|
|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
قصة دولة المماليك
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: قصة دولة المماليك
قصة دولة المماليك نشأة المماليك-(2) د. راغب السرجاني من هم المماليك؟ المماليك في اللغة العربية هم العبيد أو الرقيق، وبخاصة هم الذين سُبُوا ولم يُسب آباؤهم ولا أمهاتهم.. ومفرد المماليك مملوك، وهو العبد الذي يباع ويشترى، أما العبد الذي سُبِي أبواه يعرف بالعبد القن وليس المملوك. ومع أن لفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عامًا على معظم الرقيق، فإنه اتخذ مدلولًا اصطلاحيًا خاصًا في التاريخ الإسلامي، وذلك منذ أيام الخليفة العباسي المشهور «المأمون»، والذي حكم من سنة 198 هجرية إلى 218 هجرية، وأخيه «المعتصم» الذي حكم من سنة 218 هجرية إلى 227 هجرية.. ففي فترة حكم هذين الخليفتين استجلبا أعدادًا ضخمة من الرقيق عن طريق الشراء من أسواق النخاسة، واستخدموهم كفرق عسكرية بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهما. وبذلك -ومع مرور الوقت- أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية -وأحيانًا الوحيدة- في كثير من البلاد الإسلامية.. وكان أمراء الدولة الأيوبية بوجه خاص يعتمدون على المماليك الذين يمتلكونهم في تدعيم قوتهم، ويستخدمونهم في حروبهم، لكن كانت أعدادهم محدودة إلى حد ما، إلى أن جاء الملك الصالح أيوب، وحدثت فتنة خروج الخُوارِزمية من جيشه، فاضطر إلى الإكثار من المماليك، حتى يُقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك جدًّا، وخاصة في مصر. مصادر المماليك: كان المصدر الرئيسي للمماليك إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة.. ومن أكثر المناطق التي كان يجلب منها المماليك بلاد ما وراء النهر، (أي: نهر جيحون، الذي يجري شمال تركمنستان وأفغانستان، ويفصل بينهما وبين أوزبكستان وطاجكستان)، وكانت الأعراق التي تعيش خلف هذا النهر أعراق تركية في الأغلب، وكانت هذه المناطق مسرحًا دائمًا للقتال وعدم الاستقرار، ولذلك كثر الأسرى القادمون من هذه المناطق، وكثرت أسواق الرقيق هناك، ومن أشهر مدن الرقيق في ذلك الوقت كانت «سمرقند» و«فَرْغَانَة» و«خُوارِزم» وغيرها.. لذلك كان الأصل التركي هو الغالب على المماليك، وإن كان لا يمنع أن هناك مماليك من أصول أرمينية ومن أصول مغولية، كما كان هناك مماليك من أصول أوروبية، وكان هؤلاء الأوربيون يعرفون بالصقالبة، وكانوا يستقدمون من شرق أوربا بوجه خاص. كل هذا كان يحدث على مدار عشرات أو مئات السنين، ولكن الأمر الذي استحدثه الملك الصالح أيوب -وتبعه بعد ذلك سلاطين دولة المماليك- أنه كان لا يأتي إلا بالمماليك الصغار في السن، أي في مرحلة الطفولة المبكرة، وكان غالبهم من بلاد غير مسلمة، وإن كان يحدث أحيانًا أن يؤسر بعض الأطفال المسلمين غير الناطقين بالعربية، فلا يُعرفون، ولا يُعرف أصلهم أو دينهم، فيعاملون معاملة الرقيق. تربية المماليك: وكان الصالح أيوب -ومن تبعه من الأمراء- لا يتعاملون مع المماليك كرقيق.. بل على العكس من ذلك تمامًا.. فقد كانوا يقربونهم منهم جدًّا لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم.. ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رابطة السيد والعبد قط، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته.. وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة.. حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب «الأستاذ» وليس لقب «السيد». ويشرح لنا المقريزي: كيف كان يتربى المملوك الصغير الذي يُشترى وهو ما زال في طفولته المبكرة، فيقول: «إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلي من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويُهتم جدًّا بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عوقب»[1]. لهذه التربية المتميزة كان أطفال المماليك ينشئون عادة وهم يعظمون أمر الدين الإسلامي جدًّا، وتتكون لديهم خلفية واسعة جدًّا عن الفقه الإسلامي، وتظل مكانة العلم والعلماء عالية جدًّا جدًّا عند المماليك طيلة حياتهم، وهذا ما يفسر النهضة