تداعيات على باب اليمن - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         دور المسجد في بناء المجتمع الإنساني المتماسك السليم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          ملامح الشخصية الحضارية في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          المثنى بن حارثة الشيباني فارس الفرسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أدب الحديث على الهاتف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          المدرسة الإسماعيلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أثر صحبة العلماء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 94 - عددالزوار : 74452 )           »          علمني هؤلاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الحب المفقود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-01-2021, 07:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي تداعيات على باب اليمن

تداعيات على باب اليمن (1)




د. أسعد أحمد السعود














في لمح البصر والعيون قلقةٌ حائرة تريد أن تُلم بالمشهد كاملاً في وهلة الرؤية الأولى ما بين صخب المكان المصدوم به، وما بين الهدوء المرسوم في ذاكرة التاريخ، أهرُب من سائق متهور كان يبتلع كلَّ قوانين الحاضر؛ ليسابق آلاف السنين، رصفت إلى جانبي الطريق على شكل أحجار بركانية زاهية الألوان، مُشكِّلة أسوارًا ومباني وزخارف وأبوابًا حُفرت على زواياها تواريخ أيام العهود الشامخة، وسِنُو الجنان السعيدة، وأيام الجفاء المتكئ على الأرصفة المنسية رغم قوة سطوع الشمس عليها.



أذكر أن نسمة جميلة باردة أنعشت ذاكرتي وحملتني على جناحيها الرهيفين من شاطئ مليء بوجع الحاضر، إلى الشاطئ الماضي المليء بالتريث والرتابة الممنهجة، أنقذني من ذلك السائق منفوخ الخد مستنكرًا هيئتي الغريبة أمام عجلات آلته الهوجاء الساخرة.



لم أعد قادرًا على رسم الملامح التي انطبعت بأن واحدًا في شاشة عيوني المتعطشة لمنظر مصاحب صب وقودًا قاسيًا على نيران ما كتب بين سطور الرهان المعقود بيني وبين ماضٍ تليد غبرته موجات بركانية همجية ألغت مقومات البديهة التي فُطر عليها أهل الحكمة والدين.



ثلاثية عرائسية اجتمعت أركانها في لحظة وجود غابت الحكمة من شريعة التقائها؛ أحدها: كان آلية هوجاء استحوذت على لحظة عبور خاطفة حاضرة، وثانيها: ذاكرة بليدة مستيقظة بغير وقتها، وثالثها: هيئة إنسان يتربع فوق قوس الباب المشهود بكل طمأنينة ووقار.



خطفة بصر وومضة ساحرة أنارت مشهد الثلاثية كان متفردها هيبة هذا الباب بكل تفاصيله، يعانق ذهبية خيوط الشمس في بكرتها الصباحية، وذاك المتربع فوق القوس بهيبته وهيئته الغريبة.



أيقظني (متكور) على نفسه يجمع كل سنين العمر بكل قفارها وصحاريها ووديانها وجبالها ومرابعها، قد ناهز السبعين أو الثمانين، ولا أبالي إن كان حدسي أو تقديري في صحته؛ لأن هذا الذي يكتسح البياض كل معالم رأسه والأخاديد جمعت تقاسيم وجهه اليماني المعهود وعمامة الرأس، كان يحمل نايًا، فاستغربت منه ذلك؛ إذ إن أهل هذه المملكة الرحبة منذ أن أوغلوا بالقدم لا يستطيبون الناي ولا حتى العزف عليه، الذي واجهني هو الآخر باستغراب؛ لشرودي وتسمري في مكان يستحيل الوقوف فيه.



ما لك يا ولدي تقف في الزحمة هكذا؟ يكمل حواره معي وأنا ألوذ بالصمت، لم يدعني ذلك الجالس فوق القوس أن أجيب عن سؤال لست أدري ما الذي قبله وما الذي بعده؛ إذ ما زال يشير بيده ممسكة بصولجانها المناكف بريقه كل ألوان طيف الشمس الوليدة من ساعتها، تراجعت بضع خطوات رغم استمرار الاستنكار من سائلي العجوز المجعد رافعًا رأسي، محدقًا مركزًا نظري؛ لعلي أستجمع ما رأت عيني قبل لحظة من زمن هارب كما هرب السائق ومعه (شيبتنا هذه) هو ذلك وما زال بهيئته وكأنه يشير إليَّ، نعم هو يلاحقني كذلك، واستعدت ذاكرتي أن الذي نبهني وأيقظني من غفلة التزاوج المتناقضة بأزمانها وهيئاتها تلك الإشارة من الصولجان، وأعقبتها صرخة قد تناهدت على مسامعي نبراتها! إنها نبرات امرأة.



سرت في رعشة دبت مرة أخرى بأعصاب كانت قبل قليل في أوج انقباضها وشدتها، لم تعد لي القدرة على قيادة محورية الاتجاهات في كل هذا العالم الذي لم يولد إلا منذ دقائق فقط.



أرسلت غشاوة ضبابية جعلتني مجبرًا على استبدال جفوني إلى مكان وقوفي، طأطأت رأسي معها إلى الأرض، وأخذت أستعيد نفسي بصورة انحناءة أمام هيبة وعظمة ملكة كانت هنا تملك هؤلاء الذين يحيطون بذاكرتي من كل اتجاه، وبدأت أستذكر حروف الكلمات، ومعاني الجمل، ومقاطع كتابة التاريخ المتلون المتبدل.



﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ [النمل: 23].




هل هذا هو مجلس المرأة الملكة في محفل عرس عبادة الشمس الناهضة من مخدعها؟!



هل هذا المعمَّر الأشيب جامِع التجاعيد الماضية والحاضرة هو أحد كهنة بلاط مملكتها عاشقًا الزمن، أم هو أحد حراس باب تاريخ اليمن المجدول بحكمة أزلية مكتوبة على أحجار أبوابها وأسوارها؟!



لعل الحكمة تفجرت مع تفجر ينابيع سعادتها ببناء عرشها البديع وقوة وبأس رعيتها: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ [النمل: 32].




أو لعل الحكمة أحاطت بكل جغرافية تاريخها الوضاء الذي بنى جسرًا عظيمًا انطلق من جنوب هذا المقام عابرًا (قرى قدر بينها السير) بأمان إلى حيث مقام (كرسي الملك) الذي سخر له الإنس والجن بالأرض المبارك حولها: ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17].




حكايتي أُشربت بالعروق المتلونة في نسيج قطع صخور الباب البارزة على وجنتيه الجميلتين الأخاذتين.



كانت الشمس تزيد من حرارتها وأشعتُها الساطعة تتشابك مع قسمات وجه مليكتي المتربعة فوق كل المكان الغارق بالخمول العشوائي، وكأني بها تحاول دفنه بين الخيوط المسترسلة من القرص اللاهث على سلم المجد يصعد درجة لينافس عظمة الملكة، وكل منهما يهفو جادًّا ليتربع فوق عرشه في الأعالي وعلى قمم الحكايات الغابرات الشامخات.



وتساءلت:

من يستطيع أن يكون أو يشير إلى العلامات الفارقات ما بين مشهد الاستيقاظ كل من رقدته في هذا الصباح الفواح بعطر الأبخرة المنسابة من أروقة الممالك الآبدات الطافحات بالقصص الحسناوات؟



قاطعني مرة أخرى صوتها الرخيم المتموج وكأنه ينبعث من ثنيات شعاب أودية سحيقة يلاحقه الصدى الحزين من جانب إلى جانب (ليصدها ما كانت تعبد من دون الله).



وتقول:

كنت أشير إلى الرعية المستنفرة على ظهور خيلها اللاجمة عنفوان صهيلها ألا تطأ سنابكها غير حمى الحق المغصوب من أهله الأوابين.



قلت لها: وحامل الناي الحزين جامع التجاعيد العميقة في الوجوه، الذي ما زال يدور ما بين البطاح القفار، يعزف لحن الندم بأخاديد وجهه يشكو للتائهين الضائعين زحمة الغثاء المتراكم الجاثم على أبواب المدن القديمة بسرمدية طال وعد انقشاعها؟!



قالت والعظمة والهيبة بخيلائها محيطة بتربعها فوق قوس الباب العظيم، وما زالت ملامح وجهها تغيب وتندمج مع وهج الشمس المتعالية الصاعدة إلى عرشها هي الأخرى في كبد السماء:

ومن لم يعلم (بسر الأبواب) ومواضعها لا يتكون له كفل من نعيم يسوقه إلى قطوف وظلال وخيام ومقصورات.



وسكتت وأخذ صوتها يبتعد شيئًا فشيئًا، ثم أخذت صورتها تغيب وسط غيمة بيضاء ضبابية أمام عيني، ما لبثت أن اختفت وانجلى المشهد الحقيقي، نقوش وزخارف وعمران يتطاول في الأعالي، كأنها رؤوس على قامات أجساد متفاوتة بإطلالاتها باستحياء من خلف الأسوار المتراخية الحزينة.



حاولت أن أصرخ وأناديها، لكن يقيني سبق بصري، وأصوات الرعية عَلَتْ ثانية وحال بيننا واقع مُرٌّ، كان هناك خيال شبح تكون لدقائق جمعته الذاكرة الخائرة الحائرة في مهد التاريخ بكل أجزائه وعناصره وما زال كما هو لم تحسه يد التقلبات ولا موجات التنقيب ولا الاستشراق، ولكنه انفصل ونفض العبق الماضي وعادت التفاصيل بفسيفساء قاتمة متنافرة، ما زال لدي الكثير والكثير من التساؤلات وفك رموز العقبات، وتذكرت كلماتها الأخيرة ثم أغوص في موجات الزحام البشري الهائم على وجهه.



ما سر وأدب الأبواب ومواضعها؟ وما سر الدخول أو الخروج منها؟ وعادت حكايات الأبواب زمنًا عميقًا إلى العهد الأول من حكاية (الأب الحزين) على فقد ولده الحبيب (صاحب النبوءة) وهو يوصي بنيه الجفاة العصاة لعلهم إلى رشدهم يرجعون.



﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ﴾ [يوسف: 67].



فكم من موعظة حتى أصبحت الأبواب رمزًا وميراثًا للراشدين والتائبين والأوابين، وتعود موعظة الدخول الكبرى لأول امتحان لأول باب يمتحن عنده الإيمان والتسليم لله رب الأرباب: ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ... ﴾ [البقرة: 58].



