الرّؤية النّقديّة عند محمود شاكر - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أبو بكر الصديق رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 22 )           »          لماذا يصمت العالم عن المجاعة في غزة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          أعمال تعدل أجر الصدقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          البلاء في حقك: نعمةٌ أو نقمة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          شرح النووي لحديث: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          شرح النووي لحديث: ارم فداك أبي وأمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          شرح النووي لحديث: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          أنسيت بأنك في غزة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-09-2021, 10:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي الرّؤية النّقديّة عند محمود شاكر

الرّؤية النّقديّة عند محمود شاكر





د.خليفة بن عربي







الرّؤية النّقديّة عند محمود شاكر

[1327هـ / 1909م – 1418هـ / 1997م]

الملتقى الأدبي الشهري لرابطة الأدب الإسلامي العالمية - الرياض





مرجعيّة النّقد الذّوقي:

يقدّم محمود شاكر في مشروعه النّقديّ الذّوقيّ معطياتٍ توثّق العلاقة بين النّصّ والقارئ، وهي علاقة تتّسم بالجدليّة الّتي تتماهى فيها كينوناتهما، والّتي تتطلّب أن يوجد النّاقدُ بينه وبين النّصّ المدارات الّتي تتناصى فيها أدواتُهما، وأدوات النّاقد هي المعطيات النّقديّة المتوافرة بين يديه. والنّصّ لا يمكن أن يتحقّق له وجودٌ أو مصير بدون القارئ؛ لأنّ القارئ منتجٌ لما يرصد، ومن ثمّ فإنّه يعيد تشكيل النّّصّ وَفْقَ ما تنتهي إليه هذه العلاقة بينهما، إنّها علاقة تفاعل وتحوّل، ومنافسة واشتراك، واتّفاق وتضادّ تذهب بالقارئ والنّصّ معًا كلّ مذهب، وتحقّق لهما كلّ سبل التّماهي والانفتاح الذّاتيّ.



وكانت الانطلاقة الفعليّة لتجربته هي التّكوين التّراثيّ الأوّل القائم على ما يسمّى بالموسوعيّة الثّقافيّة الممتزجة مع الذّوق، فقد عبّ من معين التّراث العربيّ كلّه، وقرأ كلّ ما وقع تحت يديه من إرث الأجداد القديم، يقول: "فأقدمتُ إقدام الشّابّ الجريء على قراءة كلّ ما يقع تحت يدي من كتبِ أسلافنا: مِن تفسير لكتاب الله، إلى علوم القرآن على اختلافها، إلى دواوين حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشروحها، إلى ما تفرَّع عليه من كتب مصطلح الحديث وكتب الرّجال والجرح والتّعديل، إلى كتب الفقهاء في الفقه، إلى كتب أصول الفقه وأصول الدّين (أي: علم الكلام)، وكتب الملل والنِّحل، ثمّ كتب الأدب وكتب البلاغة، وكتب النّحو وكتب اللّغة، وكتب التّاريخ، وما شئت بعد ذلك من أبواب العلم. وعَمَدتُ في رحلتي هذه الأقدم فالأقدم" [1].



وهي موسوعيّة شاملة، وقراءة متعمّقة في كلّ ما تركه لنا التّراث، ثمّ إنّ هذه القراءة ليست قراءة عاديّة، بل عمّق مخرجات القراءة واتّجه إلى مفاصل النّصوص الدّاخليّة واهمّ بامتداداتها العميقة، يقول: " كلُّ إرث آبائي وأجدادي، كنتُ أقرؤه على أنّه إبانةٌ منهم عن خَبايا أنفسهم بلُغتهم، على اختلاف أنظارهم وأفكارهم ومناهجهم. وشيئًا فشيئًا انفتح لي البابُ يومئذٍ على مصراعيه. فرأيتُ عجبًا من العجب، وعثرتُ يومئذٍ على فيضٍ غزيرٍ مِن مساجلات خفيّةٍ كالهمس، ومساجلات ناطقة جَهيرةِ الصّوت، غيرَ أنّ جميعها إبانةٌ صادقة عن هذه الأنفس والعقول"[2].



ثمّ إنّ هذا السّير الموازي للتّراث في رؤيته لم يقف عند حدّ التّعامل الظّاهر الّذي يتّخذ من التّلقّي لمجرّد نهاية له، بل يحاول أن يكتشف المتون الخفيّة الّتي يحتويها النّصّ، وماذا يحمل النّصُّ من ماهيّة صاحبه ودواخله. إنّه باختصار يمارس عليها سلطته المتولّدة من رحم التّراث.



إنّ اللّحمة الوامقة بين القارئ والنّصّ هي طريقة شاكر في النّقد، وهو يعترف بأنّ منهجه ذاك ليس بدعًا استحدثه من تلقاء نفسه، إنّما هو طريق مستتبّ عند القدماء؛ لذا فإنه يقول: "أردتُ أن تقفَ بالدّليل الواضح، على أنّ المنهج الّذي استطعتُ أن أمهّده لفكري، كان نابعًا من صميم المناهج الخفيّة الّتي سنّ لنا آباؤنا وأسلافُنا طُرُقَها" [3]؛ أي إنّ هناك كمًّا وافرًا من المناهج الأدبيّة والفكريّة الّتي أصّلها القدماء، لكنّها خفيّة، بمعنى أنّهم أصّلوها استخدامًا إجرائيًّا، ولم يقنّنوها قواعدَ ونُظُمًا واضحة التّخطيط.



