يتعلمون القرآن، يتعلمون حروفه، ويتدبرون مقاصده وآياته.. يهتدون بهديه ويتعلمون من قصصه وعِبَره..


بقي رضي الله عنه اثنتي عشرة سنةيحفظ في سورة البقرة.. اللهم اهدنا هدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم والراشدين من بعده.


وفي كتاب الاستيعاب لابن عبدالبر: "وكان لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من شعراء الجاهلية، أدرك الإسلام فحسُن إسلامه، وترك قول الشعر في الإسلام، وسأله عمر في خلافته عن شعره واستنشده، فقرأ سورة البقرة، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لأقول بيتًا من الشعر بعد إذ عَلَّمني الله البقرة وآل عمران، فأعجب عمر قوله، وكان عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة. وقد قال كثير من أهل الأخبار: إن لبيدًا لم يقل شعرًا منذ أسلم. وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالًا"؛ تفسير القرطبي.


وذكر الإمام مالك -رحمه الله- في الموطأ أن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- مكث على سورة البقرة ثماني سنين، يتعلمها"؛ موطأ مالك.

كما جاء في فضل آية الكرسي جملة أحاديث، منها عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر"؛ رواه مسلم.


وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت»؛ رواه النسائي.


وجاء في فضل خواتيم سورة البقرة بعض الأحاديث، نذكر منها:
قول جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جالسًا عنده: "أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته"؛ رواه مسلم.


وقوله صلى الله عليه وسلم: «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه»؛ متفق عليه.


وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ختم سورة البقرة بآيتين، أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن، وعلموهن نساءكم، فإنها صلاة، وقرآن، ودعاء»؛ رواه الحاكم في المستدرك، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري".


والآثار في فضلها كثيرة.
والحمد لله رب العالمين.
يتبع.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-01-2024, 04:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات مع سورة البقرة (2)

ميسون عبدالرحمن النحلاوي



السمات المميزة لسورة البقرة:


السمة الرئيسة التي تتميز بها سورة البقرة، هي أنها تكاد تكون جامعة لكل مواضيع القرآن، سواء كان ذلك تفصيلًا أو تلخيصًا، أو إشارة أو تلميحًا، وبالرغم من كونها مدنية إلا أن طابع السور المكية يكاد لا يغيب عنها.



وسورة البقرة هي السورة المؤسسة للمجتمع الإسلامي بكافة وجوهه ونواحيه: عقائديًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا.



أما عقائديًّا، فهي تزخر بالمحاور والآيات التي تقرر عقيدة التوحيد؛ منها على سبيل المثال لا الحصر:
عرض دلائل وحدة الألوهية؛ كقوله تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 163- 164].


أركان الإيمان وأركان الإسلام: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ‌قِبَلَ ‌الْمَشْرِقِ ‌وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]، وذكر في هذه الآية أركان الإيمان الخمس، ومن أركان الإسلام: الصلاة، والزكاة، بعد التوحيد، وهي التي حدثنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي جاء يسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة: "... ثم وضعَ يدهُ على ركبتَي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمدُ، ما الإسلامُ؟ فقال: ((الإسلامُ أن تشْهَد أن لا إله إلا اللهُ، وأن محمدًا رسولُ اللهِ، وأن تُقِيمَ الصلاةَ، وتُؤتي الزكاةَ، وتَحُجَّ وتَعْتَمرَ، وتَغْتَسِلَ من الجنابة، وتُتِمَّ الوضوءَ، وتَصوم رمضانَ))، قال: فإن فعلت هذا فأنا مُسْلِمٌ؟ قال: نعم. قال: صدَقْتَ. قال: يا محمدُ، ما الإيمانُ؟ قال: ((الإيمانُ أن تؤمنَ باللهِ وملائكَتِه وكتبهِ ورسلهِ، وتؤمنَ بالجنةِ والنار والميزانِ، وتؤمنَ بالبعثِ بعد الموتِ، وتؤمنَ بالقدرِ خيرهِ وشَرِّهِ))، قال: فإذا فعلتَ هذا فأنا مُؤْمِن؟ قال: نعم.


ثم تأتي آيات الصيام: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ ‌الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، وآيات الحج والعمرة لتنهي أركان الإسلام: ﴿ وَأَتِمُّوا ‌الْحَجَّ ‌وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196]، يتخللها آيات فَرْض القتال: ﴿ وَقَاتِلُوا ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
وأما اجتماعيًّا، فنجد فيها جملة من الشرائع المتنوعة المؤسسة للمجتمع الإسلامي، شرائع تخص الأسرة المسلمة بالدرجة الأولى: في النكاح، في الطلاق، في العدة، في الرضاع، في المحيض، في اليتامى، في الوصية، في القصاص.


وأما اقتصاديًّا، فتسلط السورة الضوء على العنصر الباني للمجتمع الإسلامي "الإنفاق"،والعنصرالهادم له "الربا"، ثم أحكام البيوع: الدين والرهان.


الإنفاق: كما في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا ‌مِمَّا ‌رَزَقْنَاكُمْ ‌مِنْ ‌قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]، وقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ ‌يُنْفِقُونَ ‌أَمْوَالَهُمْ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]،ثم يفصل السياق في آداب الإنفاق، وفي مصارفه، وفي الإنفاق المقبول، والإنفاق المهلك.


والربا: ﴿ الَّذِينَ ‌يَأْكُلُونَ ‌الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 275-276].


أحكام البيوع: الدين والرهان: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ‌تَدَايَنْتُمْ ‌بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [البقرة، الآيتين 282- 283].


ولنا أن نضيف إلى هذه الأسس الثلاثة، أساسًا رابعًا مؤسسًا للجانب السياسي، مؤسسًا لمسألة التعامل مع الصنفين اللذين يشكلان الصف المعادي للأمة الإسلامية، ويتمثل في توضيح موقف أهل الكتاب والمشركين من الإسلام والمسلمين؛ ليكون المسلمون على بيِّنة وبصيرة بأعدائهم حتى لو لبسوا جلود الحملان.


كما في قوله تعالى: ﴿ ‌مَا ‌يَوَدُّ ‌الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105].


وقوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]، وقوله تعالى في مسألة القبلة: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ‌بِكُلِّ ‌آيَةٍ ‌مَا ‌تَبِعُوا ‌قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145].


وقوله تعالى في مسألة القتال: ﴿ يَسْأَلُونَكَ ‌عَنِ ‌الشَّهْرِ ‌الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217].


سمة رئيسية أخرى في السورة هي تقعيد مسألة دين التوحيد على أنه هو الدين الذي تأسست عليه البشرية قبل الاختلاف، وأن الأنبياء والرسل إنما أُرسلوا بعد الاختلاف الذي وقع بين الذين أوتوه ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ‌بَغْيًا ‌بَيْنَهُمْ ﴾ [البقرة: 213]، وهذا الاختلاف هو الوقوع في الشرك والمعصية، والميل عن هذا الدين، ورسالة الرسل على اختلاف زمانهم ومكانهم إنما كانت لرد الناس إلى الدين الحق "الإسلام"، دين البشرية الأول الذي نزل به آدم عليه السلام.


يقول تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ ‌أُمَّةً ‌وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213].


ثم يأتي تأكيد لهذه المعاني في سورة آل عمران: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ ‌وَأُولُو ‌الْعِلْمِ ‌قَائِمًا ‌بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 18-19].


يقول ابن كثير: "وهذا إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم". ذكر ابن جرير "أن ابن عباس قرأ:﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ ‌وَأُولُو ‌الْعِلْمِ ‌قَائِمًا ‌بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾؛ أي: شهد هو وملائكته وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام".


فهل كانت الرسالة التي بعث فيها أنبياء الله كافة على اختلاف أمكنتهم وأزمنتهم هي الإسلام حقًّا؟ يجيبنا الذكر الحكيم:
نوح عليه السلام: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ‌نَبَأَ ‌نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 71-72].


إبراهيم عليه السلام: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ ‌يَهُودِيًّا ‌وَلَا ‌نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا ﴾ [آل عمران: 67].


دين يعقوب عليه السلام والأسباط: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ ‌عَنْ ‌مِلَّةِ ‌إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 130-133].


لوط عليه السلام: ﴿ قَالَ ‌فَمَا ‌خَطْبُكُمْ ‌أَيُّهَا ‌الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الذاريات: 31-36].


موسى عليه السلام: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ ‌إِنْ ‌كُنْتُمْ ‌آمَنْتُمْ ‌بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84].


دين بني إسرائيل: ﴿ ‌وَجَاوَزْنَا ‌بِبَنِي ‌إِسْرَائِيلَ ‌الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90].


يوسف عليه السلام: ﴿ رَبِّ ‌قَدْ ‌آتَيْتَنِي ‌مِنَ ‌الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].


دعوة سليمان عليه السلام: ﴿ قَالَتْ ‌يَاأَيُّهَا ‌الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 29-31].


دين سليمان عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ ‌أَهَكَذَا ‌عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 42].


استجابة بلقيس: ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ‌وَأَسْلَمْتُ ‌مَعَ ‌سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].


عيسى عليه السلام: وكان عيسى عليه السلام مسلمًا، كما كان أخوه موسى عليه السلام، فقد كانت رسالة عيسى تصديقًا لرسالة موسى عليهما السلام: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ‌مُصَدِّقًا ‌لِمَا ‌بَيْنَ ‌يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ‌وَمُصَدِّقًا ‌لِمَا ‌بَيْنَ ‌يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 46].


محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ إِنِّي ‌نُهِيتُ ‌أَنْ ‌أَعْبُدَ ‌الَّذِينَ ‌تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 66].


ونختم بوصية الله لنا نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بخطاب وجَّهَه جل في علاه لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة البقرة: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ‌لَا ‌نُفَرِّقُ ‌بَيْنَ ‌أَحَدٍ ‌مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 84].


وهذه الوصية تلخص كل ما سبق.


سمة رابعة؛ إبراز فكرة اختلاف أَتْباع الرسالات بعد العلم وسببه:
﴿ كَانَ النَّاسُ ‌أُمَّةً ‌وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213].


يقول الطبري في تفسيره‏: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ‌بَغْيًا ‌بَيْنَهُمْ ﴾ [البقرة: 213]؛ أي:‏ بغيًا على الدنيا، وطلب ملكها وزخرفها وزينتها أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضهم على بعض، وضرب بعضهم رقاب بعض،‏ ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ‌مِنَ ‌الْحَقِّ ‌بِإِذْنِهِ، يقول‏:‏ فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له‏.‏ و"البغي" مصدر "من قول القائل: بغى فلانٌ على فلان بغيًا، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حده، فمعنى قوله جل ثناؤه: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ‌بَغْيًا ‌بَيْنَهُمْ ﴾ [البقرة: 213]، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنـزلته مع نبيي عن جهل منهم به، بل كان اختلافهم فيه، وخلاف حكمه، من بعد ما ثبتت حجته عليهم، ﴿ ‌بَغْيًا ‌بَيْنَهُمْطلب الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالًا بعضهم لبعض"؛ انتهى الطبري.


وتتالى في سور متعددة في القرآن الكريم هذه القاعدة، وكلها في معرض تحذير أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقعوا فيما وقع فيه الذين من قبلهم، كقوله تعالى:
في آل عمران 19: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ‌بَغْيًا ‌بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾.


وفي الشورى 14: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ‌بَغْيًا ‌بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، فما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشاقة، يقول ابن كثير: "بغيًا من بعضكم على بعض، وحسدًا وعداوةً على طلب الدنيا".


والحمد لله رب العالمين.


يُتبع...

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-01-2024, 11:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات مع سورة البقرة (3)

ميسون عبدالرحمن النحلاوي

بسم الله الرحمن الرحيم

الجو العام لسورة البقرة ومواضيعها:
عندما كانت سورة البقرة أول سُوَر القرآن الكريم بعد الفاتحة، كانت فاتحتها وصفًا دقيقًا عامًّا شاملًا لهذا الكتاب - القرآن - المحكم الذي لا يتطرق إليه ريب أو شك: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 1، 2]، وكانت أجواؤها تحقيقًا صريحًا لهذا الوصف.. فلا تكاد تمُرُّ على محور من محاورها إلا وتعيش صدق هذا الكتاب وإحكام آياته وبيانه المعجز، تعيش أجواء الهداية، ومتطلبات التقوى وأوصاف المتقين.


والسورة تبدأ بالهداية: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾، وتختم بالهداية: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 285، 286]، وقلبها كله هداية: أحكام إلهية، أوامر ونواهٍ، توجيه وتربية، أخلاق وسلوكيات، تشريعات وقوانين، بأساليب متنوِّعة، منها المباشر ومنها غير المباشر، ثم تأتي على صفات هؤلاء المتقين.


أما مواضيع السورة فتندرج ضمن تقسيمات السورة الثلاثة: المقدمة، والقلب، والخاتمة.


تقوم مقدمة السورة على ثلاثة أسس:
1- الرسالة المحمدية، والاتجاهات الثلاثة التي تنقسم إليها البشرية في موقفها من الرسالة الأخيرة.


2- دعوة البشرية إلى دين التوحيد، وآيات الله في الخلق والكون.


3- قصة الخلق، آدم عليه السلام: بدء الخلق وبداية الرحلة الدنيوية للبشرية على الأرض في معركة أزلية بين الإنسان والشيطان، الخير والشر، الكفر والإيمان، الهداية والضلال، المعصية والتوبة.

وينطوي قلب السورة:
على الكثير من دلائل التوحيد في شقَّيه: توحيد الألوهية، والربوبية، وكذلك مشاهد من البعث وتخاصم الأتباع والمتبوعين؛ كقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22]، وقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: 165، 166].


وتؤسس السورة في طياتها لمفهوم وحدة الدين البشري، وأنه الإسلام.


وتشغل قصص بني إسرائيل وأخبارهم حيزًا كبيرًا من قلب السورة يكاد يغطي الجزء الأول برمته، كما لا يغيب ذكرهم عن الجزء الثاني.


ومما يلفتنا في أجواء السورة أن أخبار بني إسرائيل وعرض سلوكياتهم المنحرفة في تعاملهم مع ربهم ونبيهم تأتي سابقة للأحكام والشرائع والقوانين الإلهية المؤسِّسة للمجتمع الإسلامي، ويعود السبب في ذلك- والله أعلم- إلى ما تنطوي عليه قصص وأخبار هؤلاء القوم من دروس إيمانية وتربوية عميقة في كيفية التعامل مع الأمر الإلهي من تشريع وأحكام وقوانين، فهُمْ نموذج فريد لقوم من أقوام البشرية ناصبوا الله عز وجل "الندِّية"، فكانت أبرز سماتهم أنهم يعتبرون أن لله رأيًا؛ وهو ما يأمر به جل في علاه، ولهم رأي؛ وهو ما تمليه عليهم أهواؤهم، ورأيهم في الغالب أفضل من أمر الله، سبحانه وتعالى عما يظنون، فكأن الله عز وجل يقول لنا من خلالهم: إن كان منكم ما كان منهم فانتظروا عاقبة كعاقبتهم!


ونطالع فيه مسألة السحر وحقيقته.


وفيه آية الكرسي صفات الواحد الأحد.


وفيه التشريعات المؤسسة للمجتمع الإسلامي بكافة عناصره.


وسنأتي على تفصيل قلب السورة إن شاء الله.


أما خاتمتها، فقد اشتملت على تقرير شامل لأسس العقيدة: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 284 - 286].


الله جلَّ جلاله:
تفرَّد الله الأحد في ملك السماوات والأرض، وكل ما يندرج تحت هذا الملك المطلق من معانٍ.


إحاطة الله الواحد بالنفس الإنسانية من كل جوانبها حتى ما تخفي الصدور.


الحساب بيده وحده: إما مغفرة، وإما عذاب.


القدرة المطلقة على كل شيء، كل شيء!