وعندما حاولت استحضار أشكالها ثانية للمخيلة، عزَّ على السنين الغلاظ ذلك، فأبت أن تعيد الكرَّة وحالت بينهما، وحل محلها يقين بأنها هي الصنعة الربانية، وهي الأسماء المباركة بهيئتها وشكلها وحجمها اقتداء ابتداء، واقتداء نهاية، واستحضرتني ثانية العبر الأزلية من الآيات المباركات.



ها هي السماء الدنيا كما سوَّاها وقدرها ربُّها تبارك وتعالى بأبوابها تفتح في طريق الأوابين أنبياء وصالحين ورعية مؤمنة، وتغلق في وجه من يقول على الله كذبًا فتُملأ حرسًا شديدًا وشهبًا.



وكذلك الجنة بفردوسها وأنهارها وغرفها وسقفها لا يساق إليها ضيوفها مرورًا إلاَّ من أبوابها الثمانية بأسمائها وصفاتها وسفاراتها.



وكذا جهنم بسعيرها وسحيقها، وزفيرها وشهيقها، لا يورد واردوها إلاَّ من أبوابها بأسمائها وصفاتها وسفاراتها.



وهذا الركن المبارك من البيت الحرام كما قدسه نور الهدى وسيد الأنام تيمنًا مباركًا وبما يليه من اليمن، اقتداء ابتداء من باب السلام يدخل منه أحمد الحامدين ليستلم الحجر الأسود ويستكمل الشعائر، فتقتدي به الحجيج ولينتهوا إلى حيث كما ولدتهم أمهاتهم.



ويا سبحان من وضع المواقيت فاقتدى المبعوث بالمقام المحمود، فأوفى بكل العهود، وسد كل خوخة إلاَّ بابه في الروضة الشريفة وخوخة صاحبه في الهجرة والغار والدار!



فيا لأهل الشام في مدينتهم من أبواب تفتح وتغلق من الغسق إلى الغسق، وكذا بغداد في أبوابها واحد إلى الشام اقتداء وآخر ابتداء وانتهاء إلى حيث الحرمين الشريفين.



وسنة سنها الفاتحون وأشادوا مدن التوحيد، واستعادوا في عمارتها أبواب تقوى القلوب، وزينوها بأسماء ترهف لها النفوس، وتتيامن بها رعية الإيمان في آمالها إلى حيث الأبواب العلا المنشودة، فتداولها عباد الله إرثًا محفوظًا محروسًا، لا تُطمس معالمه، ولا يمحى تاريخه، ولا تتزحزح قواعده.



وللأبواب بما يضاف لها من حسن صنعة وجمال وإحكام إغلاق تخفي خلفها خلقًا من بعد خلق، وكأنها حمَّالات هموم وحمَّالات أمانة، فتراها تأتمر بأمر وتنتهي بنهي، ويساق بها ولها شرع عدل، أو ينقض ويهتك بها ولها ستر وسر ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189].



﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23].




فما بال العبد اليوم والشكوى قد أغشته، والغفلة أسكرته، والضلالة شتَّتَتْه، وقد ألقى بالأبواب خلف العمران المتطاولة، فلم يعد يصحو من رقدة وهو على متن (آلية) تعبر به وتقطع المسافات والأمكنة بسرعاتها المذهلة يسابق الضوء والصوت، إلاَّ وقد أصبح أو أمسى رقمًا يكتب في سحاب افتراضي مجهول المكان لا تعرف له هُوِية؟! له مدينة إلكترونية رقمية، ولها أبواب أو باب إلكتروني رقمي، وله رقم خروج ورقم دخول، وكذا له رقم للفتح وآخر للإغلاق، ولكن هذه المدينة بكل عجائبها الرقمية ليس لها أو هي خالية تمامًا من أي باب أو أبواب، تغلق عند الغسق وتفتح عند الغسق، وما بين الغسق والغسق ليل سكن، وليل تهجد، ونهار جد وسعي، وما يبتدئ ذاك إلاَّ وقد نادى المنادي: (الله أكبر)، وما ينتهي هذا إلاَّ وقد نادى المنادي: (الله أكبر)، ربنا اللهم افتح لنا أبواب رحمتك.....



ولنا في الحديث بقية إن شاء الله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-01-2021, 07:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تداعيات على باب اليمن

تداعيات على باب اليمن (2)




د. أسعد أحمد السعود















﴿ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 35]!



حطَّ رحال (الأنا) مختصِرًا عصورًا ودهورًا عند هذه البوابة الفولاذية بمساميرها ومفصلاتها، وقضبانها وألواحها، ساكنة هادئة وادعة بين كتل (صخور الحبَش) المصاحبة لها منذ أن حطَّ عليها القول، فكانت منصاعة طيِّعة لينة، وحالُها من حال ما كانت فيه يوم أن كانت تحمل على كاهلها عبئًا ثقيلاً تئنُّ في عبوديتها لغير خالقها.







وما زالت إلى هذه الساعة التي نقف فيها أمامها في أوجِ قوتها لم يَنقُص منها شيءٌ، وعادني تذكُّر ميزان الخلق في قول رب الأرباب تبارك وتعالى: ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ﴾ [ق: 4]؛ حيث كان لهذه البوابة حكايتُها بقوتها، وكذلك (صُويحباتها) الكتل الصخرية العظيمة، لم يفارق بعضُهن بعضًا منذ أن امتدت إليهن يد الإنسان منذ العهود الأولى، وقد كنَّ آنذاك طائعين ليِّنين عندما ارتفع وعظم (بهنَّ) شأن (غمدان) وملوكه في عصر انفرَدن بالبدعة والقوة بمناحي الحياة العمرانية والاقتصادية والاجتماعية.