العلمية الراقية التي حدثت في زمان المماليك، وكيف كانوا يقدرون العلماء حتى ولو خالفوهم في الرأي.. ولذلك ظهر في زمان دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ من أمثال العز بن عبد السلام والنووي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة المقدسي رحمهم الله جميعًا، وظهرت -أيضًا- غيرهم أعداد كثيرة من العلماء يصعب جدًّا حصرهم. ثم إذا وصل المملوك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال فيعلمونهم فنون الحرب والقتال وركوب الخيل والرمي بالسهام والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جدًّا في المهارة القتالية، والقوَّة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب[2]. ثم يتدربون بعد ذلك على أمور القيادة والإدارة ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك وهو متفوق تمامًا في المجال العسكري والإداري[3]، وذلك بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة.. وهذا كله -بلا شكٍّ- كان يثبت أقدام المماليك تمامًا في أرض القتال. وكل ما سبق يشير إلى دور من أعظم أدوار المربين والآباء والدعاة، وهو الاهتمام الدقيق بالنشء الصغير، فهو عادة ما يكون سهل التشكيل، ليس في عقله أفكار منحرفة، ولا عقائد فاسدة، كما أنه يتمتع بالحمية والقوَّة والنشاط، وكل ذلك يؤهله لتأدية الواجبات الصعبة والمهام الضخمة على أفضل ما يكون الأداء. وفي كل هذه المراحل من التربية كان السيد الذي اشتراهم يتابع كل هذه الخطوات بدقة، بل أحيانًا كان السلطان الصالح أيوب يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيرًا ما يجلس للأكل معهم، ويكثر من التبسط إليهم، وكان المماليك يحبونه حبًا كبيرًا حقيقيًا، ويدينون له بالولاء التام[4]. وهكذا دائمًا.. إذا كان القائد يخالط شعبه، ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم -ولاشك- يحبونه ويعظمونه، ولا شك -أيضًا- أنهم يثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعًا، وإذا كلفهم أمرًا تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه.. أما إذا كان القائد في حالة انفصال عن شعبه، وكان يعيش حياته المترفة بعيدًا عن رعيته.. يتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون ناحيته بأي انتماء.. بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم نفسها.. ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضربًا من المستحيل. وكان المملوك إذا أظهر نبوغًا عسكريًا ودينيًا فإنه يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، فيصبح هو قائدًا لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أُعطي بعض الإقطاعات في الدولة فيمتلكها، فتدر عليه أرباحًا وفيرة، وقد يُعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، وهم أمراء الأقاليم المختلفة، وأمراء الفرق في الجيش وهكذا. وكان المماليك في الاسم ينتسبون عادة إلى السيد الذي اشتراهم.. فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالكاملية وهكذا. وقد زاد عدد المماليك الصالحية، وقوي نفوذهم وشأنهم في عهد الملك الصالح أيوب، حتى بنى لنفسه قصرًا على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تمامًا.. وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة بالقاهرة، وكان النيل يعرف بالبحر، ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية «بالمماليك البحرية» (لأنهم يسكنون بجوار البحر). وهكذا وطد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك الذين وصلوا إلى أرقى المناصب في جيشه وفي دولته، وتولى قيادة الجيش في عهده أحد المماليك البارزين اسمه «فارس الدين أقطاي»، وكان الذي يليه في الدرجة هو «ركن الدين بيبرس»، فهما بذلك من المماليك البحرية. [1] المقريزي: الخطط 3/346. [2] إبراهيم علي شعوط: أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ص 340. [3] ابراهيم علي شعوط: مصر في عهد بناة القاهرة ص169. [4] سمير فراج دولة المماليك ص32.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: قصة دولة المماليك