ثم حقيقة الإيمان: إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ: عبارة جامعة شاملة مؤدية لكل معاني النبوة ومقوماتها.
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ ﴾: الإيمان فرض عين "كلٌّ" وليس فرض كفاية.
﴿ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾: أركان الإيمان.
﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾: من شروط الايمان عدم التفرقة بين الرُّسُل.
السمع والطاعة ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾.
طلب المغفرة على الدوام﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾.
الإيمان بيوم البعث، واليوم الآخر، وأن مصير البشرية إلى الله وحده ﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.


حقيقة التكليف:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾: أمر تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]،فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمةً وإحسانًا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهما"؛ تفسير السعدي.


وكل نفس محاسبة على كسبها واكتسابها، ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الإسراء: 15].


الكسب والاكتساب: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286]، يقول الدكتور فاضل السامرائي: "الاكتساب فيها تعمّل واجتهاد. الكسب يكون في الخير والشر؛ لأن الكسب أسرع والاكتساب فيه تعمّل واجتهاد وكسب حتى يكتسب، والسيئات تحتاج إلى مشقة، أما الخير فقد يأتيك وأنت لا تعلم، يغتابك أحد وتكسب أنت خيرًا وهو يكتسب شرًّا".

دعاء المؤمنين.
﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286] اللهم تجاوز عنا خطأنا ونسياننا.

﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ [البقرة: 286]؛ أي: لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، ربنا لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا.


﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286]: ربنالا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.


﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ [البقرة: 286]؛ أي: عن ذنوبنا. عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه، نسألك ربنا العفو.

والمغفرة ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ [البقرة: 286]؛ أي: استر على ذنوبنا. والغفر: الستر.


والرحمة ﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ [البقرة: 286]؛ أي: تفضل برحمة مبتدئًا منك علينا، وقيل: ارحمنا فيما يستقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره.


والولاية ﴿ أَنْتَ وَلِيُّنَا ﴾ [الأعراف: 155] وناصرنا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك.


والنصرة. ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286] فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة.


﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 284 - 286].


قال صلى الله عليه وسلم: "أُعطِيتُ هذه الآياتُ من آخرِ سورةِ البقرةِ من كنزٍ تحت العرشِ، لم يُعطَها نبيٌّ قَبلي" عن أبي ذَرٍّ، وحذيفة بن اليمان؛ وصححه الألباني في صحيح الجامع.


والحمد لله رب العالمين.


يُتبع.....

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 23-01-2024, 10:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات ودروس من سورة البقرة (4)

ميسون عبدالرحمن النحلاوي



تأملات في مقدمة السورة:
تغطي مقدمة السورة تسعًا وثلاثين آية، تشكل القاعدة التي سترتكز عليها أعمدة الهداية في السورة، التي تستند كما أسلفنا، إلى ثلاثة أسس:
1- الرسالة المحمدية، والاتجاهات الثلاث التي تنقسم إليها البشرية في موقفها من الرسالة الأخيرة.


2- دعوة البشرية إلى دين التوحيد.


3- قصة آدم عليه السلام: بدء الخلق، وبداية الرحلة الدنيوية للبشرية على الأرض في معركة أزلية بين الإنسان والشيطان، الخير والشر، الكفر والإيمان، الهداية والضلال، المعصية والتوبة.

الأساس الأول الرسالة المحمدية، والاتجاهات الثلاث التي تنقسم إليها البشرية في موقفها من الرسالة الأخيرة.

الرسالة المحمدية: تبدأ السورة بتوصيف القرآن الكريم، حامل رسالة التوحيد: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 1، 2]، تصفه أولًا بأنه الحق المطلق الثابت الذي لا يتطرق إليه أي شك أو ريب: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2]، ثم تقرر الهدف الذي نزل من أجله: "هدًى"، ثم تقرر الفئة المستفيدة من هذا الهدى: "المتقين"، ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2].


فأما الهداية، فهي جوُّ السورة العام الذي تسير فيه، والمهيمن على كل محاورها.


وأما التقوى واشتقاقاتها، فسنجد أنها ملازمة لكل أمر أو نهي، أو تشريع أو حكم، تأتي عليه آيات السورة تقريبًا.


وأما الكتاب الذي لا ريب فيه، فنقرأ في الآيتين الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين ترسيخًا لأربع قواعد في شأنه:
الأولى هي أنه تنزيل من عند الله ﴿ نَزَّلْنَا ﴾ [البقرة: 23].


الثانية هي أنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بصفته عبدًا لله: ﴿ عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23].


الثالثة هي إعجاز هذا الكتاب المتضمن للرسالة؛ من حيث إنه لا يمكن لبشرٍ أن يأتي بسورة من مثله.


والرابعة هي جزاء من يكفر بهذه الرسالة ومن يؤمن بها؛ يقول تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 23 - 25].

وأما الاتجاهات الثلاث التي تنقسم إليها البشرية تجاه الرسالة الأخيرة؛ فهي: الإيمان، الكفر، النفاق.

فأما المؤمنون فتصفهم السورة في ثلاث آيات: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 3 - 5].

وأما الكافرون في آيتين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 6، 7]، فهم قوم ميؤوس منهم، كفرهم واضح لا لَبْسَ فيه، قد خُتم على جميع أحاسيسهم التي يفترض أن تقودهم إلى الهداية.

وأما المنافقون، فتفرِد لهم مقدمة السورة ثلاث عشرة آية؛ لعِظَمِ خطرهم على الأمة الإسلامية من جهة، ولمنهجية التلبس التي يتبعونها من جهة أخرى، فهم يُظهِرون الإيمان ويُبطنون الكفر، يُظهرون المودة للمسلمين، ويبطنون العداوة، دينهم وديدنهم المكر والخداع والغدر، وهذا مكمن عِظَمِ خطرهم على الأمة:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 8 - 16].

نفصِّل في الصفات:
1- يُظهرون عكس ما يُبطنون: أقوالهم تُظهر الإيمان بالله واليوم الآخر، وحقيقتهم عكس ذلك: ﴿ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8].


2- الخداع وسيلتهم في التواصل مع الله، خالقهم، ومع المؤمنين: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 9]، ولكن خداعهم منقلِبٌ عليهم؛ لأنهم يخادعون من لا يُخدَع، "فالخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع، فإنما يخدع نفسه"؛ قاله القرطبي.


3- والمنافق إنسان مريض القلب: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10]، مريض بالشك والريبة - على قول ابن عباس وعكرمة ومجاهد - فمن يستسلم لنفاقه ولا يتوب منه، يزِدِ الله مرضَ قلبه هذا، حتى يصبح آفة لا شفاء منها، أعاذنا الله وإياكم من النفاق والمنافقين، اللهم آمين.

﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 10]، قد يكون في الدنيا قبل الآخرة، والسبب ﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، الكذب صِبغة النفاق الأولى.

يظنون في أنفسهم الإصلاح، ولا يعترفون بفسادهم وإفسادهم: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11]، فإن عصَوا ونُصحوا بالتوبة والرجوع، عاندوا وأسبغوا على أعمالهم صفة الصلاح؛ يقول الطبري في تفسيره: "فكذلك صفة أهل النفاق: مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملًا إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم على المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا، فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، فلم يُسقِط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته، ولا خفَّف عنهم أليم ما أعد من عقابه لأهل معصيته - بحسبانهم أنهم فيما أتَوا من معاصي الله مصلحون - بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره، والأليم من عذابه، والعار العاجل بسبِّ الله إياهم وشتمه لهم؛ فقال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 12]"؛ [انتهى].


رادارهم معطَّل وشعورهم بالفساد معدوم، لا يعرفون الحق من الباطل والصلاح من الفساد: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 12].

الصفة السادسة، صفة موردة للهلاك ينتهجها كثير منا دون أن يعلم، التكبر والترفع عن التساوي بالمنزلة مع الموحدين، واعتبارهم سفهاء: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ﴾ [البقرة: 13]؛ يقول ابن كثير: "إذا قيل للمنافقين ﴿ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ﴾ [البقرة: 13]؛ أي: كإيمان الناس بالله وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وغير ذلك، مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر، وترك الزواجر - يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء، وغرورهم هذا يُعمي بصيرتهم، فلا يرَون ما هم به من سفاهة ويخفى عنهم علمها: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13]"؛ [انتهى].

الصفة السابعة تتعلق بالعلاقات الخارجية؛ أي خارج نطاق المجتمع الإسلامي، في العلاقة بين المجتمع الإسلامي وأعدائه من شياطين الإنس، كانت الصفات الست السابقة داخل المجتمع الإسلامي، أما هذه فتتعداها إلى العلاقات الخارجية: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]، المنافقون في تواصل دائم مع أعداء الإسلام من شياطين الإنس، الموصوفين في الآية الكريمة: بـ﴿ شَيَاطِينِهِمْ ﴾ [البقرة: 14]، يُظهرون إيمانهم اللفظي للمؤمنين: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ﴾ [البقرة: 14]، ويبقى ولاؤهم القلبي والفعلي للكفار والمشركين: ﴿ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ [البقرة: 14]؛ قال ابن كثير: "وشياطينهم هم: سادتهم وكبراؤهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين".


صنعتهم الاستهزاء وليس الخداع فحسب: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]؛ قال ابن عباس: أي: إنا على مثل ما أنتم عليه هكذا يقولون للكفار﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]؛ أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم، ويا لهم من جهلاء سفهاء، ويرد عليهم خالق الخلق من يعلم السر وأخفى جل في علاه؛ فيقول: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15]؛ يقول ابن كثير: "فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا؛ يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، يعني من العذاب والنكال؛ قال ابن جرير: لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتفٍ عن الله عز وجل، بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك؛


قال ابن عباس: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ [البقرة: 15] قال: يسخر بهم للنقمة منهم، وقوله تعالى: ﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15]؛ قال السدي عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، "يمدهم: يملي لهم".

قوم اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، عرفوا الحق ولكنهم استحبوا الباطل، فعدلوا عن الحق إلى الباطل، تحركهم الأهواء: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16]، فكانت تجارة خاسرة.

ثم يمضي السياق في توضيح حال هؤلاء المنافقين بمثالي الظلام والنور، والرعد والبرق والصواعق، مثالين معجزين في كل زاوية من زواياهما.

﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 17 - 20].

يقول الدكتور فاضل السامرائي في تفسير الآيات:
المثال الأول: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 17، 18].

ربنا شبَّه المنافقين كالذي استوقد نارًا، فلما أضاءت ذهب الله بنورهم، ولم يقل: بضوئهم؛ لأنه لو قال ذهب الله بضوئهم، لاحتمل أن يبقى نورٌ؛ لأن الضياء فرط الإنارة، كان يبقى نور، فأراد أن يجتث المعنى كله، فلما قال: ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ [البقرة: 17] إذًا لا يبقى نور ولا ضياء، وإنما ظلمة، ثم قال: ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾ [البقرة: 17]، ما قال: ما حولها، ﴿ مَا حَوْلَهُ ﴾ [البقرة: 17]؛ يعني: حول المستوقد، ثم قال: ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ﴾ [البقرة: 17] جمع الظلمة؛ لتعدد أسبابها وهي في القرآن؛ حيث وردت مجموعة، ثم قال: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ [البقرة: 18]، والأبكم الذي يُولَد أخرسَ، ولم يقل: صم وبكم وعمي؛ لأن (صم وبكم وعمي) محتمل أن يكون هناك جماعة بكم، وهنالك جماعة صم، وهنالك جماعة عمي، لو قلت: هؤلاء فقهاء وكُتَّاب؛ يعني محتمل أن يكون فيهم فقهاء، ويحتمل أن يكون فيهم كتَّاب، لكن لو قلت: هؤلاء فقهاء كتَّاب شعراء؛ يعني هم جمعوا الصفات كلها، هذا فقيه كاتب شاعر يجمع الصفات، لكن لو قلت: هؤلاء فقهاء وكتَّاب وشعراء، فيها احتمالان؛ احتمال أن يكونوا جمعوا، واحتمال أن يكون قسمٌ فقهاء، وقسم كُتَّابًا وقسم شعراء، ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ [البقرة: 18]، هذا تعبير قطعي جمعوا كل هذه الأوصاف؛ يعني كل واحد فيهم أبكم وأصم وأعمى، ﴿ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]، تركهم متحيرين لا يرجعون إلى المكان الذي بدؤوا منه، والأعمى لا يبصر، والأبكم لا يسأل، والأصم لا يسمع، كيف يرجع؟ فقدوا أشكال التواصل، الأعمى لا يبصر، والأصم لا يسمع، والأبكم لا يسأل ولا ينطق، كيف يرجعون؟ يقولون لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه؛ لأنه قال: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾ [البقرة: 16]، لا يرجعون عن الضلالة بعد أن اشترَوها.

والمثال الآخر قوله تعالى: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 19، 20].

هذا هو المثال الآخر، الصيب هو المطر، المطر الشديد الانصباب (من صاب يصوب)، مطر شديد الانصباب، وليس مجرد مطر، إذًا هذا هو الصيب، هو ذكر قال: ﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ [البقرة: 19]، الظاهر أنها ظلمات كثيرة؛ لأنه جَمَعَ، ظلمات جمع ظلمة، السَّحْمَة (سَحمة يُقال: في ظلام أسحم شديد الظلمة)، وتطبيقه للسماء وظلمة الليل، هو نفسه مظلم كونه طبَّق السماء، فليس فيها مكان للضياء، الظلمة الثانية، والظلمة الثالثة ظلمة الليل، ظلمة الليل لأنه قال: ﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ﴾ [البقرة: 20]، لو كان نهارًا لكانوا مشَوا، وفيه رعد وبرق، إذًا هذه هي الظلمات، وفي القرآن لم ترد كلمة الظلمات مفردة أبدًا، بخلاف النور ورد مفردًا، إذًا الصيب مطر شديد الانصباب ينحدر، فيه هذه الظلمات؛ فقال: ﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ [البقرة: 19] ليس فقط ظلمات.

قال: ﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ [البقرة: 19]، الأصابع والمقصود هو الأنامل؛ لأن الإصبع لا يمكن أن يدخل في الأذن، وهذا مجاز مرسل؛ حيث أطلق الكل وأراد الجزء؛ وهذا لشدة الخوف، كأنما يجعلون أصابعهم لو استطاعوا أن يدخلوها كلها في آذانهم، لفعلوا من شدة الخوف وما هم فيه، والصواعق هي رعد شديد مع نار محرقة، وقد يصحبها جِرم حديد، ليس مجرد رعد، وليست صاعقة، وإنما صواعق ﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ [البقرة: 19]، إذًا هو رعد شديد مع نار محرقة، قد يكون معها حجر أو جرم، ولاحظ من فرط الدهشة أنهم يسدون الآذان من الصواعق، وسد الآذان ينفع من الصواعق، ينفع من الرعد، لكن لا ينفع مع الصاعقة، لكن لفرط دهشتهم لا يعلمون ماذا يفعلون، إذًا هم يتخبطون، وصواعق جمع صاعقة، لاحظ المبالغات الموجودة في الآية؛ صواعق وظلمات وصيب وليس مجرد مطر: ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ﴾ [البقرة: 20]، و(كلما) تفيد التكرار، إذًا لم تكن مرة واحدة، وجيء بها؛ لأنهم حريصون على المشي لكي يصلوا: ﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ﴾ [البقرة: 20]، كلما أضاء لهم البرق، مشوا فيه، ﴿ وَإِذَا أَظْلَمَ ﴾ [البقرة: 20]، ولم يقل: إن أظلم؛ للتحقق، ولو قال: إن أظلم يكون أقل، (إذا) للمتحقق الوقوع وللكثير الوقوع، أما (إن) فهي قد تكون للافتراضات، وقد لا يقع أصلًا، ثم قال: ﴿ مَشَوا ﴾ ولم يقل: سعوا؛ لأن السعي هو المشي السريع، أما المشي ففيه بطء؛ إشارة إلى ضعف قواهم، لا يستطيعون مع الخوف والدهشة، لا يعلمون كيف يفعلون، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ [البقرة: 20]، لذهب بسمعهم مع قصف الرعد يعني جعلهم صُمًّا، وأبصارهم مع البرق، لماذا لم يفعل إذًا؟ كان يمكن أن يذهب بسمعهم مع قصف الرعد، وأن يذهب بأبصارهم مع ومض البرق، لا، هو أراد أن يستمر الخوف؛ لأنه لو ذهب السمع لم يسمعوا، ولو ذهب البصر لم يبصروا، فأصبحوا بمعزل، هو أراد أن يبقوا هكذا حتى يستمر الخوف، وقدَّم السمع لأن الخوف معه أشد"؛ [انتهى، لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرائي].

