الكبائر - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 17-03-2023, 10:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر



الكبائر (11)
الزنا
(موعظة الأسبوع)










كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- الزنا مِن أكبر الكبائر، وأفحش الجرائم، حتى قَرَنَه الله بالشرك والقتل، وتوعَّد صاحبه بالوعيد الشديد، والعقاب الأليم: قال -تعالى-: (‌وَالَّذِينَ ‌لَا ‌يَدْعُونَ ‌مَعَ ‌اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان: 68-69).

قال السعدي -رحمه الله-: "هذه الثلاثة؛ لأنها من أكبر الكبائر؛ فالشرك فيه فساد الأديان، والقتل فيه فساد الأبدان، والزنا فيه فساد الأعراض".

(1) قبح الزنا وأثره على الإيمان:

- أجمعت الشرائع السماوية على تحريم الزنا: قال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (الأنعام: 151)، وقال -تعالى- (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32).

- الزنا يعرِّض دين العبد للخطر، ويوشك أن يسقطه في هاوية الكفر(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌لَا ‌يَزْنِي ‌الزَّانِي ‌حِينَ ‌يَزْنِي ‌وَهُوَ ‌مُؤْمِنٌ) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَادَ إلَيْهِ الْإِيمَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- الزنا يعرِّض المجتمع الذي ينتشر فيه للخراب: (اختلاط الأنساب - فساد الأخلاق - الأمراض الفتاكة - ضنك المعيشة - ظلم الحكام - ...)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِذَا ‌ظَهَرَ ‌الزِّنَا ‌وَالرِّبَا ‌فِي ‌قَرْيَةٍ، ‌فَقَدْ ‌أَحَلُّوا ‌بِأَنْفُسِهِمْ ‌عَذَابَ ‌اللَّهِ) (رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني).

- ولذا توعد الله كل من يعين على انتشار الفواحش بأشد العذاب: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19).

(2) أضرار الزنا وعاقبته:

أولًا: في الدنيا:

- استحقاق حد الزنا، ولحوق العار بالزاني وعشيرته والفضيحة بين الناس: عن عبادة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: (خُذُوا عنِّي خُذُوا عنِّي، قدْ جعل اللهُ لهنَّ سَبِيلًا، البِكرُ بالبِكرِ؛ جَلدُ مِائةٍ، ونَفْيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلدُ مائةٍ والرَّجْمُ) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (المؤمنون: 2).

ثانيًا: في الآخرة:

- توعدهم الله بأشد العذاب، فيعذب الزناة في النار عراة كما كانوا حال الزنا، ويُركَّز العذابُ على مواضع الشهوة التي مارسوا بها الزنا: قال -تعالى-: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان: 68 -69)، وفي حديث رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: (فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ قَالَ: فَأَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، قَالَ: فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللهَبُ ‌ضَوْضَوْا - أي: صاحوا من شدة حرِّه- فقلت: (قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلَاءِ؟)... فقال جبريل: (وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي) (رواه البخاري).

(3) أسباب انتشار الزنا:

1- مخالفة التعاليم والتدابير الوقائية في الشريعة الإسلامية لمنع الزنا، في حياة كثيرٍ من المسلمين في البيوت والمصالح والمؤسسات (سيأتي الكلام عن ذلك مفصَّلًا).

2- دور وسائل الإعلام العصرية، ووسائل الاتصالات الحديثة في نشر الفواحش والعرى والمجون، وتسهيل الوصول لذلك: (الأفلام والأغاني الماجنة، قنوات الرقص والعري، المواقع الإباحية، السخرية من الدين والمتدينين، محاربة الفضيلة ومَن يدعو لها، وغير ذلك كثير...).

3- تعسير الزواج بالنفقات الباهظة، أو تأخير سن الزواج؛ بحجة التعليم، وغيره؛ سواء من الأولياء أو من الشباب أنفسهم.

4- عدم إقامة حد الزنا على الزناة واستبداله بالقوانين الغربية التي لا تجرِّم الزنا إلا في حدود ضيقة جدًّا جدًّا!

(4) تدابير وقائية في الشريعة الإسلامية لمنع الزنا(2):

- تمهيد: يعتبر إصلاح القلب وتطهيره وتعميره بتقوى الله ومراقبته هو أعظم رادع عن المعاصي، غير أن الشريعة المطهرة لم تكلنا إلى ذلك فقد نضعف؛ ولذا جعلت هذه التدابير.

1- فرض الحجاب على النساء، وتحريم التبرج وإظهار الزينة: قال -تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: 33)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ‌قُلْ ‌لِأَزْوَاجِكَ ‌وَبَنَاتِكَ ‌وَنِسَاءِ ‌الْمُؤْمِنِينَ ‌يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (المَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

2- الأمر بغض البصر؛ لأنه أول سهام الشيطان(3): قال -تعالى-: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (النور: 30)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ ‌الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا ‌النَّظَرُ...) (متفق عليه).

3- تحريم مس الأجنبية ومصافحتها: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ) (رواه الطبراني والبيهقي، وصححه الألباني).

4- تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ، وَكُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني).

5- تحريم الخضوع بالقول: قال -تعالى-: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32).

6- تحريم الاختلاط: (الزيارات - الوظائف - المدارس والجامعات - العمال والخدم والصناع - ...)؛ قال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (الأحزاب: 53).

7- أخطر وأعظم أسباب الوقوع في الزنا: (تحريم الخلوة بالأجنبية): (الزيارات العائلية - المصاعد والعيادات ونحوها - الصناع والحرفيين - المصالح والمؤسسات - ...)؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَلَا ‌لَا ‌يَخْلُوَنَّ ‌رَجُلٌ ‌بِامْرَأَةٍ ‌إِلَّا ‌كَانَ ‌ثَالِثَهُمَا ‌الشَّيْطَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِيَّاكُمْ ‌وَالدُّخُولَ ‌عَلَى ‌النِّسَاءِ!) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: (الْحَمْوُ الْمَوْتُ) (متفق عليه).

خاتمة: هل للزاني توبة؟

- الزاني تُقبَل توبته إن صدق: قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).

وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي قالَ: جَاءَتِ الغَامِدِيَّةُ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وإنَّه رَدَّهَا، فَلَمَّا كانَ الغَدُ، قالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كما رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى، قالَ: (إمَّا لا، فَاذْهَبِي حتَّى تَلِدِي)، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في خِرْقَةٍ، قالَتْ: هذا قدْ وَلَدْتُهُ، قالَ: (اذْهَبِي فأرْضِعِيهِ حتَّى تَفْطِمِيهِ)، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقالَتْ: هذا يا نَبِيَّ اللهِ قدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَحُفِرَ لَهَا إلى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فأقْبل خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ بحَجَرٍ، فَرَمَى رَأْسَهَا، فَتَنَضَّحَ الدَّمُ علَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبَّهُ إيَّاهَا، فَقالَ: (مَهْلًا يا خَالِدُ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ له)، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ. (رواه مسلم).

فاللهم استر عورات المسلمين، واحفظ أعراضهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ولخطورة جريمة الزنا على الإيمان، واحتمال أن يفقد الزاني إيمانه، فلا يعود إليه أبدًا، كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَعْرِضُ عَلَى مَمْلُوكِهِ الْزواج، وَيَقُولُ: "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ زَوَّجْتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَزْنِي زَانٍ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ بَعْدُ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَمْنَعَهُ مَنَعَه" (رواه عبد الرزاق)، وفي رواية لابن نصر: "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ زَوَّجْتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَزْنِي زَانٍ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ نُورَ الْإِيمَانِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهُ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَمْنَعُهُ مَنَعَه".


(2) سنذكرها كعناوين دون تفصيل؛ لعدم الإطالة، وإلا فكل واحدٍ منها يحتاج إلى حديثٍ منفردٍ.

(3) مِن أعظم المفسدات في هذا الباب (وسائل الإعلام والاتصالات العصرية التي سَهَّلت ذلك إلى أسوأ درجة).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 29-04-2023, 12:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر

الكبائر (12)
أذية الجيران
(موعظة الأسبوع)







كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

- المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة، قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- أذية الجيران من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام؛ فقد ورد في ذلك التهديد الأكيد، والوعيد الشديد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (رواه مسلم).

مكانة الجار في الإسلام:

- أوصى الإسلام بالجار، حتى قرن الله حق الجار بحقه -سبحانه-، فقال -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء: 36)(1).

- جعل الإسلام الإحسان إلى الجار من علامات الإيمان والانتماء إلى الإسلام: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) (متفق عليه). وفي رواية لمسلم: (فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)، قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: "مَن التزم شرائع الإسلام؛ لزمه إكرام جاره".

- كاد الإسلام أن يشرع توريث الجار لجاره؛ لعظم مكانته وحقه: عن عائشة -رضي الله عنها-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي ‌يَشْبَعُ، ‌وجارُه جَائِعٌ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

- الكرام يقومون بحق الجار حتى مع الكفار(2): عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أنه ذُبِحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟، قلنا: لا، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (‌مَا ‌زَالَ ‌جِبْرِيلُ ‌يُوصِينِي ‌بِالْجَارِ، ‌حَتَّى ‌ظَنَنْتُ ‌أَنَّهُ ‌سَيُوَرِّثُهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

بل الكرام يتمدحون بحسن الجوار في كلِّ زمان، قال الشاعر الجاهلي:

مـا ضـرَّ جـاري إذ أُجــاوِره ألا يـكـونَ لـبـيــتِـه سِــتْــرُ

أعمى إذا ما جارَتي خَرَجَـت حـتى يُوَارِي جارتي الخِدْرُ

- ولذا جعل الإسلام الجار الصالح من أسباب السعادة، وجعل جار السوء من أسباب التعاسة والبلاء والنقمة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعٌ ‌مِنَ ‌السَّعَادَةِ: ‌الْمَرْأَةُ ‌الصَّالِحَةُ، ‌وَالْمَسْكَنُ ‌الْوَاسِعُ، ‌وَالْجَارُ ‌الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضِّيقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

تحريم إيذاء الجار، وعاقبة الجار المؤذي:

- شدد الإسلام على حرمة الجار وتحريم إيذائه، حتى علق درجة إيمان العبد وإسلامه على ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهُ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ) قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (َمنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ) (متفق عليه).