وتبدو مسألة إعجاز القرآن بالنّسبة إلى محمود شاكر المرتكز المهمّ الّذي استند إليه، والمنطلق الأوّل الّذي أشرف من خلاله على استجلاء مناحي النّصّ والدّخول في عالمه، فهي مسألة – على حدّ قوله – "تشمل بناء الإنسان العربيّ أو المسلم، من حيث هو إنسان قادر على تذوّق الجمال في الصّورة والفكر جميعًا"[4]، وهذه المسألة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقضيّة أخرى وهي قضيّة الشّعر الجاهليّ، وللشّعر الجاهليّ عنده شؤون وشجون، فلقد رهن حياته كلّها مدافعًا عنه، وسائرًا في محيطه، وبانيًا فكره ونظراته ورؤاه وَفْق تصوّراته العميقة لثبوت وجوده، وأصالته، ومكانته في العربيّة. فما هو حقيقة الارتباط بين إعجاز القرآن والشّعر الجاهليّ في نظره؟



إنّ الشّعر الجاهليّ هو أساس مشكلة إعجاز القرآن؛ لأنّ القرآن نزل معجزًا لقومٍ من المفترض أنّهم يحوُون صفاتٍ مميّزة، وهي أنّهم قادرون على التّمييز بين الحجاز الفاصل بين كلامهم الّذي هو غاية في البيان فيما تطيقه القوى، وبين القرآن الّذي يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كلّ الوجوه. وهؤلاء القوم الّذين تمكّنت منهم هذه الصّفات، وأصبحوا في مكانة من البلاغة والفصاحة عالية متينة، يبرز عندهم الشّعر بوصفه الأنموذج الأسمى في البيان، وهو بالنّسبة إليهم ليس مجرّد شعر تُروى فيه أخبارهم، وتوثّق أيّامهم فحسب، بل هو أكبر من ذلك، ودراسته يجب أن تتمّ بفهم أعمق وأدقّ، فدراسة الشّعر الجاهليّ كما يقول: "تتميّز بالقدرة على البيان، وتجريد ضروب هذا (البيان) على اختلافها، واستخلاص الخصائص الّتي أتاحت للغتهم أن تكون معدنًا للسموّ، بالإبانة عن جوهر إحساسهم، سموًّا يجعل للكلام حياةً كنفخ الرّوح في الجسد القائم، وكقوّة الإبصار في العين الجامدة، وكسجيّة النّطق في البضعة المتلجلجة المسمّاة باللّسان"[5]. وهنا مكمن العلاقة، لكي نفهم ماهيّة ذلك الإعجاز، ولكي نعرف كيف حار العرب في أن يأتوا بشيء مثله، ولكي ندرك سرّ ذلك السّموّ الإلهيّ، علينا ابتداءً أن نؤمن بمصداقيّة ذلك الشّعر الجاهليّ، وأنّه شعر موجودٌ يمثّل الأنموذج الأسمى في الفصاحة، وإلاّ بطلتْ قضيّة الإعجاز، وبطل تحدّي الله للعرب، ومن ثمّ فإنّ شاكرًا يرى أنّ مادّة الدّراسة الأولى هو ذلك الشّعر الجاهليّ؛ " لأنّ القرآن نزل بلسان العرب، والّذين نزل عليهم ثمّ تحدّاهم وأعجزهم، هم أصحاب هذا الشّعر والمفتونون به وببيانه"[6].



وهذا الفهم هو الّذي فتح على شاكر أبوابًا من الصّراعات والمعارك الأدبيّة الّتي واجه فيها مجموعةً كبيرة ممّن حاولوا أن يشكّكوا في مسلّمات الشّعر الجاهليّ[7].



وليس من شأننا أن نبحث تاريخ المسألة عند شاكر، وكيف حلّلها وأصّل قوانينها، أو ظروف معاركه الأدبيّة، بل نحن بصدد بيان تأثّره بقضيّة إعجاز القرآن - بوصفها المرتكز عنده- وكيف وظّف مشاكلَتَه للقضيّة في إجرائه منهج التّذوّق، فانعكست على أعماله النّقديّة.



وكانت شخصيّة عبدالقاهر الجرجانيّ من الشّخصيّات الأولى الّتي ألقت بظلالها على فكر محمود شاكر، وإعجابه به في هذا السّياق جاء لميزة فيه، فعلى الرّغم من كونه "نحويًّا متكلّمًا، ولكنّه استودع قدرًا باهرًا من تذوّق البيان ... وزادَهُ تذوُّقُهُ بصيرةً في (النّحو)" [8]، وهذا جمع بين الفنون فريد في رأي شاكر، فهو الّذي أتاح له الانفتاح على آفاق هذه القضيّة، ووضع لمسات واضحات فيها.



إنّ فكرة النّظم عند الجرجانيّ تقوم على الأصول العامّة للنّحو العربيّ، وأساليب العربيّة، وهي: "أن تضع كلامك الوضع الّذي يقتضيه علم النّحو، وتعملَ على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه الّتي نُهجتْ فلا تزيغَ عنها، وتحفظَ الرّسوم الّتي رُسِمتْ لك، فلا تُخلُّ بشيء منها" [9].



