شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216111 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7832 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 60 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859649 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393988 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 86 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 23-03-2024, 04:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(22)

في أسماء السور ومعانيها

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

باب: في سورة (براءة) و(الأنفال) و (الحشر)
2142. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ، قَالَ: آلتَّوْبَةِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ {وَمِنْهُمْ)} {وَمِنْهُمْ} حَتَّى ظَنُّوا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا . قَالَ قُلْتُ : سُورَةُ الْأَنْفَالِ؟ قَالَ: تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ . قَالَ ألاّ قُلْتُ: فَالْحَشْرُ؟ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ .
الشرح :
الباب العشرون من كتاب التفسير من مختصر الإمام مسلم للإمام المنذري باب في سورة براءة والأنفال والحشر، وإنما جمعها في هذا الباب لورود هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما فيها، وهو حديث سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة .... وهذا الأثر أخرجه الإمام مسلم في آخر كتاب التفسير من صحيحه .
سعيد بن جبير هو الأسدي مولاهم، ثقةٌ ثبت فقيه، تابعي مشهور بالتفسير عن ابن عباس، وهو من المكثرين في الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وابن عباس رضي الله عنهما هو عبد الله، ابن عم النبي [ ، ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وعالم القرآن المتبحر فيه، ببركة دعوة النبي [ : «اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين» .
قال: فقلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة؟ فقال ابن عباس معترضا كالمستفهم أو كالمنكر: «آلتوبة؟! بل هي الفاضحة» أي إن سورة التوبة قد فضح الله سبحانه وتعالى فيها المنافقين، وذلك ببيان صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم، لا بذكر أسمائهم، فسورة التوبة ليس فيها ذكر أسماء المنافقين وذكر قبائلهم، الذين كانوا على عهد النبي [ ، وإنما فضح الله سبحانه وتعالى فيها صفات المنافقين، وأوضح فيها أفعالهم القبيحة التي ظهر منها ما في قلوبهم من الكفر بالله تعالى، والتكذيب لرسوله [ ، وقصد المحاربة للإسلام وأهله.
ولذلك قال ابن عباس في بيان ذلك: ما زالت تنزل{ومنهم} {ومنهم} يعني: ما زالت تنزل الآيات تلو الآيات التي مطلعها {ومنهم} كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (التوبة: 58)، وقوله: {ومنهم الذين يُؤذون النبيَّ ويقولون هو أُذن} (التوبة: 61)، وقوله: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (التوبة : 75- 76)، وغيرها .
قال: حتى ظنّوا، يعني ظن الصحابة، أنه لن يبقى أحد إلا ذكر في هذه السورة ، وهذا من خوفهم رضي الله عنهم من النفاق وأخلاقه، وأن المؤمن الحق لا بد أن يخشى التقصير في حق الله تعالى، والوقوع فيما لا يرضي الله من الأقوال والأفعال.
ولكثرة ما ذكر الله في التوبة من أحوال المنافقين، قال ابن عباس: هي سورة «الفاضحة»؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضح فيها المنافقين، وكشف أستارهم.
وأيضا تسمى سورة «البحوث»، لأنها تبحث عن أسرار المنافقين .
وتسمى أيضا: «المبعثرة» لأنها بعثرت صفوف المنافقين ، وأعلنت الحرب على المشركين.
وتسمى سورة التوبة؛ لأن هذه السورة ذكر الله سبحانه وتعالى في خاتمتها توبته على النبي والمهاجرين والأنصار وذلك بمغفرة ذنوبهم، وتوفير حسناتهم، ورفعت درجاتهم في الآخرة، فقال: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (التوبة: 117)، ثم ذكر توبته على الثلاثة الذي خلفوا: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ...} (التوبة: 118) الآية، فلهذا سمّاها الصحابة بسورة التوبة، وكتبت في المصاحف بهذا الاسم.
ومعلوم أن التوبة منزلة عظيمة من منازل: {إياكَ نعبدُ وإياك نستعين}، وهي منزلة لا يستغني عنها العبد مهما ارتفعت منزلته ودرجته؛ فإن الله تبارك وتعالى ذكرها عن صفوة خلقه، وسادات الناس، من أنبيائه ورسله، فما من نبي في القرآن إلا وقد ذكر الله سبحانه وتعالى توبته واستغفاره، وأول ذلك توبة أبينا آدم عليه الصلاة والسلام وزوجه حواء، في قوله تعالى لما تابا من الأكل من الشجرة: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23)، وذكر ربنا سبحانه وتعالى توبة نوح عليه السلام، وذكر توبة إبراهيم وموسى وهارون ويونس عليهم الصلاة والسلام وغيرهم .
والتوبة منزلة من منازل العبودية، فكل عبدٍ لله فهو تائب، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: قد قسم الله سبحانه وتعالى العباد إلى قسمين، وما ثمَّ قسمٌ ثالث، فقال: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات : 11)، يعني: إما أن تكون تائبا، وإما أن تكون ظالما، لا يوجد قسم ثالث! فالمؤمن تائب، والفاجر مصرٌ ظالم، فالمؤمن حاله كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ} (آل عمران : 135)، فمن صفة المؤمن أنه لا يصرّ على ذنبه، بل يتوب ويندم ويستغفر الله سبحانه وتعالى .
فابن عباس رضي الله عنهما كأنه رأى أن تسميتها بالفاضحة، أقرب من تسميتها بالتوبة؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها أحوال المنافقين ، وفضح فيها أسرارهم.
قوله : قال : «قلت سورة الأنفال؟ قال : تلك سورة بدر» أي إن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها وقائع غزوة « بدر الكبرى « التي حصلت فيها، من لقاء جيش الإيمان بمعسكر الكفر والطغيان، على غير موعد بل بتقدير الله وقضائه؛ ليحقّ الله الحق ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون، وينتقم ممن شاق الله ورسوله شرّ انتقام، كما قال سبحانه: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} .
وذكر في هذه السورة – الأنفال - نزول الملائكة لنصرة الصحابة وتثبيتهم ، ونزول السكينة في قلوبهم ، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ونزول المطر للتطهر به ، ولتثبيت الأقدام، وما حصل فيها من إجابة دعاء المؤمنين، واستغاثتهم بربهم ، وغير ذلك مما جرى فيها .
والأنفال: جمع نفل، وهي الغنيمة، التي نفلها الله تعالى لهذه الأمة من أموال الكفار، وذلك أن غزوة بدر هي الغزوة الكبرى الفاصلة بين معسكر الكفر والإيمان ، التي حكم الله فيها للنبي [ وأصحابه على من ظلمهم وبغى عليهم، ففصل الله سبحانه وتعالى فيها بينهم وبين عدوهم، وغنموا في هذه الغزوة غنائم عظيمة، واختلف فيها الصحابة، في قسمتها وكيف التصرف بها، فأنزل الله تعالى هذه السورة وفي مطلعها: {يسألونك عن الأنفال} أي: الغنائم {قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ} أي: يحكم فيها الله ورسوله [ ، فليس لكم من الأمر شيء {فاتقوا الله} بامتثال أوامره ، وترك زواجره، وطاعة رسوله فيما يأمركم به، {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي أصلحوا ما حصل بينكم من التشاحن والاختلاف، بالتواد والتحاب والتواصل، {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالأنفال التي حصل فيها اختلاف بينكم، بيّن الله سبحانه وتعالى أنها لله والرسول، أي: يحكم الله سبحانه وتعالى فيها ما يشاء، فعليكم السمع والطاعة .
قوله: «قال: قلت: فالحشر؟ قال: نزلت في بني النضير» بنو النضير طائفة كبيرة من اليهود كانت تسكن في المدينة، وهي إحدى ثلاث قبائل هناك، وهي: بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة، وبنو النضير كانوا قد عاهدوا النبي [ لما هاجر النبي [ إلى المدينة، ومن لوازم العهد بينهم: أن يعين بعضهم بعضا في النوائب والحروب والديات، وكان النبي [ قد ذهب إليهم يستعينهم في دية عمرو بن أمية الضمري، فقالوا له: اجلس هاهنا ، ثم زين لهم الشيطان الشقاء الأبدي، بأن يلقوا على النبي [ حجرا من سطح أحد بيوتهم فيقتل، وقال أحدهم: لا تفعلوا، والله ليخبرن رسول الله [؟! أي بالوحي، هو يهودي لكن يعرف أنه نبي الله، فجاء الوحي إلى النبي [ فأخبره بغدرهم ونقضهم للعهد، فعند ذلك قام النبي [ ورجع إلى المدينة وتبعه الصحابة؛ فأرسل إليهم أن يخرجوا من المدينة لأنهم نقضوا العهد، فجاءهم عبد الله بن أبي كبير المنافقين وحرضهم على عدم الخروج، وقال: أنا معكم، ومعي ألفا مقاتل، ومعكم قبيلة غطفان تعينكم أيضا ونحن من ورائكم، فلا تخرجوا، وحرضهم على العصيان، فأبوا أن يخرجوا، فعند ذلك حاصرهم النبي [ ، وحرق بعض نخلهم لتخويفهم وهي البويرة، وألقى الله سبحانه وتعالى الرعب في قلوبهم، كما ذكر في أول سورة الحشر، ثم بعد ذلك نزلوا على الصلح ووافقوا على الخروج، وأذن لهم النبي [ أن يأخذوا ما تحمله إبلهم غير السلاح، فخرجوا من المدينة ، وأجلاهم النبي [ صلحا .
هذه كانت قصتهم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر فقال: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر : 2) .
فخرجوا من المدينة ولولا أن الله كتب عليهم الجلاء لعذبهم كما عذب بني قريظة. وكانت نخل بني النضير لرسول الله غنيمة خاصة، قال تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} (الحشر : 6).
فسورة الأنفال فيها قصة غروة بدر، وسورة الحشر فيها قصة غزوة بني النضير، فإذا أراد المسلم أن يطلع على ما حصل في بدر فليقرأ تفسير سورة الأنفال ، وإذا أراد أن يعلم ما حصل في غزوة بني النضير فليقرأ تفسير سورة الحشر من تفسير الإمام ابن جرير وابن كثير وكذا كتب السيرة وما جاء في الصحيح من أحاديثها.
والله تعالى أعلم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 23-03-2024, 04:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(23)