فائدة: أول مثال ورد في أول سورة من القرآن الكريم كان في حق المنافقين.

الأساس الثاني: دعوة البشرية إلى دين التوحيد، بشقَّيه: الإيمان بالله، وبالرسالة، مشفوعة بدلائل التوحيد، وجزاء من يكفر بها ومن يؤمن بها.


فأما الدعوة إلى الإيمان بالله، فتبدأ بأمر الناس بعبادته: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ [البقرة: 21]، وتنتهي بنهيهم عن الشرك به: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].

والآيات تعرض دلائل التوحيد الأساسية، التي تتفرع عنها كل الآيات الأخرى الواردة في سور القرآن الكريم؛ وهي:
آية الخلق: تدل على أنه الخالق المتفرد، فخلقكم أيها الناس آية من آيات التوحيد: ﴿ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].


وآية التسخير: وتسخير السماوات والأرض آية أخرى: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ [البقرة: 22].


آية الماء: وإنزال سبب الحياة الأول على هذه الأرض؛ الماء، آية ثالثة: ﴿ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ [البقرة: 22]، فجعل خزائنه في السماء ينزلها بالقدر الذي يريد في الوقت الذي يريد؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22].


وآية الرزق: فكان منه الرزق الذي تعتاشون عليه: ﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة: 22].


آية الحياة والموت والبعث: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 28].


كيفية الخلق: الأرض أولًا ثم السماء: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 29].


تسوية السماوات سبعًا: ﴿ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [البقرة: 29].


علمه جل جلاله المطلق المحيط بكل شيء: ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29]، بكل شيء.

فائدة: يلفتنا استخدام كلمة "لكم" في الآيتين اللتين تتحدثان عن خلق السماوات والأرض، وفي هذا تكريم لكم يا بني آدم وعلو شأن عند ربكم: ﴿ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا ﴾ [البقرة: 22]، والماء والرزق، ﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾ [البقرة: 22]، فكل ما خلق الله في الأرض خلقه من أجل الإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29]، فيا أيها الناس، أبَعْدَ كل هذا التكريم الذي خصكم الله به تكفرون بخالقكم وتجعلون له أندادا؟

وأما البرهان على أن هذه الرسالة تنزيل إلهي، وليست قولَ بشر، فتأتي بأسلوب التحدي: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23].


أن يأتوا بسورة واحدة من مثله.


أن يأتوا بمن شاؤوا من الشهداء على صدق ما جاؤوا به، ولن يفعلوا.

وأما جزاء من يكفر بها:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24].

وأما جزاء من يؤمن بها:
﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25].

ثم يعود السياق مرة أخرى إلى المنافقين، في متابعة لموقفهم من ضرب الله الأمثال في القرآن الكريم، وتحديدًا المثل الذي وصفهم به في صدر السورة:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 26، 27].


ومناسبة هذه الآية كما ورد في ابن كثير عن ابن عباس وعن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين؛ يعني قوله: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17]، وقوله: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 19]، الآيات الثلاث في صفة المنافقين، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: ﴿ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 27].

قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: ﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ [البقرة: 27] إلى قوله: ﴿ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 27] قال: "هي ست خصال من المنافقين، إذا كانت فيهم الظهرة على الناس، أظهروا هذه الخصال:
إذا حدثوا كذبوا.


وإذا وعدوا أخلفوا.


وإذا اؤتمنوا خانوا.


ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه.


وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل.


وأفسدوا في الأرض.


وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا"؛ [تفسير ابن كثير].


والحمد لله رب العالمين.
يتبع...

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 17-02-2024, 03:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات ودروس من سورة البقرة (5)

تأملات في مقدمة السورة (2)

ميسون عبدالرحمن النحلاوي
الأساس الثالث:
قصة آدم عليه السلام: بدء الخلق وبداية الرحلة الدنيوية للبشرية على الأرض في معركة أزلية بين الإنسان والشيطان، والخير والشر، والكفر والإيمان، والهداية والضلال، والمعصية والتوبة.


ثم يشرع السياق بسرد قصة بدء الخليقة، في أول قصة من قصص القرآن، وفيها:
خلق الإنسان وتعليمه "الأسماء كلها" قبل نزوله إلى الأرض، فالإنسان الأول ليس أبْكَمَ وليس جاهلًا، ولم يتعلم الأصوات من الحيوانات والطبيعة من حوله، كما يدَّعي دعاة التطوُّر؛بل كان ناطقًا عالمًا بكل ما يلزمه لإقامة الحياة على الأرض.


طاعة الملائكة وعصيان إبليس:
بداية الحياة على الأرض تحكمها العداوة بين آدم وذريته، وإبليس وجيشه في الطرف الآخر، مؤطرة بقانون الله وقانون إبليس ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة: 36].


الأرض مستقر مؤقت "إلى حين".


قانون الهداية الإلهية:
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة: 38] إشارة إلى الرسالات.


﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] جزاء من يتبع هدى الله.


﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 39] عقاب من يكفر بما أنزل الله من الهدى والآيات.


﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 30 - 39].


وتبدأ قصة سيدنا آدم في سورة البقرة من أقدم حدث فيها، وهو إبلاغ الله عز وجل ملائكته أنه سيجعل في الأرض خليفة، والأرض المشار إليها هنا هي تلك التي ذكرها في الآية السابقة، الممهدة لقصة آدم عليه السلام: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:29- 30]، وهذا يشير إلى أن آدم عليه السلام خُلِق أصلًا ليسكن الأرض لا ليبقى في الجنة، وما كان وجوده في الجنة وخروجه منها إلا لحكمة وأمر أراده الله، والله أعلم.


وفاصلت الملائكة رب العباد بأمر هذا الخليفة، مفترضين أنه سيكون مفسدًا في الأرض سافكًا للدماء، مبدين رأيهم في أنه لا حاجة لله به ما داموا موجودين يسبحون بحمد الله ويقدسون له، لكن هذه المفاصلة بالطبع لم تكن على سبيل الجحود أو الإنكار، وإنما على سبيل الاستعلام عن الحكمة في ذلك واستكشافها.


يقول الشوكاني في تفسيره فتح القدير: "خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة، ولكن لاستخراج ما عندهم، وقيل: خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب، وقيل: لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم، وأما قولهم:﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا فظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض؛ لكونهم مَظِنَّة للإفساد في الأرض وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة ببني آدم؛ بل قبل وجود آدم فضلًا عن ذريته، لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه؛ لأنهم لا يعلمون الغيب؛ قال بهذا جماعة من المُفسِّرين.


وعن ابن عباس قال:"وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنودًا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله:﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كما فعل أولئك الجان، فقال الله: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30]، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو مثله.


وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال:إياكم والرأي؛ فإن الله رَدَّ الرأي على الملائكة، وذلك أن الله قال: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةًقالت الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾، قال:﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾؛ انتهى الشوكاني.


ويقول ابن كثير في تفسيره: "وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهَّمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول؛ أي: لا يسألونه شيئًا لم يأذن لهم فيه، وسؤالهم هنا، لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا، إنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونُقدِّس لك؛ أي: نصلي لك كما سيأتي؛ أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبًا لهم عن هذا السؤال: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصدِّيقون والشهداء، والصالحون والعباد، والزُّهَّاد والأولياء، والأبرار والمقربون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم"؛ انتهى ابن كثير.


وقال القرطبي في تفسيره في شأن هذه المفاصلة: "وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء؛ وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورءوس الجبال، فمن حينئذٍ دخلته العزة، فجاء قولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا ﴾ على جهة الاستفهام المحض: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟ قال أحمد بن يحيى ثعلب. وقال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعًا: الاستخلاف والعصيان. وقال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقًا أفسدوا وسفكوا الدماء، فسألوا حين قال تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ أهو الذي أعلمهم أم غيره. وهذا قول حسن، رواه عبدالرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ [البقرة: 30]، قال: كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء؛ فلذلك قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها"؛ انتهى القرطبي.


معالم تتميز بها قصة آدم في سورة البقرة:
ونقرأ في قصة آدم في سورة البقرة، وهي أول قصة من القصص القرآني حسب ترتيب سور المصحف:
عن الكفر الأول في تاريخ الخلائق- الذي أعلمنا الله عز وجل به- وأنه كان كفر إبليس.

﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].

وعن الأمر الإلهي الأول لآدم عليه السلام، وأنه كان في المسكن والمطعم: ﴿ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ [البقرة: 35].


وعن النهي الإلهي الأول، وأنه كان في المأكل: ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35].

وعن المعصية الأولى في تاريخ البشرية، وأنها كانت في أكل ما حرم الله: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 36]، وتفصيل ذلك في سورة الأعراف، وطه: ﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا ﴾ [طه: 121].


وعن عقاب المعصية الأولى في تاريخ البشرية: وكانا عقابين، تذكر البقرة الثاني منهما وهو الأكبر، وسبب بدء حياة الخليقة على وجه الأرض: الهبوط من الجنة إلىالأرض: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36]، في حين تذكر سورتا الأعراف وطه الأول منهما؛ وهو نزع اللباس في قوله تعالى:﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف: 20]، وقوله تعالى: ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 120، 121].

فائدة: وهكذا كان "نزع اللباس" أول نتائج المعصية الأولى "أكل المحرَّم"﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وبدا أن بين أكل الحرام والتعري صلة وثيقة؛ التعري من اللباس يسبقه التعري من التقوى، يقول تعالى في سورة الأعراف: ﴿ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 26، 27]، وعن التوبة الأولى في تاريخ البشرية: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 37].


يقول ابن كثير: "واختلف أهل التأويل في الكلمات؛ فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وعن مجاهد أيضًا: "سبحانك اللهم لا إله إلا أنت، ربي ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك أنت الغفور الرحيم".


وعن بدء قصة الحياة على الأرض، معلنة بدء المعركة الأزلية بين طرفين "أعداء" ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [البقرة: 36] بجميع عناصرها: الإنسان والشيطان، والكفر والإيمان، والخير والشر، والذنب والتوبة، والمعصية والاستكبار.

وتختم القصة بقانون الهداية الإلهية: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 38، 39].


كما تتفرد قصة آدم في السورة بذكرها:
لمراجعة الملائكة لربهم في مسألة استخلاف آدم عليه السلام، وعدم رغبتهم بها مبدين أسبابهم، ولم يرد هذا في سورة أخرى.


وذكرها لاستخلاف آدم في الأرض وهو ما لم يذكر في موضع آخر من القرآن الكريم.

ولتعليم الله عز وجل لآدم عليه السلام ما يلزمه لتحقيق الخلافة في الأرض، فكان عِلمٌ عَلِمَه آدم ولم تعلمه الملائكة.

فيها تقرير بأن الملائكة لا تملك من العلم إلا ما علمها الله، مع إثبات علم الغيب والشهادة المطلق لله وحده، وعلمه بسرائر كل الخلائق فضلًا عن علانيتهم، وأنه لا أحد يحيط بعلمه إلا بما شاء.

ذكر فيها صفتَي الإباء والاستكبار متلازمتين في رفض إبليس للسجود، وهذا الموضع الوحيد في القرآن الذي ترد فيه هاتان الصفتان متلازمتين: ﴿ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]، وفيه تقرير يفيد بأن "العصيان والاستكبار" هما الصفتان المورثتان للكفر.

وفيها إثبات نبوة آدم عليه السلام وأنه كان يُوحى إليه: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾.

فائدة: في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَاالبرهان الساطع على أن أول إنسان وجد على الأرض كان عالمًا بكل ما يلزمه لتحقيق الاستخلاف في الأرض، عابدًا عالمًا ناطقًا مفكرًا مبدعًا، مثله مثل أي إنسان يعيش في يومنا هذا؛ بل ويتفضَّل عليه بأنه كان حديث الصلة بخالقه لم يتطاول عليه الزمن كما تطاول على القرون من بعده الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

فائدة:عندما قال عز وجل:﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ[البقرة: 34]، فكأنه جلَّ في علاه قعَّد تعريفًا للكفر في أنه: رفض طاعة الله والاستكبار عن أوامره.
صفات الكافر الأول إبليس لعنه الله:
الكبر: دافع الكفر وجذره الأول، الكبر هو الذي دفع إبليس إلى العصيان ورفض أمر لله "فأبى واستكبر"، أما "الأنا" فكانت عمق هذا الكبر، كما يحكيه لنا المشهد في سورة الأعراف: ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12].

﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ [الأعراف: 12]، فإن وجدتها منهج أحدهم فاعلم أن فيه خصلة من إبليس.


الكذب والخداع: سلاحه الكذب والخداع والوعود الكاذبة، والتحريش بين ابن آدم وربه، مشفوعة بالحلفان بالله: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 20، 21].

كذب إبليس على ربه، وقال عنه ما لم يقُلْه أو يقضي به، ثم حلف لآدم وأقسم بالله على ما افتراه على ربه ليصدِّقه وتتم الخديعه ﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾.

وهذا المدخل سلاح الشيطان الدائم الذي يُزيِّن به لابن آدم مخالفة الحق واتباع الباطل، فيصور له أن الامتثال لشرع الله وطاعته حرمان من كل لذة وسعادة، ومعصيته واتِّباع سُبُل الشيطان تحقيق لكل سعادة ولذة، ويعدهم ويُمنِّيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.

عناصر الإغواء التي رمى إبليس بحبالها على آدم عليه السلام- وذريته من بعده- فعصى آدم ربه من أجلها، هي: الملك والخلود ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 120، 121].

﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾.

ويبقى الملك والخلود المدخلان الشيطانيان الرئيسيان لكل ابن آدم من أجل معصية الله، فلا تكاد تجد معصية تخرج عن هذا الإطار: حب التملك والعلو والسيادة والظهور، وركوب كل أمواجها وسلوك كل دروبها من جهة، والخلود من جهة أخرى، معاصٍ لا تُعَد ولا تُحصى في سبيل هذين السرابين: سراب ملك لا يفنى، وخلود فلا موت.

وكما أسلفنا القول، فإن أول كافر أعلن كفره بالطريقة التي وصفها الله عز وجل وسكن الأرض كان إبليس الذي نزل مع آدم عندما قال لهم الله عز وجل: ﴿ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [البقرة: 36]، ومنذ تلك اللحظة بدأ الصراع بين الكفر والإيمان، والخير والشر.

ومن هنا يمكننا ربط ختام سورة البقرة بمقدمتها، إنها المعركة الدائمة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، معسكر عباد الله ومعسكر أتباع إبليس، فبعد أن تصف نهاية السورة حقيقة إيمان أهل الإيمان، تختم بدعاء المؤمنين ربهم أن ينصرهم على القوم الكافرين: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 285، 286].

وهنا تنتهي المقدمة وتبدأ رحلتنا مع السورة.


والحمد لله رب العالمين.
يُتْبَع....


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26-02-2024, 10:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات ودروس من سورة البقرة (6)

ميسون عبدالرحمن النحلاوي

وقفات مع قلب السورة:
كنا قد أسلفنا أن جوَّ السورة جوُّ هداية وتربية وتوجيه، وهذا هو المحور الأساسي الذي تدور حوله السورة انطلاقًا من آيات التوحيد التي تؤسس لعقيدة التوحيد، وانتهاء بالأحكام والتشريعات التي تؤسس للمجتمع الإسلامي.


وتأتي حلقة بني إسرائيل لتشغل حيزًا كبيرًا من السورة، فتكون بمثابة الإضاءة العملية للتوجيهات التربوية للمسلمين في تعاملهم مع أوامر ربهم ونواهيه، وأحكامه وقوانينه التي ستأتي السورة على بعض منها في سياق قصصهم، وعلى البعض الآخر بعد الانتهاء من قصصهم.