فالقضيّة إذن قضيّة لغة، وما النّظم سوى استواء الإدراك الإنسانيّ على أصول وضوابط هذه اللّغة، بوصفها المشغّل الأوّل للنّشاط الفكريّ في الأمّة، إذ يعوّل عبدالقاهر على ذلك الاستيعاب العميق لأصول اللّغة وتراكيبها ودلالاتها، وفي ذلك يعرّض عبدالقاهر بمن يستهينون بعلم اللّغة، وبعلم البيان خاصّة، يقول: "وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك، إلاّ من جهة نقصه في علم اللّغة، لا يعلم أنّ ههنا دقائقَ وأسرارًا طريقُ العلم بها الرّويّةُ والفكر ولطائف مستقاها العقل، وخصائصُ معانٍ ينفرد بها قوم قد هُدُوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكُشف لهم عنها، ورُفعت الحجب بينهم وبينها، وأنّها السّبب في أنْ عَرَضَت المزيّة في الكلام ووجب أن يَفْضُلَ بعضُه بعضا، وأن يبعد الشَّأْوُ في ذلك، وتمتدّ الغاية، ويعلو المرتقى، ويعزّ المطلب، حتّى ينتهي الأمر إلى الإعجاز، وإلى أن يخرج من طوق البشر" [10]؛ أيّ أنّ السّرّ الّذي جعل أولئك القوم يحارون ولا يملكون أن يُجاروا القرآن هو علمهم الغزير بأسرار اللّغة، وإتقانهم سبر مغاور الكلام، وإحكامهم مشاكلة المعاني والمقاصد من وراء القول، كما يتّضح لنا من نصّّ الجرجانيّ الآنف وغيره من نصوصه المبثوثة في كتبه أنّه قد كَلُف بقضيّة الإحاطة بمعرفة حقيقة البيان وكنهه، ومظاهر إنشاء العقل له يقول عنه الدكتور محمّد محمّد أبو موسى أنّه رام "يتدسّس ويمدُّ أصابعه إلى ما نسمّيه اليوم عمليّة الإبداع، ومن هذا كان يجتهد في استكشاف العنصر الّذي يكون فيه النّشاط العقليّ، وهذا العنصر لابدّ أن يكون قابلا للتّغيير، والتّبديل، والتّعديل، والتّحوير، وأن تكون إمكاناته في هذا التّغيير والتّحوير والتّشكيل لا حدود لها، لأنّه هو الّذي تعمل فيه ألسنة المتكلّمين جميعًا، عامّتهم وخاصّـتهم، وفي أجيالهم المتلاحقة"[11].



ذلك هو الفهم/الهمّ الّذي أخذ بعنان محمود شاكر، والرّؤية الّتي استقرّت في ذهنيّته العلميّة، وهو يقرأ بإعجاب واستقراء ذلك النّشاط الإبداعيّ عند عبدالقاهر، وكيفيّة قراءته للنّصوص جميعها وفق ذلك الأفق اللّغويّ، وقد وقف محمود شاكر مليّا على قراءة عبدالقاهر لنصّ من نصوص سيبويه قال فيه: "وأمّا الفعل فأمثلةٌ أُخذتْ من لفظ أحداث الأسماء، وبُنيتْ لما مضى، وما يكون ولم يقع، وما هو كائنٌ لا ينقطع"[12]، يعلّق عبدالقاهر على هذه المقالة: "لا نعلم أحدا أتى في معنى هذا الكلام بما يوازيه أو يدانيه، أو يقع قريبًا منه، ولا يقع في الوهم أيضًا أنّ ذلك مستطاع. أفلا ترى أنّه إنّما جاء في معناه قولهم: ((والفعل ينقسم بأقسام الزّمان، ماضٍ وحاضر ومستقبل))، وليس يخفى ضعف هذا وقصوره عنه. ومثل قوله: (( كأنّهم يقدّمون الّذي بيانه أهمّ لهم، وهم بشأنه أعنى، وإن كانا جميعًا يهمّانهم ويعنيانهم))"[13]. لقد وضع عبدالقاهر في عبارة واحدة مبتسرة "وليس يخفى ضعف هذا وقصوره عنه"، وضع كمّا هائلا من الإدراك اللّغويّ العميق لعبارة سيبويه المختصرة أيضًا، وَحَدَّتِ المسافة الفارقة بين قوله وقول من جاء بعده، فما هو المستوى الدِّلاليّ العميق لعبارة سيبويه؟، إنّه في الواقع يريد أن يخلّص تعريف الأفعال ممّا قد يطرأ على أنواعها من تشابه في الشّكل واللّفظ، لكنّها لا تؤدّي الدِّلالة نفسها، أو ما يختلف عنها في الصّياغة ويؤدّي الدّلالة نفسها، فمن الأفعال الماضية ما لا يدلّ على وقوع في الزّمن الماضي، لكنّه جاء بصيغة الماضي، كالدّعاء في قولك: رحمه الله. وكذلك في الأمر، الّذي عبّر عنه بقوله: "وما يكون ولم يقع" ، فمن الأفعال ما جاء على صيغة المضارع مثلا لكنّه يدلّ على الأمر؛ كقولك: لا تخرجْ. وكذلك في قولنا: "قاتل النّفس يُقتل، والزّاني المُحصن يُرجم"، فهي في زمن مُبهم لم يكن ولم يقع، ولا يدلّ على ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، إذ لم يقع الفعل بعد وأمّا الزّمن الثّالث وهو ما عبّر عنه سيبويه بقوله: "وما هو كائن لم ينقطع"، كقولك: محمّد يضرب ولده، فهو يدلّ على استمرار وعدم انقطاع بعد مضيّ الحال إلى الاستقبال، ويلحق به ما جاء في قوله تعالى: (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فهو خبر عن مغفرة كانت ولا أوّل لها، وهي كائنة أبدًا لا انقطاع لها [14].



وهكذا أعمل عبدالقاهر منهجه وطريقته في استشفاف أسرار الكلام، وخبايا البيان، حتّى على كلام نحويٍّ علميٍّ مقنّن، وليس كلامًا بلاغيًّا أو حديثا فيه خيال أو صورة أدبيّة، فهو يعدُّ أيّ كلامٍ مصقول تابعًا للبلاغة، وداخلا في المكوّنات البيانيّة، وهذا ما جعله ينفذ إلى جوهر هذه العبارة، ويتنبّأ أنّه لن يقول أحدٌ عبارةً أحكم منها وأوثق؛ لأنّها بلغت حدّا رفيعًا في التّعبير البشريّ، وكان يؤصل لفكرة سبر طرائق البيان ومعادنه الّتي تفضي في نهاية الأمر إلى معرفة مراتب الكلام لتتبيّن بعد ذلك أقصى المراتب البشريّة فصاحةً وبلاغة، ما لا يدخل في طاقة أحد أن يأتي بأسمى منه.