قصة دولة المماليك سلطان العلماء يبيع الأمراء-(3) د. راغب السرجاني الجامع الأموي في دمشق..تعلّم فيه العز بن عبد السلام «العزّ بن عبد السلام» من أعظم علماء المسلمين على الإطلاق، من مواليد دمشق سنة 577 هجرية[1]، من العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وكان كثيرًا ما يواجه السلاطين بأخطائهم، وينصحهم في الله دون خوف ولا وجل، ولذلك لقبه تلميذه الأول وعالم الإسلام المشهور «ابن دقيق العيد» بلقب «سلطان العلماء»[2]، فقد جمع العزّ بن عبد السلام بين العلم والعمل، وبين الاتباع الشديد للسنة والاجتهاد الصحيح عند الحاجة، وبين الفتوى في الأمور العبادية والعقائدية والفتوى في الأمور السياسية والاجتماعية.. فكان بحق سلطانًا للعلماء، وقدوة للدعاة، وأسوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وقد عاش حياته في دمشق إلى أن تولّى «الصالح إسماعيل الأيوبي» أمر دمشق وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكمًا لمصر، والذي تحدثنا كثيرًا عنه وعن صلاحه وتقواه، لكن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان على شاكلة أخرى، فقد كان خائنًا لدينه وشعبه، فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر، وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكًا شخصيًا حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين لا يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل.. فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، وبقي العالم الجليل مدة في السجن، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس ليجد فرصة ليعلم الناس هناك بدلًا من السكوت في دمشق، وأقام بها مدة، ولكنه فوجئ بالصالح إسماعيل يأتي إلى بيت المقدس ومعه ملوك الصليبيين وجيوشهم وهم يقصدون مصر لاحتلالها، وأرسل الصالح إسماعيل أحد أتباعه إلى الشيخ العز بن عبد السلام ، وكان متلطفًا له غاية التلطف، بل ووعده بالعودة إلى كل مناصبه بشرط أن يترضى الصالح إسماعيل، ويعتذر له، بشرط ألا يتكلم في أمور السياسة، وإلا اعتقله. وذهب رسول الصالح إسماعيل إلى العز بن عبد السلام وقال له «بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتُقبل يده لا غير!». فرد عليه العز بن عبد السلام في كبرياء وعزة قائلًا: «والله يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلًا أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به»[3]. الله أكبر! هؤلاء هم العلماء بحق! كان رد الصالح إسماعيل متوقعًا، فقد أمر باعتقال الشيخ الكبير في بيت المقدس، ووضعه في خيمة مجاورة لخيمته، وكان الشيخ عزّ الدين يقرأ القرآن في خيمته، والسلطان الصالح إسماعيل يسمعه، وفي ذات يوم كان الصالح إسماعيل يتحدث مع ملوك الصليبيين في خيمته والشيخ يقرأ القرآن، فقال الصالح إسماعيل لملوك الصليبيين وهو يحاول استرضاءهم «تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا نعم، قال هذا أكبر علماء المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم». يقول الصالح إسماعيل هذا الكلام ليسترضي ملوك النصارى، فقال له ملوك النصارى وقد سقط تمامًا من أعينهم «لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!»[4]. وحُبس الشيخ العز بن عبد السلام في بيت المقدس إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخلص بيت المقدس من الصليبيين سنة 643 هجرية، وهنا أخرج الشيخ العز بن عبد السلام من السجن وجاء إلى مصر، حيث استُقبل أحسن استقبال، وقرب جدًّا من السلطان الصالح أيوب ، وأعطاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وولاه القضاء[5]. ومن مواقفه الشهيرة التي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم؛ لأنهم من العبيد. واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا مع إنه قد جاء مصر بعد اضطهاد شديد في دمشق، ولكنه لا يجد في حياته بديلًا عن كلمة الحق، فرفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ، ورفضه، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها. وهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مُفتٍ، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله عن سكوته كما سيسأله عن كلامه، ومن هنا قرر العالم الورع أن يعزل نفسه من المنصب الرفيع، ومضحيًا بالوضع الإجتماعي وبالمال وبالأمان بل وبكل الدنيا. وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره، وأخذ أهله على حمار آخر، وببساطة قرر الخروج من القاهرة بالكلية، والاتجاه إلى إحدى القرى لينعزل فيها إذا كان لا يُسمع لفتواه، ولكن شعب مصر المقدّر لقيمة العلماء رفض ذلك الأمر، فماذا حدث؟ لقد خرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييدًا له، وإنكارًا على مخالفيه. ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له: إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولًا، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين! وافق الملك الصالح أيوب، وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوع من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحدًا بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جدًّا، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يعرف بـ«بائع الأمراء!»[6]. يتبدى لنا من هذه القصة، وفي سيرة الشيخ العز بن عبد السلام بصفة عامَّة، قيمة العلم والعلماء في مصر في ذلك الوقت، واحترام الناس لكلمة الشرع، وكل هذا كان له أثر بالغ في تكوين الشعب المصري، وفي استجابته لنصائح العلماء، التي أثرت في حضارة الدولة المملوكية كما سنرى في المقالات القادمة. [1] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى 8/209. [2] ابن العماد العبكري الحنبلي: شذرات الذهب 5/301. [3] محمد الزحيلي: العز بن عبد السلام 54. [4] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى 8/244. [5] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى 8/243، 244. [6] وردت القصة في: حسن المحاضرة للسيوطي 2/162، وفوات الوفيات 1/595.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: قصة دولة المماليك
نجم المماليك يسطع في موقعة المنصورة-(4) د. راغب السرجاني أقفز بكم بعض السنوات لأصل إلى سنة 647 هجرية.. وفي هذه السنة كان الصالح أيوب قد مرض مرضًا شديدًا، وكان مصابًا بمرض السل، بالإضافة إلى كبر سنه فإن هذا جعله طريح الفراش في القاهرة. حملة «لويس التاسع» الصليبية: وفي هذه الأثناء وقبلها كان ملك فرنسا (لويس التاسع) يريد أن يستغل فرصة الاجتياح التتري لشرق العالم الإسلامي، فيقوم هو باجتياح العالم الإسلامي من ناحية مصر والشام، وقد حاول الاستعانة بخاقان التتار آنذاك وهو كيوك بن أوكيتاي، ولكن فشلت هذه المحاولة.. ومع ذلك فقد أصر لويس على المضي في حملته[1]. ووقع اختياره على مدينة دمياط المصرية[2] ليبدأ بها حملته لأنها كانت أهم ميناء في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط في ذلك الزمن، وبذلك بدأت الحملة التي تعرف في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة. الحملة الصليبية السابعة على مصر لن ندخل في تفصيلات هذه الحملة، وإن كان بها تفصيلات في غاية الأهمية، ومواقع من أهم المواقع في تاريخ المسلمين، ولكن ليس المجال هنا لذكرها. نزل الملك لويس التاسع بجيشه إلى دمياط في يوم 20 من صفر سنة 647هجرية، وللأسف الشديد ظنت الحامية المدافعة عن المدينة أن سلطانهم المريض الملك الصالح أيوب قد مات، فانسحبوا انسحابًا غير مبرر، ووقعت دمياط في أيدي الصليبيين بسهولة، وهي المدينة التي دوخت قبل ذلك الحملة الصليبية الخامسة. علم بذلك الملك الصالح فاشتد حزنه، وعاقب المسئولين عن جريمة سقوط دمياط، وتوقَّع أن النصارى الصليبيين سيتجهون إلى القاهرة عبر النيل لغزو العاصمة المصرية نفسها، وبذلك يُسقطون الدولة بكاملها.. لذلك فقد قرر بحكمته أن يرتب اللقاء في الطريق بين القاهرة ودمياط.. واختار لذلك مدينة المنصورة لأنها تقع على النيل، وحتمًا سيستغل الصليبيون النيل للإبحار فيه بسفنهم الكثيرة. وبالفعل أمر الملك الصالح بأن يحمله الناس إلى مدينة المنصورة الواقعة على فرع النيل الذي يأتي من دمياط[3]، وذلك لانتظار جيش الصليبيين بها، والاستعداد لمعركة فاصلة هناك.. وبالفعل