الصلوات تذهب بالسيئات

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
( سورة هود ) : باب في قوله تعالى: {إن الحسناتِ يذهبن السيئات}.
2143. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ [ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ ! فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، قَالَ : فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ [ شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا دَعَاهُ، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا لَهُ خَاصَّةً ؟ قَالَ : « بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً».
الشرح:
سورة هود وفيها حديث واحد، أخرجه الإمام مسلم أيضا في التفسير باب قوله تعالى: {ِإنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ}، وهو حديث عبد الله بن مسعود الهذلي، وهو أبو عبد الرحمن أحد السابقين الأولين للإسلام، ومضت ترجمته.
قال : « جاء رجل إلى النبي [ «لم يذكر اسمه في الحديث، ومن عادة الصحابة أنهم لا يذكرون الأسماء إذا كان هناك شيء من ذنب أو معصية أو ما أشبه ذلك، فإنهم يلتزمون الأدب الشرعي في هذا الباب فلا يذكرون الأسماء؛ ستراً على أصحابها، وهذا من خلقهم الجميل .
قال : «جاء رجل إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها» قوله : إني عالجت امرأة : يعني : تناولتها واستمتعت بها من التقبيل أو الضم.
«من غير أن أمسها» يعني : من غير أن يحصل هناك جماع أو الوقوع في الزنى الأكبر، وإنما حصل الاستمتاع بالقبلة والمعانقة ونحو ذلك.
قوله : «فأنا هذا فاقض فيّ ما شئت» أي إنه لامته نفسه على هذا العمل المحرم وندم، ومن كمال توبته أنه جاء إلى النبي [ طالباً إقامة الحد عليه، يعني أنه ظن أن هناك حداً يقام عليه بسبب هذا الفعل، فطلب من النبي [ أن يقيم عليه الحد، ويقضي فيه بما يشاء .
قوله : « فقال له عمر : لقد سترك الله، لو سترت على نفسك، فلم يرد النبي [ شيئا» وهذا إقرار من النبي [، ونعلم أن السنة النبوية: قول وفعل وتقرير، فالنبي [ أقرّ عمر ] على قوله : « لقد سترك الله فلو سترت على نفسك» . قال أهل العلم : من ألّم بمعصية أو كبيرة وستره الله، فعليه أن يستر على نفسه، ولا يفضح نفسه، فيقول : فعلت كذا وكذا، كما جاء في الحديث الصحيح: « كلُ أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ً، ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول : عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» متفق عليه .
وهكذا لا يذهب إلى القاضي ويقول : أنا فعلت كذا وفعلت كذا، فأقم حد الله عليّ؛ لأن الله عز وجل قد ستره، فليستر على نفسه، وثبت أيضا أن النبي [ قال : « من ألمّ بشيء من هذه القاذروات، فليستتر بستر الله تعالى؛ فإنه من يُبد لنا صفحته، نقم عليه الحد « .
القاذروات هي الكبائر، يعني: من وقع بشيء من هذه الفواحش، فعليه أن يستر على نفسه، فإنه إن أبدى لنا ما فعله، واعترف على نفسه، أقمنا عليه الحد الشرعي .
فما دام أن الأمر لم يصل إلى القضاء، فإنه لا تقام الحدود، إما إذا وصل الأمر إلى القاضي والحاكم، فعندئذ لا تجوز الشفاعة لإسقاط الحد؛ لأن الشفاعة في حد من حدود الله حرام، ومن حالة شفاعته دون حدّ من حدود الله، أي دون إقامة حدّ من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه، كما قال [ في الحديث الصحيح عند ابن ماجة .
فالحاصل : إذا سترك الله عز وجل فاستر على نفسك، واطلب من الله سبحانه وتعالى المغفرة والعفو والمسامحة، واندم على الذنب، واتبعه بالعمل الصالح، وبقدر ندم المسلم يكون صدق التوبة، وبحسب كراهيته لما فعل، وخوفه من الله وكثرة استغفاره، فكل هذا يدل على صدق التوبة .
ولأن في الستر تحقيقا لصفة يحبها الله تعالى وهي الستر، كما جاء في الحديث : « إن الله حيي ستير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر « رواه أحمد وأبو داود والنسائي .
فربنا عز وجل - كما قال [ - يحب هذه الصفة وهي الستر؛ لأن الستر فيه حماية لسمعة الناس وأعراضهم أولا، وهذا فيه إعانة للعاصي على التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، لأنه لم يعلم به أحد إلا الله، فنسي هذا الذنب ورجع إلى الجادة الصحيحة وتاب إلى الله سبحانه وتعالى، لكن لو أن أحد الناس أذنب ذنبا فوضع اسمه في الجرائد ونشرت صوره، فإن رجوعه عن المعصية يصعب ؟! ويصبح هذا الرجل وكأنه قد قضي عليه، فيقول : ما دام أني عرفت بهذا، فلن أرجع، فتأخذه العزة بالإثم ويستمر في معصيته .
ولهذا فالستر يحبه الله سبحانه وتعالى، وكان النبي [ من هديه أن يقول في خطبه : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ؟! فلا يذكر أحدا باسمه [، وهذا من هديه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأما هذه الجرائد التي لا هم لها إلا الفضائح وأخبار الجرائم، فهذه محرمة لا يجوز بيعها ولا شراؤها، وتوجد للأسف بأسواق المسلمين اليوم جرائد بعضها اسمها : أسرار الناس ؟؟! وبعضها اسمها الجريمة ؟؟! يعني مهنتها الكلام في الجرائم وفضح الناس بالصور وبالمقالات الواسعة، وبالتصريح المخل بالآداب ؟ والمذهب للحياء ؟! فهذا في الحقيقة إعلام يجب أن يُقطع ويقاطع، وأن يحذر منه، والذي يريد أن يتكسب بأعراض الناس ونشر فضائحهم فهذا إنسان ليس عنده من الدين والخلق ولا من الأدب ولا من الحياء من الله عز وجل ما يمنعه عن ذلك، فيريد أن يكسب المال والدراهم من فضح الناس بالصور وبالوقائع وبالأخبار، وربما يكون الخبر صغيرا فيضع عليه التفصيلات والزوائد لأجل أن يروج وأن ينتشر هذا الأمر ؟؟!
وهذا العمل جاءنا من الكفار وصار بعض المسلمين يقلدهم فيه فعندهم الجرائد تجند لصوصا يسرقون صور الناس وأسرارهم باسم الصحافة ؟؟! ربما يصور الإنسان بخلوه، وربما يصور الإنسان ببيته وهو بين أهله ؟؟ ربما يصور الإنسان في وضع هو لا يسمح بتصويره ؟ من أجل ماذا ؟ من أجل أن يكسب شهرة وسبقا صحفيا – زعموا - ومالا سحتا من بيع النسخ، من وراء نشر الفضائح ؟! وكشف العورات ؟!
وهذا كله مما يخالف شريعة الله عز وجل .
وأما إذا عمل الإنسان عملا محرماً مستهترا غير مبال به، كالذي يذنب وهو يضحك بملء فيه، أو يعصي ويستهتر بعباد الله، أو يجاهر بالمعصية، أو يستهزئ بأهل الدّين والصلاح، كل هذا يدل على استهانته بالله عز وجل، قال عز وجل: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الزمر، فلو قدروا الله عز وجل حق قدره، لعظمت المعصية في قلبه .
وقال بعض السلف : لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من تعصي . ولهذا قال بعضهم بهذا الاعتبار : كل المعاصي كبائر .
فالنبي [ لما ذكر له الرجل ما حصل منه سكت عنه، وما ردّ عليه بشيء .
ثم إن الرجل كما جاء في رواية لمسلم : قام مع النبي [ لصلاة العصر، فصلى مع النبي [ وبعد أن صلى العصر انطلق الرجل، فأتبعه الرسول [ رجلا، يعني : أرسل في أثره رجلا، فدعاه وناداه، فلما جاء إلى النبي [ تلا عليه قول الله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود : 114).
وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} اختلف العلماء في طرفي النهار اختلافا كثيرا، وهو من اختلاف التنوع؛ لأن الآية تسع هذه المعاني كلها، وهذا من عظمة كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن سعته ومجده، أن اللفظ الواحد يسع المعاني الكثيرة، فمن أهل العلم من قال {طرفي النهار}: الفجر والعصر . ومنهم من قال: {طرفي النهار} : الفجر والمغرب . ومنهم من قال : الفجر والظهر . وهذه كلها أقوال في طرفي النهار .
وقوله: {وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} قيل : المغرب والعشاء، وبهذا القول تكون الآية قد اشتملت على الصلوات كلها . والزُلف هي الساعات المتقاربة، فالزلف من الليل تشمل المغرب والعشاء .
وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} الحسنات هنا عامة، وأعظمها الصلوات المكتوبة، فإنهن يذهبن السيئات، والصلوات المستحبة أيضا يذهبن السيئات، وقد جاء في الحديث المشهور عند الإمام مسلم أن النبي [ قال : «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء ؟ «قالوا : لا يبقى من درنه شيء، قال : « فذلك مثل الصلوات الخمس، يكفر الله بهن الخطايا» .
إذاً الصلوات الخمس مكفرات عظيمة للذنوب .
وفي الحديث الآخر أيضا في صحيح مسلم : قال الرسول [ : «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر « .
فالحسنات الواجبة والمندوبة على العموم، تكفر السيئات وتمحوها، سواء كانت صلوات أو زكوات أو صدقات، أو أذكار أو أعمال بر وصلة، فكل الحسنات يذهبن السيئات .
وقوله: {يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} قيل : المراد بها الصغائر؛ للحديث السابق: «إذا اجتنبت الكبائر» . وقيل : إنها تكفر كل السيئات، والأول أظهر . إلا إذا انضاف للحسنة التوبة، فإنها تمحو السيئة مهما كانت بالاتفاق.
وقوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي: موعظة للمتعظين والمتذكرين، والذين يتعظون هم أهل الإيمان والتقوى، وأهل الذكر، الذين يذكرون الله تبارك وتعالى فهم الذين يتذكرون بهذا .
قوله « فقال رجل من القوم : يا نبي الله، هذا له خاصة ؟ قال [ : «بل للناس كافة « ، وفي رواية عند أهل السنن : « هي لمن عمل بها من أمتي « يعني أن الحسنات يذهبن السيئات ليست خاصة لهذا الرجل، بل كل فرد من الآمة إذا عمل سيئة فاتبعها بحسنة فإنها تمحوها، كما جاء في الحديث : أن النبي [ قال: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» رواه الترمذي. أتبعها: يعني أن تكون بعدها، حتى لا تكتب عليك السيئة، ولا تصيبك آثار هذه السيئة، والمحو معناه الإزالة والإنهاء، أي: لا يبقى منها شيء بفعل الحسنة .
وقوله في هذا الحديث: « هي للناس كافة» دليل على قاعدة شرعية عند أهل التفسير، ألا وهي : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى هذه القاعدة : أنه إذا نزلت آية في شخص ما من الصحابة، أو عمل عملا ما فنزلت الآية فيه، فلا يعني هذا أن حكم هذه الآية خاص بهذا الرجل، بل الآية وكل الأحكام النازلة إنما تنزل لعموم الأمة، هذا هو الأصل، بل حتى الآيات النازلة في النبي [ هي في الأصل لعموم الأمة، يعني مثلا قال الله سبحانه وتعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق : 1)، الخطاب هنا للنبي [، لكن ليس له وحده بل للأمة المسلمة جميعا ؟
وكذا قوله: {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك...} ثم قال {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
فالخطاب وإن كان في القرآن للنبي [، فليس خاصا به، بل هو خطاب ينفذ منه إلى سائر الأمة؛ لأنه المبلغ عن الله تعالى دينه .
إلا ما دل عليه الدليل بالنص، أو بالقرينة الواضحة، مثل قول الله سبحانه وتعالى في المرأة التي وهبت نفسها للنبي [: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب : 50).
فقوله «خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» دليل واضح على الخصوصية .
وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب : 53)، وهذا نص أيضا على أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج بزوجات النبي [ من بعده، فأيما امرأة مات عنها النبي [ فهي أمٌ لنا، وأم للمؤمنين جميعا، ولا يحل لأحد أن يتزوجها .
فهذه نصوص خاصة بالرسول [ .
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 24-03-2024, 09:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(24)