وبناء على تلك المفاهيم، فإن محمود شاكر يخلص إلى ضرورة جعل مسألة إعجاز القرآن مرتكزًا ومنطلقًا للدّخول إلى عوالم أرحب في سياقات اللّغة المختلفة، يقول: "فعسى أن يكون قد حان الحِين للنّظر في إعجاز القرآن نظرًا جديدا، ولا يتيسّر للنّاس إلاّ بعد أن يتمّ تحليلُ اللّغة تحليلا دقيقًا قائمًا على حصْر الوجوه المختلفة لكلّ حرفٍ من حروف المعاني، وتصاريف اللّغة. لأنّ هذه الحروف وهذه التّصاريف، تؤثّر في المعاني، وتوثّر في الأساليب، وتحدّد الفروق الدّقيقة بين عبارة وعبارة وأثرها في النّفس الإنسانيّة، وأثر النّفس الإنسانيّة فيها، وفي دلالاتها" [15].



ومن ثمّ فإنّ الأُطُر المصنّفة لعمليّة التّذوّق عند محمود شاكر في جميع تجلّياتها وأنساقها اللّغويّة، تكمن في احتواء الكلام النّاتج من عمق الكلام، الّذي تنبع معرفته من ذلك الاشتباك المتداخل مع أصول هذه اللّغة، وسعة عباراتها، ودقّة مفاهيمها اللّغويّة، وسياقات ألفاظها الدِّلاليّة، ثمّ روابط تلك الألفاظ، وتناسقها، وترتيبها، وكيفيّتها، وما يقع فيها من اختيار، وكلّ العلاقات الّتي تسوّغ ضمّ الألفاظ، ووضعها الموضع الّذي أُريد لها، لِتعبّر عن المعنى المراد، وهذا كلّه يحتاج إلى عقل فذٍّ، وذوق مدرّب، وحاسّة لغويّة رصينة، تتعامل مع اللّغة بأناة وصبر ومجاهدة، فتميّز دقائق الألفاظ، وتتبيّن خفايا العلائق، وتحدّد مواضع السموّ من عدمه.



التّأمّل واحتمال التّأويل:

كان تأثّر محمود شاكر بالمفاهيم النّقديّة الّتي أسّسها عبدالقاهر الجرجاني هو الّذي حداه لإنتاج ما أسماه منهجَ التّذوّق، والجرجانيّ في تحليله للعمليّة النّقديّة كان المؤطّر المباشر لنظريّة التّاويل الّتي تلقي بظلالها على غالب الامتدادات النّقديّة، والملتصقة بالنّصّ قراءة وفهمًا، والمتسلّلة إلى مكامنه ومفاصله العميقة من مختلِف طرائقه.



وفي رؤيتنا فإنّه من المهمّ أن نشتغل في مسألة الممارسة النّقديّة لمحمود شاكر في ضوء نظريّة التّأويل ضمن سياقاتها التّراثيّة.



والنّصّ هو المدار الّذي بُنيت عليه الحضارة العربيّة الإسلاميّة العريقة، ولن نُبعد النّجعة لو قلنا إنّ النّصّ كان البؤرة الحضاريّة الّتي تَمَرْكَزَ بناءُ الأمّة عليها في إنتاج المعرفة، وبالطّبع فإنّنا نقصد هنا النّصّ (القرآنيّ) على وجه التّحديد، ذلك النّصّ الّذي أُنزل على أمّةٍ تغلغلت قبل نزوله في منظومات الحضارة لدى الأمم، لكنّه بوصفه النّصّ الدّستورَ للإسلام، قد أدخل العقل العربيّ في مكوّناتٍ حضاريّةٍ جديدة غاية في الإشراق، حتّى شكّل للأمّة العربيّة نهضتها المحوريّة الشّاملة الّتي نقلت العرب من عصر إلى عصر، ويأتي هذا الاستخلاص – كما يعبّر نجيب محمّد البهبيتيّ - إثر " متابعة واعية ناظرة فاحصة لمقوّمات هذا الدّين ودوره في الوجود، ولمنزلته في تطوّر الفكر الاعتقاديّ عند الإنسان، ولقيامه بهذا الدّور لأنّه جاء بحقٍّ، الثّمرة النّاضجة التّامّة للتّطوّر النّفسيّ الحضاريّ العريق لأمّة بلّت في تقلّب الأحداث عليها كلّ خطوات التّطوّر الاعتقاديّ، وتنقّلت معارجُها إلى الكمال المهيّئ لتكييفها لحمل هذه الأمانة وتأديتها إلى النّاس كافّة. ونؤمن كذلك بأنّها لو لم تكن لغتُها تابَعَتْهَا في هذا النّموّ الحضاريّ ما بلغت من الكفاية والقدرة والمنزلة الّتي أهّلتها للتّعبير الأمين عن المعاني القرآنيّة"[16].



والقارئ يحاول أن يقتحم عالم النّصّ انطلاقا من رؤى محكومة بعناصر التّجربة الأدبيّة الّتي تحدّد أفقَها من خلال خبراته الّتي اكتسبها من قراءته للأجناس الموازية للنصّ، وما يتولّد عنها من دراية عامّة.



أمّا الحديث عن التّأويل في المنظور الأدبيّ فإنّنا سنتّكئ على الأطروحات الّتي قدّمها عبدالقاهر الجرجانيّ؛ لأنّه يعدّ من أكثر النّقّاد الّذين أفادوا النّقد الحديث في الدّرس التّأويليّ الأدبيّ، أضف إلى ذلك أنّه كان الموسّع الأوّل لفكرة محمود شاكر عن التّذوّق، وأنّه نبّه نفسه إليه، وعمّق عنده الرّؤية[17].



