تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         كلام جرايد د حسام عقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 33 )           »          تأمل في قوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره... } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          بيان معجزة القرآن بعظيم أثره وتنوع أدلته وهداياته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          { ويحذركم الله نفسه } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          رمضان والسباق نحو دار السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          جدول لآحلى الأكلات والوصفات على سفرتك يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 772 )           »          منيو إفطار 19 رمضان.. طريقة عمل الممبار بطعم شهى ولذيذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          جددي منزلك قبل العيد.. 8 طرق بسيطة لتجديد غرفة المعيشة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-09-2019, 07:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,653
الدولة : Egypt
افتراضي تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم

تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (١) وأصلح لي في ذريتي



عواطف حمود العميري



حروف المعاني، ذلك العالم الساحر، باب لطيف نوعه، دقيق علمه، تتغير به المعاني؛ فيجعل من القاصي البعيد دانيًا، بأبهى صورة وأيسر وسيلة.

ومنها حروف الجر، فهي على ضآلتها ولطف بنيتها، تأبى إلا أن تزهر في غيرها، وتكسو بظلالها من خلفها، فتجدها تقطع لك المسافات، وتجلب المعاني الكثيرات، بأناقة وبلاغة، من غير حشو ولا إطالة، ولنا معها وقفات، نسأل الله التيسير والإعانة، مع رضًا وقبول منه جل جلاله.

جاء دعاء عظيم في سورة الأحقاف منه قوله تعالى: ﴿ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ﴾ [الأحقاف: 15]؛ حيث توسط حرفي الجر الدعاء، ففيمَ أفاد ذلك؟
قال ابن عاشور[1] رحمه الله تعالى: "واللام في ﴿ وَأَصْلِحْ لِي ﴾ [الأحقاف: 15] لام العلة[2]؛ أي: أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي؛ كقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]، ونكتة زيادة هذا في الدعاء أنه بعد أن أشار إلى نعم الله عليه وعلى والديه، تعرَّض إلى نفحات الله، فسأله إصلاح ذريته، وعرَّض بأن إصلاحهم لفائدته، وهذا تمهيد لبساط الإجابة كأنه يقول: كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والدي بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما، كمِّل إنعامك بإصلاح ذريتي، فإن إصلاحهم لي، وهذه ترقيات بديعة في درجات القرب"؛ ا. هـ.

﴿ وَأَصْلِحْ لِي ﴾ [الأحقاف: 15]؛ أي: يا رب أصلحهم لأجلي ولأجل مصلحتي؛ كي أسعد في الدنيا والآخرة ويسعدوا، فيظهر هنا افتقارك الشديد لله عز وجل لكل حسنة تصب في ميزانك، وهذا الافتقار يحبه الله؛ لأنه يدل على اعترافك بفقرك وغناه، وعلى ذل العبد بين يدي مولاه، وهذا من أسباب إجابة الدعاء، فلا يكون الداعي كالمستغني بعمله الواثق من قبوله، بل هو يطرق كل باب ويبتغي كل وسيلة، ولولا حرف اللام، ما اشتمل الدعاء على هذه المعاني، ولاقتصر الدعاء على معنى سؤال الله صلاح الذرية بمعزل عن حاجتك وفقرك.

فلأجل فقري وذلي[3] أصلحهم لي يا ربي فينفعوني؛ فإن الولد الصالح ينفع والده في حياته، فيبرُّه ويقوم برعاية مصالحه ومتطلباته، بل الأعظم من ذلك أن يعين والده على أمر دينه، سواء بالاستجابة لما يأمره به والداه من طاعة الله، أو بتذكيرهم ونصحهم والسعي في زيادة صلاحهم، وكذلك ينفع والده بعد موته، ليس فقط بالدعاء له، ولكن إذا كان الوالد سببًا في صلاح ولده، فإن كل عمل صالح يقوم به هذا الولد يصب في ميزان والده، الذي كان سببًا في صلاح ولده، سواء كان الأم أو الأب أو هما معًا.

ومن سعي الآباء والأمهات لصلاح أولادهم هذا الدعاء، فرجع نفع هذا الدعاء على داعيه في الحال والمآل.

فتأمل أيها القارئ كيف جمع هذا الحرف (لي) كل هذه المنافع والمصالح، وظهور الذل والافتقار، بأيسر طريقة وأوجز صورة.

ولما كان صلاح الولد مهمًّا لهذه الدرجة، جاء الحرف الثاني (في): ﴿ فِي ذُرِّيَّتِي ﴾ [الأحقاف: 15]:
قال ابن عاشور رحمه الله عنه:
ومعنى ظرفية[4] ﴿ فِي ذُرِّيَّتِي ﴾ [الأحقاف: 15]: أن ذريته نزلت منزلة الظرف، يستقر فيه ما هو به الإصلاح ويحتوي عليه، وهو يفيد تمكن الإصلاح من الذرية وتغلغله فيهم، ونظيره في الظرفية قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ﴾ [الزخرف: 28].ا.هـ.

فلا يُحوَّل عنهم الصلاح ولا يزول ما بقي لي نسل، حتى أراهم قرة عين لي في حياتي وفي ميزاني بعد مماتي، فسبحان الله ما أعظم أدعية القرآن على إيجازها!

وقفنا مع حرفين دون التعرض للكلمتين، فما ظنك بالدعاء كاملًا، قال الله تعالى:
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15]، هذا، والله تعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.




[1] العلامة المفسر محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، ولد في تونس سنة (1296) هـ، الموافق (1879)م، من أعلام المفسرين المعاصرين، سُمي تفسيره اختصارًا بـ"التحرير والتنوير"، وهو تفسير قيم، أمضى في تفسيره قرابة الأربعين عامًا، وقد اشتمل على كثير من الفوائد واللطائف والتحريرات، مع الحرص على تلمس الحِكم من الأحكام والتشريعات، والإكثار من النقول عن الأئمة والعلماء في شتى العلوم؛ سواء كانت شرعية، أو لغوية، أو بلاغية، أو غيرها من فروع العلم، لكن الشيخ رحمه الله عقيدته أشعرية في الأصول، وربما خالف أصحابه الأشاعرة في بعض المسائل، أو بعض التقريرات؛ فقد كان عالِمًا كبيرًا، محققًا مجتهدًا، ينفرد ببعض التحقيقات، ويُورد بعض انتقادات على ما يقرره أصحابه أو بعضهم.