وها هي ومنذ ذلك العهد لم يطرَأ عليها تغيير يُذكر سوى وظيفتِهن فقط، وأصبحن ومنذ أن سطع (نور الهدى) يحملن ويحمين بيتًا عظيمًا من بيوت عبادة الله وحده في صنعاء القديمة.







وآهٍ وألف آه أيها الإنسان، أينما كنت، ومن أي مكان تكون، وبأي عمل تعمل!







تعال اسمع وانظر، وخذ ما تشاء واترك ما تشاء من هذه البوابة وصويحباتها المهولات، من قصص وعبر ودروس، واسترجع منها ومعها حكاياتِ منابع الحكمة اليمانية التي أشاد بها حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ [النمل: 33].







عجيب أمر هؤلاء من سادةٍ ومستشارين، وكهَنةٍ ورعيَّة، وقد اتفقوا - بما تكوَّن لديهم من علم - أنَّ فيهم أمرين أو عاملين كانت تقوم عليهما هيبة مملكتهم، فتُهاب لها بلادٌ وأقوام مهابة إلى حد المهانة، خاضعة خائفة في ظلِّها ومن حولها.







الأول: لقد استقى هؤلاء القوم (قوم غمدان) منَعَتَهم من منَعة الصخر وقوتِه وجماله ونوعيته.







الثاني: وكذلك من قوة الحديد وبأسه الشديد.







وكلا هذَين العاملين هما الآن أمام ناظِرَينا يرقدان بأمانةٍ يضربان المثل الصارخ الصادح كهيئاتهما يوم أن (لان) كلٌّ منهما بأيدي مهَرة، وجعلوهما وكوَّنوا منهما (بوابة) لقصر أو قصور لا مثيل لها، لا تعد ولا تحصى، تفرَّدت بحسن صنعتها وجمال بنائها، فطارت سُمعتها وصيتها في الآفاق آنذاك، ولا عجب من ذلك؛ فقد أشادت آيات القرآن العظيم بكثير من تلك في قديم الزمان، وخاصة عندما تحدثَت عن عرش بلقيس ملكة سبأ، وأما ما يخص حديثنا عن هذه البوابة فكانت الشاهدَ الأيسر والأبسط لما جاء ذكره عن الحديد في قول الله عز وجل في سورة الحديد: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25].







وكذلك يوم بُعث نبيُّ الله داود عليه السلام، وسخَّر الله له الحديد؛ ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10].







ويبدو أنَّ معاصَرة حياة النبي داود عليه السلام مع حياة قوم مملكة سبأ ورعيتها كما أشارت إليه آيات الله عز وجل لم تكن مَثار تساؤل أو استغراب يبعث على المضيِّ في تتبُّع أيام (القوة والبأس الشديد)، وأن جزءًا أو كلاًّ من (صَنعة لَبوس) و(قدورٍ راسيات) وبوابات فولاذ وعدةِ حرب كان صانعها ملهم بالعلم والعمل والقوة، مثار جدل وتأكيد، وأن أقوامًا هنا كانت تتبايع وتقتاتُ مع أقوام هناك، وأن انتشار (الحكم العدل) والسلم والأمان اللذان كان يرخي ظلالهما من الأرض المبارك حولها بقيادة نبي الله داود إلى كل الأطراف صدحَت بشريعةٍ ذاعت فائدتها وأصبحت قبلة لكل مناشد للأمن والأمان والعدل؛ كالذي حدث أيام حكم نبي الله يوسف عليه السلام.







فتكونت من خلالها جيوشٌ بعُددها وعتادها، وقامت على إثرها أمم، ومنها هذه التي سنذكرها هنا وآثارها ماثلة أمام ناظِرَينا الآن، بنيت القلاع والقصور من أقسى الصخور وأصلبها، فاختاروها بعناية ودراية حتى تمكنهم من المنعة والصمود، ولم يكتفوا بذلك فحسب، بل انتقوا منها الأجمل بالألوان الأخاذة المتعددة؛ كالحمراء والصفراء، والخضراء والسوداء والبيضاء، ومنها صخور الرخام بأشكاله وأبدعه حتى إنهم وصفوا شفافيته، وشبَّهوه بالزجاج الصافي كما وصفَته آيات الله تعالى: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ﴾ [النمل: 44].







ومسار حديثنا ينعطف على تساؤل بأنه: كيف التقى الوصفان؛ وصفه تعالى للحديد بأنه ﴿ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ [الحديد: 25]، ووصف حاشية الملكة حالَهم: ﴿ نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ [النمل: 33]؟!







وكأنهم يكرِّرون القول ويشبهون أنفسهم وحال مملكتهم بالحديد تمامًا؛ فكيف توصَّلوا إلى ذلك؟!







ولا شك أن هؤلاء القوم أهلُ كفر في عبادة غير الله؛ كما قال عنهم طائرُ الهدهد في قول الله تعالى: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: 24].