ويسألونك عن الروح

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : (بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ - وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ - إِذْ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَقَالُوا: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ، لا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَسَأَلَهُ عَنْ الرُّوحِ، قَالَ: فَأَسْكَتَ النَّبِيُّ [ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ : {فَقُمْتُ مَكَانِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً} (الإسراء :85) .
الشرح: الحديث في سورة سبحان، وهي سورة (الإسراء) أي: أنها تسمى بهذين الاسمين، فتسمى بسورة «سبحان»؛ لأنها افتتحت بالتسبيح بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} (الإسراء: 1). وتسمى بسورة «الإسراء» لأن الله تبارك وتعالى ذكر في أولها إسراء النبي [ من مكة ليلاً إلى بيت المقدس، وتسمى أيضا بسورة: بني إسرائيل، لأن الله تبارك وتعالى ذكر فيها بني إسرائيل في أولها، في قوله {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} (الإسراء: 4)
وقد أورد المنذري في هذا الباب حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, وقد رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار .
قال عبد الله بن مسعود: «بينما أنا أمشي مع النبي [ في حرث « حرث ، يعني: في زرع, أو بستان . وفي رواية: «في خرب» والخرب بكسر الخاء وفتح الراء جمع خراب ، أي : دور متهدمة . وأهل الحديث يقولون: إن الرواية الأولى أصوب، ويمكن الجمع بينهما: أنه حرث فيه خرب، أي: بستان فيه دور متهدّمة.
قوله: «وهو متكأ على عسيب يعني متوكئ على عسيب» العسيب: هو جريدة النخل، أي: الغصن الذي يكون عليه السعف .
قوله : «إذ مرّ بي نفرٌ من اليهود ، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح» كان النبي [ قد مر بجماعة من اليهود بالمدينة، فقالوا: سلوه عن الروح، أي: أسألوه عن الروح .
قوله: «فقالوا: ما رابكم إليه؟ «أي: ما دعاكم إلى سؤاله, وقيل معناه: ما الذي شككم فيه حتى احتجتم إلى سؤاله.
قوله: «قالوا لا يستقبلكم بشيء تكرهونه» أي: لا تسألوه عن شيء فقد يستقبلكم بما تكرهون من القول، أو الذّم لكم، أو بيان جهلكم ونحو ذلك .
لكن عتب بعضهم على بعض على عدم السؤال، فاستقر رأيهم أن يسألوه، فقالوا:سلوه .
قوله : «فقام إليه بعضهم فسأله عن الروح».
أي: سألوا النبي [ عن الروح ، يعني: عن ماهيتها وكنهها وعن كيفيتها, يعني: ما هي مادة الروح, وما كيفية سكناها في الجسد؟
قال : «فأسكت النبي [ فلم يرد عليه شيئا» أي: سكت النبي [ فلم يرد على هذا السائل شيئا ، إذ يكن لديه جواب في ذلك ، فصمت منتظراً الوحي من الله تعالى.
قوله: «قال عبد الله بن مسعود: فعلمتُ أنه يوحى إليه قَالَ: فَقُمتُ مَكَانِي» أي: وقف عبد الله لأنه علم من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتنزل عليه الوحي ، بما يظهر من تغير على وجهه .
قوله: « فلما أسري عنه قال» أي: لما ذهب عنه الملك، قال أو تلا قوله: {سبحانه وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الإسراء: 85).
وهذه الرواية فيها إشكال، لأن سورة الإسراء سورة مكية؟ فالإسراء كان بمكة قبل الهجرة بالاتفاق، وهذه الحادثة حدثت بالمدينة، كما هو ظاهر، فمكة لم يكن بها يهود، فكيف تنزل الآية عليه بالمدينة عند سؤالهم، والسورة مكيه؟!
والجواب من أوجه عدة منها:
- أولا: إن قولنا: إن هذه السورة مكية، لا يعني أن كل آية من آياتها نزلت بمكة، لأن هناك بعض السور المكية،0 فيها آيات مدنية، لأن السورة لا تنزل كاملة بل متفرقة كما هو معلوم .
- وجواب آخر: أنه يمكن أن يتكرر نزول الآية أحيانا ، فتكون هذه الآية قد نزلت على النبي [ أولاً بمكة، ثم نزلت عليه مرة أخرى بالمدينة .
- وثالث: أن الوحي نزل على النبي محمد [ يأمره بأن يجيبهم بالآية التي نزلت عليه في سورة الإسراء التي تقدم نزولها عليه، فلا زيادة عليها، فلذلك تلا عليهم قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} .
وقد تكلم العلماء في الروح وأكثروا الكلام فيها, وبعض من جمع الأقوال في الروح وماهيتها بلغ إلى مئات الأقوال، وهذا لا شك أنه من فضول العلم، والقول على الله بغير، وتضيع الزمان فيما لا ينفع، لأن الله تبارك وتعالى صرف العباد عن ذلك، فقال: {وقُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قيل: يعني هي أمر من الأوامر التي أمر الله سبحانه وتعالى بها فكانت ، كما قال: (إنما أَمرُنا إذا أردنا شيئاً أن نقولَ له كُن فيكون) إذن هي من خلق الله تعالى, ومن جملة ما خلق الله سبحانه وتعالى من المخلوقات .
أو المعنى: هي أمر من الأمور الخفية التي اختص الله بها نفسه.
- وقال بعضهم: إن الروح هي الدم الذي يجري في الجسد. وقيل: الروح هي النَّفس والهواء الداخل والخارج. وقيل: الروح جسم لطيف مشارك للأعضاء الظاهرة، فهو جسم يتخلل في جميع أعضاء الإنسان. وقيل غير ذلك من الأقوال، ومن أحسن وأوسع ما كتب في الروح: كتاب الروح للإمام ابن القيم رحمه الله وهو مطبوع .
والروح لغة تذكّر وتؤنث، والصحيح أنها مادة وجسم خلقه الله عز وجل, والدليل على هذا: الحديث الذي في الصحيح: أن العبد المؤمن إذا قبضت الملائكة روحه، أخذتها وحنطتها بحنوط من الجنة، والحنوط: يعني الطيب. وفيه: وكفنتها بأكفان من الجنة ، ثم يصعدون بها .
إذاً هي مادة وشيء يُطيب بالطيب، ويُكفّن ويصعد بها، وإن كنا لا ندري مادتها، لأن الله سبحانه وتعالى ردّ علمها إليه، فقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} .
وما الفرق بين الروح والنفس؟ الجواب: أن الروح لا تسمى نفساً إلا إذا اتصلت بالبدن, وأما إذا كانت مجردة عن البدن فإنها تسمى «روحا».
والنفس لها صفات ذم وصفات مدح، بحسب صفات الجسد، وأفعاله وأقواله، فسماها الله تعالى في كتابه: نفساً مطمئنة, ونفساً لوامة, ونفسا أمارة بالسوء, بحسب أحوالها من الإيمان والإسلام والكفر والفسوق .
وقوله ( قل ) هذا الخطاب عام لجميع الخلق، اليهود وغيرهم، بترك التعنت والسؤال عما لا يفيد ، ولا يترتب عليه عمل .
أو السؤال الذي يراد به التعجيز وإظهار الجهل، وليس التفقه والانتفاع.
ومتى كان كذلك، فإنه يجدر الإعراض عنه وعدم إجابته .
وقيل: بل قد إجابهم الوحي بأنها من أمر الله تعالى .
وفي مسند أحمد: من حديث ابن عباس: {أنها لما نزلت وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء : 85) .
قال اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة, ومن أؤتى التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، قال: {وأنزل الله قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف : 109) .
أي : كيف تقول لنا: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) وعندنا التوراة العلم الواسع؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ}(الكهف : 109).
أي: ما أوتيتم من العلم النبوي بالنسبة لعلم الخالق سبحانه وتعالى هو قليل، أي: وإن أوتي الإنسان حظاً وافرا من العلم، كعلم الأنبياء والمرسلين، والعلماء والأولياء والصالحين، فإنما هو بالنسبة لعلم الله تعالى كالقطرة من البحر، كما في الحديث الصحيح: أن الخضر عليه الصلاة والسلام قال لما أخذ عصفور من البحر بمنقاره، قال لموسى عليه السلام: «ما علمي وعلمك في علم الله، إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر».
يعني: هذه القطرة هي علمي وعلمك من علم الله سبحانه وتعالى الذي هو كالبحر العظيم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 24-03-2024, 09:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(25)

إسلام الجن والخوف والرجاء

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة}
2145. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنْ الْجِنِّ، وَاسْتَمْسَكَ الْإِنْسُ بِعِبَادَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِم الْوَسِيلَةَ}.
الشرح:
باب في قوله سبحانه وتعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (الإسراء:57) وهو الحديث الثاني في سورة الإسراء.
وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في آخر كتاب التفسير.
روى فيه حديث الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه تلا هذه الآية قال: « كان نفرٌ من الإنس يعبدون نفراً من الجن « كان نفر من الإنس، جماعة من كفار العرب من مشركي الجزيرة.
قوله: «كانوا يعبدون نفرا من الجن» يعبدونهم بأنواع العبادة، من دعاء واستغاثة واستعاذة وذبح وغيره، من دون الله سبحانه وتعالى , كما قال الله تعالى عنهم: {وأنه كان رجالٌ من الإنس يَعوذون برجال من الجنّ فزادوهم رهقا} (الجن: 6). أي: يستعيذون بهم ويستجيرون، فكان الرجل في الجاهلية إذا نزل واديا قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه ؟! فيستعيذ بكبراء الجن من السفهاء؛ لئلا يؤذوه، قال تعالى {فزادوهم رهقا} أي: زادوا الجن طغيانا وكبراً وسفهاَ، لاستعاذتهم بهم من دون الله عز وجل.
وقيل: فزادوهم خوفا وأذى وبلاء، على عكس ما كانوا يرجونه منهم من نصرة!
والعرب قبل الإسلام كانوا في أنواع من الضلالات والشركيات، فبعضهم كان يعبد الملائكة، وبعضهم يعبد المسيح عليه السلام، وبعضهم يعبد الشياطين، وكثير منهم يعبد الأصنام والأوثان، وآخرون يعبدون الكواكب، وغير ذلك من المعبودات الباطلة, التي زين لهم الشيطان عبادتها وأضلهم بها عن التوحيد.
قوله « فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنْ الْجِنِّ « أي: أسلم هؤلاء النفر من الجن الذين كانوا يُعبدون من دون الله من قِبل مشركي العرب، لما جاء الإسلام، وبعث محمد [ ، ودعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، أسلم أولئك الجنيون، وتابوا إلى الله تعالى وآمنوا، وذكر الله إسلام الجن في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: {قل أُوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عَجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جَد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا...} (الجن: 1-3).
وكما في سورة الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون الٌقرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين... } الأحقاف، وغيرها من الآيات.
لكن استمر الإنس الذين كانوا يعبدونهم على حالهم وعادتهم، لا يشعرون بهم، ولا يدرون أنهم أسلموا، واستمسكوا بعبادتهم لهم، فنزلت هذه الآية: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (الإسراء: 57).
والآية التي قبلها توضحها وتبينها، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (الإسراء: 56) أي: مهما دعوتم هذه المعبودات الباطلة، فإنها لن تنفعكم ولن تضركم، فلا يملك هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله تعالى على كثرتهم كشف الضر عنكم من مرض أو فقر أو بؤس أو ذلة، ولا يملكون له تحويلا أيضا، أي: أن يحولوا الضر عنكم إلى غيركم، بأن ينقل الضر من هذا الإنسان إلى هذا، أو ينقل المرض من هذا الجسد إلى الجسد الآخر , أو من هذا البلد إلى بلد آخر، وهذا أعجز من الأول وأضعف، يعني الذي لا يستطيع أن ينقل المرض من هنا إلى هنا، أو الوباء من هنا إلى هنا مجرد نقل، فهو غير قادر من باب أولى على رفعه بالكلية من الأرض أو الناس!
ثم قال سبحانه: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم} أي: هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله عز وجل، هم أنفسهم يدعون الله سبحانه وتعالى ويسألونه، ويتقربون إليه، فيبتغون إليه الوسيلة , والوسيلة: هي القربة والعمل الصالح، والتقرب إلى الله تعالى يكون بالطاعات والعبادات، فهؤلاء الذين أنتم تعبدونهم من دون الله، هم أنفسهم يتقربون إلى الله ويعبدونه، ويبتغون ما يقربهم إليه من أنواع العبادات.
{أيهم أقرب} يعني: يتسابقون ويتنافسون يبتغون إلى ربهم القربى والزلفى، {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} وفي هذا بيان أن العبادة لا تتم إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف من الله سبحانه وتعالى تتقى المحرمات، وتترك المنهيات، وبالرجاء يكثر فعل العبد للطاعات والقربات، وقد أمر الله به عباده فقال: {وادعوه خوفاً وطمعا إنّ رحمة الله قريب من المحسنين } (الأعراف: 55).
وقد حكاه الله عن أنبيائه ورسله، فقال بعد أن ذكر جملة صالحة منهم: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} (الأنبياء: 90).
وقال سبحانه مادحا عباده المؤمنين: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي: خائفون، إلى قوله: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون: 57 – 61).
أي: مع طاعتهم وصلاتهم وصدقاتهم، يخافون ألا يتقبل الله منهم لتقصيرهم فيها.
فالإنسان إذا خاف من الله وعذابه، وبطشه وانتقامه، ترك الحرام واجتنبه، وأتقن عمله وأخلص، لينجو مما سبق، وإذا رجا أن يثيبه الله سبحانه وتعالى ويعطيه، وأن يدخله الجنة، طمع وأكثر من الطاعات والقربات.
فالخوف والرجاء إذن: مقامان عظيمان للعبد الصالح في سيره إلى الله عز وجل، فلو تعبد المسلم لله عز وجل بالخوف وحده، ما كان مؤمنا تام الإيمان! فإن مقام الخوف وحده يجره إلى القنوط من رحمة الله والتشديد على نفسه وغيره.
وإذا كان العبد لا يعرف إلا مقام الرجاء، ويتكل على أعماله الصالحة، ولا يلتفت إلى الخوف من الله عز وجل، فإنه سيتساهل بفعل المحرمات، ويدعو غيره إلى ذلك، وربما يمن على الله بعمله.
ولهذا قال السلف: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري – أي خارجي – ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ.
فلا بد إذن من الجمع بين الخوف والرجاء؛ لتتم عبادة الإنسان، واستقامته لربه سبحانه وتعالى على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
وزعم قوم من المتصوفة الجهلة بالكتاب والسنة وحال السلف: أن من عَبَد الله خوفا منه، فهذه عبادة العبيد! وأن من عبده بالطمع، فهذه عبادة التجار! وأما من عبده لحبه له فقط، فهذه عبادة الأحرار!
وهي فلسفة ضالة، لا صلة لها بدين الأنبياء والمرسلين، وتردها نصوص القرآن والسنة النبوية.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 24-03-2024, 09:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر مسلم للمنذري -26

– أعداء القرآن

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

2146. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ : نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ [ (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتَكَ (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) عَنْ أَصْحَابِكَ أَسْمِعْهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا تَجْهَرْ ذَلِكَ الْجَهْرَ (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) يَقُولُ: بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ.