[2] جاء في "الجنى الداني في حروف المعاني" لابن أم قاسم المرادي رحمه الله تعالى:
"اللام الجارة، ولها معانٍ كثيرة، وقد جمعت لها - من كلام النحويين - ثلاثين قسمًا، فأذكرها كما ذكروها، وأشير إلى التحقيق في ذلك:
الأول: الاختصاص: نحو: الجنة للمؤمنين، ولم يذكر الزمخشري في مفصله غيره، قيل: وهو أصل معانيها.
الثاني: الاستحقاق: نحو: النار للكافرين، قال بعضهم: وهو معناها العام؛ لأنه لا يفارقها.
الثالث: الملك، نحو: المال لزيد، وقد جعله بعضهم أصل معانيها، والظاهر أن أصل معانيها الاختصاص، وأما الملك فهو نوع من أنواع الاختصاص، وهو أقوى أنواعه، وكذلك الاستحقاق؛ لأن من استحق شيئًا فقد حصل له به نوع اختصاص"، وأردف لهذا معاني حتى أوصلها للثلاثين رحمه الله تعالى، ثم ختم الباب بتنبيه:
"التحقيق أن معنى اللام في الأصل هو الاختصاص، وهو معنى لا يفارقها، وقد يصحبه معان أخر، وإذا تؤملت سائر المعاني المذكورة وُجدت راجعة إلى الاختصاص، وأنواع الاختصاص متعددة، ألا ترى أن من معانيها المشهورة التعليل؟ قال بعضهم: وهو راجع إلى معنى الاختصاص؛ لأنك إذا قلت: جئتك للإكرام، دلت اللام على أن مجيئك مختص بالإكرام؛ إذ كان الإكرام سببه، دون غيره، فتأمل ذلك، والله أعلم"؛ ا.هـ.




[3] والفقر والذل للمولى جل جلاله وصفان لا ينفكان عن العبد؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والفقْرُ لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبدًا *** كما الغِنى أبدًا وصفٌ له ذاتي



[4] في: حرف جر، وله تسعة معان: الأول: الظرفية، وهي الأصل فيه، ولا يثبت البصريون غيره، وتكون للظرفية حقيقة نحو: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 203]، ومجازًا نحو: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ [البقرة: 179]؛ (الجنى الداني في حروف المعاني).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 21-12-2021 الساعة 09:03 PM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18-09-2019, 04:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,653
الدولة : Egypt
افتراضي تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (2) ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه

تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (2) ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه
عواطف حمود العميري



﴿ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ




جاء في خاتمة سورة (محمد) عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].



وللمفسرين هنا قولان في توجيه تعدية فعل البخل بحرف المجاوزة (عن)[1]:

الأول: أن البخل صادر عن نفسه، وضعَّفوه.



الثاني: القول بالتضمين، وأن فعل بخل هنا لما تعدى بـ(عن) تضمَّن معنى أمسك؛ قال القنوجي[2] رحمه الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾؛ أي: يمنعهما الأجر والثواب، وبخل وضن يتعديان تارة بعلى، وبعن أخرى، لتضمينهما معنى الإمساك والتعدي؛ قال السمين: والأجود أن يكونا حال تعديهما بعن مضمنين معنى الإمساك، وقيل: المعنى يبخل عن داعي نفسه، لا عن داعي ربه؛ ا. هـ.



فتأمل كيف ألقى هذا الحرف بظلاله على المعاني، وأفاض بإيحاءاته على المباني، فأفاد معنى الحرمان والخِذلان، وصرف الخير عن البخيل الممسك عن الإنفاق في سبيل الله، والمقام مقام الجهاد بالمال في الآية فالحرمان عظيم؛ قال السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].



يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله، وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه جهاد بالمال، وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة: الإعانة على تقوية المسلمين، وعلى توهية الشِّرك وأهله، وعلى إقامة دين الله وإعزازه، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح، لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله إبطال للجهاد، وتسليط للأعداء، وشدة تكالبهم، فيكون قوله تعالى: ﴿ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ كالتعليل لذلك[3].



وقال القرطبي رحمه الله تعالى: روى البخاري عن حذيفة: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، قال: نزلت في النفقة، وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه، مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: سبحان الله، أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: وأنفقوا في سبيل الله الآية، والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، فلم يزل أبو أيوب مجاهدًا في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية، فقبره هناك[4]، فالذي صرفه البخيل هنا عن نفسه أمر عظيم من أمور الدين، ومعنى الصرف والمجاوزة هو الأصل في معاني (عن)، ويضيف هذا المعنى ببلاغة ورشاقة في السياقات، تأمل قول الفرزدق:

كيف تراني قاليًا مِجَنِّي *** قد قتل الله زيادًا عني



قال أبو الفتح رحمه الله: فاستعمل "عن" ها هنا لما دخله من معنى قد صرفه الله عني؛ لأنه إذا قتله فقد صُرف عنه[5]، [6].



قال سيبويه: (وأما "عن" فلِما عدا الشيء، وذلك قولك: أطعمه عن جوع، جعل الجوع منصرفًا تاركًا له قد جاوزه) [7].



وهذا المعنى هو الأصل في (عن)، ولم يذكر البصريون غيره، فكان واضحًا معنى حرمان الأجر والثواب في الآية كما ذكره المفسرون بسبب حرف المجاوزة، وأما حرف الاستعلاء "على" الذي يتعدى به فعل البخل عادة، فلا يفيد إلا كون ضرر البخل واقعًا عليه، فلما تعدى بعن توسَّع المعنى، وأضاف بُعدًا جديدًا للسياق، وصورة الذي صرف الأجر والثواب عن نفسه تمهيدًا لما سيذكر بعده من سنة الاستبدال في الآية نفسها، وقد يذكر في السياق المعنى المنصرف عنه إلى المنصرف إليه، كما جاء من سورة النجم في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]؛ قال السعدي رحمه الله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾؛ أي: ليس نطقه صادرًا عن هوى نفسه، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)؛ أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى في نفسه وفي غيره[8]، فدلت آية النجم أنه صلى الله عليه وسلم بَعُد وتجاوز عن النطق عن الهوى وبيَّنت المتجاوز إليه، وهو أنه إن هو إلا وحي يوحى، وكذلك هنا في خاتمة سورة (محمد) عليه الصلاة والسلام، ظهر المنصَرف عنه الخير والثواب إن تولَّى إلى المنصِرف إليه الخير والأجر والجهاد في آية واحدة؛ لأن ما بخل به عن نفسه هنا من الأجر والثواب والجهاد في سبيل الله تعالى في هذه الآية قد تجاوزه إلى غيره، فيتم صرف مقام الجهاد بالمال عن البخيل إلى قوم مغايرين يبتلون بالدعوة إلى الإنفاق، فيستجيبون ولا يكونوا أمثاله، فأفاد تعدية البخل بعن معنى أن بخله على نفسه بالإنفاق في سبيل الله، صرف عنه هذا المقام الرفيع إلى غيره، وأما في غير الإنفاق في سبيل الله، فلا يلزم منه هذا المعنى، فلم يكن التوعد هنا لمن يبخل على أهله وولده مثلًا بالاستبدال وإن كان إثمًا، فالآية لها خصوصية في موضوعها، وهو الدعوة لنصرة دين الله عز وجل بالإنفاق، والله عز وجل ناصر دينه وهو الغني؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ﴾ [محمد: 38]، فإن بخلت ولم تنفق، فكأنما أمسكت عن نفسك ركوب قطار النصر، وباعدت نفسك عنه، وتركت مكانك فيه لغيرك، فتحصل سنة الاستبدال[9]، والجزاء من جنس العمل، كما أمسك عن الإنفاق في سبيل الله أُمسك عنه الثوابُ والأجر والمقامة في طريق الجهاد، جاء بعدها: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].



ولا شك أن أعظم الحرمان أن تُستبدل، فجاء حرف (عن) مناسبًا مناسبة بليغة معجزة للسياق وبمعانٍ لا يتضمنها حرف الاستعلاء "على" الذي يتعدى به البخل عادة، فما أعظم وأجل كلامه عز شأنه.



فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا، والحمد لله رب العالمين، سبحانك اللهم وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.





[1] جاء في الجني الداني: وذكروا له معاني: الأول: المجاوزة، وهو أشهر معانيها، ولم يثبت لها البصريون غير هذا المعنى؛ ا .هـ، ثم ذكر لها المرادي رحمه الله سبع معانٍ، وقال: واعلم أن هذه المعاني السابقة إنما أثبتها الكوفيون، ومن وافقهم، قال بعض النحويين: وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون باطل؛ إذ لو كانت لها معاني هذه الحروف لجاز أن تقع حيث تقع هذه الحروف، فوجب أن يتأول جميع ما ذكروه مما خالف معنى المجاوزة؛ ا .هـ.




[2] فتح البيان في مقاصد القرآن.




[3] بتصرف يسير من تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان».





[4] الجامع لأحكام القرآن، سورة البقرة (195).




[5] المحتسب في تبين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها.




[6] وكان الفرزدق هرب من البصرة إلى المدينة واختفى فيها؛ خوفًا من زياد بن أبيه لغضبة غضِبها عليه، فلما بلغة موت زياد وهو في المدينة، ظهر وأنشد هذا الرجز؛ إظهارًا للشماتة به، وفرحًا بالسلامة منه، والمجن: الترس، وقلاه كناية عن عدم الحاجة إليه؛ انظر: ديوان الفرزدق: 2/ 881، والخصائص: 2/ 310.





[7] (انظر: الكتاب لسيبويه: 2 /308).




[8] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.




[9] تسلسل المعاني وتناسب الجمل لبعضها من وجوه إعجاز القرآن العظيم.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-10-2019, 09:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,653
الدولة : Egypt
افتراضي تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (3) يقبل التوبة عن عباده

تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (3) يقبل التوبة عن عباده
عواطف حمود العميري



ورد قوله تعالى: ﴿ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ في آيتين من كتاب الله عز وجل: الأولى في سورة التوبة، والثانية في سورة الشورى، في قوله تعالى من سورة التوبة: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]، وقوله تعالى من سورة الشورى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الشورى: 25].

سياق آية سورة التوبة:
﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 102 - 105].

سياق آية سورة الشورى:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ [الشورى: 24 - 26].

آية التوبة في المخلطين الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا - كما ذكر ابن كثير رحمه الله - عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلطين المتلوثين، وآية سورة الشورى ذكر الطبري رحمه الله تعالى عندها: "والله الذي يقبل مراجعة العبد إذا رجع إلى توحيد الله وطاعته من بعد كفره"، وموضوعنا هو تدبر مجيء فعل القبول متعديًّا بحرف المجاوزة[1] في هاتين الآيتين الكريمتين.

قال الألوسي رحمه الله تعالى في آية الشورى:
"﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾: بالتجاوز عما تابوا عنه، والقبول يعدى بـ(عن)؛ لتضمنه معنى الإبانة، وبمن لتضمنه معنى الأخذ؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ ﴾ [التوبة: 54]؛ أي: تؤخذ"[2]، واختار هذا القول أبو حيان رحمه الله تعالى: "والذي يظهر من موضوع (عن) أنها للمجاوزة، فإن قلت: أخذت العلم عن زيد، فمعناه: أنه جاوز إليك، وإذا قلت: من زيد، دل على ابتداء الغاية، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد، و(عن) أبلغ لظهور الانتقال معه، ولا يظهر مع (من)، وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم؛ ألا ترى إلى قوله: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104]، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة؛ ألا ترى إلى ما روي: ((ومن تقرب إلي شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة))"[3].

وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى:
"وفعل (قَبِلَ) يتعدى بـ(من) الابتدائية تارةً؛ كما في قوله: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ ﴾ [التوبة: 54]، وقوله: ﴿ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا ﴾ [آل عمران: 91]، فيفيد معنى الأخذ للشيء المقبول صادرًا من المأخوذ منه، ويعدى بـ(عن) فيفيد معنى مجاوزة الشيء المقبول أو انفصاله عن معطيه وباذله، وهو أشد مبالغة في معنى الفعل من تعديته بحرف (من)؛ لأن فيه كناية عن احتباس الشيء المبذول عند المبذول إليه، بحيث لا يرد على باذله[4]".

واحتباس الشيء المبذول وإبانته عن صاحبه كنايةٌ عن القبول فهو تبشير؛ وفي حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يُغرغِر))[5]، والمذنبين الراجعين الراغبين إلى ربهم في أمسِّ الحاجة لهذا التبشير والأمل، فنتلمس ضمن سياق الآية الأولى الألم النفسي الشديد، فالذنب عظيم، فقد ورد في سبب نزول الآيات من سورة التوبة[6]: قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه، وقال ابن عباس وآخرون: نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن غزوة تبوك، فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه، وقيل: وسبعة معه، وقيل: وتسعة معه، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته، ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أنزل الله هذه الآية: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾، أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم[7]، وحتى على قول مجاهد رحمه الله، فقد ورد أن أبا لبابة رضي الله عنه ربط نفسه بسواري المسجد أيضًا، فهذا يدل على قلق واضطراب شديد، يدل عليه ما ورد في سياق الآيات من أمر الله عز وجل نبيه بالدعاء لهم؛ قال جل شأنه: ﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ ﴾، والسكن يكون للشيء المضطرب.

وآية الشورى في التوبة من الكفر، ولا ذنب أعظم منه، ولا أبعد منه، ومع ذلك يبشرهم بمعاني (عن) من القبول والتجاوز والإبانة.

فتلمس لين الخطاب وحسن التودد من العزيز الرحيم للمذنبين، ومثل هذا ينبغي علينا فعله مع المسرفين؛ انظر كيف أثبت الله كلمة (قل) في آية الزمر في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]؛ أي: قل لهم يا محمد وأخبرهم عن سعة رحمة الله تعالى، ولم يذكرها في آية البقرة: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فلم يقل: قل لهم إني قريب؛ فالمسرفون في آية الزمر كالهاربين من شدة الوحشة في قلوبهم، يحتاجون لمن يخبرهم ويبشرهم بعظيم رحمات الله حتى يرجعوا، ولا يستولي اليأس على قلوبهم، وأما آية البقرة فللسائلين الراغبين المقبلين؛ قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: "حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تنبيهًا على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء"[8].

وفي سورة المائدة يقدم الله عز وجل ذكر المغفرة على التوبة حين خاطب اليهود والنصارى المفترين على الله: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 18]، بينما يقدم العذاب على المغفرة بعد ذكر حد قصاص السارق من المسلمين: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 40]؛ فالبعيد يؤمل، والقريب يحذَّر، ولكل مقام مقال.

والمقصود تذكير المدبرين بسعة رحمة الله عز وجل؛ طردًا لليأس والقنوط من قلوبهم، وتأليفًا وتوددًا لهم، فكيف بالراجعين التائبين المقبلين الوجلين المشفقين؟ فجاءت (عن) تبشرهم.

وقد يشعر العبد بالعجز عن التوبة؛ لكثرة وقوعه وتلبسه بالذنب، أو لشدة خوفه وإشفاقه، فيشعر بالعجز والخوف من ألا يقوم بأعباء التوبة، وأنه قد لا يوفي بها، أو قد لا يكون صادقًا فيها، فيبشره ربه التواب الرحيم بالتجاوز والمغفرة، فقط أقبل ولا تخف، يقبلها عنك، وأمر آخر وهو التيسير والتسهيل والله أعلم؛ لأنه لا بد لما أوحت به (عن) من معاني التجاوز والإبانة من تأثير على التائب، مما يشعر معه بالخفة والراحة بعد ألم ومرارة الذنب خصوصًا، والتوبة من أعظم الأعمال مهما كان الذنب عظيمًا، ومن ثواب الحسنة انشراح الصدر والحسنات بعدها والنشاط لذلك؛ لذا ترى الحث على العمل في سياق الآيتين الكريمتين، وهذا مطلوب؛ لئلا ينكسر فيسقط، وليزداد إيمانه فيقوى على عدم الرجوع للذنب، فترى التوجيه للعمل بارزًا في الآيات؛ قال تعالى في آية التوبة: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا ﴾ [التوبة: 104، 105]، وفي آية الشورى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [الشورى: 25، 26]؛ قال السعدي رحمه الله تعالى: "أي: يستجيبون لربهم لما دعاهم إليه، وينقادون له ويلبون دعوته؛ لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يحملهم على ذلك، فإذا استجابوا له، شكر الله لهم وهو الغفور الشكور، وزادهم من فضله توفيقًا ونشاطًا على العمل، وزادهم مضاعفة في الأجر زيادة عمَّا تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم"[9].

فالتوبة رجوع، والرجوع عمل، فتوحي (عن) هنا بالتيسير للصالحات؛ لما في معنى الإبانة من معاني خف الحمل والنشاط، والإقبال من الله على عباده بالتوفيق واليمن والبركات، وما مع ذلك من رفعة الدرجات، والترقي في معارج القبول، وكان داود عليه السلام بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، فالموعود عظيم في الآيات بفضل من الله ورحمته.

بعد هذا كله ألا تجد في قوله عز شأنه: ﴿ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ معاني الفرح بهذا التائب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة))؛ متفق عليه.

فاللهم ارزقنا توبة نصوحًا قبل الموت وحسن الخاتمة، وأنت خير الغافرين.

هذا، والله أعلم، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

[1] جاء في الجني الداني: "وذكروا له معاني: الأول: المجاوزة، وهو أشهر معانيها، ولم يثبت لها البصريون غير هذا المعنى".

[2] روح المعاني، الألوسي (ت: ١٢٧٠ هـ).

[3] البحر المحيط، أبو حيان (ت: ٧٤٥ هـ).

[4] التحرير والتنوير، ابن عاشور (ت: ١٣٩٣ ه).

[5] رواه الترمذي (3537)، وحسنه الألباني.

[6] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير رحمه الله تعالى.

[7] تفسير القرآن العظيم، لابن كثير رحمه الله تعالى.

[8] التحرير والتنوير.

[9] تيسير الكريم الرحمن.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 16-04-2021, 03:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,653
الدولة : Egypt
افتراضي تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (4) قوله تعالى { وآخرين منهم }

تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (4)












قوله تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ





عواطف حمود العميري




بسم الله، والحمد لله... جاء قوله تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ﴾ في سورة الجمعة في سياق قوله تعالى: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 1، 2].







قال السعدي - رحمه الله تعالى -: (والمراد بالأميين: الذين لا كتاب عندهم، ولا أثر رسالة من العرب وغيرهم، ممن ليسوا من أهل الكتاب، فامتن الله تعالى عليهم، منة عظيمة، أعظم من منته على غيرهم، لأنهم عادمون للعلم والخير، وكانوا في ضلال مبين، فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق – صلى الله عليه وسلم -، بل كانوا أئمة أهل العلم والدين، وأكمل الخلق أخلاقًا، وأحسنهم هديًا وسمتًا، اهتدوا بأنفسهم، وهدوا غيرهم، فصاروا أئمة المهتدين، وهداة المؤمنين، فلله عليهم ببعثه هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أكمل نعمة، وأجل منحة) اهـ.







فالمقصود في الآيات هم الصحابة رضوان الله عليهم، ثم قال تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 3، 4].







وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قد بُعث للناس كافة ولكن المنّة على الأميين أبلغ وآكد فخصهم بالذكر، فهم أسعد الناس ببعثته رضوان الله عليهم، وهم الذين حملوا لواء الدين من بعده لتبليغه للعالمين، فلهم من الشرف ذروته، ومن المكانة والفضل سنامه، وهم المطمح للاقتداء بهم والمطمع للوصول إليهم.







ولبركة جهادهم ودعوتهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم تأتي عالمية الاستجابة في الآية التالية في قوله تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾.







فمن هم ﴿ وَآخَرِينَ مِنهم ﴾؟



وصف الآخر يقتضي مغايرة في وصفٍ نُعت به الأول في الآية السابقة:



قال الطبري - رحمه الله تعالى -: (عُنِي بذلك كلّ لاحق لحق بالذين كانوا صحبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في إسلامهم من أيّ الأجناس؛ لأن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ كلَّ لاحق بهم من آخرين، ولم يخصص منهم نوعًا دون نوع، فكلّ لاحق بهم فهو من الآخرين الذين لم يكونوا في عداد الأوّلين الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم آيات الله ). اهـ.







فكل أولئك يشمله لفظ (الآخرين)، لكن يأتي هنا دور الجر (من ):



حرف الجر(( من )):



فبلطف دقيق أشار حرف (من) إلى شرط الاتباع والمشابهة فهم بعض منهم[1]، وإن لم يبلغوا منزلتهم:



لو قيل: آخرين غيرهم لما يلحقوا بهم، لأوهم شدة المغايرة وبالتالي صعوبة اللحوق، ولو قيل: آخرين بعدهم لما يلحقوا بهم، لأوهم بعد المسافة وبالتالي مشقة اللحوق، ولكن ﴿ وَآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ فيها مع معنى التأخر الزمني جمال الاتصال، وروعة التجانس، وقرب اللحوق والمصاحبة [2] للصحابة رضوان الله عليهم [3]، فهو جمع و اجتماع بقدرة العزيز الحكيم ﴿ وَآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾.







فهذا هو السبيل ليكون الآخر بعضًا من الأول، الاتباع والمشابهة، قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: (قال الحسن لا تغتر بقولك: المرء مع من أحب، إن من أحب قوما اتبع آثارهم، ولن تلحق الأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتمسي وتصبح وأنت على مناهجهم، حريصًا أن تكون منهم، وتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقتهم، وإن كنت مقصرًا في العمل.







فإن ملاك الأمر أن تكون على استقامة، أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء الردية يحبون أنبياءهم وليسوا معهم لأنهم خالفوهم في القول والعمل وسلكوا غير طريقهم فصار موردهم النار؟ نعوذ بالله من النار.







فمن أحب أهل الخير وتشبه بهم جهده فإنه يلحق بهم[4].







ولذلك كان الفضل والنعمة في من يجيئ بعدهم هو محاولة اللحاق بركبهم، ولا يكون ذلك إلا بالسير على منهاجهم من التمسك والاهتداء بعلوم الكتاب والحكمة، أي الصفات التي ذكرت في آية الصحابة قبلها، ولهذا والله أعلم أشير إليهم بالضمير (هم) وقد قيل في الضمير أنه أشهر المعارف [5]، فالضمير لا يكون إلا لمعروف وهذا الجمع والاجتماع، والجمعة [6] أيضا ليس لأمة إلا أمة الإسلام، فالأمم ممن سبقنا انقطع اتصال ما بعده بمن قبله ممن سبقه للإسلام، كما هو الحال باليهود والنصارى، واليهود أشد و لذلك ضرب لهم أسوأ المثل في السورة في الآيات بعدها، قال الله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [سورة الجمعة: 5].







فأين يهود اليوم من موسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وأين نصارى اليوم من عيسى عليه السلام وحواريه، لا ترى إلا الانسلاخ التام،، فأين الشرك والكفر الموسوم به خَلَفهم عن ملة التوحيد دين أنبيائهم، قد انفصل الآخر عن الأول وضل عن سبيله، وكذلك يكون يوم القيامة، وأما هذه الأمة المرحومة التي منَّ الله عليها بفضله، فهم أمة واحدة، إخوة إيمان ودين، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ)، فلما تذكر عليه الصلاة والسلام الموت وانقطاعه عن الدنيا، ومن سيأتي بعده من أمته قال عليه الصلاة والسلام: (وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا)، فقالوا: يا رسول الله ألسنا بإخوانك؟ قال: (بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي. وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ)، فقالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك قال: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ. وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ. فَلَا يُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: فَسُحْقًا. فَسُحْقًا. فَسُحْقًا)[7].







وهذا يبين أهمية المتابعة والمشابهة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الأطهار.







