قصاصات بيانية في البلاغة النبوية - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858765 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393159 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215585 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18-02-2024, 11:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي قصاصات بيانية في البلاغة النبوية

قصاصات بيانية في البلاغة النبوية
نورة المحسن



مهما تبارى الأدباء، وتنافس الشعراء، وترافع الحكماء أن يأتوا بحديث فيه البلاغة كلها، والمعنى السامي كله، والحقائق واضحة، والفضائل جاذبة، والتعليم نافذ، والوعظ مؤثر، فلن يستطيعوا أن يأتوا بمثل كلام النبوة والفصاحة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ولن يكون أقصى جهدهم في ذلك إلا الاستشهاد بحديثه، والاقتباس من بلاغته، وقد منَّ الله عليَّ بحفظ وقراءة بعض أحاديثه، فأول ما تلقاني منها فصاحتها وحلاوتها، وبلاغة وصدق معانيها، فما زلت ألِجُ في جمالها، حتى خشيت أن يكون ذاك هو غرضي منها لا غير، دون التعلم منها والتأدب بآدابها، ثم ما لبثت أن أدركت أن فصاحتها وظاهرها هو باب وقعها في النفس وسر تأثيرها، وهي صفحة الماء التي لها ما بعدها من انغمار وسباحة ومعارف وأسرار، فمضيت أقلِّب معانيها وأساليبها في نفسي، ومع كل تقليب ونظر انفعالٌ وأثَرٌ؛ لأنها الصدق في كلمة، والحقيقة في فنٍّ، والفن في حقيقة، وصدق من قال:
يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة
حديثُك الشَّهْدُ عند العارف الفهِمِ




ولستُ أدَّعي أني ذاك العارف الفهم، ولكني المسلمة المحبة، والمتأدبة المتذوقة، وبعدُ فإن لحديثه صلى الله عليه وسلم بساطةً ووضوحًا وجزالة، يجعله مفهومًا للعامي والعارف، وهذا الوضوح يجعله متسعًا متراميًا، حظُّ الإنسان فيه ومنتهاه من الإحاطة والشمول والتأثر حظه من الفهم واللغة والبيان والنظر، والإيمان والتقوى، نسأل الله من فضله، ولا عجب، فهو الذي أُوتِيَ جوامعَ الكَلِم.

وإن لم يكن لأحد أن يأتي بمثل حديثه وبلاغته، فعسيرٌ كذلك على كل أحد أن يصف سماتها، أو يفسر سرها، أو يشرح إعجازها، خاصةً على من هم مثلي، فأنا هنا أدع الأمر لعارف خبير، وأديب كبير، يخُطُّ للأمر حدوده، ويقيم أسواره، ويشخِّص حقيقته، أقتبس لكم بعض ما كتبه الرافعي في مقالته المبهرة (السمو الروحي الأعظم)، وهو يتحدث فيها، ويفسِّر بعض ما ألمَّه من سحر هذه البلاغة وخَلَبَهُ من فِتْنَتِها:

فمثلًا يقول هنا عن صفة هذا الكلام وسر عظمته:
"ثم تركت الكلام النبوي يتكلم في نفسي، ويلهمني ما أُفصِح به عنه، فلَكأني به يقول في صفة نفسه: إني أصنع أمة لها تاريخ الأرض من بعد، فأنا أُقبل من هنا وهناك، وأذهب هناك وهنا، مع القلوب والأنفس والحقائق، لا مع الكلام والناس والوقت.

إن ها هنا دنيا الصحراء، ستَلِدُ الدنيا المتحضرة التي من ذريتها أوروبا وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض بنور متمِّمٍ لِما يعمله نور الشمس والقمر".