الشرح:
هذا الحديث الثالث في سورة الإسراء .
قال المنذري : باب في قوله تعالى {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء: 110) وقد أورد الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب الصلاة ، وبوب عليه الإمام النووي: باب: التوسط بالقرآن في الصلاة الجهرية والإسرار ، إذا خاف من الجهر مفسدة .
قوله : قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (الإسراء: 110) .
قوله: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ) بصلاتك، أي: بقراءتك .
(وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا) أي: تخفض صوتك بالقراءة، فلا تفعل هذا ولا هذا، فكلا الأمرين محذور، بل لتكن قراءتك بين الجهر والإخفات .
قال ابن عباس: نزلت ورسول الله متوار بمكة.
فالآية مكية إذا، بل السورة كلها - كما قلنا - سورة مكية، ونزول هذه الآية كان ورسول الله [ متوار، يعني: مختفي عن الأنظار، أي إبان دعوة الإسلام الأولى في السر، لأن النبي [ كان يخشى المشركين وبطشهم وأذاهم على نفسه، وعلى أصحابه، لأن الزمن أول الإسلام كان زمن ضعف، وقلة أنصار، وغربة شديدة, كما جاء في الحديث الصحيح: «بدأ الإسلامُ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء» رواه مسلم .
فكان النبي [ بمكة أول الإسلام مستضعفاً هو وأصحابه رضي الله عنهم، فكان إذا صلّى عليه الصلاة والسلام بأصحابه المكتوبة، أو قيام الليل؛ لأنه كان واجباً عليهم أول الإسلام، لقوله سبحانه: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا} الآيات من سورة المزمل .
فكان [ يرفع صوته بالقرآن، ليسمعوا صوته وقراءته، ويأخذوا القرآن عنه، ويحفظوه، ويتدبروه ويفقهوه، ثم ليعملوا به، ثم ليبلغوه غيرهم من الناس، فهو مشتملٌ على دين الله تعالى، وعقيدته ومنهاجه، وأحكامه وآدابه وتوجيهاته، وهكذا كان دأب السلف من الصحابة فمن بعدهم، فليس همهم حفظ الحروف فقط، وتضييع الحدود؟! كما هو حال كثير من قراء اليوم؟!
قوله: «فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ» أي: كان إذا سمع المشركون قراءة النبي [ بأصحابه، سبوا القرآن ومن أنزله؟! وهذا من إلحادهم وكفرهم، وجرأتهم على الله تعالى، وتعديهم على حرماته، وصدهم عن سبيله، وإلا فقد علموا أنه كلام الله تعالى، لكن كان هذا دليل عنادهم ومحادتهم لله، ومعاداتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم[ : {إنّ الذين كفروا بالذّكر لما جَاءهم وإنّه لكتابٌ عزيز لا يَأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد} (فصلت : 40-41).
فمن سبهم له: وصفهم له بأنواع الأوصاف المنفرة، أو المنتقصة من شأنه وعظمته، كقولهم عنه: إنه سحر! وإنه قول البشر! وأنه أساطير الأولين ! وأنه قول كاهن! وقول شاعر! وقولهم: «لو شئنا لقلنا مثل هذا» وغير ذلك مما حكاه القرآن الكريم عنهم في آيات كثيرة، وهم يعلمون كذبه؟!
وكانوا أحيانا يرفعون أصواتهم بالصياح عند قراءة القرآن، لئلا يسمع الناس التلاوة فيهتدون للحق، كما قال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تَسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت : 26) .
فتواصوا فيما بينهم فقالوا أولاً : لا تسمعوا لهذا القرآن، ولا تصغوا إليه، بل أعرضوا عنه، ولا تلتفتوا إليه، ولا إلى من جاء به، وهذا كفر الإعراض عن الحق، وتجاهل بيناته .
قال مجاهد: الغوا فيه، يعني: بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله [ إذا قرأ القرآن، قريشٌ تفعله .
وثانيا: الغوا فيه، أي: أكثروا اللغط واللغو – وهو الكلام الذي فائدة فيه - والأصوات عنده، لئلا يسمعه أحد فيهتدي .
ومن ذلك في زماننا: صد الناس عن القرآن والاهتداء به، بالبرامج الفاسدة، والفضائيات الهابطة، والصور المحرمة، والشهوات المضلة، والأغاني والمعازف، وغيرها مما شاع وذاع في زماننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
بل يعمل ذلك حتى في رمضان شهر القرآن؟! عاملهم الله بما يستحقون .
أو المعنى: أكثروا الكلام في معانيه، واصرفوه عن وجهه الحق إلى المعاني الباطلة، لتصدوا عن الاهتداء به .
وهذا أيضا ما يقوم به أهل البدع والأهواء، بصد الناس عن السنن بما ينشرونه من بدع وضلالات، وتحريف لمعاني القرآن والسنة، وعمل بغير ما كان عليه القرون المفضلة .
وقوله: (لعلكم تغلبون) هي شهادة منهم للقرآن العظيم – والحق ما شهدت به الأعداء – أن الناس لو استمعوا للقرآن وأصغوا له، وفهوا معانيه، لغلبوا، ولاهتدى الناس للحق، وانقادوا للرسول، ودخلوا في دين الله أفواجا، لعظمة كلام الله تعالى، وجماله وجلاله وحلاوته، وأخذه للقلوب بكلماته التامة، وعباراته الرائعة، ومعانيه الرائقة، وأخباره الماتعة، وقصصه الحقة، ومواعظه التي تتصدع لها الجبال، وتتقطع لها الأرض، وإعجاز تشريعاته .
وقد توعدهم الله بعدها، قال ابن كثير رحمه الله: ثم قال الله منتصراً للقرآن، ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفر والإلحاد: {فلنُذيقنّ الذين كفروا عذاباً شديداً ولنَجزينّهم أسوأَ الذي كانوا يعملون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون} (فصلت : 27- 28) .
ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين بخلاف حال الكافرين، فقال: {وإذا قُرىءَ القُرآن فاستمعوا له وأنصتُوا لعلكم تُرحمون} (الأعراف : 204) .
والاستماع غير الإنصات، فالإنصات ترك التحدث أو الاشتغال بغيره .
وأما الاستماع: فهو أن يلقي بسمعه للقرآن، ويحضر قلبه عنده، ويتدبر ما يسمع، فمن فعل هذين الأمرين حين يتلى كتاب الله تبارك وتعالى، فإنه ينال خيرا كثيرا، وعلماً غزيرا، وإيمانا متجددا، وهداية وبصيرة في دينه ودنياه وأخراه .

قوله: {فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ} وهذه مفسده تحصل بالجهر بالقرآن ورفع الصوت به, ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح إذا تعارضتا مع التساوي، أو كانت المفسدة أعظم، ولهذا قال الله تعالى لنبيه وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ .
ويمكنه إذا قرأ بصوت أقل، أن يسمع أصحابه القراءة، ولا يسمع المشركون قراءتك فتحصل مفسدة، وهي سب القرآن، وسب من أنزله ومن جاء به .
وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا أي: لا تسر بقراءتك عن أصحابك، فلا يأخذوا عنك القران ولا يسمعونه .
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً يعني توسط في هذا الأمر لتجمع بين فعل المصلحة ودرء المفسدة.
وهذه قاعدة شرعية عظيمة، يسار على منوالها في الأمور .
وجاء في تفسير ابن جرير: عن التابعي الجليل محمد بن سيرين أنه قال: نبأت أن أبا بكر ] كان إذا قرأ خفض, وكان عمر [ إذا قرأ جهر, فقيل لأبي بكر لم تصنع هذا؟ قال: أنا أناجي ربي، وقد عرف حاجتي. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أنا اطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان - والوسنان يعني النعسان - فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر: ارفع شيئا، وقيل لعمر: اخفض شيئا .
فهذه الآية للمنفرد أيضا, فالمنفرد إذا صلى لا يجهر كثيرا، ولا يسر كثيرا .
أما الإمام : فإنه يقتدي بالنبي [ فيجهر بالصلوات الجهرية، يجهر في صلاة الفجر وفي المغرب وفي العشاء، وفي صلاة الجمعة وفي صلاة العيدين والكسوف وهكذا، فالصلوات الجهرية, يجهر بها اتباعا لسنته.
وأما الصلوات السرية: كالظهر والعصر وصلوات النهار عموما، فإنه يسر بها .
أما إذا كان لوحده منفردا: فإنه كذلك يقتدي بالنبي [، فيجهر في الجهرية، ويسر في السرية، وأما صلاة الليل فهو مخير فيها بين الجهر والإسرار، هكذا هدي النبي [ .
وهذه الآية دليل أيضا على التوسط في الأمور, والله تعالى: {يقول وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة : 143)، فإذا كان المبالغة في الأمر تؤدي إلى مفسدة، فإنها تترك، ويؤخذ بما هو أقل منها، حتى تندفع هذه المفسدة .
والله تعالى أعلم

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 26-03-2024, 05:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(27)