وهذا المعنى تجده في كتاب الله عز وجل بصور مختلفة، كل صورة تناسب موضعها وسورتها، كقوله تعالى في سورة التوبة: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].







فسورة التوبة هي الفاضحة التي فضحت المنافقين، الذين لم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يحسنوا العمل وأنّى لهم ذلك؟!







وقد ورد عن ابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين[8].







وفي سورة الأنفال: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 75].







ففي سورة القتال عند ذكر غزوة الفرقان، يجيء ذكر ذروة سنام الإسلام، فعَنْ أَبِي ذَرَ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَيّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الإِيمَانُ بِالله وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ)[9].







وفي سورة الحشر: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].







والدعاء بالمغفرة وبلفظ الأخوة بسبب رباط الإيمان يدل قلوب طاهرة أحبت بصدق فعسى الله عز وجل أن يلحقها بأولها في الحشر.







وكذلك هو الأمر في سورة الجمعة حيث أتى حرف (من) ليلحق الآخر بالأول، بعضهم من بعض، فيجمع الشتات، ويؤنس القلوب، ويشكل الأخوة الإيمانية الصادقة، على مر الدهور والعصور، واختلاف الأجناس والأعراق، في يسر ولطف، يليق بضآلة الحرف، وبلاغة وإيجاز يذهب بالألباب.







قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4].







نسأل الله فضله ورحمته، فإنه لا يملكها إلا هو، فاللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه حتى تلحقنا بسلفنا الصالح، السابقين الأولين، فنلقاك معهم وأنت راضِ عنا تحت راية سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، برحمتك وفضلك يا ذا الجلال والإكرام.







وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.







[1] تكون (من) للتبعيض إذا كان ما قبلها أقل من ما بعدها، وما قبلها الآخرون وما بعدها الضمير المتصل العائد على أقرب مذكور وهو الواو في (كانوا) وهم الصحابة، فمن مبتدأ النظر نجد أن شرط التبعيضية غير متحقق هنا، ولكن بتأملٍ للمعنى، فالآخرون وإن كانوا أكثر عددا من الصحابة رضوان الله عليهم، لكن في المعنى المنسوب إليه من قوة الإيمان ورسوخ الإسلام والهدى والعلم والزكاة فلا شك أن الصحابة أكثر وأعظم ولا يدرك شأوهم أحد ممن جاء بعدهم وهم الأرفع شأنا والأرفع قدرا، والله تعالى أعلم




[2] بما أفاده حرف الباء في (بهم)




[3] لأن الضمير في ( منهم ) يعود على الصحابة رضوان الله عليهم، فهم الذين خرجوا من الظلمات إلى النور على يد سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: ثم بِنَا أن ننظر إلى تأويل قوله تعالى ﴿ مِنهم ﴾. فلنا أن نجعل مِن تبعيضية كما هو المتبادر من معانيها فنجعلَ الضمير المجرور بــمِن عائدًا إلى ما عاد إليه ضمير ﴿ كَانُوا ﴾ من قوله ﴿ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ﴾[الجمعة: 2].




[4] الحكم الجديرة بالإذاعة.




[5] على اختلاف في ذلك.




[6] اسم السورة.




[7] رواه مالك في الموطأ والنسائي وابن حبان بسند صحيح.





[8] صحيح مسلم.




[9] صحيح مسلم.










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21-12-2021, 09:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,653
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم

تدبر حروف الجر في القرآن (5)


عواطف حمود العميري
(الجزء الأول)

(على الفلك / في الفلك)



بسم الله والحمد لله، أما بعد:
فيهدف هذا المقال إلى بيان جمال وإعجاز القرآن في استعماله لحروف الجر، فلكل حرف إيحاءاته المناسبة للسياق التي تبرز صورة المشهد حاضرًا أمام العيان بأقل كلفة وأيسر جهد، ولتوضيح ذلك نستعرض حرفي الظرفية والاستعلاء عند دخولهما على كلمة (الفلك).

(على الفلك / في الفلك):
جاء التعبيران في القرآن الكريم في عدة مواضع، وهذا أمر يدفع للتأمل والتدبر عن الفرق بين التعبيرين وعن روعة الإعجاز اللغوي في ذلك وقدرة الحرف الباهرة في تصوير المشهد وتخيله...

يأتي حرف الظرفية مع الفلك (في الفلك) في الآيات التي فيها شدة وإزعاج شديد وأمواج عاتية، وخوف الغرق؛ ليصوِّر لنا قوة التشبث بأسباب الحياة إلى درجة صورة الانغراس فيها بما يوحيه (في) من معنى الظرفية وعدم الاستيعاب[1].

ويأتي حرف الاستعلاء مع الفلك (على الفلك)؛ ليدل بإيحاءات الاستعلاء على الاعتدال والهدوء والتمكن، وهذا في الآيات التي تحتوي على النعم والامتنان من المنعم جل جلاله من تسخير البحر وسكونه وطيب جريان الريح.

أولًا: (في الفلك):
ولنبدأ بقصة سفينة نوح عليه السلام، فهي دليل واضح على قوة الحرف في تصوير المشهد:
سورة الأعراف: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴾ [الأعراف: 64].

سورة يونس: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ [يونس: 73].

سورة الشعراء: ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ﴾ [الشعراء: 119، 120].

فجاءت كل قصة نجاة نوح عليه السلام ومن معه وإغراق قومه في القرآن متعدية بحرف الظرفية - ما عدا موضع وحيد في سورة المؤمنون - لأن الخطب كان عظيم؛ كما جاء تصويره في سورة هود: ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾ [هود: 42]، والسفينة كانت وسيلة النجاة وسط تلاطم الأمواج العاتية، فلا بد أن التشبث بها كان قويًّا، أو أنها كانت مطبقة كما ذكر بعض المفسرين، قال السمين الحلبي: ويظهر أن "في" أليق؛ لأن سفينة نوح عليه السلام على ما يقال كانت مطبقة عليهم، وهي محيطة بهم كالوعاء، وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح؛ لأن الناس على ظهرها[2].