معالم في سياق السورة:
أولًا: بنو إسرائيل:
وتشغل قصص بني إسرائيل وأخبارهم حيزًا كبيرًا من قلب السورة، يكاد يغطي الجزء الأول برمته، كما لا يغيب ذكرهم عن الجزء الثاني، ويبسط الله عز وجل لنا سيرة هؤلاء القوم دون غيرهم لسيرتهم المتميزة:
فهم قوم عاشوا الاختيار الإلهي ﴿ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الدخان: 32].


وعاشوا الملك والنبوَّة، ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 20].


وأرسل الله لهم رسولًا ليُنجِّيهم من العذاب الذي كانوا يعيشونه في ظل أطغى طغاة الأرض.


فكانوا قومًا ورثوا مشارق الأرض ومغاربها ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137].


فماذا كان منهم، وكيف كان شكرهم لنِعَم الله التي لا تُحصَى عليهم؟!


واجهوا نِعَم الله بالعصيان والتمرُّد والمماحكة، والمجادلة في كل أمر، والاستكبار عن الامتثال والخضوع لأمر الله.


وكان منهج الندِّية في سلوكياتهم مع ربهم.

تعاظم في قلوب القوم الكِبْر حتى وصل بهم إلى الظن بأحقيتهم في تنصيب أنفسهم ندًّا لخالقهم، يجادلونه ويعاندونه ويتمردون على أوامره، ويشترطون عليه في طاعته؛ بل ويتصرَّفون في شرائعه التي أنزلها عليهم فيضعون ويرفعون، ينقضون العهود والمواثيق التي قَطَعَها الله عليهم، يُحلِّلون ويُحرِّمون: الله يقول، وهم يقولون؛ بل ويخدعون الله والعياذ بالله، كما فعل أصحاب السبت منهم إلى أن انتهى بهم الأمر إلى قتل أنبياء الله الذين أرسلهم الله فيهم دون أن يرفَّ لهم جفن، فكانت عاقبتهم:﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران: 112].


يحكي لنا الله عز وجل تفاصيل سلوكياتهم التي أوردتهم الهلاك لتكون لنا عبرةً وعظةً، فلا نقع بها فنكون مثلهم فنستحق عقابهم.


فلنبدأ رحلتنا معهم في سورة البقرة.
بنو إسرائيل في سورة البقرة: دروس وعبر:
لماذا بنو إسرائيل دون غيرهم من الأقوام الغابرة؟
بنو إسرائيل قوم لهم قصة طويلة مع ربهم ورسولهم، فهم أول قوم في البشرية كانت لهم رسالة سماوية كتبت لها الديمومة في نسلهم إلى ما شاء الله، وأرسل الله فيهم من الأنبياء ما لا يحصيه إلا الله، فكانوا هم حملة الرسالة السماوية في الأرض لعدة قرون، تقلبوا معها بين نعيم الإيمان والاصطفاء الإلهي، وجحيم الذلة والمسكنة بسبب عصيانهم وتمرُّدهم وعتوِّهم على ربِّهم.

وبالرغم من كل ما مَرَّ بهؤلاء القوم في مسيرتهم الطويلة من دروس إلهية تجَلَّت في أنواع العذاب والعقاب التي نزلت بهم جزاء عصيانهم وتمرُّدهم على ربهم، إلا أنهم ظلوا على اعتقادهم بأنهم شعب الله المختار، وأن النبي المنتظر المذكور في توراتهم لا بد أن يكون من نسلهم، ومن هنا كانت بذرة العداء بينهم وبين المسلمين.


هذه العداوة التي بدأت مع ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وجذرها الحسد، لن تنتهي حتى يُقتَل الدَّجَّال بباب لُدٍّ، ومعلوم أن جنود الدجال عند خروجه هم من يهود أصبهان كما جاء في حديث مسلم: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِن يَهُودِ أصْبَهانَ، سَبْعُونَ ألْفًا عليهمُ الطَّيالِسَةُ".


أما مقتله في باب لُدٍّ فقد ورد حديثه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: "فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق واضعًا كفَّيه على أجنحة مَلَكَين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريحه أو ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه" أينما يبلغ مدى عينه، نفسه يذهب على مدى عينه، فيطلبه -يعني يطلب الدَّجَّال- فيدركه في باب لُدٍّ فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قومًا قد عصمهم الله من الدَّجَّال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم من الجنة".


وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبدالله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود"؛متفق عليه.


وإلى ذلك الحين، سيبقى هؤلاء القوم والمسلمون في جهاد دائم تُنصب فيه رايتا الخير والشر.


لقد عرَف هؤلاء القوم أنهم لا طاقة لهم بالاقتتال مع المسلمين كما يقول تعالى في سورة الحشر:﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14]، فاتبعوا أسلوب إبليس في التلبيس والإضلال، فما تركوا شِعبًا من شِعاب الشرور النفسية والعقلية والعلمية إلا اتَّبعوها؛ لإيقاع المسلمين في العصيان والجحود أكثر مما وقعوا فيه هم أنفسهم، لتكون لهم الخيرية التي زعموها وعاشوا في وهمها قرونًا طويلة "شعب الله المختار".


من هنا، جاء تفنيد قصصهم وفضح سلوكياتهم وانحرافاتهم وتمرُّدهم وضلالاتهم، وأكاذيبهم وخداعهم، وبيان أشكال العقاب الإلهي التي نزلت عليهم منذ سيدنا موسى وحتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون للمسلمين منارة ودروس وعبر وهداية فلا يقعوا في مثل ما وقع فيه القوم، ولا يأمنوا لهم، ولا يأمنوهم، فمن كانت سلوكياته بهذا الشكل مع خالقه، فهل ستكون أفضل مع ندِّه من العباد؟!


ومن الجدير بالذكر أن سيدنا موسى عليه السلام أكثر الأنبياء ذكرًا في القرآن الكريم، حتى قيل: إن أحدًا لم يُذكَر في كتاب الله لا مِن الأنبياء ولا مِن المُرسَلين ولا من الملائكة المقرَّبين، كما ذُكر موسى - عليه السلام - في كتاب الله، فقد ذُكر نحو مائة وثلاثين مرةً، كما أن قصة بني إسرائيل تكرَّرت في القرآن الكريم كما لم تتكرَّر قصة أخرى من قصص الأمم الأولى، وفي ذلك عبرة.


يستهل المولى جلَّ في علاه سياقَ السورة في بني إسرائيل بمخاطبتهم وتوجيههم بما يجب أن يفعلوه وقد خرج النبي المذكور في كتابهم وأصبح بين ظهرانيهم يدعوهم إلى رسالة ربهم:
فيأمرهم أولًا بمجموعة أوامر:
الوفاء بعهد الله في اتِّباع نبي الله إذا خرج فيهم:﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40].


"قال ابن عباس: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم ﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ؛ أي: أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتِّباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم".

﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة من عذاب الله إن لم يفعلوا، فقد ذاقوه في سابق عهدهم لما كان منهم من نقض عهد الله وميثاقه.



الإيمان بالرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [البقرة: 41]؛ لأنهم يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.


تحذيرهم من المسارعة إلى الكفر بمحمد ورسالته، وعندهم من العلم ما ليس عند غيرهم ﴿ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ [البقرة: 41].


نهيهم عن المتاجرة بآيات الله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41] ، والتوقف عن هذا الفعل وقد كانوا يفعلونه في سابق العهد والزمان.


نهيهم عن تلبيس الحق بالباطل مع كتمان الحق،وهما جريمتان يمتهنهما كثيرٌ من الناس في سبيل عرض من عروض الحياة الدنيا ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42].

إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43].

نهيهم عن مخالفة القول العمل: فهم يأمرون الناس بالبرِّ، ولا يفعلونه ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44] يقول ابن كثير في تفسير الآية: "أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة، وتتركون أنفسكم؛ أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي"؛ انتهى.


الاستعانةبالصبر والصلاة في كل حال ومقام:﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 45، 46].


كانت هذه الأوامر بمثابة مقدمة لما سيبسطه الله عز وجل من أمر هذا القوم.


أولًا: بنو إسرائيل بين النعم الإلهية والعصيان:
"التذكير" بالنعم الإلهية، وكيف قابلها القوم:
1- تفضيلهم على العالمين في زمانهم ﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 47]، فكانوا أفضل قوم على الأرض.


2- تنجيتهم من آل فرعون والعذاب الذي كانوا يرزحون تحت وطأته ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49].


3- معجزة فرق البحر، وإغراق فرعون، ونجاتهم واقعة لم يكن ليتصورها عقل، ولا حتى نبي الله موسى! ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 50].


4- مواعدة الله لنبيِّهم موسى عليه السلام:
قوبلت مجموعة النعم هذه باتخاذ العجل إلهًا! ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51].


العفو عن القوم بعد اتخاذهم العجل: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 52 - 54].


وقد اختلف العلماء بشأن التوبة من العقاب الذي تقرر عليهم في قتل أنفسهم، هل أنهم قتلوا أنفسهم فعلًا، أم أن الله عفا عنهم فلم يقع منهم القتل؟!


يقول القرطبي: "قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 52]، العفو: عفو الله جل وعز عن خلقه، وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة، وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه، فالعفو محو الذنب؛ أي: محونا ذنوبكم، وتجاوزنا عنكم، مأخوذ من قولك: عفت الريح الأثر؛ أي: أذهبته، وعفا الشيء: كثر، فهو من الأضداد، ومنه قوله تعالى: ﴿ حَتَّى عَفَوْا [الأعراف: 95]"؛ انتهى.


وتجمع التفاسير على أن العفو كان بعد وقوع العقوبة؛ أي: إن القتل الذي طلبه موسى منهم توبة إلى الله وتكفيرًا عن عبادتهم العجل، قد وقع، وفي وقوعه عدة مقولات:
يقول القرطبي: "وكانت توبة بني إسرائيل القتل، وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده، وقال الزهري: "لما قيل لهم: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] قاموا صفين، وقتل بعضُهم بعضًا حتى قيل لهم: كفوا، فكان ذلك شهادةً للمقتول وتوبةً للحي على ما تقدم"؛ وقال بعض المُفسِّرين: أرسل الله عليهم ظلامًا ففعلوا ذلك؛ وقيل: وقف الذين عبدوا العجل صفًّا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم، وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا - إذ لم يعبدوا العجل - من عبد العجل، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم على القول الأول؛ لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه، وإنما اعتزلوا، وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده، وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع.


فلما استحرَّ فيهم القتل، وبلغ سبعين ألفًا عفا الله عنهم؛ قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما، وإنما رفع الله عنهم القتل؛ لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم، فما أنعم الله على هذه الأمة نعمةً بعد الإسلام هي أفضل من التوبة"؛ انتهى القرطبي.


في حين يرى الأستاذ سليمان بن إبراهيم الحصين- أستاذ التفسير وعلوم القرآن ورئيس قسم الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود، فرع الأحساء- أن القتل لم يقع في القوم، وأن الله عفا عنهم وتاب عليهم، فرفع عنهم عقوبة القتل، مستشهدًا بما ورد في نظم الدرر للبقاعي:
"وخصَّه باسم العفو لَمَّا ذكر ذنوبهم؛ لأنَّ المغفور له لا يذكر ذنبه، فإنَّ العفو رَفَعَ العقوبة دون رفع ذكرها، والغفر إماتة ذكر الذنب مع رفع العقوبة"، فدَلَّ هذا العفو على أنَّ المراد بالتوبة في قوله تعالى: ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [البقرة: 54]؛ أي: رفع عنكم الحُكْم بقتل أنفسكم..ولعل في حرف (ثُمَّ) من قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة: 52] ما يدل على صحة هذا القول وأنَّ العفو إنما جاء بعد أن أمرهم نبي الله موسى بقتل أنفسهم فتكون التوبة من قوله: ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ راجعة إلى رفع الحُكْم عنهم بقتل أنفسهم وليست راجعة إلى استجابتهم بدليل حرف العطف "الفاء" الذي يفيد التعقيب، فالتوبة كانت برفع الحُكْم مباشرةً بعد أمر نبي الله موسى به.


وكيف يُظَنُّ بهم أنهم امتثلوا لأمر موسى عليه السلام بقتل أنفسهم، وقد أمرهم الله تعالى بذبح بقرة فتردَّدوا وتعنَّتوا ولم يمتثلوا للأمر إلا بعد عناء، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67].


ومما يؤكد أنهم لم يستجيبوا لما أمروا به من قتل أنفسهم أنهم أحرص ما يكون على حياة وليس على الموت شهادة؛ لأنهم قوم عصاة مستكبرون لا يؤمنون إلا بالماديات، قال تعالى: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة: 96].


فكيف يبادرون بقتل أنفسهم بهذه السرعة وهم أحرصُ الناس على حياة، أية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة، أو حياة مميزة، أية حياة، بهذا التنكير والتحقير.


هذا فضلًا عن عصيانهم الدائم الملازم لهم واللائق بحالهم، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63].


وقال تعالى: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء: 46].


فهل يظن بقوم هذا حالهم المسارعة إلى امتثال ما أمرهم به نبي الله موسى عليه السلام من قتل أنفسهم؟! هذا بعيد جدًّا، وهذه القصة من جملة ما كذَّبه أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب"؛ انتهى[1] (المرجع موقع ملتقى أهل التفسير).


والله أعلم.


وإمعانًا في الوقاحة والتطاول على خالقهم طلبوا من نبيِّهم موسى عليه السلام أن يروا الله عيانًا جهارًا ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55]!


فكان العقاب: الصاعقة ﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 55]؛ لكن رحمة الله غالبة، فكانت النعمة السادسة، تبعتها مجموعة من النعم:
5- ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 56].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 26-02-2024, 10:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة




6- ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57].

7- ثم خصص الله لهم أرضًا مباركةً يدخلوها ليحكموا فيها ويصبحوا سادتها؛ لكن هذا التخصيص كان مشفوعًا بأمر إلهي بسيط جدًّا؛ وهو أن يدخلوها "سُجَّدًا"، ويقولوا "حِطَّة "؛ أي: ربنا حط عنا خطايانا، ما طلب منهم الله عز وجل إلا السجود والاستغفار، فما كان إلا أن قوبلت هذه النعمة بعصيان الأمر والتكبُّر على السجود لخالقهم، وإعراضهم عن الاستغفار بتبديل اللفظ استهتارًا واستهزاءً، نفسية فاسدة، شيطانية! قال البخاري: حدثني محمد، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قيل لبني إسرائيل: ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ [البقرة: 58]، فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا: حطة: حبة في شعرة، فكان العقاب: ﴿ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة: 59] والرجز هو العذاب، وقيل الطاعون.

8- نعمة العيون الاثني عشر:ثم إن موسى استسقى لقومه، طلب من الله أن يفجر لهم ماء في طريقهم، فكان له ذلك بمعجزة ضرب العصا أيضًا، فجَّر لهم الله اثنتي عشرة عينًا على عدد أسباطهم إمعانًا في الإنعام عليهم، فينتظمون في مشاربهم ولا يختلفون ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60]، ما أكرمك من إله سبحانك! لقد كفاهم الله جل وعلا مؤونة المأكل باللحم والحلواء "المن والسلوى"، والمشرب بتفجير العيون، فكيف قابل هؤلاء القوم نِعَم ربِّهم عليهم؟! قوبلت هذه النِّعَم بالبطر والازدراء؛ بل وبطلب استبدالها بما هو دونها من الطعام، فطلبوا الفوم والعدس والبصل، وانظر إلى الوقاحة في الخطاب: ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا [البقرة: 61]، وكأنهم حتى تلك اللحظة لم يعترفوا بالله ربًّا لهم؛ بل هو ربُّ موسى فحسب!


فكان العقاب: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة: 61]، فكانت الذلة والصغار ملازمة لهم إلى يوم يبعثون، مشفوعة بغضب الله وسخطه، وهنا يذكر سببًا آخر لوجوب الذلة والمسكنة اصطبغت به مسيرتهم القادمة بعد التيه ووفاة موسى عليه السلام؛ ألا وهي قتل الأنبياء بغير الحق!