ولذا كانوا يعدُّون العُدَّة ويهيئون الجيوش الجرَّارة المسلَّحة بالدروع والسيوف، والحِرَاب والخوذ، والسلاسل والأدوات الحديدية، ومن هنا قالوا عن أنفسهم: ﴿ نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ ﴾، باللفظ والمعنى في آن واحد، ويعقب من أشار على مَليكته بلفظ (الشدَّة) مؤكدًا على ذلك.







ويقول أهل التفسير: إن المراد هنا بالبأس الشديد هو القهر والإذلال، كما هي صفة الحديد بطبيعة خلقه وصنعته، وبالمعنى الذي تصير إليه حرب الجيوش القوية بالتدريب، وبالعدد والعتاد الكثير تصير إليه نتائج الحرب بينها بالانتصار للأقوى أولاً أي نزع النصر من العدو بالقوة، ولا يكتفي المنتصر هنا بالانتصار فقط، بل يتبعه بقهر المنهزم قهرًا يصل به إلى إهانته وذله واستعباده، واسترقاق البقية الأحياء؛ ولذا قال عز وجل في موضع آخر: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ [الحشر: 14]؛ أي: بين الكفار بعضهم لبعض، فكيف آلت الحكمة بالرد لمن قال نحن أولو القوة والبأس؟!







وقد سبقَنا بالجواب والتساؤل قولُ النبي سليمان عليه السلام حينما جاءَته رسُل سبأ؛ قال تعالى: ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 37].







ونرجع بالقول إلى سبأ قبل هذا: كيف ساست الحكمة مليكتهم، وتدبرت الأمر الجلل الذي خيَّم عليهم جميعًا؟!







أولاً: الحكمة الأدبية في معاني اللغة واختيار المفردات الموجزة: وهذا مرده يرجع إلى تأدب الملوك في التخاطب.







ثانيًا: الحكمة السياسية (إدارة المملكة) ويرجع إلى اليقظة والفطنة وتحمل المسؤولية: مسؤولية مملكة بكل مؤلفاتها؛ بلاد وعباد، وخيرات ومقومات.







ثالثًا: التدبر والاستعداد وأخذ الحيطة: وهذا يأتي بالمشورة مع أهل الخبرة، والحَل والعقد جميعًا.







والحقيقة أن الأمور الثلاثة جاءت كلها ملخصة بقول ملكة سبأ: ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 35].







لقد قرأتُ الخطاب الموجز البليغ الفريد الجديد المفاجئ لها ولرعيتها، وأنه قد ابتدأ واستعان (بالله) أولاً: وهي ولا شك تعرف يقينًا من هو (الله) الذي ابتدأ باسمه الملك سليمان خطابه، ولكنها كانت تصد عنه بغرور بقوة أهل مملكتها.







وثانيًا: أنه أوجز علمه السابق بما يمتلكون من قوة وبأس، ولا يسعنا هنا إلاَّ أن نؤكد أن الله عز وجل قد أطلعه من علم الغيب كنبي مرسل على أحول سبأ، وبما أخبره طائر الهدهد المأمور بأمر الله؛ ولذا فقد علم سليمان عليه السلام وسبَقهم بلفظ واحد في خطابه المؤدب الموجز: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ﴾ [النمل: 31]، وهذا اللفظ ﴿ تَعْلُوا ﴾ يشمل المعنى الشرعيَّ والمعنى اللغوي معًا، ولا يجتمع المعنَيان إلاَّ عند كافر مشركٍ بالله حينما يُؤمَر بالحاكميَّة؛ أي: بالمعادلة التالية:



مشرك أو كافر + قوة وبأس = علوًّا في الأرض.



مؤمن بالله (حاكم) + قوة = عدلاً في الأرض.







وملكتهم قد أحاطت بالخَطب القادم إليها من خلال خطاب سليمان الذي سبقها بالعلم علمًا، فعقَّبَت مباشرة موجهة حمل المسؤولية للجميع، محذرة رعيتها منذرتها بالعاقبة القادمة لا محالة: ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً... ﴾ [النمل: 34].







والمقارنة التي أجرتها مليكة سبأ بحِكمتها وحصافة رأيها كالتالي:



الملك سليمان = حاكمًا بأمر الله يأتيهم بجنود يأتمرون بأمر الله؛ فلا غالب لهم أبدًا.







الملكة سبأ = حاكمة بالشرك وطاعةِ الشيطان وقوةِ مملكتها وبأس جنودها، فهم مهزومون ولا ناصر لهم.







ولذا قالت قولتها وهم لا يفقَهون: إذا دخل عليكم سليمانُ وجنوده قريتَكم الكافرة سيجعلني ذليلةً خاضعة أمام أعينكم، وكل ما تملكونه يصبح غنيمةً له ولجنوده.







ولم تصرِّح بتفاصيل حكمتها أمام مستشاريها بالقول الصريح، ولم تكن قادرة على قطعه؛ لخوفها على نفسها أولاً، وحتى تضع البرهان الساطع أمام أعينهم ثانيًا، ولسان حالها يقول: "أسلموا قبل أن..."!







ولكن صدَّها ما كانت تعبد من دون الله ورعيتها، وقالت: إني ناظرةٌ معكم بِمَ يرجع المرسلون.