حُمل الملك الصالح -على الرغم من مرضه الشديد- إلى المنصورة، وبدأ فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس يضعان الخطة المناسبة للقاء النصارى في المنصورة. وفاة الملك الصالح: خرج النصارى من دمياط في 12 من شعبان 647 هجرية متجهين جنوبًا عبر النيل صوب القاهرة، وكان من المؤكد أنهم سيمرون على المنصورة كما توقع الصالح أيوب.. ولكن سبحان الله في ليلة النصف من شعبان سنة 647 هجرية توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو في المنصورة يعد الخطة مع جيوشه لتحصين المدينة، فنسأل له الله المغفرة والرحمة وأجر الشهداء.. يقول «ابن تغري بردي» صاحب كتاب «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» المتوفى سنة 874 هجرية: «ولو لم يكن من محاسن السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلا تجلده عند مقابلة العدو بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة، وموته على الجهاد والذبّ عن المسلمين لكفاه ذلك»، ثم يقول: «ما كان أصبره وأغزر مروءته!»[4]. كانت مصيبة عظيمة جدًّا على المسلمين، لا لفقد الزعيم الصالح فقط، لكن لفقدان البديل والخليفة له، خاصة في ذلك التوقيت، والبلاد في أزمة شديدة، وميناء دمياط محتل، وجنود الصليبيين في الطريق. وهنا تصرفت زوجة السلطان نجم الدين أيوب بحكمة بالغة.. وكانت زوجته هي «شجرة الدر»، وشجرة الدرّ كانت فيما سبق جارية من أصل أرمني أو تركي، اشتراها الصالح أيوب ثم أعتقها وتزوجها، ولذلك فهي في الأصل أقرب إلى المماليك. ماذا فعلت شجرة الدر بعد وفاة السلطان الصالح أيوب؟! لقد كتمت شجرة الدرّ خبر وفاته، وقالت أن الأطباء منعوا زيارته، وأرسلت بسرعة إلى ابن الصالح أيوب، والذي كان يحكم مدينة تعرف «بحصن كيفا» (في تركيا الآن)، وكان اسمه «توران شاه بن نجم الدين أيوب»[5]، وأبلغته بخبر وفاة أبيه، وأن عليه أن يأتي بسرعة لاستلام مقاليد الحكم في مصر والشام، ثم اتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح وكان اسمه «فخر الدين يوسف» على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة في المنصورة، وهكذا سارت الأمور بصورة طيبة بعد وفاة الملك الصالح، ولم يحدث الاضطراب المتوقع نتيجة هذه الوفاة المفاجئة، وفي هذه الظروف الصعبة. ومع كل احتياطات شجرة الدرّ فإن خبر وفاة الملك الصالح أيوب تسرب إلى الشعب، بل ووصل إلى الصليبيين، وهذا أدى إلى ارتفاع حماسة الصليبيين، وانخفاض معنويات الجيش المصري، وإن ظل ثابتًا في منطقة المنصورة. ووضع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس خطة بارعة لمقابلة الجيش الفرنسي في المنصورة، وعرضاها على شجرة الدر، وكانت شجرة الدرّ تمثل الحاكم الفعلي لحين قدوم توران شاه ابن الصالح أيوب.. وأقرت شجرة الدرّ الخطة، وأخذ الجيش المصري مواقعه، واستعد للقاء. موقعة المنصورة: وفي اليوم الرابع من ذي القعدة من سنة 647 هجرية دارت موقعة المنصورة العظيمة، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا، والموقعة فيها تفصيلات رائعة لكن ليس المجال لتفصيلها هنا. ثم حدث هجوم آخر على جيش الملك لويس التاسع المُعَسكِر خارج المنصورة، وذلك في اليوم السابع من ذي القعدة سنة 647 هجرية، ولكن الملك لويس التاسع تمكن من صد ذلك الهجوم بعد كفاح مرير. وصل توران شاه إلى المنصورة بعد هذا الهجوم الأخير بعشرة أيام في السابع عشر من ذي القعدة سنة 647 هجرية، وتسلم السلطان الشاب مقاليد الحكم، وأُعلن رسميًا وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وولاية توران شاه حكم مصر والشام.. ثم بدأ توران شاه في التخطيط لهجوم جديد على الصليبيين.. وكانت حالة الجيش الصليبي قد ساءت، وبدأ بالانسحاب ناحية دمياط، بينما ارتفعت معنويات الجيش المصري جدًّا للانتصارات السابقة، وخاصة انتصار المنصورة، ولوصول توران شاه في الوقت المناسب. استطاع الجيش المصري أن يلتقي مرة أخرى مع الصليبيين، عند مدينة «فارسكور» في أوائل المحرم سنة 648 هجرية، بعد أقل من شهرين من موقعة المنصورة الكبيرة! ودارت هناك معركة هائلة تحطم فيها الجيش الصليبي تمامًا[6]، بل وأسر الملك لويس التاسع