- جعل الإسلام ذنب إيذاء الجار عشرة أضعاف إيذاء غيره: عن المِقْدَاد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عن الزِّنَى؟ قَالُوا: حرامٌ؛ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ: (لِأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ)، وَسَأَلَهُمْ عَنِ السرقة؟ قالوا: حرام؛ حرمه اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولُهُ. فَقَالَ: (لِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشَرَةِ أَهْلِ أبياتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ ‌أَنْ ‌يَسْرِقَ ‌مِنْ ‌بَيْتِ ‌جَارِهِ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

- جعل الإسلام ذنب إيذاء الجار محبطًا للأعمال، وسببًا في دخول النار: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلاَنَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)، قَالُوا: وَفُلاَنَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلاَ تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

وقفة مهمة: أشرُّ الجيران مَن اضطر جاره إلى هجرة بيته:

- فاعل ذلك مستحق للعن الناس ودعائهم، فضلًا عما تقدَّم من العقوبة في الإسلام: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: (اذْهَبْ فَاصْبِرْ) فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: (اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ)، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ، وَفَعَلَ، وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ، لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. (رواه أبو داود، وقال الألباني: "حسن صحيح"). وقَالَ ثَوْبَانُ -رضي الله عنه-: "مَا مِنْ جَارٍ يَظْلِمُ جَارَهُ وَيَقْهَرُهُ، حَتَّى يَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ، إِلَّا هَلَكَ" (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

- ولأجل ذلك، كانت الخصومة بين الجيران مِن أول ما يُقضَى فيه يوم القيامة: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

وسائل تقوية حسن الجوار:

- بداية... اشكر الله على الجار الصالح: قال الله -تعالى-: (‌وَأَمَّا ‌بِنِعْمَةِ ‌رَبِّكَ ‌فَحَدِّثْ) (الضحى: 11).

- اصبر على أذى الجار، وأحسن إليه لعله ينصلح أو يرحل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ...)، ثم ذكر منهم: (... وَالرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

من صور الإحسان وتقوية حسن الجوار:

1- الإهداء إليه، والسؤال عنه، فإنه سبيل للمحبة والألفة: عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا ذَرٍّ ‌إِذَا ‌طَبَخْتَ ‌مَرَقَةً ‌فَأَكْثِرْ ‌مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (‌تَهادُوا ‌تَحابُوا) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني).

2- تنصره ظالمًا ومظلومًا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ ‌أَخَاكَ ‌ظَالِمًا ‌أَوْ ‌مَظْلُومًا) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: (تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (متفق عليه).

3- التصدق عليه إن كان فقيرًا؛ فهو أولى مِن البعيد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ سُرُورًا، أَوْ تَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنًا، ‌أَوْ ‌تُطْعِمَهُ ‌خُبْزًا) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني).

4- التنازل عن بعض الحقوق النافعة له: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ ‌أَنْ ‌يَغْرِزَ ‌خَشَبَةً ‌فِي ‌جِدَارِهِ) (متفق عليه).

5- دعوته إلى الخير، ونصحه للدين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا ‌يُؤْمِنُ ‌عَبْدٌ ‌حَتَّى ‌يُحِبَّ ‌لِجَارِهِ -أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (رواه مسلم).

خاتمة: تربية أهل البيت على الإحسان إلى الجار:

- يجب تربية أهل البيت من زوجة وولد على تعظيم حق الجار، فإن الأذية قد لا تصدر من الرجل لجاره، ولكن من زوجه أو ولده: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (رواه مسلم).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقًّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق؛ فأما الذي له حق واحد: فجار مشرك لا رَحِم له، فله حق الجوار. وأما الذي له حقان: فجار مسلم له حق الإسلام، وحق الجوار. وأما الذي له ثلاثة حقوق: فجار مسلم ذو رحم، له حق الإسلام وحق الجوار، وحق الرحم. وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) (رواه البخاري). والحكمة في ذلك: أن الأقرب بابًا يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف إليها، بخلاف الأبعد.

(2) فائدة مهمة لمَن أراد الزيادة: كيف تُعامل جارك إذا كان عاصيًا لله؟

قال الذهبي في (حق الجار، ص 46 - 49): "وإذا كان الجار صاحب كبيرة، فلا يخلو:

- إما أن يكون متستِّرًا بها، ويغلق بابه عليه، فليعرض عنه ويتغافل عنه، وإن أمكن أن ينصحه في السر ويعظه، فحسَنٌ.

- وإن كان متظاهرًا بفِسقه؛ مثل: مكَّاس -وهو جابي الضرائب- أو مُرابٍ، فتَهجره هجرًا جميلًا.

- وإن كان تاركًا للصلاة في كثير من الأوقات، فمُره بالمعروف، وانْهَه عن المنكر مرة بعد مرة، وإلا فاهجره في الله، ولعله أن يرعوي ويحصل له انتفاع بالهجرة، من غير أن تقطع عنه كلامك وسلامك وهديتك.

- فإن رأيته متمردًا عاتيًا بعيدًا عن الخير، فأعرِض عنه واجتهد أن تتحول من جواره، فقد تقدَّم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تعوذ من جار السوء في دار الإقامة.

- فإن كان جارك دَيُّوثًا، أو قليل الغَيرة، أو حريمه على غير الطريق المستقيم؛ فتحوَّل عنه، أو فاجتهد ألا يُؤذوا زوجتك؛ فإن في ذلك فسادًا كثيرًا، وخَف على نفسك المسكينة، ولا تدخل منزله، واقطع الود بكل ممكن.

- فإن كان جارك رافضيًّا أو صاحب بدعة كبيرة، فإن قدرتَ على تعليمه وهدايته، فاجتهد، وإن عجزت، فانجمع عنه ولا تواده ولا تصافه، ولا تكن له مصادقًا ولا معاشرًا، والتحول عنه أَوْلى.

- فإن كان جارك يهوديًّا أو نصرانيًّا في الدار أو السوق أو البستان، فجاوره بالمعروف ولا تؤذه.

" فيجوز زيارته في مرضه، أما عند الموت فلا يُعزي فيه؛ لحديث علي -رضي الله عنه- لما مات أبو طالب، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌اذْهَبْ ‌فَوَارِهِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، فلم يعزه.

- فأما مَن جعَل إجابة دعوتهم دَيْدنه، وعاشرهم وباسطهم، ومِن ذلك زيارتهم في الأعياد وتهنئتهم بها، فلا يجوز؛ لأن فيها إقرارًا ضمنيًّا على ما أصاب دينهم من تحريف وأعيادهم -كما لا يخفى-، فمَن فعَل ذلك فإن إيمانه يرقُّ، وقد قال -تعالى-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة: 22).

- فإن انضاف إلى جواره كونه مِن قرابتك أو ذا رحمك؛ فهذا حقه آكَدُ.

- وكذا إن كان أحد أبويك ذميًّا، فإن للأبوين وللرحم حقًّا فوق حقوق الجوار؛ فأعطِ كلَّ ذي حق حقَّه.

- وكذا رد السلام، فلا تبدأ أحدًا من هؤلاء -اليهود والنصارى- بالسلام أصلًا، وإذا سلَّم أحدٌ منهم عليك، فقل: وعليكم، أما كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ فهذا لا بأس به، وأن تقول بغير إسراف ولا مبالغة في الرد؛ قال -تعالى-: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: 54).


فالمؤمن يتواضع للمؤمنين ويتذلَّل لهم، ويتعزز على الكافرين ولا يتضاءل لهم؛ تعظيمًا لحُرمة الإسلام وإعزازًا للدِّين، من غير أن يؤذيهم ولا يودهم كما يود المسلم".




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 04-05-2023, 10:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر

الكبائر (13)
الربا
(موعظة الأسبوع)







كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

- المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- الربا من أكبر الكبائر وأشنع الجرائم؛ لما له مِن أثر عظيم في إفساد حياة الناس، وقد جاء النص على كونه من الكبائر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ فذكر منها: (وَأَكْلُ الرِّبَا) (متفق عليه)(1)، وسيأتي زيادة بيان حول ذلك.

(1) حكم الربا:

- جاءت شريعة الإسلام بالمقاصد العظيمة لحفظ حياة الناس، ومنها (المال): قال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تَأْكُلُوا ‌أَمْوَالَكُمْ ‌بَيْنَكُمْ ‌بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188).

- ومِن تشريعات منع أكل الأموال بالباطل، منع المعاملات المالية الربوية: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ فذكر منها: (وَأَكْلُ الرِّبَا).

- وقد كان تحريم الربا مِن الأحكام المبكرة حيث نزل التنفير منه في العهد المكي: قال الله -تعالى-: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم: 39).

- وفي العهد المدني كان التحريم صراحة للقليل والكثير منه: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 130)، وقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرِّبا ثَلاَثَةٌ وَسَبْعُونَ بَاباً أَيْسَرُها مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبا عِرْضُ الرَّجُلِ المُسْلِمِ) (رواه الحاكم في المستدرك، وصححه الألباني).

- ومع كمال الشريعة وإتمام النعمة، كان التأكيد على تحريمه في ختام حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا: رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) (رواه مسلم).

(2) حكمة تحريم الربا:

- الإسلام يدعو إلى التعاون والتراحم والإيثار والاحتساب بيْن المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) (رواه مسلم).

- المعاملات الربوية تفسد العلاقات بيْن أفراد المجتمع، ولا سيما الجانب المالي.

وذلك مِن وجوه:

1- الربا يؤدي إلى التباغض والعداوة بين أفراد المجتمع حيث استغلال جهة لجهة.

2- الربا يؤدي إلى خلق طبقة مترفة لا تعمل شيئًا؛ لأنها تنمو على حساب المحتاجين.

3- الربا يسبب الاضطراب في التجارة والأسواق، حيث تتفاوت النسب الربوية بين المتعاملين، بما يؤدي إلى عدم الاستقرار.

4- الربا طريقة خبيثة لتدمير الشعوب والبلاد: "يهود يثرب، ويهود فلسطين وإغراقهم أهل الديار بالديون ثم الاستعمار والاحتلال".

(3) عاقبة المتعاملين بالربا في الدنيا والآخرة:

أولًا: في الدنيا:

- المتعامل بالربا ملعون هو وكل مَن سَهَّل له طريق الربا: عن جابر -رضي الله عنه- قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ"، وَقَالَ: (هُمْ سَوَاءٌ) (رواه مسلم).

- المتعامل بالربا لا يُستجاب دعاؤه؛ لأن كسبه مِن حرام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون: 51)، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟) (رواه مسلم).

- المتعامل بالربا متوعد بذهاب بركة المال، وحلول الخراب والوبال؛ فهو في حرب مع مَن له جنود السماوات والأرض، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279)، وقال الله -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة: 276)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). (اسألوا عنابر السجون الممتلئة بمَن عجزوا عن سداد الديون الربوية أو استدانوا بسببها، ثم عجزوا عن السداد).

