قصة المرض والموت .. وعلاقة الأسباب بالنتائج - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         التوبة في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          فضل صلاة التطوع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          خطر الشذوذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          مجازر الطحين.. إرهاصات نصر وعز وتمكين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          ليكن زماننا كله كرمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          حديث:ويَقْرَأُ فيها ما بيْنَ السِّتِّينَ إلى المِائَةِ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          وصايا نبوية مهمة للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          حديث:من رَكعَ أربعَ رَكعاتٍ قبلَ الظُّهرِ وأربعًا بعدَها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          أنوية العلمانيين، وهم يواجهون أعداءهم من أهل القبلة، وحراس العقيدة... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          لفظ (الناس) في القرآن الكريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18-01-2020, 12:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,316
الدولة : Egypt
افتراضي قصة المرض والموت .. وعلاقة الأسباب بالنتائج

قصة المرض والموت .. وعلاقة الأسباب بالنتائج
صلاح بن فتحي هلل



وقف الطب عاجزًا أمام مرضها، بعدما أصيبت -رحمها الله- بالمرض في آخر حياتها، وكم من مرة يقف فيها الطب عاجزًا، ولكن الأسوأ من ذلك أن يتحوَّل عجز الطب إلى حكم بالإعدام على إنسان لا يزال حيًّا، ولم يُكْتَب عليه الموتُ بَعْدُ، لقد بدأ الطبيب عمله فإذا بالأمر قد فاق علمه، فليته سكتَ إذْ رأى الأمر فوق قدراته، غير أنه تكلم بكلامٍ كثيرٍ، حاصلة أن الأوان قد فات، ولم يعد ثمة أمل في الحياة، والموت واقع لا محالة في خلال ساعات أو أيام، وعلينا الانتظار، حتى إن طال الأمر أسبوعًا، وليس علينا في هذه الفترة من بأسٍ إنْ قصَّرنا في إطعام الجسد المريض، أو منعنا عنه الطعام بالكُلِّية، فلم يعد الطعام يجدي نفعًا لها، وليست هي بحاجة إليه الآن، إلى غير ذلك من أحكام الطبيب القاضية بإعدام حَيٍّ، لا يزال أمامنا ينبض، ولسنا نعلم بيقينٍ متى يحين أجله، أو تحل لحظة رحيله، يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 34)].
حاولت إقناع الطبيب أن الأجل بيد الله -عز وجل-، وأننا نرضى بقضاء الله وقدره -سبحانه-، إذا حلَّ أجلها، غير أنَّا نرفض وبشكل قاطع أن نمنع عنها طعامًا وإِنْ جزم هو بعدم جدواه لها، ما دام الطعام ليس ضارًّا لها فلن نمنعها إيَّاه، وسنظل على يقيننا وإيماننا بقدرة الله -عز وجل- على شفائها وإبراء أسقامها، وما دامت في الحياة الدنيا لم تنتقل عنها بعدُ ولم ننتقل؛ فسنظل على أملنا وطمعنا في أن تتداركها رحمة الله -عز وجل-، وأن يشفيها الله -عز وجل-، حتى يقطع الله أملنا في شفائها بحلول موتها، أما قبل الموت فلا حجر على رحمة الله، يشفي من كتب له الشفاء، وليس الله عاجزًا عن ذلك، بل هو قادر على ما يشاء -سبحانه وتعالى-.
ويظهر أني جئتُ متأخِّرًا بالنسبة لهذا الطبيب الذي آمن بقواعد الطب التجريبية، التي تحكم على الأشياء بتجاربها، وتربط بين النتائج وأسبابها، ولا تؤمن بجواز الفصل بين السبب والنتيجة إذا أراد الله -عز وجل- ذلك.
ونحن نؤمن بالأسباب ونأخذ بها، لكننا لا نعتقد في قدرة الأسباب على إيجاد النتائج، ولهذا كان الاعتقاد في قدرة الأسباب على إيجاد النتائج ضلال ظاهر، كذلك إنكار الأسباب وتجاهلها ضلال آخر، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والصواب وسط بين طرفين، فنؤمن بالأسباب ونأخذ بها ولا نتجاهلها أو ننكرها، وإنما نأخذ بها امتثالًا لأمر الله -عز وجل- لنا بالأخذ بها، وليس اعتقادًا لقدرتها على إيجاد النتائج. هذه خلاصة العقيدة والبحث في طبيعة الأسباب.
وقد أمر الإسلام بالأخذ بالأسباب، لكننا في الوقت نفسه نؤمن بعجز الأسباب عن إيجاد النتائج المترتبة عليها، وإنما يخلق الله -عز وجل- نتائجها، ويرتب آثارها، كما خلق أسبابها من قبلُ، فالأسباب وآثارها من خلْق الله -عز وجل-، لا يعزبُ عنه مثقال ذرةٍ، خلَقَ كلَّ شيءٍ، وهو بكل شيء عليم خبير حكيم -سبحانه وتعالى-، لا يقع في كونه إلا ما أراد، ولا يكون إلا ما يشاء، يوقع -سبحانه وتعالى- إذا أراد النتيجة بغير سببٍ والسبب بغير نتيجة، فيخلق عيسى -عليه السلام- من غير أبٍ، وترى النار قد توقفت عن الإحراق، فيُلْقَى فيها خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- فتكون عليه بَرْدًا وسلامًا.
وقد أكَّد -سبحانه وتعالى- هيمنته على الأسباب والنتائج في غير موضعٍ، من ذلك أمره -عز وجل- لعباده بإعداد العدَّة لأعدائهم؛ كما قال -عز وجل-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[الأنفال: 60)].
لكنه -سبحانه- حسم قضية النتيجة وأضافها لنفسه دون سواه، فقال -سبحانه-: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 17)]. وقال: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ)[آل عمران: 126)].
فأضاف النصر لنفسه - سبحانه - دون عباده، ومن هذا المثال وغيره يتضح المالك الأصلي للنتائج، وأنها من عند الله -عز وجل-، لكن جرتْ سُنَّته -سبحانه- أن يضع للآثار والنتائج أسبابًا، أمر عباده بالإتيان بها، والشروع فيها، وانتظار مشيئة الله -عز وجل- وإرادته في النتيجة والأثر بعد ذلك، مع عدم الجزم بوقوع النتيجة حال وقوع سببها، وإنما نأمل ونتمنى أن تقع النتيجة، لجريان العادة بذلك، من غير جزمٍ بضرورة حدوث النتيجة، وإنما نجزم بوقوعها متى شاء الله -عز وجل-، وامتناع وقوعها متى أراد الله -عز وجل- لها ذلك، فنحن نعتقد أن النتائج معلَّقة بمشيئة الله -عز وجل- وإرادته، إن شاء أجراها وإن شاء منعها، وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار.
ولأن النتائج كالأسباب كلها بيد الله -عز وجل-؛ ولا تلازم بين وقوع السبب وحصول النتيجة؛ فلا عجب بعد ذلك أن يضع الله -عز وجل- أسبابًا لنتائج من غير جنسها، أو نتائج على أسباب ذات طبيعة أخرى؛ فمثلا في سورة نبي الله نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10 ـ 12)].
كذلك في قصة نبي الله هود -عليه السلام- مع قومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)[هود: 52)].
وفي نفس المعنى: الحديث الذي رواه البخاري (3113) ومسلم (2727) من حديث عَلِيّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أَنَّ فَاطِمَةَ -عليها السلام- اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِسَبْيٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا، وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ: ((عَلَى مَكَانِكُمَا)) حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: ((أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ)) أ. هـ.
فصار الاستغفار والتسبيح سببًا لجلب الرزق وإنزال المطر والقوة البدنية، رغم اختلاف السبب هنا في طبيعته عن طبيعة النتيجة المترتبة عليه، فضلًا من الله ونعمة، ولا حجر على رحمة الله.
وخلاصة ما أردت قوله لهم آنذاك أن نؤمن بالأسباب والنتائج على أنهما بمشيئة الله وقدرته، أمرنا -سبحانه وتعالى- بإتيان الأسباب والأخذ بها وعدم التفريط فيها، وأن نسأل الله -عز وجل- أن تحصل نتيجة ذلك وآثاره التي تترتَّب عليه، فنعلِّق وقوع النتيجة على إرادة الله -عز وجل- ومشيئته، ولا نعتقد حتمية وقوعها عند وجود أسبابها؛ بل النتيجة في مشيئة الله -عز وجل- وتحت سلطانه وإرادته، إن شاء أجراها، وإن شاء منعها.
أردت أن أقول لهم آنذاك: إنَّ أسباب الله -عز وجل- ونتائجه تختلف عن أسباب البشر ونتائجهم، فالله -عز وجل- يقدر ويعلم، وهم لا يقدرون ولا يعلمون شيئًا إلا بإذنه -سبحانه وتعالى-، فإذا عجز الإنسان أو جهل، فإن الله -عز وجل- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو بكل شيءٍ عليم.
أردت أن أقول لهم: إن الطب إذا كان قائمًا على التجربة وأسبابها، فإن الله هو خالق الأسباب ومسبب الأسباب، وهو وحده القادر على الإتيان بالنتائج والآثار دون أسبابها، أو يأتي بها بأسباب لا تقوم على التجربة، ولا تخضع لقوانين البشر، كالاستغفار والذِّكْر في المثال السابق.
أردت أن أقول لهم: انظروا إلى تلك الفتاة القريبة من بيوتكم، تصلون إليها لو أردتم، فتسألونها إن شئتم، وهي التي كانت ممتلئة هِمَّة وعزيمة، وبلغت في مراحل تعليمها مرحلة كبيرة، فانتهت من «الدراسة الجامعية» ثم بدأت في دراسة ما يسمى بـ «الماجستير»، وبينما هي تستعد لإنهاء دراستها هذه؛ إذا بالعمى يزحف على عينيها، فتفقد بصرها، دون سابق إنذارٍ من مرضٍ أو حادثٍ، فيحار الأطباء في تفسير الظاهرة، ويفتح الله -عز وجل- على أهلها فتحًا آخر، لا تعرفه التجارب والمحسوسات الأرضية، لكن يعرفه المؤمنون ويحبونه ويتمتعون به، يعالجون به أنفسهم، ويستنزلون به أرزاقهم، وعليه تقوم حياتهم، إنه باب الله -عز وجل- المفتوح للمؤمنين دائمًا أبدًا، باب القادر على كل شيءٍ، باب مَن وسعتْ رحمته كل شيءٍ، باب الأرحم بعباده المؤمنين من الوالدة بولدها. يفتح الله -عز وجل- على أبيها فيقول: إن الذي أخذ بصرها قادر على إعادته، ويأخذها معه هي وأمها، ويذهب إلى بيت الله الحرام ويتوجَّه الجميع إلى القبلة، يبكون ويتضرَّعون ويبتهلون إلى الله -عز وجل-، فسبحانك يا أرحم الراحمين، لقد ذهب أهلها يطلبون شفاء بصرها ممن أخذه منها، فتكرَّم الله وتفضَّل على الباكين الخاضعين المنقطعين إليه وحده لا شريك له، فيردّ عليهم بصرها، فترجع من هناك بأحسن مما كانت عليه، قد عاد إليها بصرها، وعادت إليها فرحتها، وأنتم لا تجهلون قصتها، وها هي بجواركم، قد أكملتْ دراسة «الماجستير» ثم «الدكتوراه» وصارت «أستاذة جامعية» في «كلية الآداب»، وما هي عنكم ببعيد، وفي قصتها جواب على ما يدور الآن بداخلكم.

هل تعلمون سببًا لذهاب بصرها أو رجوعه؟
لكنكم الآن تتحدثون عن الطب وأسبابه، تتحدثون عن عجزه، ثم تحكمون بالإعدام على جسدٍ نابض بالحياة، تجري في عروقه الحياة، ويحيا كما يحيا الآخرون، لكن أقعده المرض، فلا يقدر على كثيرٍ من الحركة، وأعياه الكلام فصارت أكثر أحواله الإشارة، لكنه لا يزال يستعصي على الألم، ويتعالى على الجراح، ويملك من الهمَّة والعزيمة ما يسمو بها على الحياة الهزيلة، فيرغب في حياةٍ سامية، ونهايات أسمى وأسعد، وليس من احترام حريات الآخرين أن نصادر حقهم في الحياة أو نحكم عليهم بالموت مهما سكن الجسد أو أضناه الجهد، ما لم يصل الإنسان إلى السكرات، فإذا وصلها وحان الموت فهناك أحاديث أخرى ليست من جنس أحاديثنا الآن، ودنيا أخرى نسأل الله -عز وجل- أن يهوِّنها علينا، وينجِّينا من كرباتها.
أردت أن أقول لهم آنذاك: إن الذي يهب الموت والحياة قادر على أن يهب من يشاء ويحرم من يشاء، متى شاء، لا مُعَقِّب لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه، فلا تحكموا فيما ليس لكم.
لقد كنتُ أرى وأسمع ما لا طاقة لمؤمن به، فالكل رغم إيمانهم بالله وإسلامهم له، قد سقطوا صرعى طغيان المرض والألم في هذا الجسد الماثل أمامهم، يرونه رأى العين، لكنه لا يملك مِن أمره شيئًا، وصار أكثر كلامه إشارة، وأكثر مطالبه شربة ماء أو شيئًا من طعام كطعام الأطفال في حجمه وطريقة طبخه، حَسْبه من دنياه ما يحفظه من الهلاك، وحسبه من أهله اجتماعهم حوله، يقرأ في وجوهم ما لا يعرفون قراءته، ويعرف منهم ما لا يعرفون منه.
يا الله! إنهم لم يعتبروا من خالتهم التي ظلَّتْ تموت نحو أربعة أعوامٍ كاملةٍ، اشتروا لها فيها كفنًا، شفاها الله -عز وجل- وألبسها لباس العافية والصحة، فاستعاروا كفنها لابنة عمهم، ثم استسلمت خالتهم للمرض مرة أخرى، واشتروا لها كفنًا جديدًا، تكفَّنَتٍْ فيه عمة أخرى لهم، ونجت خالتهم من المرض، ثلاث مرَّات، ثم ماتت خالتهم - رحمها الله -، والآن كأنهم لم يعتبروا بقصَّتها، ولا أخذوا الموعظة من حالتها، وكيف نامت وقامت مرَّات، ولبس كفنها غيرها؟.
أتحتاجون إلى شيءٍ أفصح من هذا يُذكِّركم؟ ورغم ذلك تُجمعون على اقتراب رحيل أختكم وأنتم ترونها أمامكم قد استسلمت للمرض والألم؟
فقد قلتم ما قلتم، ولا تزالون على حالتكم، وقد مضت عليكم ثلاثة أشهر، أما آن لكم الاتعاظ والانزجار واعتقاد أن الموت والحياة بيد الله -عز وجل-؟ وأن الذي بيده الموت والحياة بقادر على أن يهبها الشفاء؟ فلا تزال على قيد الحياة وإن طال مرضها، والأمل في شفاء كل مريض ليس ممنوعًا ولا محالًا، فالشفاء بيد الله، وليس من الأمراض ما يستعصي على قدرة الله -عز وجل- وإرادته؟
يا الله! لقد قلتُ وقالوا، حتى طالت بنا الأيام، فأَقْنَعَتْهم أيامهم رغم أنوفهم، وللواقع سطوته في الإقناع، وللأيام قسوتها في التعليم، فقد اقتنعوا أخيرًا بأن الضر والنفع والشفاء والمرض والموت والحياة كل ذلك بيد الله -عز وجل-.
واختاروا من بينهم امرأة صحيحة قوية تقوم على رعاية مريضتهم والعناية بها، وتسير الأيام بطيئة، كأنها تحمل لها شيئًا جديدًا، أو اختبارًا آخر، عليهم الرضى به إنْ وقع بهم.
يا الله! إنه الاختبار الذي يُثبت لهم ولمثلهم أن المرض ليس سببًا للموت، ولا الصحة والعافية سببًا للحياة، وأن الموت لا شك قادم، يحصد الصحيح والمريض، ولا نجاة لأحدٍ منه، فالكل تحت سلطانه، من حانت لحظته وآن أوانه ركب قطاره، فسافر به إلى الآخرة، فينقله من دنيا إلى أخرى، نسأله - سبحانه وتعالى - أن يُحْسِن خاتمتنا، وأن يبيّض يوم نلقاه وجوهنا، وأن يجعلنا وسائر المسلمين من سكان الفردوس الأعلى.
يا الله! آن لجميع الأفئدة والعقول والألسنة أن تصمت، فلا تسمع سوى صوت الدموع المنهمرة كالمطر؛ يُهَدِّأ ببرودة قطراته حرارة الأرض العطشى.
انهمرتْ دموع الباكين في صمت، فلا صوت هنا الآن، الكل واجمٌ، صامت، والعبرة قوية قاسية على النفوس، وقد سكنتْ لأمر لله -عز وجل-، وآمنت بقضائه وقَدَره، وخضعت لسلطانه وجبروته -سبحانه وتعالى-، فصارت من خضعانها وتذلُّلها تخشى أن تنطق فتقول ما يغضبه ولو عن غير قصدٍ، أو تتكلم بما لا يحسُن أو يجمُل بمقام الصبر، فآثرت الحرص على الصبر، والتسلِّي بالإيمان، وتركت لأنهار دموعها مهمة التعبير عن حزنها، في صمت عمَّ الجميع.
لقد كان مشهدًا يصعب التعبير عنه بألفاظٍ ولغات، ومحال في نظري أن تمحوه أحداثٌ مهما عظمت واشتدَّت، فرض الصمت فيه سلطانه على الجميع، وشمل القريب والبعيد، الكل في صمت كصمت القبور التي سيرونها بعد قليل لمواراة ميتهم.
إنها الصحيحة القوية التي ترعى المريضة، قد أدركها الموت بعد ليلة طويلة من الجِدِّ والنشاط، حضرت فيها عزاء رجل قد مات لتوِّه، وعادت فلم تلبت حتى ماتت، وتركت المريضة على قيد الحياة، لتلْحق بها المريضة بعد أسبوعين، ويجتمعا معًا في عالم الموت والبرزخ، بعدما عاشا معًا في عالم الدنيا، لكن شاء الله -عز وجل- أن تسبق الصحيحة فتموت أولًا، وتستمر المريضة على قيد الحياة مدة أربعة عشر يومًا.
رأيتُ كيف كانت وجوه الذين حضروا العزاء فشاهدوا صاحبة المرض على قيد الحياة، فيسألون باستغراب: من مات عندكم؟ فإذا أُخْبِروا وجموا (صمتوا) فلا تسمع لهم صوتًا، وإن كنت أكاد أسمع أزيزًا صادرًا من داخلهم.
الآن سكن الجميع، ورحل من رحل، ومكث من مكث، وخفضت الأصوات، وارتفع صوت الحق.
وعسى أولئك الذين يلهثون خلف الدنيا أن تصلهم العبرة مما جرى فيأخذوا حذرهم قبل فوات الأوان.
وعسى أولئك الذين يؤجِّلون توبتهم أن يعتبروا، فما أدراهم متى وأين وكيف تنتهي حياتهم؟
وعسى اللواتي ينتظرن الزواج حتى يرتدين النقاب أن يبادرن، فما أدراهن متى يأتيهن الموت؟
وعسى الذين ينتظرون الحج الموسم القادم ليتوبوا ويحجُّوا ويخرجوا من ذنوبهم أن يبادروا بالتوبة، فإنهم لا يعلمون متى يحين رحيلهم؟
عسى هؤلاء وغيرهم ممن يُسَوِّف ويؤجل أن يبادر ويسارع بالأوْبة والتوبة إلى الله -عز وجل-، قبل فوات الأوان.
يقول الله -عز وجل-: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[النساء:17)].
ويقول -سبحانه-: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31)].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 64.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 62.71 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.91%)]