الوزن يومئذ الحقّ

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
سورة الكهف: باب: في قوله تعالى: {فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزنا}
2148. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَؤُوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} الكهف: 105 .
الشرح: باب في قوله تعالى {فلا نُقيمُ لهَم يومَ القيامة وزناً} وهي الآية الخامسة بعد المائة من سورة الكهف، وقد روى فيها الإمام مسلم الحديث في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار.
قوله: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي [ قال: « إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة « إنه سيجاء بالرجل العظيم، أي أنه كان معظّما معروفا في الدنيا لمنصبه وجاهه، أو لعشيرته وعائلته، أو لماله وغناه، وسمينا وهذا السمن يدل على الترف والغنى والكفاية، والتوسع في المطاعم والمشارب، وهي صفة مذمومة، كما ورد أنه في صفة الذين يأتون بعد القرون المفضلة الثلاثة: «ويظهر فيهم السّمن؟!» رواه مسلم .
إلا أنه إذا جيء به في ذلك اليوم الذي تتكشف فيه الحقائق، وتبلى فيه السرائر، والوزن فيه الحق، لا يعدل عند الله عز وجل شيئا، ولا يزن مقدار جناح بعوضه ؟!
قال الإمام النووي رحمه الله: أي: لا يعدل في القدر والمنزلة جناحها، أي: لا قدر له عند الله سبحانه . والعرب تقول: فلان عندنا وزن، أي: لا قيمة له، هذه الكلمة تدل على خسته وأنه لا قيمة له.
قال تعالى عن ذلك اليوم: {ونَضعُ الموازينَ القِسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفسٌ شيئا وإنْ كانَ مثقالَ حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء: 47).
وقال سبحانه {والوزنُ يومئذٍ الحقّ فمن ثَقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خَسروا أنفسهم في جهنم خالدون تَلفحُ وجوههم النار وهم فيها كالحون} المؤمنون: 102-104 .
وهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بأنهم لا قَدر لهم عنده، ولا منزلة ولا وزن، سبق الكلام عن صفاتهم في الآيات التي قبلها، حيث يقول الله عز وجل {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} (الكهف: 103) أي: هل ننبئكم بأخسر الناس أعمالا، وأكثرهم ضلالا {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 104) الذين ضلّ سعيهم يعني: بطل سعيهم، وضاعت حسنات أعمالهم التي كانوا يعملونها في الحياة الدنيا سدى، واضمحلت، وهم يحسبون أنفسهم أنهم يحسنون صنعا.
وقد اختلف السلف رحمهم الله فيهم: من هم ؟ فقال بعضهم: هم اليهود؛ لأنهم يظنون أنفسهم على حق وصواب، وطائفة قالت: هم النصارى. وأخرى قالت: هم رهبان النصارى الذين انقطعوا عن الناس في الصوامع، وفي الديار وتفرغوا لعبادة الله عز وجل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهم في حقيقة الأمر ليسوا على شيء؟! بل هم على عبادات باطلة مبتدعة، كما قال الله {ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم} (الحديد: 27).
وقال بعض السلف: هم أهل الأهواء والبدع، كالخوارج والرافضة والقدرية والجهمية وأشباههم، الذين يظنون أنهم على الهداية والحق وعلى الخير، وأن غيرهم على الباطل! وهم في حقيقة أمرهم على غير ذلك؛ لأنهم قد ضل سبيلهم، وانحرف تفكيرهم.
والناظر في هذه الآية يجد أنها يمكن أن تفسر بجميع هؤلاء؛ لأن الآية تشمل كل من ضلّ سعيه في الحياة، وتعم كل من بطل عمله، وضاع عمره في عبادات مبتدعة باطلة، ومناهج فاسدة، أو في دين باطل منسوخ؛ لأن الإنسان المبتدع يرجو من وراء عمله الثواب والحسنات، وهو في الحقيقة يكتسب السيئات؛ لأن النبي [ يقول في الحديث الصحيح: « مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ» متفق عليه . و«ردٌ» بمعنى مردود عليه يوم القيامة فلا يستفيد منه شيئا، مع أنه كان يحسب في الحياة الدنيا أنه يحسن صنعا، أنه محسن، وغيره ليس كذلك ؟! وهذا يدل على أنه مغترٌ بما هو عليه، قد أضله الله عز وجل؛ ولذلك رأى القبيح حسناً، فرأى السيئة حسنة، ورأى الحسن سيئاً، فانعكست فطرته، وانقلبت موازينه؛ ولهذا فسد رأيه .
ثم قال عز وجل في بيان صفاتهم أيضا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} (الكهف: 105) أي: هؤلاء هم الذين كفروا وكذّبوا بآيات ربهم، سواء كانت آيات كونية خلقها الله في الآفاق يرونها بأبصارهم، أو آيات سمعية مما يتلى عليهم من الآيات البينات التي جاءت بها الرسل، فهم قد كذبوا بآيات ربهم كلها، كما كذبوا بلقائه، يعني: كذّبوا بالبعث والنشور والقيامة {فحبطت أعمالهم} حبطت أي: هلكت وضلت واضمحلت وفسدت {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: 105) يعني: ليس لهم عندنا قدرٌ يوم القيامة ولا منزلة، ولا نعبأ بهم، بل هم يوم القيامة لا وزن لهم البتة لحقارتهم .
وهذا الحديث فيه فوائد منها:
أن الميزان حقٌ يوم القيامة، وهو من عقائد أهل السنة والجماعة، وفيه نصوص كثيرة .
وأن يوم القيامة هو يوم الوزن الحق، كما قال سبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: 47).
فموازين يوم القيامة قسط وعدل لا ظلم فيها ولا جور .
والميزان تارة توزن فيه الأعمال، وتارة يوزن فيه الأشخاص، وتارة توزن فيه الصحائف .
والحديث يدل أيضا: على أن بعض الناس يوضع في الميزان يوم القيامة بشخصه، فلا يزن عند الله حتى جناح بعوضة؛ لحقارته وخسته، وهذا التمثيل بجناح البعوضة لأنه لا وزن له ولا قيمة تذكر، وهذا لأنه كفر بالله وآياته وكتبه ورسله وبالبعث وما أشبه ذلك، فكما نسي الله في الدنيا ولم يبال بدينه وشريعته، كذلك يكون حاله في الآخرة .
في حين أن بعض الصالحين يزن عند الله الجبال، كما جاء في حديث الإمام أحمد: أن الصحابة ضحكوا من دقة ساق ابن مسعود رضي الله عنه فقال صلى الله عليه وسلم: «لم تضحكون ؟ قالوا: لا والله يا رسول، ولكن لدقة ساقيه، فقال [: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل عند الله في الميزان من جبل أُحُد».
فهذا وزن الأشخاص هناك، أما وزن الأعمال: فكقول النبي [: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» متفق عليه. هذا وزن للأعمال .
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: «أثقل شيء في ميزان المؤمن خلقٌ حسن» رواه الترمذي والبخاري في الأدب .
أما الثالث: فهو وزن صحائف الأعمال: وفي هذا حديث صاحب البطاقة الذي ينشر له يوم القيامة تسعة وتسعون سجلا، كل سجل كمد البصر، ويؤتى ببطاقة ُكتب عليها: لا إله إلا الله، فتوضع البطاقة في كفة، والصحائف في كفة، فتطيش السجلات، وثقلت البطاقة.
وفي الحديث: أن الإنسان لا ينبغي له أن يغتر بالصور والأشخاص والأجسام، وإنما ينظر إلى المعادن والقلوب، وإلى الأقوال والأعمال، فرب شخص عظيم في بدنه، أو معظم عند قومه، وهو لا يزن عند الله جناح بعوضه، فليحذر الإنسان من ذلك، وكان بعض السلف يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أكون في نفسي عظيما، وعندك حقيراً! فعلى الإنسان أن يحذر أن يكون معظما في الناس، وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة، فالواجب أن ينظر إلى أسباب الوزن الحقيقي، وسبب ثقل الميزان يوم القيامة من الإيمان والعمل الصالح، وحسن الخلق والاستقامة، والإتيان بما يحب الله عز وجل من الأقوال والأعمال .
وفي الحديث: ذمٌّ للسمن الذي ينتج عن الإسراف في المطاعم والمشارب، والإخلاد للكسل، وقد ذمّ الله سبحانه وتعالى في كتابه المترفين، الذين يبالغون في الترف {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} (الواقعة: 45) وهذا وصفٌ لهم أنهم بالغوا في التنعم، واخلدوا إلى الدنيا حتى شغلهم ذلك عن الطاعة، وإذا شغل النعيم والنعمة عن الطاعة فهذا أمر مذموم؛ لأن النعمة إنما خُلقت ليستعين بها الإنسان على طاعة الله عز وجل؛ فإذا اشتغل الإنسان بها عن طاعة الله، أو شغلته النعمة عن طاعة الله، فهذا يكون قد وقع في أمر مذموم محرم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 26-03-2024, 05:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم –

28 – يوم الحسرة

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى {وأنذرهم يوم الحسرة} (سورة مريم: 39)
2149. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: « يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ - زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَاتَّفَقَا فِي بَاقِي الْحَدِيثِ - فَيُقَالُ: يَأَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَأَهْلَ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ. قَال: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَأَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَأَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ [: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا.
الشرح: أورد الإمام المنذري في تفسير سورة مريم حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عند ذكر قوله تبارك وتعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} (مريم: 39) وهي الآية التاسعة والثلاثون من سورة مريم.
والحديث رواه البخاري أيضا.
وأبو سعيد الخدري اسمه: سعد بن سنان بن مالك الأنصاري الخزرجي، والخدري نسبة إلى بني خدرة، وهو ممن قد روى فوق الألف حديث عن النبي [، وهم سبعة من الصحابة، كل منهم قد روى فوق الألف، وهم: أبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وابن عمر وجابر وأنس وعائشة رضي الله عنهم، فهؤلاء سبعة كل واحد منهم روى فوق الألف، على تفاوت بينهم، فمنهم من روى ألفا، ومنهم من روى ألفين، ومنهم من روى ثلاثة آلاف، وأكثرهم رواية هو الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه؛ إذ بلغت مروياته أكثر من خمسة آلاف حديث رضي الله عنه؛ ولهذا استهدفه أعداء الإسلام بالنقد والتشكيك، والاتهام بالكذب، قديما وحديثا، ليسقطوا مروياته وأحاديثه التي رواها، فيهدموا جانبا عظيما من الإسلام، ويعطلوا أحكامه.
قوله: قال رسول الله [: « يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح « أي: يؤتى بالموت الذي ذاقه العباد سابقا في الدنيا، على هيئة كبش، وهو الذكر من الغنم، ومعلوم أن الموت عرض وليس بجسم، إنما هو شيء يقدّره الله عز وجل يقوم بالأجسام، فكيف يكون جسدا يوم القيامة كهيئة الكبش؟!
والجواب أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وهو قادر على قلب الأعراض أجساما يوم القيامة وقبل القيامة، ولهذا الأمر أمثال في الأحاديث النبوية؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح: أن حُسن الخلق – وهو شيء معنوي – أثقل شيء في ميزان العبد، أي إنه يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، ويثقل به ميزان حسناته.
وأيضا: جاء في الحديث الصحيح: عن ابن عمرو مرفوعا: «أن الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان» رواه أحمد وغيره.
والصيام والٌقرآن ليسا بأجسام كما هو معلوم.
وكذا حديث: « يأتى القرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلتان من طير صواف، تجادلان عن صاحبهما « رواه مسلم. وحديث: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان» وحديث «كلمتان خفيفتان على اللسان.. ثقيلتان في الميزان».
وغيرها من الأحاديث الكثيرة.
إذن: الله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يجعل هذه الأشياء المعنوية أجساماً، تتكلم وتتحدث يوم القيامة وتجادل وتشفع، وليس ذلك على قدرة الله سبحانه وتعالى ببعيد، وفي هذا الحديث: أن الموت يجاء به يوم القيامة، كأنه كبش أملح.
قال أهل العلم: وهذا دليل على أن الموت مخلوق.
وأيضا بدليل قول الله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (الملك: 2) فهذا دليل على أن الموت خلقٌ يخلقه الله عز وجل في المخلوقات، كما أن الحياة خلقٌ يخلقها الله سبحانه وتعالى في الأحياء، وهذا يقودنا إلى الكلام على معنى « الخلق « الذي نستفيده من اسمه سبحانه وتعالى « الخالق البارىء المصور « فالخلق في لغة العرب على معنيين:
المعنى الأول: الإنشاء والإبداع والإيجاد، كما في قوله تعالى: {خلقكم مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} (الحج: 5)، وقوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) فهذا إيجاد وإبداع، فخلق الذكر والأنثى، وخلق السماوات والأرض، وكله إيجاد وإبداع للأشياء، بلا عدد يحصى.
أما المعنى الثاني للخلق: فهو التقدير للأشياء، قال تعالى: {وخلق كلّ شيء فقدره تقديرا}. وهذا المعنى كما في قوله عز وجل {وتخلقون إفكا} يعني: تقولون كذبا، وفي قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (ص: 7) يعني: كذب وافتراء.
فما قدّره الله سبحانه وقرّره ورتّبه في الأزل أن يقع في الوجود، يقع كما قدره الله عز وجل، بالتقدير الذي كتبه الله تعالى سابقا، لا يتخلّف أبدا لا في الزمان ولا في المكان، ولا في الشكل والصورة وغيرها، فيكون الخلق هنا معنويا، وليس بمادي.
وقوله: « على هيئة كبش أملح « الأملح قيل: هو الأبيض، وهو قول القاضي أبي بكر ابن العربي.
وقال الكسائي: هو الأبيض فيه سواد، وبياضه أكثر.
قوله: «فيوقف بين الجنة والنار» أي: هذا الكبش يوقف في مكان بين الجنة والنار، ويراه الجميع.
قوله: «ثم ينادى فيقال: يأهل الجنة، هل تَعرفون هذا؟ فيشرئبون» يشرئبون أي: يرفعون رؤوسهم وأبصارهم للمنادي.
ثم يقولون لمن يناديهم: هل تعرفون هذا؟ يقولون: نعم هذا الموت» وفي رواية: «وكلهم قد رآه» كما قال الله تعالى: {كل نفسٍ ذائقة الموت}.
قوله «ويقال يأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت. قال: فيأمر به فيذبح « أي: يؤمر بهذا الكبش الأبيض فيذبح بين الجنة والنار، والجميع ينظر إلى ذلك.
قوله: «ثم يقال يأهلَ الجنة: خلودٌ بلا موت، ويأهلَ النار خلودٌ فلا موت « يقال لأهل الجنة والنار: خلود فلا موت، لأن الموت قد ذُبح وفني وانتهى أمره، وانقضى زمنه المقدر له بحكمة الله وعلمه.
وهذا فيه تصريح ببقاء الجنة والنار، ودوامهما أبدا، وأنهما لا تفنيان ولا تبيدان، وكذلك أهلهما وأصحابهما خالدون فيهما أبدا، لا يجري عليهم الفناء ولا الزوال.
هذا قول أهل السنة والجماعة قاطبة، والمشهور عن أهل العلم والتفسير والحديث والفقه، لا اختلاف بينهم فيه، بأن أهل الجنة خالدون مخلدون فيها، لا يخرجون منها أبدا، ولا يرغبون في الخروج مما هم فيه من النعيم المقيم، كما قال الله سبحانه: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جناتُ الفردوس نزلاً . خالدين فيها لا يبغون عنها حِولاً} الكهف حولا: أي تحولا عما هم فيه. وقال عن نعيمهم: {عطاء غير مجذوذ} (هود: 108).
وأن أهل النار خالدون فيها أيضا، لا يخرجون منها أبداً، وأهلها المقصود بهم: هم أهلها من الكفار والمشركين، وليس العصاة من الموحدين؛ لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة الكثيرة: أن عصاة الموحدين يخرجون من النار بعد أن يعذبوا فيها مدة، على قدر ذنوبهم ومعاصيهم، فإنهم يخرجون منها بعد ذلك بشفاعة النبي [ وشفاعة المؤمنين والملائكة وغيرها.
وإما أهلها الذين هم أهلها، فهؤلاء الذين صرح القرآن بأنهم خالدون فيها أبدا، فقال تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: 81).
ومنها قوله سبحانه: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 167)، وقوله {ولهم فيها عذاب مقيم}. وقال {لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف: 40).
وقال {وما هم منها بمخرجين} (الحجر: 48).
وقوله سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} (الحج: 22). وخالف في هذه المسألة طائفتان: الطائفة الأولى: الجهمية، فقد قالوا: الجنة والنار تفنيان بعد مدة! ولهم قول آخر أيضا مضحك يقولون: إن أهل الجنة تفنى حركتهم وتبقى أشخاصهم! الحركة تفنى ويبقى الشخص، فالذي يرفع لقمة ليأكلها تظل لقمته مرفوعة أبدا! وهكذا!
والطائفة الثانية: قول ينسب لبعض الصحابة كعمر رضي الله عنه ولم يثبت عنه، وبعض أهل العلم، ويروى مرفوعا ولا يصح، وهو: أن النار تفنى بعد مدة طويلة دون الجنة؟ ولهم في ذلك بعض الأدلة، كقوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (النبأ: 23) فقالوا: الأحقاب السنون الطويلة ثم تنتهي، وقوله سبحانه: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} (غافر: 7).
وقالوا: النار موجب غضبه سبحانه، لكن رحمة الله تغلب غضبه!
وهذا القول ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولم يصرح به، لكن ذكره في بعض كتبه ذكراً ولم يتعقبه بقول قوي، فعدّه بعض الناس قولا له، والحقيقة أنه ليس قولا له على الراجح.
وقد ردّ أهل السنة والجماعة هذا القول بالأدلة الكثيرة السابقة، ومن أجمع ما كتب في الرد على من قال بفناء النار كتاب « كشف الأستار في الرد على القائلين بفناء النار» للإمام الصنعاني الأمير.
وللشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب كتاب « أضواء البيان « ردٌ له ضمن مجموع مباحثات علمية له، ذكر فيه أكثر من خمسين آية محكمة صريحة من القرآن، تدل على أن النار لا تفنى ولا تخمد، منها ثلاث آيات صرّح الله سبحانه وتعالى فيها بأنهم {خالدين فيها أبدا} وغيرها من الآيات الكثيرة.
وجاء في رواية أخرى للحديث للإمام مسلم أنه: إذا نودي وقيل يأهل الجنة خلود فلا موت، ويأهل النار خلود فلا موت، فإن أهل الجنة يزدادون فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم « وذلك أن أهل الجنة إذا أخبروا أنهم باقون في هذا النعيم، وفي هذه اللذات العظيمة التي يشعرون بها، والراحة والسكينة والسعادة التي لا توصف، واجتماعهم بالأهل بالبقاء معهم أبدا، لا يموتون ولا يمرضون ولا ينصبون ولا يحزنون، فإنهم يزدادون فرحا إلى فرحهم.
وأما أهل النار - والعياذ بالله تعالى – فإنهم إذا أخبروا بالخلود في النار، فإنهم يزدادون حزناً إلى حزنهم، وغماً إلى غمهم؛ لأنه لا خروج لهم أبدا، ولا تحول عنها ولا تخفيف، لا الآن ولا في المستقبل، بل هو عذاب سرمدي أبدي، والعياذ بالله تعالى من ذلك.
قوله « ثم قرأ رسول الله [ قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} (مريم: 39) « يَوْمَ الْحَسْرَةِ هذا اسم من أسماء يوم القيامة، وسمي بيوم الحسرة؛ لأن أهل النار من الكفار والمشركين، والعصاة المفرطين في الإيمان والأعمال الصالحة، يتحسرون حسرة عظيمة ذلك اليوم؟! ويندمون ندامة كبرى، وأي حسرة أعظم، وأي ندامة أكبر، من فوات رضا الله تعالى عنهم، ومن فوات جنته ونعيمة، ومن بقائهم في النار والجحيم على وجه لا يمكن لهم به الخروج عنها، ولا الرجوع للدنيا لاستدراك ما فاتهم؟! فلا يوجد حل ولا خلاص، وليس هناك فرج ولا شفاعة لأحد، فلا أحد ينصرهم ولا يدفع عنهم، فهذا كله سبب في أن تتقطع قلوبهم حسرات، والعياذ بالله تعالى.
أما أهل الجنة فهم في عافية من ذلك، وإن كان قد ورد في الحديث أنهم يتحسرون على الأوقات التي مرت بهم في غير طاعة الله تعالى، فقد روى الطبراني والبيهقي في الشعب: عن معاذ رضي الله عنه مرفوعا: «ليس يتحسّر أهلُ الجنة على شيء، إلا على ساعةٍ مرّت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها».
وهو حديث صححه جماعة من أهل العلم، منهم العلامة الألباني رحمه الله ، وإن كان قد ضعفه بعضهم، فقالوا: إن الحسرة نوع من الألم، وأهل الجنة منزهون عن ذلك.
لكن لا يلزم من قوله [: « لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لا يذكرون الله تعالى فيها « أن يكون ذلك بألم وعذاب، لكن المعنى أن أهل الجنة وجدوا آثار الأعمال الصالحة، وفضلها في رفعة الدرجات، وزيادة النعيم، فقالوا: يا ليتنا استزدنا من العمل الصالح، وشغلنا أوقاتنا بذكر الله تبارك وتعالى.
فالآية على هذا تدل على أن الجميع يتحسرون؛ فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن يتحسر على عدم استكثاره من الخير واستزادته.
وقوله: {إذْ قُضي الأمرُ} قضي الأمر، أي: لا عمل ذلك اليوم ولا إيمان، بل حساب ولا عمل؛ فإن زمن العمل قد انتهى وولى، فقضي الأمر، وطويت الصحف، وصار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.
{وهم في غفلة وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: هم في الدنيا في غفلة وذهول ولهو عن هذا كله، هم عن هذه المعاني في غفلة، ولذا َفهُمْ لَا يُؤمِنونَ ولا يعملون.
ولهذا واجب علينا أن نذكر الناس جميعا بمثل هذه المواعظ العظيمة القيمة التي حواها كتاب الله العزيز، وما أكثرها وما أعظمها، حتى قال بعض السلف: كفى بكتاب الله واعظا، أي: إذا أردت أن تعظ الناس فعليك بتلاوة كتاب الله عليهم، والتدبر لآيات القرآن، والنظر فيها، فقراءتها على الناس وشرحها لهم وتفسيرها، كفى بها واعظا ومذكّرا ومخوّفا، ومن لم يتعظ بالقرآن وبكلام الله، وبما جاء فيه من هذه المعاني الجليلة، فلا وعظه الله!
والله تعالى أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 26-03-2024, 05:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