ثم يصف هذا البيان النبوي وعمله في النفس فيقول:
"كنت أتأمله قطعًا من البيان، فأراه ينقلني إلى مثل الحالة التي أتأمل فيها روضة تتنفس على القلب، أو منظرًا يهُزُّ جماله النفس، أو عاطفة تزيد بها الحياة في الدم، على هدوء وروح وإحساس ولذة، ثم يزيد على ذلك أنه يصلح من الجهات الإنسانية في نفسي، ثم يرزق الله منه رزق النور، فإذا أنا في ذوق البيان كأنما أرى المتكلم صلى الله عليه وسلم وراء كلامه".

ويقول عن الفرق بينه وبين كلام غيره من أدباء وبلغاء الدنيا:
"وليس فيه شيء مما تراه لكل بلغاء الدنيا من صناعة عبث القول، وطريقة تأليف الكلام، واستخراج وضع من وضع، والقيام على الكلمة حتى تبيض كلمة أخرى ... والرغبة في تكثير سواد المعاني، وترك اللسان يطيش طيشه اللغوي يتعلق بكل ما عُرِضَ له، ويحذو الكلام على معاني ألفاظه، ويجتلب له منها ويستكرهها على أغراضه، ويطلب لصناعته من حيث أدرك وعجز، ومن حيث كان ولم يكن، إنما هو كلام قِيل لتصير به المعاني إلى حقائقها، فهو من لسان وراءه قلب، وراءه نور، وراءه الله جل جلاله، وهو كلام في مجموعه كأنه دنيا أصدرها صلى الله عليه وسلم عن نفسه العظيمة، لا تبرح ماضية في طريقها السويِّ على دين الفطرة، فلا تتسع لخلاف، ولا يقع بها التنافر، والخلاف والتنافر إنما يكونان من الحيوانية المختلفة بطبيعتها، أما روحانية الفطرة فمتسقة بطبيعتها، لا تقبل في ذاتها افتراقًا ولا اختلافًا.

فكلامه صلى الله عليه وسلم يجري مجرى عمله، كله دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة وحياة، وإنه يُخيَّل إليَّ وقد أخذت بطُهره وجماله أنَّ من الفن العجيب أن يكونَ هذا الكلام صلاة وصيامًا في الألفاظ".

"فإذا نظرت في هذا الفن فانظره في حديثه، وفي عمله، وفي الدنيا التي ألفها من التاريخ تأليف القطعة البليغة النادرة من الكلام، ورُدَّ كل ما تدبرته من ذلك إلى تلك الروح الجديدة على تاريخ الأرض، فلتعلمَنَّ حينئذٍ أن كل بليغ هو شمعة مضيئة صنعت لها مادة النور نورًا وجمالًا بجانب هذه الشمس التي خُلِقت فيها مادة النور نورًا وجمالًا وحياة وقوة، هناك نور لذي عينين، وهنا النور لكل ذي عينين، وذاك يتخايل كالحلم، وهذا يفصح كالحقيقة، وذلك ضوء من حوله الظلمة دانية، وهذا قد طرد الظلمة عن نصف الدنيا إلى نصف الدنيا، والأول نور بلا روح، والثاني هو روح النور".

ويعزو سرًّا من أسرار سحر بيانه وبلاغته صلى الله عليه وسلم إلى الحال المعروفة التي كانت تعروه عند نزول الوحي عليه، من تفصُّد جبينه عرقًا عند انفصام الوحي عنه، حتى في اليوم الشديد البرد، وثقل جسمه حتى إن فخذه كادت ترض فخذ زيد بن ثابت، حين جلس بجانبه والوحي يتنزل عليه، واحمرار وجهه، وغطيط نَفَسِه وغيرها؛ فيقول الرافعي عن هذه الأحوال:
"فهذه كلها أحوال تصف عمل الدماغ بكل ما فيه من جهد القوى العصبية؛ ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها ويتركها لوعي الروح وحدها، لا يشاركها في هذا الوعي فكر ولا هاجس، ولا يتصل به شيء من حياة الحي، فيتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم وجود آخر غير وجوده المحدود بجسمه وطباعه ودنياه، ويخرج بوعيه من هذه الجاذبية الأرضية إلى ما وراء حدود الطبيعة من قوى الغيب، وبذلك يتلقى عن روح الكون، ثم يُفصَم عنه وقد وعى ما أُوحِيَ إليه ... وإنما نريد أن ندل على أن هذه التهيئة الإلهية لذلك الجهاز العصبي لها أثرها العظيم في فن بلاغته صلى الله عليه وسلم، وبها امتاز عن كل بلغاء الدنيا، فإن الْمُلْهَم من أفذاذ العبقريين على هذه الأرض إنما يبلغ ما يبلغه ببعض هذا الذي رأيت".