رفع الطور وأخذ الميثاق: هنا يذكِّر الله بني إسرائيل بالميثاق الذي أخذه عليهم بعد أن أنجاهم من مصنع العذاب الذي كانوا يعيشون فيه، وكان الميثاق أن يؤمنوا به وحده لا شريك له ويتَّبعوا رُسُلَه، أمرهم أن يمتثلوا لهذا الميثاق ويأخذوه بقوة وحزم وهمة؛ لكنهم امتنعوا عن الطاعة، فرفع عليهم الجبل، فلما نظروا إليه وقد غشيهم، سقطوا سُجَّدًا وأخذوا العهد؛ لكنهم تولَّوا بعد ذلك ونقضوا العهد؛ هم قوم أدمنوا نقض العهود.

ثانيًا: التذكير بأبرز قصتين في تاريخ القوم، تضيآن أهم ملامح الشخصية اليهودية: قصة أصحاب السبت، وقصة البقرة.
ويبدأ السياق بقصة أصحاب السبت.


أصحاب السبت: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 65، 66].


يأتي السياق في سورة البقرة على قصة أصحاب السبت، في إشارة سريعة، نجدها مبسوطة في سورة الأعراف إن شاء الله؛ لكن هذه الإشارة- على إيجازها- تُلخِّص ما كان من أمر القوم من خداع وعصيان، وما حَلَّ بهم من عقوبة، وكيف جعلها الله عبرةً للناس في زمانهم ولمن خلفهم.


اعتدوا في السبت؛ أي: عصوا أمر الله، واتبعوا أسلوب الحيلة والخداع مع ربِّهم، مع من؟ مع ربهم!


فكانت معصيتهم مخادعة خالقهم الله جل في علاه، فاستحقوا أشد عقوبة نزلت عليهم في تاريخهم: مسخوا قردة! ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة: 65].


فكانوا عبرةً للناس من حولهم ومن بعدهم إلى يوم الدين، ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 66]، هذه القصة كما كل قصص بني إسرائيل يرويها لنا القرآن لا للاستمتاع بها؛ بل للاتعاظ، فنحن المقصودون بالعبرة بقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلْفَهَا.


وكم منا اليوم أصحاب السبت ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!

ثم قصة البقرة، هذه القصة وردت في القرآن الكريم مرة واحدة فقط وفي هذا السياق ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 67- 71].

وتفصيل قصة البقرة له دلالة في التركيز على صفات العناد والمماحكة والتشديد والتعنُّت التي يتصف بها هؤلاء القوم، ناهيك عن الاستكبار على تطبيق الأمر الإلهي دون جدل، قوم لا يمكن أن يصل لهم أمر من الله ويطبقونه فقط؛ لأنه أمر الله أبدًا.

كان الأمر بكل بساطة: "اذبحوا بقرة"، فجاء الجواب: ما هي؟ كم عمرها؟ ما لونها؟ ما صفاتها؟ ما شأنها؟

فكانت معصيتهم الجدال، والمماحكة في أمر الله.

ومع "بعضٍ" من هذه البقرة كانت معجزة إحياء القتيل الذي قُتِل فيهم ولم يُعرَف قاتله، ليتكلم فيقول: من قتله ثم يعود فيموت، ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 72، 73].

يقول ابن كثير في تفسيره: عن ابن عباس، قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مسكها دنانير، فذبحوها، فضربوه- يعني القتيل- بعِضْو منها، فقام تشخب أوداجه دمًا، فسألوه، فقالوا له: مَنْ قتلك؟ قال: قتلني فلان.

ونبَّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل: جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد، وفاصلًا ما كان بينهم من الخصومة والفساد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في إحياء الموتى، في خمسة مواضع: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة: 56]،وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة"؛ انتهى ابن كثير.


وبعد كل هذا، وعِوَضًا عن أن تستكين نفوسُهم وتخشع قلوبُهم لخالقهم وربِّهم ومجري المعجزات أمامهم المعجزة تِلْوَ الأخرى، ظلوا على نهجهم في ممارسة الندِّيَّة لأوامر الله عز وجل، يقول الله ونقول نحن، فكان أن أورثوا قسوة القلب وأي قسوة!


﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 74].

انظروا إلى تشبيه القسوة هذه، قسوة صمَّاء تمامًا، تمامًا لا يوجد فيها ثغرة خير واحدة، فإن كان في الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، فهم ليسوا كتلك الحجارة هم أشد قسوة، وإن كان منها ما يشقق فيخرج منه الماء - وهو في هذا أقل من سابقه - فهم أشدُّ قسوة، حتى الحجارة التي تسقط من خشية الله لا يشبهونها، هم أشدُّ قسوة من الأحجار بكل أشكالها، قلوب صمَّاء.

يا الله، ما هذه الجِبِلَّة؟!

وكما هي كل قصص بني إسرائيل في القرآن الكريم، تنطوي هذه الآيات على درس وعبرة لأمة الإسلام، ألَّا يسيروا على خُطى القوم فيورثوا قسوة القلب، فيكون فيه هلاكهم، هذه القسوة التي حذَّرنا الله منها في سورة الحديد، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].

ومع الأسف نجد اليوم أن شياطين الإنس من بني يهود،قد نجحوا في جعل فريق كبير من أمتنا يمتهن هذه المعصية: الجدال والمماحكة في أوامر الله حتى وصل الأمر بالبعضإلى الإنكار التام! ولله الأمر من قبل ومن بعد.


ثالثًا: تعامل اليهود مع كتاب الله الذي أنزل عليهم والرسالة التي اختصَّهم اللهُ بها.

التحريف بعد العلم والفقه:
بعد أن بيَّن اللهُ عز وجل صفات القسوة التي أضحى عليها القوم بالرغم من كل ما رأوه من آيات ومعجزات تخترق كل النواميس والسنن الكونية، فلا يقدر على إجرائها إلا الواحد القَهَّار، شرع السياق في التوضيح للمؤمنين حقيقة هؤلاء القوم ويبين لهم من أخبارهم في التعامل مع رسالة الله وكتابه الذي أنزله عليهم، التوراة، ما خفي عنهم حتى إنهم ظنوا أنهم سيستمعون لهم ويؤمنون بما آمنوا به من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم جلَّ في عُلاه: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75].


هم قوم يسمعون كلام الله، ويعقلونه ويفهمونه من كل جوانبه وبكل جزئياته حتى يتمثله عقلهم ﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ﴾ باحترافية شيطانية".


وقد خرج في الأمة في يومنا هذا من سار على نهج بني إسرائيل في التحريف بعد العقل والفهم؛ نعم.. لقد كانت العقود الأخيرة زمن "نجوميتهم" بامتياز!


المخادعة: الظاهر والباطن.. السر والعلن ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76].


فالكتاب عندهم ليس لإحقاق الحق وإبطال الباطل؛ بل للتلاعب بمن حولهم، ومنَّا من يفعل ذلك جهارًا نهارًا!

كتمان العلم المنزل من عند الله ﴿ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 76].

سوء تقديرهم لقدرة الله في معرفة ما يسرُّون وما يعلنون: ﴿ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة: 77].


اشتغال الأميُّون منهم بالكتاب بالظن والأماني ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة: 78]، من بني إسرائيل أميُّون لا يجدون القراءة والكتابة، ومع ذلك يتكلمون في التوراة ويجادلون فيها بغير علم وإنما ظنًّا وكذبًا، وما تتمنَّاه أنفسهم.


"عن ابن جريج عن مجاهد: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ﴾ قال: أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب، أماني يتمنونها".


وإن كان هؤلاء أميين، فبين ظهرانينا "عالمون" ويتكلمون في الكتاب ظنًّا وكذبًا وأماني!


يكتبون الكتاب بأيديهم: ومنهم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، فيدخلون عليه ويخرجون منه، وقد شابههم اليوم فريق من الأمة، امتهنوا هذه المعصية، لكن باحتراف وإتقان، دخلوا على كتاب الله من باب الحداثة والعصرنة، وأن لكل عصر سمته وحاجاته، وأن عصرنا لم يعد يحتاج إلى كثير مما ورد في القرآن الكريم، فكان أن أبطلوا أحكامًا واستبدلوا أخرى، وأحلوا حرامًا وحرموا حلالًا، والسبب؟ متاع الحياة الدنيا، الهوى، المال، الجاه، باعوا الدين ليشتروا الدنيا، وعقاب هؤلاء عظيم: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ[البقرة: 79].


هناك وجه آخر درج في الآونة الأخيرة يندرج تحت كتابة الكتاب بأيديهم، وهو تفسير الآيات على غير ما هي عليه، ظنًّا منهم أنهم يخدمون الإسلام برفض حقيقة الآيات التي يخجلون بها أمام من يتهمون الإسلام، وما دروا أن الإسلام عزيز بنهج الله وقرآنه.


وكم منا من يحرم ويحلل ويزيد وينقص من الكتاب عن طريق التأويل والتحريف والإنكار والإثبات بما يمليه عليه الهوى!


وقفة مع المواثيق التي أخذها الله عز وجل على بني إسرائيل:
الميثاق الأول: العبادات والمعاملات السلوكية:
التوحيد ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 83].
الإحسان للوالدين.

الإحسان لذِي القربى واليتامى والمساكين.

﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].


إقامة الصلاة.


إيتاء الزكاة.



فكانت الاستجابة لهذا الميثاق بأن تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه، إلا قليلًا منهم ﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83].


الميثاق الثاني، ويتضمن شطرين: الأول في الوحدة وعدم الاقتتال، والثاني عدم المظاهرة، وتحريم إخراج بعضهم بعضًا من بيوتهم.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [البقرة: 84].

وهذا الميثاق مأخوذ عليهم في التوراة؛ لكنهم كانوا يخالفونه حتى مدة قريبة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنهم كانوا قد أقرُّوه وقبلوه وعاهدوا الله عليه، ومدار هذا التذكير الإلهي لهم، كما ورد في سبب نزول الآية في تفسير ابن كثير:
أن الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكان يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل يهودًا مثله من الفريق الآخر، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، مع أن هذا فعلٌ مُحرَّم في دينهم، ثم إذا وضعت الحرب أوزارَها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملًا بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85].

﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85].

فكانت منهم المعصية معصيتان: نقض المواثيق، و"الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه"!


وكان العقاب: ﴿ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85].

ومدار هذا الميثاق أن أهل المِلَّة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

وأقرب ما يكون إلى هذا الميثاق عندنا ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسَدُوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضُوا ولا تدابَرُوا، ولا يبِعْ بعضُكمْ على بيعِ بعضٍ، وكُونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المسلِمُ أخُو المسلِمِ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يَحقِرُهُ، التَّقْوى ههُنا – وأشارَ إلى صدْرِهِ – بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ، كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ: دمُهُ، ومالُهُ، وعِرضُهُ".

ونحن اليوم يظلم بعضُنا بعضًا، ويخذل بعضُنا بعضًا، ويسلم بعضنا بعضًا، ويخون بعضُنا بعضًا، ويحقر بعضُنا بعضًا، وكثير منا لا يعترف بحرمة دم ولا مال ولا عرض أخيه المسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

إن حب الدنيا واللهاث وراءها وكأنها دار خلود، هو أصل كل المعاصي والخروج عن صراط الحق إلى سبل الشيطان وطرق الباطل، شراء الدنيا بالآخرة، رأس المعصية أن يبيع الإنسان دينه وعقيدته في سبيل متاع الدنيا الفاني الزائل المنقضي.

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾ [البقرة: 86] وعقابهم:﴿ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ[البقرة: 86] غفرانك اللهم.
يتبع.

[1] https://al-maktaba.org/book/31871/4223#p14




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 13-03-2024, 04:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات مع سورة البقرة (7)

ميسون عبدالرحمن النحلاوي
2 - وقفات مع قلب السورة

تابع المعلم الأول بني إسرائيل


بعد الوقفة التي وقفناها مع المواثيق التي أخذها الله عز وجل على بني إسرائيل، يستأنف السياق القرآني مع الصفات الْمُخِلَّة التي أورثت بني إسرائيل الضلالَ، ومن ثَمَّ الذلة والمسكنة إلى يوم الدين.

الأولى: سلوكيات الكبر، المرض الذي استحكم في القوم بعد موسى إلا من رحم ربي، والكِبْرُ هو المرض الذي أخرج إبليس من الجنة، وكان سببًا في استحقاقه لعنةَ الله إلى يوم الدين، والكِبر في تعريفه النبوي: ((الكبر بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس، أي: رفض الحق والبعد عنه ترفعًا وتجبرًا، وغمط الناس؛ أي: احتقارهم وازدراؤهم، وقد كان من شأن القوم:
الاستكبار على الرسالة والرسل:
1- من خلال تحكيمهم الهوى في قبولهم كرُسُلٍ، ومن لا يوافق هواهم، إما أن يكذبوه أو يقتلوه: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87].


2- من خلال إغلاق قلوبهم دون ما جاؤوا به من رسالة، مدَّعِين امتلاءَ قلوبهم بالعلم الكامل، فلا حاجة لهم بعلم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88]؛ قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ [البقرة: 88]، قال: "قالوا: قلوبنا مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد، ولا غيره، فكان العقاب: ﴿ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88].


كتمان كلام الله الحق مع علمهم الدقيق بأنه الحق، وأنهم على باطل، لكن انتصارًا للرأي والهوى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، ثم نستوضح عقاب هذا الكتمان في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]، فقد كتم اليهود الكثيرَ من الحق، وأبرزُ ما كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتُّحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزر يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق، وتصديق الرسول، والإيمان بما جاء عن الله، بذلك النَّزْرِ اليسير، فخابوا وخسِروا في الدنيا والآخرة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ وذلك لأنه غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علِموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم؛ أي: لا يثني عليهم ويمدحهم، بل يعذبهم عذابًا أليمًا.

إنكارهم لتحول القبلة بالرغم من علمهم بأنه أمر حق، والاستكبار عن اتباع الحق، واتباع الهوى على علمٍ، صفة مستمرة في القوم منذ نبيهم موسى، وحتى خروج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وإلى يومنا هذا؛ ففي قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]؛ يقول القرطبي: "﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ [البقرة: 144] يريد: اليهود والنصارى، ﴿ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 144]؛ يعني تحويل القبلة من بيت المقدس، فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيٌّ، علِموا أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا به، الثاني: أنهم علموا من دينهم جواز النسخ، وإن جحده بعضهم، فصاروا عالِمِين بجواز القبلة"؛ [انتهى من القرطبي].


ويقول الشوكاني في هذا: "وعِلْمُ أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم، أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبي يستقبل الكعبة، أو لكونهم قد علموا من أنبيائهم، أو كتبهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة، فيكون ذلك موجِبًا عليهم الدخول في الإسلام، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم"؛ [انتهى، الشوكاني].


الثانية: قتلهم الأنبياء: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91]، وكان نهج بني إسرائيل في تكذيب وقتل أنبيائهم نهجًا ليس له سابقة ولا لاحقة في أقوام البشرية، فـ﴿ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴾ [المائدة: 70]، وكلما: أداة ظرفية تفيد التكرار، فما أكثر ما قتلوا! وما أكثر ما كذبوا!

فائدة:
يفيدنا الدكتور فاضل السامرائي في مسألة قتل بني إسرائيل لأنبيائهم، موضحًا الفرق بين قتلهم الأنبياء، وقتلهم النبيين، والفرق بين بغير حق، وبغير الحق في سورتي البقرة وآل عمران:

قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].

وقوله تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112].

وردت في البقرة: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [البقرة: 61]، وفي آل عمران: ﴿ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ [آل عمران: 112]، يعني: هناك "نبيين" و"أنبياء"، وتنكير الحق وتعريفه، وفي آية أخرى في آل عمران: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ [آل عمران: 21].

يقول الدكتور فاضل السامرائي في تفصيل المسألة:
الحق المعرَّف: المعرفة تدل على أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير الحق الذي يدعو إلى القتل، ما يدعو إلى القتل معلوم، إذًا هم يقتلونهم بغير الحق الذي يستوجب القتل، إذًا إذا كان أي واحد يقتل واحدًا بغير الحق الذي يستوجب القتل، كان ظالمًا، هذا: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [البقرة: 61]؛ يعني بغير الأسباب الداعية إلى القتل.

بغير حق: أصلًا ليس هنالك ما يدعو إلى هذه الفعلة، لا سبب يدعو إلى القتل، ولا غيره من الأسباب، أحيانًا واحد يقسو على واحد بالكلام يقول له: أنت سفيه، فيقتله هذا بغير حق الذي يدعو للقتل، قد يكون أثاره، حتى أحيانًا تحصل عندنا مشادات، إذًا هذا بغير الحق الذي يستوجب القتل، هذه: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [البقرة: 61]، أما بغير حق؛ يعني: أنه ليس هنالك سبب يدعو إلى القتل؛ اعتداء هكذا، فأي الأسوأ؟ بغير حق أسوأ، هذا أمر، والأمر الآخر:

النبيين جمع مذكر سالم جمع قلة، والأنبياء جمع كثرة، إذًا هم يقتلون كثرة من الأنبياء بغير حق؛ أي الأسوأ؟ "يقتلون الأنبياء بغير حق" أسوأ من ناحيتين؛ من ناحية الكثرة "الأنبياء"، ومن ناحية "بغير حق"، يقتلون كثيرًا من الأنبياء بدون داعي.


وهناك أمر آخر هو عندما يفصِّل في عقاب بني إسرائيل يذكر الأنبياء؛ نقرأ سياق الآيتين: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].

في آل عمران: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]، هذه عامة، كرَّر فيها وفصَلَ وأكَّد: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ... وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ [آل عمران: 112]، بينما في البقرة جمع الذلة والمسكنة في كلام واحد: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ [البقرة: 61]، فأما التكرار والتعميم والتأكيد في آية آل عمران، فلأنهم فعلوا الأسوأ، فاستحقوا هذا الكلام، التأكيد في ضرب الذلة والمسكنة، هل يجوز في البيان أن نضع واحدة مكان أخرى؟ لا يمكن.


في آل عمران قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آل عمران: 21].

هذه الآية عامة، هذه ليست في بني إسرائيل، أما قوله تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]، فهذه في بني إسرائيل تحديدًا، وهي تحكي عن عقوبتهم في الدنيا فقط، بينما الآية 21، فيها حكم عام يشمل كل من ارتكب هذه المعصية من الناس، ويفصل عقابه في الدنيا والآخرة، فيقول في الآية التي تليها: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 22]، هذا فيمن قتل النبيين، فما بالك بمن قتل الأنبياء؟! فالذي قتل القلة هذا أمره، فما بالك بمن قتل أكثر، هو قتل قلة بدون داعي، فما بالك بمن قتل أكثر؟! كل واحدة مناسبة في مكانها، الألف واللام في اللغة ربما تحول الدلالة: بغير حق وبغير الحق، وجمع الكثرة وجمع القلة، جمع المذكر السالم وجمع التكسير، جمع التكسير فيه جمع قلة، وجمع كثرة، جمع التكسير: أفعُل أفْعَال أفْعِلَةَ فِعْلَة، جموع قلة، وما عداها جمع كثرة، 23 وزنًا جموع كثرة؛ [انتهى، فاضل السامرائي].

الثالثة: عبادة العجل من دون الله وموسى بين ظهرانيهم، بل في لقاء مع ربه: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 92، 93].

يقول الشوكاني في (فتح القدير): "﴿ وَأُشْرِبُوا ﴾ تشبيه بليغ؛ أي: جُعِلت قلوبهم لتمكُّن حب العجل منها كأنها تشربه، ثم قال: وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل؛ لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام يجاورها ولا يتغلغل فيها، والباء في قوله: ﴿ بِكُفْرِهِمْسببية؛ أي: كان ذلك بسبب كفرهم عقوبةً لهم وخذلانًا"؛ [انتهى].



وقد بدا أن الميل الشركيَّ متجذر في قلوب القوم، فقد كان ذلك منهم بعد أن جاوز سيدنا موسى بهم البحر؛ كما جاء: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [الأعراف: 138].


ما أسرع نسيانهم للنعمة ونكرانهم فضل الْمُنْعِم!



الرابعة: تحدي الله ربهم، والفجور في العصيان بقولهم: سمعنا وعصينا: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 93].

الخامسة: الغرور: ادعاؤهم بأنهم أصحاب الجنة في الآخرة: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 94 - 96].


يقول الشوكاني في تفسير هذه الآيات: "﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ ﴾ [البقرة: 94] هو رد عليهم لما ادَّعَوا أنهم يدخلون الجنة، ولا يشاركهم في دخولها غيرهم، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان، ﴿ خَالِصَةً ﴾ [البقرة: 94]، ومعنى الخلوص: أنه لا يشاركهم فيها غيرهم، إذا كانت اللام في قوله: ﴿ مِنْ دُونِ النَّاسِ ﴾ [البقرة: 94] للجنس، أو لا يشاركهم فيها المسلمون، إن كانت اللام للعهد، وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 111]، وإنما أمرهم بتمنِّي الموت؛ لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة، كان الموت أحب إليه من الحياة، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ [البقرة: 95] و(ما) في قوله: ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [البقرة: 95] موصولة، والعائد محذوف؛ أي: بما قدمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب، بل غير طامع في دخول الجنة، فضلًا عن كونه قاطعًا بها، فضلًا عن كونها خالصةً له مختصةً به"؛ [انتهى، الشوكاني].

السادسة: افتراء الكذب على الله بادعائهم معرفة الحساب، وكم سيكون لُبثهم في النار:﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]، العجيب في هذه الآية أنهم يعترفون أنهم يستحقون النار، وفي قرارة أنفسهم يدركون أن عاقبة أفعالهم الخلود في النار، وإلا لما خرج عنهم هذا القول: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ [البقرة: 80]، لكنه الخوف لبعث الطمأنينة في داخلهم افتراء وتزييفًا، ومنا للأسف مَن يستهزئ بالحساب، ويستسهل المعاصي من هذا المنطلق، يقولون لك عند النصح: بضعة أيام في النار ثم نخرج: ﴿ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]، ثم يجيبهم الله عز وجل بقرار جازم وبحكم مطلق كيف يكون الحساب: ﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 81، 82]، وإحاطة الخطيئة بابن آدم يعني استملاكها قلبه وجوارحه وعقله، وفي التفاسير أنها الشرك، أو الكبيرة الْمُوجِبة لا يتوب منها، وفي مقابل أصحاب النار هؤلاء، يقف المؤمنون أصحاب الجنة، وكلاهما كُتب عليهم الخلود.


اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.



السابعة: تفريقهم بين الملائكة، وادعاؤهم عداوةَ جبريل عليه السلام، ومحبة ميكائيل: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 97، 98]؛ عن ابن عباس، قال: ((أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنَّ، عرَفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: ﴿ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [يوسف: 66]، قال: هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي، قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه، قالوا: أخبرنا كيف تؤنِّث المرأة وكيف تُذكِر؟ قال: يلتقي الماءان، فإذا علا ماءُ الرجل ماءَ المرأة أذْكَرَت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنَثَتْ، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه، قال: كان يشتكي عِرْقَ النَّساء، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا، قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل، فحرَّم لحومها، قالوا: صدقت، قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: مَلَكٌ من ملائكة الله عز وجل مُوكَّل بالسحاب بيديه أو في يده مِخْرَاق من نار يزجُر به السحاب، يسوقه حيث أمره الله عز وجل، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمعه؟ قال: صوته، قالوا: صدقت، إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا، إنه ليس من نبي إلا وله مَلَكٌ يأتيه بالخبر، فأخبِرْنا: من صاحبك؟ قال: جبريل عليه السلام، قالوا: جبريل، ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقَطْر لكان؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 97، 98]))؛ يقول ابن كثير: "﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [البقرة: 98]، وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة، ثم عموم الرسل، ثم خُصِّصا بالذِّكر، لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليُّهم، فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما، فقد عادى الآخر وعادى الله أيضًا؛ لأنه أيضًا ينزل على الأنبياء بعض الأحيان، كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبريل أكثر، وهي وظيفته، وميكائيل موكَّل بالقَطر والنبات، ذاك بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكَّل بالصُّور للنفخ للبعث يوم القيامة؛ ولهذا جاء في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: ((اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لِما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))"؛ [انتهى، ابن كثير].



الثامنة: نقض العهد في كل مرة: ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 100]، و"كلما" تفيد تكرار وقوع الجواب بتكرار وقوع الشرط؛ أي: كلما وقع الشرط، تكرر وقوع الجواب.

التاسعة: النُّكوص عن اتباع الحق المذكور في كتابهم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 101]، وكذلك إنكارهم للكتاب الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يعلمون به وينتظرونه، لكنهم أنكروه بغيًا وحسدًا، فقط لأنه ليس منهم: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [البقرة: 89، 90]، فكان العقاب: ﴿ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [البقرة: 90].


العاشرة: افتراؤهم على سيدنا سليمان واشتغالهم بالسحر: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102].



يقول ابن كثير في تفسيره: "عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصِفُ كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيِّه، فلما مات سليمان أخرجه الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها، قال: فأكْفَره جُهَّال الناس وسبُّوه، ووقف علماؤهم، فلم يَزَلْ جُهَّالهم يسبُّونه، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102].


الحادية عشرة: التورية بالألفاظ؛ بقصد إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والسخرية منه ومن المؤمنين.


في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-03-2024, 05:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة




وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سبًّا، قيل: إنه في لغتهم بمعنى: اسمع لا سمِعتَ، وقيل: غير ذلك، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا طلبًا منه أن يراعيهم من المراعاة، اغتنموا الفرصة، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك، مظهرين أنهم يريدون المعنى العربيَّ، مُبطنين أنهم يقصدون السبَّ الذي معنى هذا اللفظ في لغتهم، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص، وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم؛ سدًّا للذريعة، ودفعًا للوسيلة، وقطعًا لمادة المفسدة والتطرق إليه، ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل النقص ولا يصلح للتعريض، فقال: ﴿ وَقُولُوا انْظُرْنَا ﴾ [البقرة: 104]؛ أي: أقْبِلْ علينا، وانظر إلينا؛ [انتهى، الشوكاني].



وفي قوله تعالى أيضًا: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 46]، وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سلَّموا إنما يقولون: السَّامُ عليكم، والسام هو: الموت؛ ولهذا أُمِرْنا أن نرد عليهم بـ(وعليكم)، وإنما يُستجاب لنا فيهم، ولا يُستجاب لهم فينا، والمستفاد من قوله تعالى هنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104] أنَّ الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولًا وفعلًا.



الثانية عشرة: الأثَرة، والأنانية، تورِثان الحسد، وتصدَّان عن اتباع الحق، وهذا كان سبب إحجام الذين كفروا من أهل الكتاب، يهودًا ونصارى، والمشركين، عن اتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يخبرنا به الله عز وجل بكل وضوح؛ بقوله تعالى: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105]، وقوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].



والمستفاد تحذير المؤمنين منهم، من اليهود والنصارى، فهم - بكلام الله خالقهم وعالم الغيب والمطلع على السرائر - لا يمكن أن يتمنَّوا الخير للمسلمين أبدًا، لا يمكن، بل إن كثيرًا منهم هِمَّتهم في جَعْلِ المسلمين يرتدون كفارًا، والدافع: الحقد والحسد، خاصة بعد أن علموا أن المسلمين على حقٍّ، وأن دينهم هو الدين الذي تحيا به البشرية، وسيكون هذا دأبهم إلى أن تقوم الساعة.



الثالثة عشرة: تألِّيهم على الله، وتنصيب أنفسهم حُكَّامًا على من يدخل الجنة، ومن يدخل النار، فخصُّوا أنفسهم بالجنة، وباقي البشر كلهم في النار، ثم إن من تمام استكبار أهل الكتاب يهودًا كانوا أو نصارى أنهم ضامنون للجنة، فاليهود أبناء الله وأحباؤه، والنصارى شفيعهم عيسى ابن مريم، يحمل عنهم كل أوزارهم ويدخلهم الجنة، وكل ما عداهم مصيره النار، وقالوا: ﴿ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ [البقرة: 111]، فيرد الله عز وجل عليهم: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]، والمستفاد تحذير أمة محمد من امتهان التألي على الله، وتوزيع مقامات الجنة والنار، كل حزب بما لديهم فرحون.


الرابعة عشرة: تكذيب بعضهم بعضًا، وتفرُّقهم شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون، رغم تلاوتهم في كتبهم ما يدحض تكذيبهم هذا: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ [البقرة: 113]، عن ابن عباس، قال: ((لما قدِم أهل نَجْران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتَتْهُم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجَحَدَ نبوة موسى وكفر بالتوراة؛ فأنزل الله في ذلك الآية: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ [البقرة: 113]))، يقول ابن كثير: "كلٌّ يتلو في كتابه تصديق من كفر به؛ أي: يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه، وقال قتادة: "﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ ﴾ [البقرة: 113]، قال: بلى، قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، ﴿ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ [البقرة: 113]، قال: بلى، قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا".


والمستفاد ألَّا تسلُكَ أمة محمد صلى الله عليه وسلم مَسْلَكَ أهل الكتاب في الفرقة والتحزب؛ انتصارًا للرأي؛ كما جاء في سورة الروم: ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 31، 32].

الخامسة عشرة: عداوتهم دائمة للإسلام والمسلمين: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، كما قال: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82]، وقال: ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 118، 119].

والمستفاد إرساء القاعدة الأزلية الثابتة في العلاقة الحقيقية بين المسلمين وأهل الكتاب: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، في تنبيه المؤمنين إلى أنه لا يمكن لليهود والنصارى أن يكونوا صادقين في أي ادعاء لمحبة أو صداقة أو أخوة لمسلمٍ.

السادسة عشرة: إغراء المؤمنين باتباع دينهم: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ﴾ [البقرة: 135]، فردَّ الله عليهم: ﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135]، وهذا دَيدنُهم في كل عصر وزمان.

السابعة عشرة: كتمان الشهادة، بادعائهم أن إبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب، والأسباط كانوا هودًا أو نصارى، وقد شهدوا في كتبهم عكس ذلك: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140].

قال الحسن البصري: "كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم: إن الدين عند الله الإسلام، وإن محمدًا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهِد الله بذلك، وأقرُّوا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك"؛ [ابن كثير].

وقال القرطبي: " ﴿ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 140] يريد: علمهم بأن الأنبياء كانوا على الإسلام".


والمستفاد تحذير المسلمين من كتمان أي شيء في كتاب الله من أجل تحقيق مصلحة أو إرضاء هوًى.


الثامنة عشرة: اجتهادهم في استغلال كل ظرف ممكن لتشكيك المسلمين بدينهم، وصحة الرسالة التي يتبعونها، كما حدث في مسألة تحويل القبلة.


﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142]؛ يقول ابن كثير في مسألة تحويل القبلة: "ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكَفَرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشكٌّ، وقالوا: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142]؛ أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ [البقرة: 142]؛ أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثَمَّ وجه الله، وقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ [البقرة: 177]".

ومما يؤكد نيتهم الفاسدة في أنهم ما جادلوا وسخروا من تحويل القبلة إلا تشكيكًا للمسلمين بدينهم، أنهم كانوا يعلمون أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم سيتخذ من الكعبة قبلة؛ كما قال تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]، يتابع ابن كثير في تفسيره: "واليهود الذين أنكروا استقبال المسلمين للكعبة، وانصرافهم عن بيت المقدس، يعلمون أن الله تعالى سيوجه نبيَّه صلى الله عليه وسلم إليها، حسب ما ورد في كتبهم عن أنبيائهم، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأُمَّته، وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا"؛ [ابن كثير].

ومن أساليب تشكيك اليهود للمسلمين في دينهم ما ورد في سورة آل عمران: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72].

عن ابن عباس قوله: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ﴾ [آل عمران: 72]؛ الآية، وذلك أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلُّوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلم منا، لعلهم ينقلبون عن دينهم، ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ [آل عمران: 73]؛ [تفسير الطبري].

والمستفاد تنبيه المسلمين إلى هذه الخَصلة الماكرة في بني يهود، وهي استغلال كل ظرف ممكن لتشكيك المسلمين بعقيدتهم، وبدينهم، وهذا ديدنهم، وكلما ضعُفت النفوس وركنت إلى الحياة الدنيا، أصبحت مهمة بني يهود سهلةً مُذلَّلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل سُبُل النجاة التزام القرآن والسُّنة، والتمسك بالصلاة إقامة وتقربًا إلى الله، والالتجاء إلى الله في كل حين.

التاسعة عشرة: خوفهم من الموت وفرارهم منه: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243].

وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يُقال لها: داوردان، فخرجوا منها هاربين، فنزلوا واديًا، فأماتهم الله تعالى؛ قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضًا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى، فمرَّ بهم نبيٌّ فدعا الله تعالى فأحياهم، وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام، وقيل سبعة، والله أعلم، قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم، وقيل: إنهم فروا من الجهاد، ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد، فخرجوا من ديارهم فرارًا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد؛ بقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 244]؛ قاله الضحاك؛ قال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إخبارًا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر، خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، ليرَوا هم وكلُّ من خَلَفَ مِن بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر، وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد؛ [تفسير القرطبي].


والمستفاد: جَعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي فرض القتال على المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 244، 245]؛ هذا قول الطبري، وهو ظاهر وصف الآية.

العشرون: نكوصهم عن القتال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246].

في مرحلة من مراحل ضعف الأمة، عندما استُبيحت الأرض، وسُبِيَ الأبناء، وضاع الْمُلك والحُكم، وَجَدَ عِلْيَةُ القوم أو الحكماء من بني إسرائيل - ما نسميهم اليوم أصحاب القرار أو النخبة - أن لا حل لما يعانوه من ظلم وحرمان لاستعادة حقهم في الحكم والملك، إلا بالخروج على عدوهم الذي استباح بيضتهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا الجهاد، أجمعوا أمرهم وقرروا أن أفضل طريقة للخروج إلى القتال هي رصُّ صفوفهم تحت إمرة قائد، يكون لهم ملكًا – وكان حكامهم ملوكًا - ليعقد لهم راية القتال، فاحتكموا إلى نبيهم ليعرضوا عليه الأمر؛ رغبتهم بالقتال شرط أن يكون تحت إمرة ملك، ويبدو أنهم أرادوا ذلك لينعشوا فكرة الملك من جديد في نفوسهم، بعد أن حطمها أعداؤهم العمالقة، وقد يكون في كلمة: ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ﴾ [البقرة: 246] دلالة على بعث بعد مَوَاتٍ دَامَ زمنًا، والله أعلم، ولكن نبيهم كان يعلم الزيغ الذي في قلوبهم، يعلم أنهم كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون، يعلم أنهم يمكن أن ينقضوا كلامهم ويتراجعوا فيه، فاحتاط لذلك، وكان أن عمد إلى إظهار تشككه في كلامهم، والتثبُّت من عزيمتهم، ﴿ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾ [البقرة: 246]، فما كان منهم إلا أكَّدوا عزمهم وإصرارهم على القتال، فالمصيبة كبيرة، وطنٌ سليب، وأبناء عبيد تحت إمرة العدو، ﴿ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ [البقرة: 246]، ولكن تبين أن الخروج من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور ليس أمرًا سهلًا، ففي مرحلة كهذه ينكشف عجز الأدعياء المدَّعِين، ويظهر صدق الصادقين، ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246] من الذي أوفى بالعهد؟ ﴿ قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ الفئة القليلة.

ويذكِّرنا موقفهم هذا بموقفهم من أمر موسى عليه السلام لهم بدخول الأرض المقدسة، كما ورد في سورة المائدة: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ﴾ [المائدة: 22] ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24].

والمستفاد تنبيه من رب العباد لنا، حتى لا نقع فيما وقعوا فيه فنكون مثلهم؛ كما قال تعالى في سورة القتال: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 20].

الحادية والعشرون: المال وليس الإيمان شرط الملكية لديهم: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247].


وبالرغم من أن الملك المختار كان اختياره إلهيًّا، فإنهم اعترضوا عليه، فماذا لو كان بشريًّا؟ هذه مقاييس بني إسرائيل، اعترضوا على ملكهم لأنه ليس سليلَ الملوك، ولا مال عنده ولا عزوة، ولكن الله يؤتي ملكه من يشاء، بسطة في العلم والجسم: العلم الرباني الحقيقي، وليس علم الضحك على الأذقان، علم لا أريكم إلا ما أرى، علم المتاجرة باسم الدين، واستباحة عقول الناس باسم الإله، والقوة الإيمانية والجسدية.

والمستفاد التوضيح للمؤمنين أن شرط القيادة للمجتمع المؤمن لا علاقة له لا بالمال ولا بالجاه، وإنما هو الإيمان وما أُوتِيَ القائد من حكمة من ربه.

الثانية والعشرون: لا يؤمنون إلا بالمعجزات المحسوسة: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 248].


الثالثة والعشرون: تغليب حكم الهوى على أمر الله: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 249].

لما تملك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك، تجهزوا لقتال عدوهم، فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل، وكانوا عددًا كثيرًا وجمًّا غفيرًا، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾ [البقرة: 249]، فهو عاصٍ، ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ﴾ [البقرة: 249]؛ أي: لم يشرب منه ﴿ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ [البقرة: 249] فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشرِبوا من النهر الشربَ المنهيَّ عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم، وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول، وتحصل فيه المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكُّلًا على الله، وتضرعًا واستكانة وتبرؤًا من حولهم وقوتهم، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم؛ [تفسير السعدي].

والعِبرة هي أن يسلِّم المؤمن لأوامر الله تسليمًا مطلقًا دون أن يناقشها من جهة العقل والحسابات البشرية المحسوسة، فلله حسابات تختلف عن حسابات البشر، هؤلاء القوم قاسُوا أمر الله بالمقياس البشري، فكيف يمرون على نهر وهم عطاشى ومقبلون على معركة عظيمة، ولا يشربون منه؟ لا يمكن، لا بد أنهم سيهلكون.

وبهذه العقلية حكَّم هؤلاء فَهمهم القاصر، وجعلوه ندًّا لأمر الله، وانصاعوا إليه، فكان أن حُرِموا الجهاد، وخرجوا من الصف، ولم يكن من شرِب من النهر قليلًا، بل كانوا سواد الجيش، قال السدي: "كان الجيش ثمانين ألفًا، فشرب ستة وسبعون ألفًا وتبقى معه أربعة آلاف كذا قال"؛ [ابن كثير].

الرابعة والعشرون: نظرتهم المادية للنصر والهزيمة: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 249 - 251]، حتى الفئة المؤمنة التي جاوزت النهر مع طالوت، كان منهم من يؤمن بالقوة المادية أكثر من إيمانه بالنصر، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة، فقال بعضهم: كيف نطيق العدو مع كثرتهم؟ فقال أولو العزم منهم: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 249]، قال البراء بن عازب: "كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر؛ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا - وفي رواية: وثلاثة عشر رجلًا - وما جاز معه إلا مؤمن".

والعبرة بطلان معادلة الكثرة والقلة في رجحان كفة القتال، وإرساء قاعدة إخلاص الإيمان والتوكل في استجلاب النصر.

وتختم دروس قصص بني إسرائيل في سورة البقرة بدرس من أهم الدروس التي يتعلمها المسلمون من مسيرة أهل الكتاب.

الخامسة والعشرون: الاختلاف من بعد العلم، من بعد أن جاءتهم البينات، ونزلت عليهم الشريعة والقانون الإلهي، دليل الإرشاد والهداية، فمنهم من آمن ومنهم من استكبر وكفر.

يقول تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253].

ويقول جل جلاله في آل عمران: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [آل عمران: 19].

وفي سورة الجاثية: ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [الجاثية: 17].

وفي البقرة أيضًا: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [البقرة: 213]، وفي سورة الشورى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 14].

وقد حذرنا الله تعالى من هذا السلوك المهلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]، وقال سبحانه: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 30 - 32].

ولكن الله يفعل ما يريد.
سبحانه جل في علاه!


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 21-04-2024, 10:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات مع سورة البقرة (8)

ميسون عبدالرحمن النحلاوي
3- وقفات مع قلب السورة





تابع معالم في سياق السورة، وفيها:
حقيقة السِّحْر، حقيقة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب، مسألة القبلة، مفهوم الأمة الوسط، والْمَعْلَم السادس، توجيهات نفسية في الشدائد والكروب، مسألة الاستعانة بالصبر والصلاة، ومعية الله عز وجل للصابرين.

الْمَعْلَم الثاني: حقيقة السِّحْر، وهذا المعلم من المعالم المميزة لسورة البقرة؛ إذ لم يَرِدْ ذِكْرُ السِّحْر بتفصيله في القرآن الكريم إلا في هذه السورة.


ولما كان هذا الموضوع على جانب كبير من الأهمية في حياة الأمة اليوم التي استشرى فيها السِّحْر بصنوفه وأنواعه، والعياذ بالله، وجدنا أن نتوسَّع في عرضه، وبالله التوفيق.

يقول جل في علاه: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 101 - 103].

بنو إسرائيل هم أبرز من اشتغل بالسِّحْر علمًا وتعليمًا وعملًا: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ [البقرة: 102].

وماذا كانت تتلو الشياطين على ملك سليمان؟ كانت تتلو السِّحْر.

ولكي يبرر بنو إسرائيل اشتغالهم بالسِّحْر المحرَّم، كانوا يتهمون سليمان بأنه ساحر.

جاء في تفسير ابن كثير: "عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصِفُ كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، أخرجه الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها، قال: فأكْفَرَه جُهَّال الناس وسبُّوه، ووقف علماؤهم فلم يَزَل جُهَّالهم يسبُّونه، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102].

وقال سعيد بن جبير: كان سليمان عليه السلام يتتبَّع ما في أيدي الشياطين من السِّحْر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم يقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدبَّت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخِّر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم، قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه، فاستثار به الإنس واستخرجوه، فعمِلوا بها، فقال أهل الحِجا: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر؛ فأنزل الله تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءةَ سليمان عليه السلام، فقال: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102]، وقال محمد بن إسحاق بن يسار: عمَدَتِ الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السِّحْر: من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليقل كذا وكذا، حتى إذا صنفوا أصناف السِّحْر جعلوه في كتاب، ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصَّدِيق للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم، ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل، حتى أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا، فأفشَوا السِّحْر في الناس، وتعلَّموه وعلَّموه، وليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمانَ بن داود، وعدَّه فيمن عدَّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألَا تعجبون من محمد؟ يزعُم أن ابن داود كان نبيًّا، والله ما كان إلا ساحرًا؛ وأنزل الله في ذلك من قولهم: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102]؛ الآية"؛ [انتهى، ابن كثير].

إذًا ليس سليمانُ هو الذي كَفَرَ واتبع السِّحْر، وإنما الشياطين هم الذين كفروا، وهذا - أي كفرهم - واقع منذ أن امتنع أبيهم عن السجود لآدم، ولأن إبليس قد أقسم لربه على غواية ابن آدم: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83]، فقد وجد هو وجنوده من الشياطين في السِّحْر مدخلًا عظيمًا لتحقيق هذه الغواية.

وهكذا أخذ الشياطين على عاتقهم مهمة تعليم الناس السِّحْر.

ومعلوم أن السِّحْر لا يكون إلا باستعانة الإنس بالجن، وكما أن الإنسيَّ الذي يعمل بالجن من صنف الإنس الكافرين، كذلك الجني الذي يتصل به لإنفاذ السِّحْر من جنس الجن الكافرين، والشياطين تشمل الاثنين معًا، وهم خدم إبليس والعياذ بالله.

ويقع الخلاف بين المفسرين في تتمة الآية: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ [البقرة: 102]، فمنهم من يرى أن (ما) هنا نافية، تنفي أن يكون السِّحْر قد أُنزِل على الملكين هاروت وماروت، لكن هذا بعيد عن سياق الآيات التي يُفهم منها بصريح التعبير أنه أُنزل عليهم، وأن (ما) هنا معطوفة على السِّحْر، كما يرى الدكتور فاضل السامرائي، بأنها بمعنى (الذي)، فيكون المعنى: يعلمون الناس السِّحْر والذي أُنزل على الْمَلَكَين ببابل هاروت وماروت، المفسرون الذين اختاروا أن تكون (ما) نافية لتعلم الملكين السِّحْرَ، اعتمدوا على أن الملكين لا يمكن أن يتعلمان السِّحْر ويعلمانه للناس، وأن هاروت وماروت رجلان قاما بتعليم الناس السِّحْر بعد تحذيرهم منه، والمفسرون الذين اعتمدوا (ما) معطوفة على السِّحْر بمعنى الذي يقولون بأن هذين الملكين هاروت وماروت علمهما الله السِّحْر، وأنزلهما للناس فتنةً، لكنهما يحذرون الناس قبل تعليمهم السِّحْر من أن هذا فتنة وكفر: ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102]، فمن أصرَّ على التعلُّم كَفَرَ.

الدافع الأكبر لتعلُّم السِّحْر والدخول في الكفر التفريق بين المرء وزوجه: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ [البقرة: 102]، وهذه غاية ما يتمناه الشيطان في الإفساد بين بني البشر؛ روى مسلم في صحيحه، من حديث الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان لَيَضعُ عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلةً أعظمهم عنده فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: ما زِلْتُ بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئًا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين أهله، قال: فيقرِّبه ويُدنيه ويلتزمه، ويقول: نعم، أنت)).

السِّحْر بين الأسباب والمشيئة الربانية:
ولكن هل ما يحدث بعد إنفاذ السِّحْر يكون بفعل السِّحْر/ الساحر نفسه وتأثيره؟ ﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102]، فيكون الجواب: بالطبع لا.

فلا شيء في هذا الكون يقع إلا بمشيئة الله، ولا شيء يُرفع إلا بمشيئته، لكن شياطين الإنس والجن أسباب لهذا الوقوع أو الرفع، وهذا من تمام الابتلاء لبني آدم، في مجتمعنا، للأسف الشديد، الكثير من الخلط بين المشيئة الإلهية، وسبب النفع والضر، سواء عن طريق السِّحْر أو التقرب للأولياء والدعاء عندهم، ومن تمام الفتنة أن يحصل مراد الإنسان بعد لجوئه إلى هذه الأعمال، فيقع في نفسه أنه لو لم يكن ما فعله صوابًا، لَما استُجيب له، كما أن من ضعف الإيمان اللجوءَ إلى السِّحْر من أجل فكِّ السِّحْر، وهذه فتنة أخرى، أعاذنا الله منها، فقد أجمع أهل العلم أنه من الكبائر، وكلما طال الزمن وتعاظمت الفتن، استشرى وتفشَّى هذا النوع من علاج السِّحْر، وأصبحنا اليوم نسمع به بكثرة أضعاف ما كنا نسمع به منذ سنوات، ولله المشتكى.

ويزيِّن العاملون بالسِّحْر هذا النوع من العلاج المحرَّم للضحية بشتى الألفاظ والعبارات الرحيمة، حتى لَيظن صاحبها أنه على الحق المطلق في اتباع هذا، وأن هذا المفكك لا يعمل إلا بالخير، وهم يعتمدون بذلك على جهل الضحية، ورِقَّة قلبها، وسطحية فَهمها للقرآن.

إن تغيير الاسم من ساحر أو مشتغل بالسِّحْر إلى مفكِّك، لا يغيِّر من حقيقته شيئًا، هي في النهاية طلاسم وشعوذات، لا تدري إلام ستُفضي بك، ولا ننسى أن مستعظم النار من مستصغر الشَّرر.

ولا يغرنَّك ما يستفتح به الساحر من آيات من القرآن، وما يبدأ فيه معك بالجلسات الأولى من نصائح لا تتعدى آيات من القرآن بعدد معين وفي وقت معين، اجعل مرجعك الكتاب والسنة في كل ما يعرِض لك، وتساءل: لو كان في هذا صحة ومصلحة، فلِمَ لَمْ ينصحنا به الرسول الكريم؟

التأثر بالسِّحْر وعلاجه:
السِّحْر لا يقع إلا على ذوي الإيمان الضعيف، البعيدين عن القرآن والذكر، من يعتقدون الخلاص على يد العباد دون رب العباد، فإن كان الله قد وضع لنا الوقاية والعلاج من السِّحْر، فلِمَ نتركه ونلجأ إلى غيره؟

يقول ابن القيم: "من أنفع الأدوية، وأقوى ما يوجد من النُّشرة مقاومةُ السِّحْر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية: من الذكر، والدعاء، والقراءة، فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله، معمورًا بذكره، وله وِرْدٌ من الذكر، والدعاء، والتوجه، لا يخِلُّ به، كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السِّحْر له، قال: وسلطان تأثير السِّحْر هو في القلوب الضعيفة، ولهذا غالب ما يؤثر فيه النساء، والصبيان، والجُهَّال؛ لأن الأرواح الخبيثة إنما تنشَط على الأرواح، تلقاها مستعدة لما يناسبها"؛ [انتهى، ابن القيم].

علاج السِّحْر إذًا آية الكرسي والمعوِّذتان وأذكار الصباح والمساء، والتعلق الدائم بذكر الله، وأن يكون لأحدنا نصيب يوميٌّ مستمر من القرآن، وسورة البقرة للمستطيع: ((اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخْذَها بركة، وتركَها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَةُ؛ قال معاوية: بلغني أن البطلة: السَّحَرة))؛ [أخرجه مسلم عن أبي أمامة الباهلي].

يقول ابن كثير في تفسيره: "فأنفع ما يُستعمَل في إذهاب السِّحْر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك، وهما المعوذتان، وفي الحديث: ((ولم يتعوَّذ المتعوِّذ بمثلهما))، وكذلك قراءة آية الكرسي؛ فإنها مطردة للشياطين".

هل السِّحْر من العلوم المفيدة حقًّا؟
يقول جل في علاه: ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102]، وهذه هي العاقبة، وليس أشد على الإنسان من معرفته بنتيجة أفعاله ومصيره الذي ينتظره بما قدمت يداه، يعملون السِّحْرَ وهم يعلمون أن ﴿ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 102]، لكنه تزيين الشياطين، واتباع الهوى، وتحدي الخالق.

اللهم نسألك العفو والعافية.

اللهم نسألك المعافاة الدائمة من كل سحر وساحر، وشرك ومشرك.

اللهم تولَّانا برحمتك، وارعَنا برعايتك يا أرحم الراحمين.


الْمَعْلَم الثالث: حقيقة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب: اليهود والنصارى:
فالقاعدة الأزلية في علاقة المسلمين مع اليهود والنصارى قاعدة ثابتة إلى يوم الدين: لا يمكن ليهودي ولا لنصراني أن يرضى عن مسلم إلا في حال واحدة؛ وهي أن يترك دينه ويتبع دينهم، أخبرنا بذلك العلي القدير، عالم السر وأخفى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].

والمتأمل في الآية يجد أن المولى جل في علاه قال: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى ﴾ [البقرة: 120] بعموم ليس فيه استثناء، فهو جل في علاه لم يقل: لن ترضى عنك طائفة من اليهود والنصارى، ولم يقل: لن ترضى عنك فرقة من اليهود والنصارى، بل قال: اليهود ولا النصارى عامة.

ثم إنه جل في علاه قال: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى ﴾ [البقرة: 120]، ولم يقل: لم ترضَ، فرضاهم ليس أمرًا صعبًا فحسب، بل أمرًا مستحيلًا ممتنعًا، لن يحصل بحال من الأحوال، لا عن طريق تقديم تنازلات، ولا الإمساك بالعصا من المنتصف، ولا بالمسايرة والمداراة أبدًا، الثمن الوحيد لرضاهم هو أن تنسلخ عن دينك، أيها المسلم.

وبالرغم من أن النصارى واليهود تفرَّقوا مِلَلًا وفِرَقًا متناحرة في كثير من الأحيان، فإن الله عز وجل أجمع هذه الملل في هذه الآية بملة واحدة؛ فقال: ﴿ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، للدلالة على أن ملة الكفر واحدة، وهذا ما شهِد عليه الماضي والحاضر، فمن أجل محاربة الإسلام، تجتمع وتتوحَّد كل أقطاب الكفر والشرك، لتشكِّل قطبًا واحدًا، رايته: دمِّروا الإسلام، وأبيدوا أهله؛ يقول الشوكاني في تفسير الآية: "قوله: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ ﴾ [البقرة: 120] الآية، أي: ليس غرضهم ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليك من الآيات، ويُورِدونه من التعنُّتات، فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون، وأجبتهم عن كل تعنُّت، لم يرضوا عنك، ثم أخبره بأنهم لن يرضوا عنه حتى يدخل في دينهم ويتبع ملتهم، والملة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه، وهكذا الشريعة، ثم ردَّ عليهم سبحانه؛ فأمره بأن يقول لهم: ﴿ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 120] الحقيقي، لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة، والكتب المحرَّفة، ثم أتْبَعَ ذلك بوعيد شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنِ اتَّبع أهواءهم، وحاول رضاهم، وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم، ويحتمل أن يكون تعريضًا لأمته وتحذيرًا لهم أن يواقعوا شيئًا من ذلك، أو يدخلوا في أهْوِيَةِ أهل الملل، ويطلبوا رضا أهل البدع، وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب، وتتصدع منه الأفئدة، ما يُوجِب على أهل العلم الحاملين لحُجَجِ الله سبحانه، والقائمين ببيان شرائعه تَرْكَ الدِّهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء، التاركين للعمل بالكتاب والسنة، الْمُؤْثِرين لمحضِ الرأي عليهما، فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولًا، وأبان من أخلاقه لينًا، لا يرضيه إلا اتباع بدعته، والدخول في مداخله، والوقوع في حبائله، فإن فَعَلَ العالِم ذلك بعد أن علَّمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله، لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة، وجهالة بينة ورأي منهار، وتقليد على شفا جُرفٍ هارٍ، فهو إذ ذاك ما له من الله من ولي ولا نصير، ومن كان كذلك، فهو مخذول لا محالة، وهالك بلا شك ولا شبهة"؛ [انتهى، الشوكاني، فتح القدير].

يقول السيوطي في أسباب نزول هذه الآية: "قول الله عز وجل: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، عن ابن عباس قال: إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قِبلتِهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة، شقَّ ذلك عليهم، وأيِسوا أن يوافقهم على دينهم؛ فأنزل الله هذه الآية"؛ [انتهى، لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي].

يعني: ليست القضية مع اليهود والنصارى قضية القبلة، بل هي أعمق من ذلك، لو أنك - يا مسلم - وافقتهم في قبلتهم، وشاركتهم في بعض شعائرهم، وتشبَّهت بهم في أخلاقهم؛ فهذا كله لن يرضيهم، لن يرضى عنك هؤلاء إلا إذا تركت ملتك واتبعت ملتهم، وفي هذا درس لكثير من المسلمين الآن الذين يظنون أنهم إن وافقوا أهل الكتاب في بعض الأمور، رضُوا عنهم، وكفُّوا أذاهم عنهم.

لذلك كان حوار الأديان أو تقارب الأديان وَهْمٌ، لا يمكن التوصل به إلى أي تقارب حقيقي، ومن أصدق من الله قيلًا؟ والله المستعان.

والله عز وجل يوفر على المسلمين عناء تجرِبة يُحِبُّون أن يخوضوها كل يوم، ويستغرقون فيها، بل ويقنعون أنفسهم بجدواها، وهي قبول تودد اليهود والنصارى، والنزول عند مقترحاتهم، وتصديق أقاويلهم التي يزيِّنوها ويخادعون بها، بل واتخاذهم أولياء وأصدقاء وحتى بِطانة، فيعطيهم المولى النتيجة بكل دقة ووضوح: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، والمخاطب هنا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده.

الْمَعْلَم الرابع: مسألة القبلة:
وبها يفتتح الجزء الثاني، ومعها ينقلنا السياق من ماضي بني إسرائيل إلى حاضرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم:﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142].


قال القرطبي: "قال كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحيَّر، وقال المنافقون: ما ولَّاهم عن قبلتهم، واستهزؤوا بالمسلمين، ثم تختص الآيات أهل الكتاب في هذا الأمر؛ لكثرة ما خاضوا فيه مشكِّكين، فتفضح أمرهم في ما يُسِرُّونه من عِلْمٍ بشأن تحويل القبلة في أنه أمر حق من عند الله: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]".

يقول ابن كثير: وقوله: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 144]؛ أي: واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبةَ، وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِه، وما خصه الله تعالى به، وشرَّفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا؛ ولهذا يهددهم تعالى بقوله: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]"؛ [انتهى].

ومع مسألة القبلة يأتي السياق على واحد من أهم الأسس التي تشكِّل شخصية المجتمع المسلم؛ وهي المفاضلة بين اتباع أمر الله وخشية الناس، فيكون الأمر المطلق: ﴿ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾ [البقرة: 150]؛ يقول عز من قائل: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 150].


المعلم الخامس: مفهوم الأمة الوسط:
قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]؛ يقول ابن كثير: "والوسط ها هنا: الخيار والأجود، كما يُقال: قريش أوسط العرب نسبًا ودارًا؛ أي: خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه؛ أي: أشرفهم نسبًا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولمَّا جعل الله هذه الأمة وسطًا، خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب"؛ [انتهى].

وقال القرطبي: "ولما كان الوسط مجانبًا للغلوِّ والتقصير، كان محمودًا؛ أي: هذه الأمة لم تَغْلُ غلوَّ النصارى في أنبيائهم، ولا قصَّروا تقصير اليهود في أنبيائهم.


وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، قال: عدلًا، قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي التنزيل: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾ [القلم: 28]؛ أي: أعدلهم وخيرهم.


في قوله تعالى: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: لأن تكونوا، ﴿ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143] خبر كان، ﴿ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: في المحشر للأنبياء على أُمَمِهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُدعَى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأُمَّتِه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا؛ فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].

وقالت طائفة: معنى الآية: يشهد بعضكم على بعض بعد الموت؛ كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ((قال حين مرت به جنازة، فأُثْنِيَ عليها خير، فقال: وجبت وجبت وجبت، ثم مُرَّ عليه بأخرى، فأُثْنِيَ عليها شرٌّ، فقال: وجبت وجبت وجبت، فقال عمر: فدًى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة فأُثْنِيَ عليها خير، فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومُرَّ بجنازة فأُثْنِيَ عليها شر، فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن أثنيتُم عليه خيرًا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا، وجبت له النار؛ أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض))؛ [أخرجه البخاري بمعناه]، وفي بعض طرقه في غير الصحيحين: ((وتلا: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]))"؛ [انتهى القرطبي].

وفي نفس السياق يذكِّرنا الله عز وجل بنعمة الإسلام التي أنعمها علينا معشر المسلمين: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151]، نعمة وجب لها الشكر للمُنْعِم، وذكره وتوحيده في كل آنٍ وحين: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].

الْمَعْلَم السادس: توجيهات نفسية في الشدائد والكروب، مسألة الاستعانة بالصبر والصلاة، ومعية الله عز وجل للصابرين:
وهذه المسألة تبدأ بآيات شكر وتنتهي بآيات صبر؛ يقول تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 151 - 157].


الشدائد والكروب أمر مصاحِبٌ لابن آدم منذ أن سكن الأرض، فهو مخلوق متقلِّب بين سراء وضراء، وخير وشر، إلى أن تنقضي حياته، ولا استثناء في ذلك لأحد من البشر، بل إن الأنبياء والصالحين والمؤمنين أشد ابتلاء من غيرهم؛ كما جاء في صحيح الترمذي عن سعد بن وقاص قال: ((قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة، ابتُليَ على حسب دينه، فما يبرَح البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)).


وهذا أمر وضَّحه العلي القدير في قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، لكن الله جل في علاه أكْرَمُ من أن يَكِلَ مَن خَلَقَ إلى الشدائد والكروب لتَفْتِكَ به، فكان أن أخبره بالعلاج الشافي لهمومه وكروبه وابتلاءاته، علاج سهل بسيط على من آمن واتقى: الصبر والصلاة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، فأول العلاج وآخره يقع بين الصبر والصلاة، يصفه الله لعباده للذين آمنوا، لماذا للذين آمنوا تحديدًا؟ لأنه علاج سهل على المؤمنين فقط، صعب على غيرهم، هذا العلاج يستفيد منه مَن آمن قولًا وقلبًا وعملًا بأن علاج الله حق وواقع ومؤثِّر، يطبِّقه خير التطبيق، مِن قلبه لا من أطراف جوارحه.


الصلاة تنفع في إراحة المؤمن حين يقيمها إقامةَ المتذلل لخالقه، المستحضر لقلبه فيها، العارف لمعناها أنها الصلة بينه وبين مالك الملك الخالق، المتصرف بالخير والشر.


والصبر ينفع المتصبِّر، الذي يُوقِن أن الصبر يحتاج إلى إيمان قوي، ويقين راسخ بمعية الله للصابرين، ينفع المؤمن الذي يعلم أن صبره قد يطول ويطول، ومحنته قد تنقضي بحياته، وقد لا تنقضي فيموت صابرًا، لكنه يوقن أن جزاءه سيكون جزاء غير متناهٍ، جزاء بغير حساب: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، فهل من نعمة أعظم من معِيَّةِ الله وحبِّه؟


ولِعِظَمِ منزلة الصبر جعل الله معيته في هذه الآية للصابرين وليس للمصلين: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154]، سبحانك ربي!


ثم يخبرنا الله عز وجل بالابتلاءات التي سيحتاج المؤمن معها إلى هذا العلاج، فأفرد للموت في سبيل الله آية، وللابتلاءات الدنيوية آية:

﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154].


﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].


فالقتل في سبيل الله لا يمكن أن يُرى جزاؤه إلا في الآخرة، ولا يمكن أن يصبر عليه إلا مَن آمن وأيقن بما أعدَّه الله لهذا الشهيد في الآخرة، فكانت بشارة الله عز وجل لأهل هؤلاء الشهداء أعظم علاج لحزنهم وقهرهم على فراق وفقد أحبابهم، فسبحان الكريم، الرحمن الرحيم!

اللافت في السياق القرآني لهذه الآيات أن آيات الصبر هذه تأتي مباشرة بعد آيات الشكر، التي وجَّه الله عباده إليها: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 151، 152]، وكأنه جل وعلا يقدم للابتلاءات التي قد تعتري المؤمنين بأكبر نعمة يستشعرها المؤمن في حياته؛ وهي الإسلام، الذي مَنَّ الله به عليه، فأرسل رسوله له ليعلمه كل ما يضمن النجاة من النار، والخلود في نعيم الجِنان، كي تهون عليه بعدها كل مصيبة دنيوية.

وصفة الصابرين: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، وجزاؤهم: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157]؛ يقول السعدي في تفسيره: "فـ(الصابرين)، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ﴾ [البقرة: 156]، وهي كل ما يُؤلِم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره، ﴿ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 156]؛ أي: مملوكون لله، مُدبَّرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرَّف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد عِلْمُه بأن وقوع البَلِيَّة من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره لِما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجازٍ كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا، وجدنا أجرنا موفورًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظُّنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجع إليه، من أقوى أسباب الصبر"؛ [انتهى].


وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أُعْطِيَ أحدٌ عطاءً هو خير وأوسع من الصبر))؛ [صحيح البخاري].


اللهم نسألك اللطف في القضاء، والصبر على الشدائد.
يتبع...



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 344.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 338.53 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (1.68%)]