ولقد علمنا من آيات الله المباركات بأحسن الحديث في سورة النمل؛ بم رَجَع المرسَلون وما آلت إليه مليكة سبأ مع نبي الله سليمان.







وها هي البوابة بكل تفاصليها وأركانها وأجزائها (تركن بهدوء) تحمل (أسمى وظيفة لها) (بمجاورتها) المحراب الذي اختطَّه الصحابي الجليل (وبر بن يحمس الخزاعي الأنصاري) بأمر من رمز العدل والحكمة رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم.







ولزائر مسجد صنعاءَ القديمة الكبير وقاصده حقُّ الصلاة فيه وفي محرابه المبارَك بإذن الله، ووقفةٌ أمام البوابة الفولاذية التي كانت يومًا ما بوابةً لقصر غمدان غابر الذِّكر، وكيف أصبحت مع صويحباتها قطع الصخر حاملة وزر الأمانة بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة تشهد صباح مساء: الله أكبر، الله أكبر.







وللحديث بقية إن شاء الله.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-01-2021, 07:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تداعيات على باب اليمن

تداعيات على باب اليمن (3)




د. أسعد أحمد السعود

















جبل نُقُم




﴿ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي ﴾ [هود: 43]












اعتراني سؤال محير، وهو على قدر من السهولة، لكنه بدا لي ممتنعًا؛ وذلك بعد انقضاء الوهلة الأولى من ولادته، سيما وقد تهيأ لي أن (نقم) كان يقاسمني ذات الشيء الذي كنت أحسُّ به وأعيشه، ساعة وقوفي في ركن هادئ من أطراف بيوت صنعاء القديمة، وجبل نقم بضخامته وعظمه وشموخه يبعث على الهيبة من جراء تبدُّل ألوانه من حينٍ لآخر، أراه كاملاً جاثمًا أمام ناظري، لم أستطع أن أصفَه مباشرة، أو أن أتبيَّنه، ولا حتى الإحاطة بتقلب ألوانه!







كنت أنظر إليه تارة متواريًا بنظري ثم ألتفت إلى جهة أخرى من البيوت الباسقة الملونة أيضًا تارة أخرى، لم أستطع إطالة التحديق به لفترة متواصلة مرة واحدة، كذلك لما كنت أطيل النظر فيه يبدو لي (خجلاً) وأنا مستغرقٌ في محطة حيرتي كأني به يُشاركني حيرتي، فهل كنت أبادله ذات الشعور من غير أن يعيَ أحدُنا الآخر؟!







كنت أقرأ حالتي وما تملكها بساعةِ صدق أردد السؤال المحير، وأما عن جبل نقم فلماذا وكيف وصفته بحالة (خجل)؟



تركته في الحال ثم قدمت إليه في ساعات الصباح، فكان ممتزجًا مع سحائبَ ضبابية تخترقها بين الحين والآخر خيوطٌ ذهبية مرتدة قادمة من خلفه، تُعيد بضعًا من ملامحه إلى زُرقة البحر الفيروزية الخلابة، وأخرى إلى عتمة الصخور الرمادية، كأني به يتَوارى خجلاً خلف ستارة (دانتيل) تشف منه شيئًا، وتُخفي آخر، وهكذا بقي إلى أن أضاءت الشمس وألقت بأوائل خيوط أشعَّتها من خلفه على نتوءات قمم صخوره الهائلة، فبدا كأنه محاط بإكليلٍ من وهج ألماسيٍّ يخلب اللب.







ولما أكملَت الشمس نصف دورانها استطاعت أن تكشف بقية محاسنه المكللة بألوان الطبيعة اليمنيَّة الفتَّانة، واستمرت حتى أشاعت على المدينة وما حولها من جبال يَصغرون (نقم) حجمًا وعلوًّا - ألوانًا من أشعة غروبها الفتانة، فتبدل كل شيء وكأن كل ما كان هنا في هذه الهضبة الرحبة الفسيحة قد تبادل مع جاره الثوب، وتهيأ كلُّ مَن كان هنا لعرس مسائي ربَّاني خلاَّق، ثم ما لبث أن بدأَت حفلة الاختفاء، وتكلل الجميع بثوب الليل الأسود، فلم يعد يُرى من نقم غير وميض بعض الأنوار، يتناوَب بتواتر أخَّاذ من بين ثناياه العالية الشاهقة.







لا يمكن لنا حصرُ كثيرٍ من التَّباين بين ما يَظهر به لنا جبل نقم في تلك الساعات من الأيام، مع ما تصير به حالته وملامحه عندما تدخل صنعاء المدينة كلها، وما حولها من جبال أخر، ونقم خاصة من جهتها الشرقية، أثناء مواسم الأمطار الشهيرة بغزارتها وقوتها وكيفيتها!







ترصَّدت حالات (كرَمه) في السماح لبعضٍ من أشكاله وبعض من ملامحه أن أشاهدها في تلك المواسم فلم أوفق إلا عن مسافة لا بأس بها، ومع ذلك فلا يزال في كل تلك الحالات والأزمنة وكأنه مصرٌّ على البقاء في (حالة خجل)، ولم أسجِّل غيرها أبدًا، أو هكذا كان يخيل إلي في مشاهداتي المستمرَّة له.