لقد اهتمّ عبدالقاهر بإبراز النّواحي البلاغيّة في كلام العرب، من حيث إنّ البلاغة سبرٌ للأساليب الأدبيّة وطرائقها عند العرب، وهي حينئذ تعمد إلى إدراك معاني الأساليب والجمل والألفاظ، ودلالاتها الواسعة، وإيحاءاتها الممتدّة، ممّا يُحدث علاقة وثيقة بينها وبين ظاهرة التّأويل، بل نجد تداخلا كبيرًا بينهما وبين التّّذوّق الّذي ينصبّ على مواجهة النّصوص واستيعاب المراد من أساليبها، وهو الذي نلمسه عند محمود شاكر في سياق نقداته الإجرائيّة.



إنّنا عندما نقول: "فلان كثير الرّماد"، فهذا الكلام -بلاغيًّا -كناية عن (الكرم)، والتّأويل في واقع الأمر يقوم بمثل هذا العمل في صرف ألفاظ العبارات الأولى عن معناها الظّاهر إلى المعنى المقصود. إنّ التّوصّل إلى المعنى المراد في المجازات في نظر محمود شاكر يكون بالتّذوّق الكامل للأسلوب، الّذي يستمدّ قوامه من اللّغة نفسها وما قام بها من فعاليّات الجملة، من حيث اللّفظ المفرد، وأحكامه الإعرابيّة، والاستناد إلى وجوه البلاغة فيه، وتلك القدرة على إثارة المعاني، وتدفق آفاقها، وجريانها في مضامين اللّغة، والاتّساق الواضح بين المعاني وانتظام الكلام وتشكيله، كلّ ذلك هو أصل البلاغة، ومادّة النّقد الأدبيّ الّتي نهجها محمود شاكر.



وهذا ما فعله عبد القاهر عندما درس نظم الكلام، فقد استطاع تحليلَ الألفاظ والجمل والتّراكيب، وجعلها تكشف اللّثام عن أسرار المعاني القائمة في ضمير منشئها.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-09-2021, 10:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرّؤية النّقديّة عند محمود شاكر

لقد درس الجرجانيّ في هذا السّياق صورَ المعاني الّتي يؤدّيها الكلام، وهي دراسة تصبّ بالدّرجة الأولى في العلاقة بين المتكلّم والمخاطب، فنجده يقسّم الكلام إلى ضربين، "ضرب تصل منه إلى الغرض بدلالة اللّفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلا بالخروج على الحقيقة فقلت: خرج زيد" [18]، وهذا ما أشار إليه بلفظة (المعنى) مجرّدة، أي المعنى المباشر الّذي توحيه الجملة عبر الصّيغ المباشرة الّتي تحملها دِلالاتها، أو كما يعبّر هو: "المفهوم من ظاهر اللّفظ والّذي تصل إليه بغير واسطة" [19]، إنّه يُلمح إلى لغة التّواصل العاديّة الّتي لا تحمل في مضامينها سوى ما تحمله الألفاظ من معان معجميّة، دون التفاف حول النّسق المباشر للمعنى.



أمّا الضّرب الآخر فهو ما أسماه (معنى المعنى) وهو " أن تعقل من اللّفظ معنى، ثمّ يُفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"[20]. و(معنى المعنى) هو ما نجده في الاستخدامات المجازيّة والاستعاريّة الّتي تأخذ في الاتّساع كلّما توسّعت دائرة المجاز والاستخدام، إنّه تفريق دقيق بين أسلوبَيْ الطّرح، أو بين الطّريقة الّتي تُوصل المعنى إلى المستمع، وفي ذلك الضّرب الثّاني يكمن وصف نظريّة التّأويل، حيث استمدّ الجرجانيّ هذا التّقسيم من خلال دراسته لدلالات التّركيب، واتّصاله بالأنساق الأدبيّة الّتي تحكم أساليب العرب في سبك العبارة، ومن ثمّ فإنّ الدّرس الّنقديّ الأدبيّ يقف عند هذه الرّكيزة المتعمّقة في إدراك الأساليب البلاغيّة الّتي تعين كثيرًا على التّذوّق الأدبيّ، وتساعد في فهم النّصّ وتأويله بما يوافق مقتضاه.



وهذا الإدراك لتلك الأساليب تحكمه الخبرات والمعارف السّابقة والّتي لا يمكن إغفالها في أثناء عمليّة تأويل النّصوص، وهي من أهمّ آليّات التّأويل، إضافة إلى القواعد الّتي يتمحور حولها الفهم السّليم لحركة النّصّ، ومن هنا كان مشروع عبدالقاهر المساوقةَ بين إدراك معاني الكلام وبين ارتباط ذلك كلّه بالنّظام النّحويّ له، وتعليق إفهام النّصّ وفهمه على علاقته بأساسيّات اللّغة وقوانينها.



والمستقرئ لطريقة محمود شاكر في النّقد نجده يعطي النّظام اللّغويّ مكانة عليا، على أساس أنّ إنّ لغة النّصّ هي الأداة الرّئيسة الّتي يستخدمها الشّاعر للتّعبير عن فكره، وبقدر تمكّنه من استخدامها،يكون إبداعه وتفوّقه، ومن ثمّ فإنّ الدّقّة والإحكام المنتَجان من خلال الخبرة وسعة الاطّلاع،يجب أن يكون لهما حضور بارز في الصّياغة الشّعريّة، وربّما تكون هي الأهمّ في رأي شاكر، "وأجهلُ النّاس من يظنّ أنّ جمال الأنغام المتسرّبة من ألفاظ الشّعر وألحانه المركّبة، دانيةُ القطوف لكلّ كاتب وناقد. فإنّ اللّغة، هي قمّةُ البراعات الإنسانيّة وأشرفها، وهي أبعد منالا ممّا يتصوّره المرءُ بأوّل خاطر، فما ظنّك إذا كانت اللّغة عندئذٍ لغةَ ((شعر)) أو ((كلام مُبين))! عندئذ تعي الألسنة عن الإبانة عن مكنون أسرارها، وتُقصّر هِممُ ألفاظِ النّقّادِ أحيانًا كثيرة عن بلوغ ذُراها المُشْمَخِرَّة"[21].