(29) دعاوى المشركين الباطلة

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا}
2150. ٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لِي: لَنْ أَقْضِيَكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ؟! قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي لَنْ أَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ، ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟! فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ؟! قَالَ وَكِيعٌ:كَذَا قَالَ الْأَعْمَشُ. قَالَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إِلَى قَوْلِه:ِ {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}.
الشرح: باب في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} (مريم: 77) وهذا الحديث هو الثاني في سورة مريم، والحديث قد أخرجه الإمام مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، والحديث أخرجه أيضا البخاري في صحيحة، فهو إذًا حديث متفق عليه.
وهو حديث خبّاب بن الأرت ] وهو التميمي أبو عبدالله، من السابقين إلى الإسلام، وقد عذّب في الله تعالى، وشهد بدراً، ثم نزل الكوفة، ومات بها سنة سبع وثلاثين، روى له الستة.
يقول خباب بن الأرت: « كان لي على العاص بن وائل دينٌ» وجاء في رواية البخاري: أن خباب كان قَيناً، أي حدّاداً، فصنع للعاص بن وائل سيفا أو نحو ذلك، فجاء إلى العاص بن وائل، وهو من كبار صناديد قريش، وهو والد عبدالله بن عمرو بن العاص، وكان من الوجهاء عندهم كما قلنا.
قوله: « فأتيته أتقاضاه» أي: يطلب منه ثمن ما صنع له؛ لأنه كان حدادا.
قوله: «فقال لن أقضيك حتى تكفر بمحمد [» وهذا من كفره وعناده وشركه بالله تعالى، وبغضه للرسول [؛ لأنه علم أن خبابا رضي الله عنه قد آمن بمحمد [، لكن هو من ضعفة الناس في مكة؛ لأنه ليس قرشيا بل من تميم.
قوله: «فقلت له إني لن أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث» وهذا قاله على وجه الاستحالة، وعلى وجه الاستبعاد، ومعنى ذلك: أني لن أكفر بمحمد [ أبدا؟!
قوله: «قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟» قاله على وجه الاستهزاء والإنكار والتكذيب، وهذا ما كان عليه أهل الجاهلية في مكة وغيرها، بل يكذب بالبعث سائر الأمم الكافرة، فإنهم جميعا كانوا ينكرون البعث بعد الموت، والقيامة والحشر والحساب، والله سبحانه وتعالى قد أقام الحجج والبراهين الكثيرة، فيما أنزل على رسله وفي كتبه، وفيها الآيات العظيمة، الدالة على إحيائه للموتى، وبعث الأجساد بعد فنائها.
فمن ذلك في القرآن الكريم: أن الله تعالى ضرب المثل كثيرا على إحياء الموتى، بإحياء الأرض بعد موتها بالنبات، فالأرض تكون ميتة يابسة لا حياة فيها، فإذا أنزل الله سبحانه وتعالى عليها الماء والمطر اهتزت وربت، وانبتت من كل زوج بهيج.
ومن ذلك أيضا: أن الله سبحانه وتعالى ضرب في القرآن أمثالا كثيرة في حوادث الناس، مثل قصة نبي الله عزير عليه السلام، الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ومثل: قصة تقطيع نبي الله إبراهيم عليه السلام للطيور الأربعة، ثم ناداها فقامت حية تمشي على الأرض، ومثل قصة القرية من بني إسرائيل: {الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوفٌ حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم}. ومثل الذي قُتل ثم ضُرب بعضو من أعضاء البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل فأحياه الله، وأخبر بقاتله في القصة المشهورة.
ومثل أصحاب الكهف الذين ناموا ثلاثمائة سنة وتسعا ثم أحياهم الله وقاموا ورآهم الناس ثم رجعوا فماتوا، وغيرها من القصص والحجج والبراهين التي تبين قدرة الله سبحانه وتعالى على إحياء الموتى.
قوله: «قال وإني لمبعوث من بعد؟! الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد» وفي رواية أنه قال: «فإني إذا بُعثت، فسيكون لي مال وولد فأقضيك»، وهذا من استهزائه بالبعث والنشور، وكفره بآيات الله، واستهزائه بالصحابي صاحب الحق عليه، قال وكيع كذا قال الأعمش، قال: فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} (مريم: 77) وهذه الآيات تدل على أنها نزلت في هذا الكافر، وفي أمثاله من المجرمين.
يقول سبحانه وتعالى فيها: {أَفَرَأَيْتَ}: أفلا نخبرك عن هذا الكافر الذي كفر بآياتنا ببراهيننا وحججنا، وما أنزلنا على نبينا محمد [ من الآيات المسموعة العظيمة. {وقال لأوتينا مالا وولدا} أي: مع كفره بالله وشركه، قال: سيعطيني الله مالا وولدا؟؟! قال ذلك تخرصا وادعاء، وكذباً على الله عز وجل وافتراء، ولذلك ردّ الله سبحانه وتعالى قوله فقال: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} أي: هل قال ما قال عن علم بالغيب؟ وأنى له علم الغيب وهو كافر بالله سبحانه وتعالى؟! هل اطلع الغيب وعلم أنه سيكون من أهل الجنة؟ وسيكون له مال وولد؟! والجواب: لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يطلع الخلق على غيبه كما قال {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ...} (الجن 26: 27)، وهذا الرجل كافر بالله سبحانه وتعالى إذاً هو لم يطلع على الغيب، هو كاذب ومفترىٍ.
قوله: {أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} أي: هل كان له من الله عهدٌ وميثاق أن يدخله الله الجنة؟ والجواب: أن هذا أيضا لم يحصل! فليس لهذا الكافر عهد ولا ميثاق عند الله سبحانه وتعالى بدخول الجنة؛ وذلك لأنه أولا: لم يسلم ولم يعمل صالحا، ومن لم يؤمن بالله عز وجل، فليس له عند الله عهد بدخول الجنة والنجاة من النار.
والآية تدل على أمرٍ مهم وعظيم، وهو أن من آمن بالله عز وجل وعمل صالحا، فله عند الله عهد أن يدخله الجنة، كما جاء في حديث معاذ ] مرفوعا: « أن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن يدخلهم الجنة إذا هم فعلوا ذلك». أما هذا الكافر وأمثاله فليس لهم عند الله عهد، ولا وعد بالنجاة، ولا بدخول الجنة، بل هو متقول كاذب، يقول قولاً لا علم له به، ولا وعد من الله بكتاب، ولهذا أنكر الله تعالى قوله فقال: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}.
قوله: {كَلَّا}، وكلمة «كلا» تنفي ما قبلها، وتثبت ما بعدها، وهي كلمة ردع وزجر، وحرف « كلا « بالاستقراء لم يرد إلا في السور المكية، فهو من علامات السور المكية؛ فكل سورة ذكر فيها حرف «كلا»، فهو دليل على أنها سورة مكية.
والآيات المكية فيها نوع من القوة والجزالة في اللفظ، والمخاطبة للعقول، وتحريك القلوب بشدة؛ لأن القلوب ميتة، فقلوب الكافرين جامدة قاسية، بخلاف قلوب المؤمنين فهي قلوب لينة خاشعة؛ ولهذا فالخطاب في المدينة خطاب سكينة ولين وإيمان، خطاب يبتدأ فيه بقوله: {يأيها الذين آمنوا}؛ لأن الناس قد استجابوا لله سبحانه وتعالى وآمنوا، أما السور المكية فهي موجهة إلى أناس عتاة وكفرة، وإلى جاحدين معاندين؛ ولذلك الآيات في السور المكية تكون كالقوارع على القلوب، توقظ هذه الأفئدة الغافلة من سباتها العميق.
ثم قال الله عز وجل: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} (مريم: 79)، أي: هذا القول الذي قاله وافتراه على الله سبحانه وتعالى، وتجرأ فيه على الله وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه قال لخباب: لا أعطيك حقك حتى تكفر بمحمد [؟ فهذا سنكتبه عليه، وتحصي عليه الحفظة والكتبة من الملائكة كل ما يقول في صحيفته.
{وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} هذا في الآخرة، يمد له فيه العذاب مدا؛ لأن العذاب يوم القيامة عذاب ممدود مستمر، لا أمد له ينتهي عنده، بل هو دائم باق، كما قال سبحانه: {فلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة: 86) وقال {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (النبأ: 23)، أي: كلما انتهت تلتها حقبة أخرى، فهو عذاب ممدود لا نهاية له، والعياذ بالله، وعذاب شديد، وقال سبحانه فيه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} (النساء: 56).
وقوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} (مريم: 80) أي: نحن الذين سنرث ماله وولده، فهو قد قال: إذا بعثت سيكون لي مال وولد، فائتني وأعطيك حقك؟! فقال الله تعالى له: نحن الذين سنرث ما يقول؛ لأن الله سبحانه وتعالى الوارث لعباده، الذي يرث خلقه أجمعين، كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (مريم: 40)، فكل ميت وهالك وارثه الله سبحانه وتعالى.
{ويأتينا يوم القيامة فردا} أي: لا مال ولا أهل ولا عشيرة، ولا خدم ولا حشم، بل يأتينا فردا ليس معه أحد، فهذا الكافر الجاحد الذي يطمع أن يكون له مال وولد يوم القيامة، يقول الله سبحانه وتعالى إنه سيأتي يوم القيامة فردا واحدا ليس معه أحد؛ فلا ينصره أحد، ولا يشفع له أحد.
وهذا القول الذي قال العاص بن وائل يدل على جهل المشركين، وسفاهة عقولهم، وغبائهم وبلادتهم، وبعضهم يظن أنه على شيء من الفهم والعقل في الحياة؟!! وأن الله سبحانه وتعالى أعطاهم ما أعطاهم من أموال وبنين ودنيا واسعة وجاه، لحبه لهم، أو لعلمهم وحنكتهم وإدارتهم! ويظنون أن هذا دليل على أنهم على خير، وأنهم لا يمكن أن يتحولوا عن هذا الخير الواسع إلى الشر الذي يتوعدهم به رسول الله [؟!
والحقيقة أن ما أعطاهم الله إنما هو استدراج منه سبحانه وتعالى لهم، وهذه الأشياء كلها ستسلب بعد موتهم، وتكون سببا في زيادة عذابهم، وسيرجعون إلى الله فرادى حفاة عراة، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 94).
نسأل الله تعالى العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلنا ومالنا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 27-03-2024, 04:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

(30)إعـادةُ الخَلـق

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب: في قوله عز وجل: {كما بدأنا أول خلق نعيده...} الآية
2151. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ [ خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام، أَلَا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي ؟! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قَالَ فَيُقَالُ لِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ «.
الشرح: هذا الحديث من مختصر مسلم في سورة الأنبياء، والحديث رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة. وبوّب عليه النووي: باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة.
وبوب عليه المنذري: باب قوله عز وجل: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} (الأنبياء: 104).
وسميت سورة الأنبياء بهذا الاسم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها جملةً مباركةً من أسماء أنبيائه ورسله، وقصصهم وأحوالهم مع الله تعالى.
والأنبياء جمع نبي، وهو من نُبئ، أي: جاءه النبأ من السماء بواسطة الوحي.
والأنبياء عددهم وفير وكثير، كما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند الإمام أحمد وصححه ابن حبان في صحيحه: أن النبي[ سئل عن الأنبياء، كم عددهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «مائة وأربعة وعشرون ألفا، الرسلُ منهم ثلاثمئة وبضعة عشر».
وهم منهم من ذكر اسمه في القرآن، ومنهم من لم يذكر اسمه، كما قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء: 164).
وحديث الباب هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما، الصحابي المشهور بالتفسير، وإنما قلنا: رضي الله عنهما؛ لأن ابن عباس منسوب إلى أبيه وهو العباس بن عبد المطلب عم النبي [، فإذا ذُكر ابن عباس يترضّى عنه وعن أبيه، لأنه وأبوه صحابيان، كما يقال عن ابن عمر: رضي الله عنهما، وجابر بن عبدالله؛ لأنهم وآباؤهم صحابه رضي الله عنهم .
وللحافظ ابن قطلوبغا رسالة باسم: من روى عن أبيه عن جده، مطبوعة.
قوله: « قام فينا رسول الله [ بموعظة «، كان من هدي النبي [ أن يعظ أصحابه ويذكرهم بالله عز وجل، ويخوفهم بربّهم، ويرغبهم فيما عنده، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يتخوّل أصحابه بالموعظة، يعني: أنه يتعاهدهم أحيانا ولا يكون بصفة الاستمرار، وإنما يجعله متقطعا ومتفرقا، كسقي الزرع مثلا، وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي[ كان يعظهم كل خميس.
وهذا لأجل ألا يمل الناس من المواعظ؛ فإن كثرة الوعظ تؤدي بالإنسان إلى الملل والسآمة، وقد تؤدي بالإنسان لليأس والقنوط من رحمة الله بسبب كثرة الخوف، فكثرة الخوف تضر المؤمن العامل.
قوله[: «يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاةً عراة غرلاً» أي: إن الناس يحشرون يوم القيامة على هذه الصورة، حفاة أي: غير منتعلين، عراة أي: غير مكتسين، غرلاً أي: غير مختونين. أي: إنهم يحشرون كما خُلقوا، وكما خرجوا من بطون أمهاتهم إلى الأرض، فالإنسان إذا خرج من بطن أمه يخرج حافياً عاريا أقلف، والأقلف هو الذي لم يختتن بعد، ويقال له: الأغرل أو الأرغل والأغلف، كل هذه لغات صحيحة في الذي لم يختتن، أي: لم تقطع عنه الجلدة التي تغطي حشفة الذكر.
وهذا يعني أن الإنسان يرجع يوم القيامة بكل أعضائه، ولو فقد شيئا منها في الدنيا، أي لو قطع منه شيء، فإنه يأتي يوم القيامة كما خلقه الله، وكما بدأه الله سبحانه.
ثم قرأ [: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } أي: إن إعادتنا للخلق هي مثل ابتدائنا لخلقهم، فنحن قادريون على أن نعيد الإنسان كما خلقناه بعد أن أفنيناه، بعد فنائه وصيرورته ترابا، فإننا قادرون على أن نعيده كما بدأناه في بطن أمه.
وقوله: {وَعْداً عَلَيْنَا} هذا مما أخذه الله سبحانه وتعالى على نفسه، والله سبحانه يوجب على نفسه ما يشاء، وهو تعالى لا يخلف الميعاد؛ ولهذا قال: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104)، يعني إنا كنا قادرين على ذلك، على أن ننجز ما وعدنا، وهذا لتمام قدرته وكمال غناه سبحانه. وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يخلف الوعد ؟ ومتى يكون ذلك ؟ إذا عجز عن الوفاء به فالإنسان إذا كان قادرا أنجز وعده، وقد يكون قادرا لكن يكون هناك من هو أقوى منه وأقدر، فيمنعه من إنجاز الوعد فيخلف الوعد، لكن الله عز وجل قادر ولا أحد أقدر منه، وقوي ولا شيء أقوى منه سبحانه وتعالى، فلا شيء يمنعه من إنجاز وعده.
وأيضا: فقد يعد الإنسان غيره بشيء، ولكن فقره يمنعه من الوفاء، فيخلف وعده، لكن الله سبحانه وتعالى الغني الحميد، فلا يمنعه فقر ولا حاجه ولا عوز أن ينجز وعده سبحانه وتعالى.
فقوله سبحانه وتعالى: {وَعْداً عَلَيْنَا} أي: علينا إنجازه والوفاء به {إنا كنّا فاعلين} فلا يمنعنا شيء من إنجاز هذا الوعد الذي وعدنا به.
وهذا كله تحقيق وبيان أن هذا الوعد محقق كائن لا شك فيه، وإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تستعدوا لهذا اليوم – يوم القيامة - الذي يعيدكم الله سبحانه وتعالى فيه إلى الحياة مرة أخرى، وقدموا لأنفسكم من الأقوال والأعمال الصالحة ما يكفي للخلاص من الأهوال، والنجاة من النار، كما قال عز وجل: {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} (الإسراء: 5).
ثم قال عليه الصلاة والسلام: « ألا وانّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم « فأول الخلق يكسى يوم القيامة النبي إبراهيم [، ولماذا هو أول الخلق يكسى ؟ قيل: لأنه ألقي في النار عاريا، فجازاه الله سبحانه وتعالى بأن كساه قبل الخلائق. وقيل: إن هذه الأولية بالنسبة لما بعد نبينا محمد [؛ لأنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة. وقيل: هو يكسى قبل النبي [ ولكن كسوة النبي [ أعلى من كسوته.
وعلى كل حال فهذه منقبة لخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفضيلة من فضائله عليه السلام، وهو أبو الأنبياء، وإمام الدعاة إلى التوحيد، فقد جعله الله سبحانه وتعالى إماما يقتدي به من جاء من بعده من النبيين والمؤمنين.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإنه سيُجاء برجالٍ من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال» فقوله سيجاء برجال من أمتي، يعني: يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال، وفي رواية البخاري: « سيؤخذ بهم إلى النار ذات الشمال «. وأصحاب الشمال هم أهل النار كما هو معلوم من القرآن الكريم.
قوله: « فأقول يا رب أصحابي» وفي رواية للبخاري أيضا: «فأقول يا رب أصيحابي» بالتصغير للتقليل.
قوله: «فيقال: إنك لا تَدري ما أحدثوا بعدك؟ « فهذا الحديث يبين فيه النبي [ أنه سيؤتى برجال من أمته فيؤخذون عنه، وكيف يعرف النبي [ أمته ؟ جاء في الحديث أنه يؤتى بهم يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فيعرفهم النبي[، لكن قوله: «سيؤخذ برجال من أمتي» يفيد التقليل كما لو قال: يجيء أقوام، وهذا يفيد التقليل كذلك، فهم قلة في هذه الأمة، والنبي [ عرفهم كما ذكرنا بالغرة والتحجيل.
فعندما ُيؤخذ بهم إلى النار يقول النبي [: « يا ربي أصحابي أو أصيحابي « لأنه عليه الصلاة والسلام عرفهم بالسيما والعلامة.