قادني إصراره هذا إلى أن أسال أحد الأصحاب من قاطني صنعاء القديمة ذات السؤال المحير:



هل تَرى يا صديقي مِن خجلٍ يَسود ملامح جبل نُقم؟







سكت صديقي قليلاً ثم ابتسَم، ثم تبعها بضحكة صغيرة مزجَها بطيبة ظاهرة، ولأول مرة أرى صاحبي يتحدث بلهجته الصنعانية اليمانِيَة بتنهيدة لا أعرفها إلا بأهل الشام، وأردف يقول:



جبل نقم قوي، هو قطعة من أيِّ واحد منا، عزيزٌ علينا، ألا تراه يحضن صنعاء وكأنه يحيطها بحنانه؟!







وسكت قليلاً ثم تابع:



إذا كنت يا صديقي تراه خجلاً، فنحن لا نرى فيه حزنًا أبدًا، مثلنا تمامًا، نحن لا نعرف الحزن، جبل نقم قوي وما نراه إلاَّ ضاحكًا!







رحتُ منفردًا بعزلتي أبحث عن شيء أجده مشتركًا بين ما قاله من كلمات وبين وصفي لجبل نقم:



وتساءلت: لماذا حصَر وصفه بكلمة القوة ونفى عنه صفة الحزن، وأنا الزائر أراه أول مرة ووصفتُه كما بدا لي (خجلاً)؟!



لم أجد مرجعًا لهذه المفردات سوى (مفردات القرآن الكريم العظيم) عندما تحدثَت آياته المباركات عن الجبال في مواضِعَ كثيرة، وكانت أهمها وأعظمها عِبرةً الآية التي ضرب الله بها المثل: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21]، فتأمَّلت مفرداتها، ولاحظتُ أنه تبارك وتعالى لم يضرب المثل بغيره من مكونات الأرض مفردةً؛ مِن بحر أو ماء، أو أرض مستوية، أو وادٍ عميق، أو شجر، أو ريح عاتية عاصفيَّة... واختار الجبالَ جلَّ علمه!







ثم تبعتُه بسؤال ثانٍ عن آية كبرى أخرى في سورة الأحزاب (72): ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ... ﴾ [الأحزاب: 72].







لماذا ضرب الله تبارك وتعالى المثل بالسموات والأرض... وتفرَّد بالجبال معَهما بالرغم من كَثرة خلق الله الآخرين الذين لا يحصيهم إلا هو سبحانه؟! وبمجرد ذِكر هذين السؤالين وتثبيتهما على السطور، تحرَّرَت معهما أسئلة كثيرة متتالية متناوبة في الأولوية والقوة، متزاحمةٌ في سطوع البيان والرأي.







ولكن وجدتُ فكرة التصنيف مَنفذًا لسهولة تداوُل المعرفة، وسبيلاً لوضع مؤشراتٍ واضحة حقيقية؛ فالأمثلة التي ضرَب الله تبارك وتعالى فيها المثَل بالجبال، وجدتُ منها الآتي:



1- ضرب الله بها المثَل في العبادة.



2- 2ضرب الله بها المثل في الخشوع.



3- ضرب الله بها المثل في الطاعة.



4- ضرب الله بها المثل في الوهن في حمل الأمانة.



5- ضرب الله بها المثل في المنَعة، فيَحتمي بها المؤمنون وقت الشدة.



6- ضرب الله بها المثل في كمال الصنعة، حتى لا تَميد الأرض؛ فهي كالأوتاد.



7- ضرب الله بها المثل في الرهبة بضخامتها وعلوِّها ﴿ رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ﴾ [المرسلات: 27].







وسبحان الله وبحمده، على هذه الصفات التي اجتمعت بها! وهي تقرِّبنا جدًّا من صفات أوجَزَها رب الخلق تبارك وتعالى في سورة الفتح الآية 29 في بلاغة إعجازية لصفات المؤمنين، في التوراة وفي الإنجيل:



1- في التوراة: أشداء على الكفار، رحماء بينهم، ركعًا سجدًا، سيماهم في وجوههم.



2- في الإنجيل: الزرع النَّضر القوي، صلب بسوقه، باسق بصنعته، يَغيظ ويرهب أعداء الله.







ومن رؤيتنا وقراءتنا للتشابه والتقارب، بل التماثل أو بعضٍ منه، ما بين صفات الجبال في القرآن العظيم والمؤمنين من عباد الله تبارك وتعالى، نجد أنفسنا أمام التساؤلات الآتية:



هل لهذه الصفات التي قرأناها علاقة بشيء اسمه خجل أو استحياء، يُهيمن على محيَّا جبل نقم وأمثاله من الجبال عامة؟







هل مجاورة المؤمنين لها - بكل ما تَعني المجاورة من معان - وهي حاضرة ليل نهار تَصْدع في أجوائها التكبيرات والتهليلات: الله أكبر، الله أكبر، له علاقة بما آل إليه حالها حينما طغى عليها الوهن لعدم حملها الأمانة؟!







هل وصفُ المؤمنين بـ ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ﴾ [الفتح: 29] يَنطبق كذلك على الجبال فترى الخجل والاستحياء يكلِّل هاماتهم العالية؟!







هل المحبة والتوادُّ والتراحم صائرٌ بين هذه الجبال من جهة، وبينها وبين من يجاورهم من المسلمين والمؤمنين عامة، ولكنهم متواضعون رغم قوتهم ورغم هيبتهم العظيمة، خَجِلون لا ينطقون؟!