ومن المهمّ أن ندرك أنّ الجرجانيّ قد أسّس في دراسة البلاغة مفاهيم رائدة، وأدخل البلاغة في سياقات خلاّقة، قد لا ترقى إليها أطروحات المعاني والبيان والبديع الّتي قد اقتصرت عليها كثير من الدّراسات من بعده، لقد أقام فكرته في البلاغة على أنساق التّواصل الأدبيّ برمّتها، ولم يضع اللّفظة إلاّ في موضعها الّذي تستحقّ، في حين ركّز أكثر ما ركّز على المعاني، وجعلها القائدة إلى تَنَاسُبِ الألفاظ معها، فدار في أطر النّظم، والبُنى الدّلاليّة، والأنماط الكلاميّة، ليحلّل عمليّات التّواصل الخطابيّة، وليفكّ شفرات النّصوص، ويجعل من إبهامها مفتاحًا لتأويلها، ويكتشف العلاقة بين القارئ والنّصّ، وليعطي حضورًا فاعلا للمتلقّي.



والممارسة النّقديّة في الحيّز التّراثيّ تتّسم بهذا الإجراء في محاولة إدراك الترابط بين صاحب النّصّ والمتلّقي وطُرُقِ التّواصل الأدبيّ بينهما، يقول الجاحظ "... لأّن مدار الأمر على البيان والتّبيُّن، وعلى الإفهام والتّفهُّم، وكلّما كان اللّسان أبينَ كان أحمدَ، كما أنّه كلّما كان القلبُ أشدَّ استبانة كان أحمدَ. والمفهِمُ لك والمتفهِّمُ عنك شريكان في الفضل، إلاَّ أن المُفهِم أفضل من المتفَهِّم، وكذلك المعلِّم والمتعلِّم"[22]، وتلك لمحة رشيقة للعلاقة الجدليّة بين القارئ والمتلقّي، ووصف دقيق يدلّ على عمق التّواصل النّصيّ في التّراث، واستجلاء النّصّ لفظا وأسلوبًا وآليّاتٍ موصلةً، وذلك كان من أثر الظّاهرة القرآنيّة في بناء المكوّنات العقليّة والتّحليليّة عند العرب، وتأسيس مفاهيم اللّغة على نحو غير مسبوق.



إنّ مؤشّرات التّعاطي النّصيّ في حيّز النّقد تشير إلى تداخل نسق التّذوّق مع نسق التّأويل، خاصّة في حيّز الدّرس البلاغيّ، إذ التّذوّق نوع من التّفاعل مع النّصّ من أجل الوصول إلى تقدير حُكْمِيّ باستخدام مقاييس جماليّة وقيميّة، والنّقد في صورته النّهائيّة يصل إلى الانفتاح على آفاق النّصّ، بل إنتاج آفاق جديدة له عبر طبيعة تأويليّة بحتة.



من ثمّ فإنّا نستطيع أن نتلمّس العلاقة الغائرة بين (التّذوّق) كمنهج سار عليه محمود شاكر وبين نظريّة التّأويل في سياقها التّراثيّ، وليكن المنطلق لهذا الافتراض ذلك التّأسيس الثّقافيّ التّراثيّ الّذي أشرنا إليه، إذ ينبثق مشروع محمود شاكر من رحم التّراث، ومن رؤاه المنعكسة على جميع قراءاته للنّصوص، وكانت شموليّة التّلقّي عنده، وسعة القراءة، المشكّلَ الأوّل لمنهجه، وهو في معرض وصف طريقته، وشرح منهجه في التّذوّق أشار إشارات عدّة إلى أنّه لا يبتدع هذه الطّريقة ابتداعًا منه، ولم يبتكر أصولها، إنّما – كما يقول-: "سبقني بها أعلام من أصحاب هذه اللّغة وهذا العلم، في مباحثهم ومساجلاتهم ومثاقفاتهم وما يتضمّنه كلامهم من النّقد والاحتجاج بالرّأي. وكلّ ما وقفتُ عليه من ذلك، كان خفيًّا فاستشففتُه، ودفينا فاستنبطته، ومشتّتًا فجمعتُه، ومفكّكًا فلاءمتُ بين أوصاله، حتّى استطعتُ بعد لأَيٍ أن أمهّد لفكري طريقًا لاحبًا مُستتبًّا يسير فيه، أي صيّرتُه ((منهجًا)) التزمتُ به فيما أقرأ وما أكتب" [23]. فهي فكرة لم تأت من فراغ، إنّما تكوّنت جرّاء الالتحام بالموروث التّراثيّ الوافر الّذي أعاد تشكيل نفسه في ذهنه.



وقد أدرك شاكر أنّ التّأويل يشكّل بؤرةً مركزيّة في مضمار العمل الحضاريّ الإسلاميّ، وأنّ النّصّ يتوقّف في طرح معطياته على الآليّة الذّهنيّة التّأويليّة الّتي تتيح له الانفتاح على مستويات رحبة، وأنّ مدار النّصّ هي تلك اللّفظة الّتي يمكنها أن تضلّل القارئ إذا لم يصل إلى غاية معناها ودلالاتها الّتي يمليها السّياق، ومن ثمّ فإنّه يجب اتّخاذ الحذر والحيطة عند التّعامل معها، "فإنّ فيها من القوّة الغامضة ما يجعلها قادرة قدرةً مطلقة على تضليل المتكلّم والسّامع جميعًا، وهي الّتي تتيح لفكرة ((التّأويل)) (أعني تأويل اللّفظ المفرد والمركّب، وإخراجه من معنى ظاهر إلى معنى باطن) = أن تسيطر سيطرة كاملة على العقل أحيانًا" [24].



وهذه اللّفظة تتدسّس في ثنايا كلّ كلام ، فيكون كلّ كلام ـ مهما كان ـ يصلح أن يُجرى عليه هذا التّذوّق، حتّى لو خلا من الصّور البيانيّة، وهذه هي عين النّظرة الّتي ذهب إليها عبد القاهر نفسه، حيث إنّنا نفترض أنّه يطبّق قاعدةَ (معنى المعنى) حتّى في الكلام الّذي يخلو من الصّور البيانيّة إذا ما حمل مواصفاتِ طرحه، وإن كان قد صرّح أنّ فكرة (معنى المعنى) محصورة في الكلام الّذي يحوي صورًا بيانيّة فقط، وإنّما جاء افتراضنا السّابق بالنّظر إلى ناحيتين:

الأولى: التّداخل بين النّظم، بوصفه نظريّة تطبّق على الكلام بأشكاله وأنساقه المختلفة، وبين فكرة (معنى المعنى) الّتي تقرّر وجود معنى آخر خلف المعنى الظّاهر، أي فكرة التّأويل بعينها.

الثّانية: التفاته إلى أيّ كلام مصقول على أنّه بلاغة، سواء حمل صورا بيانيّة أم لا، ممّا يوصلنا إلى نتيجة وهي أنّه يتعامل مع أيّ كلام تعامله مع الكلام الّذي يحوي (معنى المعنى)، أي إنّه يبحث عن المعنى الآخر من خلفه، فهو إجرائيًّا يفترض معنى المعنى في كلّ ما يقرأ[25]، وممّا يعضّد هذه الفكرة قول محمود شاكر: "فوفقتُ على كلام نفيس جدًّا كتبَه الإمام الجرجانيّ الكبير، هو أوضح ما قرأتُه قطّ، في إجراء التّذوّق على كلّ كلام، في كلِّ علم، مهما ظننتَ أنّه أبعد علمٍ من إجراء التّذوّق عليه"[26].




إنّ الترابط عند شاكر بين النّقد الذّوقيّ والتّأويل يشكّل عنده انفرادا في الحكم، حيث إنّ أحدا من النّقّاد لم يقف عند المسألة بذلك الجزم الصّارم إجرائيًّا؛ إذ لا يعدو مصطلح التّذوّق عند النّقّاد تلك الصّورة الأولى من النّقد القائم على الخواطر والهوى دون احتياط أو استقصاء أو تعليل[27] وتعليلأ، وذلك في شتى أطواره، منذ أن كان في البدايات الأولى القيمة المعيارية الوحيدة لتقييم النّصوص، حتى وصوله إلى كونه قيمة نسبيّة للحكم على النّصوص، في حين يحتاج الذّوق بعد ذلك إلى تقنين وتأطير، وحتّى في السّياق التّأويليّ كانت أطروحات الباحثين تجعل من التّذّوق أداةً مهمّة لا غنى عنها في ممارسة التّأويل.



وفي الواقع فإنّ شاكر في كان يختزل بطريقته نواحي النّصّ كلِّها، وفي نظرنا أنّ ما فعله كان استخداما أرحب لمصطلح التّذوّق، واجتهادا في محاولة استغلال المصطلحات التّراثيّة ووضعها في مضامين نقديّة حديثة، ثمّ إنّه توسّع في وصف ذلك التّذوّق ليصل به إلى حالة من العمق الدِّلاليّ المتعلّق بوصف الكلام، وفلسفته، وطرائق إنتاجه، وسبل استقباله، وغور الحقيقة الكامنة من ورائه.



ويبقى السؤال: هل استطاع محمود شاكر فعلا، وهو يتوسّم طريقة القدماء في النّقد أن يستشفف الخفاء الملتفّ حول التّأويل، ويستنبط دفينه، ويجمع مشتّته، ويلائم بين أوصاله المفكّكة، حتّى صيّره منهجًا قائمًا بذاته كما يزعم؟.



إنّه من الصّعوبة بمكان أن نعتقد أنّه قد حلّ إشكاليّة التّذوّق/ التّأويل، بل لعلّه زاد في عمق الإشكاليّة عندما وصف ذلك الغموض الّذي يكتنف عمليّة التّذوّق في كثير من كتاباته[28]، لكنّه في الوقت نفسه كان صادقًا تمام الصّدق بما وصف طريقته، فلقد استطاع أن يقدّم لنا الآليّات المنتجة للقراءة التّأويليّة، ويجعل منها طريقًا لاحبًا مستتبًا كما يقول، وذلك على المستوى الإجرائيّ في القراءة وحسب، وقد نعترف له بفضل إحيائه للأصول الدّاعمة للتّذوّق، وأنّه أعاد صياغة مرجعيّات التّأويل، وساهم في بناء سياقات النّصّ التّراثيّ، فدمج طريقة القدماء في الوعي النّقديّ المعاصر، وكشف عن المخزون الفكريّ العميق الّذي اكتنف أذهانهم وهم ينتجون سلاسل المعرفة المختلفة، كما حاور القدماء، وفتش عقولهم، ووضع نفسه موضع كلّ واحد منهم، حتّى تراه وهو يتحدّث عن أحدهم كأنّ بينهما من الخلّة والصّداقة ما صاغ الدّهرُ فيه أيّامَه.



إنّ شاكرًا يدرك أنّه لم يقدّم منهجًا علميًّا مقعّدًا يجمع شتات القضيّة، بل لعلّه قصد ألاّ يجعل للمسألة نهاية في الحكم، وهو بذلك رفع من شأن التّذوّق، وشدّد في خطورته، وأعطانا ملامح طريقته، ثمّ وضعنا في المدارات التّأسيسيّة الّتي تأصّل لفكرة قراءة النّصّ، وأنّه نسق دائم الإنتاج، ودائم التّخلّق، ودائم التّحرّك، وفاعليّته متولّدة من ذاتيّته النّصيّة، وأثبت أنّ قراءة القدماء للنّصوص لم ترتكز فقط على "سلطة المؤلّف" إنّما هي قراءة ممتدّة إلى عمق المؤلّف وعمق النّصّ وعمق المتلقّي كذلك.