نفسه، ووقع جيشه بكامله ما بين قتيل وأسير، وسيق الملك لويس مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة، حيث حبس في دار «فخر الدين إبراهيم ابن لقمان»[7]. وضعت شروط قاسية على الملك لويس التاسع ليفتدي نفسه من الأسر، وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بثمانمائة ألف دينار من الذهب يدفع نصفها حالًا ونصفها مستقبلًا، على أن يحتفظ توران شاه بالأسرى الصليبيين إلى أن يتم دفع بقية الفدية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين، وتسليم دمياط للمسلمين، وهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات[8]. لقد كان انتصارًا باهرًا بكل المقاييس. وتم بالفعل جمع نصف الفدية بصعوبة، وأطلق سراح الملك لويس التاسع إلى عكا، وكانت إمارة صليبية في ذلك الوقت[9].. نسأل الله أن يحررها من دنس اليهود الآن. ومع هذا الانتصار المبهر فإن توران شاه لم يكن الرجل الذي يناسب تلك الأحداث الساخنة التي تمر بالأمة. لقد كان توران شاه شخصية عابثة! فلقد اتصف هذا السلطان الشاب بسوء الخلق، والجهل بشئون السياسة والحكم، وأعماه الغرور الذي ركبه بعد النصر على لويس التاسع ملك فرنسا عن رؤية أفضال ومزايا من حوله، فقد بدأ من ناحية يتنكر لزوجة أبيه شجرة الدر، واتهمها بإخفاء أموال أبيه، وطالبها بهذا المال، بل وهددها بشدة حتى دخلها منه خوف شديد، ولم يحفظ لها جميل حفظ الملك له بعد موت أبيه، وحفاظها على سير الأمور لحين قدومه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه بدأ يتنكر لكبار أمراء المماليك، وعلى رأسهم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، ولم يحفظ للمماليك جميل الانتصار الرائع الذي حققوه في موقعة المنصورة، فبدأ يقلل من شأنهم، ويقلص من مسئولياتهم. وحتمًا إذا ظهرت مثل هذه السلوكيات فإن الموازين ستختلف، ولنرى ماذا سيحدث في المقالات القادمة. [1] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص72، 73. [2] ابن كثير: البداية والنهاية 13/207. [3] الذهبي: تاريخ الإسلام 47/42. [4] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 6/327. [5] الذهبي: تاريخ الإسلام 47/44. [6] ابن كثير: البداية والنهاية 13/209. [7] شهاب الدين النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب 29/356. [8] محمد سهيل طقوش: تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص389. [9] محمود سعيد: تاريخ الحروب الصليبية ص315.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: قصة دولة المماليك
مقتل توران شاه وأزمة الحكم-(5) د. راغب السرجاني كان توران شاه الأيوبي شخصية عابثة! فلقد اتصف هذا السلطان الشاب بسوء الخلق، والجهل بشئون السياسة والحكم، وأعماه الغرور الذي ركبه بعد النصر على لويس التاسع ملك فرنسا عن رؤية أفضال ومزايا من حوله، فقد بدأ من ناحية يتنكر لزوجة أبيه شجرة الدر، واتهمها بإخفاء أموال أبيه، بل وهددها بشدة حتى دخلها منه خوف شديد، ومن ناحية أخرى لم يحفظ للمماليك جميل الانتصار الرائع الذي حققوه في موقعة المنصورة، فبدأ يقلل من شأنهم، ويقلص من مسئولياتهم، وبدأ على الجانب الآخر يعظم من شأن الرجال الذين جاءوا معه من حصن كيفا، وبدا واضحًا للجميع أنه سيقوم بعمليات تغيير واسعة النطاق في السلطة في مصر. كل هذا في غضون الأشهر الثلاثة الأولى في مصر! وبعد موقعة فارسكور مباشرة. خافت شجرة الدرّ على نفسها، وأسرت بذلك إلى المماليك البحرية، وخاصةً فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، وكان المماليك البحرية يكنون لها كل الاحترام والولاء لكونها زوجة أستاذهم الملك الصالح، وكانت علاقة الأستاذية هذه من القوَّة بحيث تبقى آثارها حتى بعد موت الأستاذ.. ثم إن شجرة الدرّ قد وجدت الوساوس نفسها في نفوس المماليك البحرية في ذات الوقت؛ ومن ثَمَّ اجتمع الرأي على سرعة التخلص من «توران شاه» قبل أن يتخلص هو منهم.. فقرروا قتله! والحق أن المماليك بصفة عامَّة كان عندهم تساهل كبير في الدماء.. فكانوا يقتلون «بالشك!».. فإذا شكوا في أحد أنه «ينوي» أن يغدر فإن ذلك يعتبر عندهم مسوغًا كافيًا للقتل، ولا أدري كيف