إن الجبال أجنادٌ عظيمة من جنود الله تبارك وتعالى، تأتمر بأمره وقت ما يشاء وكيفما يشاء ﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ... ﴾ [سبأ: 10]، والآية المعجزة علامةٌ معروفة يوم القيامة لتخويف المكذبين الكافرين، يستيقن بها المؤمنون، ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ [النمل: 88].







إن حبيب الله وخاتمَ أنبيائه المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما كان يصعَد (جبل أحد)، تتهلل أساريره الطاهرة، فيقول: ((هذا جبلٌ يحبُّنا ونحبه))؛ البخاري (4083).







هذه خاصية ربانية بين الجبال وبين أنبيائه المنصورين بمعجزاته وآياته، فهل تُرتجى هذه العلاقة الربانية بين الجبال وبين عامة المؤمنين الموحدين، إذا ما طلبها عبدٌ مؤمن من ربه لنُصرة وحفظ دينه؟



إن الشواهدَ كثيرةٌ في التاريخ - جاء ذِكر بعضها في آيات الله؛ كأصحاب الكهف، وصاحِبَي الهجرة المباركة في الغار، وأخرى في السيرة النبوية الشريفة - بتعبُّده صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وكذلك في غزوة أحد، وتلك التي ذُكِرت في سيرة الخليفة الفاروق، حينما صدَع بقولته من على منبر رسول الله في المدينة "الجبل يا سارية، الجبل".







إن الشواهد كثيرة ولا تُحصى، وهي آياتٌ عظيمة في حياتنا الدنيا، أن الجبال كلَّ الجبال وبلا استثناء على ظهر البسيطة، هي في صف المؤمنين الموحدين لدين الله، وأن كل من "لجأ إليها في السابق البعيد أو القريب، ممن عادى دين الله وسنة نبيِّه، وحارب وشقَّ صف المؤمنين بكل الأشكال والمقاييس، لجأ إلى الجبال يحتمي بها، ويتخذها درعًا وأمنًا وسكنًا"، كل أولئك ومع مرور الدهور والسنين والأيام، لم ينالوا ولم يحصلوا على بُغيتِهم تلك أبدًا، وهم لا يشعرون، وهم لا يفقهون، وظلوا في غير مأمن أبدًا.







وكان أول مَن ذكَرَته آياتُ الله في تلك الحالة هو ابن نوح عليه السلام ﴿ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي... ﴾ [هود: 43].







الجبال لا تَعصم كافرًا محاربًا لأمر الله، وإن استقر فيها قرنًا، فسيأتي قرنٌ آخر تَلفِظهم فيه، ويجبرون على هجرتها، ويأنفون العيش فيها مرة أخرى.







وخلال وجودهم فيها، ظلت أعينُهم تَرنو بالغدر والانتقام من أهل السنَّة والكتاب، الذين بقوا على حالهم وحلّهم يسكنون بسيطتهم، من السهول والوديان، ويجاورون الجبال من أطرافها وبأحضانها، يرفعون تكبيراتهم: الله أكبر، الله أكبر.







وها هم أولئك وقد ضاقت بهم الجبال ذرعًا وهم لا يفقهون، وقد بدَؤوا من كل حدبِ جبلٍ ينسلون، ويَغزون أهل الإيمان في دُورهم وبيوتهم، ويستولون على البلاد والعباد، وكلهم يقينٌ أن الدنيا قد حِيزَت لهم بقوتهم أو بكثرتهم، أو بتدبيرهم، أو مما أكسَبَتهم عيشتهم المنعزلة في الجبال من قساوة وجلف وصلف، وفي ذات الوقت ظلوا بغيِّهم وبجهلهم، وقد زادهم الكفر تجبرًا، ولم يتغيَّر من حالهم سوى ثوبهم، وهم بهذا كالأفعى؛ لا يتغير فيها سوى جلدها، والله المستعان.







سوف يرون أن العودة إلى الجبال تكون عليهم حسرة، ونسلُهم وتمدُّدهم وفسادهم سوف يكون وبالاً عليهم، ونذيرًا بانتهاء دعواهم وامترائهم بإذن الله.








وها هو جبل نقم في صنعاء اليمن، وقاسيون في الشام، والمكبر، والمقطم، وجبل أحد، والصفا والمروة، وأبي قبيس، والأخشبين، وجبل النور... وغيرها مما نعرفها وما لا نعرفها، كل هؤلاء جندٌ لطاعة الله، محبَّبة قريبة من قلوب المؤمنين المجاورين لها.







وجبالٌ أخر مشهورات في الكثرة والمنعة بجمال خَلقها وصنعتها، بما آوى ولجأ إليها مَن حارب الله ورسوله، وقد أغرَتهم الحياة الدنيا بمفاتنها التي ذهبوا بها وإليها يومًا ما، وقد عادوا ونزَلوا منها الآن، وقد انقلبت الموازين الدنيوية في معتقداتهم لصالح دعواهم وامترائه، وسوف يعلمون أي منقلب ينقلبون!








وفي الحديث بقية إن شاء الله تعالى.











__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 118.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 115.74 كيلو بايت... تم توفير 2.81 كيلو بايت...بمعدل (2.37%)]