وقد كنت قبل أن يمنَّ الله ويفتح عليَّ ويعلمني من حديثه صلى الله عليه ما علمني - أحسب لجهلي أن حديثه من النوع الجزل الرصين البيِّن الرصانة والوقار، الذي ليس فيه من رونق الشعر وعذوبته، وزهو الصور الطبيعية ووَشْيِها، فكان هذا مما يجعلني أبحث عن طرب الكلام وفنه في مكان آخر، ولكن حين أُزيلت الغِشاوة عن قلبي، رأيت في بيانه صلى الله عليه وسلم شيئًا ليس في بيان غيره، شيئًا لا ينقصه، ولكن يميزه ويجعله نسيجَ وحدِه وفنًّا بذاته، ويعلل الرافعي ويبدع في شرح سبب خلو بيانه مما هو موجود عند الشعراء والأدباء؛ فيقول:
"فهذا ونحوه من الفن البديع النادر، وهو مع ذلك لا يأتي في كلامه صلى الله عليه وسلم إلا في مثل ما رأيت، فلا يُراد منه استجلاب العبارة، ولا صناعة الخيال، فيظن من لا يميز ولا يحقق أن خلو البلاغة النبوية من فنِّ وصف الطبيعة والجمال والحب، دليل على ما ينكره أو يستجفيه، ويقول: بداوة وسذاجة ونحو ذلك مما تشبهه الغفلة على جهلة المستشرقين، ومَن في حكمهم مِن ضِعاف أدبائنا، وجهلة كتابنا، وإنما انتفى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لانتفاء الشعر عنه، وكونه لا ينبغي له كما بسطناه في موضعه، فعملُه أن يهدي الإنسانية لا أن يزين لها، وأن يدلها على ما يجب في العمل، لا ما يحسن في صناعة الكلام، وأن يهديها إلى ما تفعله لتسمو به، لا إلى ما تتخيله لتلهو به، والخيال هو الشيء الحقيقي عند النفس في ساعة الانفعال والتأثر به فقط، ومعنى هذا أنه لا يكون أبدًا حقيقة ثابتة، فلا يكون إلا كذبًا على الحقيقة.

ثم هو صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من بلغاء الناس يتصل بالطبيعة ليستملي منها، بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليُمليَ فيها، وقد كانت آخر ابتسامة له في الدنيا ابتسامته للصلاة يتهلل لطهارة النفس المؤمنة وجمالها قائمة بين يدي خالقها، منسكبًا في طهارتها روح النور، وكل إنسان إنما يبدو الكون في عينه على ما يرى مما يشبه ما في نفسه، فكل ما رآه المصلي الخاشع في صلاته يبدو له كأنه يصلي في ضرب من العبادة على نحو من الدين، وكل ما رآه السكران في سكره يكاد يراه متخبطًا يعُربد ما يتماسك".

وأنا هنا أقتبس بعضًا مما لفتني من فصاحته وحديثه صلى الله عليه وسلم، وأشرح سببه، وأصوِّر طريقته، وإلا فاللافت كثير، وبحار المعاني أعمق وأرحب، ولكنه مَبْلَغِي من الفَهم، وحظي من البيان، والله المستعان.

قال صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، لا تتمنَّوا لقاء العدو، وسَلُوا الله العافية، فإذا لقِيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)).

الجنة تحت ظلال السيوف:
أول ما قرأت هذه العبارة غشيني جمال محفوف بجلال ومجد؛ لأني أدركت أن السيوف ليست أدوات الحرب الصقيلة الدقيقة تلك، بل هي الرفعة أو القوة التي تعلو وتعلو معه ظلالها حدَّ أن تصبح الجنة تحت تلك الظلال، فإذا كانت الجنة تحت ظل السيوف، فأحرى بعزِّ الدين والأمن والتمكين وأمجاد الدنيا أن تكون تحت ظلها كذلك، ثم إن في الحديث معنى ثانيًا؛ وهو تصبير المجاهد وتذكيره أن الجنة محفوفة بالمكاره، فهي لأجل ذلك في ظل السيف، وظل الشيء حافٌّ ومحيط به، فالجنة تحت مكاره الجهاد ومقاتله، وأيضًا هو تذكير بأن المكروه للنفس قد يكون خيرًا لها؛ لذلك هي ظلال وفَيْءٌ، والفيء بارد وحافظ من لظَى الشمس، وأيضًا تخبرك هذه العبارة بأن الجنة ثواب الجهاد المبذول القريب الأكيد، كقرب القِطاف من يد المجاهد، فمن أعظم ممن بذل نفسه وهي أعز ما لديه؛ طلبًا لمرضاة خالقه ومولاه؟ وهذا أسلوب نبوي له ما يشبهه في تقرير وتقريب الثواب العظيم للعمل العظيم؛ كقوله عن برِّ الأم: ((الجنة تحت أقدام الأمهات)).

قال صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر - أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس)).

(خير مما طلعت عليه الشمس): وهي عبارة تتكرر في أحاديثه صلى الله عليه وسلم، وفيها من جمال المجاز وشموله وعذوبته؛ فحيثما وجدت الشمس وجدت الحياة، فها هنا الشمول، وهي عبارة توحي بإشراق الحياة ونورها فإغرائها، فإن الشمس حين تطلُع يضيء وجه الوجود، ويغشى الحياة إشراق وبهجة، فيتفاءل الحزانى، وتُنير القلوب، ويُبعَث الأمل، فحتى في هذه اللحظات التي تصبح فيها الفتنة في الحياة أشد وتَقْوَى روح الفرح، الأعمال الصالحة خير منها، خير مما طلعت عليه الشمس، وها هنا الجمال والعذوبة.

قال صلى الله عليه وسلم: ((تكون دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، هم قوم من جِلْدَتِنا، يتكلمون بألسنتنا، فالزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم تكن جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك)).

(ولو أن تعض بأصل شجرة):
هل تخيلتم معي المشهد؟ وكأن تلك الفتن غدت ريحًا صرصرًا تقلع كل شيء في طريقها، وقد تهاوى كل بنيان تأوي إليه، فلم يعد أمامك إلا أن تفرَّ إلى الخلاء مع الوحش والشجر، بل ربما اجتاحتك ريحها هناك، فلم يعد أمامك إلا تستمسك بأرسخ ما هناك، بشجرة، ولو بأضراسك إن ارتخت يداك ورجلاك، ولم يقل شجرة فحسب، بل بأصلها؛ لأنه أثبت وأرسخ ما فيها، أصلها الثابت حيث الجذور الممتدة العنيدة، هل نظرتم كيف تدرج بأحوال التفرد والتثبت هذه كلها وجمعها فقط في هذه العبارة؟!

يخبر صلى الله عليه وسلم كيف كان لقاء جبريل به أول مرة حين نزل عليه الوحي ابتداء بـ"اقرأ"؛ فيقول: ((... فقال: اقرأ،فقاللهالنبيصلىاللهعليهوسلم: فقلت: ماأنابقارئ،فأخذنيفغطنيحتىبلغمنيالجهد،ثمأرسلنيفقال: اقرأ،فقلت: ماأنابقارئ،فأخذنيفغطنيالثانيةحتىبلغمنيالجهد ...)).

(فأخذني حتى غطَّني):
هنا يصف صلى الله عليه وسلم كيف ضمه جبريل ضمة شديدة حتى بلغ منه أقصى ما تتحمله الطاقة البشرية، و(غطني) كلمة واحدة تؤدي المعنى وزيادة، وهي تصور لك وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمه وغشِيَه جبريل، وأطبق عليه من كل جوانبه حتى إنه بذل جهدًا شديدًا لكي يتنفس، ونحن في لغتنا إن أردنا أن نصف ذلك قلنا: "ضمني ضمة شديدة"، أو "ضمني حتى كدت أختنق"، ولكن (غطني) وحدها حَوَتْ ذلك كله وزيادة.

قال صلى الله عليه وسلم: ((ومن أبطأ به عمله لم يُسْرِع به نسبه)).

(ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه):
استعارة البطء والإسراع هنا بديعة، فلما كان النسب خاصة عند العرب كلوحة الطريق الذي تعرف بها هل تتقدم أو ترجع، هل تذهب يمنة أو يسرة، أبعيد أنت أم قريب، فلما كان بهذه المنزلة من القياس والترجيح والجزم، استعار لها لفظة الإسراع، وبيَّن أنه لا قيمة له إن أهوى به العمل.

قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا طلع حاجبُ الشمس فدَعُوا الصلاة حتى تبرز)).


(حاجب الشمس):
لا تحتاج هذه الصورة إلى شرح؛ لأن إبداعها قد طابق واقعه خياله، فلا يذهب الذهن هنا أو هناك في الوصف والتأويل، فهو حقًّا حاجب كحاجب العين يلوح من الشمس أول إشراقها قبل أن يبدو سائر وجهها.

قال صلى الله عليه وسلم: ((ليبلُغَنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يذل الله به الكفر)).


(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار):
الناظر في ألفاظه وأسلوبه صلى الله عليه وسلم يرى حسن توظيف الصور الطبيعية في بيان مدلولات حديثه كما نظرنا في قوله: (خير مما طلعت عليه الشمس)، و(حاجب الشمس)، وغير ذلك كثير مما هو متناثر في أحاديثه، فهنا أيضًا جمال الاستعارة وشمولها؛ حيث ارتسمت لي حين سمعتها سماوات وآفاق قد انبسطت بالليل والنهار يمنة ويسرة، فإن طلع النهار على بلاد خيَّم الليل على بلاد أخرى، فالكرة الأرضية متداولة بينهما لا تستطيع النفاذ من أقطارهما، فلا أظن أن هناك استعارة لبيان سعة انتشار الإسلام أمدَّ وأرحبَ من الليل والنهار، اللذين هما صفة السماء وصورتها.

((غزا نبيٌّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل مَلَكَ بَضْعَ امرأة، وهو يريد أن يبني بها ولمَّا يَبْنِ بها، ولا أحد بنى بيوتًا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنمًا أو خَلِفاتٍ وهو ينتظر وِلادَها، فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: إنكِ مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبِسها علينا، فحُبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت - يعني النار - لتأكلها، فلم تَطْعَمْها ...)).

(لتأكلها فلم تطعمها):
لم أكن أفرِّق بين الأكل والطعم، ولم أكن أعرف أن فرقًا بينهما أصلًا إلا بعد أن قرأت هذا الحديث.


وأيضًا فهناك صور في أحاديثه تحسب أن المعنى والدلالة لا تؤدَّى إلا بها، فكأنها ليست تشبيهات أو ترفًا في اللغة يُستعرض ويُرى بها المعنى فقط، بل إن المعنى لا يتم إلا بها فكأنه خُلِقَ لها؛ وذلك مثل قوله:
((ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحِمى، يُوشِك أن يُواقِعَه)).

((كلُّ الناس يغدو فبايعٌ نفسه فمعتقها، أو موبقها)).


وكذلك تشد انتباه الناظر في السنة بلاغةُ أصحابه صلى الله عليه وسلم ورواة حديثه رضي الله عنهم أجمعين، وبلاغتهم أيضًا تأتي في تلك الصورة البسيطة العفوية الذي قد يزهد بها من لا حظ له من البيان الحق، ولكنها صادقة مترسلة، تسجح من النفس إلى النفس بلا حجاب من تكلُّف أو تشقيق، وجمالها صدقُها، وصدقُها وبلاغتها لا أقول مطابقتها المعنى باللفظ، بل المعنى بالمعنى.

يقول أبو بكر في خبر هجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة أنه كان يحرسه ويترصد، ويكثر الالتفات حوله؛ لكيلا يلحق بهم أحد رضي الله عنه وأرضاه؛ فيقول عن ذلك:
"وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانًا بيدي ينام عليه، وبسطت فيه فروةً، وقلت: نَمْ يا رسول الله وأنا أنفُض لك ما حولك، فنام وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعٍ مُقبِل ...".


(وأنا أنفُض لك ما حولك):
(أنفض) بليغة جدًّا هذه الكلمة هنا؛ فهو لا يكتفي بترصد وجس الطالبين له صلى الله عليه وسلم، بل ينفضهم ويبعدهم عنه، كما تبتعد وتتناثر ذرات الغبار من السجاد بنفضه.

وأيضًا له رضي الله عنه قوله لعمر يوم الحديبية: "أيها الرجل، إنه لَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه"؛ يعني: بغرز رسول الله صلى الله وسلم، و"استمسك بأمره" تعني: تمسك بأمره وتعلّق به واتبعه، كما يتمسك الراكب بركابه حين يدخل قدمه في الغرز المثبت على الرَّحل والسِّرج، فلا يسقط عنه، فلم يَسْتَعِرْ لفظةً تدل على الاستمساك فقط، بل الاستمساك الذي دونه الهَوِيُّ والسقوط، فكذلك هو الغَرْزُ.

وأيضًا انظر إلى تشبيه عائشة خِفَّةَ أداء النبي صلى الله عليه وسلم لركعتي الفجر بقولها: "وكأن الأذان في أذنيه": أي: إنه صلى الله عليه وسلم يسرع في أداء ركعتي الفجر إسراعَ مَن يسمع إقامة الصلاة؛ خشيةَ فوات أول الوقت، ومقتضى ذلك تخفيف القراءة فيهما.

وأيضًا قولها رضي الله عنها حين سُئلت: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ والمراد بالصلاة هنا النافلة، فأجابته: "نعم، بعدما حطمه الناس"؛ أي: بعدما ضعُف بما حمَّله الناس من أثقالهم والاعتناء بمصالحهم، يقال: حطم فلانًا أهلُه، إذا كبِر فيهم، والحَطْمُ: الكسر، والحُطام: ما تكسَّر من اليابس، فما أجمل هذا التعبير وأبلغه!

يقول أنس ابن مالك رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية".

(والشمس مرتفعة حية):
وكأن النهار حياة الشمس وقوتها، ثم حين يحين العصر تبدأ بالأفول ويذبُل لونها ويصفر شيئًا وشيئًا، حتى إذا حان الغروب انطفأت أشعتها وماتت.

وأختم هذا المقالة بما ختم من هو خير مني؛ بالرافعي إذ قال في نهاية مقالته:
"بحسب الدنيا من جمال فنِّه صلى الله عليه وسلم ما يضيف إلى الحياة عظمةَ الأشياء العظيمة، ويدفع الإنسانية في طريقها الواحد الذي هو بين الأب والأم، طريق الأخ إلى أخيه، يكون في الدنيا بين الرجلين كما هو في الدم بين القلبين رحمة ومودة، وبحسبنا من جمال هذا الفن ما يهدي الإنسان إلى حقيقة نفسه، فيقره في الحقيقي من وجوده الإنساني، ويجعل الفضائل كلها تربية للقلب، يكبر بها، ثم يكبر، ثم لا يزال يكبر حتى يتسع لحقيقة هذه الكلمة الكبرى: الله أكبر".


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 61.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 59.94 كيلو بايت... تم توفير 1.65 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]