كان هذا التساهل عامًا في حياة المماليك، فقد ظل هذا التساهل في الدماء في كل فترات دولة المماليك، وكم من أمرائهم، وكم من خصومهم، بل كم من عظمائهم قُتل بسبب الشك في نياته، وقد يكون هذا راجعًا إلى التربية العسكرية الجافة التي نشأ عليها المماليك، فكانت فيهم قسوة نسبية وشدة، وعدم تمييع للأمور، فهم يحبون حسم كل أمورهم بالسيف الذي يحملونه منذ نعومة أظفارهم.. غير أن الذي لا يُفهم هو أن هؤلاء المماليك كانوا -أيضًا- ينشئون على التربية الدينية والفقهية.. ولا أدري أي سند فقهي يعضد قتل رجل ما، حتى ولو غلب على الظن أنه سيقوم بعزلك أو «احتمال» قتلك! المهم أنه في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والتدبيرات الخفية لم يكن يُستهجن أمر هذا القتل، حتى لتجد أن القاتل قد يفخر أمام الناس بقتله لخصمه، بل قد يصعد وهو مرفوع الرأس إلى كرسي الحكم، ولا يشعر بأي تأنيب للضمير، وكأن الدماء التي تسيل ليس لها وزن عند الله عز وجل، ولا عند الناس. هذا ليس دفاعًا عن «توران شاه» أو عن أي قتيل غيره، فقد يكون القتيل شخصية عابثة سيئة كريهة، ولكن العقوبات في الإسلام تأتي بمقاييس معينة وبمقادير خاصة.. وهذه المقاييس لم نحددها نحن، بل حددها رب السموات والأرض.. فالسارق وإن كان مجرمًا سيئًا كريهًا فإنه لا يُقتل لمجرد السرقة بل تقطع يده، والزاني غير المحصن وإن كان قد أتى بفعلة مشينة، وقام بعمل شنيع فإنه يُجلد ولا يُرجم وهكذا. ولا أعتقد أن الوساوس التي كانت تدخل نفوس بعض المماليك من غيرهم كانت مسوغًا شرعيًا كافيًا للقتل.. نعم قد تكون مسوغًا شرعيًا للعزل أو الاعتراض أو الحبس.. لكن الوصول إلى حد القتل أمر كبير جدًّا. لقد رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتل عبدًا مجوسيًا غير مسلم مع عظم شكه في أن العبد سيقتله، فقد كان العبد المجوسي «أبو لؤلؤة» يعيش في المدينة، ويكره «عمر بن الخطاب» كراهية شديدة، وعمر رضي الله عنه هو «أمير المؤمنين» آنذاك، وكان عمر يعلم منه هذه الكراهية، لكنه لم يفكر في قتله أو حبسه أو ظلمه بأي صورة من صور الظلم، لأن الأمر مجرد شك لم يرتكز على يقين. بل روى «ابن سعد» في (الطبقات الكبرى) بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أحدث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بِالرِّيحِ (وكان المجوسي صانعًا ماهرًا(، فالتفت إليه المجوسي عابسًا، وقال: «لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها»، وقد قال هذه الكلمات بلهجة جعلت عمر يُقبل على من معه، ويقول: توعدني العبد[1]! فعمر رضي الله عنه شك شكًا كبيرًا أن هذا العبد يتوعده بالقتل، و«عمر» رضي الله عنه ليس ككل المسلمين.. إن شكه يقترب من يقين الآخرين، فهو الملهم الذي كان القرآن ينزل موافقًا لرأيه في كثير من المسائل. ومع ذلك فعمر رضي الله عنه لم يعتمد شكه قط في قتل -أو حتى حبس- «العبد المجوسي»، الذي ليس من المسلمين أصلًا، لكن تحريم الظلم، وإرساء العدل أصل من الأصول لا فرق فيه بين المسلم وغير المسلم. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة: 5]. وسبحان الله! صدق ظن عمر رضي الله عنه، ومرت الأيام، وقَتل العبد المجوسي «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه، ولكن ذلك لم يغيّر من القاعدة الإسلامية شيئًا.. فلا يقتل أو يحبس، أو تقام عقوبة ما، ولو صغرت على رجل أو امرأة، أو حر أو عبد، أو غني أو فقير، إلا بدليل.. ودليل قوي ظاهر متفق على وضوحه. {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا}[يونس: 36]. بل حدث مع «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه ما هو أعجب من موقف «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه، فعمر كان يشك في أبي لؤلؤة المجوسي، وكان هذا قبل أي محاولة للقتل.. أما «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه فلم يأمر بقتل الذي طعنه فعلاً - وهو «عبد الرحمن بن ملجم» - إلا حينما يتيقن المسلمون أن عليًا رضي الله عنه قد مات، وهنا يقتل القاتل بسبب قتله لعلي رضي الله عنه، أما إذا لم يمت علي رضي الله عنه فلا يقتل! قال علي بعد أن طعنه «عبد