ثانيًا: في الآخرة:

- المتعامل بالربا متوعد بالنار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).

- المتعامل بالربا معذَّب في قبره إلى يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا... فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ -حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ- أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ...) إلى أن قال: (قُلْتُ لَهُمَا: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟ قَالَ: قَالاَ لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ... وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا) (رواه البخاري).

خاتمة:

- أيها المسلم، احذر الدعوات الزائفة لترويج الربا تحت مسميات كاذبة: "فائدة - أرباح - استثمار - عائد - ونحوها"؛ فإنك مسئول عن كلِّ مليم أخذته أو أعطيته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ... وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).


- أيها المسلم... احذر الفتاوى الفاسدة لعلماء السوء؛ فأنتَ المسئول وحدك يوم القيامة: قال الله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: 38)، وقال: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (عبس: 34).

فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمَّن سواك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ

(1) الإشارة إلى إقدام كثيرٍ مِن الناس على المعاملات الربوية كحلول للخروج مِن الأزمة الاقتصادية عند الآخذ، وكاستغلال للأزمة عند المعطي: "صور مِن ذلك: القروض الربوية - تمويل جهات للمشروعات الصغيرة أو الكبيرة بمعاملة ربوية - حبس كثير مِن الأغنياء أموالهم في البنوك الربوية بحجة الأمان والضمان - مضاربات وهمية بيْن الأفراد - قلب الدَّين على المعسر (فائدة على التأخير - وغير ذلك)".




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 26-05-2023, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر

الكبائر (14)
الرشوة
(موعظة الأسبوع)









كتبه/ سعيد محمود


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛


المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- الرشوة من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام؛ لما لها من أثر عظيم في إفساد حياة الناس، وقد جاء النص على كونها من الكبائر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‌الرَّاشِيَ ‌وَالمُرْتَشِيَ"(1) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

تحريم الرشوة، وبيان أثرها:

- جاء الإسلام بعقيدة وشريعة تدل على أن الأرزاق مقدَّرة، وأن على الإنسان أن يسعى في الأسباب المشروعة للكسب الحلال: قال -تعالى-: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود: 6)، وقال -تعالى-: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32)، وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور) (15: الملك)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 168).

- وحرَّم الإسلام الكسب الحرام على أي صورة كانت، ورتَّب على ذلك العقوبة الشديدة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلُ الجنَّةَ لَحمٌ نبَت مِن سُحْتٍ، وكلُّ لَحمٍ نبَت مِن سُحتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني). قال القاري في المرقاة: "السحت: الحرام الشامل للربا والرشوة وغيره"(2).

- لقد حرم الإسلام هدايا العمال، واعتبرها من الرشوة المقنعة؛ فكيف بالرشوة الفاجرة الصريحة؟! عن أبي حميد الساعدي قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، ‌أَوْ ‌بَقَرَةٌ ‌لَهَا ‌خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) مَرَّتَيْنِ. (متفق عليه).

وعن عدي بن عميرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ ‌فَكَتَمَنَا ‌مِخْيَطًا ‌فَمَا ‌فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: (وَمَا لَكَ؟)، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى) (رواه مسلم)(3).

- ولقد شاعت الرشوة الصريحة في هذا الزمان، وسمَّاها الناس بأسماء تروجها: (إكرامية - هدية - حلاوة - أتعاب -...)، وتنافسوا في طرقها ووسائلها دون مبالاة بآثارها وعواقبها! قال -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف: 103- 104)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ) (رواه البخاري).

- إشارة إلى بعض الآثار السيئة لشيوع الرشوة على بعض الجوانب: (المشروعات الإنتاجية الفاسدة - تهريب المخدرات والسلاح وتهديد أمن البلاد - دخول الأدوية والأغذية الفاسدة - تهميش الكفاءات وصعود الراشين - شيوع الحقد والكراهية بسب الظلم الناتج عن الرشوة -....).

- عاقبة المتعاملين بالرشوة في الدنيا والآخرة:

أولًا: في الدنيا:

- المتعامل بالرشوة ملعون، بعيد عن رحمة الله(4): عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‌الرَّاشِيَ ‌وَالمُرْتَشِيَ فِي ‌الحُكْمِ" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- المتعامل بالرشوة ممحوق بركة المال والحال، كما هو حال كل آكل للحرام: قال -تعالى-: (‌يَمْحَقُ ‌اللَّهُ ‌الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) (متفق عليه).

- المتعامل بالرشوة مقطوع الصلة بربه؛ لأنه محروم من استجابة دعائه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟! (رواه مسلم). وروي في الحديث: "يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ" (رواه الطبراني). وعن وهب بن مُنبِّه قال: "مَن سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته" (جامع العلوم والحكم).

ثانيا: في الآخرة:

- المتعامل بالرشوة ملعون، بعيد عن رحمة الله في الدنيا؛ فكيف بحاله في الآخرة؟! قال -تعالى-: (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرً) (النساء: 52).

- المتعامل بالرشوة مفضوح يوم القيامة بكل رشوة أخذها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ ‌حَتَّى ‌يُسْأَلَ ‌عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال -عليه الصلاة والسلام-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ ‌رُغَاءٌ، ‌أَوْ ‌بَقَرَةٌ ‌لَهَا ‌خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ) (متفق عليه).

- المتعامل بالرشوة مستحق لعذاب جهنم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلُ الجنَّةَ لَحمٌ نبَت مِن سُحْتٍ وكلُّ لَحمٍ نبَت مِن سُحتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني).

- خاتمة: هل للمتعامل بالرشوة توبة؟

- الله -عز وجل- يتوب على كلِّ عاصٍ إذا تاب توبة صادقة صحيحة: قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).

- توبة المتعامل بالرشوة لا بد فيها من إصلاح ما أفسد، وأن يخرج من المال الحرام الذي أخذه برده في مصالح المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌كَانَتْ ‌عِنْدَهُ ‌مَظْلِمَةٌ ‌لِأَخِيهِ ‌فَلْيَتَحَلَّلْهُ ‌مِنْهَا، ‌فَإِنَّهُ ‌لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).

- إشارة في الختام مرة أخرى إلى أن الأرزاق قد كتبت وقسمت، وأنك لن تأخذ إلا ما قسمه الله لك؛ فاحرص على أخذه بالحلال، وارضَ بما قسم الله لك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ -تعالى- لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ) (رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاس) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمَّن سواك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الرشوة: هي ما يُعطى لإبطال حق، أو لإحقاق باطل. والراشي هو دافع الرشوة، والمرتشي هو آخذها وقابضها، والرائش الوسيط بين الراشي والمرتشي. قال العلماء -رحمهم الله-: "وإنما تلحق اللعنة الراشي إذا قصد بها أذية مسلم أو ينال بها ما لا يستحق، أما إذا أعطى ليتوصل إلى حقٍّ له، ويدفع عن نفسه ظلمًا؛ فإنه غير داخل في اللعنة، وأما الحاكم فالرشوة عليه حرام أبطل بها حقًّا أو دفع بها ظلمًا" (الكبائر للذهبي).

(2) يأتي هنا السؤال: لماذا كان أكل الحرام له كل هذا التأثير؟ والجواب: أن الإنسان إذا كان كسبه من حرام، فَسَد كلُّ حاله؛ فطعامه وشرابه سيكون من الحرام، ونكاحه سيكون من الحرام، وحجه، إلخ.


(3) من أسباب انتشار الرشوة: شبهة بعض الموظفين أن الراتب الوظيفي ضعيف لا يكفي! ولا يدري أن العقد الوظيفي ملزم، وإلا طالب بالزيادة الحلال أو الفراق.

(4) المرتشي خصوصًا يكون في حالة من الذل والحقارة ما يجعله يتوارى ويخفي فعله بكل الوسائل، ولا يحب أن يقال له: "فلان المرتشي".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-04-2024 الساعة 07:21 PM.
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 26-05-2023, 08:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر

الكبائر (15)


الرياء

(موعظة الأسبوع)




كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الرياء من كبائر الأعمال، والمنكرات الجسام، وقبيح الخصال، وقد ورد فى حقه شديد العقاب والوبال: عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ ‌أَخْوَفَ ‌مَا ‌أَخَافُ ‌عَلَيْكُمُ ‌الشِّرْكُ ‌الْأَصْغَرُ) قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟)، وفي لفظ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ ‌وَشِرْكَ ‌السَّرَائِرِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: (يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ) (رواه ابن جزيمة، وحسنه الألباني).
- والرِّياء هو: إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها؛ ليحمدوا صاحبها ويثنوا عليه: قال القرطبي -رحمه الله-: "وحقيقة الرِّياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله: طلب المنزلة في قلوب الناس".
(1) أثر الرياء على العبد في الدنيا والآخرة:
- الرياء من الكبائر التي ورد فيها الوعيد الشديد لصاحبها: قال الله -سبحانه-: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون: 4 - 7).
- الرياء جهل بقدر وقدرة الجليل العظيم حيث يطلب المرائي على عمله نظر المخلوقين: قال -تعالى-: (‌وَمَا ‌قَدَرُوا ‌اللَّهَ ‌حَقَّ ‌قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر: 67). قال قتادة: "إذا راءى العبد، قال الله: انظروا إلى عبدي كيف يستهزئ بي؟!" (الكبائر للذهبي).
- المرائي معذَّب القلب والبال، بانتظاره ثناء المخلوقين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: («‌مَنْ ‌سَمَّعَ ‌سَمَّعَ ‌اللَّهُ ‌بِهِ ‌وَمَنْ ‌يُرَائِي ‌يُرَائِي ‌اللَّهُ ‌بِهِ) (متفق عليه).
قال الخطابي -رحمه الله-: "معناه: مَن عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه النّاس ويَسْمَعُوه، جُوزيَ على ذلك بأن يُشهّرَه الله ويَفضَحَه ويُظهِرَ ما كان يُبْطِنه".
- المرائي عمله باطل بلا أجر ولا ثواب(1): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 264)، عن أبي هُريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ‌أَنَا ‌أَغْنَى ‌الشُّرَكَاءِ ‌عَنِ ‌الشِّرْكِ، ‌مَنْ ‌عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) (رواه مسلم).
وخرَّج النسائي بإسنادٍ جيدٍ عن أبي أُمَامة الباهلي قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا شَيْءَ لَهُ) فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا شَيْءَ لَهُ)، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني).
- لذا كان الرياء من أعظم وسائل الشيطان لإفساد أعمال كثير من العباد، وإهلاكهم يوم القيامة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (‌إِنَّ ‌أَوَّلَ ‌النَّاسِ ‌يُقْضَى ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ ‌عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
إنكار السلف على مَن ظهرت منهم علامات الرياء:
- قال الذهبي -رحمه الله-: "وروي أن عمر بن الخطاب نظر إلى رجل وهو يطاطئ رقبته، فقال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك، ليس الخشوع فى الرقاب، إنما الخشوع فى القلوب. وقيل: إن أبا أمامة الباهلي أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده ويدعو، فقال له: أنت، أنت! لو كان هذا فى بيتك؟! وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل؛ فإنه أشرف من إظهاره بالنهار؛ لأن السمت بالنهار للمخلوقين، والسمت بالليل لرب العالمين" (الكبائر).
- بل قد حدَّدوا للمرائي علامات وتصرفات: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان فى الناس، ويزيد في العمل إذا أُثنِي عليه، وينقص إذا ذُم به".
(2) الإخلاص دواء الرياء:
- أوجب الله الإخلاص شرطًا لقبول الأعمال الصالحة: قال الله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110). قال الطبَري -رحمه الله-: (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) يقول: فلْيُخلص له العبادة، وليُفرد له الربوبية، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) يقول: ولا يجعل له شريكًا في عبادته إياه؛ وإنما يكون جاعلًا له شريكًا بعبادته إذا راءى بعمَله الذي ظاهره أنه لله، وهو مُريدٌ به غيرَه".
- عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى إِخْفَاءِ الْعَمَلِ، وَمُدَافَعَةِ الرياء، و طلب الأجر من الله وحده: قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) (الأنعام: 162). وقال العز بن عبد السلام: "الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيمًا من الناس، ولا توقيرًا، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي". وقال يعقوب المكفوف: "المخلص: مَن يكتم حسناتِه كما يكتم سيئاتِه". وسُئل التستري: "أي شيء أشد على النفس؟! قال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب". وقال سفيان الثوري: "ما عالجتُ شيئًا أشد عليَّ من نيتي؛ إنها تتقلبُ عليّ".
- جزاء الإخلاص الخلاص من الكربات في الدنيا والآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌سَبْعَةٌ ‌يُظِلُّهُمُ ‌اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (متفق عليه).
(3) خاتمة: تساؤلات مهمة:
هل الفرح بثناء الناس من الرياء؟
الجواب: إن كان ذلك من غير سعي وتكلف؛ فليس من الرياء، بل هو من الخير. فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (‌تِلْكَ ‌عَاجِلُ ‌بُشْرَى ‌الْمُؤْمِنِ) (رواه مسلم). وسأل رجلٌ سعيدَ بن المسيّب -رحمه الله- فقال: "إنَّ أحدَنا يصطنع المعروفَ يُحِب أن يُحمَد ويؤجَر، فقال له: أتحبُّ أن تُمقت؟ قال: لا، قال: فإذا عملتَ لله عملاً فأخْلِصْه".
هل هناك ما نتعوذ به من الرياء بعد التوبة والإخلاص؟
الجواب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، وَسَأَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْكَ صِغَارَ الشِّرْكِ وَكِبَارَهُ؛ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ) (أخرجه الحكيم الترمذي، وحسنه الألباني).
فاللهم طهِّر قلوبنا من الرياء وحب السُّمعة، واجعل أعمالنا وأقوالنا ونياتنا خالصة لوجهك الكريم.
وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على نببنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
(1) فائدة:
الرياء والعمل لغير الله أقسام:
1- فتارة يكون الرياء محضًا، بحيث لا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، كما قال الله -عز وجل-: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء:142)، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
2- وتارة يكون العمل لله، ولكن يشاركه الرياء: فإن شاركه في أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضًا كما في الأحاديث السابقة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَنَا ‌أَغْنَى ‌الشُّرَكَاءِ ‌عَنِ ‌الشِّرْكِ)، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ).
3- وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء؛ فإن كان خاطرًا فدفعه، فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه، فمحل تفصيل بين العلماء: هل يحبط به عمله أم لا يضره ذلك، ويُجازَى على أصل نيته؟

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 02-06-2023, 11:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر

الكبائر (16)

التبرج

(موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

- المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- التبرج(1) من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام، وقد جاء فيه الوعيد الشديد: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (‌صِنْفَانِ ‌مِنْ ‌أَهْلِ ‌النَّارِ ‌لَمْ ‌أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ(2)، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) (رواه مسلم).

خطر التبرج في الدنيا والآخرة:

- التبرج كبيرة ومن أخلاق الجاهلية: ففي حديث أميمة بنت رُقَيْقَةَ -رضي الله عنها- حينما جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبايعه على الإسلام فقال: (أُبَايِعُكِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكِي بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقِي وَلَا تَزْنِي، وَلَا تَقْتُلِي وَلَدَكِ، وَلَا تَأْتِي بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ يَدَيْكِ وَرِجْلَيْكِ، وَلَا تَنُوحِي، وَلَا تَبَرَّجِي تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

- التبرج نفاق، ومخالفة لصدق الانتماء لدين الإسلام: عن أبي أذينة الصدفي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌خَيْرُ ‌نِسَائِكُمُ ‌الْوَدُودُ ‌الْوَلُودُ، ‌الْمُوَاتِيَةُ ‌الْمُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِّلَاتُ، وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلَّا مِثْلُ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ)(3) (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني).

- التبرج يستجلب اللعن على صاحبته، فتمشي في سخط الله ولعنته: فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (سَيَكُونُ ‌فِي ‌آخِرِ ‌أُمَّتِي ‌رِجَالٌ ‌يَرْكَبُونَ ‌عَلَى ‌سُرُوجٍ، ‌كَأَشْبَاهِ ‌الرِّجَالِ ‌يَنْزِلُونَ ‌عَلَى ‌أَبْوَابِ ‌الْمَسَاجِدِ؛ نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِمْ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ، الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ، لَوْ كَانَتْ وَرَاءَكُمْ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لَخَدَمْنَ نِسَاؤُكُمْ نِسَاءَهُمْ كَمَا يَخْدُمْنَكُمْ نِسَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ) (رواه أحمد وابن حبان، وحسنه الألباني).

- التبرج سبب في انتشار الفواحش، وذهاب الحياء، وتفشي الجرائم والدياثة، وإثارة الغرائز، وغير ذلك من المنكرات (حادثة فتاة العتبة في شهر رمضان - حوادث التحرش التي لا تُحصَى - ... ): خطب علي بن أبي طالب في الناس يومًا، فقال: "ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته بين الرجال تنظر إليهم، وينظرون إليها"، وفي رواية: "إنه لا خير فيمن لا يغار".

- التبرج سبب في نزول البلاء والكوارث والعقوبات: عن زينب أم المؤمنين: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا، يقولُ: (لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ! ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه). وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: (نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال: 25).

الحجاب في مواجهة التبرج:

- جاء الإسلام بالعفة والستر، فحذَّر من فتنة النساء أشد التحذير: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) (آل عمران: 14)، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا ‌تَرَكْتُ ‌بَعْدِي ‌فِتْنَةً ‌هِيَ ‌أَضَرُّ ‌عَلَى ‌الرِّجَالِ ‌مِنَ ‌النِّسَاءِ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِنَّ ‌الدُّنْيَا ‌حُلْوَةٌ ‌خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ) (رواه مسلم)(4).

- وجعل الإسلام التدابير الكثيرة لسدِّ فتنة المرأة، ومنها: فرض الحجاب، وتحريم التبرج: قال -تعالى- لخير النساء: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 32- 33)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) (الأحزاب: 59).

وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "لَمَّا نَزَلَتْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنْ الْأَكْسِيَةِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

صورة مشرقة في العفة والتصون:

- غيرة الزبير -رضي الله عنه-: ذكر أبو عمر في التمهيد: أن عمر -رضي الله عنه- لما خطب عاتكة بنت زيد، شرطت عليه ألا يضربها، ولا يمنعها من الحق، ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيل عليها أن كَمَن لها لما خرجت إلى صلاه العشاء، فلما مَرَّت به ضرب على عجيزتها، فلما رجعت قالت: "إنا لله! فَسَد الناس، فلم تخرج بعد" (نقلًا عن عودة الحجاب).

- غيرة رجل صالح، ذكر ابن كثير -رحمه الله- في حوادث سنة 286 هـ قال: "من عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة: أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقال القاضي: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟ فلما صمموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه. فأقر بما ادَّعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه -وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر-: هو في حلٍّ من صداقي عليه في الدنيا والآخرة. وزاد الحافظ السمعاني في الأنساب: "فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يكتب هذا في مكارم الأخلاق" (البداية والنهاية).

خاتمة:

- أيتها المسلمة... احذري التبرج، وكذا الحجاب المقنع.

- أولياء النساء... أنتم مسئولون كذلك؛ إن دافع الغيرة وحده عندكم كفيل بحفظ النساء وأمرهن بالحجاب الشرعي؛ فكيف إذا انضاف إليه الأمر الشرعي من رب العالمين، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ ‌يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ ‌وَأَهْلِيكُمْ ‌نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ ‌رَاعٍ، ‌وَكُلُّكُمْ ‌مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ ‌اللهَ ‌سَائِلٌ ‌كُلَّ ‌رَاعٍ ‌عَمَّا ‌اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ

(1) التبرج: هو أن تُظهر المرأة للرجال الأجانب -الذين ليسوا من محارمها- ما يوجب عليها الشرع أن تستره من زينتها ومحاسنها، وهذا مجمل ما شرح به هذه الكلمة أكابر علماء اللغة والتفسير؛ قال مجاهد، وقتادة، وابن أبي نجيح: "التبرج هو المشي بتبختر، وتكسر، وتغنج". وقال مقاتل: "هو أن تُلقي المرأة خمارها على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها، وقرطها، وعنقها"، وفسَّره المبرد بقوله: "أن تُبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره"، وفسره أبو عبيدة بقوله: "أن تُخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة الرجال".

(2) قال النووي في المراد من ذلك: "أما (الكَاسِيَاتٌ العَارِيَاتٌ): فمَعْنَاهُ: تَكْشِف شَيْئًا مِنْ بَدَنهَا إِظْهَارًا لِجَمَالِهَا، فَهُنَّ كَاسِيَات عَارِيَات. وقيل: يَلْبَسْنَ ثِيَابًا رِقَاقًا تَصِف مَا تَحْتهَا، كَاسِيَات عَارِيَات فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا (مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ): فَقِيلَ: زَائِغَات عَنْ طَاعَة اللَّه -تعالى-، وَمَا يَلْزَمهُنَّ مِنْ حِفْظ الْفُرُوج وَغَيْرهَا، وَمُمِيلَات يُعَلِّمْنَ غَيْرهنَّ مِثْل فِعْلهنَّ. وَقِيلَ: مَائِلَات مُتَبَخْتِرَات فِي مِشْيَتهنَّ، مُمِيلات أَكْتَافهنَّ. وَقِيلَ: مَائِلات إِلَى الرِّجَال مُمِيلات لَهُمْ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتهنَّ وَغَيْرهَا. وَأَمَّا (رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ) فَمَعْنَاهُ: يُعَظِّمْنَ رُءُوسهنَّ بِالْخُمُرِ وَالْعَمَائِم، وَغَيْرهَا مِمَّا يُلَفّ عَلَى الرَّأْس، حَتَّى تُشْبِه أَسْنِمَة الإِبِل الْبُخْت، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي تَفْسِيره. قَالَ الْمَازِرِيّ: وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ: يَطْمَحْنَ إِلَى الرِّجَال وَلا يَغْضُضْنَ عَنْهُمْ، وَلا يُنَكِّسْنَ رُءُوسهنَّ...) (شرح النووي على صحيح مسلم).

(3) الغُرَاب الأَعْصَم: الأبيض الجناحين أو الرجلين، أَرَادَ قلَّة من يدْخل الْجنَّة مِنْهُنَّ؛ لَأن هَذَا النَّعْت فِي الْغرْبَان عَزِيز.

(4) للحجاب شروط، وضعها العلماء من خلال النصوص القرآنية والسنن النبوية، وهي كالتالي:

الأول: ستر جميع بدن المرأة على الراجح.

الثاني: أن لا يكون الحجاب زينة في نفسه، بحيث لا يلفت أنظار الرجال إلى مَن تلبسه.

الثالث: أن يكون ثخينًا لا يشف حتى يستر المرأة، فالشفاف يزيد المرأة فتنة للرجال.

الرابع: أن يكون فضفاضًا واسعًا غير ضيق؛ لأن الضيق يصف حجم الجسم أو بعضه، ويزينه في أعين الناظر إليه.

الخامس: أن لا يكون مُبَخَّرًا أو مُطيَّبًا.

السادس: أن لا يشبه ملابس الكافرات؛ لحرمة التشبه بهم.

السابع: أن لا يشبه ملابس الرجال.

الثامن: أن لا يُقصد به الشهرة بين الناس.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-04-2024 الساعة 07:25 PM.
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 07-06-2023, 01:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر

الكبائر (17)


تشبُّه الرجال بالنساء والعكس

(موعظة الأسبوع)




كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- تشبه الرجال بالنساء والعكس من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام، وقد جاء فيه الوعيد الشديد: فَعَنِ ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" (رواه البخاري).

- الإشارة إلى أن التشبه بين النوعين صار ظاهرة في هذا الزمان: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ: 20).

طبيعة خلق الإنسان:

- خلق الله الإنسان في أحسن صورة، وميَّزه وكرَّمه وفضَّله على كثيرٍ من المخلوقات: قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، وقال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70).

- خلق الله الرجل والمرأة، وميَّز كلًّا منهما بصفاتٍ تناسب تكوينه وفطرته (الشكل - الكلام - الأفعال - اللباس - الوظائف - ...)(1): قال -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: 34)، وقال -تعالى-: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى) (آل عمران: 36)، وقال -تعالى- عن طبيعة النساء: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف: 18). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هُنَّ النِّسَاءُ؛ فَرَّقَ بَيْنَ زِيِّهِنَّ وَزِيِّ الرِّجَالِ".

- وجعل سبحانه بين صفات النوعين حواجز؛ حتى لا يبغى أحدهما على الآخر، وكان مَن تشبَّه بالآخر مغيَّرًا لخلق الله، متبعًا لدعوة إبليس: قال -تعالى-: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء: 32)، وقال عن دعوة إبليس: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119).

- حرمة التشبه بين النوعين(2):

- بناءً على ما سبق حَرَّم الإسلام التشبه بين النوعين؛ لما فيه مِن انتكاس الفِطَر السليمة، وتغيُّر الطباع القويمة، واعتبره من الذنوب الكبيرة: قال -تعالى-: (فِطْرَتَ اللَّهِ *الَّتِي *فَطَرَ *النَّاسَ *عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" (رواه البخاري).

وعنه -أيضًا- قال: "لَعَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ" (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

- ورتَّب الإسلام على ذلك العقوبة في الدنيا والآخرة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ *بِمُخَنَّثٍ *قَدْ *خَضَبَ *يَدَيْهِ *وَرِجْلَيْهِ *بِالْحِنَّاءِ، فَقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا بَالُ هَذَا؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ. فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى النَّقِيعِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ. وَأَخْرَجَ فُلاَنًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَنًا" (رواه البخاري).

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "فَالَّذِي يُعَظِّمُ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مِنَ الرِّيَاسَةِ وَالْأَمْرِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُحَرَّمِ مَا يَجْعَلُ، هُوَ أَحَقُّ بِلَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ". وقال النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ، *وَالْمَرْأَةُ *الْمُتَرَجِّلَةُ، *الْمُتَشَبِّهَةُ *بِالرِّجَالِ، وَالدَّيُّوثُ...) (رواه أحمد والنسائي وصححه أحمد شاكر).

أسباب الوقوع في التشبه:

1- ضَعْفُ الْإِيمَانِ، وَغِيَابُ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ.

2- َسُوءُ التَّرْبِيَةِ من الآباء لِلْأَبْنَاءِ.

3- حُبُّ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ.

4- َسُوءُ فَهْمِ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ.

5- َالْبُعْدُ عَنْ صُحْبَةِ أَهْلِ الشِّيَمِ وَالْمُرُوءَاتِ، وَمُخَالَطَةُ أصحاب السوء.

ما ينبغي أن يتنافس عليه:

- لقد شرع الله المنافسة بين الناس عمومًا (ذكورًا وإناثًا) في أعمال الخير والبر، بل ورغَّب في ذلك: قال -تعالى-: (*مَنْ *عَمِلَ *صَالِحًا *مِنْ *ذَكَرٍ *أَوْ *أُنْثَى *وَهُوَ *مُؤْمِنٌ *فَلَنُحْيِيَنَّهُ *حَيَاةً *طَيِّبَةً *وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ *أَجْرَهُمْ *بِأَحْسَنِ *مَا *كَانُوا *يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، وقال: (*وَفِي *ذَلِكَ *فَلْيَتَنَافَسِ *الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: 26).

- أين هؤلاء المتشبهين من النوعين مِن سلفنا الصالح؟! (إشارة الى قصة إسلام مصعب بن عمير وهجرته ووفاته، وتركه مباهج الدنيا وهو ابن الطبقة الراقية! - وقصة استشهاد أم حرام بنت ملحان بعد تمنيها الشهادة مع الرجال غزاة البحر الذين بشَّر بهم النبي -صلى الله عليه وسلم-).

علاج ظاهرة التشبه:

- النَّظَرِ إِلَى أَسْبَابِ انْتِشَارِهَا، فَمَعْرِفَةُ السَّبَبِ نِصْفُ الْعِلَاجِ، ثُمَّ يَشْتَرِكُ فِي هَذَا الْعِلَاجِ، الْمُجْتَمَعُ بِكُلِّ أَطْيَافِهِ.

- فعلى الْأُسْرَةِ: اتباع سُبُلَ التَّرْبِيَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالتَّنْشِئَةِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ دَوْرًا عَظِيمًا فِي الْقَضَاءِ عَلَى هَذِهِ الظَّاهِرَةِ.

- وعَلَى الدُّعَاةِ وَأَصْحَابِ التَّأْثِيرِ: نَشْرُ الْوَعْيِ الدِّينِيِّ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَرَبْطُ الشَّبَابِ بِرَبِّهِمْ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِتَقْوَاهُ وَمَخَافَتِهِ، وَإِشَاعَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

- وَعَلَى الشَّبَابِ: أَنْ يَبْتَعِدُوا عَنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَمَوَاطِنِ الِاخْتِلَاطِ، وَأَنْ يَعْتَزُّوا بِرُجُولَتِهِمُ الَّتِي فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهَا.

- وَعَلَى الدَّوْلَةِ الْمُسْلِمَةِ ِأَنْ تَضَعَ الْأَنْظِمَةَ وَالْعُقُوبَاتِ لْمُكَافَحَةِ هَذَا السُّلُوكِ الْقَبِيحِ، مَعَ التَّرْكِيزِ عَلَى بَرَامِجِ التَّثْقِيفِ وَالتَّوْعِيَةِ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْمُخْتَلِفَةِ.

اللهم احفظ شباب المسلمين، واهدهم إلى ما تحب وترضى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ

(1) للرجل صفات تميِّزه مثل: قوة البدن والعضلات، وانتشار الشعر في الجسد والوجه، وخشونة الصوت والجرأة، والشجاعة، ونحو ذلك مما يناسب وظيفته في الحياة؛ فهو الذي يبني السدود ويحفر الآبار، ويكتشف المناجم ويقاوم الأعداء، ويحرس الثغور في حر الشمس وشدة البرد، وخشن العيش، وهكذا.

وأما المرأة فلها كذلك صفات تميزها، فهي: على عكس الرجل في كلِّ ما تقدَّم؛ بالإضافة إلى جمال الوجه والهيئة، وعوامل الفتنة، وطريقة المشية، وهيئة الثياب، والزينة بأنواعها: كالتحلي بالذهب والحرير، والتعطر، وغير ذلك.

(2) من مظاهر التشبه من الرجال بالنساء: لبس الذهب والحرير بصورٍ مختلفة، مثل: الأساور، والقلائد، وقص الشعور وجمعها على طريقة النساء، وارتداء الملابس المشابهة للنساء في هيئتها وألوانها، وصبغ الوجوه بالدهانات والزينات التي تشبه زينة النساء، والتحدث والممشى بطريقة تشبه النساء، وغير ذلك.

ومن مظاهر تشبه النساء بالرجال: ارتداء الملابس المشابهة للرجال في هيئتها وألوانها، وحلق الشعر بطريقة تشبه الرجال مع كشفه، ولبس الثياب التي تشبه ثياب الرجال، والتحدث بطريقة تشبه الرجال، وممارسة ألعاب رياضية لا تناسب المرأة، مثل: (كرة القدم، وحمل الأثقال، والملاكمة ونحوه)، وغير ذلك. ومن أقبح ذلك في حقِّ النوعين: محاولات التحول بعمليات التجميل من أنثى الى ذكر، والعكس!

قال الشاعر:

وَمَا عَجَبٌ أَنَّ النِّسَاءَ تَرَجَّلَتْ وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عـَجِـيـبُ



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 26-04-2024 الساعة 09:58 PM.
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 14-06-2023, 01:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر

الكبائر (18)


المَنُّ بالمعروف


(موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- المَنُّ بالمعروف من الكبائر الجسام، ومنكرات الأعمال، وقبيح الخصال، وقد وَرَد في حقِّه شديد العقاب والوبال: قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ) (رواه مسلم).
- المقصود بالمن بالمعروف: قال العلماء: "هُوَ: أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِعَطَائِهِ، فَيَقُولَ: أَعْطَيْتُكَ كَذَا، وَيَعُدُّ نِعَمَهُ عَلَيْهِ فَيُكَدِّرُهَا. وَالْأَذَى: أَنْ يُعَيِّرَهُ فَيَقُولَ: إِلَى كَمْ تَسْأَلُ وَكَمْ تُؤْذِينِي؟ وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَذْكُرَ إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَا يُحِبُّ وُقُوفَهُ عَلَيْهِ. أَوْ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَعْطَيْتُكَ، وَأَعْطَيْتُ فَمَا شَكَرْتَ"(1).
(1) حاجة الناس بعضهم إلى بعض في الدنيا:
- رَفَعَ الله مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَجَعَلَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، فحَثّهمَ عَلَى بَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ: قال -تعالى-: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ) (الأنعام: 165)، وقال: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف: 32). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ -تعالى- أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تقْضِي عَنْهُ دَيْنًا) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215)، وقال -تعالى-: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) (المزمل: 20)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ) (متفق عليه).
- إلا أن هناك مُبْطِلَاتٍ لِلْمَعْرُوفِ بَعْدَ بَذْلِهِ يَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّهَا تَذْهَبُ بِمَعْرُوفِهِمْ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وَتُحِيلُ حَلَاوَتَهُ إِلَى مَرَارَةٍ، وَتَقْلِبُهُ مِنْ مَعْرُوفٍ إِلَى مُنْكَرٍ، وَذَلِكُمْ هُوَ الْمَنُّ وَالْأَذَى فِيِ مَا يَبْذُلُهُ الْعَبْدُ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ.
(2) حرمة المن بالمعروف وعاقبته في الدنيا والآخرة:
- المن بالمعروف سبب في بطلانه، وضياع ثوابه: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) (البقرة: 264). وَسَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ: "فَعَلْتُ إِلَيْكَ وَفَعَلْتُ. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: اسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ إِذَا أُحْصِيَ" (الكبائر للذهبي). وَقَالَوا: "الْمَنُّ مَفْسَدَةُ الصَّنِيعَةِ".
- الكلام الطيب والاعتذار للسائل، أفضل من معروف يعقبه مَنٌّ وأذى: قال -تعالى-: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة: 263).
- ومِن عواقب المن والأذى السيئة في الدنيا: أن فِعْلَ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ يَبْقَى أَثَرُهُ بِذِكْرِ صَاحِبِ الْمَعْرُوفِ بِالْخَيْرِ وَشُكْرِهِ، فَإِذَا أَتْبَعَ مَعْرُوفَهُ بِالْمَنِّ أَوْ بِالْأَذَى قَطَعَ ذِكْرَهُ بِالْخَيْرِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: "مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ أَسْقَطَ شُكْرَهُ" (الكبائر للذهبي).
- وَشَبَّهَ اللَّهُ -تعالى- مَا يَفْعَلُهُ مِنْ مَنٍّ وَأَذًى بِفِعْلِ الْمُنَافِقِ: قال الله -سبحانه-: (كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (البقرة: 264)، قال العلماء: "أَيْ: أَنْتُمْ وَإِنْ قَصَدْتُمْ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ -تعالى- فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ الْمِنَّةَ وَالْأَذَى مُبْطِلَانِ لِأَعْمَالِكُمْ ، فَتَصِيرُ أَعْمَالُكُمْ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَعْمَلُ لِمُرَاءَةِ النَّاسِ وَلَا يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ -تعالى- وَالدَّارَ الْآخِرَةَ".
- وبعد كل هذا... فالْمَنَّانَ متوعد بالإبعاد والغضب يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ) (رواه مسلم).
(3) فضل الاحتساب للأجر عند الله:
- أهل الإخلاص والاحتساب يرجون الأجر من الخالق، ولا ينتظرون شيئا من المخلوقين: قال -تعالى-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان: 8- 9). وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه السلام-: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: 24). قال العلماء: "مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا لِطَعَامٍ يُخَفِّفُ جُوعَهُ، وَمَأْوًى يُكِنُّهُ فِي لَيْلِهِ، فلم يسأل مَن أدَّى إليهما المعروف، وَإِنَّمَا سأل رَبَّهُ".
- أهل الإخلاص والاحتساب يسترون معروفهم، ويحقِّرون أعمالهم، ولا يؤذون مَن شمله معروفهم: قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: "إِذَا اصْطَنَعْتَ الْمَعْرُوفَ فَاسْتُرْهُ، وَإِذَا صُنِعَ إِلَيْكَ فَانْشُرْهُ"، وقال العباس -رضي الله عنه-: "لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ، فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا صَغَّرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ". وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: "كَانَ أَبِي يَقُولُ: إِذَا أَعْطَيْتَ رَجُلًا شَيْئًا وَرَأَيْتَ أَنَّ سَلَامَكَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، فَكُفَّ سَلَامَكَ عَنْهُ".
(4) متى يُرَخَّصُ فِي ذِكْرِ َالْمَعْرُوفِ؟
- بَعْضُ النَّاسِ تُحْسِنُ إِلَيْهِ، ثم إذا اختلفت معه يَنَالُ مِنْ عِرْضِكَ، وَيُنْكِرُ مَعْرُوفَكَ، وَيُشَهِّرُ بِكَ عِنْدَ النَّاسِ، فعند ذلك يجوز لك أن َتَذُبّ عَنْ نَفْسِكَ بِذِكْرِ مَعْرُوفِكَ عَلَيْهِ كَيْ تُخْرِسَهُ وَتُلْزِمَهُ: قالِ -تعالى- لنبيه لما آذاه الأعراب: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 17)، (وفَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ رَمَاهُ الْخَوَارِجُ بِالتُّهَمِ الْبَاطِلَةِ، فَرَدَّ تُهَمَهُمْ بِصَنَائِعِ مَعْرُوفِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)؛ ولذلك قِيلَ: "إِذَا كُفِرَتِ النِّعْمَةُ حَسُنَتِ الْمِنَّةُ".
- خاتمة: نماذج في فعل المعروف واحتساب الأجر من الله -تعالى-:
تنبيه: قلَّ ذكر نماذج المحتسبين سرًّا في كتب أهل العلم؛ لأن هذا مقتضى حالهم، ولكن بعضهم عرف من آثاره.
- زين العابدين بن الحسين: قال محمد بن إسحاق: "كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل".
- عبد الله بن المبارك يقضي دين شاب من تلامذته من غير علمه: قال يعقوب بن إسحاق: حدثني محمد بن عيسى قال: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرطوس، وكان ينزل الرقة في الخان - وهو بمثابة الفندق حديثًا-، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يجده، فخرج إلى النظر متعجلًا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقالوا: محبوس على عشرة آلاف درهم دين عليه، فاستدل على الغريم فوزن له عشرة آلاف درهم، وحلَّفه ألا يخبر أحدًا، ما عاش فأُخرج الرجلُ بعد سداد الدين الذي على الشاب للغريم.
وسري ابن المبارك من ليلته، فلحق الفتى على مرحلتين في الرّقة، فقال له: يا فتى أين كنت؟ لم أرك، قال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين، قال: كيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني، ولم أدرِ، قال: فاحمد الله... ولم يعلم الرجل إلا بعد موت ابن المبارك، أنه هو الذي قضى دينه".
- عكرمة الفياض "جابر عثرات الكرام": "ذكر له في مجلسه أمر رجل صالح يقال له: خزيمة بن بشر"، وما آل إليه حاله من الفقر والشدة حتى أغلق عليه بابه ينتظر الموت. فقام فحمل أربعة آلاف دينار في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته، وخرج سرًّا من أهله، حتى نزل بيت خزيمة فأعطاه، فلما ألح عليه خزيمة أن يعرفه قال: "جابر عثرات الكرام". قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متّكأ" (عيون الأخبار)(2).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
(1) من صور المَنِّ والأذية بالمعروف: إذا شفع لطالبٍ في دراسةٍ صار في كلِّ مرَّةٍ يسأل عن مستواه الدراسي، وهو لا يهمه إلّا أنه يريد تذكيره أو تذكير أبيه أنه هو الذي شفع له. وإذا شفع له في وظيفةٍ صار يسأله في كلِّ مناسبةٍ عن ترقيته وعن مديره، ولا يريد بذلك إلا تذكيره، وهكذا على هذا المنوال في كل معروف يعمله.
(2) ومن جميل وعجيب ما ذكر حول هذه القصة لمَن أراد الزيادة، ما ذكره ابن حجة الحموي في كتابه: "ثمرات الأوراق" (ص 151-153)، وذكره أيضًا التنوخي في "المستجاد من فعلات الأجواد" (ص6-8)، وقد ذكره أيضًا أبو الحسن بن هذيل في كتاب: "عين الأدب والسياسة وزين الحسب والسياسة" (ص 199)، مع اختلاف في الشخصيات.
فذكروا جميعًا ما خلاصته:
أنه كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجل من بني أسد يُقَال له: "خزيمة بن بشر"، وكان مشهورًا بالمروءة والكرم والمواساة، وكانت نعمته وافرة، فلم يزل على تلك الحالة حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يواسيهم ويتفضَّل عليهم، فواسوه حينًا ثم ملوه، فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته -وكانت ابنة عمه- فقال لها: يا بنت العم! قد رأيت من إخواني تغيُّرا، وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، ثم أغلق بابه عليه، وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد، وبقي حائرًا في حاله.
وكان عكرمة الفياض (سُمِّي بذلك لفرط كرمه) واليًا على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه، إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر، فقال عكرمة: ما حاله؟ فقالوا: صار في أسوأ الأحوال، وقد أغلق بابه، ولزم بيته. فقال عكرمة الفياض: فما وجد خزيمة بن بشر مواسيًا ولا مكافئًا؟ فلما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته، وخرج سرًّا من أهله، فركب ومعه غلام واحد يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة، فأخذ الكيس من الغلام، ثم أبعده عنه، وتقدم إلى الباب فطرقه بنفسه، فخرج خزيمة فقال له: أصلح بهذا شأنك، فتناوله فرآه ثقيلًا، فوضعه وقبض على لجام الدابة وقال له: مَن أنت جُعلت فداك؟ قال له: ما جئت في هذا الوقت وأنا أريد أن تعرفني، قال خزيمة: فما أقبله أو تخبرني من أنت؟ قال: أنا جابر عثرات الكرام، قال: زدني، قال: لا، ثم مضى.
ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج، قومي فاسرجي، قالت: لا سبيل إلى السراج، فبات يلمس الكيس فيجد تحت يده خشونة الدنانير. ورجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته، وسألت عنه، فأُخبرت بركوبه منفردًا، فارتابت، فلما رآها تلك الحالة قال لها: ما دهاك يا ابنة العم؟ قالت: سوء فعلك بابنة عمك، أمير الجزيرة لا يخرج بعد هدأة من الليل منفردًا عن غلمانه في سرٍّ من أهله إلا إلى زوجة أو سرية؟
فقال: لقد علم الله ما خرجتُ لواحدة منهما، قالت: لا بد أن تُعلمني، قال: فاكتميه إذًا، قالت: أفعل، فأخبرها بالقصة على وجهها. ثم أصبح خزيمة فصالح غرماءه، وأصلح من حاله، ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين، فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه، وكان مشهورًا لمروءته، وكان الخليفة به عارفًا، فأذن له، فلما دخل عليه وسلم بالخلافة قال: يا خزيمة! ما أبطأك عنا؟ فقال: سوء الحال يا أمير المؤمنين، قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي. قال: فمَن أنهضك؟ قال: لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلا ورجل يطرق بابي، وكان منه كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها، فقال: هل عرفته؟ قال: لا والله لأنه كان متنكرًا، وما سمعت منه إلا "جابر عثرات الكرام".
قال: فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته، وقال: لو عرفناه لأعنَّاه على مروءته، ثم قال علّي بقناة، فأتي بها فعقد لخزيمة الولاية على الجزيرة، وعلى عمل عكرمة الفياض، وأجزل عطاياه، وأمره بالتوجه إلى الجزيرة؛ فخرج خزيمة متوجهًا إلى الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه فسلَّم عليه، ثم سارا جميعًا إلى أن دخلا البلد، فنزل خزيمة في دار الإمارة، وأمر أن يؤخذ عكرمة، وأن يحاسَب وما يدري أنه صاحبه، فحوسب، ففضل عليه مال كثير، فطلبه خزيمة بالمال، فقال: ما لي إلى شيء منه سبيل، فأمر بحبسه، ثم بعث يطالبه، فأرسل إليه: إني لست ممَّن يصون ماله لغرضه (أي: لا يبقي منه شيئًا ولا يدخر).
فأمر به فكُبل بالحديد وضُيِّق عليه، وأقام على ذلك شهرًا، فأضناه ثقل الحديد، وأضر به، وبلغ ذلك ابنة عمه، فجزعت عليه واغتمت، ثم دعت مولاة لها ذات عقل وقالت: امضي الساعة إلى باب هذا الأمير، فقولي: عندي نصيحة، فإذا طُلبت منك قولي: ولا أقولها إلا للأمير خزيمة، فإذا دخلتِ عليه سليه الخلوة، فإذا فعل قولي له: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك في مكافأتك له بالضيق والحبس والحديد؟ قال: ففعلتْ ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه! جابر عثرات الكرام غريمي؟!، قالت: نعم.
فأمر من وقته بدابته فأُسرجت، وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم، وسار بهم إلى باب الحبس ففُتح، ودخل فرأى عكرمة الفياض في قاع الحبس متغيرًا قد أضناه الضر، فلما نظر عكرمة إلى خزيمة وإلى الناس أحشمه ذلك، فنكس رأسه، فأقبل خزيمة حتى انكب على رأسه فقبله، فرفع رأسه إليه وقال: ما أعقب هذا منك؟! قال: كريم فعلك وسوء مكافأتي، قال يغفر الله لنا ولك، ثم أمر بفك قيوده، وأن توضع في رجليه، فقال عكرمة: تريد ماذا؟
قال: أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك، فقال: أقسم عليك بالله أن لا تفعل، فخرجا جميعًا إلى أن وصلا إلى دار خزيمة، فأكرمه وحسن هيئته، واعتذر من زوجته، ثم سأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين، وهو يومئذٍ مقيم بالرملة، فأنعم له بذلك، فسارا جميعًا حتى قدما على سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب، فأخبره بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم علينا بغير أمرنا مع قرب العهد به؟! ما هذا إلا لحادث عظيم! فلما دخل عليه قال قبل أن يسلِّم: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: فما أقدمك؟ قال: ظفرت بـ"جابر عثرات الكرام"، فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته، قال: ومَن هو؟ قال: عكرمة الفياض. فأذن له في الدخول، فدخل فسلم عليه بالخلافة، فرحب به، وأدناه من مجلسه، وقال: يا عكرمة كان خيرك له وبالًا عليك، ثم قال له: اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة، فكتبها، وقضيت على الفور، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار، مع ما أضيف إليها من التحف والظرف، ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وقال له: أمرُ خزيمة إليك؛ إن شئت أبقيته، وإن شئت عزلته، قال: بل رده إلى عمله يا أمير المؤمنين، ثم انصرفا جميعًا، ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته (من مقالة على موقع: إسلام ويب، بعنوان: جابر عثرات الكرام).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 26-04-2024 الساعة 10:05 PM.
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 22-06-2023, 01:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر

الكبائر (19)

الكبر


(موعظة الأسبوع)




كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

المقدمة:

- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

- الكبر من الكبائر الجسام، ومنكرات الأعمال، وقبيح الخصال، وقد وَرَد في حقِّه شديد العقاب والوبال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا ‌يَدْخُلُ ‌الْجَنَّةَ ‌مَنْ ‌كَانَ ‌فِي ‌قَلْبِهِ ‌مِثْقَالُ ‌ذَرَّةٍ ‌مِنْ ‌كِبْرٍ) (رواه مسلم).

- معنى الكِبْر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌الْكِبْرُ ‌بَطَرُ ‌الْحَقِّ ‌وَغَمْطُ ‌النَّاسِ) (رواه مسلم)(1)، وقال الزَّبيدي: "الكِبْر: حالةٌ يتخصَّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسَه أَكْبَر من غيره". وقيل الكِبْر هو: "استعظام الإنسان نفسه، واستحسان ما فيه من الفضائل، والاستهانة بالناس، واستصغارهم، والترفع على مَن يجب التواضع له" (تهذيب الأخلاق للجاحظ).

(1) ذم الكبر والتنفير منه:

- الكِبْر أوَّل الذنوب التي عُصي الله -تبارك وتعالى- بها في هذا العالم: قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 34).

- والكِبْر سبب رئيس في هلاك الأمم السابقة: قال -تعالى- على لسان نبيِّه نوح -عليه السلام-: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (نوح: 7)، وقال -تعالى- عن قوم عاد: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت: 15)، وقال -تعالى- في قوم ثمود: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الأعراف: 75-76)، وقال الله -تعالى- عن قوم نبي الله شعيب -عليه السلام-: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (الأعراف: 88)، وقال -تعالى- عن فرعون وجنده: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص: 39).

- الكبر سبب للصرف عن دين الله: قال -تعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 146)(2).

- الكبر سبب لدخول النَّار والعذاب فيها: قال الله -تعالى-: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف: 20)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌أَلَا ‌أُخْبِرُكُمْ ‌بِأَهْلِ ‌النَّارِ: ‌كُلُّ ‌عُتُلٍّ، ‌جَوَّاظٍ، ‌مُسْتَكْبِرٍ) (متفق عليه).

وقال: (تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَغِرَّتُهُمْ؟ قَالَ اللهُ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا) (رواه مسلم).

- وذلك لأن الكبر صفة الرب، وليست صفة العبد الضعيف: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "الكبر ينافي حقيقة العبوديَّة، كما ثبت في الصَّحيح، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: يقول الله: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذَّبته، فالعظمة والكبرياء من خصائص الرُّبوبيَّة". وقال مطرف بن عبد الله لرجل مستكبر لما قال له: "ألا تعرفني؟! قال: بلى أعرفك، فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة!".

- وأخبر النبي أنه كلما ضعف داعي الكبر عند الإنسان، اشتد عذابه وعقابه اذا فعله وباشره: قال -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، ‌وَمَلِكٌ ‌كَذَّابٌ، ‌وَعَائِلٌ ‌مُسْتَكْبِرٌ) (رواه مسلم).

(2) فضل التواضع:

- كفى بهذا الخُلُق شرفًا أن صدرت به صفات عباد الرحمن: قال -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (الفرقان: 63).

- أمر به أعلى الناس منزلة وأحسنهم خلقًا أن يضع مِن قدره، ليسهل على إخوانه التعامل معه: قال -تعالى-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88).

- هو سبب لمحبة الخلق وإيثار القلوب في الدنيا، ونيل الجزاء الأعلى في الآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ اللهُ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

- هو سبب للتوفيق والسداد في الرأي: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا فِي رَأسِهِ حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذَا تَوَاضَعَ، قِيلَ لِلْمَلَكِ: ارْفَعْ حَكَمَتَهُ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ضَعْ حَكَمَتَهُ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره).

(3) نماذج من المتواضعين:

- سيد المتواضعين: عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: (هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، ويخبر أنه كان راعيًا للغنم فيقول: (كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ) (رواه البخاري)، بخلاف حال المتكبرين الذين يظنون أن ذلك يحقر مِن قدرهم؛ لا سيما الذين أعطوا مِن متاع الدنيا ما يعينهم على العلو وترك التواضع.

- السَّلَف الصالحون: عن عروة بن الزبير قال: "رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا ينبغي لك هذا. فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دَخَلَت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها" (تاريخ دمشق لابن عساكر). وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يحمل الحزمة من الحطب على ظهره، وهو أمير الناس في المدينة، ويقول: "طرقوا للأمير، طرقوا للأمير" (تنبيه الغافلين للسمرقندي)، وقال رجاء بن حيوة: "قام عمر بن عبد العزيز ليلة فأصلح السراج، فقلت: يا أمير المؤمنين: لمَ لمْ تأمرني بذلك؟ أو دعوت مَن يصلحه؟ فقال: قمتُ وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر" (الطبقات الكبرى)، وقال الأصمعي: "كتب محمد بن كعب نسبه محمد بن كعب القرظي. فقيل له: قل الأنصاري. فقال: أكره أن أمن على الله ما لم أفعل" (قوت القلوب)، وعن مالك بن مغول قال: "قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ تَكَلَّمْتُ، وَلَوْ وَجَدْتُ بُدًّا مَا تَكَلَّمْتُ، وَإِنَّ زَمَانًا أَكُونُ فِيهِ فَقِيهَ أَهْلِ الْكُوفَةِ زَمَانُ سُوءٍ!" (سنن الدارمي).

(4) أمور تعين على التواضع:

1- شهود ضعف النفس وعيوبها: قال الله -تعالى-: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ . إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) (الطارق: 5-8)، وقال: (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "عجبًا لابن آدم، يغسل الخرء بيده في اليوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار السماوات والأرض!" (التواضع والخمول).

2- تذكر عاقبة الكبر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).

3- الإذعان للحق وقبوله مِن كل مَن جاء به: سُئِل الفضيل عن التواضع؟ فقال: "يخضع للحق وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله" (مدارج السالكين لابن قيم الجوزية). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ وَمِمَّنْ تُبْغِضُ" (مدارج السالكين).

4- مجالسة المساكين والفقراء الصالحين وزيارتهم، ولا سيما لمَن كان كثير المجالسة للكبراء والوجهاء: قال -تعالى- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: 28). "مَرَّ الحسن على صبيان معهم كسر خبزٍ فاستضافوه، فنزل فأكل معهم، ثُمَّ حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم، وقال: البدء لهم" (شذرات الذهب).

5- ترك نفيس الطعام والثياب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ

(1) قال ابن القيم -رحمه الله-: "فَسَّر النَّبي الكِبْر بضده فقال: (‌الْكِبْرُ ‌بَطَرُ ‌الْحَقِّ، ‌وَغَمْطُ ‌النَّاسِ) (رواه مسلم)، فبطر الحق: رده وجحده، والدفع في صدره، كدفع الصائل. وَغَمْصُ الناس: احتقارهم، وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها".

(2) مما يذكر في ذلك تنفيرًا؛ ما ذكره أصحاب السِّيَر: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - لما بلغه إسلام جبلة بن الأيهم -آخر ملوك غسان- فَرِح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة. وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه، فأَذِن له، فركب في خلقٍ كثيرٍ مِن قومه، قيل: مائة وخمسون راكبًا. وقيل: خمسمائة. وتلقته هدايا عمر ونزله قبْل أن يصل إلى المدينة بمراحل، وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا، دخلها وقد ألبس خيوله قلائد الذهب والفضة، ولبس هو تاجًا على رأسه، مرصعًا باللآلئ والجواهر، وخرج أهل المدينة رجالهم ونساؤهم ينظرون إليه، فلما سَلَّم على عمر رحَّب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السَّنَة.

فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وَطِئَ إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل، ومِن الناس مَن يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري عمر، ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر، فاعترف جبلة فقال له عمر: أقده. فقال جبلة: كيف وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى. فقال جبلة قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع ذا عنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك. فقال: إذًا أتنصر. فقال: إن تنصرت ضربت عنقك.

فلما رأى الجد، قال: سأنظر في أمري هذه الليلة. فانصرف مِن عند عمر، فلما ادلهم الليل ركب في قومه ومَن أطاعه، فسار إلى الشام، ثم دخل بلاد الروم، ودخل على هرقل في مدينة القسطنطينية، فرحب به هرقل وأقطعه بلادًا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقًا جزيلة" (السير للذهبي، البداية والنهاية حوادث سنة 53).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 26-04-2024 الساعة 10:06 PM.
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 05-07-2023, 01:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الكبائر

الكبائر (20)

الكذب


(موعظة الأسبوع)



كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الكذب من الكبائر العظام، والجرائم الجسام، لما يسببه من ضياع الحقوق، وتغيير الحقائق: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌عَلَيْكُمْ ‌بِالصِّدْقِ ‌فَإِنَّ ‌الصِّدْقَ ‌يَهْدِي ‌إِلَى ‌الْبِرِّ، ‌وَإِنَّ ‌الْبِرَّ ‌يَهْدِي ‌إِلَى ‌الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه).
- الإشارة إلى استهانة كثيرٍ مِن الناس بالكذب بكلِّ أنواعه؛ فضلًا عن جرأة البعض الآخر على الكذب؛ سواء في وسائل الإعلام، أو وسائل الاتصالات الحديثة، وغير ذلك.
(1) أنْوَاعُ الْكَذِبِ:
1- الْكَذِبُ عَلَى اللهِ -تعالى-: وهو أقبح أنواع الكذب على الإطلاق، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام: 21).
2- الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّار) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار) (متفق عليه)، وكلاهما يؤدي إلى تبديل دين الله -تعالى-، وتغيير الشرع، وهو علامة على سوء معتقد فاعله.
3- الْكَذِبُ عَلَى الْنَّاسِ(1): قال النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعٌ ‌مَنْ ‌كُنَّ ‌فِيهِ ‌كَانَ ‌مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه).
(2) الكَذِبُ مستقبحٌ عقلًا وشرعًا:
- الكذب مذموم في سائر الشرائع: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌عَلَيْكُمْ ‌بِالصِّدْقِ ‌فَإِنَّ ‌الصِّدْقَ ‌يَهْدِي ‌إِلَى ‌الْبِرِّ، ‌وَإِنَّ ‌الْبِرَّ ‌يَهْدِي ‌إِلَى ‌الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه).
- الكذب مستقبح عند كل صاحب عقل، ويستنكف منه البر والفاجر، والمؤمن والكافر: فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ -رضي الله عنه- أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ... " (رواه البخاري).
- والكذب كله مذموم؛ في الجد والهزل، وليس فيه أبيض -كما يظن بعض الناس!-: روى الترمذي في سُننه مِن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌وَيْلٌ ‌لِلَّذِي ‌يُحَدِّثُ ‌بِالحَدِيثِ ‌لِيُضْحِكَ ‌بِهِ ‌القَوْمَ ‌فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "الكذب لا يَصلُح منه جدٌّ ولا هزل" (الآداب الشرعية لابن مفلح)(2).
- بل ولا يجوز الكذب على الأطفال للترويض: عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟)، قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا ‌كُتِبَتْ ‌عَلَيْكِ ‌كِذْبَةٌ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
(3) من آثار الكذب:
- الْكَذِبُ سَبَبُ مَحْقُ البَرَكَةِ: عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) (متفق عليه).
- الْكَذِبُ رِيبَةٌ واضطراب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طمأنينة، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَة) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وسبب الريبة: أن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ لذلك يظل متخوفًا من أن يفتضح أمره، ويطلع الناس على كذبه، وسوء فعله.
- الكذاب يُعذَّب في قبره قبل يوم القيامة: ففي حديث الرؤيا الطويل: (فَانْطَلَقْنَا، ‌فَأَتَيْنَا ‌عَلَى ‌رَجُلٍ ‌مُسْتَلْقٍ ‌لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى) فسأل عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: (إِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ ‌الْكَذِبَةَ ‌تَبْلُغُ ‌الْآفَاقَ) (رواه البخاري)(3) .
(3) فضل الصدق وترك الكذب:
- الصِّدق منجاة للعبد في الدنيا والآخرة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌عَلَيْكُمْ ‌بِالصِّدْقِ، ‌فَإِنَّ ‌الصِّدْقَ ‌يَهْدِي ‌إِلَى ‌الْبِرِّ، ‌وَإِنَّ ‌الْبِرَّ ‌يَهْدِي ‌إِلَى ‌الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه)، وفي الصحيحين في قصة توبة كعب بن مالك -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشَّره بذلك، قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، قَالَ: فَوَاللهِ ‌مَا ‌عَلِمْتُ ‌أَنَّ ‌أَحَدًا ‌مِنَ ‌الْمُسْلِمِينَ ‌أَبْلَاهُ ‌اللهُ ‌فِي ‌صِدْقِ ‌الْحَدِيثِ ‌مُنْذُ ‌ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللهُ بِهِ، وَاللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللهُ فِيمَا بَقِيَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) (رواه مسلم)".
- موقف شجاع في بيان قبح الكذب: روى ابن عساكر: "أن سليمان بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك، فقال له: يا سليمان، الذي تولى كبره مَن هو؟ قال: عبد الله بن أُبَيِّ، قال: كذبت هو علي! قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب، مَن الذي تولى كبره؟ فقال: ابن أُبَيِّ. قال: كذبت هو علي، قال: أنا أكذب؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء: أن الله قد أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره: عبد الله بن أُبَي" (تاريخ دمشق لابن عساكر).
فاللهم ارزقنا الصدق في الأقوال والأعمال، والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
(1) ومع أنه أقل أنواع الكذب خطرًا، وأخفها على صاحبه أثرًا؛ إلا أنه من الكبائر، ومنافٍ للإيمان، وسبب محق البركة، وعلامة من علامات النفاق، وأقرب الطرق للنار، وسبب الريبة والاضطراب، ومَن اتصف به كان أبعدَ الناس عن الهداية، وأقرَبَهم إلى الغواية.
(2) متى يجوز الكذب؟
الجواب: استثنى العلماء -رحمهم الله- الكَذِبَ إذا كان لإصلاحٍ بين متخاصمَين، والكذب في الحرب، والكذب إذا كان لدفع الظلم، فإذا اختفَى مسلم مِن ظالم يريد قتْلَه أو أخْذَ ماله، وأخفى ماله وسُئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم أخْذها فإنه يكذب لإخفائها، والأحوط أن يوَرِّي، ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإنْ كان كاذبًا في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطَب.
وقد استدلَّ العلماء على جواز الكذب في هذا الحال، بما رواه البخاري ومسلم من حديث أم كلثوم رضي الله عنها؛ أنها سمعَت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَيْسَ ‌الْكَذَّابُ ‌الَّذِي ‌يُصْلِحُ ‌بَيْنَ ‌النَّاسِ، ‌فَيَنْمِي ‌خَيْرًا ‌أَوْ ‌يَقُولُ ‌خَيْرًا)، زاد مسلم: قال ابن شهاب -رحمه الله-: "وَلَمْ ‌أَسْمَعْ ‌يُرَخِّصُ ‌فِي ‌شَيْءٍ ‌مِمَّا ‌يَقُولُ ‌النَّاسُ ‌كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا".
(3) ومِن هؤلاء في زماننا: الكَذَّابون في وسائل الإعلام، ومروجو الأكاذيب على النت، ونحوه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 224.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 218.49 كيلو بايت... تم توفير 6.05 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]