[1] محمود محمّد شاكر: رسالة في الطّريق إلى ثقافتنا، دار المدنيّ بجدّة، 1407هـ = 1987م. ص: 7 .




[2] المصدر السّابق، ص: 8.




[3] محمود محمّد شاكر: المتنبّيّ، دار المدنيّ بجدّة، 1407هـ = 1987م ، ص: 15




[4] محمود محمّد شاكر: مقدّمة كتاب "الظّاهرة القرآنيّة" لمالك بن نبيّ، دار الفكر بدمشق، 1420هـ = 2000م، الطّبعة الرّابعة، ص: 26.




[5] نفسه، ص: 36.




[6] المصدر السّابق، ص:48.




[7] على رأس أولئك طه حسين، ولويس عوض، والمستشرقون عامّة، ومعروف أن لمحمود شاكر في الاستشراق آراء صارمة جدا.




[8] محمود محمّد شاكر: مداخل إعجاز القرآن، مطبعة المدنيّ ودار المدنيّ بجدّة، الطّبعة الأولى، 1423هـ = 2002م، ص:91.




[9] عبدالقاهر الجرجانيّ: دلائل الإعجاز، قرأه وعلّق عليه: محمود محمّد شاكر، دار المدنيّ بجدّة، 1413هـ = 1992م، الطّبعة الثّالثة ، ص:81.




[10] نفسه، ص:7.




[11] محمّد محمّد أبو موسى: مدخل إلى كتابَيْ عبدالقاهر الجرجانيّ، ص: 57 .




[12] عمرو بن عثمان بن قمبر سيبويه: الكتاب، تحقيق عبدالسّلام هارون، دار الجيل، بيروت، الطّبعة الأولى 1/12 .




[13] عبدالقاهر الجرجانيّ: الرّسالة الشّافية في إعجاز القرآن، ملحق بكتاب دلائل الإعجاز، ص: 605.




[14] يُنظر تحليل عبارة سيبويه عند محمود محمّد شاكر: المتنبّي، ص:12-13.




[15] محمود محمد شاكر: جمهرة مقالات محمود محمّد شاكر، جمع وتقديم: عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجيّ بالقاهرة، الطّبعة الأولى (من مقدّمة لكتاب دراسات لأسلوب القرآن الكريم) لمحمّد عبدالخالق عضيمة: 2/1226.




[16] نجيب محمّد البهبيتيّ: المعلّقات سيرةً وتاريخًا، دار الثّقافة، المغرب، 1402هـ = 1982م، الطّبعة الأولىولىأولى، ص: 23-24 .




[17] يُنظر: محمود محمّد شاكر: المتنبّي، ص: 8 وما بعدها.




[18] عبدالقاهر الجرجانيّ: دلائل الإعجاز، ص: 262 .




[19] نفسه، ص: 263.




[20] نفسه.




[21] محمود محمّد شاكر: نمط صعبٌ ونمط مخيف، ص:169.




[22] عمر بن بحر الجاحظ: البيان والتّبيين، تحقيق وشرح عبدالسّلام هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجيّ، (د.ت)، 1/11-12.




[23] محمود محمّد شاكر: المتنبّي، ص: 8 .




[24] محمود محمّد شاكر: المتنبّي ليتني ما عرفته، مجلّة الثّقافة، السّنة السّادسة، العدد 61، أكتوبر 1978م، ص 8.




[25] وصف محمود شاكر طريقة عبدالقاهر بقوله: " كان عبدالقاهر متكلّمًا محكم الأداة جيّد النّظر في (علم الكلام) وكان، كما دلّت عليه أعماله الباقية عندنا أديبًا ذوّاقة فائق التّذوّق، مُشرق البيان عن أسرار تذوّق الكلام النّبيل الشّريف الباهر. وكان أيضًا مقتدرًا كلّ الاقتدار على تحليل الكلام المركّب من ألفاظ تحليلا يكشف السّتر عن خباياه الملثّمة = وعلى توسّم آثار (العلائق) الظّاهرة والخفيّة، كالأدوات والحروف، في ربطها بين هذه الألفاظ المنصوبة للدِّلالة على المعاني = وعلى استخراج نبيثة ما يلحق معاني هذه (العلائق) من التّغيّر اللّطيف الدّقيق، بتغيّر مواقعها من الكلم = وعلى استنباط الدّفين المستور من المعاني المتحجّبة، الّتي تكمن من وراء أوضاع هذه (العلائق) المتقلّبة المعاني، الّتي هي بطبعها عماد الكلام المركّب من الألفاظ. وكان قبل ذلك كلّه لغويًّا خبيرًا بجواهر ألفاظ اللّغة ومعانيها، بصيرًا بمذاق ألفاظها مفردةً ومركّبة، سميعًا لخفيّ جرس حروفها فذّةً وملتئمةً، مرهف الحسّ بتمكّنها، مذاقًا وجرسًا ودلالة على المعنى حيث وقعت في سياق التّركيب" [مداخل إعجاز القرآن، ص: 119-120]. ولا يخفى من ذلك الوصف الطّويل ما يدلّ عليه من تمكّن عبدالقاهر من الكلام البلاغيّ أجمع، ما حوى بيانا وما لم يحوِ.




[26] محمود شاكر، المتنبي، ص: 9 .




[27] يُنظر: محمّد مندور: النّقد المنهجيّ عند العرب ومنهج البحث في الأدب واللّغة، مترجم عن الأستاذين: لانسون وماييه، دار نهضة مصر للطّبع والنّشر، القاهرة ، ص: 376 .




[28] انظر على سبيل المثال مقاله بعنوان: المتنبّي ليتني ما عرفته، مجلّة الثّقافة المصريّة، السّنة السّادسة، العدد 63، ديسمبر 1978م، ص 13 وما بعدها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 88.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 85.80 كيلو بايت... تم توفير 2.35 كيلو بايت...بمعدل (2.67%)]