(لكن بعد أن نَجَّى الله المؤمنين وأهلك الظالمين وانقضى الأمر، سيختفي حرف الظرفية ويأتي مكانه حرف الاستعلاء على ما سيأتي إن شاء الله).

وهكذا سائر القرآن في غير قصة نوح عليه السلام: عند مواضع الشدة والخوف من الغرق يأتي حرف الظرفية؛ كما في قوله تعالى في سورة يونس: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [يونس: 22].

وقوله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65].

ثانيًا: (على الفلك):
في قصة نوح عليه السلام لما انقضى الأمر؛ كما أخبر الله عز وجل: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44].

جاء التعبير بحرف الاستعلاء ليبين الأمن والأمان والقدرة على الاستواء والاعتدال والاعتلاء على ظهرها والله أعلم، قال الله تعالى في سورة المؤمنون: ﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 28]، قال ابن عاشور: وأُتِيَ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ دُونَ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ؛ لِأنَّهُ الَّذِي يَتَعَدَّى بِهِ مَعْنى الِاعْتِلاءِ إيذانًا بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الفُلْكِ؛ اهـ.

وكذلك في مواضع الإنعام والامتنان يأتي حرف الاستعلاء الموحي بالاستقرار والأمن وعدم الخوف، كما في قوله تعالى: سورة المؤمنون: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 21، 22].

سورة غافر: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [غافر: 79، 80].

سورة الزخرف: ﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ [الزخرف: 12، 13].

الخلاصة: أن (في الفلك) توحي بشدة التمسك والانغراس، ويأتي ذلك في حالات الشدة والخوف من الغرق، ويأتي التعبير (على الفلك) موحيًا بالاستقرار والاعتدال، وتأتي في آيات الإنعام والامتنان.

ولابد من التنبيه على أن هذه المعاني عند اقتران الحرفين (بالفلك) خاصة، وأما غيرها من المظروفات، فقد يتوافق وقد يختلف، وقد يكون العكس تمامًا، كما سيتضح ذلك في المقال التالي حينما نستعرض إن شاء الله دخول نفس الحرفين (في / على) على كلمة معاكسة تمامًا للفلك وهي كلمة (الأرض).

والله الميسر والله تعالى أعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.



[1] قال الله تعالى في سورة غافر: {﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51] ... تأمل كيف دخل حرف الظرفية على (الحياة الدنيا)، ولم يدخل على (يوم) القيامة، جاء في روح المعاني: ﴿ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ﴾؛ أيْ: ويَوْمَ القِيامَةِ عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِلْإشْعارِ بِكَيْفِيَّةِ النُّصْرَةِ وأنَّها تَكُونُ عِنْدَ جَمْعِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ وشَهادَةِ الإشْهادِ لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ وعَلى الكَفَرَةِ بِالتَّكْذِيبِ ... وفِي الحَواشِي الخَفاجِيَّةِ أنَّ النُّصْرَةَ في الآخِرَةِ لا تَتَخَلَّفُ أصْلًا بِخِلافِها في الدُّنْيا فَإنَّ الحَرْبَ فِيها سِجالٌ وإنْ كانَتِ العاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ولِذا دَخَلَتْ (في) عَلى (اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا) دُونَ قَرِينِهِ لِأنَّ الظَّرْفَ المَجْرُورَ بِفي لا يَسْتَوْعِبُ كالمَنصُوبِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ كَما ذَكَرَهُ الأُصُولِيُّونَ؛ انْتَهى.


[2] الدر المصون في علم الكتاب المكنون (بتصرف قليل).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 21-12-2021, 09:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,653
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم

تدبر حروف الجر في القرآن (6)


عواطف حمود العميري
(الجزء الأول)


( على الأرض / في الأرض )



بسم الله والحمد لله، أما بعد:
فيهدف هذا المقال إلى بيان جمال وإعجاز القرآن في استعماله لحروف الجر، كما يهدف كذلك إلى توضيح مدى اتساع معنى الحرف وتنوعه بحسب دخوله على مختلف مفردات المجرورات، مع احتفاظه بمعناه الأصلي بالطبع، وقد سبق ذكر مدلولات دخول الحرفين على كلمة ( الفلك)، ونستعرض في هذه المقالة حرفي الظرفية والاستعلاء عند دخولهما على كلمة ( الأرض).


(في الأرض / على الأرض):
إن كانت مواضع (الفلك) محدودة بالبحر واضحة في السياقات، فإن الأرض أوسع من البحر وأحوال المعايش فيها متنوعة، وقد جاءت كلمة (الأرض) مجرورة بـ (في) باتساعٍ في القرآن، ومواضع محدودة بـ ( على) ولنبدأ بها:

أولًا: (على الأرض):
يأتي معنى الاستعلاء الحقيقي؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]، عن مجاهد (مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا) قال: ما عليها من شيء[1]، ومن المعلوم أن زينة الأرض على ظهرها دون باطنها.

وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [الحج: 65].

ويأتي التعبير بحرف الاستعلاء أحيانًا؛ ليوحي بدلالات مطلوبة في السياق؛ كما في قوله تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ [الرحمن: 26].

قال الزركشي رحمه الله: لم يقل «فيها»؛ لأن عند الفناء ليس الحال حال القرار والتمكين؛ ا هـ[2].

فتأمل كيف لو كان التعبير بحرف الظرفية، لكان دالًّا على التمكن والاستقرار وهو لا يناسب المقام، بخلاف حرف الاستعلاء الذي يدل على عدم الاستقرار وتأكيد الرحيل، والله تعالى أعلم.

وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45]، ولم يقل (فيها)؛ لأن الحديث عن الاستئصال عياذًا بالله.

ويُشبهه من عدم القرار قوله تعالى في سورة نوح: ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ [نوح: 26]، قال الطبري رحمه الله: ويعني بالدَّيار: من يدور في الأرض، فيذهب ويجيء فيها؛ اهـ.

وهذا يقتضي حركةً وعدمَ قرارٍ.

ومن عدم القرار والراحة نوع ممدوح في قوله تعالى من سورة الفرقان: (﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63].

قال الزركشي: قال "على الأرض"، وذلك لما وصف العباد بين أنهم لم يوطِّنوا أنفسهم في الدنيا، وإنما هم عليها مستوقرون؛ اهـ[3].

ثانيًا: في الأرض:
جاء قوله تعالى (في الأرض) في آيات كثيرة توحي بمعاني متنوعة تتناسب وحرف الظرفية، منها الاستقرار وإن كان لحين، كما جاء في قصة إهباط آدم عليه السلام من الجنة: ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [الأعراف: 24].


ومنها التمكين في الأرض في مواضع متعددة؛ مثل قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ﴾ [الأنعام: 6].

وقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].

ومع الاستخلاف عمومًا: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ[4]
والتمكين والاستخلاف يتناسب وحرف الظرفية الذي يوحي بالتمكن من المظروف - وإن كان جزئيًّا - مع إيحاء الانغراس فيه.

كما جاء التعبير (في الأرض) مع معاني العلو: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 4]، والاستكبار: ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [العنكبوت: 39]، والإفساد: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ﴾ [المائدة: 33].

وهذا لا يكون إلا مع عدم اعتقاد البعث والنشور، بل مع التشبث والانغراس في الحياة الدنيا.

وأما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، فقد يُتصور في غير القرآن أن (على) ممكن أن تحل محل (في)؛ لأن (على) توحي بالاستعلاء الدال على الكبر والفخر والخُيلاء، لكن هل هذا هو المطلوب في الآية؟

هنا في هذه الآية النهي عن مظاهر الاختيال والفخر مع بيان موجب هذا النهي بأيسر كلفة وأدنى جهد - وهذه هي البلاغة - وموجب النهى عن التكبر هو ضعف الإنسان وذلته في مقابل هذا المخلوق العظيم (الأرض) الذي يحتويه ويحضنه، وتجد هذا المعنى واضحًا جليًّا قد أبرزته سورة الإسراء في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37].

فحرف الظرفية يدل على الاحتواء ولكنه لا يستوعب[5].

كذلك ممكن أن يُفسَّر بما فُسِّر به ما قبله من أن الكبر والخيلاء لا يتناسب واعتقاد الرحيل والله أعلم.

وأما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 95].

ففيه تأكيد لمعنى مطلوب في الآية، وهو فرضية لو أن الملائكة تسكن الأرض وحرف الظرفية هو المعني بذلك، والمعروف أن الملائكة تطير ولها أجنحة، فلو جيء بـ (على) لأوهَم عدم استقرار الملائكة في الأرض، وكذلك نستشف من حرف الظرفية إيحاءات إخبات الاطمئنان وإلصاقه، ويمكن أن يعلل أيضًا بمقابلة جهة الإنزال من العلو في الآية والله أعلم.

الخلاصة:
هناك فرق واضح حين تعدية حروف الجر على نفس المجرور (الأرض)، كما استعرضته هذه المقالة، فـ( على الأرض) توحي بعدم القرار ولوازمه، و(في الأرض) توحي بالقرار ولوازمه.

وبمقابلة هذه المقالة وسابقتها، يتضح أن هناك فرقًا أيضًا واضحًا من تعدية نفس حرف الجر على المجرورات المختلفة.

فالفرق واضح بين المجرورين (على الفلك / على الأرض) الفلك تجري في البحر؛ أي على مائع، فالاستقرار عليها نعمة؛ لأنه يدل على هدوء البحر وعلى الريح الطيبة [6].

لكن الأرض بالعكس؛ لأنها قارة ثابتة، فحرف الاستعلاء حين دخوله عليها يوحي بعدم القرار، ومثله حرف الظرفية.

ويقال مثل ذلك مع حرف الظرفية (في الفلك / في الأرض) فمدلولات دخوله على الكلمتين تختلف تماما كاختلاف معنيهما.

وهذا من عظمة اتساع اللسان العربي، ودليل إعجاز القرآن في استعماله له، فلا يطيق بشر مثل هذا ولا حتى مقاربته.

هذا والله تعالى أعلم.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

[1] تفسير الطبري.

[2] البرهان - الزركشي - ج ٤ - الصفحة ١٧٦.

[3] البرهان للزركشي (بتصرف قليل يقتضيه سياق الجملة).

[4] [فاطر: 39].

[5] قال الله تعالى في سورة غافر: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)... تأمل كيف دخل حرف الظرفية على ( الحياة الدنيا )، ولم يدخل على (يوم) القيامة، جاء في روح المعاني: ﴿ ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ ﴾ أيْ ويَوْمَ القِيامَةِ عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِلْإشْعارِ بِكَيْفِيَّةِ النُّصْرَةِ وأنَّها تَكُونُ عِنْدَ جَمْعِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ وشَهادَةِ الإشْهادِ لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ وعَلى الكَفَرَةِ بِالتَّكْذِيبِ... وفِي الحَواشِي الخَفاجِيَّةِ أنَّ النُّصْرَةَ في الآخِرَةِ لا تَتَخَلَّفُ أصْلًا بِخِلافِها في الدُّنْيا فَإنَّ الحَرْبَ فِيها سِجالٌ وإنْ كانَتِ العاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ولِذا دَخَلَتْ ( في ) عَلى ( اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ) دُونَ قَرِينِهِ لِأنَّ الظَّرْفَ المَجْرُورَ بِفي لا يَسْتَوْعِبُ كالمَنصُوبِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ كَما ذَكَرَهُ الأُصُولِيُّونَ؛ انْتَهى.

[6]يلاحظ أنه لما يكون الحديث عن الفلك يختلف عن الحديث عن الوضع الإنساني عليها، فلما تجتمع الفلك مع الريح الطيبة يسميها الله عز وجل ( الجوار )؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [الشورى: 32]، أو أن توصف بالجريان؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾ [الحج: 65]، فتتعدى بـ (في)، فتمكينها من الجريان في البحر أتم للنعمة؛ لأن الجريان تمكن في البحر وهو الغاية من السفن، وعند سكونها وعدم جريانها تتعدى بـ ( على)؛ لأنه استعلاء محض لم تكمل به النعمة؛ كما في قوله تعالى في سورة الشورى: ﴿ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [الشورى: 33]، والله تعالى أعلم.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 140.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 136.23 كيلو بايت... تم توفير 4.22 كيلو بايت...بمعدل (3.00%)]