قوله: « فيقال إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك» فمن المراد بهؤلاء الذي يؤخذ بهم إلى النار بعد أن عرفهم النبي [، المصطفى المختار ؟ فيه أقوال:
فالقول الأول: أنهم المنافقون الذي كانوا يظهرون الإسلام في عهد النبي [، فيصلون ويأتون المساجد، وربما يحجون مع المسلمين ويخرجون للجهاد أحيانا، ولكنهم في الباطن منافقون - والعياذ بالله - فهؤلاء تأخذهم الملائكة من بين يدي النبي [، وتحجز بينهم وبين نبيهم وتجرهم إلى النار، فالنبي عليه الصلاة والسلام، يقول عندئذ: أمتي !! أو يقول: هؤلاء أصحابي، أي: منهم، فتقول له الملائكة: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك!
والقول الثاني: أن هؤلاء هم المرتدون بعد النبي [ ممن كانوا في البوادي، وغيرهم ممن ارتد بعد وفاة النبي [، وبدلوا بعده، فماتوا على ما أظهروا للنبي [ من إسلامهم، وبعضهم قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا أيضا يشهد له القرآن، كما قال الله عز وجل {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (التوبة: 101).
والقول الثالث: أن هؤلاء هم أصحاب الكبائر وأصحاب المعاصي، الذي ماتوا على التوحيد، فإنه يوم القيامة يحال بينهم وبين النبي [.
والقول الرابع: أن هؤلاء هم أصحاب البدع؛ لأن الملائكة تقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، والإحداث على نوعين: إحداث بمعنى إتيان الكبائر ، وإحداث بمعنى الابتداع، فإن كل محدثة بدعة، فيكون هؤلاء هم أصحاب الإحداث في الدين، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: كل من أحدث في الدين، فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء. قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر . قال: وكل هؤلاء يُخاف عليهم أن يكونوا ممن عُنوا بهذا الخبر، والله أعلم.
فهؤلاء كلهم ممكن أن يكونوا معنيين بهذا الحديث.
وقد استغل أهل البدع الحاقديون على الإسلام وغيرهم هذا الحديث، فحملوه على أصحاب النبي[؟! بل وعلى الأكابر منهم، كالخلفاء الثلاثة، واحتجوا به على ردة الصحابة رضوان الله عليهم؟؟ حتى قالوا: لم يبق على الإسلام بعد النبي[ إلا ستة؟! وهم: علي وأبو ذر والمقداد وسلمان وعمار؟؟ فهؤلاء هم الذين بقوا على الإسلام، وأما البقية فكلهم ارتدوا ؟! والعياذ بالله، وهذا القول منكر عظيم، وجرأة عظيمة، وفيه تكذيبٌ لله سبحانه وتعالى في كتابه الذي يترضى فيه على أصحاب نبيه [ في أكثر من موضع، كقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح: 18) وقوله سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ...} (الفتح: 29)، وقوله: {والسّابقُون الأولون من المهاجرينَ والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} (التوبة: 100).
وغيرها من الآيات الواردة في هذا، والتي تثبت أن الحقيقة أن الصحابة المعروفين لم يرتد أحدٌ منهم بعد النبي [، بل لا يثبت أن صحابياً ارتد بعد النبي [، لكن الذين ارتدوا هم الجهال من العرب، والأعراب الذين كانوا خارج المدينة من القبائل الذين أسلموا، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، بل أسلموا ودخلوا في الإسلام، ولكن كان الإيمان ضعيفا في قلوبهم، فلما مات النبي [ رجعوا عن الإسلام، وقاتلهم أبو بكر الصديق، وردّ منهم من رد إلى الدّين.
قوله « فأقول كما قال العبد الصالح: {َوكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة: 117)» والعبد الصالح قائل هذه المقالة هو نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام، ذكر الله عز وجل عنه ذلك في أواخر سورة المائدة، وذلك أن عيسى عليه الصلاة والسلام يقول الله له يوم القيامة: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} (المائدة: 116) فيقول: {سُبحانك ما يكونُ لي أن أقولَ ما ليس لي بحقٍ} أي هذا القول المنكر، وهو ادعاء الألوهية، ثم يعتذر ويقول: {َوكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: شاهداً ومراقبا لهم، وسميعا بصيرا بأقوالهم وأفعالهم {ما دمت فيهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} لما رفعتني عنهم {كنت أنت الرقيب عليهم}؛ لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء رقيب، {وأنت على كل شيء شهيد}. ثم يقول عز وجل عنه {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118) هذا القول يمكن أن يقال إنه على وجهه الاستعطاف، أي إن النبي[ يقول هذا القول استعطافا للخالق سبحانه وتعالى لعبيده، كما يُستعطف السيد لعبيده، ولهذا فلم يقل: إن تعذبهم فإنهم عصوك، وإنما قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وهو نوعٌ من الاسترحام والاستعطاف لهم. وقيل: هذا القول قاله على وجه التسليم والتفويض والانقياد له سبحانه، إذ معناه: يا رب إن عذبتهم فأنت خالقهم، وأنت سيدهم وأنت ربهم، وهم خلقك وعبيدك، وإن تغفر لهم فهذا أمرٌ بيدك سبحانك، لا يعترض عليك أحد، ولا يرد أمرك أحد، ولا يمكن أن تسأل عما تفعل؛ لأن الله عز وجل له الملك كله، وله الأمر كله في خلقه.
والأقرب أنه يعني الاستعطاف، لكن للذين لا يزالون في دائرة الإسلام والتوحيد، وأما المرتدون والكفار فلا يستعطف لهم النبي [؛ لأنه يعلم أن الله حرّم الجنة على الكافرين، ولذلك قال أهل التفسير: إن عيسى عليه الصلاة والسلام قالها على وجه التسليم والتفويض، وليس على وجه الاسترحام؛ لأنه يعلم أن من قال إن عيسى عليه السلام هو الله؟ فقد أشرك بالله عز وجل وكفر به، ومن كان كذلك لا يرحمه الله إذا مات عليه؛ لأن الله لا يرحم من يشرك به ومن يكفر به ولا يغفر له، كما قال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وكل من أشرك بالله تعالى فقد سدّ على نفسه باب الرحمة بنفسه، أي هو الذي أغلق الباب بيده؛ لأن الله عز وجل فتح لعباده أبواب المغفرة والرحمة، لكن بعض العباد يسدون على أنفسهم باب الرحمة.
وقوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز: الذي لا يرد قوله ولا أمره، والغالب جل وعلا، والحكيم: الذي لا يفعل ولا يقول إلا الصواب والحق، فيضع العقوبة في محلها، والرحمة في محلها.
نسأل الله أن ينفعنا بما علّمنا من الحق، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علما إنه هو العليم الحكيم، والحمد لله رب العالمين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 27-03-2024, 04:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر مسلم للمنذري

(31) الخصومة في الله عز وجل

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب : في قوله تعالى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج : 19)
2152. عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ قَسَمًا، إِنَّ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} أنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ : حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.
الشرح: باب في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج : 19) وهي الآية التاسعة عشرة من سورة الحج، وأورد فيه الإمام المنذري حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهذا الحديث قد أخرجه الإمام مسلم في آخر كتاب التفسير، وبه ختم مسلم رحمه الله صحيحه.
- قوله : عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر رضي الله عنه، وأبو ذر اسمه جندب بن جنادة الغفاري، من قبيلة غفار المشهورة، وكان ممن أسلم قديما، ولكن تأخرت هجرته، وكان يصلي قبل الإسلام ثلاث سنين، كما جاء عنه أنه كان يقول : كنت وأنا في الجاهلية أرى الناس ليسوا على شيء، ثم لما قدم إلى مكة وأسلم جهر بإسلامه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له : اكتم عليك، لكنه جهر بإسلامه، فضُرب رضي الله عنه ضربا شديدا، حتى جاء العباس وفكه من المشركين، وقال : يا قوم، تجارتكم على غفار، يعني: تمرون على قبيلة غفار.
وقَيْسِ بْنِ عُبَادٍ هو الضُّبَعي أبو عبد الله البصري، مخضرم ثقة، والمخضرم من أدرك زمن النبي [ فأسلم ولم يره، فهو بين الصحابي والتابعي.
- قال : « سمعت أبا ذر يقسم قسما - أي يقسم بالله سبحانه وتعالى - إن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ( الحج : 19) أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر « ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول، كما مر معنا، وقلنا: إن أسباب النزول مما يعين على فهم الآية، وذلك بفهم قصتها ومعرفة سبب حكمها ونحوه، فهذا مما يعين على فقه الآية، والمراد منها.
وقد قال بمثل قول أبي ذر جماعة من الصحابة أيضا، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره : عن علي رضي الله عنه أنه قال حين نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج : 19) وأنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة. فهذا عن علي رضي الله عنه ويخبر أن هذه الآية نزلت فيه وأنه أول من يجثوا في الخصومة على ركبتيه عند الله سبحانه وتعالى، وأنه المقصود بقوله {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج : 19): قال أبو حيان : الظاهر أن الاختصام هو في الآخرة، بدليل التقسيم بالفاء الدالة على التعقيب في قوله {فالذين كفروا} وإن قلنا : هذا في الدنيا، فالجواب أنه لما كان تحقيق مضمونه في ذلك اليوم، صح جعل يوم القيامة ظرفا له بهذا الاعتبار، والله أعلم. انتهى.
- والصحيح : أنه لا مانع من أن تكون الخصومة في الدنيا، وفي الآخرة أيضا، فهم اختصموا في الدنيا واختلفوا وتقاتلوا، وهم أيضا سيتخاصمون ويتجادلون بين يدي الله تبارك وتعالى، بدليل قول علي رضي الله عنه : « أنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة»، وخصومة علي رضي الله عنه يكون معه بقية المؤمنين، وإن كان قد نص هاهنا على : حمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء اختصموا مع : شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فهؤلاء من المشركين في جهة، وعلي وحمزة وعبيدة من الصحابة رضي الله عنهم في جهة أخرى، وهم قد اختلفوا يوم بدر واختصموا في الله تعالى، بل تقاتلوا وتقابلوا في الميدان بالسلاح، فهؤلاء يريدون نصرة دين الله عز وجل ونصرة رسوله [ والحق، والكفار والمشركون يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق، ونصرة الباطل .
وأيضا أهل الإيمان يختصمون مع الكفار عموما، ويخالفونهم في معتقداتهم وعباداتهم وأحوالهم وحياتهم ومماتهم، فهم خصوم في الدنيا والآخرة، ويقضي الله بينهما، كما قال الله في هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} ( الحج 19 - 21 ).
فهذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في الخصومة بين المؤمنين والكافرين، سواء كانوا من اليهود أم من النصارى أم من المجوس أم من من المشركين أم من الصابئين أم من غيرهم، فهناك خصومه واختصام وجدال في الدنيا في ربهم سبحانه وتعالى، فكل يدعي في ربه أشياء، ويخالف ويجادل عليها، وسيختصمون بين يدي الرب سبحانه وتعالى، وسيفصل الله تبارك وتعالى بينهم يوم القيامة، وهو يوم الفصل، الذي يفصل الله تعالى فيه بين المتنازعين والمختلفين كما قال سبحانه {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} (المرسلات : 38) وقال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} ( النبأ : 17) اليوم الذي يحصل فيه الفصل بين النزاع والخلاف.
- وقوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} (الحج : 19) أي : تفصل لهم - والعياذ بالله - ثيابٌ من نار يلبسونها، وقيل : {من نار} يعني: من قطران، والقطران معلوم أنه سريع الاشتعال، مع النتن وخبث الرائحة، وهذا زيادة في عذابهم وألمهم، أن تفصل لهم ثياب من القطران، والتي متى لفحتها النار ازدادت اشتعالاً، وتصل النار بذلك إلى كل موضع من بدنه، وهذا كما قلنا زيادة في العذاب لهم.
- قوله: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} (الحج : 19) أي : الماء الشديد الحرارة المغلي، وقيل : الحميم هو النحاس المذاب، وهو قول سعيد بن جبير.
ومن شدّة حره، أنه يصهر به ما في بطونهم، ويصهر الجلود، فإذا صب عليهم سقطت جلودهم، وصهرت ما في بطونهم من أمعائهم، وتذوب شحوم بطونهم، من شدة حرها.
- قوله: {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} ( الحج 21 ) والمقامع هي المطارق الضخمة الكبيرة التي يمسكها الزبانية من الملائكة، فيضربون كل عضو منهم.
- وملائكة النار وخزنتها قد وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم : 6)، فقوله {غلاظ} أي : قلوبهم قاسية، لا يرحمون أهل النار، وشداد أي : في أجسادهم وأبدانهم، وهذه المقامع التي بأيديهم معدة لأهل النار، كلما أرادوا أن يخرجوا من النار قمعتهم الملائكة بها، يعني ضربتهم بها فيعودون إلى النار، ويهوون إلى قعرها، كما في قوله: {كلما أَرادوا أنْ يَخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها}، وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعها لهبها، وتردهم مقامعها (تفسير ابن كثير 3/182 ).
- {وذوقوا عذاب الحريق} أي يقال لهم ذلك؛ إهانة لهم وتوبيخاً، كما في قوله: {وقيل لهم ذُوقوا عذابَ النارِ الذي كنتم به تكذبون} فهم يُهانون قولاً وفعلا.
أعاذنا الله وإياكم جميعا من عذاب النار وأهوالها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 203.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 197.39 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (2.90%)]