الرحمن بن ملجم»: «النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي». ثم أوصى أولاده، وأقاربه قبل أن يموت، فقال: «يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين، تقولون: «قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلن إلا قاتلي، انظر يا «حسن» إن أنا مت فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله ï·؛ يقول: «إياكم والمثلة، ولو أنها بالكلب العقور»[2]. هذا هو الإسلام، ومع كون بعض البشر تقبل نفوسهم أن يعذبوا غيرهم من الناس بجريمة أو دون جريمة.. فإن الإسلام يحرم المثلة بالكلب العقور! مقتل «توران شاه»: اتفقت شجرة الدرّ مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وغيرهما من المماليك الصالحية البحرية على قتل «توران شاه»، وبالفعل تمت الجريمة في يوم 27 من المحرم سنة 648 هجرية، أي بعد سبعين يومًا فقط من قدومه من حصن كيفا واعتلائه عرش مصر! وكأنه لم يقطع كل هذه المسافات لكي «يحكم» بل لكي «يُدفن»[3]! وهكذا بمقتل «توران شاه» انتهى حكم الأيوبيين تمامًا في مصر.. وبذلك أغلقت صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي. المماليك يفكرون في الحُكم: حدث فراغ سياسي كبير جدًّا بقتل توران شاه، فليس هناك أيوبي في مصر مؤهل لقيادة الدولة، ومن ناحية أخرى فإن الأيوبيين في الشام ما زالوا يطمعون في مصر، وحتمًا سيجهزون أنفسهم للقدوم إليها لضمها إلى الشام، ولا شك أنه قد داخل الأيوبيين في الشام حنق كبير على المماليك لأنهم تجرءوا وقتلوا أيوبيًا.. ولا شك -أيضًا- أن المماليك كانوا يدركون أن الأيوبيين سيحرصون على الثأر منهم، كما أنهم كانوا يدركون أن قيمتهم في الجيش المصري كبيرة جدًّا، وأن القوَّة الفعلية في مصر ليست لأيوبي أو غيره إنما هي لهم، وأنهم قد ظُلموا بعد موقعة المنصورة وفارسكور؛ لأنهم كانوا السبب في الانتصار ومع ذلك هُمّش دورهم. كل هذا الخلفيات جعلت المماليك -لأول مرة في تاريخ مصر- يفكرون في أن يمسكوا هم بمقاليد الأمور مباشرة! وما دام «الحكم لمن غلب»، وهم القادرون على أن يغلبوا، فلماذا لا يكون الحكم لهم؟! لقد استُخدم المماليك في مصر من أيام الطولونيين، والذين حكموا من سنة 254 هجرية إلى سنة 292 هجرية، يعني قبل هذه الأحداث بحوالي أربعة قرون كاملة، وكذلك استُخدموا في أيام الدولة الأخشيدية من سنة 323 هجرية إلى سنة 358 هجرية، واستُخدموا -أيضًا- في أيام الفاطميين الشيعة الذين حكموا من سنة 358 هجرية إلى زمان صلاح الدين الأيوبي، حيث انتهت خلافتهم في سنة 567 هجرية (ما يزيد على قرنين كاملين).. واستُخدِموا -أيضًا- وبكثرة في عهد الأيوبيين كما رأينا. وفي كل هذه الفترات كان الجيش يعتمد تقريبًا على المماليك، ومع ذلك لم يفكروا مطلقًا في حكم ولا سيادة، بل كانوا دائمًا أعوان الملوك، وما كانت تخطر على أذهانهم فكرة الملك قط لكونهم من المماليك الذين يباعون ويشترون، ولم تكن لهم عائلات معروفة ينتمون إليها، ولا شك أن هذا كان يشعرهم بالغربة في البلاد الجديدة التي يعيشون فيها، كما أن الخطر لم يكن يمسهم شخصيًا؛ فهم تبع للسلطة الجديدة، ولا يُستهدفون لذواتهم، أما الآن فالمؤمرات تدبر لهم، والدائرة ستدور عليهم، والملوك ضعفاء، والقوَّة كلها بأيدي المماليك.. فلماذا لا يجربون حظهم في الحكم؟! لكن صعود المماليك مباشرة إلى الحكم سيكون مستهجنًا جدًّا في مصر، فالناس لا تنسى أن المماليك -في الأساس- عبيد، يباعون ويشترون، وشرط الحرية من الشروط الأساسية للحاكم المسلم.. وحتى لو أُعتقوا فإن تقبُّل الناس لهم (كحُكَّام) سيكون صعبًا.. وحتى لو كثرت في أيديهم الأموال، وتعددت الكفاءات، وحكموا الأقاليم والإقطاعات، فهم في النهاية مماليك.. وصعودهم إلى الحكم يحتاج إلى حجة مقنعة للشعب الذي لم يألفهم في كراسي السلاطين. فماذا يصنع المماليك لمواجهة كل هذه الأمور؟ هذا ما نتعرف عليه في المقال القادم بإذن الله. [1] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/345 [2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3/256، 257. [3] ابن كثير: البداية والنهاية 13/208.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |